دليل الفالحين
لطرق رياض الصالحين 6 - كتاب عيادة
المريض
أي زيارته وهو واوي يقال عدت المريض: أي زرته فأنا عائد
وجمعه عواد، وقلبت الواو ياء في المصدر لانكسار ما قبلها
فهو كصيام وقيام مصدر صام وقام. وفي «الدر المنثور»
للسيوطي: العيادة الزيارة واشتهر في عيادة المريض حتى صار
كأنه مختص به (وتشييع) بالمعجمة الساكنة وتحتيتين الأولى
مكسورة: أي اتباع (الميت) بالسير مع جنازته إكراماً له
وتوديعاً كتشييع الضيف. وفي «القاموس» : مات يموت ويمات
ويميت فهو ميت وميت ضد حيّ أو الميت مخففة الذي مات،
والميت والمائت الذي لم يمت بعد، جمعه أموات وموتى وميتون
وميتون اهـ. وقد جرى على الثاني بعض الفضلاء حيث قال:
تسائلني تفسير ميت وميت
فهاك صحيح القول إن كنت تعقل
فمن كان ذا روح ذلك ميت
وما الميت إلا من إلى القبر ينقل
(والصلاة عليه) وإطلاق الصلاة عليها استعارة مصرحة، أو من
إطلاق المشترك وإلا فالصلاة بالمعنى الشرعي المعروف وهو
أقوال وأفعال مبدوءة بالتكبير مختتمة بالتسليم غير منطبق
عليها لفقد الأفعال فيها (وحضور دفنه والمكث) بتثليث ميمه
ذكره الفيروز أبادي في مثلته: أي اللبث (عند قبره) قال في
«القاموس» : القبر المدفن وجمعه قبور والمقبرة مثلثة الباء
وكمكنسة موضعها يقال قبره ويقبره ويقبره دفنه وأقبره: جعل
له قبراً (بعد دفنه) أي ليسألوا له التثبيت في إجابة
السؤال.
1894 - (وعن البراء بن عازب رضي الله عنهما قال: أمرنا
رسول الله) المراد من الأمر فيه
(6/368)
طلب حصول المأمور به الشامل لما كان واجباً
ولما كان مندوباً (بعيادة المريض) وهي سنة كفاية، وقيل فرض
كفاية فتسن لأيّ مرض كان وفي كل زمان كان، وكراهة العوام
لها في بعض الأيام لا أصل لها، وعقب العلم بالمرض وإن لم
تطل مدة الإنقطاع ولا فرق في المذكورات بين المعروف له
وغيره، وحديث «لا تزر من لا يزورك» إن صح فهو محمول على
زيارة الأصحاء فإنها تستعمل فيهم والعيادة في المرضى: أي
فمن رأيت منه الإعراض فأعرض عنه جزاء له، ومنه قول إمامنا
الشافعي رضي الله تعالى عنه:
زن من وزنك بما وزنـ
ك وما وزنك به فزنه
من جا إليك فرح إليـ
ـه أو جفاك فصد عنه
ثم للعيادة آداب أفردت بالتأليف، وممن أفردها ابن حجر
الهيثمي.
فمن آدابها أنه لا يطيل الجلوس إلا إذا علم أنه لا يشق
عليه ويأنس به.
وأن يدنو منه ويضع يده على جسده ويسأله عن حاله، وينفس له
في الأجل بأن يقول ما يسر به، ويوصيه بالصبر على مرضه
ويذكر له فضله إن صبر عليه، ويسأل منه الدعاء فدعاؤه مجاب
كما ورد، ومن أراد البسط في هذا المقام فعليه بالإفادة
لابن حجر المذكور (واتباع) بتشديد الفوقية (الجنائز) جمع
جنازة بفتح الجيم وتكسر، الميت على النعش، وقيل بالفتح اسم
لذلك وبالكسر النعش وعليه الميت، وقيل عكسه، وقيل غير ذلك
من جنسه: إذا ستره (وتشميت) بالمعجمة والمهملة كما تقدم
(العاطس وإبرار المقسم) بصيغة اسم الفاعل: أي الحالف على
حصول أمر لا يقدر على تحصيله منك لتبر قسمه، قال
التوربشتى: نرويه عن صحيح البخاري إبرار المقسم، وقد روي
إبرار القسم: أي بفتحتين وكلاهما صحيح اهـ. وفي قوله روى
بصيغة التمريض مع أنه في الصحيح مالا يخفي (ونصر المظلوم)
بكفّ الظالم عنه (وإجابة الداعي) إلى وليمة النكاح في
اليوم الأول وجوباً بشرطه وإلى غيرها سنة، ومنه الوليمة
الثانية في النكاح، أما الوليمة
(6/369)
الثالثة فيكره حضورها (وإفشاء السلام) أي
إظهاره ونشره والحديث تقدم مراراً أقربها في كتاب السلام
(متفق عليه) .
2895 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال «حق
المسلم على المسلم خمس) أي الأمر المتأكد للمسلم على مثله
خمسة أشياء وحذف التاء لحذف المعدود أو خمس خصال، وجاء في
رواية لأحمد ومسلم من حديث أبي هريرة ستّ، وزاده» وإذا
استنصحك فانصح له» ولا منافاة لأن مفهوم العدد غير حجة (رد
السلام) وهو فرض عين إن كان المسلم عليه واحداً بأن يقول
عليك السلام ويرفع صوته بقدر ما يسمع البادىء به، وفرض
كفاية إن كان جمعاً (وعيادة المريض واتباع الجنائز وإجابة
الدعوة) بفتح الدال في الطعام هو اسم من دعوت الناس إذا
طلبتهم ليأكلوا عندك فقال نحن في دعوة فلان ومدعاته بمعنى
قال أبو عبيد: وهذا كلام أكثر العرب كذا في «المصباح»
(وتشميت العاطس) أي إذا حمد الله لما تقدم في بابه وقد جاء
في حديث أحمد ومسلم وإذا عطس فحمد الله فشمته، كلها واجبة
عند الإمام مالك والأمر فيها عنده على أصل موضوعه من
الدلالة على الوجوب وعند الشافعي كل من العيادة والتشميت
سنة واتباع الجنائز المتوقف عليه الدفن فرض كفاية والدعوة
تقدم تفصيلها في الحديث قبله (متفق عليه) والحديث قد سبق
في باب تعظيم حرمات المسلمين.
3896 - (وعنه قال: قال رسول الله: إن الله عزّ وجل يقول)
هذا أحد الكيفيات في رواية
(6/370)
الحديث القدسي، والكيفية الأخرى أن يقال عن
النبي فيما يرويه عن ربه كما تقدم عن المصنف حيث قال في
باب المجاهدة: عن أبي ذرّ عن النبي فيما يرويه عن الله
تبارك وتعالى، وتقدم ثمة بعض ما افترق فيه القرآن والحديث
القدسي من الأحكام (يوم القيامة ابن آدم) قيل إنه اسم عربي
بوزن أفعل وألفه منقلبة عن همزة، وقيل أعجمي وزنه فاعل
كخاتم وألفه أصيلة (مرضت) أسند ما قام بالعبد إليه تعالى
تشريفاً له كقوله تعالى: {يخادعون الله} (البقرة: 9) جعل
مخادعتهم للمؤمنين مخادعة لربّ العالمين تشريفاً لهم (فلم
تعدني) بضم العين من العبادة (قال) أي ابن آدم المخاطب
بهذا الحديث (يا رب كيف أعودك استبعاد لإمكان لحوق المريض
له تعالى المرتب عليه العيادة أخذاً بظاهر الخطاب وبين وجه
الاستبعاد بقوله (وأنت ربّ) أي ملك (العالمين) ومن كان
كذلك لا يطرقه شيء من الأعراض فكيف يعاد (فقال) أي الله
تعالى يقال مبيناً أن إسناد المرض إليه تعالى مجاز عقلي
لكونه عن إرادته وفيه تشريف ذلك الإنسان (أما) بتخفيف
الميم أداة استفتاح لتنبيه المخاطب على ما بعده (علمت أن
عبدي فلاناً) يحتمل أن يراد منه العبد الكامل كما تومىء
إليه الاضافة إلى الذات العلى، ويحتمل أن يراد منه مطلق
العبد فالإضافة فيه للعهد بدليل قوله فلاناً (مرض فلم تعده
أما علمت) فصل عما قبله إيماء إلى أنه المقصود بالتنبيه
عليه وما قبله كالوسيلة إليه (أنك لو عدته لوجدتني) أي
وجوداً معنوياً (عنده) .
قال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة
إلى هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم}
(المجادلة: 7) أي بالعلم فعلمه شامل لجميع المكونات والله
تعالى مقدس عن المكان والحلول في شيء أو الاتحاد معه، وفيه
إيماء إلى أن المحسن ينبغي له التيقظ لهذا النور الأسنى
ليفوز بوافر السناء وحسن الثناء والله الموفق (يا ابن آدم)
فصله عما قبله إيماء إلى أن كلا مأمور به على حدته موبخ
تاركه على تركه (استطعمتك فلم تطعمني) حاله كما تقدم فيما
قبله من الإسناد المجازي العقلي والنكتة فيه (قال) أي
العبد المخاطب، وعبر عنه بالماضي إما لأنه إخبار عما صدر
منه عز وجل مع بعض من تقدم
(6/371)
على الإخبار عنه أو أنه لما كان محقق
الحصول عبر به بما يعبر عن ذلك كقوله تعالى: {ونفخ في
الصور} (الكهف: 99) (يا ربّ وكيف أطعمك وأنت ربّ العالمين)
الواو عاطفة لهذا الاستبعاد على الاستبعاد قبله، وكأن شدة
دهش أحوال الموقف أذهله عن جريان ما ذكره الحق فيما قبله
فيه وفيما بعده فاستغرب ذلك وقال ما قال (فقال: أما علمت
أنه) أي الشأن (استطعمك) طلب منك الطعام (عبدي فلان فلم
تطعمه) أي ومنعك له من ذلك الطالب ظاهراً كأنه منع منك
للطالب حقيقة كما أشار إليه تعالى تلويحاً وتعريضاً في غير
ما آية كقوله: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً
وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله} (الإنسان: 8، 9) الآية
(إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي) أي باعتبار ثوابه المضاعف.
قال تعالى: {وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله}
(البقرة: 110) أي تجدوا ثوابه عنده فلا يضيع عمل عامل قال
تعالى: {إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها
ويؤت من لدنه أجراً عظيماً} (النساء: 40) (يا ابن آدم
استسقيتك) أي طلبت منك السقيا بلسان عبدي (فلم تسقني) أي
تسق عبدي السائل منك ذلك (قال: يا ربّ كيف أسقيك) لعل
الفصل مع وصل ما قبله إن لم يكن لشدة الذهول من عظيم ما
يلقاه من التوبيخ للتفنن في التعبير (وأنت رب العالمين؟
قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما إنك لو سقيته لو جدت
ذلك) أي ثوابه (عندي) ففيه دليل على أن الحسنات لا تضيع
وأنها عند الله بمكان (رواه مسلم) أواخر «صحيحه» .
(6/372)
4897 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه قال:
قال رسول الله. عودوا المريض) أي بأي مرض كان كما يؤذن به
تعريفه بأل الاستغراقية، وفي كل زمان كما يؤذن به إطلاق
الأمر عن التقييد بزمان (وأطعموا الجائع) وهو كغيره من
القيام بسد خلات المحتاج فرض كفاية على مياسير المسلمين
فإن لم يكن ثمة إلا واحد تعين عليه (وفكوا العاني) أي
المأسور لكفار أو لدين عليه أداؤه (رواه البخاري) في كتاب
المرضى، ورواه أحمد وابن حبان والبيهقي من حديث أبي سعيد
بلفظ «عودوا المريض واتبعوا الجنازة تذكركم الآخرة» ورواه
البغوي في مسند عثمان من حديثه بلفظ «عودوا المريض واتبعوا
الجنائز والعيادة غبا أو ريعاً إلا أن يكون مغلوباً فلا
يعاد والتعزي مرة» كذا في «الجامع الصغير» (العاني)
بالمهملة وبعد الألف نون (الأسير) في «المصباح» عنا يعنو
عنواً من باب قعد خضع وذل، وعنا عنواً أيضاً إذا نشِب في
الإِسار فهو عان والجمع عناة، وعنى الأسير من باب تعب لغة
فيه، ومنه قيل للمرأة عانية لأنها محبوسة كالأسير عند
الزوج والجمع عوان. قلت: وقد تقدم في باب الوصية بالنساء
خيراً «استوصوا بالنساء فإنهن عوان عندكم» .
5898 - (وعن ثوبان) بفتح المثلثة وبعد الواو موحدة وبعد
الألف نون ابن بجدد بموحدة فجيم فمهملتين، قال في
«القاموس» : كقعدد مولى رسول الله تقدمت ترجمته (رضي الله
عنه) في باب المجاهدة (عن النبي قال: إن المسلم إذا عاد
أخاه) أي في الاسلام وإن لم تكن أخوة نسب كما يومىء إليه
وصفه بقوله (المسلم لم يزل في خرفة الجنة) قال في
«النهاية» : الخرفة بضم الخاء المعجمة وسكون الراء وبالفاء
اسم ما يخترف من النخل حين يدرك (قيل) لم أر من سمى السائل
(يا رسول الله وما خرفة الجنة) قال القاضي البيضاوي في
«التفسير» «ما» يسأل به عن كل شيء ما لم يعرف، فإذا عرف خص
العاقل بمن
(6/373)
إذا سئل عن تعيينه وإن سئل عن وصفه قيل ما
زيد أفقيه أم طبيب وقال في قوله تعالى: {ادع لنا ربك يبين
لنا ما هي} (البقرة: 68) أي ما حالها وما صفتها وكان حقهم
أن يقولوا أي بقرة هي أو كيف هي لأن «ما» يسأل بها عن
الجنس غالباً، لكنهم لما رأوا ما أمروا به على حال لم يوجد
بها شيء من جنسه أجروه مجرى ما لم يعرفوا حقيقته ولم يروا
مثله اهـ. والخرفة وإن كانت معلومة عندهم إلا أنها لما
أضيفت في الحديث إلى الجنة جهلوا المراد منها فسألوا بما
ذكر (قال جناها) بفتح الجيم وبالنون مقصور، قال في
«النهاية» : هو ما يجني من الثمر وجمعه أجن كعضا وأعص قال
التوربشتى: المعنى إنه بسعيه إلى عيادة المريض يستوجب
الجنة ومخارفها والعيادة لما كانت مفضية إلى مخارف الجنة
سميت بها، وروي «كان له خريف في الجنة» وروي في خرافة
وخروف ومخروف ومخارف الجنة، وروى كان له خريف أي مخروف
(رواه مسلم) في الأدب من «صحيحه» ورواه الترمذي في الجنائز
من «جامعه» وقال. حسن، ثم أشار فيه إلى الاختلاف في رواته.
6899 - (وعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله يقول:
ما من) صلة لتأكيد عموم الاستغراق (مسلم يعود مسلماً غدوة)
بضم المعجمة وبالواو وسكون المهملة بينهما قال في
«المصباح» : هي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس وجمعها غدا
كمدية ومدى (إلاّ صلى عليه سبعون ألف ملك) أي استغفروا له
ودعوا له بأنواع الرحمة مستمرين كذلك (حتى) أي إلى أن
(يمسي) أي يدخل في المساء وهو من زوال الشمس إلى نصف الليل
(وإن عادة عشبة) هو وقرينه منصوبان على الظرفية وهي آخر
النهار، وقيل ما بين الزوال إلى الغروب، قال ابن الأنباري:
العشية مؤنثة: أي تأنيث العشي، قال: وربما ذكرتها العرب
(6/374)
على معنى العشي، وقال بعضهم: العشية واحدة
وجمعها عشي كذا في «المصباح» (صلى عليه سبعون ألف ملك حتى
يصبح) أي يدخل في الصباح وحتى فيه وفيما قبله غاية لمقدر
دل عليه السياق كما أشرت إليه ثم إن كانت إن بمعنى ما
لمقابلتها بها فتقدر إلا وحذفت لدلالة مقابلها عليها
والواو حينئذ عاطفة أو مستأنفة، وإن كانت شرطية فلا تقدير
لها، والجملة جواب الشرط (وكان له خريف في الجنة) كان
يحتمل كونها تامة وخريف فاعلها والظرف المتقدم حال منه
والمتأخر صفته، يحتمل كونها ناقصة والمرفوع اسمها وأحد
الظرفين خبرها والثاني حال أو صفة، والرابط محذوف: أي
بسببه والخريف بوزن الربيع (رواه الترمذي وقال حديث حسن) .
(الخريف التمر المخروف أي المجتنى) قال في «النهاية» فعيل
بمعنى مفعول.
7900 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي) اسمه
عبد القدوس كما قال الجلال البلقيني في مهمات البخاري
(يخدم النبي فمرض، فأتاه النبي وسلم يعوده) فيه جواز عيادة
الكافر (فقعد عند رأسه فقال له) أي عقب قعوده وقدمه على
السؤال عن حاله لأنه الأهم المقدم وخشية أن يبغته الموت
قبل الإسلام فيموت كذلك، ويحتمل أنه بعد السؤال عن ذلك
وكان يسيراً جداً وتعقيب كل شيء بحسب حاله (أسلم، فنظر إلى
أبيه وهو عنده) جملة حالية من المجرور بإلى والرابط كل من
الضمير والواو: أي كالمستشير له في طاعة ما أمر به (فقال:
أطع أبا القاسم، فأسلم) ففيه حلول الأنوار النبوية على
نجاسه فانقلب إبريزاً (فخرج النبي وهو يقول: الحمد لله
الذي أنقذه من النار) ففيه بركة صحبة الصالحين ظهور ثمرتها
دنيا وأخرى (رواه البخاري في الجنائز من صحيحه) .
(6/375)
154 - باب ما يدعى به للمريض
أي بالفعل بصيغة المجهول ليشمل ما يدعو به المريض لنفسه أو
يدعو به له غيره.
1901 - (عن عائشة رضي الله عنه أن النبي كان إذا اشتكى) من
باب الافتعال من الشكاية والتاء للمبالغة (الإنسان الشيء
منه) من عضو ألم به (أو كانت قرحة) بفتح القاف من القرح
وهو الجرح، فقوله (أو جرح) الظاهر أنه شك من الراوي هل
قالت قرحة أو جرح (قال النبي بأصبعه) فيه إطلاق القول على
الفعل (هكذا) وبين كيفية المشار إليه بقوله (ووضع سفيان)
بتثليث السين من أتباع التابعين (ابن عيينة) بضم المهملة
وكسرها (الراوي) أي لهذا الحديث (سبابته) بتشديد الموحدة
الأولى وتخفيف الثانية بعدها فوقية وهي السبحة أي الأصبع
التي تلي الإبهام، سميت بذلك لأنها تستعمل حال التسبيح،
وسبابة لأنها بها يشار إلى الإنسان حال سبه (بالأرض) متعلق
بوضع (ثم رفعها) إن كانت ثم على موضوعها من المهملة ففيه
إيماء إلى طلب إطالة بقاء الأصبع بالأرض والله أعلم بسر
ذلك وإلا فهي فيه بمعنى الفاء (وقال) عطف على قال الأول
(باسم الله) يكتب بالألف بعد الباء وحذفها في مثله من خطأ
الكتاب نبه عليه المصنف في «شرح مسلم» ، لكن حكى الخطابي
المالكي في إعراب الألفية عن السمين جواز الوجهين، والظرف
فيه متعلق بمحذوف دل عليه المقام: أي أداوي باسم الله،
وقوله (تربة) بضم الفوقية وسكون الراء وفتح الموحدة
(أرضنا) أي ترابها مبتدأ، وقال التوربشتي: خبر مبتدأ
محذوف: أي هذه تربة أرضنا، والباء في قوله (بريقة بعضنا)
باء المصاحبة: أي ممزوجة معها وخبر المبتدأ جملة (يشفي)
بالبناء للمجهول ويتعلق به قوله (به) ونائب فاعله قوله
(سقيمنا) والرابط هو الضمير المجرور وذكر لأن التربة بمعنى
التراب، وقوله (بإذن ربنا) أي بأمره محل الحال من الخبر.
والمعنى أنه يحصل الشفاء بإذن الله تعالى بهذا المذكور،
قال
(6/376)
التوربشتي: أمثال هذه الكلمات عسر الوقوف
على معانيها وقصرت الأفهام عن تقرير التناسب بين ألفاظها
ومبانيها لأنها لم توضع للعمل والاستنباط منها بل وضعت
للتلفظ بها تيمناً
وتشفيعاً، وربما وقع شيء من معانيها في القلوب السليمة
الواقعة لاستماع كلام النبوة بمرصاد الأدب والحرمة، وقد
علمنا من غير هذه الرواية أنه كان يبل أنملة إبهامه اليمنى
بريقه ويضعها على الأرض ليلتزف بها التراب ثم يرفعها ويشير
بها إلى السقيم، وذلك معنى قول عائشة بأصبعه. قلت: لكن
صرحت في هذه الرواية بأنها السببابة والله أعلم. قال:
والذي يسبق إلى الفهم من صنعه ذلك ومن قوله تربة أرضنا
إشارة إلى فطرة أول مفطور من البشر، وريقة بعضنا إشارة إلى
النطفة التي خلق الله منها الإنسان كأنه يتضرع بلسان الحال
ويتعرض لفحوى المقال إنك اخترعت الأصل من طين، ثم ابتدعت
نسله من سلالة من ماء مهين فهين عليك أن تشفي من كانت هذه
نشأته وتمن بالعافية على من استوى في ملكك موته وحياته.
