دليل الفالحين لطرق رياض الصالحين

1 - كتاب الأدب
تقدم تعريفه أول الكتاب بأنه استعمال ما يحمد قولاً وفعلاً. قال الحافظ: وعبر عنه بعضهم بأنه الأخذ بمكارم الأخلاق وقيل: الوقوف مع المستحسنات. وقيل تعظيم من وفقك والرفق بمن دونك، ويقال إنه مأخوذ من المأدبة: وهي الدعوة إلى الطعام، سمى بذلك لأنه يدعي إليه، وقد أفرده بالتأليف الحافظ البخاري وهو كما قال الحافظ: كتاب كثير الفائدة.

84 - باب الحياء
بالمهملة والتحية وبالمد كما سيأتي تعريفه آخر الباب (وفضله والحث) أي التحريض (على التخلق به) أي وإن كان فيه كلفة ومشقة كما يدل عليه صيغة التفعل.
1681 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله مرّ على رجل من الأنصار وهو يعظ أخاه في الحياء) أي يذكر له ما يترتب على ملازمته من الفساد، وفي تعليلية. وقد جاء عند البخاري في أبواب الأدب يقول: إنك تستحي حتى كأنه يقول قد أضرّبك، قال الحافظ بن حجر: ولم أقف على اسم الرجل ولا اسم أخيه (فقال رسول الله دعه) أي على فعل الحياء وكف عن نهيه عنه، قال المصنف: ووقعت لفظة دعه عند البخاري ولم تقع في مسلم (فإن الحياء من الإيمان) أي من شعبه كما سيأتي في حديث أبي هريرة «والحياء شعبة

(5/146)


من الإيمان» قال المصنف: وإنما جعل من الإيمان وإن كان غريزة لأنه قد يكون تخلقاً واكتساباً أعمال البر، وقد يكون غريزة ولكن استعماله على قانون الشرع يحتاج إلى اكتساب ونية علم فهو من الإيمان لهذا ولكونه باعثاً على أفعال البر مانعاً من المعصية (متفق عليه) رواه البخاري في كتاب الإيمان والأدب من «صحيحه» ، ورواه مسلم في كتاب الإيمان.
2682 - (وعن عمران بن حصين) بضم المهملة الأولى مصغراً (ورضي الله عنهما قال: قال رسول الله: الحياء) بالمد: أي الاستحياء (لا يأتي إلا بخير) فإنه يمنع لكونه مؤدياً لحياة القلب بنور الإيمان عن مزاولة المخالفة ومحاولة العصيان. قال الواحدي: الاستحياء من الحياة واستحياء الرجل من قوة الحياة فيه لشدة علمه بمواقع العيب قال: والحياء من قوة الحسّ ولطفه وقوة الحياة (متفق عليه) رواه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ومسلم في الإيمان.
(وفي رواية لمسلم) في كتاب الإيمان من حديث عمران المذكور (الحياء خير كله، أو) شك من الراوي (قال الحياء كله خير) والشك في تأخير خير قال: عن التأكيد لفظاً، وإلا فخير خبر الحياء في الروايتين، وكل تأكيد الحياء على المختار مع منع تأكيد النكرة كما قال البصريون، وعلى ما أجاز الكوفيون من تأكيدها فتكون الروايتان مختلفتين في ذلك فعلى الأول هو تأكيد الخير ويكون كقول الشاعر:
يا ليت عدة حول كله رجب
وعلى الثاني تأكيد الحياء. قال المصنف: كونه خيراً أو لا يأتي إلا بخير، يشكل على بعض الناس من حيث أن

(5/147)


صاحب الحياء قد يمتنع عن أن يواجه بالحق من يستحي منه فيترك إنكار المنكر عليه وأمره بالمعروف، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة. والجوب ما أجاب به ابن الصلاح وغيره من أن ذلك المانع ليس حياء حقيقياً بل صورياً وإنما هو عجز وخور ومهانة، وتسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازاً لمشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح ويمنع من التقصير في حق ذي الحق ونحو هذا، ويدل عليه ما ذكرنا عن الجنيد أي مما يأتي اهـ.
3683 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: الإيمان بضع وسبعون أو) شك من الراوي وهو سهل كذا قاله البيهقي نقله عنه المصنف (بضع وستون شعبة) أي جزءاً وخصلة وتقدم بيانها في باب الدلالة على كثرة طرق الخيرات حينما ذكر المصنف هذا الحديث (فأفضلها) الفاء فيه للتفصيل أو فصيحة: أي إذا عرفت ذلك وأردت معرفة تفاوت رتبها (فأفضلها) أي أكثرها ثواباً وأعلاها عند الله سبحانه مكانة (قول لا إله إلا الله) يحتمل أن يراد مع قرينتها وهي محمد رسول الله، فذلك كناية عن مجموع الشهادتين كما يدل عليه قول المصنف الآتي نقلاً عن عياض في توجيه أفضليتها بقوله الذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعده، ويحتمل أن يراد هي فقط لشرفها وعظم مفادها من الدلالة على توحيد الباري الذي هو حكمة إرسال الرسل (وأدناها) أي أقلها ثواباً أو أنزلها مرتبة (إماطة) بكسر الهمزة وبالطاء المهملة أي إزالة (الأذى) ما يؤذي المارة من حجر أو شوك أو عظم أو نحو ذلك كما سيأتي في كلامه (عن الطريق) وذلك لما فيه من نفع المارة ودفع ضررهم ودفع ما يؤذيهم (والحياء شعبة) أي خصلة (من الإيمان) ثم الإيمان شرعاً هو التصديق القلبي بكل ما علم بالضرورة مجيء الرسول به مع النطق اللساني للقادر عليه وظواهر الشرع كهذا الحديث يطلقه على الأعمال، والمراد أنها من كمال الإيمان وتمامه فإنه بالطاعات يتم ويكمل التصديق فالتزام الطاعات وضم هذه الشعب من جملة التصديق ودلائل عليه وأنها خلق أهل التصديق فلست خارجة عن اسم الإيمان الشرعي ولا اللغوي. وقد نبه على أن أفضلها التوحيد المتعين على كل أحد الذي لا يصح شيء من الشعب إلا بعد صحته،

(5/148)


وأدناها ما يتوقع ضرره بالمسلمين من إماطة الأذى عن طريقهم، وبقي بين هذين الطرفين أعداد لو تكلف المجتهد في تحصيلها بغلبة الظن لأمكنه، وقد فعل ذلك من تقدم، وفي الحكم بأن مراد النبي صعوبة، ثم إنه لا يلزم معرفة أعيانها ولا يقدح جهل ذلك في
الإيمان، إذ أصول الإيمان معلومة محققة، والإيمان بأن هذا العدد واجب في الجملة هذا كلام القاضي ونقله عنه المصنف (متفق عليه. البضع بكسر الباء) الموحدة (ويجوز فتحها) وبسكون الضاد المعجمة وبالعين المهملة (وهو من الثلاثة إلى العشرة) وقيل ما بينهما وصدّر به في «شرح مسلم» ، وقال الخليل: البضع سبع، وقيل ما بين اثنين إلى عشرة، وقيل ما بين اثني عشر إلى عشرين ولا يقال في اثني عشر. قلت: وهذا هو القول الأشهر (والشعبة) بضم المعجمة وسكون المهملة بعدها موحدة (القطعة والخصلة) بفتح الخاء المعجمة من عطف الرديف (والإماطة) بكسر الهمزة وبالطاء (الإزالة) وهما مصدراً أماط وأزال (الأذى) بفتح أوليه وبالقصر (وما يؤذي كحجر) فإنه يدق قدم الماشي وقد يدميه (وشوك) اسم جنس واحده شوكة، والمراد ما قطع شجره عن طريق المارة أو إزالة ما يوجد من أعواده وأجزائه في الطريق، فإنه ربما مع قوة المشي ينغرز في الرجل إلى حيث يصعب إخراجه (وطين) لأنه يلوث الرجل. وقد جعل الفقهاء من أعذار صلاة الجماعة الوحل بالمهملة لذلك (ورماد) لأنه لنعومته تعمل فيه الريح فيدخل في الخياشيم ويحصل به التأذي (وقذر) بفتح أوليه: أي ما يستقذر طاهراً كان كالقمائم والأوساخ الطاهرة الملقاة بالطرق وضررها يضيق الطريق، أو النجسة كالعذرة وضررها ظاهر (ونحو ذلك) من سائر المؤذيات ولا حاجة إليه بعد تصدير المثل بالكاف المؤذنة بعدم الانحصار.
4684 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول الله أشدّ حياء) منصوب على التمييز (من العذراء) بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة وبالراء ثم ألف

(5/149)


ممدودة: البكر سميت به لبقاء عذرتها: أي جلدة بكارتها (في خدرها) يكسر الخاء المعجمة وسكون الدال المهملة: ستر تجعله البكر في جنب البيت: أي أشد حياء من البكر حال اختلائها بالزوج الذي لم تعرفه قبل واستحيائها منه، وليس المراد حال انفرادها في الخدر فإنها حينئذ لا حياء عندها ثمة إذ ليس ثمة من تستحي منه، وهذا آخر الحديث عند البخاري في الأدب من صحيحه، وزاد مسلم حيث أورده في باب فضائل النبيّ (فإذا رأى شيئاً) التنكير فيه للتعميم ليشمل القليل والكثير والجليل والحقير (يكرهه) أي طبعاً (عرفناه في وجهه) أي عرفنا الكراهية له في وجهه: أي أنه لا يتكلم لحيائه بل يتغير وجهه فنفهم نحن كراهته لذلك (متفق عليه) .
(قال العلماء حقيقة الحياء) أن تعريفه (خلق) بضمتين وتسكين ثانية تخفيفاً (يبعث) الإسناد مجازي من باب الإسناد للسبب: أي يبعث الله: أي يحمل به (على ترك القبيح) من الأقوال والأفعال والأخلاق وحذف المعمول إرادة للتعميم (ويمنع) صاحبه (من التقصير) أل فيه بدل من الضمير: أي من تقصيره (في حق ذي) أي صاحب (الحق) وذلك أنه ملكة راسخة للنفس توزعها على إيفاء الحقوق وترك القطيعة والعقوق.
(وروينا) بفتح مع تخفيف ثانية أشهر من ضم أوله وكسر ثانيه مشدداً ومخففاً، وإن اقتصر على الأخير الكازروني في شرح الأربعين وجعله من باب الحذف والإيصال قال: أي روى لنا سماعاً أو قراءة إلى آخر أنواع التحمل وعلى التشديد، فالمعنى: صيرونا أشياخاً بما رواه لنا (عن الإمام) هو في الأصل كل من يقتدي به ولو في الشرّ، ثم غلب على المقتدي به في الخير فقط (أبي القاسم الجنيد) بضم الجيم وفتح النون وسكون التحتية ابن محمد الزجاج كان أبوه يبيع الزجاج فلذا يقال له القواريري، أصله من نهاوند ومولده ومنشؤه بالعراق، وكان فقيهاً يفتى على مذهب أبي ثور صاحب الشافعي وراوي مذهبه القديم، وكان من كبار أئمة القوم وساداتهم وكلامه مقبول على جميع الألسنة، مات رحمه الله تعالى يوم السبت سنة سبع وتسعين ومائتين، وقبره ببغداد ظاهر يزوره الخاص والعام (قال: الحياء رؤية الآلاء) بالمد جمع إلا بكسر الهمزة والقصر، وقد فسر المصنف الآلاء بقوله (أي النعماء) أي رؤية العبد نعماء مولاه السابغة عليه بمحض فضله مع استغنائه عنه وعن سائر الخليقة (ورؤية التقصير) أي مع ما يراه من تقصيره في أداء خدمة مولاه وإعراضه عن حضرته مع كمال فاقته وفقره إليه (فيتولد) أي يتحصل (بينهما) أي النظرين المذكورين (حالة) الأولى

(5/150)


حال لأن الأفصح تذكير لفظها وتأنيث معناها فحال حسنة أفصح من حال حسن وحالة حسنة (تسمى حباء) ما ذكر تفسيراً للحياء المذكور في الحديث أورده المصنف، وإلا فكتابه هذا مجرد لذكر الآيات والأحاديث ومنبع يسير من تفسير غريب الأحاديث (والله الموفق) .

85 - باب حفظ السر
بكسر السين المهملة: أي ما يسر ويخفي من الأمور (قال الله تعالى) : ( {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً} ) أي عنه فيكون من باب الحذف والإيصال أو من المجاز في الإسناد أو مسئولاً هو هل وفيّ به أم لا؟ فيكون كقوله تعالى: {وإذا المؤودة سئلت أي ذنب قتلت؟} (التكوير: 8، 9) تبكينا لصاحب الذنب وفاعله، وذكرت الآية في هذه الترجمة لأنه مما يعتاد التعاهد على كتمانه إما لفظاً أو بقرينة الحال.
1685 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن من أشرّ الناس عند الله) حال من قوله (منزلة) وكان في الأصل صفة له فلما تقدم أعرب حالاً، وقوله (يوم القيامة) ظرف للأشرّية المدلول عليها (الرجل) أل فيه للجنس (يفضى) بضم التحتية من الإفضاء وهو مباشرة البشرة وهو هنا كناية عن الجماع (إلى المرأة وتفضي إليه ثم ينشر سرّها) ويذكر تفاصيل ما يقع حال الجماع وقبله من مقدماته، والحديث يقتضي كون

(5/151)


فعل ذلك كبيرة للوعيد المذكور فيه (رواه مسلم) في النكاح من صحيحه.
2686 - (وعن عبد الله بن عمر رضي اللَّه عنهما أنّ عمر رضي الله عنه حين) ظرف لقال الآتي بعد: أي قال وقت (تأيمت بنته حفصة) أي من خنيس بن حذافة السهمي وكان من أصحاب النبي فتوفي بالمدينة، وهذا كله عند البخاري في حديث الباب حذفه المصنف لعدم تعلق غرض الترجمة به، فعلم أن تأيمها منه كان بموته وكان ذلك من جراحة أصابته بأحد. وذكر الدارقطني أنه كان طلقها، نقله عنه ابن النحوي ولكونه مات من جراحة أصابته بأحد يحمل قول من قال تزوج حفصة بعد ثلاثين شهراً من الهجرة، وعلى الأول يحمل رواية رواية من روي أنه تزوج بها بعد سنتين عقب بدر. % وخنيس بضم المعجمة وفتح النون وسكون التحتية آخره سين مهملة، وكان معمر بن راشد يصحفه فيقوله بالمهملة فالموحدة فالمعجمة آخره ابن حذافة بمهملة فمعجمة ابن قيس بن عدي بن سعد بن سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤيّ القرشي السهمي وهو أخو عبد الله بن حذافة، كان من السابقين إلى الإسلام وهاجر إلى أرض الحبشة (قال: لقيت عثمان بن عفان) أي بعد موت زوجته رقية بنت سيدنا رسول الله (فعرضت عليه حفصة) ففيه عرض الإنسان بنته على أهل الخير كما ترجم به البخاري (فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر) ففيه التفات على رأي السكاكى وأتى به حضاً على القبول: أي بنت عمر وأنت تعلم شأنه وحسن خلطته (فقال: سأنظر في أمري) أي أفكر في شأني هل أتزوج الآن أو أؤخر ذلك (فلبثت) بكسر الموحدة أي أقمت منتظراً له (ليالي) بالنصب على الظرفية (ثم لقيني فقال: قد بدا) بالألف اللينة: أي ظهر (لي أن لا أتزوج يومي هذا) أراد به مطلق الزمن: أي في زمني هذا، وأتى به لدفع توهم إرادته التبتل والانقطاع عن التزوج المنهى عنه (فلقيت أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة بنت عمر فصمت) هو لكونه ترك

(5/152)


الكلام عن قصد ولداع له أخص من السكوت (أبو بكر فلم يرجع) بفتح التحتية مضارع رجع المتعدي ومنه قوله تعالى:
{فإن رجعك الله} أي لم يردد (إليّ شيئاً) من القبول والإعراض بالصريح أو التعريض أو غيرهما (فكنت أوجد) أي أشد موجدة: أي غضباً (عليه منى على عثمان) وذلك لأن عثمان حصل منه الجواب وأما الصديق فتركه أصلاً (فلبثت ليالي ثم خطبها النبي فأنكحتها إياه) هذه الجملة هي الباعثة لذكر خلف وابن عساكر الحديث في مسند عمر نبه عليه ابن النحوي في شرح البخاري (فلقيني أبو بكر) أي بعد تمام الترويج (فقال: لعلك) هي فيه للإشفاق وأتى به اعتماداً على حسن خلق عمر وأنه لا يغضب لذلك، ولكن جواز الغضب منه يحسب الطبع فقال له ذلك (وجدت) أي غضبت (على) بتشديد الياء (حين) بالفتح المحتمل لكونه حركة إعراب إذ هي منصوبة على الظرفية ولكونه حركة بناء لأنه ظرف مضاف لجملة صدرها مبني وهي (عرضت عليّ حفصة فلم أرجع) بفتح الهمزة (إليك شيئاً فقلت نعم) إخباراً بالوقوع وعملاً بالصدق وإعراضاً عن المواربة (قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليّ إلا أني كنت علمت أن النبيّ ذكرها) أي مريداً التزوج بها، ولعله كان بحضرة الصديق دون غيره فرأى أن ذلك من السرّ الذي لا يباح فلذا قال (فلم أكن لأفشي) بضم الهمزة: أي أظهر (سرّ رسول الله) أي ما أسره إليّ وذكره لي (ولو تركها النبيّ) بالإعراض عنها (لقبلتها) بكسر الموحدة. فيه أنه يحرم خطبة من ذكرها النبي على من علم به وكتم السر، والمبالغة في إخفائه وعدم التكلم فيما قد يخشى منه أن يجرّ إلى شيء منه، وأن من ذكرها ثم أعرض عنها لا يحرم التزوج بها إذ ليست من أزواجه، وهذه الجملة المذكورة عن الصديق عن النبي، ذكر الحميدي وأبو مسعود الحديث في «مسند أبي بكر» ، ولما أخرجه الطبراني في مسند أبي بكر قال: قد أخرجت الأئمة من عهد أحمد بن حنبل إلى زمننا هذا الحديث في مسند الصديق أنه ذكرها (رواه البخاري) في المغازي والنكاح من

(5/153)


«صحيحه» .
(تأيمت) بفتح الفوقية والهمزة وتشديد التحتية والتفعل فيه للصيرورة كما أشار إليه المصنف بقوله (أي صارت بلا زوج) الأنسب لبيان الاشتقاق: أي صارت أيما: أي بلا زوج، وما أفهمه قوله صارت من أن الأيم خاص بمن فورقت عن الزوج غير مراد، ففي المصباح الأيم: العزب رجلاً كان أو امرأة، قال الصغاني: سواء تزوج من قبل أم لا (وكان زوجها) خنيس (توفي رضي الله عنه) في التاريخ السابق و (وجدت) بفتح أوليه معناه (غضبت) بفتح فكسر ومصدره موجدة، وهذا الفعل نختلف مصادره باختلاف المراد منه فيقال وجده وجداناً بالكسر ووجوداً، وفي لغة لبني عامر يجده بضم الجيم ولا نظير له في المثال والضمة عارضة فلذا لم تعد الواو المحذوفة لوقوعها بين حرف مضارعة مفتوح وحرف مكسور ووجدت الضالة أجدها وجداناً أيضاً ووجدت في المال وجدا بالضم والكسر لغة، وجدة أيضاً ووجدت به في الحزن وجداً بالفتح اهـ ملخصاً من «المصباح» .
3687 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت كنّ) بضم الكاف وتشديد النون حرف أتى به لجماعة النسوة والفاعل (أزواج النبيّ) فهو على لغة أكلوني البراغيث (عنده، فأقبلت فاطمة رضي الله عنها تمشي) جملة حالية (ما تخطىء مشيتها من مشية رسول الله شيئاً) يجوز أن تعرب الجملة حالاً من ضمير تمشي فتكون متداخلة، أو من فاعل أقبلت فتكون مترادفة، ويجوز أن تكون جملة مستأنفة استئنافاً بيانياً جواباً عن سؤال كيفية مشيها، والمشية بكسر الميم في الموضعين لبيان الهيئة، وشيئاً منصوب على المفعول المطلق: أي شيئاً من المشية أو المفعول به: أي من الأحوال (فلما رآها) أي أبصرها رحب بتشديد المهملة بها: أي بادرها بالترحيب وفسر ذلك بقوله (قال: مرحبا بابنتي) وعدى بالباء لأنه قدّر اشتقاقه من رحبت بك الدار بضم العين ومعنى مرحبا بك نزلت مكاناً رحباً واسعاً بها (ثم أجلسها عن يمينه أو) شك من الراوي (شماله) بكسر الشين وأتى بثم لتراخي الإجلاس

