دليل الفالحين
لطرق رياض الصالحين 3 - كتاب اللباس
بكسر اللام، قال في «المصباح» : هو ما يلبس، ولباس الكعبة
والهودج كذلك، وجمعه لبس مثل كتاب وكتب اهـ: أي الأحاديث
الواردة فيه من حيث الحل والحرمة وما يتعلق به من الأدب.
باب استحباب الثوب الأبيض
في كل المجامع نعم يوماً العبد الأفضل فيهما لبس الأعلى
قيمة وإن كان غير أبيض، فإن كان هو الأعلى فهو الأولى
(وجواز) أي إباحة لبس (الأحمر والأخضر والأصفر والأسود
وجوازه) أي الثوب (من قطن وكتان وشعر وصوف وغيرها) أي من
كل بمفرده أو مركباً من ذلك من غير نظر لتساوي الأجزاء
حينئذ وتفاضلها لأن الأول متساوية في الإباحة (إلا الحرير)
فيحرم على الرجال البالغين والخناثى لبس الحرير المحض أو
المركب منه ومن غيره والغالب الحرير.
(قال تعالى) : ( {يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباساً} ) أي
خلقناه لكم ( {يوارى} ) أي يستر ( {سوآتكم} ) أي عوراتكم،
سميت بذلك لأنه يسوء صاحبها كشفها، وكان على المصنف زيادة
قوله تعالى: { «وريشا» } أي ما يتجمل به من الثياب لأنه من
حكم خلقه للثياب المميز به على العباد.
(وقال تعالى) : ( {وجعل لكم سرابيل} ) أي قمصاً ( {تقيكم
الحر} ) أي والبرد فحذف اكتفاء بدلالة قرينه عليه بالأولى
( {وسرابيل
(5/258)
تقيكم بأسكم} ) حربكم: أي الطعن والضرب
فيها كالدروع والجواشن.
1779 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله قال:
البسوا من ثيابكم البياض) أي الثياب البيض، وفيه مبالغة
تامة كأن جعل البياض عينها فحمله عليها (فإنها من خير
ثيابكم) لعل الإتيان بمن، دفعاً لكلفة التعب عمن لا يجد
الثوب الأبيض، فأومأ إليّ أن ذلك خير أيضاً لما فيه من ستر
العورة وسد الحاجة، وجاء تعليل الأخيرية في الحديث عقبه
بقوله «فإنها أطيب وأطهر» والجملة استئناف بيان تعليل
للأمر قبلها (وكفنوا فيها موتاكم رواه أبو داود والترمذي
وقال: حديث صحيح) .
2780 - وعن سمرة بفتح المهملة وضم الميم وهو ابن جندب
تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب توقير العلماء (قال:
قال رسول الله: البسوا البياض) أي ذا البياض وفيه ما تقدم
في الحديث قبله، وأعاد الضمير على الثياب الموصوفة بالبياض
المحذوفة وإن لم تختص الصفة بها اكتفاء بدلالة البسوا
عليها بقوله (فإنها أطهر) لأنها لنقائها يطهر ما يخالطها
من الدنس وإن قل قال الشاعر:
إن البياض قليل الحمل للدنس
(وأطيب) أي لسلامتها غالباً عن الخيلاء الذي يكون في لبس
الملونات (وكفنوا فيها موتاكم. رواه النسائي والحاكم وقال:
حديث صحيح) ورواه أحمد والترمذي وابن ماجه كلهم عن سمرة
أيضاً كما في «الجامع الصغير» .
(5/259)
3781 - (وعن البراء) بفتح الموحدة والراء
الخفيفة وبعدها ألف ممدودة (ابن عازب) بمهملة وبعد الألف
زاي مكسورة فموحدة، وتقدم هذا في ترجمته (رضي الله عنه
قال: كان رسول الله مربوعاً) أي لم يكن طويلاً بائناً ولا
قصيراً بل كان بينهما وإلى الطول أقرب (وقد رأيته) معطوف
على كان ومدخولها ويحتمل أن تكون حالية (في حلة) بضم
المهملة وتشديد اللام: ثوب له ظهارة وبطانة من جنس واحد،
وقال المصنف: قال أهل اللغة: الحلة لا تكون إلا ثوبين
وتكون غالباً إزاراً ورداءءً قال أبو عبيدة: ولا تسمى حلة
حتى تكون ثوبين من جنس واحد، فإفراد قوله (حمراء) إما
نظراً للفظ حلة أو إلى أنها كثوب واحد للاحتياج إليهما
معاً في ستر البدن أو لأنهما من جنس واحد، قال الحافظ ابن
حجر: هي ثياب ذات خطوط اهـ. وقال ابن حجر الهيثمي: بل هي
على ظاهرها. ففي الحديث حجة لإمامنا الشافعي حيث أجاز لبس
الأحمر الفاني، ومنعه الحنفية فأولوا ما في الحديث بأن
المراد ذات خطوط حمر، أو أن ذلك من الخصائص (ما رأيت) أي
علمت (شيئاً قط أحسن منه) وليس مراده قصر ذلك على علمه وإن
كان ذلك منطوق عبارته، بل ما أومأ إليه ذلك من انفراده
بالمحاسن عن جميع الخليقة بطريق التجوّز في التعبير ومراده
ما علمت ولا غيري (متفق عليه) رواه البخاري مختصراً هكذا
في باب اللباس وبأطول منه في باب صفة النبي، ورواه مسلم في
فضائل النبيّ، ورواه أبو داود والترمذي والنسائي.
4782 - (وعن أبي جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة
وسكون التحتية بعدها فاء فهاء (وهب بن عبد الله) السوائي
(رضي الله عنه قال: رأيت) أي أبصرت (النبي بمكة وهو
بالأبطح) هو المحصب ويقال له البطحاء (في قبة) بضم القاف
وتشديد الموحدة هي كما يعبر عنها الآن بالخيمة (له حمراء
من أدم) بفتح الهمزة والمهملة لجمع أديم: وهو الجلد
المدبوغ (فخرج بلال بوضوئه) بفتح الواو أي بالماء المعد
لوضوئه (فمن ناضح) أي
(5/260)
فمن رجل مبتل أصاب بعض البلل من ذلك (ومن
نائل) من النيل: أي أصاب منه ماله وقع وطلبهم ذلك بعد وصول
الماء إلى أعضائه الشريفة، فيكون في العبارة شبه استخدام
أريد من الوضوء المعدّ للوضوء، وعند عود الضمير إليه أريد
منه ما استعمل فيه (فخرج النبيّ حلة حمراء كأني) حال
التكلم (انظر إلى بياض ساقيه) فالمشبه والمشبه به متحدان
في الحقيقة مختلفان بالاعتبار، فهو باعتبار حال المتكلم
مشبه وباعتبار النظر لذلك مشبه به، وأتى بهذه الجملة
لتنبيه المخاطب على تمام استحضاره فيتلقى عنه أحسن تلق
لإيقانه له (فتوضأ) والفاء فيه لترتيب الأخبار لا لترتيب
المخبر وأخذهم له وافتراقهم في ذلك بعد الوضوء وهو متقدم
إخباراً (وأذن بلال فجعلت أتتبع فاه ههنا وههنا) أي يميناً
وشمالاً (يقول) جملة حالية من المضاف إليه لأن المضاف بعضه
(يميناً وشمالاً) نصبهما على الظرف (حيّ) أي أقبلوا (على
الصلاة حي على الفلاح) وذكره في هذا المقام إيماء إلى أن
الصلاة ذروة سنامه، فمن أحسنها فقد حلّ منه الذروة العليا
وظفر منه بالدرجة القصوى، وفيه لف ونشر مرتب، فحيّ على
الصلاة يدير فاه بها يميناً، وحيّ على الفلاح يديره بها
شمالاً وصدره مستقبل القبلة، وإنما التفت فيهما بوجهه لما
فيهما من الخطاب بخلاف باقي كلمات الأذان والإقامة (ثم
ركزت) بضم الراء وكسر الكاف بعدها زاي: أي غرزت (له عنزة
فتقدم فصلى) إليها جعلها بين يديه ومن ثم استحب للمصلي أن
يجعل بين يديه
شاخصاً ويكون بينه وبينه ثلاثة أذرع فأقل، ولا يصمد إلى
الشاخص بل يجعله عن يمينه أو عن شماله (يمرّ بين يديه
الكلب والحمار) أي من وراء السترة (لا يمنع) بالبناء
للمفعول: أي لا يمنع عن المرور لأن المصلي إنما يمنع
المرور بينه وبين سترته (متفق عليه) أخرجاه في الصلاة،
ورواه أبو داود والترمذي والنسائي (العنزة بفتح) المهملة و
(النون) وبالزاي (نحو العكازة) قال في «المصباح» : العنزة
عصا أقصر من الرمح ولها زجّ من أسفلها وجمعها عنز وعنزات
كقصبة وقصب وقصبات اهـ.
(5/261)
5783 - (وعن أبي رمثة) بكسر الراء وسكون
الميم بعدها مثلثة (رفاعة) بكسر الراء وبالفاء والعين
المهملة ابن يثربي بفتح الموحدة وسكون المثلثة وكسر الراء
نسبة إلى ما كانت تسمى به طيبة في الجاهلية (التيمي) بفتح
الفوقية وسكون التحتية. قال الترمذي: في «الشمائل» تيم
الرباب، واحترز به عن تيم قريش ولد الرباب بكسر الراء، قال
ميرك: كذا سماعنا وكذا ذكره الجوهري في «صحاحه»
والفيروزأبادى في «القاموس» ، قيل فقول الحافظ ابن حجر:
إنه بفتح الراء لعله سبق قلم منه أو من غيره. وتيم الرباب
خمس قبائل: ضبة وثور وعكل وتيم وعدى غمسوا أيديهم في ربّ
وتحالفوا عليه فصاروا يداً واحداً، وأبو رمثة ذكره الحافظ
في «تقريبه» ولم يزد على ذكر اسمه واسم أبيه، وفي السكنى
من «التقريب» أبو رمثة البلوي ويقال التيمي ويقال التميمي،
وقيل هما اثنان، قيل اسمه رفاعة بن يثربي، وقيل عكسه،
ويقال عمارة بن يثربي، ويقال حبان بن وهيب، وقيل جندب،
وقيل خشخاش صحابي. قال ابن سعد: مات بأفريقية، خرج له أبو
داود والترمذي والنسائي (رضي الله عنه قال: رأيت رسول الله
ثوبان أخضران، رواه أبو داود) في اللباس من «سننه»
(والترمذي) في «جامعه» ، وفي «الشمائل» «لكن قال: وعليه
بردان أخضران» بالموحدة والراء والدال بدل ثوبان أخضران،
قال ابن بطال: الثياب الخضر من لباس أهل الجنة وكفى بذلك
شرفاً، قال القاري: ولذا صارت لباس الشرفاء، ووصف المصنف
الإسناد بقوله (بإسناد صحيح) وتصحيح الإسناد إذا كان من
نحو المصنف من كل ضابط متقن ولم يعقب المتن بقادح في صحته
حكم بصحة المتن أيضاً.