فإن قيل إن صحت المناسبة بين التربة وفطرة الإنسان فما وجه
المناسبة بين الريقة والنطفة؟ قلت: هما من فضلات الإنسان
فعبر بإحداهما عن الأخرى وكانت عادته الكناية في مثل ذلك
ونظيره ما جاء في حديث بشير بن الخصاصية «أنه بصق على كفه
ثم وضع عليه أصبعه ثم قال: يقول الله عز وجل: ابن آدم
أتعجزني وقد خلقتك من مثل هذا؟ وأراد بها النطفة» (متفق
عليه) .
2902 - (وعنها أن النبي كان يعود بعض أهله) أي عند مرضه
(يمسح) أي ذلك المعاذ (بيده اليمنى) وبركتها عليه فيستحب
فعل ذلك لمن يتبرك به (ويقول: اللهم ربّ الناس) ربّ منصوب
على أنه منادى ثان، ولا يجوز نصبه عند البصريين على أن
يكون صفة لقوله اللهم: أي يا مربيهم بالنعم والمخرج لهم
إلى الوجود من العدم (أذهب) بهمزة
(6/377)
القطع (الباس) هو في أصله مهموزاً وسهل
بقلب الهمزة ألفا لمناسبة ما قبله: أي الشدة في الحرب
والعذاب (اشف) بوصل الهمزة (أنت الشافي لاشفاء) بفتح
الهمزة (إلا شفاؤك) بالرفع بدل من خبر لا المحذوف أو من
ضميره أو من محل لا مع اسمها، وجملة لا شفاء إلا شفاؤك
معترضة بين الفعل ومفعوله المطلق كالتعليل لسؤال ذلك
(شفاء) مفعول اشف، ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي
هو أو هذا وعليه فالجملة قبله مستأنفة (لا يغادر) بالغين
المعجمة والدال المهملة والراء: أي لا يترك (سقماً)
بفتحتين وبضم فسكون: أي مرضاً، وفائدة التقييد به أنه قد
يحصل الشفاء من ذلك المرض فيخلفه مرض آخر متولد منه مثلاً
فكأنه يدعو بالشفاء المطلق لا بمطلق الشفاء (متفق عليه)
ورواه النسائي أيضاً.
3903 - (وعن أنس رضي الله عنه أنه قال لثابت) بالمثلثة
وبعد الألف موحدة فمثناة فوقية بوزن فاعل وهو البناني بضم
الموحدة ونونين بينهما ألف التابعي الجليل، وقوله (رحمه
الله) جملة خبرية لفظاً دعائية معنى مستأنفة أتى بها دعاء
لثابت (ألا) بفتح الهمزة واللام الخفيفة أداة استفتاح
(أرقيك) بفتح الهمزة (برقية) بضم الراء وسكون القاف اسم
للمرة من الرقي وجمعها رقي كمدية ومدى كذا في «المصباح» .
وفي «فتح الباري» الرقى بضم الراء وبالقاف مقصور جمع رقية
بسكون القاف، يقال رقي بالفتح في الماضي يرقى بالكسر في
المستقبل، واسترقى فلان طلب الرقية والجمع بغير همز وهو
بمعنى التعويذ بالذال المعجمة (رسول الله) أي بما كان يرقى
به. قال القرطبي: فيه دليل على جواز الرقية من كل الآلام
وأنه كان أمراً فاشياً معلوماً بينهم. وفي «فتح الباري»
أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط أن
يكون بكلام الله تعالى أو بأسمائه أو بصفاته وباللسان
العربي أو بما يعرف معناه من غيره وأن يعتقد أن الرقية لا
تؤثر بذاتها بل بتقدير الله تعالى. واختلفوا في كون الأخير
شرطاً والراجح أنه لا بد من اعتبار الشروط الثلاثة. وقال
الربيع: سألت الشافعي عن الرقي فقال: لا بأس أن يرقي بكتاب
الله أو بما يعرف من ذكر الله.
(6/378)
قلت: أيرقي أهل الكتاب المسلمين؟ قال نعم
إذا رقوا بما يعرف من كتاب الله وبذكر الّله، ثم أورد نحوه
عن مالك. وسئل ابن عبد السلام عن الحروف المقطعة فمنع منها
مالا يعرف لئلا يكون كفراً هـ ملخصاً (قال: بلى قال: اللهم
ربّ الناس مذهب الباس) بقلب الهمزة ألفاً لمناسبة ما قبله،
ومذهب يجوز أن يكون منادى أيضاً كما قبله، ويجوز أن يكون
نعتاً لرب، أما على أن رب صفة مشبهة فإضافته كإضافة مذهب
لفظية، وعلى كونه مصدراً فيجعل مذهب بمعنى الدوام والثبوت
فتكون إضافته معنوية، ويجوز كونه بدلاً مطابقاً مما قبله
(اشف) وقوله (أنت الشافي لا شافي
إلا أنت) معترضة كما تقدم فيما قبله (شفاء لا يغادر سقماً،
رواه البخاري) في آخر كتاب المرضى، ورواه أبو داود
والترمذي والنسائي في «اليوم والليلة» .
4904 - (وعن سعد بن وقاص) بفتح الواو وتشديد القاف آخره
مهملة كنية مالك بن أهيب ابن عبد مناف بن زهرة بن كلاب
القرشي الزهري تقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في الكتاب في
باب الإخلاص (قال: عادني رسول الله فقال اللهم اشف سعداً
ثلاث مرات) ظرف لقال: أي كرره ثلاثاً لمزيد الاهتمام
والاعتناء، وقد تقدم أن النبي كان إذا تكلم بالكلمة أعادها
ثلاثاً وفي الحديث «إن الله يحبّ الملحين في الدعاء» رواه
الحكيم الترمذي وابن عديّ والبيهقي في «الشعب» من حديث
عائشة مرفوعاً (رواه مسلم) .j
5905 - (ومن أبي عبد الله عثمان بن أبي العاص) بحذف
التحتية في الأصول على حذف ياء المنقوص المعرف حال الوقف
عليه، وبه قرىء قوله تعالى: {المتعال} ويجوز
(6/379)
إثباتها وتقدم زيادة بيان فيه في ترجمة عبد
الله بن عمرو بن العاص، وعثمان هذا (رضي الله عنه) ثقفى
طائفي صحابي شهير استعمله النبي على الطائف ومات في خلافة
معاوية بالبصرة خرج عنه مسلم والأربعة كذا في «تقريب
الحافظ» ، وزاد المصنف في «التهذيب» أن الصديق وعمر أقراه
على الطائف وأنه أسلم في وقد ثقيف، قال: روى له عن رسول
الله تسعة أحاديث، أخرج له مسلم ثلاثة منها، واستعمله عمر
على عمان والبحرين ثم نزل البصرة قال ابن قتيبة: أقطعه
عثمان بن عفان اثني عشر ألف جريب. قال في «المصباح» بعد
كلام قدمه فحصل من هذا أن الجريب عشرة آلاف ذراع، وعن عبد
الله الكاتب ثلاثة آلاف وستمائة ذراع، وجريب الطعام أربعة
أقفزة قاله الأزهري (أنه شكا إلى رسول الله مرضاً يجده) من
الوجدان أي يحسه في جسده (فقال له رسول الله: ضع يدك) أي
أجعلها موضوعة (على الذي يألم) بفتح التحتية واللام وسكون
الهمزة بينهما: أي يوجع (من جسدك) بيان للذي (وقل) أي مع
وضعها أو عقبه مصاحباً كما يومىء إليه السياق وهو يدفع ما
تصدق به الواو من قوله ذلك قبل الوضع: أي بحضور قلب مع
الربّ ونسيان ما سواه (باسم الله) أي استشفى باسمه
(ثلاثاً) ظرف لقل (وقل) عطف على قل الأول (سبع) ظرف لقل
الثانية (مرات) أي تارات (أعوذ) أعتصم وأتحصن (بعزّة الله)
أي بغلبته (وقدرته) أي صفته الأزلية القادر بها على كل
ممكن (من شر ما أجد) أي من الألم (وأحاذر) أي أحذر
والمغالبة للمبالغة والإتيان بالذكر المذكور ليسرى أثره في
الأعضاء السبعة. قال الطيبي، تعوذ من مكروه ووجع هو فيه
ومما يتوقع حصوله في المستقبل من حزن وخوف فإن الحذر
الاحتراز عن الخوف (رواه مسلم) والأربعة أيضاً.
(6/380)
6906 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن
النبي قال: من عاد مريضاً لم يحضر أجله) أي لم تتم مدة
عمره (فقال: عنده سبع مرات) كلاهما ظرفان للقول والأول
مكاني والثاني زماني (أسأل الله العظيم) والإتيان به لبيان
أنه لا يتعاظم عليه مطلوب لعظمته (ربّ العرش العظيم)
بالجرّ على أنه صفة العرش، وفي نسخة مصححة من «الحصن» لابن
الجزري بنصبه على أنه صفة لربّ (أن يشفيك) بفتح التحتيتين
وهو ثاني مفعول أسأل (إلا عافاه الله) استثناء من «من»
الشرطية العامة كأنه قال: ما عاد أحد مريضاً فقال كذا إلا
عافاه الله والمغالة وللمبالغة: أي أعطاه عافية تامة (من
ذلك المرض) ويشمل الوعد ما ينشأ عنه ففيه عافية من قيل
عنده ذلك من مرضه القائم به ومما يتسبب عنه، ويحتمل أن
يكون قاصراً عليه دون ما ينشأ عنه والله أعلم (رواه أبو
داود والترمذي وقال: حديث حسن) وكذا رواه النسائي وابن
حبان الحاكم في «مستدركه» كما أشار إليه المصنف بقوله
(وقال الحاكم: حديث صحيح على شرط البخاري) أي مرويّ برجال
روى عنهم البخاري في «صحيحه» الحديث الصحيح ورواه أيضاً
ابن أبي شيبة في «مصنفه» .
7907 - (وعنه أن النبي دخل على أعرابيّ) منسوب إلى الأعراب
بفتح فسكون وهم سكان البادية، قال الشيخ زكريا في «التحفة»
: واسمه قيس بن أبي حازم بالمهملة والزاي (يعوده وكان إذا
دخل على من يعوده) قال: وفي رواية البخاري فقال له بزيادة
الفاء أوله
(6/381)
والظرف بعده (لا بأس) بالهمزة على أصله
ويجوز تسهيله ألفاً، وقد أجاز السوسى إبداله وإبدال مثله
ألفاء مطلقاً وهمزة عند الوقف (طهور) بفتح أوله ويجوز ضمه
وهو مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف: أي هذا: أي مرضك مطهر
لذنبك مكفر لعيبك واقتصر عليه لكونه الأكثر، وإلا فقد يكون
أيضاً سبباً لرفع الدرجات في العقبى أو لعلوّ المقامات
فيها في الدنيا لأن الرياضيات تنتج الحالات والكشوفات (إن
شاء الله تعالى) أي إن تعلقت المشيئة بتطهيره بذلك، وجملة
«كان» حالية من فاعل دخل والجملة الشرطية في محل نصب خبر
كان، وقد أورده ابن الجوزي في «الحصن» مكرراً، وعزاه
لتخريج البخاري والنسائي وهو في باب العيادة من البخاري
بلا تكرار فلعله للنسائي (رواه البخاري) .
8908 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن جبريل أتى
النبي فقال: يا محمد) في ندائه باسمه إيماء إلى أن الخطاب
بقوله تعالى: {لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم
بعضاً} (النور: 63) متوجه للمكلف من الثقلين (اشتكيت) لعل
التاء فيه للمبالغة في الشكوى. كما يومىء إليه حديث «أشد
الناس بلاء الأنبياء (قال نعم) فيه جواز الإخبار بالمرض
على طريق بيان الواقع من غير تضجر ولا تبرم (قال باسم
الله) قدمه على متعلقه وهو قوله (أرقيك) بفتح الهمزة وكسر
القاف اهتماماً واختصاصاً كما في بسم الله مجراها، وعلق به
أيضاً قوله (من كل شيء يؤذيك) أي يوصلك إلى المكروه، ثم
بين إبهام شيء بقوله (من شرّ كل نفس) خبيثة أمارة بالسوء
ولا ينافي هذا قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس}
(المائدة: 6) بفرض تأخره عنه لأن الذي عصم منه هو إزهاق
الروح ونحوه لا مطلق الإيذاء، لأنه لم يزل يؤذي إلى آخر
حياته زيادة في إعلاء رتبه وتشريفاً للسالكين
(6/382)
سننه من بعده من أمته (أو) الظاهر أنها
بمعنى الواو، وإنما ذكر هين مع أن المراد ما يعمهما
وغيرهما لبيان أخص أنواع الأذى وحينئذ يصح بقاء «أو» على
حالها إشارة إلى أن الأخص أحد هذين (عين كل حاسد) عدل إليه
عن معيان الذي هو القياس، إذا لا يلزم من الحاسد أن يكون
معياناً إشارة إلى أن الغالب أن المعيان لا تؤثر عينه إلا
بعد استحسان الشيء في نفسه الخبيثة حسداً لصاحب ذلك الشيء.
وقال المصنف في «شرح مسلم» : قيل يحتمل أن المراد بالنفس
نفس الآدمي. ويحتمل أن المراد بها العين فإن النفس تطلق
عليها، ويكون قوله أو عين حاسد من باب التوكيد بلفظ مختلف
أوشك من الراوي في لفظه اهـ. ويحتمل أن يكون الظرف بدلاً
من قوله من شيء ما بدل بعض من كل، ويحتمل أن يكون متعلقاً
بقوله يؤذيك ومن فيه حينئذ للابتداء (الله يشفيك) بفتح
التحتية كما تقدم قريباً (باسم الله أرقيك) كرره تأكيداً
تنبيهاً على أن الرقي لا تنبغي أن تكون إلا
بأسماء الله وأوصافه وذكره، فببركة ذلك يرتفع ما يؤذن في
رفعه من الضرر (رواه مسلم) .
9909 - (وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما: أنهما
شهدا على رسول الله أنه قال: من قال لا إله إلا الله والله
أكبر صدقه ربه) وبين كيفية تصديقه بقوله على سبيل عطف
البيان والتفسير (فقال: لا إله إلا أنا وأنا أكبر) أي
فإتيانه تعالى بمثل ما قال العبد بمعناه تصديق له (وإذا
قال) أي الشخص المدلول عليه بأداة الشرط (لا إله) أي لا
معبود بحق في الوجود (إلا الله وحده) منفرداً في ذاته وفي
أوصافه (لا شريك له) أي في ملكه ولا في فعله (قال) أي الله
مصدقاً له نظير ما قبله (لا إله إلا أنا وحدي لا شريك لي،
وإذا قال لا إله إلا الله له) دون غيره (الملك) بضم الميم:
أي التصرف والقهر وكل ملك مالك ولا عكس، وهو بمعنى قوله
فيما قبله لا شريك له (وله) دون غيره (الحمد) إذ هو الثناء
على الجميل الاختياري، وهو الفاعل لجميع ذلك الموجد له،
والموجد على يده إنما هو مظهر فعله سبحانه، فعاد جميع
الحمد إليه وقصر عليه كما يؤذن به تقديم ما حقه التأخير
فيهما (قال)
(6/383)
أي الله عزّ وجل مصدقاً لعبده (لا إله إلا
أنا لي الحمد ولي الملك، وإذا قال: لا إله إلا الله ولا
حول ولا قوة إلا بالله) عطف جملة الحوقلة على جملة التوحيد
وذلك لتلازمهما وعدم انفكاك مضمون كل منهما عن مضمون
الآخر، إذ الممكن لا بد له من موجد ومنه الحول والقوة،
وليس ذلك الموجد إلا إله، فإذا لم يكن الإله إلا هو سبحانه
وتعالى فيلزم أن لا حول ولا قوة لغيره (قال) أي الله (لا
إله إلا أنا ولا حول ولا قوة إلا بي) ثم الذي وقفت عليه في
الأصول ضبط «حول» و «قوة» فيهما بالفتح على إعمال «لا»
فيهن وكأنه لأنه الرواية (وكان) يعني النبي وهو عطف على
قال فيكون من جملة ما حكياه (يقول من قالهن في مرضه ثم
مات) أي فيه (لم تطعمه) بفتح الفوقية والمهملة (والنار)
وهذا كناية
من عدم دخوله إليها، ثم يحتمل أن يراد لا يدخلها دخول
تخليد وتأبيد، ويحتمل أن يتسبب عنه بفضل الله تعالى من حسن
الخاتمة ما يدخل به قائله الجنة مع الفائزين وهو المتبادر
من متن الحديث (رواه الترمذي) في الدعوات من «جامعه»
(وقال: حديث حسن) ثم أشار إلى أن شعبة قد رواه عنهما بنحوه
ووقفه عليهما.
146 - باب استحباب سؤال أهل المريض عن حاله
وذلك لما فيه من العناية بحال المريض والاحتفال بأمره
وإدخال السرور عليه.
1 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليّ بن أبي طالب رضي
الله عنه خرج من عند رسول الله في وجعه الذي توفي فيه فقال
الناس: يا أبا الحسن كيف أصبح رسول الله؟) يؤخذ منه
استحباب السؤال عن حال المريض إذا عسر الوصول إليه لعارض
(6/384)
كغلبة مرض أو شرب دواء فيسن سؤال أهله
حينئذ عن حاله، قال ابن حجر الهيتمي: وهذا الندب وإن لم
يصرح به أصحابنا لكنه ظاهر المعنى لأن المريض إذا بلغه ذلك
سرّ به (قال: أصبح بحمد الله) أي متلبساً بحمد الله
(بارئاً) اسم فاعل من البرء خبر بعد خبر أو حال ضمير أصبح
ويجوز عكسه، والمعنى قريباً من البرء بحسب ظنه، أو للتفاؤل
أو بارئاً مما يعتري المريض من قلق وغفلة. وفيه أن ينبغي
لمن يسأل عن حال المريض أن يجيب بمثل ما ذكره فيه مما يشعر
برضا المريض بما هو فيه عن الله تعالى، وأنه مستمرّ على
حمده وشكره لم نغيره عنه شدة ولا مشقة، وبما يؤذن بخفة
مرضه وقرب عافيته: قال ابن حجر أيضاً: وهذا وإن لم يصرح به
أصحابنا لكنه واضح (رواه البخاري) في الاستئذان، وأخرجه في
المغازي أيضاً من وجهين وزاد بعد بارئاً، فقال العباس:
«والله إني لأرى رسول الله سيتوفى من وجعه هذا، وإني لأعرف
وجوه بني عبد المطلب عند الموت» الحديث.
147 - باب ما يقوله من أيس
بالبناء للفاعل (من حياته) أي بظهور علامات الموت التي لا
يتخلف عنها عادة.
1911 - (وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله)
وفي نسخة: (وهو مستند إلى) جملة حالية من مفعول سمعت وجملة
(يقول) يصح كونها حالاً منه أيضاً أو من مجرور إلى فهي
مترادفة أو متداخلة (اللهم اغفر لي) وهذا منه خضوع لمقام
الربوبية وإلا فهو معصوم من جميع الذنوب، أو تشريع للأمة
وتنبيه على أن حق مثل هذا المطلب ألا يغفل عنه المستيقظ
حالتئذ لأنها حالة الانتقال وساعة الارتحال (وارحمني)
ورحمة كل
(6/385)
شيء بحسب ما يليق به، فأعظم الرحمات ما
منحه نبيه مما لا يحيط به بيان، وظاهر أن الرحمة فيها مجاز
مرسل تبعي، وقد صرح العصام بأنه كما توصف الاستعارة
بالتبعية وهي ما كان في الحرف أو المشتق يوصف به المجاز
المرسل، قال: ومنه قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة}
(المائدة: 6) أي إذا أردتم القيام إليها (وألحقني) بقطع
الهمزة (بالرفيق الأعلى) قيل المراد به الملائكة المقرّبون
والعباد الصالحون بالمعنى الأعمّ وهو الوجه الأتم المناسب
لما جاء في قول يوسف {توفني مسلماً وألحقني بالصالحين}
(يوسف: 101) وفي السلاح لابن همام: هم الأنبياء والصديقون
والشهداء والصالحون المذكورون في قوله تعالى: {وحسن أولئك
رفيقاً} (النساء: 69) ويؤيده ما جاء في الحديث الصحيح
مبيناً «فجعل يقول مع الذين أنعمت عليهم من النبيين
والصديقين» الخ. والحديث يفسر بعضه بعضاً اهـ. قال القاري
عن بعضهم: وهو المعتمد، ومعنى كونهم رفيقاً بقاؤهم على
طاعة الله تعالى وارتفاق بعضهم ببعض، ونكتة إفراد هذه
الكلمة الإشارة إلى أن أهل الجنة يدخلونها على قلب رجل
واحد. وقيل معناه: الإلحاق بالله تعالى فإن من أسمائه
الحسنى الرفيق، والمراد بالأعلى الموصوف به أعلى علوّ
المكانة لا المكان. قال في الحرز وهذا هو الأنسب بالمصطفى
آخر كلامه في طلب المولى كما أنه أول من قال بلى في جواب
ألست بربكم في الميثاق الأعلى (متفق عليه) ورواه الترمذي
والإسماعيلي وابن حبان.
