شرح أبي داود للعيني

118- باب: من لم ير الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم
أي: هذا باب في بيان أقوال من لم ير الجهر بالتسمية في الصلاة، وفي بعض النسخ:" باب فيما جاء فيمن لم ير الجهر".
760- ص- نا مسلم بن إبراهيم، نا هشام، عن قتادة، عن أنس: " أن النبي- عليه السلام- وأبا بكر، وعمرَ، وعثمانَ كانوا يفتتحونَ القراءةَ ب (الحمدُ للهِ رَب العَالَميِنَ) (1) ".
ش- مسلم بن إبراهيم القصاب، وهشام الدَستوائي. والحديث أخرجه: البخاري، ومسلم، عن شعبة، عن قتادة، عن أنس قال: " صليت خلف رسول الله، وخلف أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، فلم أسمع أحداً منهم يقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) "، وفي لفظ لمسلم: " فكانوا يستفتحون القراءة ب (الحمد لله رب العالمين) لا يذكرون (بسم الله الرحمن الرحيم) في أول قراءة ولا في آخرها".
__________
(1) تفرد به أبو داود.

(3/398)


ورواه النسائي في " سننه "، وأحمد في " مسنده " (1) ، وابن حبان في" صحيحه " في النوع الرابع من القسم الخامس، والدارقطني في " سننه " (2) ، وقالوا فيه: " فكانوا لا يجهرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) "، وزاد ابن حبان:" ويجهرون ب (الحمد لله رب العالمين) " وفي لفظ للنسائي، وابن حبان أيضاً أفلم أسمع أحداً منهم يجهر به ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وفي لفظ لأبي يعلى الموصلي في " مسنده": "فكانوا يفتتحون القراءة فيما يجهر به ب (الحمدُ للهِ رَبَّ العَالَمينَ) "، وفي لفظ للطبراني في "معجمه "، وأبي نعيم في "الحلية "، وابن خزيمة في " مختصر المختصر " (3) :" فكانوا يسرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) "، ورجال هذه الروايات كلهم ثقات، مخرج لهم في" الصحيح "، وفي" المصنف": نا ابن علية، عن الحريري، عن قيس بن عبادة، قال: حدَثني ابن عبد الله بن مغفل، عن أبيه قال:" ولم أر رجلاً من أصحاب النبي- عليه السلام- كان أشد علي حدث في الإسلام منه، قال: سمعني وأنا أقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، قال: يا بني، إياك والحدث، فإني قد صليت خلف رسول الله، وأبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، فلم أسمع أحداً منهم يقول ذلك، إذا قرأت فقل: (الحمدُ لله ربَّ العَالمينَ) ". ورواه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه (4) .
ثم اعلم أن الكلام في التسمية على وجوه، الأول (5) : في كونها من
__________
(1) (3 / 264) .
(2) (1 / 315) .
(3) (1 / 249) كتاب الصلاة.
(4) الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاء في ترك الجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) (244) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: ترك الجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) (2 / 135) ، ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: افتتاح القراءة (815) ، وكذلك أحمد (4 / 85) .
(5) انظر: نصب الراية (1 / 327- 1 36) .

(3/399)


القرآن أم لا؟ ، الثاني: في أنها من الفاتحة أم لا؟ ، والثالث: أنها من أول كل سورة أم لا؟ ، والرابع: تجهر بها أم لا؟ .
أما الأول: فالصحيح من مذهب أصحابنا أنها من القرآن، لأن الأمة أجمعت على أن ما كان مكتوبا بين الدفتين نقله الوحي، فهو من القرآن والتسمية كذلك، وكذلك روى الأعلى، عن محمد، فقال:" قلت لمحمد: التسمية آية من القرآن أم لا؟ فقال: ما بين الدفتين كله قرآن "، وكذا روى الجصاص، عن محمد أنه قال:" التسمية آية من القرآن، أنزلت للفصل بين السور، وللبداية بها تبركاً وليست باقية في كل واحَدة منها ".
ويبتني على هذا أن فرض القرآن في الصلاة يتأدى بها عند أبي حنيفة،
إذا قرأها على قصد القراءة، دون الثناء عند بعض مشايخنا، لأنها آية من القرآن. وقال بعضهم: لا يتأدى، لأن في كونها آية تامة احتمال، فإنه رُوي عن الأوزاعي، أنه قال: "ما أنزل الله في القرآن (بسم الله الرحمن الرحيم) إلا في سورة النمل وحدها، ليست بآية تامة، وإنما الآية في قوله: (وإنهُ مِن سلَيْمَانَ وَإنهُ بِسْم اللهِ الرحمَنِ الرحيم) (1) " فوقع الشك في كونها / آية تامة، فلا يجور بالشك، وكذا يحرم على الجنب، والحائض، والنفساء قراءتها على قصد القرآن، أما على قياس رواية الكرخي فظاهر، لأن ما دون الآية يحرم عليهم، وكذا على رواية الطحاوي لاحتمال أنها آية تامة، فيحرم عليهم قراءتها احتياطي، وهذا القول قول المحققين من أصحاب أبي حنيفة، وهو قول ابن المبارك، وداود، وأتباعه، وهو المنصوص عن أحمد بن حنبل، وقالت طائفة: إنها ليست من القرآن إلا في سورة النمل، وهو قول مالك، وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة، وقالت طائفة: إنها آية من كل سورة، أو بعض آية كما هو المشهور عن الشافعي، ومن وافقه، وقد نقل عن
__________
(1) سورة النمل: (30) .

(3/400)


الشافعي أنها ليست من الفاتحة عند أبي حنيفة وأصحابه، ولا من رأس كل سورة. وقال الشافعي: إنها من الفاتحة قولا واحدة، وله في كونها من رأس كل سورة قولان، وعن أحمد روايتان، إحداهما: إنها من الفاتحة دون غيرها، تجب قراءتها حيث تجب قراءة الفاتحة، والثانية وهي الأصح: إنه لا فرق بين الفاتحة وغيرها في ذلك، وإن قراءتها في أول الفاتحة كقراءتها في أول السور.
والرابع: أنه يجهر بها عند الشافعي حيث يجهر بالفاتحة. وقال أبو حنيفة: لا يجهر بها، وهو قول جمهور أهل الحديث، وفقهاء الأمصار، وجماعة من أصحاب الشافعي، وقيل: يخير بينهما، وهو قول إسحاق بن راهويه، وابن حزم، ثم الحديث الذي رواه أبو داود وغيره يدل على أن البسملة ليست من الفاتحة، وهو حجة على من يجعلها من الفاتحة، وهذا الحديث أيضاً من أقوى الحجج لمنع الجهر بالبسملة، والحديث أخرجه جماعة من أصحاب الصحاح، والحسان.
ومنها: ما رواه النسائي في " سننه "، وأحمد في " مسنده "، وابن حبان في " صحيحه "، والدارقطني في " سننه "، وقالوا فيه: " فكانوا لا يجهرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) " كما ذكرناه. وفي لفظ للطبراني في " معجمه "، وأبي نعيم في " الحلية "، وابن خزيمة في "مختصر المختصر "، والطحاوي في " شرح الآثار ": " فكانوا يسرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
ولحديث أنس طرق أخرى دون ذلك في الصحة، ومنها ما لا يحتج به، وكل ألفاظه ترجع إلى معنى واحد يصدق بعضها بعضاً، وهي سبعة ألفاظ، فالأول: " كانوا لا يستفتحون القراءة ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
والثاني: " فلم أسمع أحداً يقول، أو يقرأ: (بسم الله الرحمن
الرحيم) ".
26. شرح سنن أبي داوود 3

(3/401)


والثالث: " فلم يكونوا يقرءون (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
والرابع: " فلم أسمع أحداً منهم يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ". والخامس: " فكانوا لا يجهرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
والسادس: " فكانوا يسرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
والسابع: " فكانوا يستفتحون القراءة ب (الحمد للْه رب العالمين) ".
وهذا اللفظ هو الذي صححه الخطيب، وضعف ما سواه، لرواية الحفاظ له عن قتادة، ولمتابعة غير قتادة له عن أنس فيه، وجعل اللفظ المحكم عن أنس، وجعل غيره متشابها، وحمله على الافتتاح بالسورة، لا بالآية، وهو غير مخالف للألفاظ الباقية بوجه، فكيف يجعل مناقضا لها؟ ! فإن حقيقة هذا اللفظ الافتتاح بالآية من غير ذكر التسمية جهراً، أو سرا، فكيف يجوز العدول عنه بغير موجب؟ ويؤكده قوله في رواية مسلم: " لا يذكرون (بسم اللْه الرحمن الرحيم) في أول قراءة ولا في آخرها "، لكنه محمول على نفي الجهر، لأن أنسأ إنما ينفي ما يمكنه العلم بانتفائه، فانه إذا لم يسمع مع القرب علم أنهم لم يجهروا، وأما كون الإمام لم يقرأها فهذا لا يمكن إدراكه إلا إذا لم يكن بين التكبير والقراءة سكوت يمكن فيها القراءة سرا، ولهذا استدل بحديث أنس هذا على عدم قراءتها من لم يرَ هاهنا سكوتا كمالك وغيره، لكن ثبت في " الصحيحين "، عن أبي هريرة، أنه قال: " يا رسول الله، أرأيت سكوتك بين التكبير والقراءة ما تقول؟ قال: أقول ... " كذا وكذا إلى [1/261-أ] آخره، على ما ذكرنا، وإذا كان له سكوت لم يمكن / لأنس أن ينفي قراءتها في ذلك السكوت، فيكون نفيه للذكر، والاستفتاح، والسماع، مرادا به الجهر بذلك، يدل علي قوله: " فكانوا لا يجهرون "، وقوله: " فلم أسمع أحداً منهم يجهر "، ولا تعرض فيه للقراءة سرا ولا على نفيها، إذ لا علم لأنس بها حتى يثبتها، أو ينفيها، ولذلك قال لمن سأله: " إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه "، فإن العلم بالقراءة السرية إنما

(3/402)


يحصل بإخبار، أو سماع عن قرب، وليس في الحديث شيء منهما، ورواية من روى: " فكانوا يسرون " كأنها مروية بالمعنى من لفظ: " لا يجهرون "، وأيضا فحمل الافتتاح ب (الحمدُ لله رَب العَالَمينَ) على السورة لا الآية مما تستبعده القريحة، وتمجه الأفهامَ الصحيحةَ، لأن هذا من العلم الظاهر الذي يعرفه العام والخاص، كما يعلمون أن الفجر ركعتان، وأن الظهر أربع، وأن الركوع قبل السجود، والتشهد بعد الجلوس إلى غير ذلك، فليس في نقل مثل هذا فائدة، فكيف يجوز أن نظن أن أنسأ قصد تعريفهم بهذا، وأنهم سألوه عنه؟ وإنما مثل هذا مثل من يقول: فكانوا يركعون قبل السجود، أو فكانوا يجهرون في العشاءين والفجر، ويخافتون في صلاة الظهر والعصر، وأيضا فلو أريد الافتتاح بالسورة لقيل: كانوا يفتتحون القراءة بأم القرآن، أو بفاتحة الكتاب، أو سورة الحمد، هذا هو المعروف في تسميتها عندهم، وأما تسميتها (الحمدُ لله رَب العَالمينَ) فلم ينقل عن النبي- عليه السلام- ولا عن الصحابة وَالتابعين، ولا عن أحد يحتج بقوله، وأما تسميتها بالحمد فقط فعُرْف متأخر، يقولون: فلان قرأ الحمد، وأين هذا من قوله: " فكانوا يفتتحون القراءة ب (الحمدُ للهِ رَب العَالمينَ) ؟ فإن هذا لا يجوز أن يراد به السورة إلا بدليل صحيح.
فإن قيل: فقد روى الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس الاستفتاح بأم القرآن، وهذا يدل على إرادة السورة. قلنا: هذا مروي بالمعنى، والصحيح عن الأوزاعي ما رواه مسلم عن الوليد بن مسلم،- عنه، عن قتادة، عن أنس، قال (1) : " صليتُ خلف أبي بكر، وعمرَ، وعثمانَ، فكانوا يستفتحون ب (الحمدُ لله رب العَالمينَ) ، لا يذكرون (بسم الله الرحمنِ الرحيم) في أول قرَاءة، ولا في آخرها ".
__________
(1) مكررة في الأصل.

(3/403)


ثم أخرجه مسلم، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، أخبرني إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أنه سمع أنس بن مالك يذكر ذلك، هكذا رواه مسلم في " صحيحه " عاطفا له على حديث قتادة، وهذا اللفظ المخرج في " الصحيح " هو الثابت عن الأوزاعي، واللفظ الآخر إن كان محفوظا فهو مَروي بالمعنى، فيجب حمله على (1) الافتتاح بأم القرآن.
ورواه الطبراني في" معجمه " بهذا الإسناد: " أن النبي- عليه السلام- وأبا بكر، وعمر، وعثمان، كانوا لا يجهرون ب (بسم اللهِ الرحمنِ الرحيم) ".
ومن الأحاديث التي فيها منع الجهر حديث قيس بن عباية الذي ذكرناه عن قريب. قال الترمذي فيه: حديث حسن، والعمل علي عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي- عليه السلام- منهم أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم، ومَن بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد، وإسحاق: لا يرون الجهر ب (بسم الله الرحمنِ الرحيم) في الصلاة، ويقولها في نفسه.
وقال النووي في " الخلاصة ": وقد ضعف الحفاظ هذا الحديث، وأنكروا على الترمذي تحسينه، كابن خزيمة، وابن عبد البر، والخطيب، وقالوا: إن مداره على ابن عبد الله بن مغفل، وهو مجهول.
قلت: رواه أحمد في " مسنده " من حديث أبي نعامة، والطبراني في
" معجمه " من طريقين: طريق من عبد الله بن شريدة، وطريق من أبي سفيان، فالطرق الثلاثة عن ابن عبد الله بن مغفل، وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة كما ذكرناه، وقد رواه من طريق ابن عبد الله. وقال الخطيب: عبد الله بن بريشة أشهر من أن يثنى عليه، وأبو سفيان السعدي
__________
(1) مكررة في الأصل.