6784 - (وعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله دخل يوم فتح
مكة) حذف المفعول به وهو مكة اكتفاء بدلالة ظرف الزمان
عليه، وقد صرح به الترمذي في رواية «الشمائل» (وعليه عمامة
سوداء) لا يخالف ما جاء من أنه دخل يومئذ وعليه مغفر
لإمكان الجمع بدخوله
(5/262)
بهما معاً وهي فوقه، أو كان واحداً بعد آخر
صدرا منه حال الدخول، ولبسه العمامة السوداء يومئذ إشارة
إلى أن هذا الدين لا يتغير كالسواد بخلاف سائر الألوان
(رواه مسلم) ورواه أصحاب السنن الأربعة.
7785 - (وعن أبي سعيد عمرو بن حريث) بضم المهملة وفتح
الراء وسكون التحتية بعدها مثلثة بن عمرو بن عثمان بن عبد
الله بن مخزوم القرشي المخزومي (رضي الله عنه) قال الحافظ
في «التقريب» : صحابي صغير مات سنة خمس وثمانين خرج له
الستة. روي له عن النبيّ ثمانية عشر حديثاً، ذكره ابن
الجوزي في «مختصر التلقيح» ، وانفرد بالروايات عنه مسلم عن
البخاري، فروى له حديثين وقد بسطت ترجمة كل منه ومن أبي
رمثة في كتاب رجال «الشمائل» (قال: كأني أنظر إلى رسول
الله عمامة سوداء قد أرخى طرفيها) بالتثنية، وجاء في رواية
«الشمائل» بالإفراد: قال القاضي عياض: وهو الصواب اهـ (بين
كتفيه) ولبسه السواد حينئذ تنبيهاً على عدم المنع منه.
وفيه استحباب إرخاء طرفى العذبة بين الكتفين (رواه مسلم)
في الحج (وفي رواية له) من حديث جابر ورواه أبو داود
والترمذي في «الشمائل» والنسائي وابن ماجه (أن رسول الله
خطب الناس) أي في يوم جمعة وعلى المنبر كما في رواية أخرى
لمسلم، وبه يندفع قول بعضهم لم يلبس النبيّ في غير فتح
مكة، وذلك لأن خطبته بمكة لم تكن على منبر بل على باب
الكعبة، ولذا ذكر صاحب «المصابيح» هذا الحديث في خطبة
الجمعة (وعليه عمامة سوداء) في رواية «وعمامة حرقانية» .
8786 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كفن رسول الله في
ثلاثة أثواب بيض) كما أمر بالتكفين بها كما تقدم من قوله
«وكفنوا فيها موتاكم» (سحولية من كرسف ليس فيها
(5/263)
قميص ولا عمامة) وهذا أفضل الكفن للرجل،
ويجوز زيادة قميص وعمامة، وسياقه له باب المعقود لما يطلب
للحي لبسه من الألوان ليبين أن لبس الأبيض مأمور به بالنص
من قوله وبالقياس على تكفينه به ويكفن الميت بما يلبسه
حياً (متفق عليه) أخرجاه في الجنائز (السحولية بفتح السين)
المهملة (وضمها وضم الخاء المهملتين) أي مع فتح السين
وضمها (ثياب تنسب إلى سحول) بورن رسول (قرية باليمن)
فالفتح في المنسوب على لفظ المنسوب إليه والضم على النسبة
إلى جمع سحل: وهو الثوب الأبيض فإنه يجمع على سحول كفلس
وفلوس، وهو غلط لأن النسبة إلى الجمع إذا لم يكن علماً
وكان له واحد من لفظه يرد إلى الواحد، قاله في «المصباح» ،
فالضم حينئذ من تغييرات انلسب كنسبة نمرى بفتح أوليه إلى
نمر بكسر فسكون (والكرسف) بضم أوله وثالثه المهمل (القطن)
قال في المصباح: والكرسف أخص منه.j
9787 - (وعنها قالت: خرج رسول الله ذات غداة) أي في أيّ
ساعة من البكرة (وعليه مرط مرحل من شعر أسود) أي منسوج من
الشعر، ففيه حلّ لبس الصوف ولبس الأسود (رواه مسلم) في
اللباس من «صحيحه» (المرط) بكسر الميم وسكون الراء وبالطاء
المهملة (وهو كساء) فيه إطلاق وشمول لما يؤتزر به منه
وغيره. والذي في «المصباح» : المرط كساء من صوف أو خزّ
يؤتزر به وتتلفع به المرأة والجمع مروط كحمل وحمول
(والمرحل بالحاء المهملة) بصيغة المفعول من مضعف رحل (هو
الذي فيه صورة رحال الإبل وهي الأكوار) فأشار به إلى حلّ
تصوير ما لا روح فيه. والوارد فيه التغليظ من التصوير
تصوير ذي روح والأكوار جمع كور، قال في «المصباح» : هو
الرحل بأداته ويجمع على أكور وكيران.
(5/264)
10788 - (وعن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه
قال: كنت مع النبيّ ذات ليلة) أي في ليلة وأتى بذات، لبيان
أن المراد حقيقة الليلة لا أنها أريد منها مطلق الزمان
مجازاً (في مسير) بفتح المهملة وكسر المهملة وسكون التحتية
وذلك في غزوة تبوك (فقال لي أمعك ماء) يحتمل أن يكون مبتدأ
مؤخراً ويحتمل كونه فاعلاً للظرف لاعتماده على الاستفهام
(فقلت: نعم، فنزل عن راحلته) ، أي مركبه الذي كان راكباً
عليه من الإبل وهي ناقته المعروفة بالقصوى وبالعضباء كما
قدمت ذلك (فمشى حتى توارى) أي غاب سواده عن رؤية البصر (في
سواد الليل) لزيادة الدخول في البعد، فيستحب لمن خرج لقضاء
الحاجة في الصحراء الإبعاد عن الحاضرين، وهو إلى أن يغيب
سواده عنهم أو إلى أن يأمن على نفسه (ثم جاء فأفرغت عليه)
فيه الاستعانة بالصبّ على المتطهر وفعلها لبيان الجواز
وإلا فالأفضل تركها (من الإداوة) بكسر الهمزة وبالدال
المهملة المطهرة وجمعها أداوى (فغسل وجهه وعليه) أي النبي
(جبة) بضم الجيم وتشديد الموحدة جمعها جبب: صنف معروف من
اللباس (من صوف فلم يستطع أن يخرج ذراعيه منها) لضيق كمها
(حتى أخرجهما) أي الذراعين (من أسفل الجبة فغسل ذراعيه)
إلى المرفقين (ومسح برأسه) الباء فيه للتبعيض (ثم أهويت)
أي مددت يدي إلى خفيه (لأنزع خفيه فقال: دعهما) أي اتركهما
في ملبوسهما وهما القدمان (فإني أدخلتهما) أي القدمين
المدلول عليهما بالخفين (طاهرتين) وما كان كذلك يجوز مسح
خفيه عوضاً عن غسله، ويجوز عوض ضمير المثنى إلى الخفين
فيكون فيه قلب كقول العرب: أدخلت القلنسوة رأسي، ويقرب هذا
قوله (ومسح عليهما) فإن المسح على الخفين (متفق عليه)
أخرجاه في الطهارة، وفيه قصة صلاة النبي وراء عبد الرحمن
بن عوف وقد تقدم ذلك، وروى الحديث أبو داود ولم يذكر قصة
ابن عوف والنسائي وابن ماجه.
(وفي رواية: وعليه جبة شامية) لا تخالف ما جاء في أخرى
أنهاجبة رومية، لأن الشام حينئذ كانت مقر الروم فصح كلا
الأمرين (ضيقة الكمين) فلذا لم يتمكن من إخراج يديه منهما.
(وفي رواية) لهما (أن هذه
(5/265)
القضية) بفتح القاف وكسر الضاد المعجمة
(كانت في غزوة تبوك) بالصرف وعدمه كما تقدم: محل معروف
بالقرب من الشام، وكانت آخر مغازيه التي خرج بنفسه فيها
وكانت سنة تسع من الهجرة.
118 - باب استحباب القميص
قال في «المصباح» : ويجمع على قمص بضمتين وقمصان بضم
فسكون.
1789 - (عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: كانت أحب الثياب)
بالنصب خبر مقدم لكان وبالرفع اسمها وقوله (إلى رسول الله)
متعلق بأحب (القميص) بالرفع على الأول وبالنصب على الثاني
وهو المشهور في الرواية، وقيل هما روايتان، وأيد الأول بأن
أحبّ وصف فهو أولى بكونه حكماً، وقال آخر: إن كان المراد
تعيين الأحب فينصب القميص أو بيان وصف القميص عنده فيرفع،
قال ابن الجزري: القميص ثوب مخيط بكمين غير مفرج يلبس تحت
الثياب، وفي «القاموس» : ولا يكون إلا من القطن وأما الصوف
فلا. وقيل وكأن حصره للغالب. والظاهر أن المراد من القميص
في الحديث ما كان من القطن لأن الصوف يؤذي البدن ويدرّ
العرق ورائحته يتأذى بها. وقد أخرج الدمياطي «كان قميص
رسول الله قطناً قصير الطول والكمين» قيل وجه أحبية القميص
إليه أنه أستر للأعضاء من الإزار والرداء لأنه أقل مؤنة
وأخف على البدن، ولابسه أكثر تواضعاً، ثم لا مخالفة بين
هذا الحديث وحديث «كان أحبّ الثياب إلى رسول الله الحبرة»
لأن أحبيته للثوب من حيث اللبس كما جاء في رواية الترمذي
«أحبّ الثياب إلى رسول الله يلبسه القميص» وأحبية الحبرة
لأمر آخر. قال القاري:
(5/266)
وحديث الباب بالنسبة للمخيط وحديث الحبرة
بالنسبة لغيره (رواه أبو داود والترمذي) في «جامعه» و
«شمائله» من طرق متعددة وفي بعضها يزيادة «يلبسه» كما تقدم
(وقال) في «جامعه» (حديث حسن) .