2912 - (وعنها قالت: رأيت رسول الله وهو بالموت) أي متلبس
بمقدماته (وعنده قدح فيه ماء) الجملتان الأوليان حالان من
مفعول رأيت والثانية حال من الأولى، وأما قوله فيه ماء فهي
في محل الصفة للمبتدأ إن أعرب الظرف خبراً مقدماً وما
مبتدأ مؤخراً، فإن
(6/386)
أعرب الظرف صفة فماء فاعله (وهو يدخل يده
في القدح ثم يمسح وجهه بالماء) الذي بيده من القدح وذلك
للحرارة التي يجدها من مزاولة ما كان فيه (ثم يقول: اللهم
أعني على غمرات) بفتح المعجمة والميم كسجدة وسجدات: أي
شدائد (الموت) التي هي لشدتها تكاد تغمر: أي تغطى عليه
وتستره (وسكرات) بفتح أوليه أيضاً (الموت) كذا هو في
الأصول وسكرات بالواو: أي شدائد مقدماته التي يقوي على
الروح حتى يغيبها عن إدراكها وقد صح «أنه كان يعمى عليه من
مرض موته» وقد ألف الشيخ محمد البكري رسالة سماها «القول
الأجلّ في حكمة كرب المصطفى عند حلول الأجل» لخصناها في
«شرح الأذكار» (رواه الترمذي) وكذا رأيته في الجنائز من
«جامعه» في أصلين مصححين ثم رأيته في المشكاة بلفظ «أعنى
على منكرات الموت أو سكرات الموت» وقال: رواه الترمذي وابن
ماجه ولعله لفظ ابن ماجه، وعزوه للترمذي باعتبار أصل
الحديث، وسكت المصنف عن نقل قول الترمذي في رتبة الحديث
على خلاف عادته سهواً، قال الترمذي: هذا حديث غريب.
148 - باب استحباب وصية أهل المريض
مصدر مبني للمفعول مضاف إليه: أي أن يوصوهم (ومن يخدمه
بالإحسان إليه) بلين الكلام وإظهار البشر وإعطائه المطلوب
(واحتماله) على ما قد يوقعه فيه المرض من سيء الكلام
(والصبر على ما يشقّ من أمره وكذا الوصية بمن قرب سبب موته
بحد) نحو زنا (أو قصاص ونحوهما) الأولى ونحوه لأن العطف
فيما قبله بـ «و» وهي لأحد الشيئين.
1913 - (عن عمران بن حصين) بضم المهملة وفتح الثانية وسكون
التحتية (رضي الله عنها أن امرأة) لم أقف على من سماها وهي
واحدة نسوة من معناها (من جهينة) بضم
(6/387)
الجيم وفتح الهاء والنون وسكون التحتية
بينهما: وعند مسلم في رواية «من غامد» قال المصنف في شرحه:
وغامد بالغين المعجمة وبعد الألف ميم فدال مهملة. بطن من
جهينة (أتت النبي وهي حبلى من الزنى) من فيه ابتدائية أو
تعليمية (فقالت: يا رسول الله أصبت حداً) أي موجبه
ومقتضيه. ففيه مجاز مرسل من إطلاق الملزوم وإرادة اللازم
(فأقمه على) وذلك لتبالغ في تطهير نفسها من دنس ذلك الذنب
الذي تطهرت منه بالتوبة إذ لولاها لما سمحت بنفسها (فدعا
نبي الله وليها) أي قريبها القائم عليها (فقال: أحسن
إليها) أمره بذلك للخوف عليها منه لما أن العار يلحقهم من
الغيرة ولحوق العار بهم ما يحملهم على أذاها، فأوصى بها
تحذيراً من ذلك، ولمزيد الرحمة بها لأنها تابت وحرض على
الإحسان إليها لما في قلوب الناس من النفرة من مثلها
وإسماعها الكلام المؤذي، فنهى عن ذلك كله كما أشار إليه
المصنف (فإذا وضعت فأثنى بها) إنما وجه الأمر إليه بذلك
ليحمله على الاهتمام بحفظها ودفع الموبقات عنها (ففعل) أي
الرجل (فأمر بها النبي) أي بعد استغناء ولدها عنها (فشدت)
وفي رواية النسائي وابن ماجه «فشكت» بالكاف بدل الدال
(عليها ثيابها) لئلا ينكشف شيء من بدنها عند رجمها (ثم أمر
بها فرجمت) وهي معنى قوله في رواية النسائي فرجمها، ويحتمل
أنه ابتدأ بالرجم فرجمها الناس بعد فيكون كل من الروايتين
بعض ما وقع. وفيه دليل على أن ذلك موقوف على إذن الإمام
فيه فمن افتات فيه عليه عزر (ثم صلى عليها) وعلل ذلك في
«صحيح مسلم» بأنها «تابت توبة لو قسمت على أهل المدنية
لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل» .
وفيه الصلاة على المقتول حداً وأن الحد طهرة له من دنس
الذنب (رواه مسلم) في الحدود ورواه أبو داود
والترمذي في الحدود، وقال الترمذي: صحيح أيضاً، ورواه
النسائي في الجنائز وفي الرجم، والحديث مر شرحه بكماله في
باب التوبة.
(6/388)
باب جواز قول المريض
أنا وجع
بكسر الجيم: أي مريض متألم كما في «المصباح» اسم فاعل من
وجه من باب علم (أو شديد الوجع) بفتح أوليه من إضافة الصفة
إلى الموصوف (أو موعوك) أي محموم (أو وا رأساه) هو مندوب
والمندوب المنادى المتفجع عليه نحو واعمراه، أو المتوجع
منه نحو وارأساه والهاء فيه للوقف فإن وصلت حذفتها، ويجوز
إثباتها في الضرورة، ويجوز حينئذ كسرها على أصل التخلص من
التقاء الساكنين وضمها وتشبيهاً بهاء الضمير (ونحو ذلك،
وبيان أنه لا كراهة في ذلك إذا لم يكن على وجه التسخط) أي
تكلف السخط مما نزل به وكأنه أشار بذلك إلى أن من شأن
المؤمن ألا يبدو منه غضب امتحان المولى سبحانه له، وأن ما
يظهر منه على بغض كأنه تكلف صدر عن غير سجيته (وإظهار
الجزع) وفي تعبير المصنف بالجواز أولاً وعدم الكراهة
ثانياً إيماء إلى أن الأفضل والأعلى الصبر على ما نزل به
وعدم إبرازه وإظهاره وما فعله المصطفى فهو على وجه التشريع
وبيان جوازه كما فعل التداوي لذلك وإن كان تركه توكلاً
أعلى وأغلى.
1914 - (وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: دخلت على النبي
وهو بالبناء للمفعول: أي وعك الحمى (فمسته) بكسر المهملة
الأولى وجاء أيضاً بفتحها من باب قتل: أي أفضيت إليه بيدي
من غير حائل، كذا قيدوه، قاله في «المصباح» (فقلت إنك
لتوعك) بالبناء للمفعول (وعكاً) بسكون العين المهملة مصدر
مبني للمفعول (شديداً) وعرف ذلك بما أصاب يده عند مسه جسده
(قال أجل) بفتح الجيم وسكون اللام قال في «القاموس» حرف
جواب كنعم إلا أنه أحسن منه في التصديق ونعم أحسن منه في
الاستفهام اهـ (كما يوعك رجلان منكم) وذلك زيادة في درجته
وإعلاء رتبته كما صرح به في الحديث «فقلت ذلك أن لك أجرين،
فقال رسول الله أجل» الحديث، وسكت عنه المصنف
(6/389)
لعدم تعلق غرض الترجمة به (متفق عليه)
أخرجه البخاري في الطب ومسلم في الأدب وكذا رواه فيه
النسائي، وقد سبق الحديث مشروحاً في باب الصبر.
2915 - (وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه) سبقت ترجمته في
باب الإخلاص (قال جاءني رسول الله يعودني من وجع اشتد بي)
وكان ذلك بمكة عام حجة الوداع كما صرح به البخاري في رواية
له في أبواب الهجرة (فقلت: بلغ بي ما ترى) يحتمل أن يكون
«ما» فاعل بلغ ويكون المفعول محذوفاً، ويحتمل كونها
مفعولاً به والفاعل مستتر يعود إلى الوجع المدلول عليه
بالمشاهدة (وإناذو) أي صاحب (مال) أي عظيم كما يومىء إليه
إضافة ذو الأبلغ من «صاحب» إليه (ولا ترثني إلا ابنتي)
لعلها ابنته عائشة التي روى البخاري الحديث من طريقها عنه
في باب المرضى (وذكر الحديث) وفيه الإذن بالوصية بالثلث
والإيماء إلى طلب النقص منه وشاهد الترجمة من الحديث إقرار
النبي سعداً على قوله بلغ بي ما ترى، ولو كان منهياً عنه
ولو تنزيهاً لنهاه كما نهى بشيراً عن تخصيص ولده النعمان
بعطية وعن باقي إخوته بامتناعه عن الشهادة على ذلك وقوله
لا أشهد على جور (متفق عليه) رواه البخاري في الجنائز
والهجرة والمغازي والطب والدعوات والفرائض قاله المزي،
وتعقبه الحافظ ابن حجر بأنه لم يجده فيه وإنما وجده في
كتاب الإيمان باختصار اهـ. ورواه مسلم في الوصايا، وكذا
رواه فيه أبو داود والترمذي، وقال الترمذي: حسن صحيح ورواه
فيه النسائي وابن ماجه في الوصايا.
(6/390)
3916 - (وعن القاسم بن محمد) بن أبي بكر
الصديق القرشي التيمي، قال الحافظ: هو ثقة وهو أحد الفقهاء
بالمدينة، قال أيوب: ما رأيت أفضل منه وهو من الثالثة: أي
من كبار التابعين مات سنة ستّ ومائة على الصحيح خرّج عنه
أصحاب الستة، وقد نظم بعض المتقدمين أسماء فقهاء المدينة
السبعة فقال:
ألا كل من لا يقتدي بأئمة
فقسمته ضيزي عن الحق خارجه
فخذهم عبيد الله عروة سالم
سعيد أبو بكر سليمان خارجه
وقد نظمت أسماءهم أيضاً فقلت:
عبيد الله خارجة وعروه
أبو بكر سعيد ثم سالم
سليمان همو فقهاء طيبة
بعد التابعين أولى المكارم
(قال: قالت عائشة رضي الله عنها وارأساه، فقال النبي: بل
أنا وارأساه) فيه دليل الترجمة في موضعين: الأول من
المرفوع والثاني من الموقوف على عائشة كما تقدم في نظيره
من قول سعد من إقرره (وذكر الحديث، رواه البخاري) في كتاب
المرضى.
150 - باب استحباب تلقين المحتضر
بالبناء للمفعول: أي من حضره الموت (لا إله إلا الله)
ليكون آخر كلامه فيفوز بالوعد المرتب عليه، واستغنى المصنف
بما أورده من الأحاديث الدالة على استحبابه عن التصريح به.
1917 - (عن معاذ رضي الله عنه قال: قال النبي من كان آخر
كلامه) بالنصب خبر كان
(6/391)
مقدماً واسمها قوله (لا إله إلا الله) لأنه
أريد بها لفظها فصارت كلمة، بل إسماً وعلماً، ويجوز العكس
(دخل الجنة) أي بعد التعذيب إن عذب، ففيه الوعد بموت قائل
ذلك على الإسلام، ويحتمل أن يراد دخلها ابتداء مع
الفائزين، ويؤيده حديث أبي يعلى الآتي وهذا ما استظهره
عياض (رواه أبو داود والحاكم) في «المستدرك» (وقال صحيح
الإسناد) ورواه: أحمد في «الجامع الكبير» للسيوطي، وأخرجه
الطبراني في «الأوسط» من حديث علي ابن أبي طالب «من كان
آخر كلامه لا إله إلا الله لم يدخل النار» وأخرجه أبو يعلى
وابن عساكر في «تاريخه» من حديث «من كان آخر كلامه عند
الموت لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدمت ما كان قبلها
من الذنوب والخطايا» وبيض في «الجامع» لصحابيه في
روايتهما.
2918 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول
الله لقنوا موتاكم) أي الآيلين إلى الموت فسماهم بذلك
مجازاً مرسلاً أو لأنهم صاروا في حكم الأموات، وقد اقتصر
عليه التوربشتي، وأجاز في حديث «اقرءوا على موتاكم يس»
حمله على ذلك وعلى حقيقته فتقرأ عليه بعد موته في بيته
ومدفنه (لا إله إلا الله) وجرى قوم على حقيقة اللفظ وعليه
أصحابنا وجمع من الأئمة، فاستحبو التلقين بعد الموت وبعد
الدفن، وقد ألف فيه الحافظ السخاوي مؤلفاً نفيساً (رواه
مسلم) وأحمد والأربعة كلهم في حديث أبي سعيد ورواه مسلم
وابن ماجه عن أبي هريرة والنسائي عن عائشة كذا في «الجامع
الصغير» . قال السخاوي في مؤلفه في التلقين: وهو عند ابن
حبان من حديث أبي هريرة، وفيه من الزيادة قوله «فإنه من
كان آخر كلامه عند الموت لا إله إلا الله دخل الجنة يوماً
من الدهر وإن أصابه قبل ذلك ما أصابه» وعند الطبراني من
حديث ابن عباس مرفوعاً «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله،
فإنه ليس من مسلم يقولها عند الموت إلا نجته» وجاء كذلك من
طرق عديدة وهو مؤيد لحمل الموتى على المشارفين له، ومن
جملة من حمله على ذلك من الشافعية العزّ بن عبد السلام في
«فتاويه» . قال العراقي في «شرح الترمذي» في قوله لقنوا
موتاكم: هل الأولى حمله على الحقيقة
(6/392)
فيكون المراد به تلقين الميت بعد الموت لأن
إطلاق اسم الميت عليه قبل موته مجاز والحقيقة مقدمة على
المجاز أو الأولى حمله على المجاز لما دل عليه لفظ حديث
أبي هريرة عند ابن حبان «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله
دخل الجنة» فإن هذا يدل على تلقين المحتضر وهو قرينة صارفة
للفظ عن الحقيقة وعليه حمله المصنف: يعني الترمذي وغيره
اهـ. ومعتمد مذهب الشافعية التلقين بعد الموت كما نقله
المصنف في «المجموع» عن جماعة من الأصحاب. قال السخاوي:
وممن نص على استحبابه القاضي حسين والمتولي والشيخ نصر
المقدسي والرافعي وغيرهم، ونقل حسين عن أصحابنا
مطلقاً، وقال ابن الصلاح، هو الذي نختاره ونعمل به، قال
السخاوي وقد وافقنا المالكية على استحبابه أيضاً، وممن صرح
به منهم القاضي أبو بكر بن العربي قال: وهو فعل أهل
المدينة والصالحين والأخيار، وجرى عليه العمل عندنا
بقرطبة. وأما الحنفية فاختلف فيه مشايخهم كما في المحيط من
كتبهم، وكذا اختلف فيه الحنابلة اهـ. ملخصاً.
151 - باب ما يقوله بعد تغميض الميت
1919 - (وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله
أبي سلمة) هو عبد الله بن عبد الأسد المخزومي الصحابي
الجليل (وقد شقّ بصره) قال التوربشتي: بفتح الشين وضم
الراء إذا نظر إلى شيء لا يرتد إليه طرفه، وضم الشين منه
غير مختار. قال ابن السكيت: ولا يقال شق الميت بصره، وقد
اختصر في هذا المقام لكنه بسطه المؤلف فقال في «شرح مسلم»
هو بفتح الشين، ورفع بصره فاعل على شق، كذا ضبطناه وهو
المشهور وضبطه بعضهم بضره بالنصب وهوصحيح أيضاً والشين
مفتوحة بلا خلاف. قال القاضي: قال صاحب الأفعال: يقال شق
بصر الميت وشق الميت بصره ومعناه شخص كما في الرواية
الأخرى. وقال ابن السكيت في الاصطلاح والجوهري حكاية عن
ابن السكيت: يقال شق بصر الميت ولا يقال شق الميت بصره وهو
الذي حضره الموت وصار ينظر إلى الشيء لا يرتد إليه طرفه
(فأغمضه) لئلا يتشوه منظره (ثم قال: إن الروح إذا قبض)
بالبناء
(6/393)
للمفعول (تبعه البصر) أي إذا خرج الروح من
الجسد تبعه البصر ناظراً أين نذهب. قال الحافظ: وفي فهم
هذا المقام دقة لأن البصر إنما يبصر ما دام الروح في
الجسد، فإذا فارقه تعطل كغيره من الإحساس، والذي ظهر لي
فيه بعد النظر ثلاثين عاماً أنه محمول على أن المراد خروج
الروح من أكثر الجسد مع بقائه في الرأس والعين، فإذا خرج
الأكثر من الفم ولم يخرج الباقي نظر البصر إلى القدر
الخارجي فيكون معنى قوله إذا قبض أخذ في القبض ولم ينته،
أو على ما ذكر كثير من العلماء من أن للروح
اتصالاً بالبدن وإن خرجت فترى وتسمع وترد السلام، فيكون
هذا الحديث من أقوى الأدلة لذلك اهـ ملخصاً. وفيهما نظر
إذا الأول مجاز والثاني إنما فيه بقاء إدراك حاسة البصر
الذي الكلام فيه وفي شرح المنهاج لابن حجر الهيتمي يحتمل
أن المراد من قوله تبعه البصر أن القوة الباصرة تذهب عقب
خروج الروح فحينئذ تجمد العين ويقبح منظرها، ويحتمل أنه
يبقى فيه عقب خروج الروح شيء من البخار الغريزي فيشخص بذلك
ناظراً إلى أين تذهب. ولا بعد في هذا لأن حركته حينئذ
قريبة من حركة المذبوح، ويحكم على الإنسان مع وجودها بسائر
أحكام الموتى اهـ. والأول من وجهية أقرب، وقد سبقه إليه
التوربشتي في «شرح المصابيح» ، وعلل الإغماض بوجه آخر
فقال: ولذا أغمض لذهاب فائدة الانفتاح بذهاب البصر عند
ذهاب الروح، وذكر احتمالاً ثانياً هو أن من حضره الموت
ينظر إلى روحه نظر شزر لا يرتد إليه طرفه حتى تضمحل بقية
القوة الباقية بعد مفارقة الروح الإنساني الذي يقع به
الإدراك والتمييز دون الحيواني الذي به الحس والحركة وغير
مستنكر من قدرة الله تعالى أن ينكشف عنه الغطاء ساعتئذ حتى
يبصر ما لم يكن يبصر، وهذا الوجه في حديث أبي هريرة أظهر،
وهو أيضاً صحيح أخرجه مسلم في «صحيحه» عنه مرفوعاً «ألم
تروا أن الإنسان إذا مات شخص بصره، قالوا بلى؟ قال فذلك
حين يتبع بصره نفسه» اهـ (فضج) بفتح الضاد المعجمة وتشديد
الجيم أي رفع الصوت بالبكاء وصاح (ناس من أهله) من هول ما
سمعوا ووقع منهم دعاء على أنفسهم كما أومأ إليه بقوله
(فقال لا تدعو على أنفسكم
(6/394)
إلا بخير) أي لا يقل أحدكم ويلي أو الويل
أو الشرّ لي أو نحو ذلك، وقيل معناه: لا تدعوا على الميت
بما لا يرضاه فترجع تبعته عليكم والأول بدليل قوله (فإن
الملائكة) أي الحاضرين حينئذ (يؤمنون) بتشديد الميم: أي
يقولون آمين: أي استجب (على ما تقولون) أي من الدعاء
ودعاؤهم مجاب لما لهم من علوّ الاقتراب فلا تدعوا: إلا بما
تحبون أن
تجابوا إليه (ثم قال: اللهم اغفر لأبي سلمة) ذكره بكنيته
دون اسمه وهو عبد الله لأنه اشتهر بها (وارفع درجته) وهذا
أحسن ترتيب لأن الأول من باب التخلية بالمعجمة والثاني من
باب التحلية بالمهملة، وفيه أن الأوزار تتقاعد بصاحبها عن
رفعة المنار والمراد واجعل له درجة علية عندك (في
المهديين) بتشديد الياء الأولى: أي الذين هداهم الله
بالإسلام سابقاً والهجرة إلى خير الأنام لاحقاً، والظرف في
محل الحال من الضمير المضاف إليه لكون المضاف إليه كجزئه:
أي ارفع درجته حال كونه منغمراً في عداد المهديين
المشرّفين بالاهتداء (واخلفه) بوصل الهمزة وضم اللام: أي
كن له خلفاً وخليفة (في عقبه) بفتح فكسر: أي فيمن يعقبه من
ولد وغيره (في الغابرين) بالمعجمة فالموحدة: أي الباقين
بدل بإعادة العامل، ويحتمل كونه حالاً مما قبله (واغفر
لنا) هذا من باب الخضوع لمقام الربوبية كما تقدم أو هو
مجاز عن إعلاء الرتبة من ذكر اللازم وإرادة الملزوم (وله)
وقوله (يا ربّ العالمين) مناسبة ختم الدعاء به واضحة إذ من
كان موجداً للعالم ماكلاً أمورهم مصلحاً شؤونهم هو الذي
يطلب منه ذلك، والعالمين بفتح اللام اسم جميع عالم لاجمعه
لاختصاص عالمين بأولى العقول من إنس وجن وملك وشمول عالم
لما سوى الله تعالى من سائر الأجناس، والجمع لا يكون أخص
من مفرده، وقيل جمعه مراداً به العموم للعقلاء وغيرهم وغلب
العقلاء لشرفهم، وعلى الأول ابن مالك في آخرين (وافسح)
بهمزة وصل وفتح المهملة الأولى: أي أوسع (له في قبره) يقال
فسحت له فسحاً من باب نفع فرجت له عن مكان يسعه كذا في
«المصباح» (ونور) أي أوجد النور العظيم المتكاثف (له فيه،
رواه مسلم) .