(3/404)


وإن تكلم فيه، ولكنه يعتبر به ما تابعه علي غيره من الثقات، وهو الذي
يسمى ابن عبد الله بن مغفل.
قلت: فقد ارتفعت الجهالة عن ابن عبد الله بن مغفل برواية هؤلاء
الثلاثة الأجلاء عنه، وبالجملة فهذا حديث صريح في عدم الجهر بالبسملة، وهو وإن لم يكن / من أقسام الصحيح فلا ينزل عن درجة [1/261-ب] الحسن، وقد حسَنه الترمذي، والحديث الحسن يحتج به لا سيما إذا
تعددت شواهده، وكثرت متابعاته، والذين تكلموا فيه، وتركوا الاحتجاج به لجهالة ابن عبد الله بن مغفل، واحتجوا في هذه المسألة بما
هو أضعف منه، بل احتج الخطيب بما يعلم هو أنه موضوع، ولم يُحْسِن
البيهقي في تضعيف هذا الحديث إذ قال بعد أن رواه في كتاب " المعرفة "
من حديث أبي نعامة: تفرد به أبو نعامة قيس بن عبادة، وأبو نعامة،
وابن عبد الله بن مغفل، لم يحتج بهما صاحبا الصحيح.
قلت: قوله: " تفرد به أبو نعامة " ليس بصحيح، فقد تابعه عبد الله
ابن بريدة، وأبو سفيان السعدي.
وقوله:، وأبو نعامة، وابن عبد الله بن مغفل لم يحتج بهما صاحبا
الصحيح " ليس بلازم في صحة الإسناد، ولئن سلمنا فقد قلنا: إنه
حسن، والحسن يحتج به، وهذا الحديث مما يدل على أن ترك الجهر
عندهم كان ميراثا عن نبيهم- عليه السلام- يتوارثونه خلفُهم عن
سلفهم، وهذا وجه كان في المسألة، لأن الصواب الجهرية دائمة صباحا
ومَساء، فلو كان- عليه السلام- يجهر بها دائما " وقع فيه اختلاف ولا
اشتباه، ولكان معلوما بالاضطرار، و" قال أنس: " لم يجهر بها- عليه
السلام- ولا خلفاؤه الراشدون "، ولا قال عبد الله بن مغفل ذلك أيضا،ً
وسماه حَدَثاً، و" استمر عمل أهل المدينة في محراب النبي- عليه
السلام- ومقامه على ترك الجهر، فتوارثه آخرُهم عن أولهم، وذلك جار
عندهم مجرى الصاع والمد، بل أبلغ من ذلك، لاشتراك جميع المسلمين
في الصلاة، ولأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة، وكم من إنسان لا يحتاج

(3/405)


إلى صاع ولا مد، ومن يحتاجه يمكث مدة لا يحتاج إليه، ولا يظن عاقل أن أكابر الصحابة والتابعين، وأكثر أهل العلم كانوا يواظبون على خلاف ما كان رسول الله- عليه السلام- يفعله.
ومنها: ما أخرجه مسلم في " صحيحه " (1) ، عن بديل بن ميسرة،
عن أبي الجوزاء، عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: " كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يستفتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب " الحمدُ لله رَبّ العَالمينَ " انتهى. َ
وهذا ظاهر في عدم الجهر بالبسملة، وتأويله على إرادة اسم السورة يتوقف على أن السورة كانت تسمى عندهم بهذه الجملة، فلا يعدل عن حقيقة اللفظ وظاهره إلى مجازه إلا بدليل.
فإن قيل: هذا الحديث معلول بأمرين. الأول: أن أبا الجوزاء لا يعرف
له سماع من عائشة.
والثاني: أنه يروى عن عائشة: " أنه- عليه السلام- كان يجهر ". قلنا: يكفينا ابنه حديث أودعه مسلم في " صحيحه "، وأبو الجوزاء اسمه: أوس بن عبد الله الربعي، ثقة كبير، لا ينكر سماعه من عائشة، وقد احتج به الجماعة.
وبديل بن ميسرة تابعي، مُجمع على عدالته وثقته، وقد حدث بهذا الحديث عنه الأئمة الكبار، وتلقاه العلماء بالقبول ولم يتكلم فيه أحد منهم، وما رُوي عن عائشة من الجهر فكذب بلا شك، فيه الحكم بن عبد الله بن سعد، وهو كذاب دجال، لا يحل الاحتجاج به، ومن العجب القدح في الحديث الصحيح والاحتجاج بالباطل.
ومنها: ما رواه الإمام أبو بكر الرازي في " أحكام القرآن ": أخبرنا
أبو الحسن الكرخي، ثنا الحضرمي، أنا محمد بن العلاء، ثني معاوية بن هشام، عن محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله،
__________
(1) كتاب الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة ... (489/240) .

(3/406)


قال:، ما جهر رسولُ الله في صلاة مكتوبة ب " بسم اللهِ الرحمنِ
الرحيم "، ولا أبو بكر، ولاَ عمرُ ". انتهى.
قلت: هذا الحديث وإن لم يقم به حجة، ولكنه شاهد لغيره من
الأحاديث، فإن محمد بن جابر تكلم فيه غيرُ واحد من الأئمة، وإبراهيم
لم يلق عبد الله بن مسعود، فهو ضعيف ومنقطع، والحضرمي هو:
محمد بن عبد الله الحافظ المعروف بمطين، وشيخه محمد بن العلاء
أبو كريب الحافظ، روى عنه الأئمة الستة بلا واسطة، وللقائلين بالجهر أحاديث، أجودها حديث نعيم المجمر، قال: " صليت وراء أبي هريرة
فقرأ " بسم الله الرحمن الرحيم " ثم قرأ بأم القرآن، حتى قال: (غير المَغْضُوب عليهم ولا الضَّالين " قال: آمين /، وفي آخره: " ف" سلم [1/262-أ] قال: إنيَ لأشبهكم صلاة برسول الله صلى الله عليه وسلم رواه النسائي في " سننه "،
وابن خزيمة وابن حبان في " صحيحيهما "، والحاكم في " مستدركه "،
وقال: إنه على شرط الشيخين ولم يخرجاه، والدارقطني في " سننه "،
وقال: حديث صحيح، ورواته كلهم ثقات، والبيهقي في (سننه "،
وقال: إسناد صحيح، وله شواهد (1) .
وقال في " الخلافيات ": رواته كلهم ثقات، مجمع على عدالتهم،
محتج بهم في الصحيح، والجواب عنه من وجوه، الأول: أنه معلول،
فإن ذكر البسملة فيه مما تفرد به نعيم المجمع من بين أصحاب أبي هريرة،
وهم ثمانمائة ما بين صاحب، وتابع، ولا يثبت عن ثقة من أصحاب
أبي هريرة أنه حدث عن أبي هريرة، أنه- عليه السلام- كان يجهر
بالبسملة في الصلاة، ألا ترى كيف أعرض صاحبا الصحيح عن ذكر
البسملة في حديث أبي هريرة: " كان يكبر في كل صلاة من المكتوبة
وغيرها " الحديث؟
__________
(1) النسائي: كتاب الافتتاح، باب: قراءة " بسم الله الرحمن الرحيم " (2 / 134) ، وابن خزيمة (1 /251) : كتاب الصلاة، وابن حبان (5 /1797) ،
والحاكم (1 /232) ، والدارقطني (1/305-306) ، والبيهقي (2 /46) .

(3/407)


فإن قيل: قد رواها نعيم المجمر وهو ثقة، والزيادة من الثقة مقبولة. قلنا: ليس ذلك مجمعا عليه، بل فيه خلاف مشهور، فمنهم من يقبلها مطلقا، ومنهم من لا يقبلها، والصحيح التفصيل وهو أنها تقبل في موضع دون موضع، فتقبل إذا كان الراوي الذي رواها ثقة، حافظا، ثبتا، والذي لم يذكرها مثله، أو دونه في الثقة، كما قبل الناس زيادة مالك بن أنس قوله: " من المسلمين " في صدقة الفطر، واحتج بها أكثر العلماء، ومن حكم في ذلك حكما عاما فقد غلط، بل كل (1) زيادة لها حكم يخصها، ففي موضع يجزم بصحتها كزيادة مالك، وفي موضع يغلب على الظن صحتها كزيادة سعد بن طارق في حديث: " جُعلت لي الأرض مسجدا، وجعلت تربتها لنا طهورا ". وفي موضع يجزم بخطإ الزيادة كزيادة معمر ومن وافقه قوله:" وإن كان مائعا فلا تقربوه "، وكزيادة عبد الله بن زياد ذكر البسملة في حديث:" قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين "، وإن كان معمر ثقة، وعبد الله بن زياد ضعيفا، فإن الثقة قد يغلط، وفي موضع يغلب على الظن خطؤها كزيادة معمر في حديث ماعز: " الصلاة عليه "، رواه البخاري في " صحيحه "، وسئل هل رواها غير معمر؟ فقال: لا، وقد رواه أصحاب السنن الأربعة عن معمر، وقال فيه:" ولم يصل علي " فقد اختلف على معمر في ذلك، والراوي عن معمر هو: عبد الرزاق، وقد اختلف علي أيضاً، والصواب أنه قال:" ولم يصل عليه ".
وفي موضع يتوقف في الزيادة كما في أحاديث كثيرة، وزيادة نعيم المجمر التسمية في هذا الحديث مما يتوقف فيه، بل يغلب على الظن ضعفه، وعلى تقدير صحتها فلا حجة فيها لمن قال بالجهر، لأنه قال: " فقرأ " أو" فقال: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وذلك أعم من قراءتها سرا أو جهرا، وإنما هو حجة على من لا يرى قراءتها.
فإن قيل: لو كان أبو هريرة أسر بالبسملة، ثم جهر بالفاتحة لم يعبر
__________
(1) في الأصل: وكان " خطأ، وما أثبتناه من نصب الراية (1 / 336) .

(3/408)


عن ذلك نعيم بعبارة واحدة متناولة للفاتحة والبسملة تناولا واحدا، ولقال:
" فأسر بالبسملة، ثم جهر بالفاتحة "، والصلاة كانت جهرية بدليل تأمينه،
وتأمين المأمومين. قلنا: ليس الجهر فيه بصريح ولا ظاهر يوجب الحجة،
ومثل هذا لا يقدم على النص الصريح المقتضي للإسرار، ولو أخذ الجهر
من هذا الإطلاق لأخذ منه أنها ليست من أم القرآن، فإنه قال: " فقرأ
(بسم الله الرحمن الرحيم) ثم قرأ أم القرآن"، والعطف يقتضي المغايرة.
الوجه الثاني: أن قوله:" فقرأ " أو" قال " ليس بصريح أنه سمعها
منه إذ يجوز أن يكون أبو هريرة أخبر نعيما بأنه قرأها سرا، ويجوز أن
يكون سمعها منه في مخافتته لقربه منه، كما روي عنه من أنواع الاستفتاح
وألفاظ الذكر في: قيامه، وقعوده، وركوعه، وسجوده، ولم يكن
ذلك منه دليلاً على الجهر.
الوجه الثالث: أن التشبيه لا يقتضي أن يكون مثله من كل وجه، بل
يكفي في غالب الأفعال، وذلك متحقق في التكبير وغيره دون البسملة،
فإن التكبير وغيره / من أفعال الصلاة ثابت صحيح عن أبي هريرة، وكان [1/262-ب] مقصوده الرد على من تركه، وأما التسمية ففي صحتها عنه نظر فينصرف
إلى الصحيح الثابت دون غيره، ومما يلزمهم على القول بالتشبيه من كل
وجه أن يقولوا بالجهر بالتعوذ، لأن الشافعي روى: أخبرنا ابن محمد الأسلمي، عن ربيعة بن عثمان، عن صالح بن أبي صالح، أنه سمع
أبا هريرة:" وهو يؤم الناس، رافعا صوته في المكتوبة، إذا فرخ من
أم القرآن: ربنا إنا نعوذ بك من الشيطان الرجيم".
فهلا أخذوا بهذا كما أخذوا بجهر البسملة مستدلين بما في "الصحيحين"
عنه " فما أسمعنا- عليه السلام- أسمعناكم وما أخفانا أخفيناكم" (1) ،
وكيف يظن بأبي هريرة أنه يريد التشبيه في الجهر بالبسملة وهو الراوي عن
النبي- عليه السلام- قال: يقول الله تعالى:" قسمت الصلاة بيني وبين
__________
(1) يأتي برقم (774) ، وعندهم: " وما أخفى علينا أخفينا عليكم ".

(3/409)


عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: (الحمد لله رب العالمين) قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: (الرحمن الرحيم) قال الله: أثنى عليّ عبدي، وإذا قال: ومالك يوم الدين " قال الله: مجدني عبدي، وإذا قال: (إياكَ نعبدُ وإياكَ نَستعينُ) قال الله: هذا بيني وبن عبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال: (اهْدنَا الصراطَ المستقيمَ أو صِراطَ الذينَ أنعمت عليهم غير المغضوبِ عليهم ولا الضالينَ) قال الله: هذا لعبدي، ولعبدي ما سألَ " أخرجه مسلم في " صحيحه "، عن سفيان بن عيينة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، فذكره (1) .
وعن مالك بن أنس، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبي السائب (2) ، عن أبي هريرة (3) ، وعن ابن جريج، عن العلاء بن عبد الرحمن [به] (4) ، وهذا الحديث ظاهر في أن البسملة ليست من الفاتحة وإلا لابتدأ بها، لأن هذا محل بيان واستقصاء لآيات السورة، حتى إنه لم يخل منها بحرف، والحاجة إلى قراءة البسملة أمَس ليرتفع الإشكال. قال ابن عبد البر: حديث العلاء هذا قاطعُ تعلق المتنازعين، وهو نص لا يحتمل التأويل، ولا أعلم حديثا في سقوط البسملة أبين منه، واعترض بعض المتأخرين على هذا الحديث بأمرين، أحدهما: لا يعتبر بكون هذا الحديث في مسلم، فإن العلاء بن عبد الرحمن تكلم فيه ابن معين، فقال: ليس حديثه بحجة، مضطرب الحديث ليس بذاك، هو ضعيف، رُوي عنه هذه الألفاظ جميعها. وقال ابن عدي: ليس بالقوي، وقد انفرد بهذا الحديث فلا يحتج به.
__________
(1) مسلم: كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... (395 / 38) .
(2) في الأصل: " عن أبيه"، وما أثبتناه من صحيح مسلم.
(3) مسلم (395 / 39) .
(4) زيادة من نصب الراية (1 / 339) ، وانظره في صحيح مسلم (395 / 0 4) .

(3/410)


الثاني: قال: وعلى تقدير صحته فقد جاء في بعض الروايات عنه ذكر
التسمية، كما أخرجه الدارقطني، عن عبد الله بن زياد بن سمعان، عن
العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، سمعت رسول الله
- عليه السلام- يقول: " قسمتُ الصلاةَ بيني وبين عبدي نصفين،
فنصفها له، يقول عبدي إذا افتتح الصلاة: (بسم الله الرحمن الرحيم)
فيذكرني عبدي، ثم يقول: (الحمد لله رب العالمين) فأقول: حمدني عبدي ... " إلى آخره (1) ، وهذه الرواية وإن كان فيها ضعف، ولكنها
مفسرة لحديث مسلم أنه أراد السورة لا الآية.
قلت: هذا القائل حمله الجهل، وفرط التعصب، ورداءة الرأي
والفكر، على أنه ترك الحديث الصحيح، وضعفه لكونه غير موافق لمذهبه
وقال: لا يعتبر بكونه في مسلم، مع أنه قد رواه عن العلاء الأئمةُ الثقات
الأثبات: كمالك، وسفيان بن عيينة، وابن جريج، وشعيب،
وعبد العزيز الدراوردي، وإسماعيل بن جعفر، ومحمد بن إسحاق،
والوليد بن كثير، وغيرهم، والعلاء نفسه ثقة صدوق، وهذه الرواية مما
انفرد بها عنه ابن سمعان وهو كذاب، ولم يخرجها أحد من أصحاب
الكتب الستة، ولا في المصنفات المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، وإنما
رواه الدارقطني في " سننه " التي يروي فيها غرائب الحديث. وقال عمر
ابن عبد الواحد: سألت مالكا عنه، أي: عن ابن سمعان، فقال:
كان كذابا. وقال يحيى بن بكير: قال هشام بن عروة / فيه: لقد كذب [1/263-أ] علي، وحدث عني بأحاديث لم أحدثه بها، وعن أحمد بن حنبل:
متروك الحديث، وسئل ابن معين عنه؟ فقال: كان كذابا، وقيل لابن
إسحاق: إن ابن سمعان يقول: سمعت مجاهدا، فقال: لا إله إلا الله،
أنا والله أكبر منه، ما رأيت مجاهداً ولا سمعت منه. وقال ابن حبان:
كان يروي عمن لم يره، ويحدث بما لم يسمع. وقال أبو داود: متروك
الحديث، كان من الكذابين. وقال النسائي: متروك.
__________
(1) سنن الدارقطني (1 / 312) .