119 - باب صفة طول القميص والكم والإزار
هو ما يستر أسافل البدن ويقابله الرداء (وطرف العمامة) أي
بيان قدر الطول المشروع فيما ذكر (وتحريم إسبال) أي إرخاء
(شيء من ذلك) أي المذكور من القميص وما بعده (على سبيل
الخيلاء) بضم المعجمة وفتح التحتية: أي الكبر أو الإعجاب
(وكراهته) تنزيهاً (من غير خيلاء) والمراد أن الإرخاء
زيادة على المشروع في الطول: إما مكروه وإما حرام.
1790 - (عن أسماء) بالمد (بنت يزيد) بفتح التحتية الأولى
وكسر الزاي وسكون التحتية بعدها دال مهملة ابن السكن بفتح
المهملة والكاف وبالنون (الأنصارية) قال في «التقريب» :
تكنى أم سلمة ويقال أم عامر صحابية لها أحاديث تقدمت
ترجمتها (رضي الله عنها) في باب فضل الجوع (قالت: كان كم)
بضم الكاف وتشديد الميم (قميص رسول الله إلى الرسغ) كذا في
نسخ الرياض بالسين، قال ابن حجر الهيثمي في «شرح الشمائل»
: هو بالصاد عند أبي داود والمصنف وبالسين عند غيرهما، قيل
ولعله أراد عند الترمذي في «جامعه» وإلا فنسخ «الشمائل»
بالسين بلا خلاف اهـ. ومنه يعلم أن كتابته بالسين هنا من
الكتاب، وقال التوربستى: هو بالسين المهملة وبالصاد لغة
فيه، وفي «القاموس» : الرسع بضم وضمتين ثم قال:
(5/267)
والرصغ اهـ. والرسغ: مفصل الساعد والكف.
قال ابن الجزري: فيه دليل أن لا يجاوز بكم القميص الرسغ،
وأما غير القميص فالسنة ألا يجاوز رؤوس الأصابع، ولا يخالف
هذا الحديث ما أورده ابن الجوزي في الوفاء من حديث ابن
عباس «كان رسول الله يلبس قميصاً فوق الكعبين مستوى الكمين
بأطراف أصابعه» بحمل ذلك على تعدد القميص أو أن حديث الباب
على التقريب والتخمين وذاك على التعيين (رواه أبو داود
والترمذي) في «جامعه» وشمائله (وقال: حديث حسن) .
2791 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: من جر)
أي سحب على وجه الأرض لطوله حتى مسها (ثوبه) وهو شامل
لجميع أنواعه وذكر الإزار في رواية «من جرّ إزاره» لا يخصه
لأن ذكر بعض أفراد العام لا يخصص على أنه إنما ذكر كما قال
الطبري، لأنهم كانوا إذ ذاك يلبسون الأزر والأردية، فلما
اعتيد لبس القميص تركا فكان حكمهما في ذلك حكمهما (خيلاء)
منصوب على أنه مفعول له (ويجوز) نصبه على أنه مفعول مطلق:
أي جرّ خيلاء فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه أو على
الحال: أي ذا خيلاء (لم ينظر الله إليه) أي نظر رضا ورحمة
(يوم القيامة) الذي هو يوم الدين (فقال أبو بكر) أي الصديق
(رضي الله عنه يا رسول الله إن إزاري يسترخي) أي لنحافة
بدنه (إلا أن أتعاهد ذلك منه) أي بالشد والرفع أفأدخل في
الوعيد المقتضي لكون فعل ذلك كبيرة (فقال رسول الله: إنك
لست ممن يفعله) إفرد الضمير نظراً للفظ من (خيلاء) ففيه
بيان أن قوام الأعمال بالنيات وأنها تختلف أحكامها بحسب
اختلافها، وفيه أن الوعيد لمن فعل ذلك عجباً أو كبراً، لا
لمن وقع له ذلك لا يقصد ذلك ولو لقصد آخر لا محظور فيه
(رواه البخاري) في اللباس وأبو داود
(5/268)
والنسائي في «سننهما» (وروى مسلم) في
اللباس (بعضه) وهو قوله «لا ينظر الله إلى من جرّ ثوبه
خيلاء» وأورده من طرق بألفاظ متقاربة.
3792 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: لا
ينظر الله) أي نظر رضا (يوم القيامة) خص بالذكر لأنه محل
الرحمة المستمرة بخلاف رحمة الدنيا فإنها قد تنقطع بما
يتجدد من الحوادث، قاله في «الفتح» ، أو لأنه يوم الجزاء
وإلا ففاعل ذلك لا يرضى الله بفعله دنيا وأخرى ولا ينظر
الله إليه لذلك أصلاً (إلى من جر إزاره بطراً) بفتح
الموحدة والمهملة هو بوزن الأشر ومعناه: وهو كفر النعمة
وعدم شكرها والمراد لازم ذلك: أي عجباً وخيلاء فيكون ما
قبله كالمفسر له (متفق عليه) رواه البخاري بهذا اللفظ في
اللباس ولفظ مسلم عن أبي هريرة عن النبي «إن الله لا ينظر
إلى من يجرّ إزاره بطراً» .
4793 - (وعنه عن النبيّ قال: ما أسفل من الكعبين من الإزار
ففي النار) قال الحافظ في «الفتح» : ما موصولة وبعض صلته
محذوف وهو كان وأسفل خبره وهو منصوب قلت: لا يتعين على
النصب تقدير كان، بل يجوز أن يكون أسفل ظرفاً وقع صلة
والله أعلم. ويجوز الرفع على ما هو أسفل وهو أفعل تفضيل،
ويحتمل أن يكون فعلاً ماضياً ويجوز أن تكون ما نكرة موصوفة
بأسفل. قال الخطابي: يريد أن الموضع الذي يناله الإزار من
أسفل الكعبين في النار فكنى بالثوب عن لابسه، ومعناه: أن
ما دون الكعب من القدم يعذب عقوبة، وحاصله أنه من تسمية
الشيء باسم ما جاوره أو حل فيه، ويحتمل أن يكون تبيينه
المراد الشخص نفسه،
(5/269)
والمعنى: ماأسفل من الكعبين الذي يسامت
الإزار في النار، أو التقدير: لابس أسفل ما سفل من
الكعبين، أو التقدير: أن فعل ذلك محسوب في أفعال أهل
النار، أو فيه تقديم وتأخير: أي ما سفل من الإزار من
الكعبين في النار، وكل ذلك مستفاد من استحالة الإزار في
النار حقيقة. وأخرج عبد الرزاق أن نافعاً سئل عن ذلك فقال:
وما ذنب الثياب، بل هو من القدمين جاء، لكن يقتضي إدخال
نفس الثوب في النار. فعليه لا مانع من حمل الحديث على
ظاهره ويكون من باب قوله تعالى: {إنكم وما تعبدون من دون
الله حصب جهنم} (الأنبياء: 98) ويكون في الوعيد لما وقعت
به المعصية إشارة إلى أن من يتعاطاها أحق بذلك، والفاء في
قوله ففي النار مزيدة: لتضمن «ما» معنى الشرط، ثم هذا
محمول على من فعل ذلك خيلاء وبطراً كما تقدم ما يدل له،
ومحل الكراهة لمن أرخى إزاره عن كعبه إذا لم يكن عذر، وإلا
فمن برجله جراح يؤذيه الذباب وأسبل إزاره ليسلم من أذاها
فلا كراهة، نبه عليه الحافظ زين الدين العراقي في «شرح
الترمذي» ، واستدل له بإذن النبي لابن عوف في لبس الحرير
لحكة والجامع تعاطي ما حرم في كل للضرورة، والحديث في
الرجال لما سيأتي في حديث ابن عمر عن أم سلمة (رواه
البخاري) في اللباس.
5794 - (وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي قال: ثلاثة لا
يكلمهم الله) قيل المراد الإعراض عنهم وقيل لا يكلمهم كلام
رضا يسرهم بل كلام غضب وسخط (يوم القيامة ولا ينظر إليهم)
أي يعرض عنهم، ونظره تعالى إلى عبده رحمته ولطفه به (ولا
يزكيهم) أي لا يطهرهم من دنس ذنوبهم وقيل لا يثني عليهم
(ولهم عذاب أليم) أي مؤلم، قال الواحدي: هو العذاب الذي
يخلص إلى قلوبهم وجعه، والعذاب كل ما يعني الإنسان ويشق
عليه (قال فقرأها) أي فتلا هذه الجملة (رسول الله ثلاث
مرار) ليثبت عند السامعين فيكون أبلغ في النفع «ومرار»
بكسر الميم وتخفيف الراءين بينهما ألف جمع تكسير
(5/270)
لمرة (قال أبو ذرّ خابوا وخسروا) أي المحدث
عنهم بالوعيد المذكور (من هم) ليعرفوا بأعيانهم أو
بأوصافهم (يا رسول الله» قال: المسبل) بصيغة الفاعل من
الإسبال المرخي لثوبه الجار له خيلاء فهو مخصوص بذلك
(والمنان) أي الذي يذكر إحسانه ممتناً به على المحسن إليه،
والمبالغة قيد في الوعيد المذكور لما فيه من المبالدة
المقتضى لكونه من الكبائر وإلا فالمن حرام وإن لم يتكرر،
قال تعالى: {لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى} (البقرة:
264) (والمنفق) بصيغة الفاعل من الإنفاق (سلعته) بكسر
المهملة الأولى وسكون اللام أي المكثر طلاب بضاعته
(بالحلف) بفتح فكسر: أي القسم (الكاذب) كقوله والله إنها
حسنة والله إنها فريدة (رواه مسلم) في كتاب الأيمان ورواه
أبو داود في اللباس من «سننه» (وفي رواية له) فيه (المسبل
إزاره) وتقدم عن ابن جرير حكمة تخصيصه بالذكر وإلا فالحكم
شامل لسائر الملبوس، وتقدم أن ذكره في هذه الرواية لا يخصص
عموم الأحاديث المطلقة.
6795 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيّ قال
الإسبال) أي الإرخاء (في الإزار) وهو ما يستر به أسافل
البدن (والقميص) أي إرخاء كل منهم عن الكعب (والعمامة) أي
بإطالة عذبتها (من جر شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم
القيامة) أي إذا لم يتب من ذلك أما جرّ ما ذكر بغير
الخيلاء فمكروه إلا لعذر كالصديق أو لضرورة كذي الجراحة
القاصد بإطالة ثوبه سترها من الذباب ليسلم من أذاها (رواه
أبو داود) في اللباس من «سننه» (والنسائي بإسناد صحيح) أي
باعتبار منتهى الإسناد وهو حسين الجعفي عن سالم عن ابن عمر
وإلا ففيما قبل ذلك الإسناد متعدد، ورواه ابن ماجه في
«سننه» أيضاً.