(6/395)
152 - باب ما يقال (باب ما يقال) للمفعول
عند الميت بالبناء للمفعول أي ما يطلب قوله من كل حاضر
(عند الميت) من قريب وغيره
(وما يقوله من مات له ميت)
1920 - (عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله:
إذا حضرتم المريض) أي المحتضر كما يومىء إليه السياق، وشك
الراوي فيه وفي الميت المشار إليه بقوله (أو الميت) أي من
فارق الروح جسده كما هو الحقيقة، وقال في «فتح الإله» :
المراد منه هو الأول نظير ما في حديث «لقنوا موتاكم» فجعله
من مجاز المشارفة» ومن مجاز الأول (فقولوا خيراً) أي لا
إله إلا الله مع الإتيان بالدعاء بخير له أولكم كما يدل هل
ما جاء في أحاديث طلب الدعاء في العيادة السابق بعضها،
وقوله (فإن الملائكة) أي الموظفين بالاستغفار للمؤمنين
وللتأمين على دعائهم (يؤمنون) من التأمين: أي يقولون آمين
(على ما تقولون) أي من الدعاء (قالت: فلما مات أبو سلمة)
وذلك سنة ثلاث أو أربع، وقول ابن عبد الله: إن النبي تزوّح
أم سلمة سنة اثنتين من الهجرة بعد وفاة زوجها، رده في
«المفهم» نقلاً عن أبي محمد عبد الله بن على الرشاطى بأنه
وهم شنيع، قال: فإن أبا سلمة شهد أحداً وكانت في شوال سنة
ثلاث فجرح فيها جرحاً فاندمل ثم انتقض فتوفي منه لثلاث
خلون من جمادى سنة أربع، وقد ذكره ابن عبد البرّ في كتابه
«الاستيعاب» على الصواب (أتيت النبي فقلت: يا رسول الله إن
أبا سلمة قد مات، قال) حذف العاطف لأن مرادها الإخبار بما
قال من غير قيد اتصال أو انفصال (قولي: اللهم اغفر لي وله)
فيه البداءة بالنفس في الدعاء (وأعقبني) بقطع الهمزة: أي
أبدلني وعوضني (منه) أي بدله (عقبى) بوزن بشرى اسم مصدر
أعقب (حسنة) أي بدلاً صالحاً (فقلت) أي ما أمرني به
(فأعقبني الله من هو خير لي منه) أبدلت «من» من قولها
(محمداً) ففيه حصول ثمرة الامتثال بسرعة من غير توان (رواه
مسلم
(6/396)
هكذا) أي مثل ما ذكر (إذا حضرتم المريض أو
الميت على الشك) وقد تعقب القاري في شرح المشكاة الجزم
بالشك، وقال إن أريد بالميت من يؤول إلى الموت فأو للشك
وإن أريد به الحقيقة: أي المقابل للحي فأو للتنويع اهـ.
والأوجه كما
جزم به المصنف إنها للشك. وقد يجاب عنه بأنه قام ما يعلم
منه أن المراد بالميت المعنى المجازي فيساوي المريض والشك
حينئذ في تعيين أي اللفظين منهما قيل ويقوي أنه لفظ الميت
قول المصنف (رواه أبو داود) في الجنائز (وغيره) من باقي
أصحاب السنن الأربعة كما ذكره المزي قال: وقال الترمذي:
حسن صحيح، قال الحافظ في تخريج أحاديث «الأذكار» ، وأخرجه
كذلك البيهقي في طريقين (الميت بلا شك) قال الحافظ في
تخريج أحاديث «الأذكار» : ورويناه في الغيلانيات مقتصراً
على المريض من غير شك.
2921 - (وعنها قالت سمعت رسول الله يقول: ما من) مزيدة
للتأكيد (عبد) وفي المشكاة بدله مسلم (تصيبه مصيبة)
متناولة لقليل المصيبة وكثيرها وعظيمها وحقيرها لكونها
نكرة في عموم النفي (فيقول) زاد في رواية «ما أمر الله به»
أي تلويحاً للثناء على قائله الثناء العظيم المستلزم لطلبه
منه (إنا) أي ذاتنا وجميع ما ينسب إلينا (لله) ملكاً
وخلقاً فيتصرف فينا كيف يشاء فالكل عوار مستردة كما أشار
إليه بقوله (وإنا إليه راجعون) فعلينا الصبر على المصائب
وتدير حقائق هذه الآية ليسهل علينا مزاولة كل ما أصابنا،
وليس فائدة الأمر للمصاب قول هذا الذكر بمجرد لفظه لأنه لا
ينفع وحده، وإنما فائدته مع تدبره حق التدبر فإنه الدواء
النافع الحامل على كمال الصبر بل وحقائق الرضا (اللهم)
ظاهره أن هذا من جملة ما رتب على الإتبان به ما وعد به
الأجر (اؤجرني) بسكون الهمزة ووقع لابن مالك في «شرح
المشارق» أنه قال بهمزة وصل وهو وهم لأن الهمزة الموجودة
فاء
(6/397)
الفعل وهمزة الوصل سقطت للدرج من أجره
يأجره أو يأجره بضم الجيم وكسرها: أي أثابه وأعطاء الأجر
قاله ابن حجر الهيثمي ويأتي ما في الكسر، والمعنى أعطني
الأجر (في مصيبتي) «في» يحتمل كونها بمعنى مع وكونها
للسببية والثاني أظهر، والمصيبة كل مكروه ينزل بالإنسان:
أي أثبني ثواباً مقارناً لها أو بسببها (وأخلف) من
الإخلاف، إذ ما يخلف يقال فيه أخلف عليك وما لا يخلف كالأب
إذا مات يقال خلف عليك (لي خيراً منها إلا آجره الله) أي
أثابه، في «المصباح» يقال أجره الله أجراً من بابي ضرب
وقتل وآجره بالمد لغة ثالثة: أي أثابه لكن في المراقة أنه
بالكسر مع القصر غير موجود في النسخ (تعالى في مصيبته
وأخلف له خيراً منها) وذلك لاستكانته تحت أقضية مولاه
وصبره على ما أتاه والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ومن
جاء بالحسنة فله خير منها (قالت: فلما توفي أبو سلمة قلت
كما أمرني رسول الله) زاد في رواية عناه
قالت: أيّ المسلمين خير من أبي سلمة أول بيت هاجر إلى رسول
الله؟ ثم إني قلتها (فأخلف الله تعالى لي خيراً منه) أي من
أبي سلمة (رسول الله) عطف بيان أو بدل من مفعول أخلف (رواه
مسلم) في الجنائز، قال في سلاح المؤمن: انفرد به مسلم عن
أصحاب الستة، وإلا فقد أخرجه أبو عوانة كما قاله الحافظ في
تخريج أحاديث «الأذكار» .
3922 - (وعن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا
مات ولد العبد) هو شرعاً المكلف ولو حرّاً وعمومه متناول
للصغير والكبير (قال الله تعالى لملائكته قبضتم) بفتح
(6/398)
الموحدة وهو على تقدير الاستفهام التقريري
لبيان عظم خبره لهم: أي أقبضتم (ولد) بفتح أوليه ويقال بضم
فسكون في لغة، قال في «المصباح» : وقيس تجعل المضموم جمعاً
للمفتوح كأسد وأسد كما مر (عبدي) الإضافة فيه للتشريف
جبراً لما أصابه من المصيبة وتشريفاً له لصبره على أقضية
ربه (فيقولون نعم، فيقول) تنبيهاً لهم على عظيم صبره
(قبضتم ثمرة فؤاده) أي لبّ لبِّه وخلاصة خلاصته، إذا القلب
خلاصة ما في الإنسان وخلاصته اللطيفة الموضوعة فيه من كمال
الإدراكات والعلوم التي خلق لها وشرف بشرفها، فلشدة شغف
هذه اللطيفة بالولد صار كأنه ثمرتها المقصود منها، وبين
بهذه الجملة عظم المصاب وعظم الصبر عليه مع ذلك (فيقولون
نعم، فيقول ماذا قال عبدي؟ فيقولون حمدك) أي قال مترقياً
عن مقام الصبر إلى مقام الرضا الحمد لله (واسترجع) أي قال
«إنا لله إليه راجعون» (فيقول الله ابنوا لعبدي بيتاً في
الجنة وسموه بيت الحمد) الفاء التفريعية إيماء إلى أن من
فقد مثل هذه الثمرة الخطيرة ومع ذلك لم يعدها مصيبة من كل
وجه بل من وجه فاسترجع ومنحة من وجه آخر فحمد، حقيق أن
يقابل بالحمد حتى في تسمية محله به (رواه الترمذي وقال:
حديث حسن) .
4923 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال:
يقول الله عز وجل ما لعبدي المؤمن عندي) ظرف لقوله (جزاء)
وهو مبتدأ خبره المجرور قبله، والعندية عندية شرف ومكانة
لا عندية مكان وبينه وبين عبدي جناس مصحف، وإذا في قوله
(إذا قبضت صفيه) ظرفية ويحتمل كونها متضمنة معنى الشرط،
والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه، والصفي بفتح فكسر
فتشديد: أي حبيبه لأنه يضافيه وده ويخلصه حبه فعيل بمعنى
فاعل أو مفعول (من أهل الدنيا) حال أتى به لبيان الواقع
(ثم احتسبه) أي بأن يرجو ثوابه
(6/399)
ويدخره عند الله تعالى، وذلك ينبىء عن مزيد
الصبر التسليم (إلا الجنة) بالرفع بدل من المبتدأ ويجوز
نصبه على الاستثناء (رواه البخاري) في الرقاق، وقد سبق
الحديث مشروحاً في باب الصبر أول الكتاب.
5924 - (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: أرسلت إحدى
بنات النبي) وهي زينب كما صرح به ابن أبي شيبة وصوبه غيره
(إليه تدعوه وتخبره أن صبياً لها أو ابناً) تقدم أنها
أمامة بنت زينب من أبي العاص بن الربيع واستشكل بأن في
الحديث لفظ صبيّ أوابن فكيف يطلق ذلك عليها؟ فالراجح أن
القضية متعددة كان المريض في إحداهما الابن واسمه عليّ وهو
المشار إليه بما في هذا الحديث، وأخرى كان البنت، وحمله
على غيرهما يرد بأن الإخباريين صرحوا أنها لم تلد غيرهما،
ثم لا ينافي تفسيرها بأمامة كونها عاشت حتى تزوجها عليّ
رضي الله عنه، لأن المراد من قبض في رواية لهما قارب القبض
كقولها هنا (في الموت) في مقدماته المعتاد وجوده بعدها
(فقال للرسول: ارجع إليها وقل لها: إن لله ما أخذ) مقتبس
من قوله تعالى: {إنا لله} (البقرة: 156) (وله ما أعطى)
تأكيد مناسب للمقام (وكل شيء) مما أخذه وأعطاه من الآجال
والأرزاق التي أخذها وأبقاها (عنده) عندية علم أو مكتوب
عند ملائكته وجعل ما عندهم عنده تشريفاً لهم كقوله تعالى:
{والله يدعو إلى دار السلام} (يونس: 25) أي وأولياء الله
يدعون إليها جعل دعاءهم دعاءه تشريفاً لهم كما أشار إليه
البيضاوي (بأجل مسمى) معلوم معين لا يتقدم عليه ولا يتأخر
عنه فلا فائدة في الجزع، ولذا قال (فمرها فتصبر) بأن تتحمل
مرارة فقده من غير أن يظهر عليها شيء من أنواع الجزع
(ولتحتسب) أي تدخر ثواب فقده والصبر عليه عند الله، وكل
منهما أمر للغائبة المؤنثة
(6/400)
أو الحاضرة نظير فبذلك فلتفرحوا فعلى الأول
المبلغ المعنى لا بخصوص اللفظ، وعلى الثاني بخصوصه، وعلى
الحضور التذكير باعتبار الشخص وفيه الوصية بالصبر عند
البلية قبل وجودها ليستعد لها (وذكر تمام الحديث) السابق
مع شرحه في باب الصبر (متفق عليه) .
153 - باب جواز البكاء على الميت بغير ندب
بفتح النون فسكون المهملة: تعداد محاسن الميت (ولا نياحة)
بكسر النون وتخفيف التحتية والمهملة ومن ذلك قلبت الواو
فيه ياء كما في صيام: وهي رفع الصوت بالندب الذي هو ذكر
محاسن الميت وإن لم يكن بكلام مسجع، وكذا يحرم أيضاً إفراط
رفع الصوت بالبكاء ولو بلا ندب ولا نوح، قاله في «فتح
الإله» . (أما النياحة فحرام) أي سواء كان معها بكاء أم لا
(وسيأتي فيها باب في كتاب النهي إن شاء الله تعالى.
وأماالبكاء فجاءت أحاديث بالنهي عنه وأن الميت يعذب ببكاء
أهله عليه) وعقد المصنف في «الخلاصة» باباً لما جاء في ذلك
فقال عن عمر رضي الله عنه عن النبي قال «الميت يعذب في
قبره بما نيح عليه» متفق عليه، وعن المغيرة مثله، وعن
النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال «أغمي على عبد الله بن
رواحة فجعلت أخته تبكي واجبلاه واكذا، تعدِّد عليه، فقال
حين أفاق، ما قلت شيئاً إلا قيل لي أنت كذا، فلما مات لم
تبك عليه» . رواه البخاري.
وعن ابن أبي مليكة قال: «توفيت بنت لعثمان بمكة فجئنا
لنشهدها وحضرها ابن عمر وابن عباس، فقال ابن عمر لعمرو بن
عثمان: ألا تنهى عن البكاء؟ فإن النبي قال: إن الميت ليعذب
في قبره ببكاء أهله عليه، فقال ابن عباس: لما أصيب عمر دخل
عليه صهيب يبكي يقول واأخاه،
(6/401)
فقال عمر: أتبكي عليّ وقد قال رسول الله:
إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه؟ قال ابن عباس: فلما مات
عمر ذكرت ذلك لعائشة فقالت رحم الله عمر والّله ما حدث
رسول الله «إنّ الله ليعذب المؤمن ببكاء أهله عليه» ولكن
رسول الله قال: «إن الله ليزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله
عليه» وقالت: حسبكم القرآن {ولا تزر وازرة وزر أخرى}
(الأنعام: 164) قال ابن أبي مليكة والله ما قال ابن عمر
شيئاً. متفق عليه.
وعن عائشة «أنها ذكر لها قول ابن عمر إن الميت يعذب ببكاء
أهله عليه برفعه إلى النبي، فقالت: يغفر الله لأبي عبد
الرحمن إنه لم يكذب، ولكنه نسي أو أخطأ إنما مرّ رسول الله
على يهودية يبكى عليها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها
لتعذب في قبرها» متفق عليه. وفي رواية «إنه ليعذب بخطيئته
أو بذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن» .
وعن أبي موسى أن رسول الله قال: «ما من ميت يموت فيقول
باكيهم فيقول واجبلاه واسيداه ونحو ذلك إلا وكل الله به
ملكين يلهزانه أهكذا أنت؟» رواه الترمذي وقال حسن،. اللهز:
الضرب بجمع اليد في الصدر (وهي متأولة) أي مصروفة عن
ظاهرها بأن المراد من تعذيبه ما يلحقه من الرقة عليهم حال
سماعه بكاءهم، قاله ابن جرير الطبري وغيره. وقال عياض: هو
أولى الأقوال، واحتجوا بحديث فيه «أن النبي زجر امرأة عن
البكاء على ابنها وقال: إن أحدكم إذا بكى استعبر له صويحبه
فيا عباد الله لا تعذبوا إخوانكم» أو كما قالت عائشة رضي
الله عنها: إن الكافر أو غير من أصحاب الذنوب يعذب في حال
بكاء أهله عليه بذنبه لا ببكائهم، أو بأنهم كانوا ينوحون
على الميت ويندبونه بتعديد شمائله ومدحه في زعمهم، وتلك
قبائح في الشرع يعذب بها كما كانوا يقولون يا مرمل النسوان
ومخرب العمران وميتم الولدان وغير ذلك مما يرونه شجاعة
وفخراً وهو حرام (أو محمولة على من أوصى به) جعل المصنف في
الخلاصة هذا تأويل الأحاديث المذكورة/ ونقله في «شرح مسلم»
عن الجمهور أو أهمل الوصية بتركه فيعذب لتفريطه بالوصية
بذلك أو بإهمال الوصية بتركه، أما من أوصى بتركه فلا يعذب
به إذ لا صنع له ولا تفريط منه، وحاصل هذا القول إيجاب
الوصية بترك ذلك وتعذيب من أهملها أو وصى بفعله (والنهي
إنما هو عن البكاء الذي فيه ندب أو نياحة) قال في الخلاصة:
أجمعوا على
(6/402)
أن البكاء الذي يعذب به أي على التفصيل
السابق فيه هومجرد النياحة لا مجرد دمع العين ونحوه
(والدليل على جواز) أي إباحة (البكاء بغير ندب ولا نياحة
أحاديث كثيرة منها) .
1925 - (وعن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله عاد سعد
بن عبادة) وكان ذلك في أوائل أعوام الهجرة كما يومىء إليه
ما وقع من ابن أبيّ المنافق من الكلام القبيح المذكور في
الحديث في الصحيح (ومعه عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي
وقاص وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم) يحتمل أن يكون معه
أبو بكر وعمر أيضاً ولم يذكرهما الراوي لعدم مفارقتهما له
إلا نادراً، ويحتمل أنهما لم يكونا حينئذ معه بأن خطرت
العبادة له غيبتهما عنه. والّله أعلم والجملة حالية ربطها
كل من الواو والضمير (فبكى رسول الله) أي لما رأى من
الغلبة التي على سعد فغلبت عليه العبرة التي هي أثر الرحمة
التي هو عينها (فلما رأى القوم) أي الحاضرون معه (بكاء
رسول الله) بالعيان (بكوا) اقتداء أو تأسياً (فقال: ألا
تسمعون) ثم استأنف بقوله (إن الله لا يعذب بدمع العين ولا
بحزن القلب) سواء اجتمعا أو كان كل بانفراد (ولكن يعذب
بهذا) أي بما يصدر منه مما حرّم الشارع من ندب أو نياحة أو
مبالغة رفع صوت بالبكاء، وكذا يعذب بالتبرم بالقلب
والتضجر، ودليل ذلك ما يصدر من لسانه لأنه يعرب عن شأنه
(أو يرحم) أو فيه للتنويع: أي أو يرحمه به إن أتى بما فيه
صبر واسترجاع وحمد لله سبحانه (وأشار) أي النبي (بيده)
مبيناً للمشار إليه بقوله بهذا (إلى لسانه متفق عليه) .