(3/411)


وكيف يعل الحديث الصحيح الذي رواه مسلم في " صحيحه " بالحديث الضعيف الذي رواه الدارقطني عن كذاب متروك لا شيء؟ ! وهلا جعلوا الحديث الصحيح علة للضعيف ومخالفة أصحاب أبي هريرة الثقات الأثبات لنعيم موجبا لرده؟ إذ مقتضى العلم أن يعلل الحديث الضعيف بالحديث الصحيح، كما فعلنا نحن.
ومنها: ما أخرجه الخطيب، عن أبي أويس، واسمه: عبد الله بن أويس، قال: أخبرني العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة
" أن النبي- عليه السلام- كان إذا أم الناس جهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
ورواه الدارقطني في " سننه " (1) ، وابن عدي في " الكامل " (2) فقالا فيه: " قرأ " عوض " جهر "، وكأنه رواه بالمعنى، والجواب: أن هذا غير محتج به، لأن أبا أويس لا يحتج بما انفرد به، وكيف إذا انفرد بشيء وخالفه فيه من هو أوثق منه؟ ! مع أنه متكلم فيه، فوثقه جماعة، وضعفهْ آخرون، وممن ضعفه: أحمد بن حنبل، وابن معين، وأبو حاتم الرازي، وممن وثقه: الدارقطني، وأبو زرعة. وقال ابن عدي: يكتب حديثه.
فإن قيل: أبو أويس قد أخرج له مسلم في " صحيحه ". قلت: صاحبا الصحيح إذا أخرجا لمن تكلم فيه إنما يخرجان بعد انتقائهما من حديثه ما توبع علي، وظهرت شواهده، وعلم أن له أصلا، ولا يخرجان ما تفرد به سيما إذا خالفه الثقات، وهذه العلة راجت على كثير ممن استدرك على " الصحيحين"، فتساهلوا في استدراكهم، وفي أكثرهم تساهلا الحاكم أبو عبد الله في كتابه " المستدرك " فإنه يقول: هذا على شرط الشيخين، أو أحدهما، وفيه هذه العلة، إذ لا يلزم من كون
__________
(1) (1/306)
(2) (5 / 301) ترجمة عبد الله بن عبد الله بن أبي عامر أبي أويس.

(3/412)


الراوي محتجا به في الصحيح أنه إذا وجد في أي حديث كان يكون ذلك
الحديث على شرطه، ولهذا قال ابن دحية في كتابه " العلم المشهور ":
ويجب على أهل الحديث أن يتحفظوا من قول الحاكم أبي عبد الله، فإنه
كثير الغلط، ظاهر السقط، وقد غفل عن ذلك كثير ممن جاء بعده،
وقلده في ذلك، والمقصود أن حديث أبي أويس هذا لم يترك لكلام الناس
فيه، بل لتفرده به، ومخالفة الثقات له، وعدم إخراج أصحاب المسانيد،
والكتب المشهورة، والسنن المعروفة، ولرواية مسلم الحديث في " صحيحه "
من طريقه، وليس فيه ذكر البسملة.
فإن قيل: قد جاء من طريق آخر، أخرجه الدارقطني (1) ، عن خالد
ابن إلياس، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال
رسول الله: " علمني جبريل الصلاة، فقام فكبر لنا، ثم قرأ: (بسم الله
الرحمن الرحيم) فيما يجهر به في كل ركعة ".
قلت: هذا إسناد ساقط، فإن خالد بن إلياس مجمع على ضعفه.
قال البخاري، عن أحمد: إنه منكر الحديث. وقال ابن معين: ليس
بشيء، ولا يكتب حديثه. وقال ابن أبي حاتم، عن أبيه: منكر الحديث
وقال النسائي: متروك الحديث. وقال البخاري: ليس بشيء. وقال ابن
حبان: يروي الموضوعات عن الثقات. وقال الحاكم: روى عن المقبري،
ومحمد بن المنكدر، وهشام بن عروة أحاديث موضوعة.
فإن قيل: قد جاء آخر رواه الدارقطني (2) أيضاً، عن جعفر بن مكرم،
نا أبو بكر الحنفي، نا عبد الحميد بن جعفر، أخبرني نوح بن أبي بلال،
عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله- عليه السلام-: " إذا قرأتم الحمد، فاقرءوا (بسم الله الرحمن الرحيم) إنها
أم القرآن، وأم الكتاب، والسبع المثاني، و (بسم الله الرحمن الرحيم)
أحد آياتها ". قلت: قال أبو بكر الحنفي: ثم لقيت نوحا / فحدثني [1/263-ب] " عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة مثله، ولم يرفعه.
__________
(1) (1 / 307) .
(2) (1 / 312) .

(3/413)


فإن قيل: قال عبد الحق في " أحكامه الكبرى ": رفع هذا الحديث
عبد الحميد بن جعفر، وهو ثقة، وثقه ابن معين. قلت: كان سفيان الثوري يضعفه، ويحمل عليه، ولئن سلمنا رفعه فليس فيه دلالة على الجهر، ولئن سلم، فالصواب فيه الوقف كما قال الدارقطني: اختلف فيه على نوح بن أبي بلال، فرواه عبد الحميد عنه، واختلف عنه، فرواه المعافى بن عمران، عن عبد الحميد، عن نوح، عن المقبري، عن أبي هريرة مرفوعا، ورواه أسامة بن زيد، وأبو بكر الحنفي، عن نوح، عن المقبري، عن أبي هريرة موقوفا، وهو الصواب.
فإن قيل: هذا موقوف، في حكم المرفوع، إذ لا يقول الصحابي:
إن البسملة إحدى آيات الفاتحة إلا عن توقيف، أو دليل قوي ظهر له، وح (1) يكون له حكم سائر آيات الفاتحة من الجهر، والإسرار. قلت: لعل أبا هريرة سمع النبي- عليه السلام- يقرأها فظنها من الفاتحة، فقال: إنها إحدى آياتها، ونحن لا ننكر أنها من القراَن، ولكن النزاع في موضعين، أحدهما: أنها آية من الفاتحة، والثانية: أن لها حكم سائر آيات الفاتحة جهراً وسرا، ونحن نقول: إنها آية مستقلة قبل السورة، وليست منها، جمعا بين الأدلة، وأبو هريرة لم يخبر عن النبي- عليه السلام- أنه قال: هي إحدى آياتها، وقراءتها قبل الفاتحة لا يدل على ذلك، وإذا جاز أن يكون مستند أبي هريرة قراءة النبي- عليه السلام- لها وقد ظهر أن ذلك ليس بدليل على محل النزاع، فلا يعارض به أدلتنا الصحيحة الثابتة، وأيضا فالمحفوظ الثابت عن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة في هذا الحديث عدم ذكر البسملة كما رواه البخاري في "صحيحه " من حديث ابن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: " والحمد لله " هي أم القرآن، وهي السبع المثاني، والقرآن العظيم "، ورواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح (2) على أن عبد الحميد بن جعفر ممن تكلم فيه، ولكن وثَّقه أكثر
__________
(1) أي: " وحينئذ ".
(2) يأتي برقم (1427) .

(3/414)


العلماء، واحتج به مسلم في " صحيحه "، وليس تضعيف مَن ضعفه مما يوجب رد حديثه، ولكن الثقة قد يغلط، والظاهر أنه قد غلط في هذا الحديث، والله أعلم.
ومنها: ما رواه الحاكم في " مستدركه " (1) : عن سعيد بن عثمان الخراز
ثنا عبد الرحمن بن سعد المؤذن، ثنا فطر بن خليفة، عن أبي الطفيل، عن علي، وعمار: " أن النبي- عليه السلام- كان يجهر في المكتوبات ب (بسم الله الرحمن الرحيم) "، وقال: صحيح الإسناد، لا أعلم في راويه منسوبا إلى الجرح، والجواب: قال الذهبي في " مختصره ": هذا خبر واهي، كأنه موضوع، لابن عبد الرحمن صاحب مناكير، ضعفه ابن معين، وسعيد إن كان الكريزي فهو ضعيف، وإلا فهو مجهول.
وعن الحاكم رواه البيهقي في " المعرفة " بسنده ومتنه، وقال: إسناده ضعيف، إلا أنه أمثل من حديث جابر الجعفي. قلت: وفطر بن خليفة قال السعدي: غير ثقة، روى له البخاري مقرونا بغيره والأربعة، وتصحيح الحاكم لا يعتد به سيما في هذا الموضع، فقد عرف تساهله في ذلك. قال ابن عبد الهادي: هذا حديث باطل، ولعله أدخل علي. وروى الدارقطني هذا الحديث في " سننه " (2) ، عن أسيد بن زيد،
عن عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي الطفيل، عن علي وعمار نحوه، وعمرو بن شمر، وجابر الجعفيان كلاهما لا يجوز الاحتجاج به، لكن عمرا أضعف من جابر. قال الحاكم: عمرو بن شمر كثير الموضوعات عن جابر وغيره. وقال الجُوزجاني: عمرو بن شمر زائغ كذاب. وقال البخاري: منكر الحديث. وقال النسائي، والدارقطني، والأزدي: متروك الحديث. وقال ابن حبان: كان رافضيا يسب الصحابة، وكان يروي الموضوعات عن الثقات، لا يحل كتب حديثه إلا على جهة التعجب. وأما جابر الجعفي فقال فيه الإمام أبو حنيفة: ما رأيت أكذب
__________
(1) (1 / 439) كتاب العيدين.
(2) (1 / 302) .

(3/415)


من جابر الجعفي، ما أتيته بشيء من رأي إلا أتاني فيه بأثر، وكذبه أيضاً: أيوب، وزائدة، وليث بن أبي سليم، والجُوزجاني، وغيرهم. ورواه الدارقطني [1/264-أ] (1) أيضاً / عن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علي ابن أبي طالب، حدَثني أبي، عن أبيه، عن جده، عن علي، قال: قال: " كان- عليه السلام- يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) في السورتين جميعا الفاتحة ".
والجواب: أن عيسى هذا والد أحمد بن عيسى المتهم بوضع حديث ابن عمر. قال ابن حبان، والحاكم: روى عن آبائه أحاديث موضوعة، لا يحل الاحتجاج به.
ومنها: ما رواه الحاكم في " المستدرك " (2) ، عن عبد الله بن عمرو ابن حسان، َ ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان رسول الله يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) . قال الحاكم: إسناده صحيح وليس له علة.
والجواب: أن هذا الحديث غير صريح ولا صحيح، أما كونه غير صريح فإنه ليس فيه أنه في الصلاة، وأما غير صحيح فإن عبد الله بن عمرو بن حسان كان يضع الحديث، قاله إمام الصنعة علي بن المديني. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: سألت أبي عنه فقال: ليس بشيء، كان يكذب. وقال ابن عدي: أحاديثه مقلوبات. ورواه الدارقطني (3) عن أبي الصلت الهروي، واسمه: عبد السلام بن صالح، ثنا عباد بن العوام، ثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:" كان النبي- عليه السلام- يجهر في الصلاة ب (بسم الله الرحمن
__________
(1) (1 / 302) .
(2) (1 / 208) ، وقال الذهبي في " مختصره ": صحيح وليس له علة! كذا قال المصنفة وابن حسان كذبه غير واحد، ومثل هذا لا يخفى على المصنف.
(3) سنن الدارقطني (1 / 303) .

(3/416)


الرحيم) ، وهذا أضعف من الأول، فإن أبا الصلت متروك. قال أبو حاتم: ليس عندي بصدوق. وقال الدارقطني: رافضي خبيث. ومنها: ما رواه البزار في " مسنده " عن المعتمر بن سليمان، ثنا إسماعيل، عن أبي خالد، عن ابن عباس: " أن النبي- عليه السلام- كان يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة. قال البزار: وإسماعيل لم يكن بالقوي في الحديث.
قلت: هذا الحديث رواه أبو داود في " سننه " (1) ، والترمذي في " جامعه " بهذا السند (2) ، والدارقطني في
"سننه " (3) ، وكلهم قالوا فيه: " كان يفتتح صلاته ب (بسم الله الرحمن الرحيم) قال الترمذي: ليس إسناده بذاك. وقال أبو داود: حديث ضعيف. ورواه العقيلي في " كتابه " (4) ، وأعله بإسماعيل هذا، وقال: حديثه غير محفوظ، ويرويه عن مجهول، ولا يصح في الجهر بالبسملة حديث مسند. انتهى.
ورواه ابن عدي، وقال: حديث غير محفوظ، وأبو خالد مجهول (5) وله طريق آخر عند الدارقطني (6) ، عن عمر بن حفص المكي، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس: " أن النبي- عليه السلام- لم يزل يجهر في السورتين ب (بسم الله الرحمن الرحيم) حتى قبض " انتهى. وهذا لا يجوز الاحتجاج به، فإن عمر بن حفص " ضعيف. قال ابن الجوزي في " التحقيق": أجمعوا على ترك حديثه.
ومنها: ما رواه الدارقطني (7) : ثنا عمر بن الحسن بن عليّ الشيباني، ثنا جعفر بن محمد بن مروان، لنا أبو طاهر أحمد بن عيسى، ثنا ابن
__________
(1) ذكره الحافظ المزي في التحفة (5 / 6537) ، وعزاه إلى أبي داود، وقال: حديث" د " في رواية أبي الطيب بن الأشناني، ولم يذكره أبو القاسم. اه.
(2) كتاب الصلاة، باب: من رأى الجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) (245) .
(3) (1 / 304) .
(4) (1/ 80-81) .
(5) الكامل (1 / 505- ترجمة إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان) .
(6) (304 / 1)
(7) (1 / 305) .
27. شرح. سنن أبي داوود3

(3/417)


أبي فديك، عن ابن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر، قال: " صليت خلف النبي- عليه السلام- وأبي بكر، وعمر، فكانوا يجهرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
والجواب: إن هذا باطل من هذا الوجه، لم يحدث به ابن أبي فديك قط، والمتهم به أحمد بن عيسى بن عبد الله بن محمد أبو طاهر الهاشمي، وقد كذبه الدارقطني، فيكون كاذبا في روايته عن مثل هذا الثقة، وعمر ابن الحسن شيخ الدارقطني، تكلم فيه الدارقطني أيضاً، وقال: هو ضعيف، وقال الخطيب: سألت الحسن بن محمد الخلال عنه، فقال: ضعيف، وجعفر بن محمد بن مروان ليس بمشهور بالعدالة، وقد تكلم فيه الدارقطني أيضاً، وقال: لا يحتج به، وله طريق آخر عند الخطيب، عن عَبادة بن زياد الأسدي، ثنا يونس بن أبي يعفور العبدي، عن المعتمر ابن سليمان، عن ابن أبي عبيدة، عن مسلم بن حبان، قال:، صليت خلف ابن عمر، فجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) في السورتين، فقيل له، فقال: صليت خلف رسول الله حتى قبض، وخلف أبي بكر، حتى قبض، وخلف عمر حتى قبض، فكانوا يجهرون بها في السورتين، فلا أدع الجهر بها حتى أموت" انتهى.
وهذا أيضاً باطل، وعَبادة بن زياد بفتح العين. قال أبو حاتم: كان
[1/264-ب] من رؤساء الشيعة. / وقال الحافظ محمد النيسابوري: هو مجمع على كذبه، وشيخه يونس بن أبي يعفور فيه مقال، ضعفه النسائي، وابن معين. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات ما لا يشبه حديث الأثبات، لا يجور الاحتجاج عندي بما انفرد به، ومسلم بن حبان غير معروف. ومنها: ما رواه الدارقطني في " سننه " (1) ، عن يعقوب بن يوسف
ابن زياد الضبي، ثني أحمد بن حماد الهمداني، عن فَطر بن خليفة، عن أبي الضحى، عن النعمان بن بشير، قال: قال رسول الله- عليه
__________
(1) (1 / 309) .