(5/154)


عن ابتداء وقوع النظر عليها حال إقبالها أو أنه استعيرت ثم مكان الفاء (ثم سارّها) لعل ما أومت إليه «ثم» من التراخي نظراً إلى أنه قدم قبل ذلك مؤانستها بأنواع من الإكرام وشريف الكلام لئلا يتلقاها بذلك أول ما قدمت عليه وتشرفت بجلوسها بين يديه، والمفاعلة يحتمل أن تكون على بابها ويحتمل أن تكون للمبالغة: أي أخفى الأمر لها مبالغاً في إخفائه عن سواها، ويؤيده كتمها له عن عائشة لما استفسرتها عنه (فبكت بكاء شديداً) لما في ذلك من عظيم المصاب وشدة الهول. وفيه قالت آخراً:
صبت عليّ مصائب لو أنها
صبت على الأيام صرن ليالياً
رضي الله عنها وعنا بها (فلما رأى) أي أبصر (جزعها) بفتح أوليه مصدر جزع الرجل من باب تعب إذا ضعف متنه عن حمل ما نزل به ولم يجد صبراً كذا في المصباح (سارّها) المسارة (الثانية) فهو مفعول مطلق ويجوز إعرابه ظرفاً خبراً لما لحقها وجرياً على ما يبدو من ألطاف المولى سبحانه وتعالى من تعقيب الكسر بالجبر والحزن بالفرح والعسر باليسر (فضحكت فقلت لها) لنسألها عما رأته من آثار الجزع (خصك رسول الله من بين نسائه بالسرار) بكسر أوله مضارع فاعل أيضاً (ثم أنت تبكين) أي ما في ذلك من التكرير، والتخصيص يقتضي الشغل به عن سائر مقتضيات البكاء وهذا من السيدة عائشة رضي الله عنها لكونها لم تعلم ما أسرّ به إليها وإلا فلو علمت ذلك لأسعفتها بالبكاء كما أسعف الصاحبان أم أيمن لما زارراها فذكرتهما بأيام المصطفى (فلما قام رسول الله) أي من ذلك المجلس (سألتها ما قال لك رسول الله؟) يحتمل أن يكون المسئول عنه جميع ما سارها به أولاً وآخراً، ويحتمل أن يكون المسئول عنه الأول ويومىء إلى الأول عموم قول فاطمة رضي الله عنها (قالت ما كنت لأفشي) بكسر اللام وهي لام الجحود والإفشاء الإظهار (على رسول الله سرّه) فإن المفرد المضاف من صيغ العموم (فلما توفي رسول الله) وهو بعد ذلك بزمن (قلت: عزمت عليك بمالي) الباء للقسم الاستعطافي، ويحتمل كونها للسببية (عليك من الحق) إذ هي من أمهات المؤمنين وزوج المصطفى

(5/155)


وحبه، ولأجل عين ألف عين تكرم، وقولها عزمت عليك استعارة للقسم: أي أقسمت عليك (لما حدثني بما قال لك رسول الله) اللام مؤذنة بالقسم وما مزيدة للتأكيد (فقالت أما الآن) منصوب محلاً بمحذوف: أي أما إذا سألتني الآن، وفتحة الآن فتحة بناء كما قرر في محله (فنعم، أما) بفتح الهمزة وتشديد الميم (حين سارّني في المرة الأولى فأخبرني) الظرف منصوب بمقدر: أي بكائي وقت مسارته لي أولاً وعمل مع حذفه لأنهم يتوسعون في الظرف مالا يتوسعون في غيره (أن
جبريل) اسم سرياني معناه عبد الله وقيل عبد الرحمن (كان يعارضه للقرآن في كل سنة مرة) قيل إنه كان يقرأ النبي من القرآن فيعيده بعينه جبريل، ولعل ذلك ليجمع بين مرتين العرض والأخذ من فم المبلغ، والمراد بالقرآن ما اجتمع منه إلى حين تدارسهما فإنه لم يكمل إلا قبيل وفاته بنحو عشرين يوماً (أو) شك من الراوي (مرتين) ومرة ومرتين مما ناب فيه المصدر عن اسم العدد نحو «فاجلدوهم ثمانين جلدة» فهو مفعول مطلق وقوله (وأنه) أي جبريل (عارضه) أي النبي (الآن مرتين) هذا يبين أن المعوّل عليه أن المعارضة في كل عام كانت مرة ولذا لما تكررت، أخذ منه قوله (وإني لا أرى) بضم الهمزة: أي أظن (الأجل) آخر مدة الحياة (إلا قد اقترب) أي قرب والتاء فيه للمبالغة (فاتقى الله) عند حلول ذلك بأن لا تفعلي محرّماً من نياحة وشق جيب أو غير ذلك مما يشعر بعدم الرضى والاعتراض على الأقدار (واصبري) أتى به مع تناول ما قبله له اهتماماً بشأنه، فإنه واسطة عقد المأمور به حينئذ وذلك لغلبة داعية الطبع إلى ما يترتب على الجزع غالباً من التبرم والتضجر وقوله (فإنه نعم السلف أنا لك) جملة مستأنفة كالتعليل لما قبلها: أي فإن ما يترتب على ذلك من شرف السلف لك يعدل ما قد يبدو من جزع الفراق (فبكيت بكائي الذي رأيت) أي بكاء سالماً من الإثم ومثله لا منع منه وإلا لنهاها عنه المصطفى لأنه لا يقر على محرم (فلما رأى) أي أبصر (جزعي) أي أثره من البكاء (سارّني الثانية فقال: يا فاطمة أما) أداة استفتاح أتى

(5/156)


بها لتنبيه المخاطب على ما بعدها لعظم موقعه (ترضين أن تكوني سيدة نساء هذه الأمة؟) وهذا مثل ثان لها عن عظيم ألم توقع فراقها لسيد الأحباب، فلما كان ذلك المصاب أعظم مصاب ناسب أن يجازي الصابرون عليه بأعظم الثواب من فضل الوهاب وهي أفضل الأمم فتكون أفضل نساء أهل الجنة كما جاء كذلك في رواية أخرى (فضحكت ضحكي الذي رأيت) أي الخالي عن الأشر والبطر وذلك أنه لكمال شرفها
وطيب أصلها لم يغير توقع فقدها لسيد الأحباب استسلاماً لربها، وإنما دمعت عيناها وجزع قلبها مع الصبر على مراد مولاها سبحانه فهو نظير ما ورد من قوله يوم مات إبراهيم «العين تدمع والقلب يحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» ولا لحقها أشر ولا بطر، إذ بشرت بما بشرت به لكمال يقينها ومزيد تمكينها بل كان لسان حالها كلسان حاله «أنا أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة ولا فخر» الحديث (متفق عليه) أخرجه البخاري في باب علامات النبوة (وهذا) أي اللفظ المسرود (لفظ مسلم) في أبواب الفضائل، ورواه النسائي في الوفاة وابن ماجه في الجنائز.
4688 - (وعن ثابت) بالمثلثة وبعد الألف موحدة فمثناة وهو البناني بضم الموحدة فنونين خفيفتين بينهما ألف تابعي مكثر للرواية عن أنس. وقد بسطت ترجمته في كتاب رجال الشمائل (عن أنس رضي الله عنه قال: أتى) أي جاء (عليّ رسول الله وأنا ألعب مع الغلمان) جملة حالية من مجرور على، والغلمان بكسر المعجمة وسكون اللام جمع غلام، ففيه جواز اللعب المباح للمراهق (فسلم علينا) من حسن خلقه ومزيد لطفه (فبعثني) أي أرسلني، قال في «المصباح» : كل شيء ينبعث بنفسه فالفعل يتعدى إليه بنفسه يقال بعثته وكل شيء لا ينبعث بنفسه كالكتاب والهدية فالفعل يتعدى إليه بالباء كبعثت به. وأوجز

(5/157)


الفارابي فقال: بعثه: أي أهبه وبعث به وجهه (في حاجة) التنوين فيه يحتمل كونه للتعظيم أو للتحقير ففيه على الأول مزيد نباهة أنس إذ أهل للإرسال لذلك (فأبطأت) أي طالت مدة غيبتي (على أمي فلما جئت قالت: ما حبسك؟) من باب ضرب: أي منعك؟ (قلت: بعثني رسول الله لحاجة) أي لأجلها وتجمع على حوائج وهو جمع على غير القياس، وذكر الأصمعي أنه مولد، وحق جمعه حاجات وحاج وقال أبو عبيد الهروي: قيل أصل حاجة حائجة فيصح جمعه على حوائج كذا في الفتح (فقالت ما حاجته؟) سؤال عن تعينها (قلت إنها سرّ) في المصباح: السرّ هو ما يكتم، وهو خلاف الإعلان: أي فلا يظهر للغير (قالت لا تخبرنّ) بتشديد النون مبالغة في تأكيد النهي عن إفشائه فإن زيادة المبني تدل على زيادة المعنى (بسرّ رسول الله أحداً) من ألفاظ العموم لكونه في سياق النفي (قال أنس) منبهاً لثابت على مكانته عنده ومحبته له (والله لو حدثت به أحداً) كائناً من كان كما يشعر به سوقه في حيز الشرط (لحدثتك به يا ثابت) ففيه عظيم لطف أنس وصدق أمانته ووفائه بالعهد (رواه مسلم) في الفضائل (وروى البخاري بعضه مختصراً) أي في باب الأدب من «صحيحه» من غير طريق ثابت بلفظ «أسرّ النبيّ سرّا فما أخبرت به أحداً بعده، ولقد سألتني أم سليم فما
أخبرتها به» .

86 - باب الوفاء بالعهد
أي إذا عاهد على أمر (وإنجاز الوعد) .
(قال الله تعالى) : ( {وأوفوا بالعهد} ) الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاطونهم أو بما عهد الله من تكاليفه ( {إن العهد كان مسئولاً} ) أي

(5/158)


عنه أو مطلوباً يطلب من المعاهد ألاّ يضيعه.
(وقال تعالى) : ( {وأوفوا بعهد الله} ) أي بما عهد إليكم من التكاليف أو بما عاهدتموه به من التزام الإقرار بتوحيده والقيام بعبوديته (إذا عاهدتم) .
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} ) أي بالمعهود وهو ما عهد في القرآن كله وعمومه متناول لسائر العقود.
(وقال تعالى) : ( {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله} ) هو أشد البغض ونصبه على التمييز وفاعله ( {أن تقولوا مالا تفعلون} ) في هذا الأسلوب من الكلام من المبالغة ما لا يخفى، والآية نزلت في جماعة قالوا: لوددنا أن الله دلنا على أحب الأعمال إليه فتعمل به، فأخبر الله نبيه أنه الجهاد، فلما فرض نكل منه بعضهم وكرهوا فنزلت، أو نزلت لما التمسوا الجهاد وابتلوا به فولوا يوم أحد مدبرين، أو في المنافقين يعدون نصر المؤمنين ولا يفون، وعلى أيّ ففيه وعيد شديد لمخلف الوعد والعهد.
1689 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: آية) بالهمزة بعدها ألف لينة فتحتية خفيفة: أي علامة (المنافق) استشكل بأنها قد تكون في المؤمن وأجيب بأن المراد أن هذه خصال المنافق وصاحبها شبيه بالمنافق المطلق إلا أن هذا نفاقه خاص في حق من حدثه ووعده وائتمنه لا في الإسلام بإبطان الكفر. وقيل إن المراد به المنافقون الذين كانوا في زمنه فحدثوا بإيمانهم وكذبوا ووعدوا بنصر الدين فأخلفوا وأئتمنوا في دينهم فخانوا. وقال الخطابي: المراد نفاق العمل لا نفاق الإيمان. قال البرماوي في «اللامع الفصيح على الجامع الصحيح» وأحسن من هذا أن النفاق شرعي وهو إبطان الكفر وإظهار الإيمان، وعرفى وهو كون سرّه بخلاف علانيته وهو المراد هنا، وفي الحديث أجوبة أخرى (ثلاث) أخبر به آية باعتبار إرادة الجنس: أي كل واحد منها آية أو أن مجموع الثلاث هو الآية (إذا

(5/159)


حدث كذب) أي أخبر بخلاف الواقع وجعل الجملة الشرطية خبراً بعد خبر أوبد لا مما قبله يقتضي أنه محمول عليه لكن على معنى عند تحديثه (وإذا وعد) أي أخبر بخبر من المستقبل وعطف على ما قبله مع أنه من أفراده قبل لأن الخلف قد يكون بالفعل وهو غير الكذب فتغاير أو جعل حقيقة أخرى خارجة عن التحديث ادعاء كما في عطف جبريل على الملائكة بادعاء أنه نوع آخر لزيادة قال الشاعر:

فإن تفق الأنام وأنت منهم
فإن المسك بعض دم الغزال
وكذا كل خاص يعطف على عام قاله البرماوي (أخلف) أي جعل الوعد خلافاً وذلك بأن لا يفي به (وإذا اؤتمن) أي جعل أميناً وفي رواية اتَّمَن بتشديد التاء وذلك بقلب الهمزة الثانية منه واواً وإبدال الواو تاء وإدغام التاء في التاء (خان) أي تصرف على خلاف الشرع، وخص هذه الثلاثة بالذكر لاشتمالها على المخالفة التي هي مبني النفاق من مخالفة السر العلن (متفق عليه) والحديث قد تقدم مع شرحه في باب الأمر بأداء الأمانة (زاد في رواية مسلم: وإن) هي وصلية (صام وصلى وزعم) أي قال محققاً بحسب ما عنده (أنه مسلم) أي فهذه خصال المنافق.
2690 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص) بحذف الياء اكتفاء بدلالة الكسر عليها أو أنه من العيص فيكون أجوف كما تقدم بسطه (رضي الله عنهما أن النبيّ قال: أربع) سوغ الابتداء به مع نكارته تقدير إضافته أي أربع خصال، وجملة (من كن فيه كان منافقاً خالصاً) قال ابن بطال: أي في الخصال المذكورة (ومن كانت فيه خصلة) أي خلة بفتح أولهما (منهن كانت فيه خصلة من النفاق حي يدعها) يحتمل أن يكون خبر المبتدأ وأن تكون صفة والخبر قوله (إذا اؤتمن خان) بتوجيهه السابق قاله البرماوي، والاحتمال الثاني فيه ركاكة (وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر) أي تواثق مع إنسان على أمر غدر به وفعل خلاف ما

(5/160)


عهد إليه أن يفعله (وإذا خاصم فجر) أي مال عن الحق وقال الباطل أو شق سر الديانة، قال المصنف: ولا منافاة بين قوله هنا أربع وفيما قبله ثلاث، لأن الشيء الواحد قد تكون له علامات كل واحدة منها يحصل بها صفة، ثم قد تكون تلك العلامة شيئاً واحداً وقد تكون أشياء. وقال الطيبي: العلامات مرة يذكر بعضها ومرة جميعها أو أكثرها قال الزركشي: والأولى أن يقال: إن التخصيص بالعدد لا يدلّ على الزائد والناقص. قلت: وهذا مفرع على أن مفهوم العدد غير حجة ورجح بعضهم حجيته (متفق عليه) ورواه أيضاً أحمد والنسائي كلهم من حديث ابن عمر، وكذا في «الجامع الصغير» ، والحديث عند الشيخين في كتاب الإيمان.
3691 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله لو) يحتمل أن تكون للتمني فلا جواب لها ويحتمل كونها شرطية وفصل بقد بينها وبين شرطها في قوله (قد جاء مال البحرين أعطيتك هكذا وهكذا وهكذا) بتكرير كناية كيفية الأخذ ثلاثاً، وقد جاء في رواية للبخاري بزيادة «فبسط يديه ثلاث مرات» وجملة أعطيتك جواب الشرط بحذف اللام منه تخفيفاً، وهذا المتمني مجيئه مرة أخرى غير ما تقدم في باب فضل الزهد في الدنيا من حديث عوف، وقوله في الحديث فقدم: يعني أبا عبيدة بمال من البحرين والله أعلم أن ذلك هو الذي سأل العباس النبي أن يأذن له أن يأخذ منه لأنه فادى بنفسه وابنى أخويه فأذن له، ويحتمل أنه مال آخر من البحرين والبحرين من الأعلام المنقولة عن المثنى فيعرب إعراب أصله حملاً له عليه (فلم يجىء مال البحرين) هو مال الجزية وكان العلاء بن الحضرمي عامل النبي عليها (حي قبض النبي) هناك محذوف دل عليه الكلام: أي وولي الخلافة الصديق وعطف عليه بالفاء قوله (فلما جاء مال البحرين أمر أبو بكر رضي الله عنه) يحتمل أن يكون من إرادة أصل الفعل: وقع منه الأمر (فنادى) أي المأمور (من كان له عند رسول الله عدة) بكسر العين مصدر حذفت فاؤه وعوض منها

(5/161)


الهاء في آخره: أي وعد (أو) للتنويع (دين فليأتنا) لاستيفاء ماله (فأتيته وقلت: إن رسول الله قال لي كذا وكذا) كنايتان عن قوله لو قد جاء مال البحرين إلخ (فحثى لي حثية) استعمله هنا من اليائي، وقد جاء من الواوي أيضاً حثوة ومبادرة الصديق بالإعطاء يحتمل أن يكون اعتماداً على قول جابر لصدّيقيَّته لما يعلمه من دينه وورعه المانع له عن الكذب في مثل ذلك، ويحتمل أنه بعد أن أقام عليه بينة لأن هذا المال الحق فيه لعموم المسلمين فلا يتصرف فيه الإمام بمجرد قول المدعي وإن كان معلوم الصلاح والصدق، ثم رأيت الحافظ قال في كتاب الحوالة من فتح الباري في أثناء كلام: لأن أبا بكر لم يلتمس من جابر شاهداً على صحة
دعواه، ويحتمل أن يكون علم بذلك فقضى له بعلمه فيستدل به على جواز مثل ذلك للحاكم. وفي كتاب «الشهادات» من الفتح: لما كان أولى الناس بمكارم الأخلاق أدى أبو بكر مواعيده عنه ولم يسأله البينة على ما ادعاه لأنه لم يدع شيئاً في ذمة النبيّ وإنما ادعى شيئاً في بيت المال وذلك موكول إلى اجتهاد الإمام اهـ (فعددتها فإذا) فجائية (هي) مبتدأ (خمسمائة) خبره (فقال خذ مثلها) بالتثنية (متفق عليه) رواه البخاري في مواضع من «صحيحه» كالكفالة والشهادات والجزية، ورواه مسلم في باب فضائل النبيّ.