2926 - (وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما: أن رسول الله
رفع) بالبناء للمفعول، ويجوز أن يقرأ بالبناء الفاعل (إليه
ابن ابنته) زينب، وقد تقدم تعيينه وما فيه من الخلاف في
(6/403)
حديثه قبل هذا (وهو في الموت) أي في
مقدماته فلا ينافيه حياته إلى زمن طويل بعد (ففاضت عينا
رسول الله) أي كثر دمعها حتى سال، ففيه إسناد مجازي وحذف
التمييز: أي دمعاً لدلالة الحال على تعيينه. وفي «القاموس»
: فاض الماء يفيض هو ابن عبادة كما تقدم في الحديث بجملته
في باب الصبر «ومعه سعد بن عبادة» وليس فيه ابن معاذ ولا
ابن أبي وقاص (ما هذا يا رسول الله) سؤال عن سببه وحكمته
ووصفه لا عن حقيقته فلذا (قال) في جوابه (هذه) أي الرحمة
المداول عليها بتلك العبرة وقد تقدم في باب الصبر فقال هذه
(رحمة جعلها الله في قلوب عباده) مفعول ثان لجعل لأنه
بمعنى صير: أي من يشاء منهم كما جاء كذلك في رواية وسبقت
في باب الصبر (وإنما يرحم الله) أي الرحمة الكاملة كما
يومىء إليه إسناد الفعل إلى لفظ الجلالة الذي هو جامع
لمعاني الأسماء موضوع لمجرد تعيين الذات المسمى (من عباده
الرحماء) جمع رحيم ككريم وكرماء (متفق عليه) .
3927 - (وعن أنس رضي الله عنه: أن رسول الله دخل على ابنه
إبراهيم) في بيت ضيرة أبي سيف وكان من العوالي (وهو يجود
بنفسه) في «المصباح» جاد بالمال بذله، وجاد بنفسه: سمح بها
عند الموت والجود مستعار من ذلك اهـ. ففي الكلام استعارة
تبعية. وفي «فتح الباري» يجود بنفسه: أي يخرجها ويدفعها
كما يدفع الإنسان ما يجود به، وكان موت إبراهيم سنة عشر من
الهجرة عن ثمانية عشر شهراً، وكان مولده في ذي الحجة من
سنة ثمان منها، ووفاته يوم الثلاثاء لعشر خلون من شهر ربيع
الأول سنة عشر قاله المصنف في «التهذيب» وغيره، وفي «فتح
الباري» وجزم به الواقدي وقال ابن حزم: مات قبل النبي
بثلاثة أشهر. واتفقوا على أنه ولد في ذي الحجة سنة ثمان
اهـ (فجعلت) من أفعال
(6/404)
الشروع واسمها (عينا رسول الله تذرفان)
بسكون الذال المعجمة وكسر الراء من باب ضرب: أي تدمعان
(فقال له عبد الرحمن بن عوف: وأنت يا رسول الله) قال
الطيبي: فيه معنى التعجب والواو عاطفة على مقدر: أي الناس
لا يصبرون وأنت تفعل كفعلهم كأنه تعجب لذلك منه مع عهده
فيه أنه يحث على الصبر وينهى عن الجزع (فقال: يا ابن عوف
إنها) أي الحال التي شاهدتها منى (رحمة) على الولد، لا ما
توهمت من الجزع اهـ. وفي رواية عن ابن عوف «فقلت: يا رسول
الله تبكي أو لم تنه عن البكاء» وزاد فيه «إنما نهيت عن
صوتين أحمقين فاجرين: صوت نغمة لهو ولعب ومزامير الشيطان،
وصوت عند مصيبة: خمش وجوه وشق جيوب ورنة شيطان، إنما هذه
رحمة ومن لا يرحم لا يرحم» (ثم أتبعها بأخرى) قيل معناه:
أتبع الدمعة الأولى بدمعة أخرى، وقيل أتبع الكلمة الأولى
المجملة وهي قوله إنها رحمة بكلمة أخرى مفصلة هي قوله على
سبيل البيان (فقال: إن العين تدمع والقلب يحزن) قال
الدماميني في «المصابيح» : يجوز في القلب الرفع والنصب.
قال ابن المنير: فيه أنه بين أن مثل هذا لا يدخل تحت
القدرة ولا يكلف العبد الانكفاف عنه، وذلك لأنه أضاف الفعل
إلى
الجوارح، كأنها امتنعت على صاحبها فصارت هي الفاعل ولذا
قال (ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا بفراقك يا إبراهيم
لمحزونون) فعبر بصيغة اسم المفعول لا بصيغة الفاعل: أي ليس
الحزن من فعلنا ولكنه واقع بنا من غيرنا ولا يكلف الإنسان
بفعل غيره (رواه البخاري) وعقد له ترجمة فقال باب قول
النبي إنا بك لمحزونون (وروى مسلم) في كتاب الفضائل (بعضه)
ولفظه من حديث أنس «فقال أنس: لقد رأيته: يعني إبراهيم
يكيد بنفسه بين يدي رسول الله، فدمعت عينا رسول الله وقال:
تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، والله
يا إبراهيم إنا بك لمحزونون» قال في «فتح الباري» : قوله
يكيد قال صاحب العين: إي يسوق بنفسه، وقيل معناه: يقارب
بها الموت، وقال أبو مروان: قد يكون من الكيد وهو القيء،
يقال منه كاد يكيد شبه تقلع نفسه عند الموت بذلك
(والأحاديث في الباب) أي باب إباحة
(6/405)
البكاء المجرد عن نياحة وندب ومبالغة رفع
صوت به (كثيرة في الصحيح مشهورة) وشهرتها تغني عن ذكرها،
وبالله التوفيق (والّه أعلم) .
154 - باب الكف عما يرى باب الكف عما يرى من الميت من
مكروه
من الميت من مكروه من تغير لون أو تشويه صورة، نعم إن كان
من وقع له ذلك ذا بدعة فلا بأس به ليكون زجراً عن بدعته،
أما إذا رأى به أمراً محموداً من إضاءة وإشراق ونحوهما
فليذكر ذلك، إلا إن كان من وقع له ذلك ذا بدعة فليكتمه
لئلا يقع الناس في بدعته.
1928 - (عن أبي رافع) القبطي (أسلم) بفتح الهمزة وسكون
السين المهملة هو اسمه، وقيل اسمه إبراهيم، وقيل ثابت
بالمثلثة فالموحدة وقيل اسمه أيو هرمز (مولى رسول الله)
قال المصنف في «التهذيب» : شهد أحداً والخندق والمشاهد
بعدها، وزوّجه النبي مولاته سلمى فولدت له عبيد الله بن
أبي رافع، وشهد أبو رافع فتح مصر، وتوفي بالمدينة قبل قتل
عثمان وقيل بعده، وكان أبو راف مملوكاً للعباس فوهبه لرسول
الله، فلما أسلم العباس أعتقه رسول الله اهـ. روى له عن
رسول الله ثمانية وستون حديثاً، قال ابن الجوزي في «مختصر
التلقيح» وقال في البرقي: في بضعة عشر حديثاً، وروى عنه
البخاري حديثاً واحداً ومسلم ثلاثة (أن رسول الله قال: من
غسل ميتاً فكتم عليه) معطوف على مقدر: أي ورأى منه سوءاً
فكتم عليه (غفر الله له أربعين مرة) ولا يعلم عدد ما في كل
مرة من الذنب المغفور إلا الستار الغفور (رواه الحاكم) في
«المستدرك» (وقال: صحيح على شرط مسلم) زاد في «الجامع
الكبير» ورواه البيهقي في «الشعب» وهو حديث فيه فضل الدفن
(6/406)
والكفن. وفي «الجامع الصغير» : أخرج
الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً «من غسل ميتاً فستره
ستره الله من الذنوب» الحديث، وفي «الجامع الكبير» : أخرج
الطبراني من حديث أبي أمامة مرفوعاً «من غسل ميتاً فكتم
عليه طهره الله من ذنوبه، فإن هو كفنه كساه الله من
السندس» وأخرج أبو يعلى والبيهقي وأحمد من حديث عائشة
مرفوعاً «من غسل ميتاً فأدى فيه الأمانة ولم يفش عليه ما
يكون منه عند ذلك خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ليله
أقربكم منه إن كان بعلم، فإن لم يعلم فمن ترون عنده حظاً
من ورع وأمانة» وفي «الجامع الكبير» أيضاً: أخرج ابن ماجه
من حديث عليّ مرفوعاً «من غسل ميتاً وكفنه وحنطه وحمله
وصلى عليه ولم يفش عليه ما رأى منه خرج من خطيئته كيوم
ولدته أمه» .
155 - باب الصلاة على الميت وتشييعه وحضور دفنه وكراهة
اتباع
بتشديدالفوقية ويجوز تخفيفها، يقال اتبعه بالتشديد إذا
سبقه فلحقه، وبالتخفيف أي ألحق به غيره كما يؤخذ من
«القاموس» (النساء الجنائز) كراهة تنزيه.
(قد سبق فضل التشييع) بقوله في كتاب عيادة المريض في حديث
البراء «أمرنا بسبع إلى أن قال: واتباع الجنائز» وبقوله في
حديث أبي هريرة عقبه «حق المسلم على المسلم خمس» إلى أن
قال: واتباع الجنائز» .
1929 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
من شهد الجنازة حتى يصلى) بالبناء للمفعول ونائب فاعله
قوله (عليها فله قيراط) قال في «المصباح» : يقال أصله قرط
بتشديد الراء لكن أبدل من أحد المضعفين ياء للتخفيف كما في
دينار ونحوه، ولذا يرد في الجمع والتصغير إلى أصله فيقال
قراريط وقريريط اهـ. قال ابن حجر الهيتمي: حصول هذا
القيراط مرتب على الحضور معها من المنزل. وخالف الحافظ في
«فتح الباري» فقال بعد أن
(6/407)
ذكر ما تقدم وأنه صرح به المحب الطبري:
والذي يظهر لي أن القيراط يحصل أيضاً لمن صلى فقط، لأن ما
قيل الصلاة وسيلة إليها، لكن يكون قيراط من صلى فقط دون
قيراط من شيع مثلاً وصلى اهـ. قال: وتتعدد قراريط الصلاة
بتعدد الجنائز وإن صلى عليهم معاً (ومن شهدها حتى تدفن) أي
ويكمل دفنها هذا أصح الأوجه عند إمامنا الشافعي، وقيل غير
ذلك، ويترجح ما قلنا أولاً بما جاء عند مسلم «حتى يتفرغ
منها» وللرواية الآتية «ويفرغ من دفنها» (فله قيراطان) أي
أحدهما قيراط الصلاة، في حديث للطبراني «من تبع جنازة حتى
يقضي دفنها كتب له ثلاث قراريط» فعليه. الأول للحضور معها
من المنزل قبل الصلاة. والثاني للصلاة، والثالث للتشييع.
قال في «فتح الباري» : الإشارة بهذا المقدار إلى الأجر
المتعلق بالميت في تجهيزه وغسله وجميع ما يتعلق به،
فللمصلي عليه قيراط من ذلك، ولمن شهد الدفن قيراط، وذكر
القيراط تقريباً للفهم لما كان الإنسان يعرف
القيراط ويعمل العمل في مقابلته وعد من جنس ما يعرف وضرب
له المثل بما يعلم، نقله عن ابن الجوزي عن ابن عقيل قال:
وليس ما قاله ببيعد. وقد روى الطبراني من طريق عجلان عن
أبي هريرة مرفوعاً «من أتى جنازة من أهلها فله قيراط، فإن
اتبعها فله قيراط، فإن اتبعها فله قيراط، فإن صلى عليها
فله قيراط» وإن اختلف مقادير القراريط ولا سيما بالنسبة
إلى مشقة ذلك العمل وسهولته، وعليه فيقال إنما خص قيراطي
الصلاة والدفن بالذكر لكونهما المقصودين بخلاف باقي أحوال
الميت فإنها وسائل، ولكن هذا يخالف ظاهر الحديث الذي في
كتاب الإيمان من «صحيح البخاري» ، فإن فيه أن لمن كان معها
حتى يصلي عليها ويفرغ من دفنها قيراطين فقط. ويجاب عنه بأن
القيراطين المذكورين لمن شهد. والذي ذكره ابن عقيل لمن
باشر الأعمال التي يحتاج إليها الميت فافترقا وقال المصنف
وغيره: لا يلزم من ذكر القيراط في العملين تساويهما لأن
عادة الشرع تعظيم الحسنة بحسب مقابلها (قيل: وما
القيراطان) سأل عن تعيينهما لذكرهما مبهمين ولم يعين في
هذه الرواية القائل ولا المقول له. وقد جاء عند مسلم
«فقيل: وما القيراطان يا رسول الله» وعنده في حديث ثوبان
«سئل رسول الله عن القيراط» وبين أبو عوانة في رواية أن
السائل هو أبو هريرة (قال: فمثل الجبلين العظيمين) جاء في
رواية للبخاري «مثل أحد» وعند النسائي من طريق الشعبي، وله
قيراطان من الأجر كل واحد منهما
(6/408)
أعظم من أحد وفي رواية لمسلم «أصغرها مثل
أحد» وفي حديث وائلة عن ابن عدي «كتب له قيراطان من أجر
أخفهما في ميزانه يوم القيامة أثقل من جبل أحد» قال ابن
المنير: أراد بهذا تعظيم الثواب فمثله بالجبلين العظيمين
(متفق عليه) .
2930 - (وعنه أن رسول الله قال: من اتبع جنازة مسلم
إيماناً) مفعول له أي تصديقاً بالوعد الوارد فيه
(واحتساباً) وقوله (وكان معه) كذا في الأصل والظاهر معها.
وإن صحت به الرواية فالتذكير لعود الضمير إلى المضاف إليه
(حتى يصلى عليها ويفرغ من دفنها) أي بتمام تسوية التراب
على القبر (فإنه يرجع من الأجر بقيراطين) أجر للاتباع وأجر
للصلاة عليها مع السير والصبر لتمام الدفن (كل قيراط مثل
أحد) قال الطيبي قوله مثل أحد تفسير للمقصود من الكلام،
لأن لفظ القيراط مبهم من وجهين، فبين الموزون بقوله من
الأجر وبين المقدار منه بقوله مثل أحد.d
قال الزين بن المنير: أراد تعظيم الثواب فمثله للعباد
بأعظم الجبال خلقاً وأكثرها إلى النفوس المؤمنة حباً لأنه
الذي قال في حقه «أحد جبل يحبنا ونحبه» اهـ، ولأنه أيضاً
قريب من المخاطبين يشترك أكثرهم في معرفته، وخص القيراط
بالذكر لأنه كان أقل ما تقع به الإجارة في ذلك الوقت، أو
جرى ذلك مجرى العادة من تقليل الأجر بتقليل العمل (ومن صلى
عليها ثم رجع قبل أن تدفن) بالفوقية أي الجنازة باعتبار من
عليها إن كانت اسم النعش وإن كانت اسم الميت فالتأنيث
باعتبار أنها نفس أو باعتبار لفظ الجنازة (فإنه يرجع
بقيراط، رواه البخاري) .
3 - (وعن أم عطية) نسيبة بضم النون وفتح المهملة وسكون
التحتية بعدها موحدة
(6/409)
(رضي الله عنه قالت: نهينا) بالبناء
للمفعول، والمروي بهذه الصيغة موقوف لفظاً مرفوع حكماً: أي
نهانا رسول الله، وقد رواه الإسماعيلي بهذا اللفظ والمراد
جماعة النساء (عن اتباع الجنائز) وذلك أنهن يؤمرن بالستر
واتباع الجنائز مقتض لكشفهن (ولم يعزم) بالبناء للمفعول:
أي لم يؤكد (علينا) في المنع كما أكد علينا في غيره من
المنهيات فكأنها قالت: كره لنا اتباع الجنائز من غير
تحريم. قال القرطبي: ظاهر سياق حديث أم عطية أن النهي نهى
تنزيه وبه قال جمهور أهل العلم. وقال المحب الطبري: يحتمل
أن يكون المراد بقولها ولم يعزم علينا: أي كما عزم على
الرجال بترغيبهم بحصول القيراط ونحو ذلك والله أعلم (متفق
عليه) أخرجاه في الجنائز (ومعناه) أي معنى مجموع الحديث
باعتبار قوله «لم يعزم علينا» (ولم يشدد في النهي كما يشدد
في المحرمات) أي فيكره اتباعهن لها ولا يحرم.
156 - باب استحباب تكثير المصلين
بالمثلثة (على الجنازة) لكونهم شفعاء للميت (وجعل صفوفهم
ثلاثة) مفعول ثان لجعل وهو مضاف إلى مفعوله الأول (أو
أكثر) أو فيه بمعنى بل.
1932 - (عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قال رسول
الله: ما من) صلة لتأكيد النفي (ميت) أي من المسلمين كما
في الحديث بعد (يصلي عليه أمة) أي جماعة (من المسلمين)
والجملة الفعلية في محل الصفة لما قبله والظرف صفة أمة من
فيه بيانية
(6/410)
وقوله (يبلغون مائة) جملة في محل الحال من
فاعل يصلي (كلهم) يحتمل أن يكون مبتدأ وخبره «يشفعون»
ويحتمل أن يكون تأكيداً معنوياً لفاعل يبلغون، وجملة
يشفعون حال منه أو من أمة فهي متداخلة أو مترادفة أو
مستأنفة استئنافاً بيانياً (إلا شفعوا) بالبناء للمفعول:
أي من أعم الأحوال (رواه مسلم) في الجنائز، ورواه النسائي
من حديث ميمونة بلفظه، لكن بإسقاط قوله «يبلغون مائة كلهم
يشفعون فيه» .
2933 - (وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله
يقول: ما من رجل مسلم) والتقييد بالرجل لأنه أشرف (يموت)
جملة صفة لرجل لعدله فيها (فيقوم على جنازته أربعون رجلاً)
أي مصلين عليه مستشفعين له فيها (لا يشركون بالله شيئاً)
من الإشراك ومن المعبودين (إلا شفعهم الله فيه، روه مسلم)
في الجنائز، ولا مخالفة بين هذا الخبر وما قبله لأن مفهوم
العدد غير حجة على الصحيح، وأن الله أخبره بما جاء فيمن
صلى عليه مائة ثم زاد الفضل من الله تعالى بحصول مثل ذلك
فيمن صلى عليه أربعون فأخبر به، والله أعلم.
3934 - (وعن مرثد) بفتح الميم والمثلثة وسكون الراء بينهما
آخره دال مهملة (ابن عبد الله اليزني) بفتح التحتية والزاي
بعدها نون أبو الخير المصري ثقة فقيه من كبار التابعين،
مات سنة تسعين، خرّج عنه أصحاب الستة كذا في «التقريب»
للحافظ (قال: كان مالك بن هبيرة) بضم الهاء وفتح الموحدة
والراء وسكون التحتية بينهما ابن خالد بن مسلم السكوني أو
الكندي الصحابي (رضي الله عنه) قال في «التقريب» : نزل حمص
ومصر، مات في أيام مروان،
(6/411)
روى له عن رسول الله كما في «مختصر
التلقيح» أربعة أحاديث، وقال البرقي: له حديثان (إذا صلى
على الجنازة فتقال الناس) بتشديد اللام من باب التفاعل
والأصل تقالل فسكنت الأولى وأدغمت: أي إذا رآهم قليلين،
وقوله (عليها) ظرف متعلق بمحذوف: أي المصلين عليها (جزأهم)
بتشديد الزاي: أي جعلهم مجزئين (ثلاثة أجزاء) مفعول مطلق
كل جزء صفا (ثم قال: قال رسول الله: من صلى عليه ثلاثة
صفوف) بضم أوليه جمع صف وهو كقوله عز وجل: {ثلاثة قروء} ()
في استعمال جمع القلة موضع جمع الكثرة على سبيل التجوز
(فقد أوجب) أي أوجب له الجنة بالوعد الصادق على لسان نبيه
ووعد الله لا يخلف (رواه أبو داود) في الجنائز (والترمذي)
فيه، وكذا رواه ابن ماجه في الجنائز أيضاً، ورواه البزار
أيضاً (وقال) أي الترمذي (حديث حسن) وقال: يزيد وبين مالك
رجلاً، ورواية هؤلاء أصح عندنا.