(5/271)
7796 - (وعن أبي جرى) بضم الجيم وفتح الراء
وتشديد التحتية مصغر كما نص عليه الحافظ في «تبصير
المنتبه» وما وقع في «المفاتيح شرح المصابيح» أنه بفتح
الجيم خطأ (جابر بن سليم) مصغر قال المزي في «الأطراف» :
ويقال سليم بن جابر، قال ابن الأثير: والأول أصح (الهجمي)
بضم الهاء وفتح الجيم نسبة إلى الهجيم بن عمرو بن تميم،
عداده في أهل البصرة (رضي الله عنه) روي له عن رسول الله
أحاديث وليس عنه في الصحيحين شيء (قال: رأيت) أي أبصرت
(رجلاً) التنوين فيه للتعظيم بدليل وصفه بقوله (يصدر) بضم
الدال (الناس عن رأيه) أي يرجعون عن رأيه: أي يرجعون إلى
ما يظهر من صدره من الرأي الذي يرشدهم إليه (لا يقول لهم
شيئاً إلا صدروا) بفتح الدال (عنه) بعد سماعه كما يصدر
الوارد عن الورد بعد الذي يشرب من مائه، قال ابن رمد ملاك:
وكان للنبيّ بئر يسمى الصادر وإنه يصدر عنها بالري (فقلت)
لهم (من هذا؟ فقالوا رسول الله) بحذف المبتدأ المدلول عليه
بوجوده في جملة السؤال (قلت: عليك السلام يا رسول الله
مرتين) عند الترمذي أنه قال «عليك السلام يا رسول الله
ثلاثاً» (قال: لا تقل عليك السلام) وعلل ذلك بقوله على
طريق الاستئناف البياني (عليك السلام تحية الموتى) يعني
باعتبار عادة شعر الجاهلية لا أن ذلك المشروع في السلام
عليهم لأنه سلم عليهم كالأحياء فقال «السلام عليكم دار قوم
مؤمنين» وقيل أراد بالموتى كفار الجاهلية، قال ابن رسلان:
ثم تقدم الدعاء على الضمير في الدعاء بالخير، أما في الشرّ
فيقدم الضمير نحو وإن عليكم لعنتي عليهم دائرة السوء اهـ،
وفيه تعقب بحديث «ألعنك بلعنة الله» إذ قدم الدعاء على
ضمير المخاطب (قل السلام عليك) فيه إفراد الضمير وجمعه إذا
كان المخاطب به مفرداً. فالجمع باعتبار من معه من الملكين
(قال: قلت أنت) بتقدير همزة الاستفهام قبله: أي أأنت (رسول
الله) (قال: أنا رسول الله الذي إذا أصابك ضرّ) بضم الضاد
المعجمة هو الفقر
والفاقة وبفتحها مصدر ضره يضره من باب قتل إذا فعل به
مكروهاً كذا في «المصباح» وبه يعلم أنه بالضم (فدعوته)
يتضرع وافتقار (كشفه) أي رفع ذلك عنك (وإن أصابك عام سنة)
بالإضافة، وفي بعض نسخ أبي داود بالتنوين ورفع عام صفة لها
(5/272)
والأول أصوب: أي عام شدة ومجاعة. قال
المنذري: السنة هي العام الفحط الذي لم تنبت الأرض فيه
شيئاً سواء نزل عليها غيث أم لا (فدعوته أنبتها لك) أي
أوجد لك فيها النبات ونماه بفضله (وإذا كنت بأرض) بالتنوين
(قفر) وهي الأرض الخالية من الأنيس التي لا ماء بها ولا
ناس، وفي «المصباح» هي: المفازة التي لا ماء بها ولا نبات
وجمع القفر أقفار (أو) أرض (فلاة) أي لا ماء فيها وجمعها
فلا كحصاة وحصى (فضلت راحلتك) في تلك الأرض (فدعوته) أي
بدعاء مستجمع لشرائط الإجابة، ومنها كون الداعي عالماً بأن
لا قادر على حاجته إلا الله تعالى، وأن الوسائط في قبضته
وتسخيره وكون الدعاء باضطرار وافتقار، فإن الله تعالى لا
يقبل دعاء من قلب غافل (ردها عليك، قال) أي جابر (قلت له)
أي النبي أي بعد الإسلام بالله تعالى وبه (اعهد إلى) بفتح
الهاء من العهد بمعنى الوصية ومنه حديث على «عهد إلى
النبيّ» أي أوصى إلى (قال: لا تسبن أحداً) السبّ الشتم وهو
حرام، ولا يجوز للمسبوب الانتصار ممن سابه إلا بمثل ما سبه
به ما لم يكن كذباً أو قذفاً، وإذا انتصر المسبوب استوفى
ظلامته وبرىء من حقه وبقي عليه حق الابتداء (قال) جابر
(فما سببت بعده حرّاً ولا عبداً ولا بعيراً ولا شاة) وأشار
به إلى كمال الامتثال وعدم المشاحنة في شيء من ذلك، وجملة
قال ومقوله معترضة بين جملة لا تسبن أحداً وجملة (ولا
تحقرن) بكسر القاف يعني لا تترك (من المعروف شيئاً)
احتقاراً له واستهانة لقدره فكل معروف وإن قلّ نفعه فهو
صدقه ينمو أجره إلى يوم القيامة، والتنوين في شيء للتحقير
والتقليل كما يدل عليه المقدم (و) لا تحقر (أن) بفتح
الهمزة (تكلم) بضم الفوقية (أخاك) المؤمن (وأنت منبسط إليه
وجهك) بالرفع فاعل ما قبله، والمعنى: لا تحقر خطابك لأخيك
وفي وجهك البشر له كأنك مستبشر بحديثه لما في ذلك من إدخال
السرور عليه وجلب وداده المأمور به بقوله «وكونوا عباد
الله إخواناً» ثم علل النهي عن احتقارك ذلك بقوله (إن ذلك)
أي المتكلم أو المذكور (من المعروف) وإن قل، والخطاب مع
البشر (من المعروف) أي الذي يطلبه الشرع، ومثل ذلك لا
ينبغي احتقار شيء منه (وأرفع
(5/273)
إزارك) ومثله باقي الثياب كما تقدم (إلى
نصف الساق) وفي الحديث «أزرة المؤمن إلى أنصاف ساقيه وذلك
لحصول الغرض به من لبس الثوب وهو ستر العورة، وفيه مع ذلك
تواضع وإعراض عن رعونة النفس (فإن أبيت) عبر عن عدم فعل
ذلك بالإباء إيماء إلى شرف مكانه، قال: إن تركت فعل ذلك
المرقى لك الدرجات في الجنة (فإلى الكعبين) أي فأرفعه عن
جانب الأرض إليهما فلا جناح فيما بين الكعبين إلى نصف
الساقين (وإياك) منصوب على التحذير بعامل محذوف وجوباً
(وإسبال الإزار) أي احذر تلاقي نفسك وإسبال الإزار فحذف
الفعل وفاعله ثم المضاف الأول وأنيب عنه الثاني فانتصب، ثم
الثاني وأنيب عنه الثالث فانتصب وانفصل لتعذر اتصال
الضمير، قاله ابن هشام في «التوضيح» / وفي مثله لابن
الحاجب طريق آخر في مثل ذلك (فإنها) تلك الهيئة المدلول
عليها بالسياق، والسياق (من المخيلة) بفتح الميم وكسر
الخاء المعجمة من الاختيال والكبر واحتقار الناس والعجب
عليهم، وظاهر أن ذلك محمول على من قصد ذلك أو أن من شأنها
ذلك فذلك نهى عنها تحريماً بقصد ذلك وتنزيهاً عند عدم قصده
(وإن الله لا يحبّ) أي لا يوافق أو لا يرضى (المخيلة) أي
النفوس ذوات الخيلاء فلا يظهر عليهم أثر النعمة في الآخرة
وفيه وعيد للمتكبر والمختال (إن امرؤ شتمك) مبين لفعل
الشرط المحذوف العامل في امرىء: أي إن شتمك امرؤ وحذف
جوابه وهو فلا تشتمه اكتفاء بدلالة المذكور بعده عليه،
والنهي
للتنزيه وإلا فيجوز الاستيفاء بالشرط المذكور قريباً (أو
عيرك بما يعلم فيك) من الذنب والأفعال القبيحة (فلا تعيره
بما تعلم فيه) فقد روى أحمد عن معاذ بن جبل قال قال رسول
الله: «من عير أخاه بذنب لم يمت حتى يعمله» يقال عيرته
بفعل كذا: إذا قبحته عليه ونسبته إليه (فإنما وبال) بفتح
الواو وتخفيف الموحدة: أي ثقل (ذلك) ووخامته (عليه) مأخوذ
من وبل المرتع بضم الموحدة وبالاً إذا وخم، ولما كان عاقبة
المرعى الوخيم إلى سوء قبل في سوء العاقبة وبال، والمراد
به في الحديث العذاب في الآخرة، وقد يعجل بعضه في الدنيا
(رواه أبو داود والترمذي) في اللباس (بالإسناد الصحيح. قال
الترمذي: حديث صحيح) .