87 - باب الأمر بالمحافظة
أي شدة الحفظ (على ما اعتاده من الخير) فالمفاعلة للمبالغة لا للمغالبة.
(قال الله تعالى) : ( {إن الله لا يغير ما بقوم} ) أي من النعمة أو النقمة ( {حتى يغيروا ما بأنفسهم} ) من

(5/162)


الأحوال الجملة أو القبيحة وقد ورد «قال الربّ: وعزتي وارتفاعي فوق عرشي ما من أهل قرية ولا أهل بيت كانوا على ما كرهته من معصيتي ثم تحولوا عنها إلى ما أحببت لهم من طاعتي إلا حولت بهم عما يكرهون من عذابي إلى ما يحبون من رحمتي» وأيضاً: فإذا غير المتعبد ما اعتاده من الطاعة غير الله ما كان يسبغه عليه من الثواب، وفي الحديث «فإن الله لا يملّ حتى تملوا» .
(وقال تعالى) : ( {ولا تكونوا} ) في نقض الأيمان ولايخفي أنه يتناول نقض سائر العهود (كالتي نقضت) أي أفسدت ( {غزلها} ) مصدر بمعنى المفعول: أي ما غزلته ( {من بعد قوة} ) أي نقضته بعد إحكامه وفتله ( {أنكاثاً} ) الأنكاث جمع نكث بكسر النون كما في «المصباح» ، نظيره حمل وأحمال (وهو الغزل المنقوض) زاد في «المصباح» ليغزل ثانياً وأنكاثاً مفعول كان لنقضت بتضمينه معنى الجعل أو مفعول مطلق وهو مثل لمن نقض عهده بعد توكيده، وقد نقل أنه في امرأة كانت تفعل ذلك.
(وقال تعالى) : ( {ولا تكونوا كالذين أوتوا الكتاب} ) معطوف على أن تخشع وفيه على قراءة التاء الفوقية التفات ( {من قبل} ) كاليهود والنصارى ( {فطال عليهم الأمد} ) الزمان بينهم وبين أنبيائهم (فقست قلوبهم) مالوا إلى الدنيا وأعرضوا عن مواعظ الله.
(وقال تعالى) : {فما رعوها حق رعايتها} أي بالقيام بما التزموا مما زعموا أنه قربة والآيتان تقدم الكلام عليهما في باب المحافظة على السنة وفيه أيضاً حديث ابن عمرو المذكور.
1692 - (وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله: لا تكن مثل فلان) لم أقف على من سماه وقد قال بعض المحققين: لا ينبغي الفحص عمن

(5/163)


أبهم في مثل هذا المقام، فالستر عن أولي التقصير من شأن الناقد البصير، ثم بين المثل المنهي عنه بقوله على سبيل التنفير (كان يقوم الليل) أي لصلاة التهجد (فترك قيام الليل) وإنما كره لما يؤذن به من قلة الاكتراث بأمر الطاعة والاحتفال إذ لو كان مكترثاً محتفلاً به لحياة قلبه لما وقع منه ذلك (متفق عليه) أخرجاه في كتاب الصلاة.

88 - باب استحباب طيب الكلام
أي لينه وترك خشونته (وطلاقة الوجه) هي تهلله بالانشراح والابتسام (عند اللقاء) قال الشاعر:
بشاشة وجه المرء خير من القرى
فكيف بمن يقرى القرى وهو يضحك
(قال الله تعالى) : ( {واخفض جناحك} ) لين جانبك وتواضع ( {للمؤمنين} ) أي دون الكفار. قال تعالى {واغلظ عليهم} .
(وقال تعالى) : ( {ولو كنت فظاً} ) سيء الخلق ( {غليظ القلب} ) قاسيه ( {لانفضوا} ) أي نفروا (من حولك) .
1693 - (وعن عديّ بن حاتم رضي الله عنه) تقدمت ترجمته (قال: قال رسول الله: اتقوا النار) أي اتخذوا ما يقيكم منها (ولو) كان الاتقاء (بشق) بكسر الشين: أي نصف (تمرة)

(5/164)


فإن الله تعالى يقول: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها} (النساء: 40) وقال {فمن يعمل مثقال ذرّة خيراً يره} (الزلزلة: 7) وجاء عن عائشة رضي الله عنها: أنها وقف عليها سائل فتصدقت عليه بعنبة فاحتقرها فقالت له: إنها تعدل مثاقيل من مثاقيل الذر (فمن لم يجد) أي ما يتقي به من الصدقة، وإن قلت (فـ) لميتقها (بكلمة طيبة) يكون طيبها للمخاطب قائماً مقام ما فاته من اللين (متفق عليه) .
2694 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: والكلمة الطيبة) كأمر بمعروف ونهي عن منكر، وإلانة القول لمخاطب في غير مأثم (صدقة) فأفاد الخبر أن الصدقة وإن غلبت في المال لكنها تكون في غيره كلطيف المقال (متفق عليه وهو) أي ما ذكر من حديث أبي هريرة (بعض حديث) وذكره بالواو العاطفة فيه إيماء لذلك (تقدم بطوله) في باب بيان طرق الخير وكذا تقدم في حديث أبي ذر الذي يليه.
3695 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله: لا تحقرن) بتشديد النون (من المعروف) أي ما يستحسن شرعاً (شيئاً ولو) كان ذلك المعروف (أن تلقى أخاك بوجه طلق) أي متهلل بالبشر والابتسام لأن الظاهر عنوان الباطن فلقياه بذلك يشعر لمحبتك له وفرحك بلقياه والمطلوب من المؤمنني التوادّ والتحابّ (رواه مسلم) .

(5/165)


89 - (باب استحباب بيان)
أي إظهار (الكلام) بأن لا يخفي شيء من حروفه فلا يسمعها المخاطب (وإيضاحه) باستعمال الألفاظ الظاهرة الدالة على المراد واجتناب الغريب للمخاطب وذلك ليسهل فهمه (تكريره) ظاهره ولو بإعادته مرة أخرى والخبر فيه فعل ذلك ثلاثاً فلعله أشار بهذا إلى أن التثليث هو الغاية، وأن أصل التكرار مطلوب إذا دعا إليه المقام ويحصل ولو بمرة أخرى (ليفهم إذا لم يفهم إلا بذلك) أي المذكور من جميع الثلاثة.
1696 - (وعن أنس رضي الله عنه أن النبي كان إذا تكلم بكلمة) المراد بها المعنى اللغوي (أعادها) أي كررها (ثلاثاً) أي إذا كان المقام يقتضي الإعادة، والتكرار إما لمزيد الاعتناء بمدلول ذلك أو لكثرة المخاطبين أو لغير ذلك، وقوله (حتى تفهم) أي لتفهم (عنه) فحتى تعليلية، إذ لو كانت غائية لما قيدت بالثلاث (وإذا أتى على قوم فسلم عليهم سلم عليهم ثلاثاً) إما لكثرتهم بحيث أن سلامه على أولهم لا ينتهي إلى أواسطهم وأواخرهم وإما لغفلة بعضهم عن سلامه لكونه نائماً أو في شغل بال أو نحو ذلك كما بينته في «شرح الأذكار» أو أنه عند الاستئذان كما قال الخطابي، ففي الحديث «إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع» ونظر فيه بأن الإذن إذا حصل بنحو التسليمة الأولى لا تسن الثانية. قال البرماوي: والأوجه أن معناه كان إذا أتى على قوم سلم تسليم الاستئذان، وإذا دخل سلم تسليم التحية، وإذا خرج سلم تسليم الوداع، والثالثة مسنونة. وقال ابن بطال: إنما كان تكرار الكلام والسلام إذا خشي أن لا يفهم عنه أولاً يسمع سلامه، وفيه أن الثلاثة غاية ما يقع فيه البيان (رواه البخاري) في كتاب العلم بهذا اللفظ ورواه في الأدب من «صحيحه» لكن بلفظ «كان إذا سلم سلم ثلاثاً وإذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثاً» ورواه الإمام أحمد والترمذي

(5/166)


في جامعه كلهم من حديث أنس كما في الجامع الصغير.
2697 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان كلام) أي ما يتكلم به (رسول الله كلاماً فصلاً) أي بينا ظاهراً أو فاصلاً بين الحق والباطل، ومنه قوله تعالى: {إنه لقول فصل} (الطارق: 2) أي فاصل قاطع، كذا في النهاية، ويقرب الأول قوله على سبيل الاستئناف (يفهمه كل من يسمعه) فإن في الظهور أقرب، ويجوز أن يكون في محل الصفة لكلام بعد وصفه بالمفرد أو في محل الحال منه لتخصيصه بالوصف (روه أبو داود) في «سننه» .

باب إصغاء
أي إمالة (الجليس) رأسه أو سمعه (لحديث جليسه الذي ليس بحرام) كأن يقول مطلوباً أو مباحاً (واستنصات العالم والواعظ حاضري مجلسه) بكسر الراء جمع مذكر مفعول المصدر أي طلبهما الحاضرين أن ينصتوا، والوعظ غلب في المخوف من عذاب الله المرغب في ثوابه بذكر ما جاء في ذلك.
1698 - (وعن جرير بن عبد الله) البجلي تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب من سن سنة حسنة وشرح حديثه هذا في باب تحريم الظلم في أثناء حديث ابن عمر وحديث أبي بكرة (قال: قال لي رسول الله في حجة الوداع) بفتح أوليهما على الأفصح والأشهر (استنصت الناس) أي مرهم بالإنصات فهو استفعال من أنصت الرباعي. قال لبرماوي: وهو قليل، وذلك لأنه سبب لتيسر وصول المسموع إليهم (ثم قال) أتى بثم كأنه لتراخي مدة المعطوف

(5/167)


بها عن أمر جرير وذلك لكثرة الجمع فإنصاتهم يحتاج لمدة، ويحتمل أن تكون وضعت ثم موضع الفاء: أي (لا ترجعوا) أي تصيروا (بعدي كفاراً) أي كالكفار في الفعل الآتي أو كفاراً لنعمة الآخرة المقتضية لضد ذلك أو كفراً ضد الإيمان إن اعتقد حل ذلك (يضرب) بالرفع والجزم كما تقدما بتوجيههما (بعضكم رقاب بعض) والمراد النهي عن الأسباب المؤدية إلى التقاطع والتقاتل من التحاسد والتناجش والتباغض والتدابر، وقد قدر الله وقوعهم فيما نهوا عنه ولا معقب لما أراده سبحانه (متفق عليه) .

91 - باب الوعظ
قال في «المصباح» : هو الأمر بالطاعة والوصية بها (والاقتصاد) أي التوسط (فيه) بين البسط المؤدي إلى الإملال والإيجاز المؤدي إلى عسر الفهم للمقال.
(قال الله تعالى) : ( {ادع إلى سبيل ربك} ) أي دينه وهو التوحيد وأعماله (بالحكمة) القرآن (والموعظة الحسنة) مواعظ القرآن، وقيل المراد القول اللين بلا تغليظ وتعنيف.
1699 - (وعن أبي وائل) بالهمزة بعد الألف كنية (شقيق) بفتح المعجمة بعدها قافان بينهما تحتية بوزن شريف (بن سلمة) الأسدي الكوفي يعد مخضرماً. قال الحافظ في «التقريب» : مات سنة أربع وستين (قال: كان ابن مسعود رضي الله عنه يذكرنا) أي بالتكاليف الشرعية بذكر ثواب ما طلب منها فعلاً وعقاب فعل ما طلب منها تركاً (في كل خميس، فقال له رجل) لم أر من سماه (يا أبا عبد الرحمن) كنية ابن مسعود (لوددت) جواب قسم مقدّر: أي ولله

(5/168)


لأحببت (أنك تذكرنا كل يوم) وذلك لعظم ثمرة التذكير بحلاوة نتائجه (فقال: أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (إنه يمنعني من ذلك أني أكره أن أملكم) أن ومعمولاها مؤولة بمصدر فاعل يمنع: أي يمنعني كراهة إملالكم، فإن النفوس من طبعها الملل مما يداوم عليه وإن كان محبوباً لها (وإني أتخوّلكم) أي أتعهدكم (بالموعظة) مصدر ميمي بمعنى الوعظ (كما كان رسول الله يتخولنا) سيأتي الخلاف في ضبطه أهو بالخاء المعجمة أو بالمهملة وباللام أو بالنون عند بيان المصنف لمعناه (بها مخافة) مفعول له: أي خوف (السآمة) كالملالة وزناً ومعنى، والمراد سآمتهم لا سآمته يدل عليه السياق (علينا) متعلق بالسآمة على تضمينه معنى المشقة أو بوصف أو حال محذوفة: أي الطارئة أو طارئة أو شفقة محذوفاً (متفق عليه) وقع عند البخاري في باب ما كان النبي يتخولهم بالموعظة والعلم بلفظ كراهة السآمة. قال السيوطي في «التوشيح» : وقد روى مخافة في الباب الآتي فالتعبير بكراهة من تصرف الراوي (يتخوّلنا: يتعهدنا) أي يراعي الأوقات في وعظنا ولا يفعله كل يوم.
وقال ابن السكيت: معناه يصلحنا ويقوم علينا، وهذا على أنه بالخاء المعجمة وتشديد الواو وباللام. قال الحافظ ابن حجر: وهو الصواب من حيث الرواية وصح بها المعنى. وقال البرماوي بعد ذكر الأقوال المذكورة في ضبطه: إنه بالمهملة رواية لكن الرواية الصحيحة بالإعجام. وقال أبو عمرو بن العلاء: وقد أطلقه البرماوي ولم ينسبه ونسبه كما قلنا السيوطي «يتخوّننا» بالنون، والتخوّن: التعهد، ويرد على الأعمش روايته باللام، وكان الأصمعي يقول ظلمه فإنه يروي باللام والنون، وقال التيمي: تخون فلاناً بعهده وحفظه كأنه اجتنب منه الخيانة المخلة بالحفظ، وقال أبو عمر الشيباني: الصواب بالحاء المهملة: أي يطلب أحوالنا التي ننشط فيها للموعظة والإتيان بالفعل مضارعاً بعد كان الماضي لقصد الاستمرار نحو كان حاتم يقرى الضيف.

(5/169)


2700 - (وعن عمار) بفتح المهملة وتشديد الميم (بن ياسر) بالتحتية وبعد الألف سين مهملة بن عامر بن مالك العنسى بنون ساكنة بين مهملتين مفتوحة فمكسورة، أبو اليقظان مولى بني مخزوم صحابي جليل مشهور من السابقين الأولين بدري، وقتل مع عليّ بصفين سنة سبع وثلاثين كذا في التقريب، روى له عن رسول الله اثنان وستون حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بثلاثة، ومسلم بحديثين. وقد ترجمه المصنف في «التهذيب» ، وفيه مسند الإمام أحمد وكتاب الترمذي وغيرهما عن عليّ بن أبي طالب قال «جاء عمار ليستأذن على النبي فقال: ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب» وقال الترمذي: حسن صحيح. وفي طريق عند الترمذي ويقال: حديث حسن عن حذيفة مرفوعاً (واهتدوا بهدى عمار) وفي «المسند» من حديث خالد بن الوليد مرفوعاً «من عادى عماراً عاداه الله، ومن أبغض عماراً أبغضه الله» وفي سنده انقطاع، وهو والده صحابيان تقدمت ترجمته (رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: إن طول صلاة الرجل) أي بالنسبة للخطبة فلا يشكل بحديث «إذ صلى أحدكم بالناس فليخفف» الحديث (وقصر خطبته مئنة من فقهه) وإنما كان كذلك لأن الفقيه يعلم أن الصلاة مقصودة بالذات والخطبة توطئة لها، فيصرف العناية إلى ما هو الأهم، وأيضاً فإن الصلاة عبودية العبد والإطالة فيها مبالغة في العبودية، والخطبة المراد منها التذكير، وما قلّ وقرّ خير مما كثر وفرّ (فأطيلوا الصلاة) أي بالنسبة للخطبة، لا بحيث أنه يشق حتى يوقع في النهي (وأقصروا الخطبة رواه مسلم) وقال السيوطي في الجامع الصغير بعد أن ذكره كذلك وزاد في آخره «وإن من البيان لسحراً» رواه أحمد ومسلم عن عمار (مئنة بميم مفتوحة ثم همزة) الأولى فهمزة (مكسورة ثم نون مشددة: أي علامة دالة على فقهه) وتقدم وجهه.
3701 - (وعن معاوية بن الحكم) بفتح المهملة والكاف (السلمي) بضم المهملة وفتح

(5/170)


اللام نسبة إلى بني سليم قبيلة من العرب. قال الحافظ في «التقريب» : صحابي نزل المدينة، وكذا قال المصنف في التهذيب وزاد فيه: وقد روى عن رسول الله ثلاثة عشر حديثاً انفرد به مسلم عن البخاري. وروى له حديث الباب قال المصنف في «التهذيب» : وخرج عنه أبو داود والنسائي (رضي الله عنه قال: بيننا) الألف لكفه عن الإضافة لما بعده فهو جملة مستأنفة (أنا أصلي مع رسول الله إذ عطس رجل من القوم) أي المصلين (فقلت) مشمتاً له أي بعد حمده إذ التشميت إنما يسن حينئذ، ويحتمل أنه بادره عند عطاسه لجهله بتوقف ذلك على الحمد، وهو المتبادر من سياق عبارته (يرحمك الله) خبر لفظاً إنشاء معنى (فرماني القوم بأبصارهم) شزراً إنكاراً لما فعلت لاشتماله على الخطاب لآدمي، وهو مبطل للصلاة وإن كان في ذكل وليس رميهم له بأبصارهم من الالتفات المنهي عنه لأنه يحتمل أن يكون بمجرد لمح أعينهم وبفرض كونه التفاتاً حقيقة فهو لحاجة لا يكره (فقلت واثكل) بضم المثلثة وسكون الكاف كما سيأتي وبفتْحِهما وهما لغتان حكاهما الجوهري كالبخل والبخل (أميَّاه) بكسر الميم، قال القرطبي: أمي مضاف إليه ثكل وكلاهما مندوب، كما قال: واأمير المؤمنيناه، وأصله أمي زيدت عليه الألف لنداء الصوت وأردفت بهاء السكت الثابتة في الوقف المحذوفة في الوصل نقله عنه السيوطي في زهر الربا: أي وافقدها لي فإني هلكت (ما شأنكم تنظرون إلى) جملة حالية من الضمير (فجعلوا يضربون بأيديهم) الباء زائدة (على أفخاذهم) زيادة في الإنكار على. والظاهر أنه لم يتكرر منهم ثلاثاً، فإن المتيقن منه واحدة، والزائد مشكوك فيه فلا تبطل الصلاة بقليل الفعل، وهو ما دون الثلاث من ذلك. أما الثلاث المتوالية عرفاً فتبطل (فلما رأيتهم يصمتونني) أي بالأمر بذلك بالإشارة، غضبت، لجهلي بقبح ما فعلت ومبالغتهم في التنكير على (لكني سكت)
امتثالاً لأنهم أعلم مني ولم أعلم بمقتضى ذلك (فلما صلى رسول الله) جوابه قال الآتي وما بينهما اعتراض لما فيه من المناسبة والالتئام (فبأبي هو) أي فرسول الله مفدى أو أفديه بأبي (وأمي) وقرنه بالفاء تزييناً أو تفريعاً على أحسنية تعليمه (ما رأيت معلماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه) فيه

(5/171)