157 - باب ما يقرأ
بالبناء للمفعول ويجوز بالبناء للفاعل ويعود الفاعل إلى
المصلي (في الصلاة على الجنازة) . (يكبر) أي المصلي مع رفع
يديه إلى حذو منكبيه كما يفعل في تكبير التحريم (أربع
تكبيرات) بالنصب مفعول مطلق (يتعوذ) أي ندباً (بعد)
التكبيرة (الأولى) وهي تكبيرة التحريم (ثم يقرأ) أي من غير
دعاء افتتاح صلاتها على التخفيف (فاتحة الكتاب)
(6/412)
والأولى كونها بعد التكبيرة الأولى، ويجوز
إخلاؤها منها وقراءتها مع الصلاة على النبي بعد التكبيرة
الثانية أو مع الدعاء بعد الثالثة (ثم يكبر الثانية)
رافعاً يديه كما يفعل في تكبير الركوع (ثم يصلي على النبي
فيقول) وجوباً (اللهم صل على محمد) ندباً (وعلى آل محمد،
والأفضل) في حصول اللفظ المسنون فيها (أن يتممه) بضم أوله
من التتميم: أي يكمل لفظ الصلاة بقوله (كما صليت على
إبراهيم) والكاف للتشبيه وسيأتي بيان وجهه إن شاء الله
تعالى، ومن أحسنه أنه من تشبيه الإحسان بالإحسان، وقوله
(إلى قوله حميد مجيد) متعلق بقوله يتممه: أي فيقول «كما
صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل
محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد
مجيد» وتبين بما ذكر أن الأقل والأكمل منها هنا كالأقل
والأكمل منها في الصلاة (ولا يفعل) بالجزم نهي، ويجوز أن
يقرأ بالرفع فيكون خبراً لفظاً إنشاء معنى (ما يفعله
العوام) بتشديد الميم جمع عامة مثل دابة ودواب، والعامة
خلاف الخاصة، كذا في «المصباح» ، وفي الكلام إطلاق الفعل
على القول لأنه فعل اللسان وباقي المخارج (من قراءتهم إن
الله وملائكته يصلون على النبيّ الآية) بالنصب بتقدير بأن
فيه حذف الجارّ وإبقاء عمله، وذلك سماعي لا يجوز في مثله
(فإنه لا تصح صلاته إذا اقتصر عليه) أي من غير أن يأتي
بعده بنحو اللهم صل على محمد وذلك لأنه ليس فيه إلا
الإخبار عما تفضل به الله تعالى على نبيه من أنه مع
ملائكته يصلون عليه وأمر الأمة لذلك، وهذا ليس بصلاة
والواجب
فيها الصلاة عليه وهو لم يأت بها، ويكره الإتيان بها مع
الإتيان بالصلاة عليه لما فيها من ابتداع ما لم يرد عن
الشارع والتطويل فيها مع بنائها على التخفيف (ثم يكبر
الثالثة ويدعو للميت) وهو واجب وأقله نحو اللهم اغفر له
(وللمسلمين) وهو مندوب، واستحب الدعاء لهم حينئذ للخبر لما
لحقهم من النقص بفقد ذلك الميت (بما سنذكره من) أي في
(الأحاديث إن شاء الله تعالى) ويجوز كون ابتدائية: أي
مبدوءة من الأحاديث (ثم يكبر الرابعة ويدعو) ندباً (ومن
أحسنه) أي في
(6/413)
الدعاء المندوب بعدها (اللهم) أي بالله (لا
تحرمنا) بفتح الفوقية وكسر الراء. في القاموس: حرمه الشيء
كضربه وأحرمه وكسر الثانية: أي لا توقعنا في الفتنة: أي
المحنة (بعده) أي بعد موته (واغفر لنا وله، والمختار) عند
أصحابنا الشافعية (أنه يطوّل الدعاء) للميت وللمسلمين (في)
أي بعد التكبيرة (الرابعة) وقوله (خلاف ما يعتاده الناس من
الدعاء) بالنصب حال من فاعل يطول: أي حال كونه مخالفاً
لمعتاد أكثر الناس من تقصير الدعاء فيه اقتصار على الذكر
السابق مرة واحدة (لحديث) عبد الله (بن أبي أوفي الذي
سنذكره إن شاء الله تعالى) آخر الباب (فأما الأدعية) جمع
دعاء وقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها (المأثورة)
بالمثلثة أي الواردة عنه بعد التكبيرة الثالثة (فـ) كثيرة
(منها) .
1935 - (عن أبي عبد الرحمن عوف) بالفاء في آخره (بن مالك
الأشجعي) وما ذكره المصنف في كنيته أحد أقوال فيها، وقيل
كنيته أبو عمرو وقيل أبو عبد الله وقيل أبو محمد وقيل أبو
حماد وتقدمت ترجمته (رضي الله عنه) في باب القناعة (قال:
صلى رسول الله على جنازة فحفظت من دعائه) لعله جهر به
ليحفظ عنه (وهو يقول) جملة في محل الحال من الضمير المضاف
إليه المصدر (اللهم اغفر له) وحذف المفعول طلباً للتعميم
ولتذهب النفس فيه كل مذهب (وارحمه) أي بفيض خاص تتلقاه به
من كرامتك (وعافه) أي من المؤذيات في القبر من فتنته
ووحشته وظلمته وعذابه (واعف عنه) أي مما وقع له من التقصير
في الطاعة قال في النهاية: العفو محو الذنوب والعافية
السلامة من الأسقام والبلايا (وأكرم) بقطع الهمزة (نزله)
بضمتين: وهو ما يهيأ للضيف من الطعام: أي أحسن
(6/414)
نصيبه من الجنة. قال ابن الجزري: وهو في
الأصل قرى الضيف، والمراد الدعاء بإكرامه بالأجر والثواب
والمغفرة (ووسع) بكسر السين المشددة (مدخله) بضم الميم
وفتحها وبهما قرى قوله تعالى: {مدخلاً كريماً} (النساء:
31) قال ابن الجزري: بضم الميم الموضع الذي يدخل فيه وهو
قره الذي يدخله الله فيه، وقال: لكن المسموع من أفواه
المشايخ والمضبوط في الأصول فتح الميم وكلاهما صحيح
المعنى. قال صاحب «الصحاح» : المدخل الدخول وموضع الدخول
أيضاً تقول دخلت مدخلاً وأدخلته مدخل صدق اهـ. قال صاحب
«الحرز» : ويجوز بالضم موضع الإدخال وهو المناسب للمقام.
قلت: وعليه فيكون نصبه على الظرفية بخلافه إذا جعل بمعنى
الدخول فيكون على المصدرية (واغسله) بوصل الهمزة: أي اغسل
ذنوبه وطهر عيوبه (بالماء والثلج والبرد) بفتحتين، والغرض
تعميم أنواع الرحمة والمغفرة في مقابلة أصناف المعصية
والغفلة (ونقه) بتشديد القاف دعاء من التنقية، بمعنى
التطهير، والهاء يحتمل أن تكون ضمير الميت وأن تكون هاء
السكت (من الخطايا) أي من أثرها وهي جمع خطيئة وهل وزنها
فعالى أو فعائل خلاف (كما نقيت) نظفت (الثوب الأبيض من
الدنس) بفتحتين: أي الدرن، قال ابن الجزري: الدنس بفتح
الدار المهملة والنون: الوسخ يريد المبالغة في التطهير من
الخطايا والذنوب (وأبدله) من الإبدال: أي عوّضه (داراً) من
القصور أو من سعة القبور (خيراً من داره) التي بالدنيا
الفانية (وأهلاً) أي من الخدم والولدان (خيراً من أهله)
ليأنس بهم وتذهب عنه الوحشة (وزوجاً) أي من الحور العين،
أو من نساء الدنيا في الجنة (خيراً من زوجه) أي زوجته التي
كانت في الدنيا، فإن كان الميت امرأة فالمعنى إبدالها
زوجاً من رجال الدنيا في الجنة خيراً من زوجها حقيقة أو
حكماً (وأدخله الجنة) أي ابتداء من الناجين الفائزين
(وأعذه) من الإعاذة: أي خلصه (من عذاب القبر) الناشىء عن
فتنته في عالم البرزخ (ومن عذاب النار) أي بعد البعث،
(6/415)
إما بإعاذته منها ابتداء أو بإنجائه من
الخلود فيها وإعادة الجار إيماء إلى اختلاف نوعي العذاب،
قال عوف بن مالك راوي الحديث (حتى تمنيت أن أكون ذلك
الميت) أي لأظفر بتلك الدعوات المجابات والأدعية المقبولات
(رواه مسلم) والترمذي والنسائي وابن ماجه وابن أبي شيبة و
(المصنف) كلهم من حديث عوف.
2936 - (وعن أبي هريرة وأبي قتادة) الأنصاري واسمه ربعي بن
النعمان (وأبي إبراهيم الأشهلي) قال الحافظ في «التقريب» :
مقبول من كبار التابعين، قيل إنه عبد الله بن أبي قتادة
ولا يصح، قال الترمذي: هو غلط، أبو إبراهيم من بني عبد
الأشهل وأبو قتادة من بني سلمة بطن من الأنصار (عن أبيه)
لم يعلم اسمه (وأبوه صحابي) فلا تضرّ جهالة عينه لأن
الصحابة رضي الله عنهم كلهم عدول (عن النبي أنه صلى على
جنازة فقال: اللهم اغفر لحينا وميتنا) أي لجميع أحيائنا
وأمواتنا معشر المسلمين لأن المفرد المضاف حيث لا عهد
للعموم (وصغيرنا وكبيرنا وذكرنا وأنثانا وشاهدنا) أي
حاضرنا (وغائبنا) قال التوربشتي: سئل الطحاوي عن معنى
الاستغفار للصغار مع أنه لا ذنب لهم، فقال: إن النبي سأل
ربه أن يغفر لهم الذنوب التي قضيت لهم أن يصيبوها بعد
الانتهاء إلى الكبر، وعليه فالصغار عام مخصوص بمن سيكبر.
قيل ويجوز أن يراد بالصغار الشباب وبالكبار الشيوخ، وعليه
فالأمر واضح. قال ميرك: كل من القرائن الأربع في الحديث
على الشمول والاستيعاب فلا يحمل على التخصيص نظراً إلى
مفردات التركيب كأنه قيل: اللهم اغفر لكل السملمين فهي من
الكنايات الرمزية يدل عليه جمعه في قوله «اللهم من أحييته
منا» الخ، قال في «الحرز» ، لا كلام في إفادة العموم
(اللهم من أحييته منا فأحيه) بقطع الهمزة
(6/416)
(على الإسلام) وفي رواية للترمذي والحاكم
«على الإيمان» (ومن توفيته) بتشديد الفاء: أي قبضت روحه
(منا فتوفه على الإيمان) وفي روايتهما «على الإسلام» ولا
شك أن رواية غيرهما أولى لمناسبة الحياة للإسلام ولائمة
الوفاة لللإيمان (منهم لا تحرمنا أجره) أي أجر المصيبة فيه
(ولا تفتنا) وفي رواية «تضلنا» (بعده) أي بعد موته (رواه
الترمذي من رواية) أي من حديث (أبي هريرة والأشهلي، ورواه
أبو داود من رواية أبي هريرة وأبي قتادة) وكذا رواه من
حديث أبي هريرة أحمد والنسائي وابن حبان (قال الحاكم) في
«المستدرك» (حديث أبي هريرة صحيح على شرط البخاري ومسلم
قال الترمذي) في «جامعه» (قال البخاري) صاحب الصحيح وهو من
مشايخ الترمذي (أجمع روايات هذا الباب) أي لهذا الحديث
(رواية الأشهلي، قال البخاري، وأصح شيء في الباب حديث عوف
بن مالك) وقد تقدم أنه صحيح أخرجه مسلم، ولا شك أن ما
أخرجه أحدهما مقدم على ما هو على شرطهما مما لم يخرّجاه
وإن كان قول المحدث أصح ما في هذا الباب حديث كذا لا
يستلزم الحكم بصحة ذلك الحديث.
3937 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: رسول الله يقول:
إذا صلبتم على الميت) أي تلبستم بها (فأخلصوا) بقطع الهمزة
(له الدعاء) قال العلقمي: إخلاص الدعاء له ألا يشرك معه
غيره، وأقله: اللهم اغفر له، ويدعي له بخصوصه وإن كان
طفلاً (رواه أبو داود) ورواه ابن ماجه وابن حبان كما في
«الجامع الصغير» وفي «تخريج أحاديث الرافعي»
(6/417)
للحافظ ابن حجر، وأخرجه البيهقي وفيه ابن
إسحاق، وقد عنعن لكن أخرجه ابن حبان من طريق أخرى عنه
مصرحاً بالسماع.
4938 - (وعنه عن النبي في الصلاة على الجنازة) أي من دعائه
في الصلاة عليها (اللهم) أي يا ألله (أنت ربها) أي مربيها
بنعمتك بالإخراج من العدم ثم بالغذاء بالنعم (وأنت خلقتها)
أي والمضاف يشرف بشرف المضاف إليه (وأنت هديتها) أي
أوصلتها (للإسلام) إذ لولا إرادتك هدايته لما اهتدى (وأنت
قبضت) بفتح الموحدة (روحها) أي وذلك بإخراج الملائكة
الموكلين بالنزع لها من الجسد ثم أخذ الملك لها. وليس
إسناد القبض مجازاً عقلياً خلافاً لما في «الحرز» (وأنت
أعلم بسرها) أي بما كانت تسره في الحياة من اعتقاد ونية
(وعلانيتها) بتخفيف التحتية: أي ما تعلنه أي تظهره من ذلك
والجملة معطوفة على ما قبلها ويحتمل كونها حالية من فاعل
هديت: أي حكمنا بهدايتك إياها باعتبار ما ظهر لنا والسرائر
علمها إليك (جئنا) أي حضرنا (شفعاء) حال أي شافعين (له
فاغفر له) أي جميع ذنوبه كما يومىء إليه حذف المفعول (رواه
أبو داود) .
5939 - (وعن واثلة) بالمثلثة (ابن الأسقع) بالمهملة وبعدها
قاف فعين مهملة سبقت ترجمته (رضي الله عنه) في باب الرؤيا
وما يتعلق بها (قال: صلى بنا رسول الله على رجل من
المسلمين) لم أقف على تسميته (فسمعته يقول: اللهم إن فلان
بن فلان) كناية عن اسم الرجل المصلى عليه واسم أبيه، ولما
نسى الراوي اسمهما كنى به عنهما (في ذمتك) بكسر الذال
المعجمة وتشديد الميم: أي في عهدك المشار إليه بقوله
تعالى: {وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} (البقرة: 40) (وحبل)
بالمهملة فالموحدة مستعار استعارة مصرحة للميثاق: أي وفي
عروة
(6/418)
(جوارك) بكسر الجيم: أي أمانك، قال تعالى:
{واعتصموا بحبل الله} (آل عمران: 103) قال الطيبي: الحبل
العهد والأمان والذمة: أي هو في كنف حفظك وعهد طاعتك. وقال
ابن الجزري: أي في خفارتك وطلب غفرانك، وكان عادة العرب أن
يخفر بعضها بعضاً، فكان الرجل إذا أراد سفراً أخذ عهداً من
سيد كل قبيلة فيأمن به ما دام في حدودها حتى ينتهي إلى
أخرى فيفعل مثل ذلك فهذا حبل الجوار: أي ما دام مجاور
أرضه. ويجوز أن يكون من الإجارة وهو الأمان والنصرة (فقه)
بهاء الضمير: أي حفظه (من فتنة القبر) أي اختباره أو
عذابه، وعليه فعطف قوله (وعذابه) من عطف الرديف وعلى الأول
من عطف المسبب على السبب (وأنت أهل الوفاء) قال تعالى:
{أوف بعهدكم} (والحمد) وأهل أن تحمد بالتزكية والثناء
وبالشكر والجزاء لمن ثبت على الإيمان وقام بحق القرآن،
والجملة حالية من فاعل «قه» أو استئنافية (اللهم فاغفر له)
الإتيان بفاء السببية للإيماء إلى أن من كان محموداً أهلاً
للوفاء فهو الذي يسأل منه الغفران بمحو السيئات (وارحمه)
أي برفع الدرجات (إنك أنت الغفور الرحيم) بكسر همزة «إن»
على الاستئناف ويجوز فتحها بتقدير لام التعليل، وهو
كالدليل لسؤال المغفرة والرحمة منه، وأتى بهما بصيغة
المبالغة إيماء إلى سعة رحمته وشموله مغفرته وعظمها (رواه
أبو داود وابن ماجه) .
6940 - (وعن عبد الله بن أبي أوفى) واسمه علقمة بن خالد بن
الحارث الأسلمي (رضي الله عنهما أنه كبر على جنازة ابنة
له) بدل اشتمال من عبد الله (أربع تكبيرات) مفعول مطلق
لكبر (فقام بعد) التكبيرة (الرابعة) قياماً (بقدر ما بين
التكبيرتين) الثالثة والرابعة التي يدعى
(6/419)
فيها للميت لأن في هذه أيضاً دعاء له
(يستغفر لها) أي يسأل الله لها المغفرة (ويدعو) لها أي
بنيل المراتب العلية كالجنة (ثم قال: كان رسول الله يصنع
هكذا) أي مثل ما صنعت من تطويل ما بعد التكبيرة الرابعة
(وفي رواية) لأبي بكر الشافعي الغيلاني كما قال الحافظ في
«تخريج أحاديث الرافعي» : أي عن ابن أبي أوفى (كبر أربعاً
فمكث) بفتح الكاف على الأفصح (ساعة) أي زمناً طويلاً
يستغفر ويدعو، وقوله (حتى ظننا أنه سيكبر خمساً) غاية
للإطالة المدلول عليها بقوله ساعة (ثم سلم عن يمينه)
كتسليم الصلاة حتى يرى بياض خده الأيمن (و) كذا (عن شماله،
فلما انصرف) أي انتهى من الصلاة (قلنا له: ما هذا قال: إني
لا أزيدكم على ما رأيت رسول الله يصنع، أو) شك من الراوي
هل قال ابن أبي أوفى كما تقدم عنه، أو (قال هكذا) مثل ما
صنعت (صنع رسول الله رواه الحاكم) في «المستدرك» (وقال:
حديث صحيح) وفي «تخريج أحاديث الرافعي» رواه أحمد اهـ.
فيؤخذ منه استحباب الدعاء للميت بعد الرابعة وهو الذي رجحه
الرافعي بعد أن ذكر فيه خلافاً.
158 - باب الإسراع بالجنازة
أي ندب الإسراع بالسير بها، وحكى البيهقي في «المعرفة» عن
الشافعي أن الإسراع بها هو فوق سجية المشي، وحكى ابن
المنذر وابن بطال أنه سجية المشي. قال العراقي: والأول
أثبت ويوافقه قول أصحابنا وهذه عبارة الرافعي والنووي.
والمراد بالإسراع فوق المشي المعتاد ودون الخبب. وعبارة
صاحب «الهداية» من الحنفية ويمشون بها مسرعين دون الخبث،
والمراد بطلب إسراع لا يشق على من تبعها ولا يحرك الميت
فذلك مكروه.
1941 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي قال: أسرعوا)
بقطع الهمزة (بالجنازة)
(6/420)
أي بالسير إلى القبر على وجه لا يؤدي إلى
سقوطها ولا إلى تفجر الميت (فإن تك صالحة فخير) أي فهو خير
(تقدمونها إليه) والمبادرة بتقريب الخير مطلوبة (وإن تك)
أي الجنازة (سوى ذلك) ذكر اسم الإشارة باعتبار الميت ولذا
ذكر الضمير في قوله (فشر تضعونه عن رقابكم، متفق عليه)
ورواه أحمد وأصحاب السنن الأربع كما في «الجامع الصغير»
(وفي رواية لمسلم: فخير تقدمونها عليه) فينبغي الاسراع به
ليظفر عن قرب بنيل ماأعد له والتأخير يفوِّت عليه بعض ذلك،
وروى بنصب خير من باب الاشتغال.
2942 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كان النبي
يقول: إذا وضعت) بالبناء لما لم يسم فاعله ونائب فاعله
(الجنازة) بفتح الجيم الميت وتقدم الكلام في ذلك وبكسرها:
السرير كذا في «شرح المشارق» لابن ملك، وفي «القاموس» :
الجنازة وبفتح الميت أو بالكسر الميت، وبالفتح السرير أو
عكسه، أو بالكسر السرير مع الميت، وتقدم الكلام في ذلك في
كتاب عيادة المريض، وقوله «إذا وضعت الجنازة» أي إذا وضعها
أهلها (فاحتملها) وفي «المشارق» بالواو بدل الفاء (الرجال
على أعناقهم) أي على أكهالهم المقاربة لأعناقهم، ففيه مجاز
مرسل علاقته المجاورة (فإن كانت صالحة) بامتثال الأوامر
واجتناب النواهي في حياتها، أو لم تكن كذلك ولكن منّ عليها
بالتوبة عند موتها (قالت: قدموني) وحذف المقدم إليه إيماء
إلى أنه مما تضيق العبارة عن بيانه لكثرته (وإن كانت غير
صالحة قالت لأهلها: يا ويلها) يحتمل أنها تقول يا ويلي،
لكن كنى عن ذلك بضمير الغيبة إيماء إلى أن الإنسان إذا حكى
ما تستقبح إضافته للنفس ينبغي أن يسنده لضمير الغيبة، كما
في حديث وفاة أبي طالب «فكان آخر ما قال: هو على ملة عبد
المطلب» مع أنه جاء بضمير المتكلم قال: المصنف في «شرح
مسلم» : هذا من حسن الآداب والتصرفات، وهو أن من حكى قول
غيره
(6/421)
القبيح أتى به بضمير الغيبة لقبح صورة
اللفظ الواقع اهـ. وعلى هذا فلا التفات في العبارة. ويحتمل
أنه يقول بهذا اللفظ ففيه التفات على مذهب السكاكي، والويل
كلمة تقال عند العذاب أو خوفه. قال ابن ملك: إن أريد من
الجنازة السرير يكون الضمير في يا ويلها في موضعه لكن يكون
المراد من صالحة ومن قدموني ما حمل عليه فيلزم التجوز في
موضعين فإرادة الميت أولى، وهذا القول بلسان الحال فيكون
استعارة. وقال المكاشفون: إنه حقيقي لأن الجمادات ناطقة
ومسبحة بالحقيقة لكن لا يفهم المحجوب قاله ابن ملك. قلت:
ويؤيده أن الأصل حمل ما جاء في الكتاب والسنة على حقيقته
حتى
يأتي ما يصرفه عنها، ويؤيده قوله في الحديث «يسمع صوتها»
الخ (أين تذهبون بها يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان) دخل
في جملة السامع الجن (ولو سمع الإنسان لصعق) بفتح فكسر: أي
لغشي عليه وقيل لمات وهذا أبلغ في حكمة منع إسماع الصوت
لإفضائه إلى فساد العالم (رواه البخاري) في باب الجنائز.