(5/274)
8797 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:
بينما رجل) بالرفع مبتدأ وجملة (يصلي) خبره والجملة
الإسمية مستأنفة ولم أر من عيَّن الرجل (مسبلاً إزاره)
بصيغة الفاعل ونصب الإزار مفعولاً به، ويجوز قراءته بصيغة
المفعول ورفع إزاره نائب فاعله والأول أنسب بقوله آخر
الحديث «إن الله لا يقبل صلاة رجل مسبل» (قال له رسول
الله: اذهب فتوضأ) فذهب عقب الأمر من غير توان كما تومىء
إليه الفاء (فتوضأ) الوضوء الشرعي لأن الأصل فيما جاء في
الشرعيات من الألفاظ حمل المعنى الشرعي حتى يجىء ما يصرفه
عنه (ثم جاء) أي إلى النبي، لعل الإتيان بثم لتراخي مجيئه
عن الوضوء لاشتغاله بأمر كسنة الوضوء (فقال: اذهب فتوضأ)
أي ثانياً (فقال له رجل) ويحتمل أن تكون بمعنى عن: أي فقال
عن المأمور: أي سائلاً عن سبب أمره بما أمر به أولاً
الضمير فيه للنبي: أي فقال رجل للنبي واللام للتبليغ،
وثانياً وسكوته عنه آخراً (يا رسول الله مالك) مبتدأ وخبر
وجملة (أمرته أن يتوضأ) في محل نصب على الحال (ثم سكتّ
عنه) بترك الأمر بذلك (قال: إنه كان يصلي وهو مسبل إزاره)
أي بطول ثوبه وإرساله إذا مشى حتى يصل إلى الأرض وفعله ذلك
كان تكبرا واختيالاً، فيحتمل والله أعلم أن يكون أمره
بإعادة الوضوء ليكون مكفراً لذنبه، فقد جاء أن الطهور مكفر
للذنوب، فمن ذلك حديث البراء بإسناد حسن عن عثمان مرفوعاً
«لا يسبغ عبد الوضوء إلا غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر»
فلما كان في إسبال الإزار من الإثم ما فيه أمره بالوضوء
ثانياً ليكون تكفيراً لذنب الإسبال ولم يأمره بإعادة
الصلاة لأنها «صحيحه» وإن لم تقبل كما قال (إن الله لا
يقبل صلاة رجل مسبل) ويحتمل أن يكون الأمر بإعادة الوضوء
للإخلال بلمعة من أعضائه وبإخلال طهارته لا يصح الوضوء ولم
يؤمر بإعادة الصلاة لأنها نفل، والله أعلم.
والمراد من قوله لا يقبل: لا يكفر ذنوبه ولا يطهر قلبه من
الآثام وإن أسقطت عنه الطلب (رواه أبو داود بإسناد صحيح
على شرط
(5/275)
مسلم) في الصلاة وفي اللباس من «سننه» .
9798 - (وعن قيس بن بشر التغلبي) بالفوقية المعجمة وكسر
اللام الشامي. قال الحافظ في «التقريب» : مقبول ممن عاصر
صغار التابعين روى عنه أبو داود. قال تلميذه ابن رسلان في
«شرح سنن أبي داود» : قال أبو حاتم: ما أرى بحديثه بأساً
(قال: أخبرني أبي) بشر بن قيس التغلبي، قال في «التقريب» :
من أهل قنَّسرين بكسر القاف وتشديد النون وسكون المهملة
الأولى، صدوق من كبار التابعين خرّج له أبو داود (وكان
جليساً لأبي الدرداء) يحتمل أن تكون حالية بإضمار قد، وأن
تكون معطوفة على جملة أخبرني أبي (قال: كان بدمشق) بكسرا
لدال وفتح الميم مدينة بالشام (رجل من أصحاب النبي) جمع
صاحب بمعنى صحابي أي من صحابته (يقال له سهل) ابن الربيع
بن عمرو بن عديّ (ابن الحنظلية) هي أمة، وقيل أم جده، وهي
من بني حنظلة ابن تميم وسهل أوسيّ بايع تحت الشجرة، وكان
زاهداً معتزلاً عابداً نزل دمشق. قال ابن الأثير: ومات بها
أول خلافة معاوية ولا عقب له، وكان يقول: لأن يكون لي عقب
أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس. قال الحافظ في «التقريب» :
الحنظلية أمة أو من أمهاته، واختلف في اسم أبيه اهـ. ولم
يحك كل من ابن الأثير وابن رسلان خلافاً في اسم أبيه (وكان
رجلاً متوحداً) بالحاء المهملة: أي بحب التوحد وهو
الانفراد عن الناس (قل ما يجالس الناس) أي قلت مجالسته
الناس، في «ما» فيه مصدرية فلذا كانت في الأصول مفصولة عن
الفعل والكافة توصل به (إنما هو) أي سهل (صلاة) أي ذو صلاة
أو إنما شغله صلاة فحذف المبتدأ المضاف وأقيم المضاف إليه
مقامه فانفصل مرفوعاً (فإذا فرغ) منها (فإنما هو تسبيح)
لله عزّ وجل: أي تنزيه له عما لا يليق به (وتكبير) أي ثناء
عليه بإثبات الكبرياء والعظمة، ويحتمل أن
المراد الكناية عن كونه في غير
(5/276)
الصلاة ملازم ذكر الله تعالى بأيّ نوع منه
لا بخصوص هين وها أقرب (حتى يأتي أهله) غاية لمقدر: أي
يستمر على ذلك إلى أن يأتيهم فيشغله ما يحتاج إليه من
أمرهم عن ذلك فيشغل به (فمر بنا ونحن) جلوس (عند أبي
الدرداء) الصحابي الجليل المشهور واسمه عويمر، وقيل عامر،
وعويمر لقب له، ابن زيد ابن قيس الأنصاري وقد تقدمت ترجمته
(فقال له أبو الدرداء: كلمة) بالنصب بفعل محذوف: أي قل لنا
كلمة أو تكلم كلمة فهي مفعول به أو مفعول مطلق تنفعنا (أي
بثوابها إذا عملنا بها) ولا تضرّك (أي لا يعود عليك من
الإتيان بها ضرر قال: بعث رسول الله سرية) بفتح فكسر
فتشديد التحتية: هي قطعة من الجيش يبعثها الإمام إلى
العدو، وسميت به لأنها تكون سراة العسكر أي خلاصته الذي هو
النفيس منه وقيل لسيرهم ليلاً (فقدمت) بكسر الدال: أي وصلت
من البعث (فجاء رجل منهم) لم يسمه ابن رسلان في شرحه ولا
السيوطي في «حواشيه» (فجلس في المجلس الذي يجلس فيه رسول
الله) فيه أن من ألف مجلسه لإقراء أو إفتاء ثم قام منه جاز
لغيره الجلوس فيه زمن غيبته، ثم إن كانت المفارقة له بغير
عذر سقط حقه منه بعد العودة إليه وإلا فلا (فقال لرجل إلى
جنبه) أي من الصحابة الذين يحضرون مجلس النبي (لو رأيتنا)
بفتح الفوقية أي أبصرتنا (حين التقينا نحن والعدوّ) بالرفع
عطف على الضمير المتصل لتأكيده بالمنفصل (فحمل فلان) أي
على شخص من العدو (فطعن) أي برمحه العدو (فقال) عند طعنته
إياه (خذها مني وأنا الغلام الغفاري) بكسر الغين المعجمة
نسبة العدوّ (فقال) عند طعنته إياه (خذها مني وأنا الغلام
الغفاري) بكسر الغين المعجمة نسبة لبني غفار قبيلة أبي
ذرّ.
وفيه جواز قول الإنسان ذلك حال الحرب والتعريف بنفسه بذكر
اسمه أو نسبه أو شهرته إذا كان بطلاً شجاعاً ليرهب عدوّه
(كيف ترى في قوله هذا) أي ما رأيك في قوله المذكور مفتخراً
به (قال) أي الرجل المحدث بذلك (ما أراه) بضم الهمزة: أي
أظنه (إلا قد بطل أجره) لأنه أظهر عمله وافتخر على القوم
(فسمع بذلك) المذكور منهما (آخر فقال: ما أرى) بفتح الهمزة
بذلك القول (بأساً) لأن فيه إرهاباً للكفرة (فتنازعا) في
ذلك
(5/277)
(حتى سمع رسول الله) حذف المفعول: أي سمع
تنازعهما فيه، وحتى غاية لمقدر، أي وانتشر تنازعهما إلى أن
وصل رسول الله (فقال: سبحان الله) فيه استعمال التسبيح عند
التعجب من الشيء، وقد عقد له المصنف باباً في كتاب
«الأذكار» ، وكذا يقال في ذلك لا إله إلا الله ونحوها (لا
بأس أن يؤجر) بالبناء للمفعول: أي بالثواب في الدار الآخرة
(ويحمد) بالبناء للمفعول أيضاً: أي يثنى عليه بالثناء
الحسن في الدار الدنيا: أي لا منع من حصولهما معاً، ففيه
حثّ على قول أنا فلان في الحرب إذا كان مشهوراً بالشجاعة
قاصداً بذلك إرهاب الكفرة وإخافتهم لا الفخر والخيلاء
(فرأيت أبا الدرداء سرّ بذلك) لما فيه من أن النفع الدنيوي
لا ينافي الثواب الأخروي وأن الله لا يضيع أجر من أحسن
عملاً - قال تعالى: {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو
مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا
يعملون} (النحل: 97) . وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه
جنتان} (الرحمن: 46) (وجعل يرفع رأسه إليه) أي بعد أن كان
خافضه (ويقول أنت سمعت ذلك من رسول الله؟) بتقدير همزة
الاستفهام قبل الضمير: أي أأنت سمعته (فيقول نعم، فما زال
أبو الدرداء يعيد عليه) القول (حتى إني لأقول) اللام معينة
لكسر همزة «إن» لا لأنها تكون في خبر المفتوحة (يبركن على
ركبيته) مبالغة في التواضع كما هو شأن المتعلم بين يدي
المعلم (قال) أي بشر (فمرّ بنا يوماً آخر فقال له أبو
الدرداء كلمة) أي
اذكر لنا أو قل لنا كلمة (تنفعنا) وإسناد النفع إليها مجاز
عقلي من الإسناد إلى السبب كما علم مما تقدم (ولا تضرّك
قال: قال لنا رسول الله: المنفق على الخيل) في رعيها
وسقيها وعلفها ونحو ذلك، والمراد الخيل المعدة لسبيل الله
تعالى من الجهاد وإعانة منقطع بإركابه عليها (كالباسط يده
بالصدقة) أي الذي يفتح يده باصدقة أبداً (لا يقبضها) بكسر
الموحدة بإمساك ما فيها، ورواه ابن حبان في «صحيحه» «مثل
المنفق على الخيل كالمتكفف بالصدقة، فقلت لعمر: ما المتكفف
بالصدقة؟ قال: «الذي يعطي بكفه» وزاد الطبراني في «الأوسط»
«وأهلها معانون عليها، والمنفق
(5/278)
عليها كالباسط يده في الصدقة وأرواثها
لأهلها عند الله يوم القيامة من مسك الجنة» (ثم مرّ بنا
يوماً آخر فقال أبو الدرداء: كلمة تنفعنا ولا تضرّك) فيه
طلب العلم والاستزادة منه وأن المرء في مقام التعلم إلى
اللحد، وإنما وصف أبو الدرداء الكلمة بما وصفها به لما مرّ
من أن المخاطب كان قليل الكلام مع الناس خوفاً من أن يقع
منه ما يضرّ به في دينه، فوصف مطلوبه بقوله ولا تضرّك
ليسعفه به (قال: قال رسول الله: نعم الرجل خريم) بضم الخاء
المعجمة وفتح الراء وسكون التحتية. وهو ابن فاتك بفاء وبعد
الألف فوقية مكسورة كما ضبطه المنذري/ قال: وكنيته أبو
يحيى، وقيل أبو أيمن، وقال غيره: هو خريم ابن أخرم بن شداد
بن عمرو بن الفاتك (الأسيدي) وقيل فاتك لقب أبيه أخرم، شهد
بدراً مع أخيه سبرة، وقيل إن خريماً وابنه أيمن أسلما يوم
الفتح، وقد صحح البخاري وغيره أن خريماً وأخاه شهد بدراً
ونزل خريم بالرقة (لولا طول جمته) بضم الجيم وتشديد الميم:
ويه الشعر إذا طال حتى بلغ المنكبين وسقط عليهما. والوفرة:
الشعر إلى شحمة الأذن ثم الجمة ثم اللمة التي ألمت بالمنكب
(وإسبال) أي إرخاء (إزاره) حذف جواب لولا لدلالة ما قبله
عليه وفيه أن إطالة الجمة وإسبال الإزار تدافع المدح
وتمانع الرفعة الدينية لأن ذلك
منهي عنه على سبيل الحرمة تارة والكراهة أخرى (فبلغ ذلك)
أي الحديث (خريما فعجل) بكسر الجيم: أي سبق وبادر وهو من
باب المسابقة إلى فعل البرّ خوفاً من عائق (فأخذ شفرة)
بفتح الشين المعجمة: هي السكين العريضة (فقطع بهاجمته) حتى
بلغت (إلى أذنيه ورفع إزاره) حتى بلغ (إلى أنصاف ساقيه)
وقد قيل في قوله تعالى:
{وثيابك فطهر} (المدثر: 4) أي قصر وشمر لأن تقصير الثياب
إلى أنصاف الساقين طهرة لها من الأنجاس والأوساخ (ثم مرّ
بنا) أي رابعاً (يوماً آخر، فقال أبو الدرداء: كلمة تنفعنا
ولا تضرّك) .