تعريض أنهم ألغوا في

الإنكار عليه في الكلام مع عذره بجهله بتحريم ذلك بقرب إسلامه، ثم بين الأحسنية بقوله (فوالله ما كهرني) قال المصنف: كما يأتي: أي نهرني هذا قول أبي عبيدة كما في زهر الربا. وقيل الكهر: العبوس في وجه من يلقاه (ولا ضربني ولا شتمني) صرح بهما مع العلم بانتفائهما من انتفاء الأول لأن مقام المدح مقام خطابة وإطناب (قال: إن هذه الصلاة) أي جنسها الشامل لفرضها ونفلها، بل ولما ألحق بها من سجدة تلاوة وشكر والمشار إليه ما في الذهن لا ما في الخارج، لإبهام اختصاص النهي به (لا يصلح فيها شيء من كلام الناس) المراد بالكلام المعني اللغوي وهو: كل لفظ سواء كان مهملاً أو مستعملاً، فتبطل بالنطق بشرط أن يسمع نفسه إن اعتدل سمعه ولا عارض من لغط أو نحوه بالحرف المفهم كق أمر من الوقاية أو بالحرفين وإن لم يفهما من كلام الآدميين وإن لم يقصد خطابهم ولو بالعجمية وإن لم يفهما كأن مد فتولدت ألف أو واو أو ياء وإن تعلق ذلك بمصلحة الصلاة، والكلام لغة: يقع على المفهم وغيره مما هو حرفان فأكثر، وتخصيصه بالمفهم اصطلاح طارىء للنحاة، والحرف المفهم متضمن لمقصود الكلام وإن أخطأ بحذف هاء السكت بخلاف غير المفهم، فاعتبر فيه أقل ما يبني عليه الكلام وهو حرفان، ويستثنى من كلام الناس إجابة المصلي للنبي بقول أو فعل وإن كثر فإنها واجبة لا تبطل بها الصلاة لشرفه ولذا أمر المصلي أن يقول: السلام عليك أيها النبي، وزعم أن هذا الخطاب لغائب يرده أن الخطاب مبطل للصلاة ولو لغائب بأن خطر إنسان في باله فقال مخاطباً له
فيها يرحمك الله، بخلاف إجابة الأبوين فإنها تبطل وإن أوجبناها بأن تأذياً بعدمها تأذياً ليس بالهين سواء الفرض والنفل، ويستثنى أمور أخرى مذكورة في كتب الفقه. قال السيوطي: وحرمة الكلام في الصلاة من خصائص هذه الأمة، قال ابن العربي: كان شريعة بني إسرائيل يباح فيها الكلام في الصلاة دون الصوم فجاءت شريعتنا بعكس ذلك. وقال ابن بطال: إنما عيب على جريح عدم إجابته لوالدته في الصلاة لأن الكلام في الصلاة كان مباحاً في شرعهم (إنما هي) كذا فيما وقفت عليه من نسخ «الرياض» بضمير الواحدة المؤنثة والمرجع مدلول عليه بالسياق: أي إنما الكلمات الصالحة فيها، وروايته في المشكاة «هو» بضمير المذكر قال في «فتح الإله» : أي الذي يصلح فيها (التسبيح) أي التقديس لله وتنبيهه عما لا يليق به (والتكبير وقراءة القرآن) ومثلهما سائر الثناء عليه تعالى مما يدل على كماله. ويؤخذ من عدم أمره لمعاوية بإعادة الصلاة وإلا لنقل أن من تكلم فيها جاهلاً بتحريمه عذر بجهله لقرب

(5/172)


عهده بالإسلام وإن خالط المسلمين أو لبعده عن العلماء لا تبطل صلاته لعذره، ومحل عدم البطلان في ذلك حيث قلّ الكلام، فإن الواقع من معاوية نحو خمس كلمات. أما ما كثر عرفاً فيبطل ولو معذوراً بذلك (أوشك كما قال رسول الله) أي مثل ما قال من التسبيح والتهليل والدعاء (قلت: يا رسول الله إني حديث عهد بجاهلية) هي ما قبل ورود الشرع. سميت به لكثرة جهالاتهم، وهذا عذر له في كلامه في الصلاة وعدم علمه بحرمته فيها (وقد جاء الله) في المشكاة جاءنا بزيادة ضمير المفعول للمتكلم ومعه غيره أي جاءنا معشر الأمة (بالإسلام) أي بدينه على يديك فلا تجد على في أسئلة أخرى يحتاج إلى معرفة حكم الله فيها (وإن منا رجالاً يأتون الكهان) جمع كاهن وهو من يدعي معرفة الضمائر ويخبر عن المستقبل، إما لجنى يخبره أو لزعمه أنه يدرك الغيب بفهم وأمارات، بخلاف العراف فإن نظره قاصر على معرفة الضالّ ومكان
المسروق ونحوهما (قال فلا تأتهم) قال المصنف: قال العلماء: إنما نهى عن إتيانهم لأنهم قد يتكلمون في مغيبات قد يصادف بعضها الإصابة فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك ولأنهم يلبسون على الناس كثيراً من الشرائع. قال الخطابي: والحديث يشمل النهي عن إتيان كل من الكهان والعراف (قلت: ومنا رجال يتطيرون) من الطيرة بكسر ففتح أو سكون وهو التشاؤم بالشيء، ولم يأت مصدر على فعلة غير هذا والخيرة، وذلك أنهم كانوا يتعرفون نحو الطير، فإن ذهب ذات اليمين مضوا وإلا رجعوا فنهوا عن ذلك بقوله (قال ذلك) أي التطير (شيء يجدونه في صدورهم) وفي المشكاة بلفظ في نفوسهم أي من التوهم والتشاؤم المقتضي بحسب توهمهم الفاسد رجوعهم عما يريدون فعله (فلا يصدهم) كذا في أصول «الرياض» بحذف نون التوكيد وهي ثابتة في «المشكاة» : فلا يمنعهم ذلك عن وجهتهم لأنه لا يؤثر نفعاً ولا ضرا، وإنما هو شيء يسوّله الشيطان في النفس ويزينه لها حتى تعمل بقضيته ليجرها بذلك إلى اعتقاد مؤثر غير الله تعالى، وهو كفر صراح بإجماع العلماء. قال المصنف: قال العلماء: نهاهم عن العمل بالطيرة كأن يمتنعوا من مرادهم بسببها لأن ذلك في قدرتهم وكسبهم دون التطير، لأن ذلك يجدونه في النفس ضرورة فلا عتب عليهم فيه. قال: وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في النهي عن التطير والطيرة، وهو محمول على العمل بها لا على ما يوجد في النفس من غير

(5/173)


عمل على مقتضاه، ونفى في الحديث السؤال عن الخط وسكت عليه المصنف ولفظه «قلت: ومنا رجال يخطون، قال: كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك» (رواه مسلم) قال في «المشكاة» : قوله لكني سكت، هكذا وجدت في صحيح مسلم وكتاب الحميدي، وصحح في «جامع الأصول» بلفظة «كذا» فوق «لكني» قال شارحه: ومرّ شرحها كما ذكرناه وأنه لا إشكال فيه، والحديث رواه أبو داود والنسائي وله طرق بينها المزي في «أطرافه» .
(
الثكل بضم الثاء المثلثة) أي وسكون الكاف، وتقدم أن هذا إحدى لغتين ثانيتهما فتحهما معاً وقد حكاهما الجوهري وغيره كالبخل والبخل (المصيبة والفجيعة) أي بالولد بفقده (ماكهرنى) بفتح أولية (أي ما نهرني) .
4702 - (وعن العرباض بن سارية) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) مع شرح الحديث في الباب الذي ذكره المصنف (قال: وعظنا رسول الله موعظة) أي عظيمة كما قال (وجلت) أي خافت (منها القلوب) لأنها محل الدراية من الإنسان (وذرفت) أي سالت (منها العيون) أي دموعها (وذكر الحديث) والقصد أن أحسن المواعظ ما كان جزلاً جامعاً بليغاً نافعاً، فخير الكلام ما دل (وقد سبق بكماله) الباء بمعنى مع (في باب الأمر المحافظة على السنة، و) قد (ذكرنا أن الترمذي قال: إنه حديث حسن صحيح) أتى بذلك لينبه على أن المطلوب من جملة الأحكام التي لا تثبت إلا بالمقبول من الخبر فينبه بذلك على أنه منه. والله أعلم.

(5/174)


92 - باب الوقار
بفتح الواو والقاف مصدر وقر بالضم مثل جمل جمالاً وهو الحلم والرزانة، ويقال وقر يقر من باب وعد فهو وقور كرسول. قال في المصباح: الوقار أيضاً العظمة ويقال وقر وقرا من باب وعد وعداً، يقال جلس بوقار اهـ. وما في الترجمة بالمعنى الأول بدليل عطف قوله (والسكينة) بتخفيف الكاف عليه فهي كما في «المصباح» : المهابة والرزانة والوقار. قال: وحكى في «النوادر» تشديد الكاف ولا يعرف في كلام العرب فعلية مثقلاً إلا هذا الحرف شاذاً اهـ. وبما ذكرنا علم أن عطفها على الوقار من عطف العام على الخاص، لأنه داخل في مفهومها أتى به اعتناء بذلك، وسيأتي فيه مزيد في الباب الذي يليه.
(قال الله تعالى) : ( {وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً} ) أي هينين أو مشياً هيناً بسكينة ووقار من غير جبرية واستكبار، لا مشى المرضي فإنه مكروه وهو مبتدأ خبره الذين يمشون أو الذين صفته والخبر - أولئك يجزون الغرفة - ( {وإذا خاطبهم الجاهلون} ) أي خاطبهم بما يكرهونه ( {قالوا سلاماً} ) سداداً من القول يسلمون فيه من الإثم أو تسليماً منكم لا خير بيننا ولا شر قال تعالى: {وإذاسمعوا اللغو أعرضوا عنه وقالوا لنا أعمالنا ولكم أعمالكم سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين} (القصص: 55) وعن الحسن البصري قالوا السلام، وفي الحديث ما يؤيده.
1703 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله مستجمعاً) أي مبالغاً في الضحك لم يترك منه شيئاً (ضاحكاً) قال الحافظ ابن حجر منصوب على التمييز وإن كان مشتقاً مثل: لله دره فارساً، أي ما رأيته مستجمعاً من جهة الضحك بحيث يضحك ضحكاً تاماً مقبلاً بكليته على الضحك (حتى ترى) بالبناء للمجهول (منه لهواته إنما كان يتبسّم) .
قال

(5/175)


أهل اللغة: التبسم مبادىء الضحك. والضحك: انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة، وإلا فالضحك. وإن كان بلا صوت فهو التبسم. وهذا باعتبار ما علمته من ضحكه، وإلا فقد جاء في أحاديث «ضحك حتى بدت نواجذه» (متفق عليه) رواه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، ورواه مسلم في الفضائل (اللهوات) بفتح أوليه (جمع لهاة) بفتحهما أيضاً (وهي اللحمة التي في أقصى الفم) زاد في «المصباح» قوله المشرفة على الحلق، وتجمع أيضاً على لها كحصاة وحصى.

باب الندب بفتح النون وسكون الدال المهملة فباء موحدة: أي الدعاء، يقال ندبه إلى الأمر ندباً من باب قتل دعاه (إلى إتيان) محل (الصلاة والعلم ونحوهما من العبادات بالسكينة والوقار) وذلك لما في ذلك من سكون النفس فيدخل في العبادة بخشوع وخضوع بخلافه إذا عدا في الطريق بذلك فلا يأتي إلا وهو مضطرب من إسراع المشي فيصده ذلك عن كمال الخشوع أو أصله.
(قال الله تعالى) : ( {ومن يعظم شعائر الله فإنها} ) أي تعظيمها ( {من تقوى القلوب} ) أي ناشىء من تقوى قلوبهم أو أعمال ذوى تقوى القلوب، والآية قد تقدم الكلام فيها في باب تعظيم حرمات المسلمين.

(5/176)


1704 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول: إذا أقيمت الصلاة) بذكر كلمات الإقامة ومثله بل أولى إذا لم تقم ولكن خشي قيامها، قيل والمراد هنا بالصلاة الجمعة بدليل تبويب البخاري للحديث بباب المشي إلى الجمعة لكن حملها على العموم أولى، إلا أن يقال يفهم غير الجمعة منها بقياس الأولى (فلا تأتوها) ندباً (وأنتم تسعون) ولا يخالفه قوله تعالى: {إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله} (الجمعة: 9) لأن المنهى عنه السعي بمعنى العدو والإسراع في المشي، والمأمور به المضي فيها، وقد قرىء «فامضوا إلى ذكر الله» وقد جاء في رواية في البخاري «فامشوا إلى الصلاة ولا تسرعوا» (وأتوها) ندباً (وأنتم تمشون) مشياً بلا إسراع ينافي الوقار كما يدل عليه تقييده بالجملة الحالية بقوله (وعليكم السكينة والوقار) بالرفع مبتدأ مؤخر كما ضبطه المصنف، واحتمال النصب الذي ضبطه به القرطبي على الإغراء فيه بعد عن السياق، لكن يؤيده أنه جاء في رواية بالسكينة بزيادة الياء تأكيداً، وإنما طلب لتكثير الخطأ المقصود لذاته، ثم محل ذلك ما لم يعدّ مقصراً بالتأخير في الجمعة بحيث ينسب إليه التفويت وإلا فيجب عليه الإسراع حينئذ، ثم عطف السكينة للتأكيد والبيان كما قال القرطبي بناء على ترادفهما، وقال المصنف بعد ذكر الجامع بينهما: الظاهر أن بينهما فرقاً، فالسكينة: التأني في الحركات واجتناب العبث، والوقار في الهيئة كغضّ البصر وخفض الصوت وعدم الالتفات. ورجح بأن التأسيس خير من التوكيد وأن الأصل في العطف التغاير قال: قال بعض شراح الجامع الصغير: ويرجع الأول بالاكتفاء بالسكينة عنه هنا في رواية فذلك ظاهر في ترادفهما. إلا أن يقال إن الفرق بينهما على القول به عند اجتماعهما، أما عند افتراقهما فأحدهما يغني عن الآخر كالفقير والمسكين (فما أدركتم) أي من الصلاة مع الإمام (فصلوا) الفاء في «فما» فصيحة قدر الحافظ بقوله: إذا فعلتم ما
أمرتم به من السكينة وترك الإسراع، فما أدركتم فصلوا وهو أحسن من قول الكرماني: إذا بينت لكم ما هو أولى بكم فما أدركتم فصلوا (وما فاتكم) معه (فأتموا) أي أكملوا وحدكم، وفي لفظ فاقضوا وهو بمعنى فإذا فلا

(5/177)


ينافي رواية فأتموا، وقوله أتموا دليل للشافعية أن ما يفعله مع الإمام أول صلاته وما يأتي به بعده آخرها، لأن الإتمام لا يكون إلا للآخر لاستدعائه سبق الأول، قاله البرماوي (متفق عليه) لكن التصريح بالوقار من زيادة رواية البخاري كما قاله القرطبي، ورواه أحمد والأربعة كما في الجامع الصغير (زاد مسلم في رواية له: فإن أحدكم) أي الواحد منكم (إذا كان يعمد) بكسر الميم أي يقصد (إلى الصلاة فهو في صلاة) أي فيحصل له فضلها وإن لم يدركها معهم وقد جاء في ذلك حديث مرفوع، لكن محل ذلك كما في فتح الإله ما لم يعتد ذلك ويتساهل فيه.
2705 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دفع مع النبي) أي قريباً منه بحيث يعدّ عرفا أنه مصاحب له ومنسوب إليه (يوم عرفة) أي عقبه بعد مغيب شمسه كما جاء التصريح بذلك في حديث جابر (فسمع النبيّ وراءه زجراً شديداً وضرباً) أي صوت ذلك (وصوتاً للإبل) أي من الرغو، قال في «المصباح» : رغت الناقة ترغو: أي صوّتت (فأشار بصوته إليهم) أي تأنوا ودعوا العجلة (وقال) زيادة في البيان (عليكم) أي الزموا (بالسكينة) الباء فيه مزيدة للتأكيد. وقيل عليكم اسم بمعنى خذوا فالباء معدية (فإن البر ليس بالإيضاع) أي إنما هو بالخضوع والخشوع والاستكانة لمن لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء (رواه البخاري) في كتاب الحج (وروى مسلم بعضه) وهو قوله في حديث جابر «ويقول بيده اليمنى أيها الناس السكينة السكينة» اهـ، وبه يتبين أن قوله في رواية البخاري المذكورة وقال «عليكم السكينة» أي بالإشارة إليها، ويحتمل أنه جمع بينها وبين اللفظ بذلك (البر الطاعة) كذا قاله المصنف، وفسر أيضاً بالخير والفضل فجعل الإيضاع

(5/178)


ليس من البرّ بمعانيه المذكورة مقيدة بما إذا أدى إلى محظور كالتزاحم أو إيذاء الدواب حتى صوتت فإنها لا يكون منها عادة إلا عند ما يشق عليها وإلا فيطلب والله أعلم (والإيضاع) بسكون التحتية المنقلبة عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها (بضاد معجمة قبلها همزة) أي وبينهما ياء ساكنة (وهو الإسراع) ومنه قوله تعالى: {ولأوضعوا خلالكم} (التوبة: 47) أي لأسرعوا ركائبهم في وسطكم بإيقاع العداوة بينكم.

94 - باب إكرام الضيف
قال في المصباح: الضيف معروف، ويطلق بلفظ واحد على الواحد وعلى غيره لأنه مصدر في الأصل من ضافه ضيفاً من باب باع إذا نزل عنده، وتجوز المطابقة فيقال ضيف وضيفة وأضياف وضيفان، وأضفته: وضيفته إذا أنزلته وقريته، والاسم الضيافة. قال ثعلب: ضفته إذا نزلت به، وأنت ضيف عنده وأضفته إذا أنزلته عندك ضيفاً، تضيفني فضيفته: أي طلب مني القرى فقريته اهـ ملخصاً (قال الله تعالى) : ( {هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين} ) كذا هو بالواو في بعض النسخ وبحذفها من أخرى والتلاوة كذلك، وهذه الجملة لتعظيم شأن الحديث وتنبيه على أن المصطفى إنما عرف ذلك بالوحي له، وإفراد الضيف جاء في اللغة الأولى بدليل وصفه بالمكرمين عند الله أو عند إبراهيم ( {إذ دخلوا عليه} ) ظرف للحديث أو بتقدير اذكر لا للفعل الماضي لاختلاف زمني إتيان الخبر ودخولهم ( {فقالوا سلاماً} ) أي نسلم عليك سلاماً ( {قال سلام} ) أي عليكم سلام وعدل إلى الرفع ليدل على الثبات فعمل بقوله تعالى: {فحيوا بأحسن منها} (النساء: 86) وقد بسطت هذا

(5/179)


المعنى في كتاب أحكام السلام من «شرح الأذكار» ( {قوم منكرون} ) أي أنتم قوم لا نعرفكم ( {فراغ} ) ذهب ( {إلى أهله} ) بخفية، فمن آداب المضيف أن يخفي إتيانه بالضيافة عن الضيف ( {فجاء بعجل} ) مشوي كما في الآية الأخرى {فجاء بعجل حنيذ} (هود: 69) (سمين {فقرّبه إليهم قال ألا تأكلون} ) ذكره بصيغة العرض تلطفاً في العبارة
(وقال تعالى) : ( {وجاءه} ) أي لوطا ( {قومه يهرعون} ) يسرعون ( {إليه} ) عجلة لنيل مطلوبهم من أضيافه ( {ومن قبل} ) أي من قبل ذلك الوقت ( {كانوا يعملون السيئات} ) أي يأتون الرجال يعني هذه عادتهم من قديم الأيام ( {قال يا قوم هؤلاء بناتي} ) أي فتزوجوهن واتركوا أضيافي، كانوا يطلبونهن من قبل ذلك ولا يجيبهم وكان تزويج المسلمة من الكافر جائزاً، أو المراد من البنات نساؤهم وأضافهن إلى نفسه لأن كل نبيّ أبو أمته ( {هن أطهر لكم} ) من نكاح الرجال ( {فاتقوا الله ولا تخزون} ) تفضحوني ( {في} ) شأن ( {ضيفي} ) فإخزاء ضيف الشخص إخزاؤه فدل على الاهتمام بالضيف ودفع المؤذيات عنه ولو بما يتأذى به من المضيف فذلك من الإكرام المأمور به له ( {أليس منكم رجل رشيد} ) يعرف حقيقة ما أقول.
1706 - (وعن أبي هريرة) تقدم حديثه (رضي الله عنه) هذا وشرحه في باب صلة الأرحام، وبنحوه من حديث أبي شريح الخزاعي في حديث الباب الذي قبل ذلك (عن النبي قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أي إيماناً كاملاً (فليكرم ضيفه) قيل إكرامه تلقيه بطلاقة الوجه وتعجيل قراه والقيام بخدمته بنفسه، وقد جاء في الرواية «إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم أكرم أضيافك فأعد لكل شاة مشوية، فأوحى إليه أكرم فجعله ثوراً، فأوحى إليه أكرم فجعله جملاً، فأوحى إليه أكرم فتحير وعلم أن إكرامهم ليس في كثرة الطعام فخدمهم بنفسه،

(5/180)