159 - باب تعجيل قضاء الدين عن الميت
مسارعة لللإطلاق مما يعقله عن بلوغه مقامه السني
(والمبادرة إلى تجهيزه) بالغسل والتكفين والصلاة والدفن
(إلا أن يموت) استثناء من أعم الأحوال: أي في كل حال وهو
استثناء مفرغ اعتباراً بوجود النفي من حيث المعنى كأنه قيل
لا يترك المبادرة بتجهيزه في حال من الأحوال إلا حال موته
(فجأة) بفتح فسكون وبضم ففتح فألف ممدودة: أي بغتة (فيترك)
بالبناء للمفعول ونائب فاعله ضمير الميت (حتى يتيقن موته)
ولو بالتغير.
1943 - (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ قال: نفس
المؤمن معلقة بدينه) قال
(6/422)
السيوطي: أي محبوسة عن مقامها الكريم. وقال
العراقي: أي أمرها موقوف لا يحكم لها بنجاة ولا هلاك حتى
تنظر: هل يقضي ما عليها من الدين أو لا؟ ويستمر تعلقها
الحديث. وشذ الماوردي فقال: الحديث محمول على من لم يخلف
وفاء، وظاهر أن من عصى بالاستدانة أو قصر في القضاء فذلك
حاله، وإلا فالمرجو من الله العفو عنه وإرضاء الخصوم (رواه
الترمذي وقال: حديث حسن) وفي نسخة من الرياض زيادة «صحيح»
ولا وجود لها فيما وقفت عليه من أصلي من الترمذي.
2944 - (وعن حصين) بضم المهملة الأولى وفتح الثانية وسكون
التحتية آخره نون (ابن وحوح) بفتح أوله وبمهملتين الأولى
ساكنة الأنصاري المدني صحابي (رضي الله عنه) له حديث ذكر
ابن الكلبي أنه استشهد بالقادسية، خرّج عنه أبو داود كذا
في «تقريب» الحافظ (أن طلحة بن البراء) بتخفيف الموحدة
والراء ابن عمير بن وبرة بن ثعلبة بن غنم بن سري بضم
المهملة وفتح الراء وتشديد الياء ابن سلمة بن أسد البلوي
الأنصاري (رضي الله عنه مرض، فأتاه رسول الله يعوده فقال)
أي لأهله كما صرح به ابن الأثير في روايته وقال: أخرجه ابن
عبد البرّ والمديني وأبو نعيم (إني لا أرى) بضم الهمزة: أي
أظن (طلحة إلا قد حدث فيه الموت) أي بالشروع في النزع وفي
رواية ابن الأثير «إني أرى طلحة» الخ (فآذنوني) زاد ابن
الأثير في روايته «فإذا مات فآذنوني» وهو بمد الهمزة وكسر
الذال المعجمة: أي أعلموني (به) أي بموته زاد ابن الأثير
في روايته «أصلي عليه» (وعجلوا) بتشديد الجيم (به فإنه لا
ينبغي) أي لا يحسن (لجيفة مسلم أن تحبس بين ظهري أهله)
زادابن الأثير روي «أنه توفي ليلاً فقال: ادفنوني ليلاً
وألحقوني بربي، ولا تدعوا رسول الله فإني أخاف عليه من
اليهود أن يصاب في سببي. فأخبر رسول الله حين أصبح، فجاء
حتى وقف على قبره وصفّ الناس معه ثم رفع يديه وقال: اللهم
الق طلحة وأنت تضحك إليه وهو
(6/423)
يضحك إليك» وقد روي عن طلحة بن البراء أن
النبي دعا له، أخرجه الثلاثة اهـ. وتذكير ضمير أهله لعوده
على المضاف إليه وتأنيث ضمير تحبس لعوده على المضاف (رواه
أبو داود) .
160 - باب الموعظة
مصدر ميمي بمعنى الوعظ وهو التذكير بعذاب الله تعالى
الزاجر عن مخالفته وبثوابه الباعث على طاعته (عند القبر)
لأنه حينئذ أنجع وذلك لأن رؤية الميت وذكر الموت يرقق
القلب ويذهب غلظته.
3945 - (عن علي رضي الله عنه قال: كنا في جنازة) لم أر عين
اسمها (في بقيع) بفتح الموحدة وكسر القاف فعين مهملة وسكون
التحتية (الغرقد) بالمعجمة والقاف بوزن جعفر هو كما في
«النهاية» : ضرب من شجر العضاه وسجر الشوك، الغرقدة
واحدته، وبقيع الغرقد: مقبرة المدينة، قال في «النهاية» :
قيل لها ذلك لأنه كان فيها غرقد وقطع (فأتانا رسول الله
فقعد وقعدنا حوله ومعه مخصرة) بكسر الميم وسكون الخاء
المعجمة وفتح الصاد المهملة، قال في النهاية: هي ما يختصره
الإنسان فيمسكه: من عصاة أو عكاز أو مقرعة أو قضيب، وقد
يتكىء عليه. قلت: والمراد هنا عصا ذات رأس معوج (فنكس) أي
طأطأ رأسه، وذلك يكون عند التفكر والتدبر (وجعل) من أفعال
الشروع (ينكث) أي يؤثر في الأرض (بمخصرته) أي يضرب الأرض
بطرفها، قال في «النهاية» : وهو فعل المفكر المهموم (ثم
قال:
(6/424)
ما منكم من) مزيدة لتأكيد استغراق النفي في
(أحد إلا قد كتب) بالبناء للمجهول (مقعده) بالرفع نائب
الفاعل، ويجوز نصبه على الظرفية، ونائب الفاعل مستتر (من
النار) قدم ذكر مقعدها لأن المقام للوعظ وهي أنجع فيه من
قرينتها لأنها من باب النذارة وهي انجع من البشارة (ومقعده
من الجنة) والمراد أن أهل الجنة كتب في الأزل مقعدهم منها،
وكذا أهل النار، ويدل على إرادة ذلك المقام، وأن ما بعد
إلا من الجملة في محل الحال وهو استثناء مفرغ من أعم
الأحوال: أي ما منكم أحد في حال إلا حال كتابة مقعدة منهما
في الأزل (فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل) من الاتكال وهو
الاعتماد: أي أتعمل مع ذلك فلا نتكل (على كتابنا) أي
مكتوبنا السابق من سعادة وضدها، قال الشيخ زكريا في «تحفة
القاري» : والقائل هو سراقة بن خيثم أو أبو بكر أو عمر أو
علي الراوي، قلت: ولا مانع من كون كل سأل بدليل فقالوا
(فقال اعملوا) أي ماأمرتم بعمله من التكاليف الشرعية (فكل)
منكم (ميسر لما خلق له) من سعادة أو شقاوة بعمل السعداء أو
الأشقياء (وذكر
تمام الحديث) جاء في رواية البخاري قال «أماأهل السعادة
فييسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل
الشقاوة، ثم قرأ فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى إلى
قوله: {فسنيسره للعسرى} (الليل: 6) (متفق عليه) وأخرجه أبو
داود والترمذي وابن ماجه.
161 - باب الدعاء للميت بعد دفنه
لأن ذلك أول مفارقته للدنيا ونزوله بمنزل لا يألفه ولا
يعرفه فيناسب الدعاء له بالعفو والغفران والتثبيت ودفع
هوله (والقعود عند قبره) بعد الدفن (ساعة) قدر نحر جزور
وتفريق لحمها (للدعاء والاستغفار والقراءة) أي عليه، فإن
الرحمة تنزل عند قراءة القرآن فتعمه فتعود عليه بركتها.
(6/425)
1946 - (عن أبي عمرو) بفتح المهملة (وقيل
أبو عبد الله) ولد من بنت سيدنا رسول الله توفي مراهقاً من
ديك نقر عينه (وقيل أبو ليلى عثمان بن عفان) تقدمت ترجمته
(رضي الله عنه) في باب فضل الزهد (قال: كان النبي إذا فرغ)
بالبناء للمفعول (من دفن الميت وقف عليه فقال: استغفروا)
أي أسألوا الله غفر الذنوب (لأخيكم) وفي التعبير به إيماء
إلى السبب الداعي للدعاء له لأن شأن الأخ الاهتمام بنفع
أخيه (واسألوا له التثبيت) أي أن يثبته الله عند سؤال
الملكين له في القبر عن ربه ونبيه (فإنه) أي الأخ (الآن)
ظرف لقوله (يسأل) بالبناء للمفعول: أي يسأله الملكان أي
والدعاء له بالتثبيت ربما كان يفضل الله تعالى سبباً
لتلقينه حجته وكفايته من القبر وفتنته (رواه أبو داود) .
2947 - (وعن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: إذا دفنتموتي
فأقيموا) أي امكثوا (حول) أي عند (قبري قدر ما ينحر)
بالبناء للمفعول (جزور) بفتح الجيم وضم الزاي وهي المنحور
من الإبل ذكراً كان أو أنثى (ويقسم لحمها) ببناء الفعل
للمجهول أيضاً (حتى) تعليلية: أي كي (أستأنس) أي آنس (بكم)
والسين فيه للمبالغة (وأعلم ما) أي أيّ شيء الذي (أراجع به
رسل ربي) وكأنّ حكمة ذلك والله أعلم أن النوع الإنساني
يأنس بمثله ولو من وراء جدار، وإذا أنس الإنسان سكن قلبه
واطمأنت نفسه وإذا كان كذلك ثبت في بين ما يطلب منه بيانه
بخلاف النفس عند الوحشة والقلق والاضطراب والفرق فإنه يختل
عليها الأمر في الجواب، والله الموفق (رواه مسلم، وقد سبق)
الحديث (بطوله) في باب
(6/426)
الرجاء (قال الشافعي رحمه الله: ويستحب أن
يقرأ عنده شيء من القرآن) ليصيبه من الرحمة النازلة على
القراء للقرآن نصيب (وإن ختموا القرآن) أي قرءوه (كله كان
حسناً) لعظيم فضله.
162 - باب الصدقة عن الميت والدعاء له
أي استحباب ذلك له.
(قال الله تعالى) : ( {والذين} ) معطوف إما على قوله
«للفقراء» أو على قوله «والذين تبوءوا الدار» أي أن الفىء
لهؤلاء الثلاثة المهاجرين والأنصار والذين ( {جاءوا من
بعدهم} ) زمناً وهم التابعون بإحسان (يقولون ربنا اغفر لنا
ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان» ) جملة حالية قيد
لاستحقاق المتأخر الفىء ولذا قال الإمام مالك: لا حق لسابي
السلف في الفيء وذكر الآية وهذا دليل طلب الدعاء للميت،
ويقاس به الصدقة عنه بالأولى لأنهم إذا مدحوا بالدعاء لهم
فلأن يمدحوا بالصدقة عنهم أولى.
1 948ـ (وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً) هو سعد بن
عبادة الأنصاري (قال للنبي: إن أمى افتلتت) افتعال من
الفلت مبني لما لم يسم فاعله و (نفسها) بالرفع نائبه
(وأراها) بضم الهمزة (لو تكلمت تصدقت) الجملة الشرطية ثاني
مفعولي رأى (فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟) وكأن وجه هذا
السؤال ظاهر قوله تعالى: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى}
(النجم: 39) الموهم قصور الثواب على ما يعمله العامل دون
ما عمل له وإن بفتح الهمزة
(6/427)
وحذف الجار: أي في تصدقي عنها أو بكسرها
والجواب محذوف لدلالة ما قبله عليه (قال نعم) أي لها ذلك
والآية، قيل هي في الكافر فالإنسان عام مراد به خاص، وإن
كان في المؤمن فالمعنى ليس للمؤمن من حيث العدل إلا جزاء
ما عمل، وأما على سبيل الفضل فالله أعظم وأكرم يتجاوز عن
السيئة ويضاعف الحسنة ويثيبه بما فعل عنه من القرب (متفق
عليه) .
2949 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: إذا
مات الإنسان انقطع عمله) لزوال التكليف بالموت ولخروجه من
عالمه إلى البرزخ وليس محل عمل والمراد لازم العمل: أي أن
الإنسان يتم تحصيله للثواب بنفسه بموته (إلا من ثلاث) لا
تنافي بينه وبين حديث ابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله «إنما يلحق المؤمن من عمله وحسناته بعد
موته: علماً نشره، وولداً صالحاً تركه ومصحفاً ورثه،
ومسجداً بناه، وبيتاً لابن السبيل بناه، ونهراً أجراه،
وصدقة أخرجه من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته»
إما لأن مفهوم العدد خير حجة، وإما لأنه اطلع أولاً على ما
في حديث مسلم ثم أطلعه الله على الزائد فأخبر به.. قال
السيوطي: وقد تضمن حديث ابن ماجه سبع خصال، ووردت خصال أخر
بلغت بها عشراً، وقد نظمتها فقلت:
إذا مات ابن آدم ليس يجري
عليه من فعال غير عشر
علوم بثها ودعاء نجل
وغرس النخل والصدقات تجري
وراثة مصحف ورباط ثغر
وحفر البئر أو إجراء نهر
وبيت للغريب بناه يأوي
إليه أو بناء محل ذكر
وزاد رحمه الله في شرح مسلم الحادية عشر فقال:
وتعليم لقرآن كريم
فخذها من أحاديث بحصر
(6/428)
(صدقة جارية) كوقف أو وصية لفقير (أو علم)
شرعي أو آلته (ينتفع به) لكونه ألفه أو وقف كتباً فيه أو
تخرّج عليه الطلبة أو تعلم منه متعلم فعمل به فله مثل
ثوابه (أو ولد صالح) أي مسلم (يدعو له) لأنه من كسبه وقد
تفضل الله تعالى بكتابه مثل ثواب سائر الحسنات التي يعملها
الأولاد للوالد دون آثام السيئات (رواه مسلم) .
باب ثناء الناس بتقديم المثلثة
(على الميت) والثناء وإن كان محصوصاً بالمحاسن
والمساوي ثناء، لكن المراد ما يعمها
1950 - (وعن أنس رضي الله عنه قال: مروا بجنازة) أي على
النبي ومن عنده (فأثنوا عليها خيراً) منصوب بنزع الخافض:
أي بخير أو أنه مفعول مطلق إما بتقدير ثناء خير فحذف
المضاف وأقام المضاف إليه مقامه، أو لكون الخير من نوع
الثناء فيكون نحو قعدت جلوساً وقرينة كون المرور عليه قول
أنس (فقال النبي) أي عند سماع ثنائهم عليها (وجبت) واحتمال
كونها مرت عليهم فقط فأثنوا عليها فبلغه ذلك خلاف الظاهر،
وضمير وجبت يرجع إلى الجنة المدلول عليها بالسياق (ثم
مرّوا بأخرى) أي بجنازة أخرى (فأثنوا عليها شراً) هذا
الحديث مؤيد للعزّ بن عبد السلام الشافعي حيث رأى أن
الثناء حقيقة في الخير والشرّ، ورأى الجمهور أنه حقيقة في
الخير فقط، وعله ففي الحديث مجاز مرسل تبعي علاقته
التضادّ، وأقرهم على الثناء عليه بالشر مع نهيه عن ذكر
مساوىء الموتى،
(6/429)
لأن النهي عنه في غير الكافر والمنافق
والمتجاهر بفسقه، فلعل التي أثنوا عليها شراً كانت واحداً
من الثلاثة (فقال النبي وجبت) أي النار كما سيصرح به
والخفاء الدالّ على تعيين الواجب فيهما سأل عمر رضي الله
عنه عن بيانه (فقال عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه: ما
وجبت؟) أي ما معناها فقال معناها ما تضمنه قولنا (هذا
أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة) فانطلاق الألسنة
بالثناء الحسن علامة على وجوب الجنة للمثنى عليه به (وهذا
أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار) أما إذا كان ذلك على
سبيل الهوى والغرض من غير باعث ووازع فالظاهر أنه لا يكون
كذلك (أنتم) أيها الصحابة أو مطلق المؤمنين ويؤيده أنه جاء
في رواية المؤمنون (شهداء الله في الأرض) فإذا جرى على
ألسنتكم ثناء بخير أو شرّ كان مطابقاً لما عند الله: أي
باعتبار الغالب أن الله تعالى يطلق الألسنة في حق كل إنسان
بما يعلم من سريرته التي لا يطلع عليها غيره، وبما يظهر
عليه من الأعمال الصالحة وضدها، فكأنه استنبط من هذا في حق
هذين القطع لهما بالجنة والنار، أو
أعلم الله تعالى أنهما في باطن الأمر عنده على طبق ثناء
الناس عليهما، فعلم أنه ليس المراد أن من خلق للجنة يصير
للنار بقولهم ولا عكسه، بل قد يقع الثناء بالخير أو الشر
وفي الباطن خلافه، وإنما المراد أن الثناء علامة مطابقة
وعلة دالة على ما في الواقع غالباً كما أنبأ عن ذلك ترتيبه
وجبت على الثناء المشعر بأن الثناء علة ذلك، ولذا أشار
أشرف المثنين بكونهم شهداء الله الصادقين في ثنائهم لكونهم
يجري على ألسنتهم ما يطابق ما عنده غالباً، ففيه غاية
التزكية منه لأمته بأن الله تعالى ما أنطقهم إلا ليصدقهم
غالباً في ثنائهم الواقع كالدعاء والشفاعة بوعده الحق الذي
لا يخلف، أو العادة المنزلين منزل الواجب الوقوع، فلذا رتب
على الثناء الوجوب بالمعنى المذكور لأنه تعالى لا يجب عليه
شيء بعمل ولا بشهادة ولا بغيرهما، تعالى الله عن ذلك
علوّاً كبيراً اهـ من «فتح الإله» (متفق عليه) .c
2951 - (وعن أبي الأسود الديلي) هو بكسر الدال وسكون
التحتية، ويقال الدؤلي بضم
(6/430)
الدال بعدها مفتوحة البصري اسمه ظالم بن
عمرو بن سفيان ويقال ابن عمر، ويقال: عمير بن ظليم
بالتصغير فيهما، ويقال: عمرو بن عثمان بن عمر، ثقة فاضل
مخضرم مات سنة تسع وستين من الهجرة، خرّج عنه الجميع، قاله
الحافظ العسقلاني في «التقريب» (قال: قدمت المدينة فجلست)
مستنداً (إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمرت بهم جنازة
فأثنى) بالبناء للمجهول ونائب فاعله قوله (على صاحبها) أي
المتوفى (خيراً، فقال عمر وجبت، ثم مرّ بأخرى فأثنى على
صاحبها خيراً، فقال عمر: وجبت، ثم مرّ بالثالثة فأثنى على
صاحبها شرّاً) هو على وزن قرينه وإعرابه (فقال عمر وجبت،
فقال أبو الأسود) مستكشفاً للواجب (فقلت: وما وجبت يا أمير
المؤمنين؟ قال: قلت كما قال النبي) في نظير ما وقع الآن من
قوله لمن أثنى عليه بخير وجبت: أي الجنة، ولمن أثنى عليه
بشرّ وجبت: أي النار، وعليه فالمشبه قول عمر فيهما والمشبه
به قول النبيّ فيهما بخصوص اللفظ المذكور، ويحتمل أن يكون
المشبه به ما دلّ عليه قوله (أيما) اسم شرط جازم مبتدأ،
وما صلة غير مانعة أياً من إضافتها إلى (مسلم) وقوله (شهد
له أربعة بخير أدخله الله الجنة) جملتا الشرط والجواب فإن
ذلك يدل بمنطوقه بوجوب الجنة لمن انطلقت الألسنة بالثناء
عليه بخير، وبمفهومه بوجوب النار لمن انطلقت الألسنة
بالثناء عليه بشرّ. وعند أحمد «تشهد له أربعة أبيات من
جيرانه الأدنين إلا قال الله تعالى: قد قبلت علمهم فيه
وغفرت له ما لا يعلمون» (فقلنا: وثلاثة) أي ومن شهد له
ثلاثة بخير أدخله الله الجنة (قال: وثلاثة) أي ومن شهد له
ثلاثة كذلك (فقلنا واثنان؟ قال: واثنان، ثم لم نسأله عن
الواحد) أي عمن شهد له واحد بالخير أيدخلها: أي والباب
توقيف لا مجال فيه للرأي (رواه البخاري) قال في «فتح
الإله» : وكأن سبب تخصيص المسلم بهذا سعة مظاهر الفضل
والرحمة
للمؤمنين، وأن الله تعالى يعطيهم من خير ما عنده بأدنى سبب
أو
(6/431)
دعاء أو شفاعة، وأخذ أئمتنا من هذا وما
قبله أنه يسن لمن مرّت به جنازة أن يدعو لها ويثني عليها
خيراً إن تأهل الميت لذلك لكن بلا إطراء.