فيه الاستكثار من العلم والاستفادة من العالم كما مرّ
(قال: سمعت رسول الله يقول) لما قفل من غزو (إنكم) أي في
غد (قادمون على إخوانكم) من المؤمنين (فأصلحوا رحالكم) جمع
(5/279)
رحل أي ما أنتم راكبون عليه (وأصلحوا
لباسكم) من رداء أو إزار أو عمامة ونحو ذلك.
ففيه تحسين المرء ثوبه وكذا بدنه لملاقاة إخوانه ورؤية
أعينهم، فإن رؤيتهم تمتد إلى الظواهر دون البواطن حذراً من
ذمهم ولومهم واسترواحاً إلى توقيرهم واحترامهم فإن ذلك
مطلوب في الشريعة، وفي الحديث دليل أن على الإنسان أن
يحترز من ألم المذمة ويطلب راحة الإخوان واستجلاب قلوبهم
ليأنس بهم فلا يستقذروه ولا يستثقلوه، وهذه مرايأة في
المباحاة وليس من باب الكبر، بل من باب إظهار نعمة الله
سبحانه والتحدث بها (حتى) غائية ويصح كونها تعليلية للأمر
قبلها (تكونوا كأنكم شامة) بسكون الهمزة وتخفيف الميم قال
ابن الأثير: الشامة هي الحال في الجسد معروفة (في الناس)
المراد منه كونوا في أحسن هيئة وزيّ حتى تظهروا للناس ظهور
الشامة في البدن (فإن الله لا يحبّ الفحش) أي لا يرضى ذا
الفحش وهو من تكون هيئته ولباسه وقوله فاحشاً (ولا التفحش)
ولا يرضى الرجل ذا الفحش: أي المتكلف الفحش والفاعل له
قصداً.
(رواه أبو داود بإسناد حسن إلا قيس بن بشر فاختلفوا) أي
المحدثون (في توثيقه وتضعيفه وقد روى له مسلم) لم يرمز
الحافظ في «التقريب» لرواية قيس عن مسلم بل اقتصر على رمز
روايته عن أبي داود، ومثله في «الكاشف» للحافظ الذهبي
وظاهر كلام المصنف أنه روى له الصحيح وهو المتبادر من
عبارته.
10799 - (وعن أبي سعيدالخدريّ رضي الله عنه قال: قال رسول
الله: إزرة) قال المنذري: ضبطها بعضهم بضم الهمزة، والصواب
كسرها لأن المراد هنا الهيئة في الاتزار كالجلسة لهيئة
الجلوس لا المرة الواحدة (المسلم) وعند ابن ماجه «إزرة
المؤمن» أي الهيئة المستحبة في اتزار المؤمن (إلى نصف
الساق) لأن ذلك أطهر لبعده عن احتمال وصول النجس وأطيب
لبعده عن الكبر وقربه من التواضع (ولا حرج أو) شك من
الراوي (لا
(5/280)
جناح) وهما بمعنى واحد: أي لا شيء من اللوم
على المؤمن إذا أرخى ثوبه (فيما بينه وبين الكعبين)
فالإرخاء إليهما جائز بلا كراهة وإلى ما فوقهما من نصف
الساق (وما كان أسفل من الكعبين) أي من الثياب وعند
النسائي من الإزار (فهو في النار) مستحبّ هو من تسمية
الشيء بما يؤول إليه أمره في الآخرة غالباً، وقيل كناية عن
تحريم ذلك لأن فعل الحرام يقتضي دخول النار في الآخرة
فسماه الله باسمه، والمراد بالتحريم من أسبله قصداً للتكبر
والخيلاء وإلا فيكره لغير النساء، فالحديث كنظيره من حديث
الصحيح السابق مطلق محمول على ما ذكر (ومن جر إزاره بطراً)
بفتح أوليه مفعول له ويجوز فتح أوله وكسر ثانيه فيكون
حالاً، ووقع لابن رسلان عكس ما ذكرنا وهو سبق من القلم
والبطر، تقدم أنه الطغيان عند تتابع نعم الله تعالى
وعافيته (لم ينظر الله إليه) أي نظر رحمة ويحتمل أن ذلك
يوم القيامة كما جاء مقيداً به في الخبر الصحيح ويحتمل أن
ذلك عام للدارين ولا يقيده لأن ذكر بعض أفراد العام لا
يخصصه (رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» كالذي قبله
(بإسناد صحيح) .
11800 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: مررت على رسول
الله وفي إزاري استرخاء) جملة مركبة من خبر مقدم هو الظرف:
أي متعلقة ومبتدأ مؤخر في محل نصب على الحال، والمراد أن
فيه إسبالاً (فقال: يا عبد الله ارفع إزارك فرفعته) أي إلى
الكعبين أو قريب منهما (ثم قال: زد) أي في الرفع لكونه
أطيب وأطهر (فزدت) أي حتى بلغت به أنصاف الساقين (فما زلت
أتحراها) أي أقصدها (بعد) بالبناء على الضم لحذف المضاف
إليه ونية معناه: أي بعد ذلك الأمر الصادر منه ففيه مزيد
اعتنائه بالسنة وملازمته للاتباع (فقال بعض القوم: إلى
أين؟) أي كان انتهاء الرفع المأمور به (قال: إلى أنصاف
الساقين) جمع المضاف إلى المثنى مع أنه مثنى دفعا لثقل
تكرار ذلك ومنه قوله تعالى: {فقد صغت
(5/281)
قلوبكما} (التحريم: 4) وهذه اللغة أفصح من
لغة تثنيته نحو جاءك غلاماً الرجلين ومن لغة إفراده نحو
نصف ساقيه (رواه مسلم) .
12801 - (وعنه قال: قال رسول الله: من جرّ ثوبه خيلاء لم
ينظر الله إليه يوم القيامة) أي نظر رحمة. وقال الزين
العراقي في «شرح الترمذي» : عبر عن المعنى الكائن عند
النظر بالنظر، لأن من نظر إلى متواضع رحمه أو إلى متكبر
مقته، فالرحمة والمقت متسببان عن النظر. وقال الكرماني في
نسبة النظر لمن يجوز عليه النظر كناية، لأن من اعتد بالشخص
التفت إليه ثم كثر حتى صار عبارة عن الإحسان وإن لم يكن
هناك نظر، ولمن لا يجوز عليه حقيقة النظر وهو تقليب الحدقة
وهو الله تعالى مجاز بمعنى الإحسان، وظاهر الحديث أن
الوعيد في جره كذلك فيخرج من أطال ثوبه كذلك، غير أنه لم
يجره حال مشيه بل يشمره، ويحتمل شموله لذلك، والمراد أن
هذا شأن ذلك، وبه صرح في «الفتح» فقال: التقييد بالجرّ
للغالب والبطر والتبختر مذموم ولو لمن شمر ثوبه (فقالت أم
سلمة: فكيف تصنع النساء بذيولهن) أي وهن مأمورات بإرسالها.
قال تعالى: {يا أيها النبيّ قل لأزواجك وبناتك ونساء
المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن} (الأحزاب: 59) أي
والوعيد المذكور في الحديث يشمله فيتعارضان، فقال النبي
منبهاً على أن ذلك فيمن زاد على المشروع قاصداً ما ذكر فيه
والمشروع لهن إرساله للآية فلا شيء عليهن فيه كما حكت عنه
بقولها (قال: يرخين شبراً) هو ما بين الخنصر والإبهام
بالتفريج المعتاد (قالت إذن تنكشف أقدامهن) أي لصغر ذلك
فربما نشب بعود أو حجر فانكشفت أقدامهن وبعض سوقهن (قال:
فيرخينه ذراعاً) قال ابن رسلان: والظاهر أن المراد به ذراع
اليد، قال أهل اللغة: الذراع اليدان من كل حيوان، لكنه من
الإنسان فيمن المرافق إلى أطراف الأصابع، وذراع القماش
قريب منه فإنه ست قبضات
(5/282)
معتدلة. ومعنى الحديث: الإذن لهن في إطالة
أذيالهن من القمص والأزر والخمر بحيث يسيلن قدر ذراع من
أذيالهن إلى الأرض لتكون أقدامهن مستورة: يعني ظهورها،
وقيل ابتداء الذراع من أول ما يمس الأرض من الثياب أو من
الكعب قولان، الراجح الأول، واستظهر ابن رسلان أنه من نصف
الساق وفيه بعد (ولا يزدن عليه) أي فهي عليه: أي على
الكعبين بالنسبة للرجل في المنع حرمة وكراهة (رواه أبو
داود) أي لا بسياق هذا اللفظ كما قد توهمه عبارته، بل الذي
فيه عن صفية بنت عبيد الثقفية زوجة ابن عمر «أن أم سلمة
زوج النبي قالت لرسول الله حين ذكر الإزار: فالمرأة يا
رسول الله؟ قال: ترخي شبراً، قالت: إذاً ينكشفن، قال:
فذراعاً لا تزيد عليه» . وفيه أيضاً عن ابن عمر «رخص رسول
الله لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً، ثم استزدته فزادهن
ذراعاً، فكن يرسلن إلينا فنتذرع لهن ذراعاً» ولفظ الحديث
المذكور للنسائي فكان على المصنف ذكره، وعزوه إليه لأنه
روى المبنى والمعنى، وعند من ذكر المصنف من أبي داود
والترمذي: المعنى وإن تفاوت بعض المبنى (وقال: حديث حسن
صحيح) .