فأوحى إليه الآن أكرمتهم» كذا في شرح ابن مالك على المشارق (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) أعدّ ذلك إيذاناً باستقلال جوابه في ترتبه على الشرط ترتب المسبب على السبب ولو لم يعدل احتمل ذلك واحتمل أن المرتب عليه مجموع الأمور الثلاثة فدفع ذلك كذلك (فليصل رحمه) وتقدم في باب صلة الأرحام أن صلة الرحم مطلوبة وبعض خصالها واجب وبعضها مندوب، فالأمر في ذلك كله إما من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز عند من يرى جوازه أو من باب عموم المجاز بأن يراد به مطلق الطلب الشامل للنوعين (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر) كذلك اليوم الآخر هو يوم القيامة، وقيل له ذلك لأنه لا يوم بعده، وذكر في الجمل الثلاث لأنه حين المجازاة فذكره باعث على الإكثار من عمل البر زاجر عن الكف عن ذلك وكأن التارك لشيء من هذه الخصال غير مؤمن بما ذكر فيه (فليقل خيراً) من أمر بمعروف أو نهى عن منكر أو كلمة طيبة (أو ليصمت متفق عليه) .
2707 - (وعن أبي شريح) بضم المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية بعدها مهملة (خويلد) بضم المعجمة وسكون التحتية مصغر خالد (ابن عمرو رضي الله عنه) الخزاعي الكعبي العدوى حلفاً، وقيل اسمه عبد الرحمن بن عمرو، وقيل هانىء، وقيل كعب. شهد رضي الله عنه فتح مكة مسلماً وكان يومئذ حاملاً أحد ألوية بني كعب، خرّج له الجماعة، روى له عن رسول الله عشرون حديثاً، أخرج منها الشيخان ثلاثة، اتَّفقا على حديثين وانفرد البخاري بالثالث. روى عنه نافع بن جبير والمقبري مات بالمدينة سنة ثمان وستين (قال: سمعت رسول الله يقول: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته) بالنصب بدل اشتمال: أي فليكرم جائزة ضيفه (قالوا: يا رسول الله وما جائزته؟ قال: يومه وليلته:) لفظ رواية البخاري في «الأدب» من «صحيحه» «فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة» وقد روى ذلك فيه مرفوعاً ومنصوباً. وعنده في الرقاق «قيل وما جائزته» الحديث لكن ليس فيه ذكر الجار، أما هنا فمرفوع خبر لمحذوف دل عليه ذكره في السؤال: أي جائزته إكرام يومه

(5/181)


وليلته (والضيافة ثلاثة أيام) واختلف هل الجائزة منها أو زائدة عليها، فإن كان منها قدر كما ذكر وإلا قدر جائزته زيادة يومه وليلته على أيام الضيافة الثلاثة أشار إليها البدر الدماميني في مصابيحه، لكن قوله (وما كان وراء ذلك) أي زيادة عليه (فهو صدقة) يؤيد أنها منها، وقد قال العلماء: المطلوب من المضيف أن يبالغ في إكرام الضيف اليوم الأول وليلته، وفي باقي اليومين يأتي له بما يتيسر من الإكرام غير مبالغ فيهما كاليوم الأول، والله أعلم (متفق عليه) أخرجه البخاري في الأدب من «صحيحه» ، وأخرجه مسلم في الأحكام، ورواه أبو داود في الأطعمة والترمذي في البرّ وقال: حسن صحيح، والنسائي فيه وفي الرقاق وابن ماجه في الأدب اهـ ملخصاً من «الأطراف» للمزي (وفي رواية لمسلم: ولا يحل) أي يجوز (لمسلم) التنكير فيه للتعميم (أن يقيم عند أخيه) لا
يخفي ما في التعبير بأخيه من الحث على النظر إلى حاله والتخفيف عنه فإن ذلك شأن الأخوّة (حتى يؤثمه) أي إلى أن يوقعه في الإثم (قالوا: يا رسول الله وكيف يؤثمه؟) أي يوقعه فيه (قال: يقيم عنده ولا شيء له يقريه به) فيؤدي ذلك إلى الوقيعة فيه واغتيابه وإلى الاستدانة المفضية إلى الكذب وخلف الوعد كما في حديث «يا رسول الله ما أكثر ما تستعيذ به من المغرم، فقال: إن الرجل إذا غرم وعد فأخلف وحدث فكذب» .

95 - باب استحباب التبشير
أي الإخبار بما يسرّ المخبر، سمى بذلك لما يبدو على بَشرة المخبر من الحبور والسرور (والتهنئة بالخير) وذلك لما فيه من التوادّ والتحاب.
(قال الله تعالى) : ( {فبشر} ) يا محمد

(5/182)


( {عباد} ) المشرّفون بشرف نسبة العبودية إليّ، وقوله ( {الذين يستمعون القول} ) أي القرآن ( {فيتبعون أحسنه} ) كالعفو عن نصف الصداق المخير الزوج بينه وبين أخذه. وكالعفو عن المعسر المخير الدائن بينه وبين إنظار المدين، وحذف المبشر به ليعم ويذهب الوهم كل مذهب، وفضل الله أعلى وأوعب.
(وقال تعالى) : ( {يبشرهم ربهم} ) لا يخفي لطافة التعبير به: أي الذين رباهم بسابق عنايته بهم حتى أوصلهم لما سبق لهم في علمه ( {برحمة} ) عظيمة جليلة كما يؤذن به قوله ( {منه} ) فإن الذي من العظيم عظيم ( {ورضوان} ) وهو كواسطة العقد، قال تعالى: {ورضوان من الله أكبر} (التوبة: 72) فناسب توسيطه بين قلائد الصلاة ( {وجنات} ) والتنوين فيه كهو في رحمة، وقوله ( {لهم فيها نعيم مقيم} ) جملة اسمية في محل الصفة لها وأحد الظرفين خبر مقدم للاهتمام والثاني في محل الحال.
(وقال تعالى) حكاية عن تبشير الملائكة لخواص المؤمنين يوم القيامة ( {وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} ) أي على لسان أنبيائكم.
(وقال تعالى) : ( {فبشرناه بغلام حليم} ) الأكثر أنه إسماعيل، وقيل إسحاق.
(وقال تعالى) : ( {ولقد جاءت رسلنا} ) الملائكة ( {إبراهيم بالبشرى} ) ببشارة الولد وبه يظهر حكمة قران الكلمة لها بما قبلها أو بشارة بهلاك قوم لوط.
وقال تعالى) : {وامرأته} أي سارة امرأة إبراهيم ( {قائمة} ) وراء الستر أو قائمة بخدمة الضيف ( {فضحكت} ) سروراً بالأمن أو

(5/183)


تعجباً وقالت لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة وهم لا يأكلون طعاماً، أو تعجباً من خوف إبراهيم من رجال قلائل وهو بين خدمه وحشمه، أو ضحكت بمعنى حاضت، فإن الضحك من أسماء الحيض العشرة التي نظمتها في قولي:
للحيض عشرة أسماء لنا وردت
طمس وطمث وإعصار وإكبار
ضحك دراس عراك بعد ذاك أتى
حيض نفاس فراك هم يا جار
( {فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} ) .

(وقال تعالى) : ( {فنادته} ) أي زكريا ( {الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب} ) الجملة حال من مفعول نادى والظرف حال من فاعل يصلي، وسمى محل الصلاة محراباً لأن المصلي يحارب فيه الشيطان ( {إن الله} ) بكسر الهمزة بإضمار قائلين وبفتحها من غير إضمار وقرىء بهما ( {يبشرك بيحيى} ) اسم أعجمي على صورة المنقول من مضارع حيى.
(وقال تعالى) : ( {إذا قالت الملائكة} ) أي اذكر وقت قولها ( {يا مريم إن الله يبشرك بكلمة} ) سمى كلمة لأنه صدر عن كلمة «كن» من غير ذكر، وقوله ( {منه} ) إيماء إلى تعظيم عيسى وتفخيم شأنه كما ذكرناه قريباً.
(الآية، والآيات في الباب كثيرة معلومة) وكل ما أورده منها شاهد في شطر الترجمة الأولى (وأما الأحاديث فكثيرة جداً) بكسر الجيم: أي نهاية في الكثرة (وهي مشهورة في) كتب (الصحيح) التي أصحها الصحيحان منها.

(5/184)


1708ـ (عن أبي إبراهيم) وعليه اقتصر المصنف في باب الصبر (ويقال) فيه (أبو محمد) ويقال أبو معاوية عبد الله بن أبي أوفي تقدمت ترجمته في الباب المذكور وهو ووالده صحابيان (رضي الله عنهما أن رسول الله بشر خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها ببيت) أي عظيم، وقد جاء في مسلم بقصر (في الجنة من قصب) الظرف الأخير محتمل للحالية لتخصيص النكرة بالظرف قبله وللوصفية لنكارته (لا صخب) بفتح الصاد المهملة والخاء المعجمة وبالباء الموحدة (فيه) خبر لا (ولا نصب) وهو بالفتح فيهما، وكأن الرواية فيه كذلك وإلا فيجوز فيه من الأوجه الخمسة ما يجوز في «لا حول ولا قوة إلا بالله» (متفق عليه) رواه البخاري في فضل خديجة، ومسلم في الفضائل، ورواه النسائي في المناقب.
(القصب) بفتح القاف والصاد المهملة بعدها موحدة (هنا) أي في هذا الحديث وما شابهه (اللؤلؤ المجوف) زاد في النهاية الواسع كالقصر المنيف، والقصب من الجوهر ما استطال منه في تجويف، وفي التوشيح للسيوطي في الطيراني عن فاطمة «قلت: يا رسول الله أين أمي؟ قال: في بيت من قصب، قلت: أمن هذا القصب؟ قال: لا، من القصب المنظوم بالدرّ واللؤلؤ والياقوت» (الصخب) بالصاد المهملة وإبدالها سينا لغة وبالخاء المعجمة المفتوحتين (الصياح واللغط) وهو مصدر صخب من باب تعب قاله في المصباح (والنصب) مصدر نصب بفتح النون وكسر المهملة (التعب) ونفي التعب عن الجنة لأنها ليست دار تكليف وأعمال وإنما هي منزل تشريف وإجلال.
2709 - (وعن أبي موسى الأشعري) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الإخلاص (أنه توضأ في بيته) يحتمل أن يكون لإرادة الصلاة أو ليكون على طهارة (ثم خرج فقال:

(5/185)


لألزمنّ رسول الله ولأكوننّ معه يومي هذا) الإشارة إليه للتعميم: أي لا أكتفي ببعضه عن باقيه (فجاء المسجد فسأل عن رسول الله فقالوا: وجه) (بفتح الواو وتشديد الجيم: أي توجه كما سيأتي في الأصل، أو وجه نفسه (ها هنا، قال: فخرجت على أثره) بفتح الهمزة المثلثة وبكسر فسكون أي تبعته عن قرب، وجملة (أسأل عنه) حال إما من فاعل فخرج فتكون مترادفة، أو من الظرف فتكون متداخلة (حتى دخل بئر أريس) أي الحائط الذي هي فيه وسيأتي ضبطه في الأصل (فجلست عند الباب حتى) أي إلى أن (قضي رسول الله حاجته) أي حاجة الإنسان من البول أو الغائط (وتوضأ فقمت إليه) أي متوجهاً إليه (فإذا) فجائية (هو) مبتدأ خبره (قد جلس على بئر أريس) وأظهر لزيادة البيان (وتوسط قفها) سيأتي ضبطه، ومعناه: أي الركية التي تجعل حول البئر (وكشف عن ساقيه) تثنية ساق، وهي ما بين الركبة والقدم وهي مؤنثة تصغيرها سويقة، قاله في المصباح (ودلاهما) أي الساقين (في البئر فسلمت عليه ثم انصرفت) المعطوف عليه محذوف: أي فسلم علىّ ثم انصرفت (فجلست عند الباب فقلت: لأكونن بوّاباً للنبي اليوم) قال في «فتح الباري» : ظاهره أنه اختار ذلك وفعله من نفسه، وقد صرح به في رواية للبخاري في الأدب فزاد قوله «ولم يأمرني بذلك» قال ابن التين: فيه أن المرء يكون بوّاباً للإمام وإن لم يأمره كذا قال. ووقع في رواية للبخاري في مناقب عثمان من طريق آخر «فقال: يا أبا موسى أملك عليّ الباب» أخرجه أبو عوانة في «صحيحه» والرواياني في مسنده. وفي رواية الترمذي «فقال لي: يا أبا موسى أملك عليّ الباب فلا يدخلن عليّ أحد» فيجمع بينهما بأنه لما حدّث نفسه بذلك صادف أمر النبي له بحفظ الباب عليه، وأما قوله «ولم يأمرني» يريد أنه لم يستمر بوّاباً،
وإنما أمره بذلك قدر ما قضى حاجته وتوضأ، ثم استمر هو من قبل نفسه، فبطل استدلال ابن التين به. وجاء عند أبي داود عن نافع بن عبد الخزاعي قال «دخل النبي حائطاً من حوائط المدينة فقال لبلال: أمسك عليّ الباب، فجاء أبو بكر يستأذن» فذكر نحو حديث

(5/186)


الباب وأخرجه الطبراني في «الأوسط» من حديث أبي سعيد. قال الحافظ: فإن صحح

حمل على التعدد. قال: ثم ظهر لي وهم من بعض رواته، وأن النسائي أخرج الحديث عن نافع عن أبي موسى وهو الصواب، فرجع الحديث إلى أبي موسى واتحدت القصة اهـ. ولا ينافي هذا قول أنس: لم يكن له بواب، لأن مراده لم يكن بواب مرتب لذلك على الدوام (فجاء أبو بكر رضي الله عنه) يحتمل أنه علم كون النبي ثمة باستخبار كأبي موسى أو بإخبار سابق منه أو كان ذلك أمراً اتفاقياً (فدفع الباب، فقلت: من هذا؟ فقال: أبو بكر) أي أنا أبو بكر، ففيه استحباب تصريح المستأذن باسمه إذا سئل منه تعيين نفسه (فقلت: على رسلك) بكسر الراء وسكون السين المهملة أي هينتك (ثم ذهبت) أي فوقفت ثم ذهبت (إلى رسول الله فقلت: يا رسول الله هذا أبو بكر يستأذن) جملة مستأنفة أو حالية أو خبر بعد خبر (فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فأقبلت حتى قلت لأبي بكر: ادخل ورسول الله يبشرك بالجنة) فيه حسن ثمرة لزوم الأدب، زاد البخاري في رواية «فحمد الله» وكذا قال في حق عمر (فدخل أبو بكر) وسار (حتى جلس عن يمين النبي) لأنها أشرف الجهات (معه) في محل الحال من ضمير جلس وكذا (في القف) ويحتمل أن أحدهما ظرف لغو في القف (ودلى) أي أرخى (رجليه في البئر كما صنع النبيّ وكشف عن ساقيه) كأنه فعل ذلك ليبقى النبي على ما هو عليه من تلك الجلسة المرتاح هو بها، إذ لو لم يفعل ذلك لربما ترك النبي ما كان عليه منها، فأثر بفعله ذلك ما هو من إسقاط الكلفة ما فيه راحة المصطفى (ثم) لعل الإتيان بها لطول مقام أبي موسى ناظراً في فعل الصدّيق وما يقول وما
يقال، ويحتمل أنها مستعارة للفاء: أي (فرجعت فجلست وقد تركت أخي) كان أبورهم وأبو بردة، قبل وآخر اسمه محمد وأشهرهم أبو بردة واسمه عامر (يتوضأ ويلحقني،

(5/187)


فقلت: إن يرد الله بفلان) كناية عن المبهم من أعلام العقلاء وقد تستعمل في غيرهم مجازاً ولذا قال (يعني أخاه خيراً يأت به) ليغنم التمتع بالحضور بين يدي المصطفى في الخلوة، ولعله أن يبشر بالجنة كما بشر من قبله (فإذا إنسان يحرّك الباب) على سبيل الاستئذان، وفيه حسن الأدب في الاستئذان. وأما قول ابن التين لعله كان قبل الاستئذان، فقال الحافظ في «الفتح» : إنه بعيد، لأنه جاء في رواية البخاري عن أبي موسى بلفظ «فجاء رجل فاستأذن» فعرف أنه حركة مستأذن، لا دافعاً ليدخل بغير إذن (فقلت: من هذا؟ فقال عمر بن
الخطاب) فيه أنه إذا كان لا يحصل بيان المستأذن إلا بالزيادة على اسمه ذكر ما يحصل به رفع الإبهام (فقلت: على رسلك) متعلق بمحذوف دل عليه الحال: أي وقف حال كونك على هينتك (ثم جئت) عبر به بدل قوله أوّلاً ذهبت تفنناً في التعبير (إلى رسول الله وقلت: هذا عمر) استغنى عن نسبته لعلمه بما يدل على تعيينه عند المصطفى بمجرد ذكر اسمه من قرائن الأحوال التي منها وجود قرينه وهو الصديق (يستأذن، فقال: ائذن له وبشره بالجنة) مبادرة لإدخال السرور عليه، وإلا فذلك حاصل من تأخيره وتبشيره، وفيه قبول خبر الواحد، وفيه جواز العمل بالظن مع القدرة على اليقين (فجئت عمر) أظهر والمقام للضمير ولعله استلذاذاً بذكره لمحبته له (فقلت: أذن) بالبناء للفاعل (ويبشرك رسول الله بالجنة) لعل حكمة العدول مع ما فيه من التفنن في التعبير الإشارة إلى علوّ مقام الأول، لأن الجملة الإسمية المخبر عنها بالفعلية تدل على الدوام والاستمرار نظراً لصدرها وعلى التجدد والحدوث نظراً لعحزها، والجملة الفعلية المحضة لا دلالة فيها على الدوام والاستمرار، فناسب علوّ مقام الصديق على مقام عمر رضي الله عنهما أن تكون البشارة للصديق بجملة أبلغ من البشارة لعمر، والله أعلم (فدخل فجلس مع رسول الله في القفّ عن يساره) بفتح التحتية وتخفيف السين أي شماله (ودلى رجليه) عبر بهما بدل ساقيه تفنناً في التعبير، لأنّ تدلية كل من الأمرين مستلزم لتدلية الآخر (في البئر) ، ثم رجعت

(5/188)


فقلت: إن يرد الله بفلان خيراً، يعني أخاه يأت به، فجاء إنسان فحرك الباب مستأذناً (فقلت: من هذا؟ فقال: عثمان بن عفان، فقلت: على رسلك، وجئت النبي وأخبرته) أبدل العاطف، ففي الأولين ثم وهنا الواو وعمل الفعل، ففي الأولين جاء به قاصراً بمعنى حضرت، وفي الأخير متعدياً بمعنى أتيت، وحكاية إخباره، ففي الأولين بيَّن تفصيل ما وقع، وفي الثالث أجمل، وكل ذلك من بلاغته وتفننه في التعبير (فقال: ائذن له)
جاء في رواية البخاري «فسكت هنيئة ثم قال: ائذن له» (وبشره بالجنة مع بلوى) هي اسم مصدر كالبلية والبلاء، قاله في المصباح (تصيبه فجئت فقلت: ادخل ويبشرك رسول الله بالجنة مع بلوى تصيبك) زاد في رواية للبخاري «فحمد الله ثم قال: الله المستعان» وفي رواية عند أحمد «فجعل يقول: اللهم صبراً حتى جلس» ووقع في رواية «فدخل وهو يحمد الله ويقول: اللهم صبراً» (فدخل فوجد القف قد ملىء فجلس وجاههم) بضم الواو وكسرها وتبدل تاء جوازاً فيقال تجاه: أي في محل مواجهتهم. وعند البخاري في باب مناقب عثمان «وأمرني رسول الله يحفظ الباب» (من الشق الآخر) من البئر المقابل لقفها، زاد في البخاري «وقال سعيد بن المسيب: فأولتها قبورهم» قال الحافظ: نية وقوع التأويل في اليقظة وهو الذي يسمى الفراسة والمراد اجتماع الصاحبين مع النبي في الدفن وانفراد عثمان عنهم في البقيع. وجاء في رواية أخرى وقال «فأوّلت ذلك انتباذ قبره من قبورهم» (متفق عليه) أخرجه البخاري في الفضائل وفي الفتن، ومسلم في الفضائل، وأخرجه النسائي في المناقب وقال: حسن صحيح، وأخرجه النسائي (وزاد) أبو موسى (في رواية) عند البخاري في باب مناقب عثمان (وأمرني رسول الله بحفظ الباب) وتقدم أن عنده أيضاً «فقال: يا

(5/189)


أبا موسى لعلك على الباب» وتقدم الجمع بين ما ورد في ذلك من الروايات وأنه ليس من مختلف الحديث كما توهمه الداودي فيما نقله عنه ابن التين، قال الحافظ: وكأنه خفى عليه وجه الجمع الذي قررته (وفيها) أي تلك الرواية، وظاهر أن ذلك في المذكورة في باب فضل عثمان، والذي رأيته أنها في رواية أخرى مذكورة في باب مناقب عمر وليس فيها أنه أمر بحفظ الباب (أن عثمان حين بشره حمد الله ثم قال: الله المستعان، قوله: وجه بفتح الواو وتشديد الجيم: أي توجه) مثل قدم بمعنى تقدم في قوله تعالى:
{لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} (الحجرات: 1) وهذا أحد وجهين فيكون الفعل قاصراً وتقدم وجه آخر (وقوله بئر) بالهمز ويجوز تخفيفها (أريس هو بفتح الهمزة وكسر الراء بعدها مثناة تحت ساكنة ثم سين مهملة) قال في فتح الباري: هو بستان معروف بالقرب من قباء، وفي بئرها سقط خاتم النبيّ من أصبع عثمان (وهو مصروف) بإرادة المكان (ومنهم) أي النحاة (من منع صرفه) على إرادة البقعة. وظاهر كلامه أن الصرف كالمتفق عليه وأن المنع منه للبعض، لكن عبارة الحافظ في الفتح وهي يجوز فيهما الصرف وعدمه تقتضي تساوي الوجهين (والقف بضم القاف وتشديد الفاء هو المبني حول البئر) قال في «الفتح» : هو الركية التي حول البئر، وأصله ما غلظ من الأرض وارتفع والجمع قفاف.
(قوله) أي أبي موسى لكل من المستأذنين (على رسلك بكسر الراء على المشهور) وعليه اقتصر في «النهاية» ونقله عن الجوهري (وقيل بالفتح أي أرفق) أي إن أريد به أرفق بنفسك فيكون بفتح الراء، أما بمعنى التؤدة والهيئة فهو بالكسر وهو المشهور وقد ذكر كذلك في «المطالع» ، والله أعلم.