164 - باب فضل من مات له أولاد صغار
بكسر المهملة جمع صغير، والمراد منه من دون البلوغ ذكراً
كان أو غيره.
1952 - (عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله: ما من
مسلم يموت له ثلاثة) أي من الأولاد (لم يبلغوا الحنث) بكسر
المهملة وسكون النون بعدها مثلثة كذا لجميع الرواة. وحكى
ابن قرقول عن الداودي أنه ضبطه الخبث بفتح المعجمة
والموحدة وفسره بأن المراد لم يبلغوا، أو أن يعملوا
المعاصي، قال: ولم يذكره غيره كذلك، والمحفوظ الأول
والمعنى لم يبلغوا الحلم فتكتب عليهم الآثام. قال الخليل:
بلغ الغلام الحنث: أي جرى عليه القلم، والحنث الذنب، قال
الله تعالى: {وكانوا يصرون على الحنث العظيم} (الواقعة:
46) وقال الراغب غبر بالحنث عن البلوغ لما كان الإنسان
يؤاخذ بما يرتكبه فيه بخلاف ما قبله، وخص الإثم بالذكر
لأنه الذي يحصل بالبلوغ لأن الصبي قد يثاب، وخص الصغير
بذلك لأن الشفقة عليه أعظم والحب له أشد والرحمة له أوفر،
وعليه فمن بلغ الحنث لا يحصل لمن فقده ما ذكر من هذا
الثواب وإن كان في فقد الولد أجر في الجملة، وبه صرح كثير
من العلماء. وفرقوا بين البالغ وغيره بأنه يتصوّر منه
العقوق المقتضي لعدم الرحمة، بخلاف الصغير فإنه لا يتصوّر
منه ذلك إذ ليس مخاطباً. وقال ابن المنير: بل يدخل الكبير
في ذلك من طريق الفحوى، لأنه ثبت ذلك من الطفل الذي هو كلّ
على أبويه فكيف لا يثبت في الكبير الذي ببلغ معه السعي
وحصل له منه النفع وتوجه إليه الخطاب بالحقوق اهـ. قال في
«فتح الباري» : ويؤيد الأول قوله (إلا أدخله الله الجنة
بفضل رحمته إياهم) لأن الرحمة للصغار أكثر لعدم حصول الإثم
منهم، وهل يلتحق بالصغار من
بلغ مجنونا مثلاً واستمر على ذلك
(6/432)
فمات؛ فيه نظر لكونهم لا إثم عليهم يقتضي
الإلحاق، وكون الامتحان بهم يخفّ لموتهم يقتضي عدمه، قال:
ولم يقع التقييد في طرق الحديث بشدة الحبّ ولا عدمه، وكان
القياس يقتضي ذلك لما يوجد من كراهة بعض الناس لولده
وتبريه منه لاسيما من كان ضيق الحال، لكن لما كان الولد
مظنة المحبة والشفقة نيط الحكم به وإن تخلف في بعض
الأفراد. وعند أبي ماجه من حديث عقبة مرفوعاً حديث نحو
حديث الباب لكن قال فيه «إلا تلقوه من أبواب الجنة
الثمانية من أيها شاء دخل» ويشهد له رواه النسائي بإسناد
صحيح من حديث معاوية بن قرة عن أبيه مرفوعاً من أثناء حديث
«أما يسرك أنك لا تأتي باباً من أبواب الجنة إلا وجدته
عنده يسعى يفتح لك؟» والضمير في قوله «بفضل رحمته إياهم»
يرجع إلى الله تعالى: أي بفضل رحمة الله للأولاد، وقال ابن
التين: يرجع للأب: أي لكونه يرحمهم في الدنيا جوزى برحمته
في الآخرة. قال الحافظ: والأولى أولى، ويؤيده أن في رواية
ابن ماجه من هذا الوجه بفضل رحمة الله إياهم. وللنسائي من
حديث أبي ذرّ «إلا غفر الله لهما بفضل رحمته» وضمير إياهم
راجع للأولاد خلافاً لما توهمه الكرماني من كونه راجعاً
لمسلم وإن جمعه باعتبر عمومه لكونه في سياق النفي (متفق
عليه) لكن اقتصر السيوطي في كتاب فقد الولد على عزوه
للبخاري فقط، ولعله لكونه عنده بهنا اللفظ، وزاد: ورواه
النسائي وابن ماجه.
2953 - (وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله:
لا يموت لأحد من المسلمين ثلاث من الولد) بفتحتين اسم جنس
يقع على الواحد فما فوقه وجمعه ولد بضم فسكون، والمراد
ثلاثة منهم مطلقاً أو لم يبلغوا الحنث كم تقدم فيما قبله
(لا تمسه النار) برفع تمسه جزماً كما قال في «فتح الباري»
قال الكرماني: هو في حكم البدل من لا يموت فكأنه قال: لا
تمس النار من مات له ثلاث من الأولاد من المسلمين (إلا
تحلة) بفتح المثناة الفوقية وكسر المهملة وتشديد اللام
(القسم) أي إلا بقدر ما ينحل به القسم وهو اليمين.
(6/433)
والتحلة مصدر حلل اليمين كفرها، يقال حللته
تحليلاً وتحلة وتحللاً بغير هاء والثالثة شاذة. قال أهل
اللغة يقال فعلته تحلة القسم: أي قدر ما حللت به يميني ولم
أبالغ (متفق عليه وتحلة القسم) المذكور في الحديث (هو قول
الله تعالى) : ( {وإن منكم إلا واردها} ) قال في «فتح
الباري» : قال الكرماني: اختلف في المراد بهذا القسم، فقيل
هو معين، وقيل غير معين، والجمهور على الأول، وقيل لم يعن
به قسم معين وإنما معناه التقليل لأمر ورودها، وهذا اللفظ
يستعمل في هذا القول يقال ما ينام فلان إلا تحلة الألية،
وقيل الاستثناء بمعنى الواو: أي لا تمسه النار أصلاً ولا
تحلة القسم، وجّز الفراء والأخفش مجىء إلا بمعنى الواو،
والأول هو قول الجمهور، وبه جزم أبو عبيد وغيره وقالوا:
المراد به قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} (مريم: 71)
قال الخطابي: معناه لا يدخل النار ليعاقب بها، ولكنه يدخل
مجتازاً ويكون ذلك الجواز بقدر ما يحلل الرجل به يمينه،
ويدل لذلك ما وقع عند عبد الرزاق عن معمر عن الزهري في آخر
الحديث «إلا تحلة القسم» يعني الورود، وفي سنن سعد بن
منصور عن سفين بن عيينة، ثم قرأ سفيان {وإن منكم إلا
واردها} ومن طريق زمعة بنت صالح عن الزهري في آخره «قيل
وما تحلة القسم؟ قال قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها} »
وكذا حكاه عبد الملك بن حبيب عن
مالك في تفسير هذا الحديث، وجاء عند الطبراني من حديث عبد
الرحمن بن بشير الأنصاري مرفوعاً «من مات له ثلاثة من
الولد لم يبلغوا الحنث لم يرد النار إلا عابر سبيل» يعني
الجواز على الصراط. واختلف في موضع القسم من الآية، فقيل
هو مقدر: أي والله إن منكم إلا واردها، وقيل معطوف على
القسم الماضي في قوله تعالى:
{فوربك لنحشرنهم} (مريم: 68) وقيل مستفاد من قوله: {حتماً
مقتضياً} أي قسماً واجباً كذا رواه الطبراني وغيره، وقال
الطيبي: يحتمل أن المراد بالقسم ما دل على القطع والبت من
السياق، فإن قوله: {كان على ربك حتماً مقتضياً} تذييل
وتقرير لقوله: {وإن منكم إلا واردها} فهو بمنزلة القسم بل
أبلغ لمجىء الاستثناء بالنفي والإثبات. واختلف في المراد
بالورود في الآية، فقال المصنف (والورود هو العبور على
الصراط، وهو) أي الصراط (جسر) بكسر الجيم وسكون المهملة أي
ممر (منصوب على ظهر جهنم، عافانا الله منها) وهذا القول
رواه الطبراني وغيره من
(6/434)
طريق بشر ابن سعيد عن أبي هريرة، ومن طريق
أبي الأحوص عن عبد الله بن مسعود، ومن طريق معمر وسعيد عن
قتادة، ومن طريق عن كعب الأحبار وزاد يستوون كلهم على
منتهاه ثم ينادي منادٍ: أمسكي أصحابك ودعي أصحابي، فيخرج
المؤمنون ندية أبدانهم. وقيل «الورود» هو الدخول بها. روى
النسائي والحاكم من حديث جابر مرفوعاً: «الورود الدخول لا
يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً
وسلاماً» . وروى الترمذي وابن أبي حاتم من حديث ابن مسعود
موقوفاً قال: «يردونها أو يلجونها ثم يصدرون عنها
بأعمالهم» . قال عبد الرحمن بن مهدي: قلت لشعبة إن إسرائيل
يرفعه، قال: صدق وعمداً أدعه. ثم رواه الترمذي عن إسرائيل
مرفوعاً. قال في «فتح الباري» : وهذان القولان أصح ما ورد
في ذلك. ولا تنافي بينهما لأن من عبر بالدخول تجوز به عن
المرور، ووجهه أن المارّ عليه فوق الصراط بمعنى من دخلها،
لكن
تختلف أحوال المارين باختلاف أعمالهم، فأعلى درجة من يمرّ
كملح البرق. ويؤيد الأول ما يراه مسلم من حديث أم مبشر أن
حفصة قالت للنبي لما قال: لا يدخل أحد ممن شهد الحديبية
النار، أليس الله تعالى يقول: {وإن منكم إلا واردها؟} فقال
لها: أليس الله يقول: {ثم ننجي الذين اتقوا؟} (مريم: 72)
الآية. وفي هذا بيان ضعف قول من قال: الورود مختص بالكفار،
ومن قال معنى الورود الدنوّ منها، ومن قال معناه الإشراف
عليها، ومن قال معناه ما يصيب المؤمن من الحمى في الدنيا،
على أن هذا الأخير ليس ببعيد ولا ينافيه بقية الأحاديث
اهـ.
3954 - (وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جاءت
امرأة) أشار الحافظ في «الفتح» إليها أنها من نساء الأنصار
(إلى رسول الله فقالت: يا رسول الله ذهب الرجال بحديثك) أي
منفردين به عن النساء (فاجعل لنا من نفسك يوماً) فيه تجريد
أو في الكلام مضاف: أي من أوقات نفسك: أي الأوقات التي
تجعلها لنفسك منفرداً فيها عنهم، فإنه يجزىء أوقاته ثلاثاً
كما في «شمائل الترمذي» (نأتيك فيه تعلمنا مما علمك الله)
الجملتان مستأنفتان بسبب طلبهن اليوم والمراد منه مطلق
الوقت وفصلهما إيماء إلى استقلال كل منهما بالكفاية فيما
طلبوا (قال: اجتمعن يوم كذا وكذا) عينه لهن ليستعددن له
وليكن أشوق، فتكون
(6/435)
الموعظة أوقع لأن ما حصل بالطلب ليس
كالحاصل بلا تعب (فاجتمعن فأتاهن النبيّ فعلمهن مما علمه
الله) أي من الأحكام المحتاجات إليها (ثم قال) زيادة على
مطلوبهن مبشراً (ما منكن من امرأة) من الثانية مزيدة ومن
في «منكن» لبيان إبهام المرأة حال منها: أي ما أمره منكن
والمراد معشر النساء المسلمات (تقدم ثلاثة من الولد)
بفتحتين يشمل الذكر والأنثى والمفرد والجمع (إلا كانوا)
لبعض، رواة البخاري «كن» بضم الكاف وتشديد النون وكأن
التأنيث باعتبار النفس أو النسمة (لها حجاباً من النار)
الظرف الأول لغو متعلق بكان على الأصح من تعلق الظرف بها،
ويجوز إعرابه حالاً من حجاباً، كان وصفاً له فنقدم فأعرب
حالاً والظرف الثاني في محل الصفة. قال القرطبي: وخصت
الثلاثة لأنها أول مراتب الكثرة فتعظم المصيبة بكثرة
الأجر، فأما إذا زاد عليها فقد يخف أمر المصيبة لكونها
تصير كالعادة اهـ. وتعقبه الحافظ ابن حجر فيما أوهمه كلامه
من قصر ذلك على من فقد له ثلاثة دون من فقد له أربعة أو
خمسة بأنه جمود شديد، فإن مات له أربعة مات له ثلاثة ضرورة
وثبت له أجرهم وموت الرابع إن لم يزد في الأجر لا يرفعه
والحق أن تناول الخبر لما فوق الثلاثة بالأولى والأحرى،
ويؤيده أنهم لم
يسألوا عن الأربعة فما فوق لأن ذلك كالملعلوم عندهم من
الثلاثة (فقالت امرأة) هي أم سليم أم أنس بن مالك كما رواه
الطبراني عنها أنها سألته عن الاثنين، ووقع لأم مبشر
الأنصارية السؤال عن ذلك، رواه الطبراني أيضاً، وجاء من
حديث جابر بن سمرة أن أم أيمن ممن سأله عنه، ومن حديث ابن
عباس أن عائشة أيضاً منهن. وحكى ابن بشكوال أن أم هانىء
أيضاً سألت عنه قال في «فتح الباري» : فيحتمل أن كلاً منهن
سألت عن ذلك في ذلك المجلس واحتمال تعدد القصة فيه بعد
لأنه لما سئل عن الاثنين بعد ذكر الثلاثة أجاب بأن الاثنين
كذلك. والظاهر أنه كان بوحي أوحي إليه في الحال، وبذلك جزم
ابن بطال وغيره، وإذا كان كذلك كان الاقتصار على الثلاثة
بعد ذلك مستبعداً لأن المفهوم يخرج الاثنين اللذين ثبت
لهما ذلك الحكم بناء على الحكم بمفهوم العدد وهو المعتبر،
نعم قد جاء في حديث جابر بن عبد الله أنه ممن سأل عن ذلك،
وكذا عمر وحديثه عند الحاكم والبزار، وهذا لا بعد في تعدده
لأن خطاب النساء بذلك لا يستلزم علم الرجال به (واثنين)
هذا اللفظ رواية مسلم، والتقدير: وما حكم اثنين، وعند
البخاري واثنان بالألف: أي وإذا مات اثنان ما الحكم، وهذا
منها بناء على عدم اعتبار مفهوم العدد إذ لو اعتبرته لعلمت
(6/436)
انتفاء الحكم عما عدا الثلاثة لكنها جوزته
فسألت، قاله عياض. وتعقبه الحافظ في «الفتح» بأن الظاهر
أنها اعتبرت مفهوم العدد إذ لو لم تعتبره لما سألت.
والتحقيق أن دلالة مفهوم العدد ليست نصية بل محتملة فلذا
سألت (فقال رسول الله: واثنين) هو بالياء أيضاً وهو لفظ
مسلم: أي وحكم اثنين كذلك، وعند البخاري بالألف وتقديره:
وإذا مات اثنان فالحكم كذلك، وهذا ظاهر التسوية في حكم
الثلاثة والاثنين، وقد تقدم عن ابن بطال أنه أوحى إليه
بذلك في الحال، ولا بعد أن ينزل عليه الوحي في أسرع من
طرفة عين، ويحتمل أن يكون كان العلم عنده بذلك حاصلاً لكنه
أشفق عليهن أن يتكلوا، لأن
موت الاثنين غالباً أكثر من موت الثلاثة كما وقع في حديث
معاذ وغيره في الشهادة بالتوحيد، ثم لما سئل عنه لم يكن له
بد من الجواب قاله الحافظ (متفق عليه) .
165 - باب ندب البكاء والخوف عند المرور بقبور الظالمين
ومصارعهم
أي محل نزول العذاب عليهم: أي طلب الخوف قلباً وظهور آثاره
على ظاهر البدن بالبكاء والخضوع ونحوه كما قاله المصنف
(وإظهار الافتقار) أي المبالغة في الفقر (إلى الله تعالى
والتحذير من الغفلة عن ذلك) أي التحذير من الغفلة عما ذكر.
1955 - (عن ابن عمر أن رسول الله قال لأصحابه لما وصلوا
الحجر) بكسر المهملة وسكون الجيم، وعطف عليها عطف بيان
قوله (ديار ثمود) قوم صالح وهي فيما بين المدينة والشام،
وكان ذلك لما توجهوا معه إلى غزوة تبوك في السنة العاشرة
من الهجرة
(6/437)
(لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين) بفتح العين
والذال المعجمة: أي على منازلهم أو عليهم في قبورهم (إلا
أن تكونوا باكين) استثناء من أعم الأحوال: أي لا تدخلوا
على أي حال إلا حال بكائكم، وليس المراد الاقتصار عليه حال
الدخول بل استمرار ذلك مطلوب عند كل جزء من أجزاء الدخول
والمرور بهم، رجاء أنه لم ينزل فيه البتة» (فإن لم تكونوا
باكين فلا تدخلوا عليهم) لأنها مواقع سخط ومنازل بلاء (لا
يصيبكم) بالرفع على أن لا نافية: أي لئلا يصيبكم (ما
أصابهم) أي مثل ما أصابهم من العذاب. ويجوز الجزم على أنها
ناهية وهو نهي بمعنى الخبر، وللبخاري في أبواب الأنبياء
«أن يصيبكم» قلت: وهو كذلك في تفسير سورة الحجر منه: أي
خشية أن يصيبكم، كذا قدر البصريون مثله، وقدره الكوفيون
لئلا يصيبكم فحذف الجار، ووجه هذه الخشية أن البكاء في
الأول أرجح لما يأتي ببعثه التفكر والاعتبار، فكأنه أمرهم
بالتفكير في أحوال توجب البكاء من تقدير الله تعالى على
أولئك بالكفر مع تمكينه لهم في الأرض وإمهالهم مدة طويلة
ثم إيقاع نقمته بهم وشدة عذابه، وهو سبحانه مقلب القلوب
فلا يأمن المؤمن أن تكون عاقبته إلى مثل ذلك، فمن مرّ
عليهم ولم يتفكر فيما يوجب البكاء اعتباراً بحالهم فقد
شابههم في الإهمال ودلّ على قساوة قلبه وعدم خشوعه فلا
يأمن أن يجرّه ذلك إلى العمل بمثل عملهم فيصيبه ما أصابهم،
ولهذا يندفع اعتراض من قال: كيف يصيب عذاب الظالم من ليس
بظالم؟ لأنه بهذا التقدير لا يأمن أن يصير ظالماً فيعذب
بظلمه اهـ. ملخصاً من «فتح الباري» (متفق عليه) .
(وفي رواية) للبخاري في أبواب الأنبياء، ورواه النسائي
أيضاً في التفسير من «سننه» (قال) أي ابن عمر (لما مرّ
رسول الله بالحجر) في غزوة تبوك (قال) أي لأصحابه (لا
تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم) أي بالكفر بالله وتكذيب
رسل الله بتكذيب صالح عليه السلام، إذ من كذب رسولاً
بمنزلة من كذبهم لاتفاق دعوتهم واتحاد منهجهم، ولا يضرّ
اختلاف فروع شرائعهم فيما ذكر (أن يصيبكم ما أصابهم) أي
خشية أن يصيبكم: أي خشية إصابة ما أصابهم، وهذا تقدير
البصريين، وخرّج الكوفيون مثله كما مر آنفاً على أن حرف
النفي محذوف بين أن ومنصوبها. وتعقب بأن «لا» لا تضمر، إذ
لا يجوز حذف النفي ولكن يراد للتأكيد، وحذف المضاف كثير
(6/438)
وبهذا رجح طريق البصريين (إلا أن تكونوا
باكين) استثناء من أعم الأحوال كما تقدم: أي لا تدخلوها
إلا حال الاعتبار الباعث على البكاء (ثم قنع رأسه) أي ألقي
عليه القناع (وأسرع السير) واستمر كذلك (حتى أجاز) أي إلى
أن قطع وخلف (الوادي) ففيه النهي عن دخول مواضع العذاب لا
على وجه الاعتبار، وطلب الإسراع لداخلها، وفي «المصباح» :
الوادي كل منفرج بين آكام أو جبال يكون منفذاً للسيل جمعه
أودية.
(6/439)
|