(3/418)


السلام-: " أمني جبريل- عليه السلام- عند الكعبة، فجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
والجواب: إن هذا حديث منكر، بل موضوع. وقال الشيخ جمال الدين الزيلعي: يعقوب بن يوسف الضبي ليس بمشهور، وقد فتشت علي في عدة كتب من الجرح والتعديل فلم أر له ذكرا أصلاً، وأحمد بن حماد ضعفه الدارقطني، وسكوت الدارقطني، والخطيب، وغيرهما من الحفاظ عن مثل هذا الحديث بعد روايتهم له قبيح جدا.
ومنها: ما رواه الدارقطني (1) : ثنا أبو القاسم الحسن (3) بن محمد ابن بشر الكوفي، ثنا أحمد بن موسى بن إسحاق الحمار، ثنا إبراهيم ابن حبيب، ثنا موسى بن أبي حبيب الطائفي، عن الحكم بن عمير، وكان بدريا، قال: " صليت خلف النبي- عليه السلام- فجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) في صلاة الليل، وصلاة الغداة، وصلاة الجمعه. والجواب: إن هذا من الأحاديث الغريبة المنكرة، بل هو حديث باطل لوجوه، الأول: أن الحكم بن عمير ليس بدريا، ولا في البدريين أحد اسمه الحكم بن عمير، بل لا يعرف له صحبة، فإن موسى بن [أبي] حبيب الراوي عنه لم يلق صحابيا، بل هو مجهول لا يحتج بحديثه. وقال ابن أبي حاتم في كتاب " الجرح والتعديل "، الحكم بن عمير روى عن النبي - عليه السلام- أحاديث منكرة، لا يذكر سماعا ولا لقاء. روى عنه: ابن أخيه موسى بن أبي حبيب، وهو ضعيف الحديث، سمعت أبي يذكر ذلك، وقد ذكر الطبراني في " معجمه الكبير " الحكم بن عمير، وقال في نسبته الثمالي، ثم روى له بضعة عشر حديثا منكرا، وكلها من رواية موسى بن أبي حبيب عنه. وروى له ابن عدي في، الكاملة قريبا من عشرين حديثاً ولم يذكرا فيها هذا الحديث، والراوي عن موسى هو: إبراهيم بن إسحاق الصيني الكوفي. قال الدارقطني: متروك الحديث،
__________
(1) (1 / 310) .
(2) في الأصل: " الحسن " خطأ.

(3/419)


ويحتمل أن يكون هذا الحديث صنعته، فإن الذين رووا نسخة موسى عن الحكم، لم يذكروا هذا الحديث فيها، كبقي بن مخلد، وابن عدي، والطبراني، وإنما رواه فيما علمنا الدارقطني، ثم الخطيب، ووهم الدارقطني، فقال: إبراهيم بن حبيب، وإنما هو إبراهيم بن إسحاق، وتبعه الخطيب، وراد وهما ثانيا، فقال الضبي- بالضاد المعجمة والباء الموحدة وإنما هو الصيني- بالصاد المهملة والنون-.
ومنها: ما رواه الدارقطني (1) : ثنا أحمد بن محمد بن سعيد،
ثنا أحمد بن رشد بن خثيم، ثنا عمي سعيد بن خثيم، ثنا حنظلة بن أبي سفيان، عن سالم، عن ابن عمر: " أنه كان يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وذكر أن رسول الله كان يجهر بها "
والجواب: إن هذا لا يصح، وسعيد بن خثيم تكلم فيه ابن عدي وغيره، والحمل فيه على ابن أخيه أحمد بن رشد بن خثيم، فإنه متهم، وله أحاديث بواطيل، ذكرها الطبراني وغيره، والراوي عنه هو: ابن عبدة الحافظ، وهو كثير الغرائب والمناكير، روى في الجهر أحاديث كثيرة عن ضعفاء، وكذابين، ومجاهيل، والحمل فيها عليهم لا عليه، وروى له الخطيب في أول " تاريخه " حديثا موضوعا، هو الذي صنعه بسنده إلى العباس، أنه- عليه السلام- قال له:" أنت عمي، وصنو أبي، وابنك هذا أبو الخلفاء من بعدي، منهم السفاح، ومنهم المنصور، ومنهم المهدي"
ومنها: ما رواه الحاكم في" المستدرك " (2) ، عن عمر بن هارون، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة، عن أم سلمة أن رسول الله- عليه السلام- قرأ في الصلاة: (بسم الله الرحمن الرحيم) فعدها آية [1/265-أ] / (الحمد لله رب العالمين) آيتين، (الرحمن الرحيم) ثلاث آيات " إلى آخره.
__________
(1) (1/304 -305) .
(2) (1 / 232) ، والدارقطني في وسننه، (1 / 7 0 3) .

(3/420)


والجواب: إن هذا ليس بحجة لوجوه، الأول: إنه ليس بصريح في الجهر، ويمكن أنها سمعته سرا في بيتها، لقربها منه.
الثاني: إن مقصودها الإخبار بأنه كان يرتل قراءته، ولا يسردها. الثالث: إن المحفوظ فيه والمشهور أنه ليس في الصلاة، وإنما قوله: "في الصلاة " زيادة من عمر بن هارون، وهو مجروح تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال أحمد بن حنبل: لا أروي عنه شيئاً. وقال ابن معين: ليس بشيء، وكذبه ابن المبارك. وقال النسائي: متروك الحديث. وسئل عنه ابن المديني فضعفه جدا.
ومنها: ما رواه الحاكم في " مستدركه " (1) ، والدارقطني في
" سننه " (2) من حديث محمد بن المتوكل (3) بن أبي السرى، قال: " صليت خلف المعتمر بن سليمان من الصلوات ما لا أحصيها: الصبح، والمغرب، فكان يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) قبل فاتحة الكتاب، وبعدها، وقال المعتمر: ما آلو أن أقتدي بصلاة أبي، وقال أبي: ما آلو أن أقتدي بصلاة أنس، وقال أنس: ما لو أن أقتدي بصلاة رسول الله - عليه السلام- ". قال الحاكم: رواته كلهم ثقات.
والجواب: إن هذا معارض بما رواه ابن خزيمة في " مختصره " (4) ، والطبراني في " معجمه "، عن معتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أنس: " أن رسول الله كان يسرب (بسم الله الرحمن الرحيم) في الصلاة، وأبو بكر، وعمر "، " وفي الصلاة "، زادها ابن خزيمة.
ومنها: ما رواه الحاكم (5) من طريق آخر عن محمد بن أبي السري:
__________
(1) (1 / 233- 234)
(2) (1 / 8 0 3) .
(3) في الأصل: " محمد بن أبي المتوكل " خطأ، وانظر: تهذيب الكمال (26 / 5578) .
(4) (1 / 250) كتاب الصلاة، من طريق عمران القصير، عن الحسن، عن أنس به.
(5) (1 / 234) .

(3/421)


ثنا إسماعيل بن أبي أويس، ثنا مالك، عن حميد، عن أنس، قال: "صليت خلف النبي، وأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، فكلهم كانوا يجهرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
قال الحاكم: وإنما ذكرته شاهداً. وقال الذهبي في " مختصره ": أمَا استحَى الحاكمُ؟ ! يورد في كتابه مثل هذا الحديث الموضوع! فأنا أشهد بالله والله إنه لكذب. وقال ابن عبد الهادي: سقط منه " لا"
ومنها: ما رواه الخطيب، عن ابن أبي داود، عن ابن أخي ابن وهب، عن عمه، عن العمري، ومالك، وابن عيينة، عن حميد، عن أنس " أن رسول الله كان يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) في الفريضة ".
والجواب: ما قاله ابن عبد الهادي: سقط منه " لا " كما رواه الباغندي، وغيره، عن ابن أخي ابن وهب، هذا هو الصحيح، وأما الجهر فلم يحدث به ابن وهب قط، ويوضحه أن مالكا رواه في "الموطأ" (1) : عن حميد، عن أنس، قال: " قمت وراء أبي بكر الصديق، وعمر، وعثمان، فكلهم لا يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) إذا افتتحوا الصلاة ".
قال ابن عبد البر في " التقصي ": هكذا رواه جماعة موقوفا، ورواه ابن أخي ابن وهب، عن مالك، وابن عيينة، والعمري، عن حميد، عن أنس مرفوعا، فقال: " إن النبي- عليه السلام- وأبا بكر، وعمر، وعثمان لم يكونوا يقرءون "، قال: وهذا خطأ من ابن أخي ابن وهب في رفعه ذلك، عن عمه، عن مالك، فصار هذا الذي رواه الخطيب خطأ على خطإ، والصواب فيه عدم الرفع وعدم الجهر.
__________
(1) كتاب الصلاة، باب: العمل في القراءة (31) ، وأخرجه مسلم في كتاب الصلاة، باب: حجة من قال لا يجهر بالبسملة (399 / 50) من طريق قتادة
عن أنس به.

(3/422)


ومنها: ما رواه الحاكم في " المستدرك " (1) : عن عبد الله بن عثمان بن
خثيم، أن أبا بكر بن حفص بن عمر أخبره، أن أنس بن مالك قال:
، صلى معاوية بالمدينة صلاة، فجهر فيها بالقراءة، فبدأب (بسم الله
الرحمن الرحيم) لأم القراَن ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها حتى قضى
تلك الصلاة، ولم يكبر حين يهوي حتى قضى تلك الصلاة، ف" سلم
ناداه من سمع ذاك من المهاجرين، والأنصار، ومن كان على مكان:
يا معاوية، أسرقت الصلاة، أم نسيت؟ أين (بسم الله الرحمن
الرحيم) ؟ وأين التكبير إذا خفضت، وإذا رفعت؟ ف" صلى بعد ذلك
قرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) للسورة التي بعد أم القرآن، وكبر حين
يهوي ساجد ". قال الحاكم: صحيح على شرط مسلم.
ورواه الدارقطني (2) ، وقال: رواته / كلهم ثقات، وقد اعتمد [1/265-ب] ، الشافعي على حديث معاوية هذا في إثبات الجهر. وقال الخطيب: هو
أجود ما يعتمد علي في هذا الباب. والجواب عنه من وجوه، الأول: أن
مداره على عبد الله بن عثمان بن خثيم، وهو وإن كان من رجال مسلم،
لكنه متكلم فيه، أسند ابن عدي إلى ابن معين أنه قال: أحاديثه غير قوية.
وقال النسائي: لين الحديث، ليس بالقوي فيه. وقال الدارقطني: لَينوه.
وقال ابن المديني: منكر الحديث. وبالجملة فهو مختلف فيه، فلا يقبل ما
تفرَّد به، مع أنه قد اضطرب في إسناده ومتنه، وهو أيضاً من أسباب الضعف، أما في إسناده فإن ابن خثيم تارة يرويه عن أبي بكر بن حفص،
عن أنس، وتارة يرويه عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، وقد
رجح البيهقي الأولى في " المعرفة "، لجلالة رواتها، وهو ابن جريج،
ومال الشافعي إلى ترجيح الثانية.
ورواه ابن خثيم أيضاً عن إسماعيل بن عبيد بن رفاعة، عن أبيه، عن
جده، فزاد ذكر الجد، كذلك رواه عن إسماعيل بن عياش،
__________
(1) (1 / 233) .
(2) (1 / 311) .

(3/423)


وهي عند الدارقطني، والأولى عنده، وعند الحاكم، والثانية عند الشافعي.
وأما الاضطراب في متنه فتارة يقول: " صلى فبدأب (بسم الله الرحمن الرحيم) لأم القرآن، ولم يقرأ بها للسورة التي بعدها " كما تقدم عند الحاكم، وتارة يقول: " فلم يقرأ ب (بسم الله الرحمن الرحيم) حين افتتح القرآن، وقرأ بأم الكتاب "، كما هو عند الدارقطني في رواية إسماعيل بن عياش، وتارة يقول: " فلم يقرأ (بسم الله الرحمن الرحيم) لأم القرآن ولا للسورة التي بعدها " كما هو عند الدارقطني في رواية ابن جريج، ومثل هذا الاضطراب في السند، والمتن مما يوجب ضعف الحديث، لأنه مشعر بعدم ضبطه.
الوجه الثاني: إن شرط الحديث الثابت أن لا يكون شاذا، ولا معللاً، وهذا شاذ ومعلل، فإنه مخالف " رواه الثقات الأثبات، عن أنس، وكيف يروي أنس مثل حديث معاوية هذا محتجا به وهو مخالف " رواه، عن النبي- عليه السلام- وعن خلفائه الراشدين؟ ولم يعرف أحد من أصحاب أنس المعروفين بصحبته أنه نقل عنه مثل ذلك، ومما يرد حديث معاوية هذا أن أنسأ كان مقيما بالبصرة، ومعاوية " قدم المدينة لم يذكر أحد علمناه أن أنسأ كان معه، بل الظاهر أنه لم يكن معه.
الوجه الثالث: إن مذهب أهل المدينة قديما وحديثا ترك الجهر بها، ومنهم من لا يرى قراءتها أصلاً. قال عروة بن الزبير- أحد الفقهاء السبعة-: " أدركت الأئمة، وما يستفتحون القراءة إلا ب (الحمد لله رب العالمين) ".
وقال عبد الرحمن بن القاسم: ما سمعت القاسم يقرأ بها. وقال
عبد الرحمن الأعرج: أدركت الأئمة، وما يستفتحون القراءة إلا ب (الحمد لله رب العالمين) ، ولا يحفظ عن أحد من أهل المدينة بإسناد صحيح أنه كان يجهر بها إلا شيء يسير وله محمل، وهذا عملهم يتوارثه آخرهم عن أولهم، فكيف ينكرون على معاوية ما هو سنتهم؟ هذا باطل.