120 - باب استحباب ترك الترفع في اللباس
أي وفي الافتراش والتدثر: أي لبس الرفيع سواء كان الرفعة
من جهة النفاسة كثوب الخز والحرير أو من جهة الصناعة
كالجيد من الصوف (تواضعاً) علة الترك: أي لا بخلاً أو
إظهاراً للزهد (وقد سبق في باب فضل الجوع وخشونة العيش
جمل) من الأحاديث (تتعلق بهذا الباب) كحديث أبي هريرة
«رأيت سبعين من أهل الصفة، ما منهم رجل عليه رداء، إما
إزار وإما كساء، قد ربطوا في أعناقهم منها ما يبلغ نصف
الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين» الحديث، وكحديث عائشة «كان
فراش رسول الله من أدم حشوه ليف» وكحديث أبي أمامة ابن
ثعلبة الخشني مرفوعاً «البذاذة من الإيمان» رثاثة الهيئة
وترك فاخر اللباس.
(5/283)
1802 - (وعن معاذ بن أنس رضي الله عنه أن
رسول الله قال: من ترك اللباس) أي أعرض عنه (تواضعاً)
وتركاً لزهرة الحياة الدنيا (وهو يقدر عليه) أما التارك
للعجز فلا، نعم إن عزم أنه لو كان قادراً عليه لأعرض عنه
تواضعاً أثيب على نيته كما تقدم ما يدل عليه، وفي الحديث
«نية المؤمن خير من عمله» (دعاه الله يوم القيامة على رؤوس
الخلائق) زيادة في تشريفه (حتى يخيره من أي حلل) بضم ففتح
جمع حلة كربة وقرب (الإيمان يشاء) وحتى غاية لمقدر: أي
وينشر تشريفه ثمة بأنواع الشرف إلى أن يخيره بين حلل أهل
الإيمان المتفاوتة المقام، فيختار الأعلى ويرد من الفيوض
المورد الأحلى فينزل المكان الأعلى، وقوله (يلبسها) جملة
مستأنفة لبيان القصد من التخيير فيها (رواه الترمذي) في
الزهد من «جامعه» (وقال: حديث حسن) .
121 - باب استحباب التوسط في اللباس
وذلك لأن الغالي شهرة والداني جداً دناءة إلا لتواضع لله
واتباع آثار السلف فالأعمال بمقاصدها، وكذا إذا لبس الغالي
النفيس تحدثاً بنعمة الله وتنبيهاً للفقراء على أنه منها
بمكان ليقصدوه فيحسن إليهم ويواسيهم، وللأغنياء على أنه
غنى عما بأيديهم فقير إلى الله دون غيره، كما يروى عن
الشاذلي أنه قال لفقير كان لابساً ثوباً مرقعاً: أنكر عليه
لبس نفيس الثياب: «يا هذا ثيابي تقول للناس الحمد لله
وثيابك تقول لهم أعطوني من مالكم» . وعلى هذا السنن سار
العارفون فلبسوا نفيس الثياب وزينوا بها ظاهرهم إعلاماً
للناس بغناهم بمطلوبهم عمن سواه، وجعل الواحد منهم فقره
ومناجاته بينه وبين مولاه نفعنا الله بهم (ولا يقتصر على
ما يزري) بفتح التحتية بوزن يرمي (به) أي يدخل به في
استهزاء الناس به (لغير حاجة) أي من فقر (ولا مقصود شرعي)
من تواضع لله واقتداء بالسلف.
(5/284)
1803 - (عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
رضي الله عنه قال: قال رسول الله: إن الله يحبّ) أي يرضى
(أن يرى أثر نعمته) بكسر النون هي الأمر المستلذ المحمود
العاقبة ولوخامة مستلذات الكافر للعذاب الأخروي، قيل لا
نعمة لله على كافر (على عبده) وذلك بإظهار التجمل في
الملبس تحدثاً بنعمة الله تعالى لا ترفعاً على الغير
وكبراً بذلك وبالتوسع في أعمال البرّ من صلة الأقارب
وإطعام الجائع وفك العاني وغير ذلك (رواه الترمذي) في
الاستئذان من «جامعه» (وقال: حديث حسن) .
122 - باب تحريم لباس الحرير على الرجال
أي المكلف منهم ومثلهم الخناثى احتياطاً، وقد صرح أصحابنا
في باب اللباس أنه يجوز للوليّ إلباس الصبي قبل البلوغ
ثياب الحرير، قال: لأنه ليس فيه من الشهامة ما ينافي نومة
الحرير (وتحريم جلوسهم عليه واستنادهم إليه) من غير حائل
يحول بين الجالس والمستند وثوب الحرير، وإلا فلو غطى كلاً
من ثوبي الحرير المفروش والمستند عليه بغير حرير من قطن أو
نحوه وجلس واعتمد حينئذ لم يحرم لأنه لا يعده العرف مستعمل
الحرير، واختلف في علة التحريم فقيل الفخر والخيلاء، وقيل
كونه ثوب رفاهية وزينة فيليق بزي النساء دون الرجال، قال
في الفتح: ويحتمل علة ثالثة هي التشبه بالمشركين (وجواز
لباسه للنساء) أي وجلوسهن عليه واستنادهن إليه.
1844 - (عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول
الله: لا تلبسوا) الخطاب للذكور أي البالغين العاقلين
(الحرير) المحض وكذا المركب منه ومن غيره والحرير الأكثر،
ومن الحرير الخزّ بفتح المعجمة الأولى وتشديد الثانية وهو
كدر اللون، وعلل ذلك
(5/285)
على طريق الاستئناف البياني بقوله (فإن من
لبسه) أي من الرجال بدليل أول الحديث وحديث علي وأبي موسى
الآتيين في الباب (في الدنيا) أي مع العلم بالحرمة للبس
الحرير وأن الثوب الملبوس كذلك وتعمد ذلك ولم يتب منه (لم
يلبسه في الآخرة) قال الحافظ في «الفتح» : فيكون عقابه ذلك
في الجنة، وذلك بأن يصرف الله نفسه عن طلبه لا أنه يجب ذلك
ويمنع منه، لأن ذلك يخالف مقتضى تلك الدار من زيادة
الإكرام، قال: ومثله ماجاء في شارب الخمر إذا مات ولم يتب
من أنه لا يشرب الخمر في الجنة (متفق عليه) .
2845 - (وعنه قال: سمعت رسول الله يقول: إنما يلبس الحرير)
أي ثوبه عرفاً (من لا خلاق له) ها محمول على أن ذلك عقابه
فلا يدخل الجنة إن عوقب، ولله أن يعفو عما شاء من الذنوب
غير الشرك أو يدخلها ولا يلبسه بأن ينزع عنه شهوة ذلك
(متفق عليه) رواه في اللباس، ولفظ مسلم في حلة عطارد من
حديث عمر مرفوعاً «إنما هذه لباس من لا خلاق له» .
(وفي رواية للبخاري) في اللباس أيضاً (من لا خلاق له في
الآخرة) وهي أيضاً عند مسلم في اللباس في حديث عمر في حلة
عطارد (قوله لا خلاق) بالمعجمة والقاف (أي لا نصيب) فيحرم
إن عوقب هذا النصيب في الآخرة جزاء للبسه إياه في الدنيا
وموته عليه من غير توبة.
3846 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: من لبس
الحرير في الدنيا لم
(5/286)
يلبسه في الآخرة. متفق عليه) قال في
«الفتح» : زاد النسائي من رواية في آخره «ومن لم يلبس
الحرير في الآخرة. لم يدخل الجنة» قال تعالى: {ولباسهم
فيها حرير} (الحج: 23) وهذه الزيادة مدرجة في الخير وهي
موقوفة على ابن الزبير كما بين ذلك النسائي من طريق أخرى،
وكذا بينه الإسماعيلي. وقد جاء ذلك أيضاً عن ابن عمر أخرجه
النسائي أيضاً، وأخرج أحمد والنسائي وصححه الحاكم عن أبي
سعيد «وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو» قال
الحافظ: وهذا يحتمل أن يكون مدرجاً اهـ ملخصاً.
4847 - (وعن علي رضي الله عنه قال: رأيت) أي أبصرت (رسول
الله أخذ) جملة حالية بتقدير «قد» قبلها، ويحتمل كون
الرؤية علمية فالجملة مفعول ثان لها (حريراً فجعله في
يمينه، وذهباً فجعله في شماله ثم قال) أي بعد جعلها فيهما
(إن هذين) الجنسين: أي استعمالما (حرام على ذكور أمتي) إلا
فيما استثني كلباس الحرير لحكة أو جرب أو حرب لا يقوم فيها
غيره مقامه، وكأنف الذهب إلانملة منه وتحلية المصحف به
وغير ذلك مما هو مذكور في محله من كتب الفقه (رواه أبو
داود بإسناد حسن) .
5808 - (وعن أبي موسى الأشعري) رضي الله عنه أن رسول الله
قال: (حرم) بالبناء للمجهول والفاعل معلوم وهو الله عزّ
وجل: أي حرم الله (لباس الحرير) وكذا افتراشه
(5/287)
والاستناد إليه والتدثر به (و) حرم (الذهب)
بالرفع: أي استعماله بتختم أو غيره من الحلي حتى يحرم ما
ضبب به مطلقاً (علة ذكور أمتي) أي المكلفين، أما غيرهم
منهم فيجوز للوليّ إلباسهم الحرير دون الذهب (وأحل)
بالبناء للمجهول (بكسر الهمزة) وتخفيف النون وبالمثلثة
(رواه الترمذي) في اللباس من «جامعه» (وقال حديث صحيح) .