(5/190)


3710 - (وعن أبي هريرة) تقدم حديثه هذا (رضي الله عنه) في باب الرجاء (قال: كنا قعوداً) جمع قاعد (حول رسول الله) قال المصنف: قال أهل اللغة: يقال قعدنا حوله وحواليه وحواله بفتح اللام في جميعها: أي على جانبه ولا يقال حواليه بكسر اللام (معنا) بفتح العين على اللغة المشهورة، ويجوز تسكينها في لغة حكاها صاحب «المحكم» والجوهري وغيرهما، وهي للمصاحبة: أي في جملتنا أيها القاعدون (أبو بكر وعمر) وخصا (رضي الله عنهما) لفضلهما على باقي الصحابة (في نفر) الظرفان يحتمل أن يكونا لغويين متعلقين بكان بناء على الصحيح من أن للأفعال الناقصة مصادر، وأن يكونا في محل الحال إما متداخلين أو مترادفين، والنفر بفتح النون والفاء جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة، وقيل إلى سبعة، ولا يقال فيما زاد على العشرة (فقام رسول الله من بين أظهرنا) قال المصنف: هكذا هو هنا، وفي الموضع الآتي، وأظهرنا بالجمع قال: ووقع الثاني في بعض الأصول ظهرينا وكلاهما صحيح، قلت: وهو الذي أورده المصنف فيما يأتي قال أهل اللغة: يقال بين أظهركم وظهريكم وظهرانيكم بفتح النون: أي بينكم (فأبطأ علينا وخشينا أن يقتطع) بالبناء للمفعول (دوننا) أي يصاب بمكروه
من عدو إما بأسر أو غيره (وفزعنا فقمنا، فكنت أول من فزع) قال القاضي عياض: الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهيوب للشيء والاهتمام به وبمعنى العناية، قال: فيصح هنا هذه المعاني الثلاثة: أي ذعرنا لاحتباسه عنا، ألا تراه كيف قال: وخشينا أن يقتطع دوننا، ويدل على الوجهين الآخرين قوله فكنت أول من فزع (فخرجت أبتغي) أي أطلب (رسول الله) أي فسرت (حتى أتيت حائطاً) أي بستاناً، وسمى بذلك لأنه حائط لا سقف له (للأنصار) تقدم أنه علم بالغلبة على أولاد الأوس والخزرج، وقوله (لبني النجار) بدل منه بإعادة الجار (فدرت به هل أجد له بابا) أي متطلباً للوقوف على بابه (فلم أجد) أي بابا وحذف لدلالة ما قبله عليه (فإذا ربيع) بفتح الراء وكسر الموحدة، قال المصنف: على لفظ الربيع الفصل المعروف وجمعه أربعاء كنبى وأنبياء، ويأتي أنه النهر الصغير (يدخل في جوف حائط) أي

(5/191)


(بستان وإسناد الدخول إلى الربيع مجازي فالداخل ماؤه مثل قولهم نهر جار (من بئر خارجة) قال المصنف: هكذا ضبطناه بتنوين بئر وخارجة على أن خارجة صفة بئر، وكذا نقله ابن الصلاح عن أصل الحافظ أبي عامر العبدرى، والأصل مأخوذ عن الجارودي. وذكر الحافظ أبو موسى الأصبهاني أنه روى على ثلاثة أوجه: أحدها هذا، والثاني بتنوين بئر وإضافة خارجة إلى ضمير الحائط، والثالث إضافة بئر إلى خارجة بالهاء في آخره اسم رجل، قال المصنف: والوجه الأول هو المشهور خلافاً لصاحب التحرير في قوله إن الصحيح الوجه الثالث، قال: والأول تصحيف، قال: والبئر يعنون بها البستان، قال: وكثيراً ما يفعلون هذا يسمون البستان بالآبار التي فيها فيقولون بئر أريس وبئر حاء وبئر بضاعة وكلها بساتين اهـ.Y قال المصنف: وأكثره أوكله لا نوافق عليه (والربيع الجدول) جملة معترضة مفسرة يحتمل أن تكون من كلام أبي هريرة من جملة الحديث وهو ظاهر كلام المصنف الآتي، ويحتمل أن تكون مدرجة فيه، والجدول فعول: هو النهر الصغير قاله في
المصباح (فاحتفزت) روى بالزاي وبالراء، قال القاضي عياض: رواه عامة شيوخنا بالراء، قال: وسمعناه بالزاي من طريق أخرى وهو الصواب، ومعناه: تضاممت ليسعني المدخل، وكذا قال ابن الصلاح، وإنه بالراء في الأصل الذي بخط أبي عامر العبدري، وفي الأصل المأخوذ عن الجارودي وأنها رواية الأكثر، وأن رواية الزاي أقرب من حيث المعنى، ويدل عليه تشبيهه بفعل الثعلب وهو تضامُّه في المضايق، وأنكر صاحب التحرير الزاي وخطأ رواتها واختار الراء وليس اختياره بمختار (فدخلت على رسول الله، فقال أبو هريرة) أي أنت أبو هريرة؟ (قلت: نعم يا رسول الله، قال: ما شأنك) قال الراغب في مفرداته هو الحال والأمر الذي يتفق ويصلح ولا يقال إلا فيما يعظم من الأحوال والأمور (قال: كنت بين ظهرانينا) بصيغة المثنى وتقدم مأخذه (فقمت فأبطأت علينا فخشينا أن تقتطع دوننا، ففزعنا فكنت أول من فزع، فأتيت هذا الحائط فاحتفزت كما يحتفز الثعلب) بفتح المثلثة وسكون المهملة آخره، وله كنى كثيرة أشهرها أبو الحصين. قال ابن النحوي في لغات «المنهاج» : ويقال فيه أيضاً أبو البحيص وأبو الحبيص وأبو حفص وأبو عومل وأبو النجم وأبو نومل وأبو الرباب اهـ (وهؤلاء الناس) الذين كنت بين أظهرهم أو هم

(5/192)


وغيرهم ممن اطلع على القصة، فأل للعهد أو للجنس (ورائي، فقال: يا أبا هريرة) وجملة (وأعطاني نعليه) جملة حالية من فاعل قال وقوله (فقال) تكرير للأول. قال المصنف وأتى بها لطول الفصل بين القول ومقوله بالنداء وبالجملة الحالية وهذا حسن وموجود في كلام العرب بل في القرآن، قال تعالى:
{فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به} (البقرة: 89) قال محمد بن يزيد: فلما تكرير للأولى لطول الكلام وكذا قوله تعالى: {أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون} (المؤمنون: 35) فإنكم الثانية معادة لطول الكلام (اذهب بنعليّ) بفتح اللام وتشديد التحتية بدليل قوله قبله وأعطاني نعليه وقوله (هاتين فمن لقيت) أي من عربي وغيره من ذكر أو أنثى (من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله) أي مع قرينتها وهي محمد رسول الله فإن ذلك صار في عرف الشرع كناية عن مجموعهما، وقوله (مستيقناً بها قلبه) حال من فاعل يشهد أتى به لإخراج المنافق من هذه البشرى (فبشره بالجنة وذكر الحديث بطوله) وحاصله أن عمر أشار على النبي بترك التبشير بذلك لئلا يتكل الناس على ذلك فيتركوا العمل فوافق عليه، ولا يضرّ ذلك في مقصود الباب لأن الشاهد في أمره بذلك فدل على طلبه، وكونه ترك خصوص ذلك المبشر به لأمر يقتضيه لا يتعدى إلى غيره، والله أعلم (رواه مسلم) في كتاب الإيمان.
(الربيع النهر) بفتح النون والهاء ويجوز إسكانها (الصغير وهو الجدول) أي إن الربيع والجدول مترادفان وإنهما اسمان للنهر الصغير (كما فسره في الحديث) الضمير البارز يرجع للربيع، وتقدم مرجع المستكن وما فيه من الاحتمال (وقوله احتفزت) وكذا قوله كما يحتفز الثعلب وكأنه سكت عنه اختصاراً لأن المادة واحدة (روى بالراء وبالزاي، ومعناه بالزاي تضاممت وتصاغرت حتى أمكنني الدخول) ومعناه بالراء حفر الأرض حتى اتسع فدخل من ذلك.
4711 - (وعن أبي شماسة) بفتح الشين المعجمة وضمها ذكرهما صاحب المطالع والميم

(5/193)


مخففة وآخره سين مهملة ثم هاء واسمه عبد الرحمن بن شماسة بن ذئب أبو عمرو، وقيل أبو عبد الله المهبري بفتح الميم وإسكان الهاء قاله المصنف (قال: حضرنا عمرو بن العاص) بحذف الياء كما تقدم توجيهه (رضي الله عنه وهو في سياق الموت) بكسر المهملة وتخفيف التحتية: أي حال حضور الموت (يبكي طويلاً) أي بكاء طويلاً، والجملة إما خبر بعد خبر أو حال من الضمير المستقرّ قبله (وحوّل وجهه إلى الجدار) معطوف على قوله أول القصة حضرنا (فجعل ابنه يقول: يا أبتاه) تكتب الهاء لأنها ينطق بها ساكنة عند الوقف (أما) بتخفيف الميم أداة استفتاح (بشرك رسول الله بكذا) كناية عن المبشر هو به (فأقبل بوجهه فقال: إن أفضل ما نعد) بضم النون من الإعداد: أي نتخذه ذخراً أو عدة للمعاد (شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله) وقوله (إني كنت على ثلاثة أطباق) تفصيل لتعاقب أحواله وما عنده في كل حال. والأطباق بمعنى الأحوال، وذكَّر ثلاثة نظراً لتذكير طبق، وإلا فلو نظر لكونه بمعنى حال الأفصح تأنيث معناها بأن يقال حال حسنة لحذف التاء أشار إليه المصنف (لقد رأيتني) بضم التاء، من خصائص أفعال القلوب جواز كون فاعلها ومفعولها متحدين والمفعول الثاني محذوفاً لدلالة المقام عليه، وجملة (وما أحد أشدّ) خبر ما، وقوله (بغضا) منصوب على التمييز من نسبته إلى المخبر به عند (لرسول الله منى ولا أحبّ إليّ أن يكون قد استمكنت) أي تمكنت وصيغة الاستفعال للمبالغة (منه فقتلته) والجملة المنفية معطوفة على خبر ما، وأعاد النافي إيماء إلى أن النفي متوجه إلى كل منهما لا إلى مجموعهما (فلومت) بضم الميم على الأفصح وبه قرأ الجمهور قوله تعالى: {ولئن متم} قال أبو البقاء: ضم الميم هو الأصل لأن الفعل منه يموت ويقرأ بالكسر وهي لغة، يقال مات يمات كخاف يخاف، فكما تقول خفت تقول مت اهـ (على
تلك الحال لكنت من أهل النار) أي من أصحابها المخلدين فيها أبداً وأتى باسم الإشارة الموضوع للبعيد في القريب إيماء لكمال قبحه، وذك ليعظم شكره لمولاه إذ أنقذه من أشد المتاعب وأشرّ المعايب، وعطف على تلك الحالة الثانية

(5/194)


قوله (فلما جعل الله الإسلام) أي حبه (في قلبي أتيت النبي) وذلك بعد الحديبية (فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك) بكسر اللام على أنها لام التعليل والفعل بعدها منصوب بأن مضمرة، ويجوز أن يكون بكسرها أو بإسكانها لام أمر كقوله «قوموا فلأصل لكم» على إحدى الروايات فيه، والمراد أن يبايعه على دخوله في اتباعه ونصرة الإسلام (فبسط يمينه فقبضت يدي) بفتح المثناة التحتية وكسر الدال المهملة: أي يميني لأنها التي يبايع بها، وإنما عبر بها دفعاً للتكرار المستعذب تركه في الأسماع (فقال: مالك) مبتدأ وخبر (يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: تشترط بماذا؟) قال المصنف: هكذا ضبطناه بإثبات الباء، فيجوز أن تكون زائدة للتأكيد ويجوز أن يكون ضمن معنى يشترط معنى يحتاط (قلت: أن يغفر لي) بالبناء للمفعول وترك ذكر الفاعل لتعينه والعلم به وحذف المطلوب غفره للتعميم (قال: أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله) من سائر الذنوب التي أعظمها الكفر، قال تعالى: قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف: (وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها) أي مما يحدث بين الإسلام وبينها (وأن الحج يهدم ما كان قبله) هذا محمول عند المحققين على صغائر الذنوب المتعلقة بحق الله تعالى، أما الكبائر فلا يكفرها إلا التوبة، والتبعات لا تكفر إلا برضى أهلها أو بفضل الله تعالى فيها، ولهذه الجمل المبشرات بهدم كل من الأعمال الثلاث لما قبله من الذنوب، أورده المصنف شاهداً لشطر الترجمة، وهنا كلام محذوف دل عليه المقام: أي فأسلمت وبايعت (وما كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله) لأن الإيمان لا يتم إلا بذلك، قال رسول الله «لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من أهله
ونفسه والناس أجمعين» (ولا أجل في عيني منه) من الجلال: أي العظمة والمهابة (وما كنت أطيق أن أملأ عينيّ) بتشديد التحتية مثنى (منه) متعلق بأملأ، وقوله (إجلالاً له) علة لما قبله: أي

(5/195)


إن عدم الإضافة ناشىء عن الجلال الذي عليه صلوات الله وسلامه عليه (ولو سئلت أن أصفه) أي أذكر صفة خلقه بفتح الحاء المعجمة (ما أطقت) ذلك لأنه لا يكون إلا عن إمعان نظر من الواصف للذي يريد وصفه، ويمنع منه بالنسبة إليه ما أسبغ عليه من المهابة والجلال المانعين من تحديق البصر فيه كما قال (لأني لم أكن أملأ عيني) بصيغة المثنى أيضاً (منه ولو متّ على تلك الحالة) العظيمة الشأن الدال على ذلك فيها الإشارة إليها بما يشار به للبعيد تعظيماً وتفخيماً (لرجوت أن أكون من أهل الجنة) فيه أن العارف وإن عمل الصالحات ما عمل لا تفارقه خشيته لمولاه قال تعالى:
{والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة} (المؤمنون: 60) وذلك لأنه لم يركن إلى هذه الأعمال الصالحة ويقطع بكونه من أهل الجنة لكونها من أعماله، بل اعتمد على قلبه وأقبل بشراشره ولبه على مولاه راجياً أن ينظمه في سلك من والاه (ثم ولينا أشياء ما أدرى ما حالي فيها) وهذا منه مزيد تواضع لمولاه وإلا فهو من علماء الصحابة، والصحابة كلهم عدول (فإذا أنا مت فلا تصحبني نائحة) وهي الرافعة للصوت بالبكاء مع تعداد الأوصاف كيا جبلاه لأنها ملعونة في السنة ولا ينبغي صحبتها والنياحة حرام (ولانار) وذلك للتفاؤل بالنجاة منها وكراهة لصحبتها للميت كما جاء في الحديث، ثم قيل سبب الكراهة لكونها شعار الجاهلية وقال ابن حبيب المالكي: كره تفاؤلاً بالنار، نعم إن دعا لها داع من تغير الميت ومزيد نتنه ولا تنكسر سورة ذلك عن حامليه إلا بما يبخر به فلا كراهية (فإذا دفنتموني فسنوا على التراب سناً) فيه استحباب صب التراب في القبر فإنه لا يقعد عليه بخلاف ما يعمل في بعض البلاد (ثم أقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور) ما مصدرية والجزور بفتح الجيم وضم الزاي: المذبوح من الإبل خاصة وسواء كان ذكراً أم أنثى وجمعه جزر كرسول ورسل وجزران أيضاً ثم يجمع على جزائر (ويقسم لحمها حتى استأنس بكم) أي كي أستأنس بكم (وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي) أي من فتاني القبر. وإنما أطلق عليهما صيغة الجمع مجازاً من إطلاقه على ما فوق الواحد. قال المصنف: وفي هذه الجملة من الفوائد: إثبات فتنة القبر وسؤال الملكين وهو

(5/196)


مذهب أهل الحق، واستحباب المكث عند القبر بعد الدفن لحظة نحو ما ذكر لما ذكر. وفيه أن الميت يسمع حينئذ من حول القبر (رواه مسلم. قوله «سنوا» روى بالشين المعجمة وبالمهملة) قال المصنف في شرح مسلم ضبطناه بهما، قال: وكذا قال القاضي عياض إنه بهما (أي صبوه قليلاً قليلاً) وقيل بالمهملة الصب في سهوته وبالمعجمة التفريق.
تنبيه: الترجمة معقودة للتبشير والتهنئة بالخير، والذي أورده المصنف إنما هو في الشطر الأول لا في الثاني، ويمكن أن يدعي في ضمن ذلك تهنئة بما بشر به المبشر، والله أعلم.