(3/424)


الرابع: إن معاوية لو رجع إلى الجهر بالبسملة، كما نقلوه لكان هذا
معروفا من أمره عند أهل الشام الذين صحبوه، ولم ينقل ذلك عنهم،
بل الشاميون كلهم: خلفاؤهم، وعلماؤهم كان مذهبهم ترك الجهر بها،
وما روي عن عمر بن عبد العزيز من الجهر بها فباطل، لا أصل له، والأوزاعي إمام الشام، ومذهبه في ذلك مذهب مالك: لا يقرأها سرا
ولا جهرا، ومن المستبعد أن يكون هذا حال معاوية، ومعلوم أن معاوية قد
صلى مع النبي- عليه السلام- فلو سمع النبي- عليه السلام- يجهر
بالبسملة " تركها حين يُنكر علي رعيتُه أنه لا يحسن يصلي، وهذه الوجوه
من تدبرها علم أن حديث معاوية باطل، ومغير عن وجهه، وقد يتمحل
فيه، ويقال: إن كان هذا الإنكار على معاوية محفوظا فإنما هو إنكار لترك
إتمام التكبير / لا لترك الجهر بالبسملة، ومعلوم أن ترك إتمام التكبير كان [1/266-أ] مذهب الخلفاء من بني أمية وأمرائهم على البلاد، حتى أنه كان مذهب
عمر بن عبد العزيز وهو: عدم التكبير حين يهوي ساجدا بعد الركوع،
وحين يسجد بعد القعود، وإلا فلا وجه لإنكارهم علي ترك الجهر بالبسملة، وهو مذهب الخلفاء الراشدين، وغيرهم من أكابر الصحابة،
ومذهب أهل المدينة أيضاً، وبالجملة فهذه الأحاديث كلها ليس فيها صريح صحيح، بل فيها عَدمهما، أو عدم أحدهما وكيف تكون صحيحة
وليست مخرجة في الصحيح، ولا المسانيد، ولا السنن المشهورة، وفي
رواتها: الكذابون، والضعفاء، والمجاهيل الذين لا يوجدون في
التواريخ، ولا في كتب الجرح والتعديل كعمرو بن شمر، وجابر الجعفي،
وحصين بن مخارق، وعمر بن حفص المكي، وعبد الله بن عمرو بن
حسان الواقعي، وأبي الصلت الهروي الملقب " بجراب الكذاب "،
وعمر بن هارون البلخي، وعيسى بن ميمون المدني، وآخرون وكيف
يجوز أن يعارض برواية هؤلاء ما رواه البخاري، ومسلم في " صحيحيهما "
من حديث أنس الذي رواه عنه غير واحد من الأئمة الأثبات، ومنهم:
قتادة الذي كان أحفظ أهل زمانه، ويرويه عنه شعبة الملقب بأمير المؤمنين في

(3/425)


الحديث، وتلقاه الأئمة بالقبول، ولم يضعفه أحد بحجة إلا ركب هواه، وحمله فرط التعصب على أن علله، ورده باختلاف ألفاظه، مع أنها ليست مختلفة، بل يصدق بعضها بعضا- كما بيناه- وعارضه بمثل حديث ابن عمر الموضوع، أو بمثل حديث عليّ الضعيف، ومتى وصل الأمر إلى مثل هذا، فجعل الصحيح ضعيفاً، والضعيف صحيحا، والمعلل سالماً من التعليل، والسالم من التعليل معللاً سقط الكلام، وهذا ليس بعدل، والله أمر بالعدل، ولكن كل هذا من التعصب الفاسد، والغرض الكاسد، وهذا تَمْشِية للباطل، والله يحق الحق ويبطل الباطل، ويكفينا في تضعيف أحاديث الجهر إعراض أصحاب الجوامع الصحيحة، والسنن المعروفة، والمسانيد المشهورة المعتمد عليها في حجج العلم، ومسائْل الدين، فالبخاري مع شدة تعصبه، وفرط تحمله على مذهب أبي حنيفة لم يودع صحيحه منها حديثا واحدة، والله تعالى يدري، ويعلم ما جهد وتعب في تحصيل حديث صحيح في الجهر، حتى يخرجه في " صحيحه " فما ظفر به، ولو ظفر به ما تركه أصلاً، وكذلك مسلم - رحمه الله- لم يذكر شيئاً من ذلك، ولم يذكرا في هذا الباب إلا حديث أنس الدال على الإخفاء.
فإن قيل: إنهما لم يلتزما أن يودعا في " صحيحيهما " كل حديث صحيح، فيكونان قد تركا أحاديث الجهر في جملة ما تركاه من الأحاديث الصحيحة. قلت: هذا لا يقوله إلا كل سخيف، أو مكابر، فإن مسألة الجهر بالبسملة من أعلام المسائل، ومعضلات الفقه، ومن أثرها دورانا في المناظرة، وجولانا في المصنفات، والبخاري كثيرا ما يتتبع " يرد على أبي حنيفة من السُّنَّة، فيذكر الحديث، ثم يعرض بذكره فيقول: قال رسول الله كذا وكذا، ثم يقول: وقال بعض الناس كذا وكذا، يشير به إليه، وشنع به علي، وكيف يخلي كتابه من أحاديث الجهر بالبسملة وهو يقول في أول كتابه: " باب الصلاة من الإيمان "، ثم يسوق أحاديث الباب، ويقصد الرد على أبي حنيفة قوله: " إن الأعمال ليست من

(3/426)


الإيمان، مع غموض ذلك على كثير من الفقهاء؟ ومسألة الجهر يعرفها
عوام الناس، ورعاعهم، ولو حلف الشخص بالله أيمانا مؤكدة أنه لو
اطلع على حديث منها موافق لشرطه، أو قريب من شرطه لم يخل منه
كتابه، ولا كذلك مسلم، ولئن سلمنا فهذا أبو داود، والترمذي، وابن
ماجه مع اشتمال كتبهم على الأحاديث السقيمة، والأسانيد الضعيفة لم يخرجوا / منها شيئاً، فلولا أنها عندهم واهية بالكلية " تركوها، وقد [1/266-ب] تفرد النسائي منها بحديث أبي هريرة، وهو أقوى ما فيها عندهم، وقد
بينا ضعفه من وجوه، وأخرج الحاكم منها حديث عليّ، ومعاوية، وقد
عرف تساهله، وباقيها عند الدارقطني في" سننه " التي هي مجمع الأحاديث المعلولة، ومنبع الأحاديث الغريبة، وقد بيناها حديثا حديثا.
* الآثار في ذلك:
منها: ما رواه البيهقي في " الخلافيات "، والطحاوي في كتابه من
حديث عمر بن ذر، عن أبيه، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى،
عن أبيه، قال:" صليت خلف عمر- رضي الله عنه- فجهر ب (بسم
الله الرحمن الرحيم) ، وكان أبي يجهر بها".
والجواب عنه: إن هذا الأثر مخالف للصحيح الثابت، عن عمر أنه
كان لا يجهر، كما رواه أنس، فإن ثبت هذا عن عمر فيحمل على أنه
فعله مرة، أو بعض أحيان، لأحد الأسباب المتقدمة.
ومنها: ما أخرجه الخطيب من طريق الدارقطني بسنده، عن عثمان بن
عبد الرحمن، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب:" إن أبا بكر،
وعمر، وعثمان، وعلى، كانوا يجهرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ". والجواب: إن هذا باطل، وعثمان بن عبد الرحمن، هو: الوقاصي
أجمعوا على ترك الاحتجاج به. وقال ابن أبي حاتم: سألت أبي عنه؟
فقال: كذاب، ذاهب الحديث. وقال ابن حبان: يروي عن الثقات
الأشياء الموضوعات، لا يحل الاحتجاج به. وقال النسائي: متروك الحديث.

(3/427)


ومنها: ما أخرجه الخطيب أيضاً، عن يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، عن أبيه، قال، " صليت خلف علي بن أبي طالب، وعدة من أصحاب رسول الله، كلهم يجهرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ". والجواب: إن هذا لا يثبت، وعطاء بن أبي رباح لم يلحق عليا، ولا صلى خلفه قط، والحمل فيه على ابنه يعقوب، فقد ضعفه غير واحد من الأئمة. قال أحمد: منكر الحديث. وقال أبو زرعة، وابن معين: ضعيف. وأما شيخ الخطيب فيه فهو أبو الحسن محمد بن [الحسن بن] أحمد الأصبهاني الأهوازي، ويعرف بابن أبي علي، فقد تكلموا فيه، وذكروا أنه كان يُركبُ الأسانيد، ونقل الخطيب عن أحمد بن علي الجصاص، قال: كنا نسمي ابن أبي علي الأصفهاني: " جراب الكذب ". ومنها: ما أخرجه الخطيب أيضاً من طريق الدارقطني عن الحسن بن [محمد بن] عبد الواحد، ثنا الحسن بن الحسين، ثنا إبراهيم بن أبي يحيى، عن صالح بن نبهان، قال: " صليت خلف أبي سعيد الخدري، وابن عباس، وأبي قتادة، وأبي هريرة، فكانوا يجهرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ".
والجواب: إن هذا لا يثبت، والحسن بن الحسين هو: العرني إن شاء الله، وهو شيعي ضعيف، أو هو: حسين بن الحسن الأشقر، وانقلب اسمه، وهو أيضاً شيعي، ضعيف مجهول، وإبراهيم بن أبي يحيى قد رمي بالرفض والكذب، وصالح بن نبهان مولى التوأمة قد تكلم فيه مالك، وغيره من الأئمة، وفي إدراكه للصلاة خلف أبي قتادة نظر، وهذا الإسناد لا يجوز الاحتجاج به، وإنما كثر الكذب في أحاديث الجهر على النبي- عليه السلام- وأصحابه، لأن الشيعة ترى الجهر، وهم أكذب الطوائف، فوضعوا في الجهر بها ما صار من شعار الروافض، وغالب أحاديث الجهر تجد في روادها من هو منسوب إلى التشيع.

(3/428)


ومنها: ما أخرجه الخطيب أيضاً، عن محمد بن أبي السرى، ثنا
المعتمر، عن حميد الطويل، عن بكر بن عبد الله المزني، قال: " صليت
خلف عبد الله بن الزبير فكان يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) وقال:
ما يمنع أمراءكم أن يجهروا بها إلا الكبر ".
قال ابن عبد الهادي: إسناده صحيح، لكنه يحمل على الإعلام بأن
قراءتها سُنَة، فإن الخلفاء الراشدين كانوا (1) يسرونها، فظن كثير من
الناس أن قراءتها بدعة، فجهر بها من جهر بالصحابة ليُعْلموا الناس أن
قراءتها سُنَة، لا أنه فعدها دائما، وقد ذكر ابن المنذر، لن ابن الزبير
ترك الجهر، والله تعالى أعلم /، وأما أقوال التابعين في ذلك فليست [1/267-أ] بحجة، مع أنها اختلفت، فروي عن غير واحد منهم الجهر، وروي عن
غير واحد منهم تركه، وفي بعض الأسانيد إليهم الضعف والاضطراب،
ويمكن حمل جهر من جهر منهم على أحد الوجوه المتقدمة، والواجب في
مثل هذا الرجوع إلى الدليل لا إلى الأقوال، وقد نقل الجهر عن غير
واحد من الصحابة، والتابعين، والمشهور عنهم غيره، كما نقل الخطيب
الجهر عن الخلفاء الراشدين الأربعة، ونقله البيهقي، وابن عبد البر، عن
عمر، وعلي، والمشهور عنهم تركه، كما ثبت ذلك عنهم. قال
الترمذي في ترك الجهر: والعمل على هذا عند أهل العلم من الصحابة، منهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم ومَن
بعدهم من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري، وابن المبارك، وأحمد،
وكذلك قال ابن عبد البر: لم يختلف في الجهر بها عن ابن عمر، وهو الصحيح عن ابن عباس، قال: ولا أعلم أنه اختلف في الجهر بها
عن ابن عمر، وشداد بن أوس، وابن الزبير، وقد ذكر الدارقطني، والخطيب، عن ابن عمر عدم الجهر، وكذلك روى الطحاوي، والخطيب، وغيرهما، عن ابن عباس عدم الجهر، وكذلك ذكر ابن
__________
(1) في الأصل: " كان ".

(3/429)


المنذر، عن ابن الزبير عدم الجهر، وذكر ابن عبد البر، والخطيب، عن عمار بن ياسر الجهر، وذكر ابن المنذر عنه عدمه، وذكر البيهقي، وابن عبد البر، والخطيب، عن عكرمة الجهر، وذكر الأثرم عنه عدمه، وذكر الخطيب وغيره عن ابن المبارك وإسحاق: الجهر، وذكر الترمذي عنهما تركه كما ذكرناه، وذكر الأثرم، عن إبراهيم النخعي، أنه قال: " ما أدركت أحداً يجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) والجهر بها بدعة "، وذكر الطحاوي، عن عروة قال: " أدركت الأئمة وما يستفتحون القراءة إلا ب (الحمد لله رب العالمين) . قال وكيع: كان الأعمش، وابن أبي خالد، وابن أبي ليلى، وسفيان، والحسن بن صالح، وعلي بن صالح، ومن أدركنا من مشايخنا: " لا يجهرون ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ". وروى سعيد بن منصور في " سننه ": حدَّثنا خالد، عن حصين،
عن أبي وائل، قال: " كانوا يسرون البسملة، والتعوذ في الصلاة ". حدَّثنا حماد بن زيد، عن كثير بن شنظير، أن الحسن سئل عن الجهر بالبسملة؟ فقال: " إنما يفعل ذلك الأعراب ".
حدَّثنا عتاب بن بشير، أنا حصين، عن سعيد بن جبير، قال: " إذا صليت فلا تجهر ب (بسم الله الرحمن الرحيم) ، واجهر ب (الحمد لله رب العالمين) ".
فإن قيل: أحاديث الجهر تُقدمُ على أحاديث الإخفاء بأشياء، منها: كثرة الرواة، فان أحاديث الإخفاء رواها اثنان من الصحابة: أنس بن مالك، وعبد الله بن مغفل، وأحاديث الجهر رواها أربعة عشر صحابيا. ومنها: أن أحاديث الإخفاء شهادة على نفي، وأحاديث الجهر شهادة على إثبات، والإثبات مقدم على النفي.
ومنها: أن أنسأ قد روي عنه إنكار ذلك في الجملة، فروى أحمد، والدارقطني من حديث سعيد بن يزيد (1) أبي مسلمة، قال: سألت أنساً
__________
(1) في الأصل: " سعيد بن زيد " خطأ، وانظر: تهذيب الكمال (11 / 2381) .