6809 - (وعن حذيفة رضي الله عنه قال: نهى النبيّ أن نشرب)
في آنية الذهب والفضة وأن تأكل فيها خص الأكل والشرب
بالذكر كما تقدم من أنهما أغلب أنواع الاستعمال وإلا فسائر
استعمال أواني النقد حرام (وعن لبس الحرير) بضما للام: أي
أن يلبس الحرير لتناسب المعطوف عليه، أما اللبس بكسر اللام
فهو كاللباس ما لبس (والديباج) هو كما تقدم ثوب سداه
ولحمته إبريسم، وتقدم الخلاف في أنه معرّب أو عربي (وأن
تجلس عليه) أي على ما ذكر من الحرير والديباج: أي من غير
حائل بين الجالس وبينه، قال الحافظ: قال بتحريم الجلوس على
الحرير، وهو قول الجمهور وخلافاً لابن الماجشون والكوفيين
وبعض الشافعية. وأجاب بعضهم عن هذا الحديث بأن النهي ليس
صريحاً في الحرمة، وبعضهم باحتمال أن يكون النهي ورد عن
مجموع اللبس والجلوس لا عن الجلوس بمفرده، وبهذا يرد على
ابن بطال دعواه أن الحديث نص في تحريم الجلوس على الحرير
فإنه ليس بنص فيه كما هو ظاهر اهـ. والنهي في ذلك كله
للتحريم (رواه البخاري) في اللباس:
(5/288)
123 - باب جواز لبس الحرير لمن به حكة
بكسر الحاء المهملة، واختلف هل هي الجرب مطلقاً، أو بقيد
كونه يابساً؟ الأول عليه الجوهرى وغيره، والثاني قاله
بعضهم.
1810 - (عن أنس رضي الله عنه قال: رخص رسول الله) من
الرخصة وهو الحكم المتغير تعلقه من الصعوبة إلى السهولة
لعذر مع قيام السبب للحكم الأصلي فإنه غير حكم لبس الحرير
من الصعوبة، وهي الحرمة إلى السهولة وهي الجواز لعذر وهي
الحكة مع قيام السبب الأصلي الذي هو الحزمة من الخيلاء أو
الخنوثة المنافية لشهامة الرجال (للزبير وعبد الرحمن بن
عوف رضي الله عنهما في لبس الحرير) أي في أن يلبساه (لحكة)
أي لأجل حكة (بهما) وفي رواية للبخاري «أنهما اشتكيا إلى
رسول الله القمل» قال الحافظ: وكأن الحكة نشأت عن القمل،
ويلتحق بها في الحديث إباحة ما يقي الحرّ والبرد من الحرير
حيث لا يوجد غيره (متفق عليه) .
124 - باب النهي عن افتراش جلود النمور
جمع نمر: حيوان معروف، أخبث من الأسد وأجرأ (والركوب
عليها) والنهي فيه محمول على التنزيه.
(5/289)
1811 - (عن معاوية رضي الله عنه) تقدمت
ترجمته (قال: قال رسول الله: لا تركبوا الخزّ) أي السرج
المغشاة به. قال ابن رسلان: إن أريد بالخزّ الثياب
المنسوجة من صوف أو المتخذ منه ويراد به فهي مباحة، وقد
لبسها الصحابة والتابعون فيكون النهي للتنزيه لأجل التشبه
بالعجم، ولما فيه من زي المترفهين والمتكبرين بالتفاخر على
غيرهم، وإن أريد به النوع الآخر المعمول من الحرير وهو
المعروف فهو حرام، والنهي فيه للتحريم اهـ (ولا النمار)
بكسر النون وتخفيف الميم قاله في «المصباح» ، قال ابن
الأثير: جمع نمرة بفتح فكسر: كساء فيه خطوط بيض وسود اهـ
وحينئذ فالحديث لا يلائم ما عقدت له الترجمة، وكأن وجه
النهي عن ركوب النمور وفي «الصحاح» النمر سبع والجمع نمور،
وجاء في الشعر نمر وهو شاذ ولعله مقصور منه اهـ. فلم يذكر
أنماراً في جمعه ثم نمر السبع ذي الخطوط من الأكسية لما في
ذلك من الخيلاء، ثم رأيت ابن رسلان قال: والنمار وفي رواية
النمور وكلاهما جمع نمر بفتح فكسر، ويجوز التخفيف بكسر
النون وسكون الميم، قال: ونهي عن استعمال جلوده لما فيها
من الزينة والخيلاء، ولأنها زي الأعاجم. قال في «النهاية»
: وعموم النهي شامل للمذكى وغيره لأنه يحرم أكله (حديث حسن
رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (بإسناد حسن) ولا علة
في المتن ولا شذوذ فهو حسن أيضاً.
2812 - (وعن أبي المليح) بفتح الميم وكسر اللام عامر ويقال
عمير بن أسامة الهذلي (عن أبيه) أسامة بن عمير بن عامر بن
أقيشر بضم الهمزة وفتح القاف وسكون التحتية وكسر الشين
المعجمة واسمه عمير بن عبد الله بن حبيب بن يسار بن ناجية
بن عمرو بن الحارث بن كثير ابن هند بن طلحة بن لحيان بن
هذيل بن مدركة بن إلياس الهذلي الكوفي. قال في «التقريب» :
صحابي تفرد ولده بالرواية عنه، خرج عنه الأربعة، روى له عن
رسول الله وسلم أحاديث (رضي الله عنه أن رسول الله: نهى عن
جلود السباع) أن يركب عليها، قال البيهقي: يحتمل أن النهي
وقع لما يبقي عليها من الشعر لأن الدباغ لا يؤثر فيه، وقال
(5/290)
غيره: يحتمل أن النهي عما لم يدبغ منها أو
من أجل أنها مراكب أهل السرف والخيلاء.
(رواه أبو داود) في اللباس من «سننه» (والترمذي) فيه
والنسائي في الذبائح (بأسانيد صحيحة) فرواه أبو داود عن
مسدد عن يحيى القطان وابن علية كلاهما عن سعيد عن قتادة عن
ابن المليح بن أسامة عن أبيه، ورواه الترمذي عن محمد بن
يحيى وعن أبي كريب عن ابن المبارك ومحمد بن بشر وعبد الله
بن إسماعيل هو ابن أبي خالد ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عروبة،
قال الترمذي: ولا نعلم أحداً قال عن أبيه غير ابن أبي
عروبة، وعن ابن بشار عن غندر عن شعبة عن يزيد الرشك عن أبي
المليح عن النبيّ مرسلاً قال: وهذا أصح، وعن ابن بشار عن
معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي المليح «أنه كره
وعبد الله أصح، وعن ابن بشار عن معاذ بن هشام عن أبيه عن
قتادة عن أبي المليح «أنه كره وهذا أصح، وعن ابن بشار عن
معاذ بن هشام عن أبيه عن قتادة عن أبي المليح «أنه كره
جلود السباع» ورواه النسائي عن أبيه عبيد الله بن سعيد عن
يحيى وحينئذ فليس للحديث إلا سند واحد وهو سعيد عن قتادة
عن أبي المليح عن أبيه والتعداد إلى سعيد لا يقتضي تعدد
سند الحديث/ ولعل المصنف أطلق الحكم بصحة الأسانيد ولم
يعقبه بتضعيف المتن بالإرسال الذي صححه الترمذي أخذاً
بقاعدة تقديم الوصل على الإرسال، والله أعلم.
(وفي رواية للترمذي) زيادة على رواية غيره ممن ذكر (نهى عن
جلود السباع أن تفرش) أي فالمزيد فيها قوله أن تفرض وهو
بدل من جلود بدل اشتمال.
125 - باب ما يقول إذا لبس ثوباً جديداً أو نعلاً أو نحوه
أي بعد تمام اللبس.
1812 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان رسول
الله إذا استجد ثوباً)
(5/291)
أي لبس ثوباً جديداً وأصله على ما في
«القاموس» صبره جديداً (سماه) أي الثوب (باسمه) أي المعين
للشخص الموضوع له الثوب مما بينه بقوله (عمامة) بكسر العين
المهملة (أو قميصاً أو رداء) أي أو غيرهما كسراويل وإزار:
أي كان يقول: الحمد لله الذي رزتني أو كساني هذه العمامة
أو القميص، وقيل بل المراد وضع لذلك الثوب اسماً يخصه، فقد
كانت له عمامة تسمى السحاب (ثم يقول) بعد لبسه (اللهم لك
الحمد كما كسوتنيه) الكاف فيه للتعليل وما مصدرية، والضمير
يعود إلى مسمى الثوب من قميص وعمامة: أي لكسوتك إياي هذه
العمامة منة، وأتى بذلك ليكون الحمد في مقابلة نعمة وهو في
مقابلها أفضل بسبعين ضعفاً، وقيل الكاف للتشبيه: أي كما
كسوتنيه في موضع الرفع مبتدأ خبره قوله (أسألك خيره) هو
المشبه: أي ما كسوتنيه من غير حول مني ولا قوة، وأسألك أن
توصل إلى خيره (وخير ما صنع) بالبناء للمفعول: أي خلق (له)
من الشكر بالجوارح والقلب والحمد لموليه باللسان (وأعوذ
بك) عطف على أسألك: أي أستعيذ بك (من شره ومن شر ما صنع
له) من الكفران اهـ. ملخصاً من كلام الطيبي، وفيه وجوه أخر
بينتها في غير هذا الكتاب.
(رواه أبو داود) في اللباس من سننه وقال: لم يذكر الثقفي
أحد رواته فيه أبا سعيد، يعني أرسله ولم يجاوز فيه أبا
نضرة (والترمذي) في اللباس من «جامعه» ومن «شمائله» (وقال)
في «جامعه» (حديث حسن) ورواه ابن السني في «اليوم والليلة»
.
126 - باب استحباب الابتداء باليمين في اللباس
أي بأن يدخل يده اليمنى في كمها قبل إدخال اليسرى ويدخل
اليمنى في كل من الخف والسراويل والنعل قبل إدخال اليسرى،
(5/292)
وذلك لأن إلباس العضو كرامة له واليمين أحق بها من اليسار
(هذا الباب تقدم مقصوده) أي ما يقصد منه من إثبات التيامن
فيما ذكر في باب استحباب تقديم اليمين في كل ما هو من باب
التكريم (وذكرنا الأحاديث الصحيحة فيه) أي للواردة في هذا
المقصود في ذلك الباب فأغنى عن الإعادة لقربه، والله
الموفق. |