96 - باب وداع
بكسر الواو: أي موادعة (الصاحب) يحتمل كون المصدر مضافاً لفاعله، فالمفعول محذوف ويحتمل العكس: أي موادعة الشخص الصاحب (ووصيته عند فراقه) أي بما يتواصى به من البرّ والتقوى (لسفر وغيره) متعلق بفراقه وغيره كعدم التلاقي في البلاد أو الموت (والدعاء له وطلب الدعاء منه) أي حينئذ لأن القيد بحرف على جميع المتعاطفات.
(قال الله تعالى) : ( {ووصى بها} ) أي بالملة وكلمة الإخلاص ( {إبراهيم بنيه ويعقوب} ) أي وصى هو أيضاً بنيه، ويجوز أن يكون معطوفاً على إبراهيم والمفعول محذوف: أي وصى يعقوب بنيه، قال السفاقسي: وهذا أظهر مما قبله ( {يا بنيّ} ) على إضمار القول أو معمول وصى لأنه نوع من القول مذهبان: الأول بصري، والثاني كوفي، وذلك مقول كل منهما على القراءة السبعية برفع يعقوب وأنه عطف على إبراهيم، أما على إعراب يعقوب

(5/197)


مبتدأ محذوف الخبر كما بدأنا به فيكون قوله يا بنيّ من كلامه، وقرىء شاذاً بنصبه عطفاً على مفعول وصي فيكون يا بنيّ من قول إبراهيم وحده (إن الله اصطفى لكم الدين) أي دين الإسلام ( {فلا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون} ) أي دوموا على الإسلام حتى لا يصادفكم الموت إلا عليه ( {أم كنتم شهداء} ) أم منقطعة: أي بل كنتم والهمزة للإنكار: أي ما كنتم حاضرين وهذا رد لليهود حيث قالوا للنبي: ألست تعلم أن يعقوب يوم مات أوصى بنيه باليهودية ( {إذ حضر بعقوب الموت} ) الظرف متعلق بشهداء، وهنا تم الكلام ثم ابتدأ بقوله ( {إذ قال لبنيه} ) كأنه قال: اذكر إذ قال ذلك الوقت حتى لا تدّعي عليه اليهود، أو متعلق بقالوا نعبد. قلت: أو بدل من إذ الأولى أشار إليه السفاقسي ( {ما تعبدون من بعدي} ) سؤال عن صفات المعبود ( {قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحداً} ) نصب على البدل من إلهك قال السفاقسي أو حال موطئة: أي القصد الوصف، وجىء باسم الذات توطئة، وإجازة الزمخشري نصبه على الاختصاص مردودة بأن المنصوبات كذلك لا تكون إلا نكرة، وتمحل له السفاقسي بأنه لم يرد الاختصاص الصناعي بل المعنوي وإسماعيل عمه فهو من التغليب. قلت: أو استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه لأن العم يسمى أبا مجازاً ( {ونحن له مسلمون} ) حال من مفعول نعبد أو معطوفة على جملة نعبد، وإجازة الزمخشري إعرابها معترضة رده السفاقسي بأنها التي تفيد تقوية بين متلازمين، وليست هذه كذلك
لأن ما قبلها وما بعدها كلامان مستقلان. وأيضاً ما قبلها من كلام بني يعقوب وما بعدها من كلام الله، وشرط الاعتراضية أن تكون بين متلازمين من متكلم واحد ليؤكد بها كلامه اهـ ملخصاً. وقد بينت في شرح نظم القواعد في الجمل التي لا محل لها أن مراد الزمخشري الاعتراض البياني لا النحوي، أشار إليه ابن هشام في المغنى وقال: إنه قد يردّ عليه من لا يعرف ذلك العلم كأبي حيان توهماً منه أن لا اعتراض إلا ما يقوله النحاة من الاعتراض بين شيئين متطالبين اهـ.

(وأما الأحاديث) النبوية (فمنها) :
1712 - (حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه الذي سبق) مع شرحه (في باب إكرام أهل بيت رسول الله) وقوله

(5/198)


(قال) إلى آخر الحديث بدل من حديث في محل رفع (قام) أي انتصب (فينا رسول الله خطيباً) قال: وفيه طلب القيام حال الخطبة (فحمد الله) بأوصافه الثبوتية (وأثنى عليه) بتنزيهه عما لا يليق به الأوصاف (ووعظ وذكر) يحتمل أن يكون من عطف العام على الخاص وأن يكون من عطف الرديف (ثم قال: أما بعد، ألا) أداة استفتاح أتى بها مع ما قبلها مبالغة في إنباه المخاطبين وكذا قوله (أيها الناس) أي انتبهوا لسماع ما أقوله لفخامة شأنه، والفاء في قوله (فإنما أنا بشر) عاطفة على ذلك، وقوله (يوشك) بضم أوله وكسر ثالثه: أي يقرب (أن يأتي رسول ربي) أي بالانتقال إليه وإن كان يخير بين ذلك وبين البقاء في الدنيا كما جاء ذلك في حديث عائشة، لكن من المعلوم أنه لا يؤثر على النقلة إليه البقاء في الدنيا، فلذا قال (فأجيب) بالنصب عطفاً على ما قبله، ويحتمل الرفع على إضمار مبتدأ، وابتداء الوصية التي هي محل شاهد الترجمة من الحديث قوله (وأنا تارك فيكم ثقلين) سميا به لعظمهما، قال تعالى: {إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً} (الأحزاب: 21) (أولهما كتاب الله) أي القرآن (فيه الهدى) لا منافاة بينه وبين قوله {هدى للمتقين} (البقرة: 2) لأنه إما أن يكون ما في الحديث من باب التجريد كقوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (المزمل: 5) وهو في نفسه أسوة لكن أتى بذلك للمبالغة، أو يكون قوله {هدى للمتقين} بتأويل الوصف، أو على تقدير المضاف، أو حمل المصدر عليه مبالغة لاشتماله عليه حتى كأنه عينه فلا ينافي كونه فيه (والنور) أي من ظلمات الجهالة والضلالة (فخذوا بكتاب الله) أظهر والمقام للإضمار تحريضاً على الأخذ به لشرفه بشرف المضاف إليه (واستمسكوا به) يحتمل أن يكون بمعنى ما قبله فيكون إطناباً، وأن يكون المراد من الجملة الأولى التناول، ومن الثانية الدوام
على ذلك وعدم الانفكاك عنه (فحث) أي حرض (على كتاب الله) أي على التمسك به والاعتصام بحبله (ورغب فيه) بذكر ما فيه من الثواب والدرجات في المآب (ثم قال: وأهل

(5/199)


بيتي) أي والثاني من الثقلين أهل بيتي (أذكركم الله في أهل بيتي) بالوداد لهم ومناصرتهم والتمسك بمحبتهم والتنسك بمودتهم، قال الصديق رضي الله عنه «ارقبوا محمداً في أهل بيته» كما تقدم في باب فضل الآل المذكور (رواه مسلم) وقد سبق بطوله في الباب المذكور.
2713 - (وعن أبي سليمان مالك بن الحويرث) بضم المهملة وفتح الواو وسكون التحتية آخره مثلثة، ويقال ابن الحارث، وقال شعبة: ابن حويرثة بن أشيم بالمعجمة والتحتية وزن أحمد الليثي. قال ابن الأثير: يختلفون في نسبه إلى ليث ثم حكاه وقال: ولم يختلفوا في أنه من ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة وهو من أهل البصرة، قدم على النبي في شببة من قومه فعلمهم الصلاة، روى له عن رسول الله خمسة عشر حديثاً، اتفقا على حديثين منها، وانفرد البخاري بحديث، توفي (رضي الله عنه) بالبصرة سنة أربع وتسعين (قال: أتينا النبيّ) أي في وفد لنتعلم أحكام الدين (ونحن شببة) بفتح المعجمة والموحدتين جمع شاب ككاتب وكتبة (متقاربون) صفة لما قبله أو خبر بعد خبر (فأقمنا عنده عشرين ليلة) نتعلم (وكان رسول الله رحيماً رقيقاً) جملة في محل الحال من فاعل أقمنا، ويمنع كونها من الضمير المضاف إليه أن شرط مجىء الحال من المضاف إليه كونه بعضاً للمضاف أو في منزلته أو معمولاً له قبل الإضافة، وكان في الحديث مثلها في قوله تعالى: {وكان الله غفوراً رحيماً} (النساء: 96) للاستمرار (فظنّ أنا قد اشتقنا) قال في «المصباح» : الشوق إلى الشيء نزاع النفس إليه فهو مصدر شاقني الشيء شوقاً من باب قال، ويتعدى بالتضعيف فيقال شوقته واشتقت إليه، ومنه يعلم أن نصب (أهلنا) على تزع الخافض (فسألنا عمن تركنا) العائد ضمير منصوب محذوف، وقوله (من أهلنا) في محل الحال بيان الموصول

(5/200)


(فأخبرناه فقال: ارجعوا إلى أهليكم فأقيموا فيهم وعلموهم) عطف على ارجعوا وعطفه بالواو إيماء إلى حصول امتثال الأمر به عقب العود أو بعده (ومرورهم) استئناف كأنه قيل ماذا نعلمهم فقال مروهم بالطاعات كذا وكذا والأمر بها مستلزم للتعليم (وصلو صلاة كذا) كناية عن مبهم من الصلوات الخمس (في حين كذا) كناية عن وقت تلك الصلاة المكنى عنها (وصلاة كذا في حين كذا) بالنصب على الظرف وكأن التخالف بينهما للتفنن في التعبير
(فإذا حضرت الصلاة فليؤذن) يجوز تسكين لام الأمر بعد الفاء وكسرها هو الأصل (لكم أحدكم) أي الواحد منكم لأن القصد منه الإعلام بدخول الوقت فاستوى حصول ذلك من الكامل وغيره (وليؤمكم) قال البرماوي: يجوز فتح ميم يؤمكم للخفة وضمها للإتباع والمناسبة. قلت: وكسرها على أصل التخلص من التقاء الساكنين (أكبركم) أي أسنكم وفي الحديث ما يدل على تساويهم في الأخذ عنه ومدة الإقامة عنده فلم يبق إلا السن (متفق عليه) روياه في كتاب الصلاة (زاد البخاري في رواية له) انفرد بها عن مسلم (وصلوا كما رأيتموني أصلي) عطف على قوله ارجعوا إلى أهليكم أو على قوله وصلوا (قوله رحيماً رقيقاً روى بفاء وقاف) من الرفق لرفقه بأمته وشفقته عليهم كما قال تعالى: {رؤوف رجيم} (التوبة: 128) قال في «المطالع» : هي رواية القابسي (وروى بقافين) قال في «المطالع» هي للأصيلي وأبي الهيثم.

3714 - (وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: استأذنت النبي في العمرة) أي

(5/201)


سألته الإذن فيها، ففيه مزيد الأدب والوقوف عند أمره حتى في أفعال البرّ (فأذن لي وقال: لا تنسنا) يحتمل أن يكون الضمير له ولأتباعه ويحتمل كونه أراد نفسه التي هي أعظم ذوات المكونات وأشرفها (يا أخي) تقدم ضبطه في باب زيارة أهل الخير (من دعائك) وقوله (فقال كلمة) بالنصب مراد بها المعنى اللغوي: أي قوله لا تنسنا يا أخي من دعائك (ما يسرّني أن لي بها) أي بدلها (الدنيا) لحقارتها وخستها بالنظر إلى ما أذن به هذا القول من رفعة عمر من الإعلام بعلو رتبته عند مولاه وأنه مما يجاب دعاؤه، وقوله يا أخي (وفي رواية قال أشركنا) أي اجعلنا شركاء لك (يا أخيّ في دعائك. رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث صحيح) . وفي الحديث غير ما تقدم من القوائد مزيد تواضعه والحث على سؤال الدعاء من سائر المسلمين وإن كان الطالب أشرف من المطلوب منه.
4715 - (وعن سالم بن عبد الله بن عمر أن عبد الله بن عمر) بن الخطاب تابعي جليل، قال في التقريب: يكنى أبا عمر، وقيل أبا عبد الله أحد الفقهاء السبعة، وكان ثبتا عابداً ثقة من كبار التابعين خرّج عن الجميع (رضي الله عنهما كان يقول لرجل إذا أراد سفراً) أي وتلبس به وبمقدماته (ادن) أي اقرب (مبنى حتى أودعك كما كان رسول الله يودعنا) وفيه كما فضله وتوديعه مع علو مقامه لأصحابه (فيقول: أستودع الله دينك) أي أودعه إياه. والسين لتأكيد ذلك وتحقيقه، وذكر الدين لأن السفر مظنة التساهل في أمره لمشقته، ولذا رخص للمسافر في أمور من العبادات (وأمانتك) أي وما ائتمنت عليه من التكاليف الشرعية، أو الحقوق الإنسانية (وخواتيم عملك) ذكره اهتماماً بشأنه لأن المدار عليه

(5/202)


وهذا الحديث شاهد لطلب وداع المسافر (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح) .
5716 - (وعن عبد الله بن يزيد الخطمي الصحابي) تقدمت ترجمته (رضي الله عنه قال: كان النبي إذا أراد أن يودع الجيش) الجماعة الخارجين للقتال (قال: أستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم عملكم) لعل إفراد الأولين لأنهما مصدران يقال أمن بكسر الميم أمانة، والأصل فيه الإفراد والتذكير، بخلاف خاتمة فإنه على صيغة الوصف الذي شأنه خلاف ذلك، ولعل في جمعه إيماء إلى إكثار الأعمال الصالحة عند الوفاة ليكون الختم بالكثير الطيب فأوصى بجمع ذلك لذلك، والله أعلم، (حديث صحيح) هذا على مذهبه الذي اختاره من جواز التصحيح ومقابله في هذه الأزمنة الأخيرة لمن تأهل له خلافاً لابن الصلاح المانع لذلك، وقد رده المصنف في «الإرشاد والتقريب» (رواه أبو داود وغيره) وهو الحاكم في «المستدرك» (بإسناد صحيح) والأصل في صحته صحة المتن ما لم يعرض للمتن شذوذ أو علة.
6717 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي فقال: يا رسول الله إني أريد سفراً فزودني يحتمل أن تكون عاطفة على مقدر: أي فائذن لي وزودني كما تقدم من فعل عمر في استئذان النبي، ويحتمل تقدم الاذن له في ذلك وإنما جاء لطلب الدعاء، ففيه استحباب مجيء المسافر لأصحابه وسؤاله دعاءهم، وعلم) بقرينه حال السائل أن مراده الإعداد بالدعاء فلذا قال (فقال: زوّدك الله التقوى) قال تعالى: {وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى} (البقرة: 197) وإنما كانت كذلك لأنها الزاد الذي يقطع به العقبة الكئود وينجي بها

(5/203)


برحمة الله تعالى المرء في اليوم المشهود (قال زدني) لا يخفي ما بين زودني وزدني من الجناس: أي من هذا الزاد (فقال: وغفر ذنبك) أي ما أسلفته من المخالفة (قال: زدني، قال: ويسر لك الخير) الديني والدنيوي (حيثما كنت) ما صلة أي في أيّ مكان كنت (رواه الترمذي وقال: حديث حسن) .

97 - (باب الاستخارة)
أي سؤال خير الأمرين والتوفيق له (والمشاورة) أي للغير عند إرادة شيء ما. وذكر دليل الثاني في الترجمة قبل الأول منها لكونه من الكتاب. واختصر فقال (قال الله تعالى: {وشاورهم في الأمر} ) أي الذي تصح فيه المشاورة وذلك لتطبيب قلوبهم.
(وقال الله تعالى) : ( {وأمرهم شورى بينهم} ) شورى اسم مصدر اشتور: أي ذو اشتوار كما قال المصنف مبيناً لحاصل المعنى (أي يتشاورون فيه) فدل الثناء بذلك في معرض المدحة أنه ممدوح محبوب.
1718 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله يعلمنا الاستخارة) أي طلب الخيرة: أي يعلمهم كيفيته من صلاة ودعاء (في الأمور) التي يريد الإقدام عليها مباحة كانت أو عبادة، لكن بالنسبة لإيقاع العبادة في ذلك الزمان الذي عزم عليه فيه لا لأصلها

(5/204)


فإنه خير لا استخارة فيه (كلها) في محل الحال أو الصفة من مفعول يعلمنا (كالسورة من القرآن) أي تعليمها كتعليم السورة وهذا فيه بيان إتقانه للذكر وعدم اشتباهه. عليه كالمشبه به (يقول: إذا همّ أحدكم بالأمر) الجائز فعلاً أو تركاً (فليركع) ندباً (ركعتين) بيان لأقل ما تحصل به (من غير الفريضة) بيان للأكمل وإلا فيحصل فضلها بما إذا صلى فريضة أو راتبة ونوى بها الاستخارة، فإن لم ينوها سقط عنه الطلب وهل يحصل ثواب أولاً؟ فيه الخلاف في ذلك في «التحفة» (ثم ليقل) أي عقب فراغه من الصلاة مستقبل القبلة رافعاً يديه بعد الحمد والصلاة على النبي إذ هما سنتان في كل دعاء. (اللهم إني أستخيرك بعلمك) أي أسألك أن تشرح صدري لخير الأمرين بسبب علمك بكيفيات الأمور وجزئياتها، إذ لا يحيط بخير الأمرين إلا العالم بذلك وليس كذلك إلا أنت. فالباء سببية، ويحتمل أن تكون للقسم الاستعطافي وهما في الباء في قوله (وأستقدرك بقدرتك) . أي أسأل منك أن تقدرني على خير الأمرين، قال في فتح الإله: وجعل الشارح الباء فيهما للاستعانة كهي في بسم الله مجراها فيه تكلف، والفرق بين ما هنا وما في الآية واضح للمتأمل (وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر) على كل ممكن تعلقت به إرادتك، والجملة تعليل لما قبله (ولا أقدر وتعلم) كل شيء كل وجزئي وممكن وغيره (ولا أعلم) أي شيئاً من ذلك إلا ما علمَّتني (وأنت علام الغيوب) لا يشذّ عن علمك منها شيء ولا يحيط أحد من خلقك منها بشيء إلا ما علمته باطلاع على جزئياتها، وكأن حكمة تشويش النشر الإشارة بتقديم العلم أولاً إلى عمومه، وبتقديم القدرة ثانياً إلى أنها الأليق والأنسب
بالمطلوب الذي هو الإقدار على فعل خير الأمرين على حد تأخيره ولجملة وأنت علام الغيوب، وترك وأنت القادر على كل شيء، ومن ثم جعل سؤال الإقدار مرتباً عليه في قوله (اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر) أي الذي عزمت عليه (خير لي في ديني ومعاشي) بأن لا يترتب عليه نقص ديني ولا دنيوي (وعاقبة أمري، أو) شك من الراوي (قال: عاجل أمري وآجله) هذا إطناب

(5/205)


لشمول ديني ومعاشي لذلك، ومقتضى قول المصنف يندب الجمع في الدعاء بين كثيراً بالمثلثة وكبيراً لشك الراوي في الذكر الوارد في ذلك يوم عرفة وعقب الصلاة استحباب جميع المشكوك في أحدهما حتى يتحقق إتيانه بالوارد والزيادة عليه لأجل تحقق الإتيان به فغير منافية للاتباع والأمر بتكريره مرتين لذلك لا حاجة إليه (فاقدره) قال القاضي عياض بالكسر والضم في الدال، واقتصر الأصيلي على الكسر: أي أفض به وهيئه (لي ويسره لي) عطف تفسير أو أخص، إذ الإقدار قد يكون نوع مشقة (ثم) إذا حصل لي وحكمة ثم هنا أن في حصول المسؤول نوع تراخ غالباً (بارك لي فيه) بنموه ونمو آثاره وسلامتها من جميع القواطع (وإن) أتى بها هنا وفي عديله السابق مع أن المقام لإ إذا تحقق إحاطة علمه تعالى بذلك نظراً إلى حال المتكلم وشكه في الخير منهما (كنت تعلم أن هذا امر شرّ لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري أو قال: عاجل أمري وآجله فاصرفه عني واصرفني عنه) صرح به للمبالغة والتأكيد لأنه يلزم من صرفه عنك صرفك عنه وعكسه، ويصح كونه تأسيساً بأن يراد باصرفه عني: لا تقدرني عليه، وباصرفني عنه: لا تبق في باطني اشتغالاً به. قال ابن حجر الهيثمي في «حاشية الإيضاح» : وينبغي التفطن لدقيقة قد يغفل عنها ولم أر من نبه عليها، وهي أن الواو في المتعاطفات التي بعد خير على بابها وفي التي بعد شرّ بمعنى أو، لأن المطلوب تيسيره لا بد وأن يكون كل أحواله المذكورة ديناً ودنيا خبراً، والمطلوب صرفه يكفي كون بعض أحواله شرّاً، وفي إبقاء الواو على حالها
إبهام لأنه لا يطلب صرفه إلا إن كانت جميع أحواله لا بعضها شرّاً وليس مراداً كما هو ظاهر اهـ. وفيه نظر ذكرته في شرح الأذكار (واقدر لي الخير) أي ما فيه ثواب ورضا منك على فاعله (حيث كان) أي أقدرني على فعله في أيّ مكان وأي زمان حصل، وكأن حكمه تركه هنا «ويسره لي» أن الخير العام لا بد في حصوله من مشقة وتعب غالباً أو دائماً، بخلاف ما سبق فإنه خاص وانتفاء المشقة عليه كثير (ثم رضني به) حتى لا أزدري شيئاً من نعمك ولا أحسد أحداً من خلقك، وحتى أندرج في سلك الراضين الممدوحين بقولك

{رضي الله عنهم ورضوا عنه} وجاء في رواية النسائي (ثم أرضني بقضائك) (ويسمى) عطف على فليقل لأنه في معنى الأمر حال من فاعله: أي فليقل ذلك مسمياً (حاجته) فيقول: اللهم إن كنت تعلم أن حجي في

(5/206)


هذا العام مثلاً (رواه البخاري) في أبواب صلاة الليل وفي الدعوات من «صحيحه» ، ورواه أبو داود في الصلاة، وكذا الترمذي وقال: حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن أبي الموالي وهو مدني ثقة، وأخرجه النسائي في النكاح وفي النقوء وفي اليوم والليلة، وكذا لخص من «الأطراف» .