(3/430)


" أكان رسول الله يقرأ: (بسم الله الرحمن الرحيم) أو (الحمد لله رب
العالمين) ؟ قال: إنك لتسألني عن شيء ما أحفظه، أو ما سألني أحد قبلك ". قال الدارقطني: إسناده صحيح (1) .
قلنا: الجواب عن الأول: إن الاعتماد على كثرة الرواة إنما يكون بعد
صحة الدليلين، وأحاديث الجهر ليس فيها صحيح صريح، بخلاف
حديث الإخفاء، فإنه صحيح صريح، ثابت، مخرج في الصحيح،
والمسانيد المعروفة، والسنن المشهورة، مع أن جماعة من الحنفية لا يرون
الترجيح بكثرة الرواة، وأحاديث الجهر- دان كثرت رواتها- لكنها كلها ضعيفة، وكم من حديث كثرت رواته، وتعددت طرقه وهو ضعيف؟
كحديث " الطير "، وحديث " الحاجم، والمحجوم "، وحديث:" من
كنت مولاه فعلي مولاه "، بل قد لا يزيد الحديث كثرة الطرق إلا ضعفا، وأحاديث الجهر لم يروها إلا الحاكم، والدارقطني، فالحاكم عرف
تساهله، وتصحيحه للأحاديث الضعيفة، بل الموضوعة، والدارقطني قد
ملأ كتابه من الأحاديث الضعيفة، والغريبة، والشاذة، / والمعللة، وكم [1/267-ب] فيه من حديث لا يوجد في غيره، وقد حكي: أن الدارقطني " دخل
مصر سأله بعض أهلها تصنيف شيء في الجهر بالبسملة، فصنف فيه جزءا
فأتاه بعض ا"لكية، فأقسم علي أن يخبره بالصحيح من ذلك، فقال:
" كل ما روي عن النبي- عليه السلام- في الجهر فليس بصحيح، وأما
عن الصحابة فمنه صحيح ومنه ضعيف ".
وعن الثاني: إن هذه الشهادة- وإن ظهرت في صورة النفي- فمعناها
الإثبات، على أن هذا مختلف فيه، فالأكثرون على تقديم الإثبات،
وعند البعض هما سواء، وعند البعض النافي مقدم على المثبِت، وإليه
ذهب الآمدي، وغيره.
وعن الثالث: إن ما روي من إنكار أنس لا يقاوم ما ثبت عنه خلافه
__________
(1) أحمد (3 / 66 1، 0 9 1) ، والدارقطني (1 / 6 31) ، وأخرجه كذلك أحمد (3 / 273) من طريق قتادة، عن أنس به.
-

(3/431)


في الصحيح، ويحتمل أن يكون أنس نسي في تلك الحال لكبره، وقد وقع مثل ذلك كثيرا، كما سئل يوماً عن مسألة، فقال: عليكم بالحسن فاسألوه، فإنه حفظ ونسينا، وكم ممن حدث ونسي، ويحتمل أنه إنما سأله عن ذكرها في الصلاة أصلاَ، لا عن الجهر بها وإخفائها.
فإن قيل: يجمع بين الأحاديث بأن يكون أنس لم يسمعه لبعده، وأنه كان صبيا يومئذ. قلت: هذا مردود، لأنه- عليه السلام- هاجر إلى المدينة، ولأنس يومئذ عشر سنين، ومات وله عشرون سنة، فكيف يتصور أن يصلي خلفه عشر سنين فلا يسمعه يوماً من الدهر يجهر؟ هذا بعيد، بل مستحيل، ثم قد روي هذا في زمن رسول الله، فكيف وهو رجل في زمن أبي بكر، وعمر، وكهل في زمن عثمان مع تقدمه في زمانهم، وروايته للحديث؟ وقد روى أنس، قال: " كان رسول الله يحب أن يليه المهاجرون، والأنصار، ليأخذوا عنه".
ورواه النسائْي، وابن ماجه (1) . وقال النووي في " الخلاصة ": إسناده على شرط البخاري، ومسلم " (2) . وقد ذهب البعض إلى أن أحاديث الجهر منسوخة " نبينه عن قريب، إن شاء الله تعالى.
761- ص- نا مسدد، نا عبد الوارث بن سعيد، عن حسين المعلم، عن بديل بن ميسرة، عن أبي الجوزاء، عن عائشة، قالت: " كان رسول الله يفتتحُ الصلاةَ بالتكبيرِ، والقراءةَ ب (الحمدُ لله ربَّ العَالمينَ) ، وكان إذاَ ركعَ لم يُشخصْ رأسَه، ولم يُصوِبْهُ، ولكن بين ذلك، وكان إذا رفعَ رأسَه من الركوع لم يسجدْ حتى يستوي قائماً وكان إذا رفِعَ رأسَه من السجودِ لم يسجدْ حتى يستويَ قاعداً، وكان (3) إذا جَلَسَ يفرِشُ رِجلَه اليُسرَى،
__________
(1) النسائي في الكبرى، كتاب المناقب، باب: مناقب المهاجرين والأنصار (5 / 8311) ، ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: من يستحب أن يلي
" لإمام (977) .
(2) إلى هنا انتهى النقل من نصب الراية.
(3) في سنن أبي داود أتى قوله:" وكان إذا جلس ... اليمنى، بعد قوله: " وكان يقول في كل ركعتين: " التحيات ".

(3/432)


ويَنصبُ رجلَه اليُمْنى، وكان يقولُ في كُلِّ رَكعتينِ: " التحياتُ "، وكان يَنهَى عنَ عَقب الشيطانِ، وعن فرشة السبع، وكان يختمُ الصلاةَ بالتسليم " (1) .
ش " - أبو الجوزاء بالجيم والزاي: أوس بن عبد الله البصري، وقد ذكر ناه.
قوله: " كان يفتتح الصلاة بالتكبير والقراءة ب (الحمد لله رب العالمين)
فيه حجة لأبي حنيفة، ومالك أن البسملة ليست من الفاتحة، وفيه حجة لأبي حنيفة أن البسملة لا يجهر بها، لأنه صرح أنه- عليه السلام- كان يفتتح الصلاة بالتكبير، ثم بفاتحة الكتاب، وقد ثبت أنه- عليه السلام- كان له سكتتان: سكتة بعد التكبير، وكان فيها البسملة، ودعاء الاستفتاح على ما ذكرناه مفصلاً، وفيه إثبات التكبير في أول الصلاة. وقال الشيخ محيي الدين (2) : " وفيه إثبات التكبير، وأنه يتعين لفظ التكبير، لأنه ثبت أنه- عليه السلام- كان يفعله، وأنه- عليه السلام- قال: " صلوا كما رأيتموني أصلي " (3) ، وهذا الذي ذكرناه من تعيين التكبير هو قول مالك، والشافعي، وأحمد، وجمهور العلماء من السلف والخلف ". قلت: اشتراط التعيين أمر زائد، لأن المراد من التكبير التعظيم، وبكل لفظ حصل التعظيم يجوز الافتتاح به، وقد مر الخلاف في قوله- عليه السلام-: " تحريمها التكبير "، ثم إن تكبيرة الافتتاح من أركان الصلاة، أو من شروطها؟ فيه خلاف، فقال أصحابنا: هي من الشروط. وقال مالك، والشافعي، وأحمد: من الأركان، وثمرة الاختلاف تظهر في
__________
(1) مسلم: كتاب الصلاة، باب: ما يجمع صفة الصلاة (240 / 98 4) ، ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: افتتاح القراءة (812) ، وباب: الركوع
في الصلاة (862) .
(2) شرح صحيح مسلم (4 / 214) .
(3) البخاري: كتاب الأذان، باب: الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة ... (631) من حديث مالك بن الحويرث.
28. شرح سنن أبي داوود 3

(3/433)


جواز بناء النفل على تحريمة الفرض، فعندنا يجوز خلافا لهم، وكذا على
[1/268-أ] الخلاف لو بنى التطوع بلا تحريمة جديدة يصير / شارعا في الثاني، وكذا على الخلاف إذا كبر مقاربا لزوال الشمس. وقال ابن المنذر: قال
الزهري: تنعقد الصلاة بمجرد النية بلا تكبير. قال أبو بكر: ولم يقل به
غيره. وقال ابن بطال: ذهب جمهور العلماء إلى وجوب تكبيرة الإحرام، وذهبت طائفة إلى أنها سُنَّة، رُوي ذلك عن سعيد بن المسيب، والحسن، والحكم، والزهري، والأوزاعي، وقالوا: إن تكبير الركوع
يجزئه من تكبير الإحرام، ورُوي عن مالك في ا"موم ما يدل على أنه
سُنَّة، ولم يختلف قوله في المنفرد والإمام أنها واجبة على كل واحد
منهما، وأن من نسيها يستأنف الصلاة، وفي " المغني " لابن قدامة:
التكبير ركن لا تنعقد الصلاة إلا به، سواء تركه سهوا، أو عمدا، قال:
وهذا قول ربيعة، والثوري، ومالك، والشافعي، وإسحاق، وأبي ثور
وحكى أبو الحسن الكرخي الحنفي، عن ابن علية والأصم كقول الزهري
في انعقاد الصلاة بمجرد النية بغير تكبير. وقال عبد العزيز بن إبراهيم بن
بزيزة: قالت طائفة بوجوب تكبير الصلاة كله، وعكس آخرون فقالوا:
كل تكبيرة في الصلاة ليست بواجبة مطلقا، منهم: ابن شهاب وابن المسيب، وغيرهما، ثم تكبيرة الافتتاح مرة واحدة عند جمهور العلماء،
وعند الرافضة ثلاث مرات، وقد ورد ذلك في بعض الأحاديث، من
حديث أبي أمامة: " كان- عليه السلام- إذا قام إلى الصلاة كبر ثلاث
مرات " رواه أبو نعيم الدكيني، عن شريك، عن يعلى بن عطاء، عن
رجل، عنه، وفي " العلل " لابن أبي حاتم: قال أبي: هذا حديث
كذب، لا أصل له.
قوله: " بالحمدُ لله " برفع الدال على الحكاية، والحكاية أن تجيء بالقول
بعد نقله على استبقاء صورته الأولى، كقولك: " دعني من تمرتان " في
جواب من قال: " تكفيك تمرتان "، وبدأت " بالحمدُ لله " وبدأت
ب " سورة أنزلناها "، ويقول أهل الحجاز في استعلام من يقول: رأيت
زيدا: من زيدا؟

(3/434)


قوله: " وكان إذا ركع لم يشخص رأسه " من أشخص رأسه إذا رفعها، وأشخص الرامي إذا جاوز سهمه الغرض من أعلاه.
قوله: " ولم يصوبه " أي: لم يخفضه، مِن " صوَب " بالتشديد، وفيه من السُنَة للراكع أن يسوي ظهره، بحيث يستوي رأسه مع مؤخره. قوله: " ولكن بين ذلك " أي: بين الإشخاص والتصويب، والمعنى: استواء رأسه مع ظهره- كما ذكرنا-.
قوله: " حتى يستوي قائماً " أي: حال كونه قائماً، وفيه سُنَة الاعتدال في الانتصاب، وكذلك سُنَّة الاعتدال في ما إذا رفع رأسه من السجدة يعتدل قاعدا، ثم يسجد، ومن هذا أخذ الشافعي وجوب الطمأنينة في الركوع والسجود، وهو قول مالك، وأحمد، وأبي يوسف، وهو خلاف مشهور، وفيه وجوب الجلوس بين السجدتين.
قوله: " وكان إذا جلس يفرش رجله اليسرى، وينصب رجله اليمنى "
فيه حجة لأبي حنيفة، سواء كان في القعدة الأولى، أو الثانية، وهو حجة على مالك في رؤيته التورك سُنَة فيهما، وعلى الشافعي في روْيته التورك في القعدة الثانية.
قوله: " وكان يقول في كل ركعتين التحيات " فيه: أن قراءة التشهد في كل ركعتين سُنة. وقال أحمد: هما واجبان. وقال الشافعي: الأول سُنة، والثاني: واجب، وقول مالك كقول أبي حنيفة. وقال الشيخ محيى الدين: فيه حجة لأحمد بن حنبل، ومَن وافقه مِن فقهاء أصحاب الحديث أن التشهد الأول والأخير واجبان.
قلت: الوجوب لا يستفاد من هذا الحديث، فافهم.
قوله: " وكان ينهى عن عقب الشيطان " بفتح العين، وكسر القاف، وفي رواية:" عن عقبة الشيطَان "، وهو أن يضع أليتيه على عقبيه بين السجدتين، وهو الذي يجعله بعض الناس الإقعاء، وقيل: هو أن يترك عقبيه غير مغسولين في الوضوء.

(3/435)


قوله: " وعن فرشة السبُع " وهو أن يبسط ذراعيه في السجود، ولا يرفعهما عن الأرض، كما يبسط السبع، والكلب، والذئب ذراعيه. قوله:" وكان يختم الصلاة بالتسليم " فيه دليل على أن السلام سنة. وقال الخطابي (1) : " وفي قولها: " كان يفتتح الصلاة بالتكبير،
[1/268-ب] ويختمها بالتسليم " دليل على / أنهما ركنان من أركان الصلاة، ولا تجزئ إلا بهما".
قلت: لا نسلم ذلك، لأن ما فيه شيء يدل على الفرضية، وفرضية التكبير في أول الصلاة ليس بهذا الحديث، بل بقوله: (ورَبكَ فكَبِّرْ) (2) ولئن سلمنا ذلك، فلا يلزم من كون التكبير فرضاً أن يكون التسليم فرضاً مثله، بدليل حديث الأعرابي، حيث لم يعلمه- عليه السلام- حين علمه الواجبات، غاية ما في الباب يكون إصابة لفظ السلام واجبا، وقد مر ما يشابهه في قوله- عليه السلام-: " تحريمها التكبير، وتحليلها التسليم "، والحديث أخرجه: مسلم، وابن ماجه بنحوه.
762- ص- نا هناد بن السري، نا ابن فضيل، عن المختار بن فُلفُل، قال: سمعت أنس بن مالك، يقول: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم " أنزِلَتْ علي آنفا سُورةٌ فقرأ: (بسم الله الرحمنِ الرحيم إنا أعْطَيْنَاكً الكَوْثَرَ) حتى خَتمَهَاَ، قال: هل تدرُونَ ما الَكوثرُ؟ قالوا: الله ورسولُه أعلمُ، قال: فإنه نَهرٌ وَعَدَنِيهِ ربي في الجنةِ " (3) .
ش- ابن فضيل هو: محمد بن فضيل الكوفي.
قوله: " آنفا " أي: قريبا، وهو بالمد، ويجوز القصر، وهو لغة قليلة وأصله من الائتناف، وهو الاستئناف، ومعناه: الابتداء. وقال ابن
__________
(1) معالم السنن (1 / 172) .
(2) سورة المدثر: (3) .
(3) مسلم: كتاب الصلاة، باب: حجة من قال: البسملة آية من أول كل سورة سوى براءة (0 0 4 / 53) ، وكتاب الفضائل (4 0 23 / 0 4) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: قراءة بسم الله الرحمن الرحيم (2 / 133) .

(3/436)


الأثير (1) :" وفعلت الشيء آنفا، أي: في أول وقت يقرب مني ". وقال في " الصحاح ": وقلت كذا آنفا، وسالفا.
قلت: انتصابه على الظرفية، لأنه بمعنى: الآن، وهو من الظروف
الزمانية.
قوله: " الكوثر" وزنه فوعل من الكثرة، كنوفل من النفل، وجوهر من الجهر بمعنى: الخير الكثير، وقد فسره- عليه السلام- بقوله: " فإنه نهر وعدنيه ربي في الجنة ". وقد اختلف المفسرون في تفسيره، فقال أبو بكر بن عياش: كثرة الأمة. وقال الحسن: القرآن. وقال عكرمة: النبوة. وقال المغيرة مرفوعا: الإسلام. وقال ابن عمر، وأنس مرفوعا: نهر في الجنة، ترده طير خضر، قيل: ما أنعم هذا الطائر! قال- عليه السلام-: " الا أخبركم بأنعم منه؟ من أكل الطائر، وشرب الماء، وفاز برضوان الله ".
وعن عائشة: من أراد أن يسمع خريره فليدخل إصبعيه في أذنيه. وقال عطاء: هو حوضه لكثرة وارديه. وقال الفضل: الشفاعة في أكثر الأمة. وقيل: الصلاة وكثر المصلين، وقيل: الذكر وكثرة الذاكرين، وقيل: معجزاته- عليه السلام- وقيل: الفقه، وكثرة الفقهاء، وقيل: نور في قلبك قطعك عما سوى ربك، وقيل: قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فَصَل الفجر والمزدلفة، وانحر الهدي. وقال عطاء: صَل العيد وانحر الأضحية. وعن ابن عباس: ضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة. وقال سليمان التيمي: ارفع يديك بالدعاء لا تحرك. وقال ذو النون: اذبح هواك في قلبك، إن شانئك مبغضك. قال ابن عباس: عدوك الأبتر الحقير الذليل، ويقال: المنقطع عن بلوغ أمله فيك. واستدل به بعض من يقول بالجهر بالبسملة، واستدلاله غير صحيح، لأنه
__________
(1) النهاية (1 / 76) .

(3/437)


ليس فيه ذكر الصلاة، واستدل به أيضاً من يقول: إن البسملة [آية] من أول كل سورة سوى براءة.
والجواب: إن قراءته- عليه السلام- تدل على أنها آية مفردة بذاتها، ولا يدل على أنها من أول كل سورة، والدليل على ذلك ما ورد في حديث بدء الوحي: فجاءه الملك، فقال له: اقرأ، فقال: ما أنا بقارئ ثلاث مرات، ثم قال له: (اقْرَأ باسْم ربكَ الذي خَلَقَ) (1) ، فلو كانت البسملة من أول كل سورة لقالَ: اقرأ (بسمَ الله الرحمن الرحيم) (اقرأ باسم ربك) ويدل على ذلك أيضاً ما رواه أصحاب السنن الأربعة، عن شعبة، عن قتادة، عن عباس الجشمي (2) ، عن أبي هريرة، عن النبي- عليه السلام- قال: " إن سورة من القرآن شفعت لرجل حتى غفر له، وهي (تَبَارَكَ الَذي بيَده المُلكُ) . وقال الترمذي: حديث حسن، ورواه أحمد في " مسَندهَ " (3) ، وابن حبان في "صحيحه " والحاكم في " مستدركه " (4) وصححه، وعباس الجشمي (2) ، يقال: إنه عباس (5) بن عبد الله، ذكره ابن حبان في " الثقات "، ولم يتكلم فيه أحد- فيما علمنا- ولو كانت البسملة في أول كل سورة لافتتحها- عليه [1/269-أ] السلام- بها، وقد قلنا: إن مذهب المحققين / أنها من القرآن حيث كتبت، وأنها مع ذلك ليست من السور، بل كتبت آية في كل سورة، وكذلك تتلى آية مفردة في أول كل سورة كما تلاها النبي- عليه السلام- حين أنزلت عليه: (إنا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ) ، وهذا قول ابن
__________
(1) البخاري: كتاب بدء الوحي، باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (3) ،مسلم: كتاب الإيمان، باب: بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم (160/252)
(2) في الأصل: " عياش الجهني " خطأ.
(3) (2 / 299، 321) .
(4) (2 / 497- 98 4) .
(5) في الأصل: " عياش " خطأ.

(3/438)


ابن المبارك، وداود، وهو المنصوص عن أحمد، وبه قالت جماعة من الحنفية، وذكر أبو بكر الرازي أنه مقتضى مذهب أبي حنيفة.
قلت: ولذلك قال الشيخ حافظ الدين النسفي: وهي آية من القرآن، أنزلت للفصل بين السور، وهذا القول فيه الجمع بين الأدلة، وعن ابن عباس: " كان النبي- عليه السلام- لا يعرف فصل السورة حتى نزل عليه: (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وفي رواية: " لا يعرف انقضاء السورة " رواه أبو داود، والحاكم، وقال: إنه على شرط الشيخين (1) ، وحديث أنس: أخرجه مسلم، والنسائي.
763- ص- نا قَطَنُ بنُ نُسَيرٍ، نا جعفر، ثنا حميد الأعرج المكي، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، وذكر الإفك، قالت:" جَلسَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وكشفَ عن وجهِهِ، وقال: أعوذُ بالسميع العليم من الشيطانِ الرجيم: (إِن الذين جَاءُوا بِالإِفْكِ) الآية (2) " (3) .
ش- قَطَن- بالقاف والنون-: ابن نُسَير- بالنون في أوله- الغُبَري- بالغين المعجمة، والباء الموحدة- أبو عباد البصري، يعرف بالذارع. روى عن بشر بن منصور، وعدي بن أبي عمارة، وجعفر. روى عنه: مسلم، وأبو داود، والبغوي. وروى الترمذي عن رجل عنه (4) . وجعفر ابن سليمان الضبعي.
وحميد بن قيس الأعرج أبو صفوان الأسدي، مولاهم المكي. سمع: عطاء بن أبي رباح، ومجاهدا، والزهري، وغيرهم. روى عنه: جعفر ابن سليمان، وجعفر الصادق، ومالك، والثوري، وابن عيينة،
__________
(1) يأتي بعد ثلاثة أحاديث.
(2) سورة النور: (11) .
(3) تفرد به أبو داود.
(4) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (23 / 6 88 4) .

(3/439)


وغيرهم. وقال أحمد: ثقة، وكذا قال يحيى بن معين. روى له الجماعة (1) .
قوله: " وذكر الإفك " أي: قضية الإفك، والإفك: الكذب، والافتراء، والمراد به: ما أفك به على عائشة- رضي الله عنها- حين استصحبها- عليه السلام- في بعض الغزوات وهي قصة مشهورة، فأنزل الله تعالى ثماني عشرة آية في براءتها، وتعظيم شأنها، وتهويل الوعيد لمن تكلم فيها، والثناء على من ظن بها خيرا، وقد اختلف العلماء كيف التعوذ قبل القراءة، فعند الجمهور: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم " دون غيره، وذلك لموافقته الكتاب والسنة. أما الكتاب: فقوله- عَز وجل-: (فَإِذَا، قَرَأتَ القُرآنَ فَاسْتَعِدْ بِالله مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم) (2) . وأما السُّنَّة: فما رواه نافع بن جبير بن مَطعم، عن أبيه، عن النبي - عليه السلام- أنه استعاذ قبل القراءة بهذا اللفظ بعينه (3) ، وهو قول عاصم وأبي عمرو ويعقوب، وعند أهل المدينة والشام يقول: " أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم "، وهو قول علي، وعند أهل مكة: " أعوذ بالله العظيم من الشيطان الرجيم،، وعند حمزة: " استعيذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم "، وعند سهل:" أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم "، وعن الصديق:" استعذت بالله من الشيطان الرجيم "، وعند ابن الحنفية:
__________
(1) المصدر السابق (7 / 1535) .
(2) سورة النحل: (8 9) .
(3) قال الشيخ الألباني في " الإرواء" (2 / 53) : صحيح لكن بزيادتين، وأما بدونهما فلا أعلم له أصلاَ ... وقد ورد بلفظ: " أعوذ بالله السميع العليم
من الشيطان الرجيم، من همزه، ونفخه، ونفثه،، وقد روي من حديث جبير ابن مطعم، وأبي سعيد الخدري، وابن مسعود، وعمر بن الخطاب، وأبي أسامة: فأما حديث جبير فرواه أبو داود (947) ، وابن ماجه (764) ، وغيرهما" 10 هـ بتصرف. وانظر: الإرواء لباقي التخريجات.

(3/440)


" أعوذ بالله القوي من الشيطان الغوي ". وقال صاحب " التيسير": ولا أعلم خلافا بين أهل الأداء في الجهر بها عند افتتاح القرآن وعند الإبتداء برءوس الأجزاء، وغيرها في مذهب الجماعة اتباعا للنص، واقتداء بالسُّنَة. وروى إسحاق المسيبي، عن نافع أنه كان يخفيها في جميع القرآن. وروى سليم، عن حمزة أنه كان يجهر بها في أول أم القرآن خاصة، ويخفيها بعد ذلك في سائر القراَن، كذلك قال خلف عنه، وقال خلاد عنه: إنه كان يجيز الجهر والإخفاء جميعا، ولا ينكر على من جهر، ولا على من أخفى، والباقون لم يأت عنهم في ذلك شيء منصوص، ثم حكم الاستعاذة في الصلاة فهي سُنَة عند عامة العلماء خلافا "لك، وأما وقته بعد الفراغ من الثناء قبل القراءة عند الجمهور. وقالت الظاهرية: وقته بعد الفراغ من القراءة، وأما من يسن في حقه التعوذ: الإمام، والمنفرد، دون المقتدي عند أبي حنيفة، ومحمد، وعند أبي يوسف هو سُنَة أيضاً في حقه، وهو قول الشافعي، وأحمد، وقد عرف / بتفصيله في الفروع. [1/269-ب]
ص- قال أبو داود: هذا الحديث منكر، قد روى هذا الحديث، عن الزهري جماعة لم يذكروا هذا الكلام على هذا الشرح، وأخاف أن يكون أمر الاستعاذة منه (1) كلامَ حميد.
ش- أشار به إلى أن حميدا اَلأعرج انفرد به مخالفا " رواه الثقات عن الزهري، أو يكون ذلك وهما منه.
قوله: " أمر الاستعاذة منه " أي: من الشيطان، وفي بعض النسخ:
" فيه " أي: أمر الاستعاذة في هذا الحديث.
قوله: " كلام حميد " منصوب على أنه خبر " أن يكون"، وهذا الحديث ليس له مناسبة في هذا الباب أصلاً، وإنما وقع هذا هاهنا اتفاقا.
***
__________
(1) في سنن أبي داود: " من ".

(3/441)


119- باب: من جهر بها
أي: هذا باب في بيان قول من جهر بالبسملة، وفي بعض النسخ: " باب: ما جاء فيمن جهر بها ".
764- ص- نا عمرو بن عون، أنا هشيم، عنِ عوف، عن يزيد الفارسي، قال: سمعت ابن عباس، قال: " قلتُ لعثمان بنِ عفانَ: ما حَمَلَكُم أن عَمَدتُم إلى" بَراءةَ "، وهي من المئين، وإلى " الأنفال " وهي من المَثَاني، فجعلتموها (1) في السَّبعْ الطوَالَ، ولم تكتُبُوا بينهَمَا سَطرَ (بسمَ الله الرحمنِ الرحيم) ؟ قال عثمانُ: كَان النبيُّ- عليه السلام- مما تنزلُ علي الآياتُ، فيدعو بعضَ من كان يَكتبُ له، ويقولُ: ضَعْ هذه الآية في السورة التي يُذكَرُ فيها كَذا وكَذا، وتَنزل علي الآية والآيتان، فيقولُ مثلَ ذلكَ، وِكانت " الأنفالُ " من أول ما نَزلَ علي بالمدينة، وكانت " براءة " من آخر ما نزلَ منَ القراَن، وكانت قصَتها شَبيهةً بقصَّتهَا، فظننتُ أنها منها، فمن هناك وضعتُها (2) فَي السبعْ الطّوَالِ، ولَم أكتبَْ بينهما سَطرَ: (بسم الله الرحمن الرحيم) (3) .
ش- هشيم بن بشير الواسطي.
وعوف هذا هو ابن أبي جميلة، واسم أبي جميلة: بندوية، ويقال: رزينة العبدي الهجري، البصري، يعرف بالأعرابي، ولم يكن أعرابيا. روى عن: أبي عثمان النهدي، وأبي العالية، والحسن، وابن سيرين، وغيرهم. روى عنه: الثوري، وشعبة، ويحيى القطان، وابن المبارك، وغيرهم. قال أحمد: ثقة صالح. وقال ابن معين: ثقة. وقيل: كان يتشيع. مات سنة ست وأربعين ومائة. روى له الجماعة (4) .
__________
(1) في سنن أبي داود: " فجعلتموهما ".
(2) في سنن أبى داود:" وضعتهما ".
(3) الترمذي: كتاب التفسير، ومن سورة التوبة (6 308) ، النسائي في الكبرى: كتاب فضائل القرآن، باب: كتابة القرآن.
(4) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (22 / 4545) .

(3/442)


ويزيد الفارسي هو ابن هرمز، أبو عبد الله الليثي مولاهم المدني،
وهو والد عبد الله بن يزيد، أحد الفقهاء بالمدينة، وهو معلم مالك بن أنس. روى عن: ابن عباس، وأبي هريرة. روى عنه: سعيد المقبري، وعوف الأعرابي، وقيس بن سعد المكي، وغيرهم. قال محمد بن سعد: كان ثقة- إن شاء الله- روى له: مسلم، وأبو داود، والترمذي، وا لنسائي (1) .
قوله: " أن عمدتم " أي: أن قصدتم، و" أن " في محل الرفع على أنه فاعل قوله: "حملكم ".
قوله: " وهي من المئين " أي: من السور التي تشتمل على أكثر من مائة آية. لأن البراءة مائة وتسع وعشرون آية عند الكوفيين، وعند البصريين مائة وثلاثون آية، والشئون بكسر الميم جمع مائة، وبعضهم يقول: شؤون بالضم، وأصل مائة، مأى، نحو معاً والهاء عوض عن الياء.
قوله: " وهو من المثاني " المثاني: السور التي تنقص عن المئين، وتزيد على المفصل، والأنفال خمس وسبعون آية عند الكوفيين، وسبع وسبعون عند الشاميين، وست وسبعون عند الباقين، وإنما سأل هذا السؤال، لأن المئين جعلت مبادئ، والتي تليها مثاني.
قوله: " فجعلتموها " أي: الأنفال، أي: سورة الأنفال في السبع الطوال، وهني: البقرة، وآل عمر أن، والنساء، والمائدة، وا لأنعام، والأعراف، والتوبة، والطول- بضم الطاء وفتح الواو- جمع الطولى، تأنيث الأطول، مثل: الكبر في الكبرى، وهذا البناء تلزمه الألف واللام أو الإضافة.
قوله: " بينهما " أي: بين الأنفال والتوبة.
قوله: " وكانت الأنفال من أول ما نزل عليه بالمدينة " يعني من السنة
__________
(1) المصدر السابق (32 / 62 0 7) .