98 - باب استحباب الذهاب إلى العيد وعيادة المريض والحج
فقد ذهب في صعوده إلى عرفة من طريق ضب وفي رجوعه منها من طريق المأزمين (والغزو والجنازة ونحوها) كالسعي إلى الجمعة والجماعة (من طريق والرجوع من طريق آخر) تأكيد وإلا فتنكير موصوف يدل على مغايرته لما قبله، وقوله (لتكثير مواضع العبادة) علة للتخالف فيما ذكر. وهو أحد الأقوال في مخالفته بين الطريقين في الذهاب إلى العيد.
1719 - (وعن جابر رضي الله عنه قال: كان النبي إذا كان يوم العيد خالف الطريق) أي في خروجه إلى الصلاة ورجوعه منها (رواه البخاري) وعند الترمذي والحاكم في «مستدركه» من حديث أبي هريرة «كان إذا خرج يوم العيد في طريق رجع في غيره» وبمعناه قول المصنف.
(قوله خالف الطريق: يعني ذهب في طريق ورجع في طريق آخر) قال في «فتح

(5/207)


الإله» : ويسن أن يجعل الطويل للذهاب حيث لم يخش فوت نحو جماعة، والقصير للرجوع لأنه ليس قاصداً قربة وإن قلنا يثاب على الرجوع أيضاً على خلاف فيه. واختلفوا في سبب مخالفته بين الطريقين، فقيل جعل الطويل للذهاب ليكثر الثواب، والقصير للرجوع لأنه لا ثواب فيه عن جمع، أو ثوابه أقل، أو لشهادة الطريقين له: أي لفظاً يوم القيامة أو ليتبرّك أهلهما به، أو ليعمهما بركته وخيره، أو لإشاعة ذكر الله فيهما، أو لتصدّقه على فقرائهما، أو لنفاد ما يصدّق به عند الذهاب، أو لزيارة قبور أقاربه فيهما، أو غيظ المنافقين أو الحذر منهم، أو التفاؤل بتغيير الحال إلى المغفرة والرضا أو لخسية الرحمة، ورجحه بعض أئمتنا لحديث فيه، وإنما ندب ذلك حتى لمن لم يشاركه في شيء مما ذكر كما تقرر تأسياً به كالرمل والاضطباع اهـ.
2720 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله كان يخرج) أي من المدينة (من طريق الشجرة) قال السمهودي في «الخلاصة» : يضاف إليها مسجد ذي الحليفة (ويدخل من طريق المعرس) بضم الميم وفتح المهملة والراء المشددة آخره مهملة. قال السمهودي: في مسجد المعرس (وإذا دخل مكة) أيّ دخول (كان يدخل من الثنية العليا) أي من الحجون الثاني (ويخرج من الثنية) بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد التحتية الطريق الضيقة بين الجبلين (السفلي) هي المسماة بالشبيكة، وحكمة ذلك الذهاب من طريق والعود من أخرى لما ذكر من الحكم، وخصت العليا بالدخول لقصد الدخل موضعاً عالي المقدار والخارج عكسه، ولأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان حين قال {فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم} (إبراهيم: 37) على العليا كما روي عن ابن عباس، قاله السهيلي (متفق عليه) .

(5/208)


tit/2>99 - باب التسمية في أوله والحمد في آخره
لكرامتها (كالوضوء) فيقدم السليم اليمني من يديه ورجليه وغيره من نحو أقطع الأيمن مطلقاً من جبينه وخديه وطرفي رأسه وأذنيه ويديه ورجليه (والغسل) فيقدم الجانب الأيمن المقبل منه والمدبر على الجانب الأيسر كذلك، بخلاف غسل الميت فيغسل منه الجانب المقبل ثم الأيسر كذلك، ثم يحرفه على جنبه الأيسر ويغسل الجانب المدبر، ثم يحرفه على جنبه الأيمن فيغسل الجانب الأيسر منه. وفارق الحيّ الميت فيما ذكر بعسر غسل جانبي اليمين معاً بالنسبة للميت وسهولته في الحي (والتيمم) وهو كالوضوء فيما سبق من التفصيل (ولبس الثوب) فيدخل كمه الأيمن قبل الأيسر (والنعل والخف والسراويل) فيدخل الرجل اليمنى قبل اليسرى، والسراويل قبل لفظ جمع لا واحد له، وقيل إنه جمع سراولة (ودخول المسجد) فينزع الرجل اليسرى من النعل أوّلاً ويجعلها على ظهرها ثم اليمنى فيقدمها إلى المسجد ثم اليسرى (والسواك) فيبدأ بجانب الفم الأيمن ويكون إمساك السواك باليد اليمنى (والاكتحال) فيبدأ باليمنى ثلاثاً ثم باليسرى كذلك كما نص عليه ابن حجر الهيثمي في «الإمداد» (وتقليم الأظفار وقص الشارب) الشعر النابت على الشفة العليا، سمى بذلك لأنه يلقي الماء حين الشرب (وحلق الرأس) ظاهر عمومه ولو في غير نسك كما اعتاده الناس من حلقه مطلقاً فيسن البدء باليمين (والسلام من الصلاة والأكل) فيأكل باليمين، وقيل إنه بها واجب لحديث راعي البرّ (والشرب) وهو إدخال المائع إلى الجوف فيأخذ بيده اليمنى إن كان الشرب بها، أو يأخذ نحو الشربة بها (ولمصافحة واستلام الحجر الأسود) افتعال، قيل من السلام بمعنى التحتية، وقيل من السلام بالكسر بمعنى الحجارة لما فيه من لمسها (والخروج من الخلاء) أي المحل الذي أراد لقضاء الحاجة من خلاء أو قضاء (والأخذ والعطاء) أي الإعطاء فيستحب كون كل من المناولة إعطاء وأخذاً باليمنى وظاهر عمومه ولو كان لاكراهة فيه ولا إهانة (وغير ذلك)

(5/209)


أي ما ذكر (مما هو في معناه)
من باب التكريم (ويستحب تقديم اليسرى في ضد ذلك) أي المذكور مما هو من باب الإهانة لاستقذارها (كالامتخاط والبصاق) بضم الباء وهو البزاق مصدر بزق من باب قعد والصاد إبدال منه كما في «المصباح» (على اليسار) متعلق بمحذوف حال منها: أي كائنين من جهته، نعم إن كان بالروضة الشريفة النبوية، أو كان على يساره أحد فليفعل ذلك بين يديه (ودخول الخلاء) أي المحل المراد لقضاء الحاجة (والخروج من المسجد) فيخرج اليسرى منه ويضعها على ظهر النعل ثم اليمنى ويلبسها أولاً ثم يلبس اليسرى (وخلع الخفّ والنعل والسراويل والثوب) وذلك لأن بقاء العضو في الثوب كرامة واليمنى أحق بها، وضده إهانة واليسرى أليق بها (والاستنجاء) بالحجر أو الماء (وفعل المستقذرات) كإزالة الأوساخ من نحو بدنه فلين باليسرى (وأشباه ذلك) المذكور وسكت عما لا تكرمة فيه ولا إهانة كدخول المنزل. وقد اختلف فيه فقيل إنه باليمنى نظراً لعدم وجود الإهانة المقتضية اليسرى. وقيل باليسرى لفقدان التكريم المقتضي بها والراجح الأول.
(قال تعالى) : ( {فأما من أوتى كتابه بيمينه} ) وهم جمع المؤمنين ولو عاصياً كما ذكره جمع، وألف فيه السيد السمهودي مؤلفاً أودعه فتاويه، ولكن قال الحافظ ابن عطية في «تفسيره» : الظاهر أن ذلك يكون للعاصي بعد خروجه من النار، وفيه ندب تناول الكتاب لغيره من سائر المكرمات باليمين ( {فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه} ) قال أبو حيان في «تفسيره النهر» : قال الكسائي: مكسور يقال هاء للرجل، والاثنين رجلين أو امرأتين هاؤما وللرجال هاؤم، وللمرأة هاء بهمزة بغير ياء، وللنساء هاؤن، ومعنى هاؤم خذوا، وهاؤم وإن كان مدلولها تعالوا فهي متعدية إليه بواسطة إلى وكتابيه يطلبه هاؤم واقرءوا، والبصريون يعملون اقرءوا والكوفيون يعملون هاؤم. وفي الآية دليل على جواز التنازع بين الفعل والإسم اهـ. وقوله (الآيات)

(5/210)


يجوز قراءته بالرفع والنصب وبالخفض كما تقدم توجيهه، وباقي الآيات لا تعلق لها بموضوع الباب وإنما فيها ثناء على الآخذين الكتب باليمين.
(وقال تعالى) : ( {فأصحاب الميمنة} ) هم الذين عن يمين العرش أو كانوا عن يمين آدم عند إخراج ذريته من ظهوره أو الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم أو أصحاب المنزلة السنية أو أصحاب اليمين ( {ما أصحاب الميمنة} ) أي ما أسعدهم وأعظم ما يجازون به (وأصحاب المشأمة) يقابل الميمنة بالمعاني (ما أصحاب المشأمة) أي ما أشقاهم وأشد عذابهم.
1721 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله يعجبه التيمن) أي استعمال اليمين (في شأنه) أي في حاله المهتم به شرعاً (كله) وأبدل من شأنه يإعادة العامل قوله (في طهوره) بدل بعض من كل، وهو بضم الطاء المهملة: استعمال الماء للتطهر وبفتحها الماء المتطهر به فيكون على تقدير مضاف وتقدم بيان التيمن المطلوب فيه (وترجله) بتشديد الجيم: أي تسريحه شعر رأسه (وتنعله) أي إدخاله رجليه في النعل، وقيس بما في الخبر كل ما كان من باب التكريم فاستحبّ كونه باليمين، وأخذ من مفهومه ومن منطوق حديثها استحباب كون اليسرى لما كان من باب الإهانة (متفق عليه) .
2722 - (وعنها قالت: كان يد رسول الله) كذا في الأصول بحدف تاء التأنيث لأن تأنيث اليد مجازى (اليمنى لطهوره) بالضم، ويجوز الفتح على تقدير مضاف (وطعامه) أي تناوله

(5/211)


(وكانت) أثبتت التاء تفنناً في التعبير لفصاحتها (يده اليسرى لخلائه) أي لما فيه من استنجاء وتناول أحجار وإزالة أقذار (وما كان من أذى) بالتنوين كتنحية نحو بصاق ومخاط ومنه تنحية نحو قمل (حديث صحيح رواه أبو داود) في «سننه» (بإسناد صحيح) .
3723 - (وعن أم عطية) بفتح المهملة الأولى وكسر الثانية اسمها نسيبة بالتصغير، ويقال بالتكبير بنت كعب، وقيل بنت الحارث مدنية ثم سكنت البصرة، وكانت تغسل الميتات في عهد رسول الله ويشاركها في النسب أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية، وليس لأم عمارة حديث في الصحيحن. وروي لأم عطية عن النبيّ أربعون حديثاً أخرج منها في الصحيحين تسعة أحاديث، اتفقا على سبعة، وانفرد البخاري بحديث، ومسلم بآخر، وخرّج عنها الأربعة، وروى عنها محمد وحفصة ابنا سيرين وعبد الملك بن عمير. ووقع في صحيح البخاري ما يوهم أن نسيبة غير أم عطية، وقد بين البخاري عقب ذلك الحديث أنها هي (رضي الله عنها أن النبيّ قال لهن في غسل ابنته زينب) وقيل أم كلثوم (رضي الله عنها ابدأن) بصيغة أمر خطاب جماعة النسوة والخطاب لأم عطية ومن معها من الغاسلات والمعينات عليه بنحو الصبّ والأمر للندب (بميامنها) جمع ميمنة، ففيه استحباب التيامن في غسل الميت كاستحبابه في غسل الحيّ وسبق كيفية ذلك فيهما (ومواضع الوضوء منها) لشرف أعضاء الوضوء على باقي البدن (متفق عليه) وهو قطعة من حديث طويل.
4724 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا انتعل أحدكم) أي أراد أحدكم يا معشر الأمة الانتعال ومثله إرادة لبس الخف كما تقدم (فليبدأ باليمين) في إدخال النعل لأنه كرامة وهي أحق بها (وإذا نزع) أي أراد النزع لها (فليبدأ بالشمال) لأن بقاء

(5/212)


الرجل في النعل كرامة وتقدم أنها أحق بها (لتكن) الرجل (اليمنى أولهما) بالنصب ظرف لقوله (تنعل) بالفوقية خبر تكون (وآخرهما) بالنصب ظرف لقوله (تنزع) ففيه عطف على معمولي عاملين مختلفين وهو جائز اتفاقاً فالخبر على الخبر والظرف على الظرف، وجملة لتكن الخ كالتأكيد لما قبلها أو إجمال له (متفق عليه) كذا في النسخ من الرياض، والذي في «الجامع الصغير» الاقتصار على رمز مسلم دون البخاري وزاد فيه أنه أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه اهـ. ثم رأيت البخاري أورده كما قال المصنف في كتاب اللباس من «صحيحه» ، ولعل سقوط رمز البخاري من «الجامع الصغير» إن لم يكن من الكتبة غفل حال الكتابة عن كونه فيه، ولا عيب على الإنسان في النسيان.
5725 - (وعن حفصة) أم المؤمنين واستغنى عن ذلك بقوله (رضي الله عنها) فليس في الصحابيات من يسمى بذلك غيرها وهي بنت عمر بن الخطاب العدوية، أمها وأم أخيها عبد الله زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، وكانت حفصة من المهاجرات وكانت كما تقدم قبل النبي عند خنيس بن حذافة السهمي، وكان حفصة من المهاجرات وكانت كما تقدم قبل النبي عند خنيس بن حذافة السهمي، وكان ممن شهد بدراً وتوفي بالمدينة، وتزوّجها النبيّ عند أكثر العلماء سنة اثنتين من الهجرة بعد عائشة وطلقها ثم راجعها بأمر جبريل له بذلك وقال له إنها صوّامة قوّامة وإنها زوجك في الجنة توفيت حين بايع الحسن معاوية سنة إحدى وأربعين، وقيل خمس وأربعين، وقيل غير ذلك اهـ ملخصاً من «أسد الغابة» . (أن رسول الله كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه) فيوصل بها الطعام والشراب إلى فيه (وثيابه) فيدخل اليد اليمنى في القميص والرجل اليمنى في السروال قبل اليسرى (ويجعل اليسرى لما سوى ذلك) أي سوى ما ذكر وما في معناه من كل ما هو من باب التكريم فيقتضي التياسر فيما لا كرامة له ولا إهانة، أو ما في معناه مما لا إهانة فيه فيخص التياسر بما فيه الإهانة، ويقرب هذا حديث عائشة السابق «وكانت اليسرى لخلائه وما كان من أذى» (رواه أبو داود وغيره) والترمذي بإسناد صحيح رواه في «الجامع الصغير»

(5/213)


عنها بلفظ «كان يجعل يمينه لأكله وشربه ووضوئه وثيابه وأخذه وعطائه وشماله لما سوى ذلك» وقال رواه أحمد.
6726 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا لبستم) أي أردتم اللبس (وإذا توضأتم) أي أردتم أعماله (فابدءوا بأيامنكم) جمع أيمن وهو خلاف الأيسر فيدخل الجانب الأيمن في نحو القميص قبل الأيسر ويقدم اليمنى من يديه ورجليه في الوضوء وغير السليم يتيامن في جميع أعمال الوضوء كما تقدم (حديث صحيح رواه أبو داود والترمذي بإسناد صحيح) ورواه ابن حبان كما في «الجامع الصغير» .
7727 - (وعن أنس أن رسول الله أتى منى) بالصرف وتركه باعتبار البقعة والمكان (فأتى الجمرة) والمعهودة هي جمرة العقبة: أي من غير تراخ عند وصوله إلى منى (فرماها، ثم أتى منزله بمنى) وهو ما بين مسجد الخيف ومحل النحر المشهور، وإلى الأول أقرب من يمين الصاعد إلى عرفة (ثم قال للحلاق) واسمه معمر بن عبد الله العدوي، وقيل أقرب من يمين الصاعد إلى عرفة وقيل خراس بن أمية الكلبى (خذ) أي الرأس لحلقه (وأشار إلى جانبه) أي جانب الرأس (الأيمن) ففيه البدء بيمين المحلوق وهو شق رأسه وعليه الجمهور، وقيل بيمين الحالق وهو شق رأس المحلوق الأيسر وعليه أبو حنيفة (ثم الأيسر ثم جعل) أي النبي، والإسناد إليه مجازي لما يأتي في الحديث بعد أن ذلك من فعل أبي طلحة (يعطيه) أي بعضه لما يأتي فيه أيضاً (الناس) ليكون بركة باقية بين أظهرهم وليذكروه كلما رأوا ذلك فإنه أشار لهم في هذه الحجة مراراً إلى قرب أجله بقوله «لعلكم لا تلقوني بعد عامكم هذا» وباقتصاره على نحر ثلاث وستين ناقة من بدنه، وقد أدركت شعرة تزار، اتفق الخلق من السلف على أنها من شعره، وقد فقدت لما سرق بيت صاحبها (متفق عليه) واللفظ لمسلم، ورواه أبو داود

(5/214)


والترمذي والنسائي ذكره المزي.
(وفي رواية) عند مسلم (لما رمى جمرة العقبة ونحر نسكه) بضمتين ويجوز إسكان الثاني: أي هديه الذي ساقه معه (وحلق) أي بعد نحره (ناول الحلاق شقه الأيمن فحلقه، ثم دعا أبا طلحة الأنصاري) واسمه زيد بن سهل زوج أم أنس بن مالك (وأعطاه إياه) لأنه كان له مزيد خصوصية ومحبة به وبأهله ليست لغيرهم من الأنصار ولا لكثير من المهاجرين. ولذا خصه بدفنه لبنته أم كلثوم وزوجها عثمان حاضر، ولذا خصه الصحابة بأنه الذي حفر القبر الشريف وألحد فيه النبي وبنى فيه اللبن (ثم) أي بعد أن ناول أبا طلحة (ناوله) أي الحلاق (الأيسر، فقال احلق، فحلقه فأعطاه أبا طلحة، فقال اقسمه بين الناس) لكن في رواية لمسلم أن الشعر الذي قسمه بين الناس شعر رأسه الأيمن وأن الذي أعطاه أبا طلحة شعر شق الرأس الأيسر، وقد أشار إلى ذلك الآتي في «شرح مسلم» فقال: إعطاؤه لأبي طلحة ليس مخالفاً لقوله فرّقه بين الناس لاحتمال أن يكون إعطاؤه له ليفرقه بينهم، وينبغي النظر في اختلاف الرواية في الجانب الأيسر ففي الأولى أنه فرقه كالأيمن وفي الثنية أنه أعطاه أم سليم وهي امرأة أبي طلحة والجمع بين الروايات. والله أعلم.

(5/215)