(3/443)


الأولى من الهجرة، " وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن "، نزلت في سنة تسع من الهجرة.
قوله:" وكانت قصتها" أي: قصة براءة " شبيهة بقصة الأنفال "، لأن في، الأنفال " ذكر العهود، وفي " براءة " نبذها.
[1/270-أ] قوله: " فظننت أنها منها" / أي: أن سورة براءة من سورة الأنفال، فلأجل ذلك وضعها في السبع الطُّوَلِ، ولم يكتب بينهما سطر (بسم الله الرحمن الرحيم) ، ويقال: تركت البسملة بينهما، لأنها نزلت لرفع الأمان، و" بسم الله " أمان، وقيل: " اختلفت الصحابة في أنهما سورة واحدة هي سابعة السبع الطُوَلِ، أو سورتان تركت بينهما فرجة، ولم يكتب (بسم الله الرحمن الرحيم) ، وقيل: لم تكتب البسملة لأنها رحمة، والسورٍ، في المنافقين.
والحديث أخرجه الترمذي، وفي روايته زيادة، وهي " فقبض رسول الله ولم يبين أنها منها" (1) وقال: هذا حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث عوف، عن يزيد الفارسي، عن ابن عباس، ويزيد الفارسي قد روى عن ابن عباس غير حديث، ويقال: هو يزيد بن هرمز، ويزيد الرقاشي هو: يزيد بن أبان الرقاشي، ولم يدرك ابن عباس، إنما روى عن أنس بن مالك، وكلاهما من أهل البصرة، ويزيد الفارسي أقدم من يزيد الرقاشي، وأخرج الترمذي هذا الحديث في أبواب تفسير القرآن، وليس في الحديث شيء مما يتعلق بالجهر والإخفاء، وليس له مناسبة للباب أيضاً ولذلك غالب النسخ ليس فيه باب من جهر بها، وهذا هو الأجدر المناسب.
ص- قال أبو داود: قال الشعبي، وأبو مالك، وقتادة، وثابت بن عُمارة:
__________
(1) هذه الزيادة ذكرت في سنن أبي داود في حديث مستقل، فقال: حدثنا زياد بن أيوب، حدثنا مروان- يعني: ابن معاوية- أخبرنا عوف الأعرابي، عن
يزيد الفارسي، حدثنا ابن عباس بمعناه، قال فيه: " فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها"

(3/444)


" إن النبي- عليه السلام- لم يكتبْ (بسم الله الرحمنِ الرحيم) حتى نَزلتْ سورةُ النملِ " هذا معناه (1) .
ش- هذا مرسل، وسورة النمل مكية بلا خلاف، وأبو مالك سعد ابن طارق، وثابت بن عُمارة الحنفي أبو مالك البصري. سمع: غنيم ابن قيس ا"زني، وخالد بن الأحدب، وربيعة بن شيبان. روى عنه: شعبة، ووكيع، ويحيى القطان، وغيرهم. وقال ابن معين: ثقة. وقال أحمد: لا بأس به. وقال أبو حاتم: ليس عندي بالمتن. روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي (2) .
765- ص- نا قتيبة بن سعيد، وأحمد بن محمد المروزي، وابن السرح، قالوا: ثنا سفيان، عن عمرو، عن سعيد بن جبير، قال قتيبة: عن ابن عباس قال: " كان النبي- عليه السلام- لا يَعرفُ فَصْلَ السور (3) حتى تَنزِلَ علي: (بسم الله الرحمنِ الرحيم) (4) .
ش- أحمد بن محمد بن موسى المروزي، أبو العباس السمسار، المعروف بمردويه. سمع: ابن المبارك، وإسحاق بن يوسف، وغيرهما. روى عنه: البخاري، وأبو داود، والترمذي، والنسائي وقال: لا بأس به (5) وسفيان الثوري.
وعمرو بن دينار، أبو محمد المكي الجمحي. سمع: عبد الله بن عباس، وابن عمر، وابن عمرو، وجابر بن عبد الله، وغيرهم من الصحابة، ومن التابعين: ابن المسيح، وأبا سلمة، ونافع بن جبير، ومجاهداً وسعيد بن جبير، وغيرهم. روى عنه: جعفر الصادق،
__________
(1) في سنن أبي داود:" وهذا مرسل ".
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (4 / 24 8) .
(3) في سنن أبي داود: " السورة ".
(4) تفرد به أبو داود.
(5) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (1 / 100) .

(3/445)


وأيوب، وقتادة، والثوري، وشعبة، وابن عيينة، وهو أثبت الناس فيه، والحمادان، وابن جريج، وغيرهم. قال ابن عيينة: كان ثقة ثقة ثقة. مات سنة ست وعشرين ومائة. روى له الجماعة (1) .
واستدل بالحديث أصحابنا الذين قالوا: إن البسملة آية من القرآن أنزلت للفصل بين السور. والحديث أخرجه: الحاكم، وقال: إنه صحيح على شرط الشيخين (2) .
ص- وهذا لفظ ابن السرح.
ش- أي: لفظ أحمد بن عمرو بن عبد الله بن عمرو بن السرح، وهو أحد شيوخ أبي داود، ولفظ غيره: " لا يعرف انقضاء السورة حتى تنزل علي: (بسم الله الرحمن الرحيم) .
***
120- باب: تخفيف الصلاة (3)
أي: هذا باب في بيان تخفيف الصلاة.
766- ص- نا أحمد بن حنبل، نا سفيان، عن عمرو سمعه من جابر:
" كان معاذ يُصلي مع النبي- عليه السلام- ثم يَرجِعُ فيؤُمنا، وقال مرة: ثم يَرجعِ فَيُصَلي بقومه، فأخرَ النبي- عليه السلام- ليلة الصَّلاةَ، وقال مَرة: العشاءَ، فصلى معاَذ مع النبيِّ- عليه السلام- ثمِ جَاءَ يَؤمُ قومَهُ فَقرأ البقَرةَ، فاعتزلَ رجل من القَوم، فصلَّى، فقيلَ: نَافقت يا فلانُ، قال: ما نَافقتُ، فأتى النبيَّ- عليه السلام- فقالَ: إن معاذا يُصلي، ثم يرجعُ فيؤُمنا يا رسولَ الله، إِنا (4) نحنُ أصحابُ نَوَاضحَ، ونَعملُ بأيدينَا، وإنه جاءَ يؤُمّنا فقرأ بسَورةِ البقرةِ، فقال: نا معاذُ، أفَتان أنتَ (5) ؟ ! اقَرأ بكذا. فقال أبو الزبير:
__________
(1) المصدر السابق (22 / 0 436) .
(2) المستدرك (1 / 1 23- 232) .
(3) هذا الباب متأخر في سنن أبي داود عن باب:" تخفيف الصلاة للأمر يحدث ".
(4) في سنن أبي داود: "إنما ".
(5) ذكر " أفتان أنت " في سنن أبي داود مرتين

(3/446)


(سبِّح اسْمَ ربِّكَ الأعْلَى) ، (واللَيْلِ إِذا يَغْشَى) فذكرنا لعمرو، فقال: أراه قد ذكرَه " (1) .
/ ش- عمرو بن دينار [1/270-ب]
قوله: " فاعتزل رجل من القوم " قيل: هو: حزم بن أبي كعب،
وقيل: حرام بن ملحان، وقيل: حازم، وقيل: سليم.
قوله: " أصحاب نواضح " النواضح جمع ناضح، وهو: البعير الذي
يستقى عليه، والأنثى ناضحة، سميت بذلك لنضحها الماء باستقائها،
والنضح، الرش، وأراد: إنا أصحاب عمل وتعب فلا نستطيع تطويل الصلاة.
قوله: " فقرأ سورة البقرة " فيه دليل على جواز قول من جوز أن يقال:
سورة البقرة، وسورة النساء، وسورة المائدة، ونحوها، ومنعه بعض السلف، وزعم أنه لا يقال إلا السورة التي يذكر فيها البقرة، ونحو هذا،
والحديث الصحيح حجة عليه.
قوله: " أفتان أنت؟ ! " أي: منفر عن الدين، وصاد عنه، ففيه
الإنكار على من ارتكب ما يُنهى عنه، وإن كان مكروها غير محرم، وفيه
جواز الاكتفاء في التعزير بالكلام، وفيه الأمر بتخفيف الصلاة، والتعزير
على إطالتها، إذا لم يرض الجماعة.
قوله: " فقال أبو الزبير " محمد بن مسلم بن تدرس المكي: (سبح
اسْمَ ربكَ الأعْلَى) أي: اقرأ سورة (سبح اسْمَ ربِّكَ الأعْلَى) في
الركعة الأولى، واقرأ في الثانية: (واللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) ، وفي " مسند
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان، باب: من شكا إمامَه إذا طول (705) ، مسلم:
كتاب الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (465) ، النسائي:
كتاب الافتتاح، باب: القراءة في العشاء الآخرة ب (الشمس وضحاها)
(2 / 2 0 1) ، وانظر: (2 / 97، 68 1، 172) .

(3/447)


السراج، (1) : فقال النبي- عليه السلام-: " أما يكفيك أن تقرأ ب (السمَاء وَالطَّارق) ، (والشَّمْس وَضُحَاهَا) ، وعند السفاقسي: (إذا السَمَاءُ انفًطَرَتْ) ، و (اقْرَأ بِاسْم ربكَ)
قوله: " فذكرنا (2) لعمرو " أي: عمرو بن دينار، وقد استدل الشافعي بهذا الحديث في جواز اقتداء المفترض بالمتنفل، ولم يجوزه أبو حنيفة، ومالك، وربيعة، والزهري، وابن المسيب، والنخعي، وأبو قلابة، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والحسن البصري، ومجاهد، وآخرون، وأجبنا عن الحديث: إما أنه منسوخ، أو كان معاذ يصلي مع النبي- عليه السلام- متنفلاً، ومع قومه فرضاً، واستوفينا الكلام فيه في باب 00. (3) والحديث أخرجه: البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن حبان، وغيرهم.
767- ص- نا موسى بن إسماعيل، ثنا طالب بن حبيب، قال: سمعت عبد الرحمن بن جابر، يحدث عن حزم بن أبي كعب (4) " أنه أتى مُعاذا وهو يُصلي بقومٍ صَلاةَ المغرب- في هذا الخبر- قال: فقالت رسولُ الله: يا معاذُ، لا تكنْ فَتَّانا، فإنه يُصَلى وراءَكَ: الكبيرُ، والضعيفُ، وذو الحَاجَة والمُسافرُ " (5) .
ش- طالب بن حبيب بن عمرو بن سهل بن قيس الأنصاري المدني الضجيعِي، ويقال: طالب ابن ضَجِيع، لأن جَده ضجيعُ حمزةَ بن عبد الَمطلب. سمع: عبد الرحمن ومحمدا ابني جابر بن عبد الله. روى عنه: موسى بن إسماعيل، وأبو داود الطيالسي، ويونس بن محمد
__________
(1) عزاه الشيخ الألباني في " الإرواء " (1 / 330) إلى " مسند السراج " (ق 33 / 1) ، و (ق 33 / 2) ، و (ق 35 / 1) ، وقال: سنده صحيح.
(2) في الأصل: " فيذكرنا ".
(3) بياض في الأصل، وقد تقدم الكلام علي في " باب إمامة من يصلي بقوم وقد صلى تلك الصلاة"
(4) في سنن أبي داود: " حزم بن أبي بن كعب " خطأ.
(5) تفرد به أبو داود.

(3/448)


المؤدب. قال البخاري: فيه نظر. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس
به. روى له أبو داود (1) .
وعبد الرحمن بن جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري
السلمي المدني أخو محمد. سمع: أباه، وأبا بردة بن نيار، وحزم بن
أبي كعب. روى عنه: سليمان بن يسار، وعاصم بن عمرو بن قتادة،
وطالب بن حبيب، وغيرهم. وقال ابن سعد: في روايته، ورواية أخيه ضعف، وليس يحتج بهما. وقال أحمد بن عبد الله: عبد الرحمن بن
جابر ثقة. روى له الجماعة (2) .
وحزم بن أبي كعب الأنصاري الصحابي، روى عنه: عبد الرحمن بن
جابر، روى له أبو داود (3) .
قوله: " في هذا الخبر " أي: الخبر المذكور الذي رواه عمرو بن دينار،
عن جابر، وقال أبو حاتم: فيه دلالة أن المغرب ليس له وقت واحد،
ورد البيهقي رواية المغرب، وقال: إن رواية العشاء أصح.
قوله: " الكبير " أي: الكبير في السن، والضعيف أعم من أن يكون
سقيما في بدنه، أو في عضو من أعضائه، وفيه من الفقه: أن الإمام لا
ينبغي أن يطول بالصلاة على الجماعة، ولا سيما إذا كان في مسجد
الشوارع والطرقات، ومسجد الأسواق، أو إمام قوم كسالى، فإذا رضي
القوم به لا يكره التطويل.
768- ص- نا عثمان بن أبي شيبة، نا حسين بن علي، عن زائدة، عن
سليمان، عن أبي صالح، عن بعض أصحاب النبي- عليه السلام- قال:
قال النبي- عليه السلام- / لرجل: " كيفَ تقولُ في الصلاة ِ؟ قال: [1/271-أ]
__________
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (13 / 2956) .
(2) المصدر السابق (17 / 0 378) .
(3) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (1 / 88 3) ، وأسد الغابة (2 / 4) ،والإصابة (1 / 325) .
29. شرح سنن أبي داوود 3

(3/449)


أَتشهدُ، وأقولُ: اللهُمَ إني أسألُكَ الجنةَ، وأَعوذُ بك من النار، أمَا إني لا أحْسِنُ دندَنَتَكَ، ولا دَنْدَنَةَ مُعاذ، فقال- عليه السلام-:َ حَوْلَهُمًا (1) نُدَنْدِنُ " (2) .
ش- حسين بن علي الجعفي الكوفي، وزائدة بن قدامة، وسليمان بن مهران الأعمش، وأبو صالح ذكوان الزيات.
قوله: " دندنتك " الدندنة: قراءة مبهمة- غير مفهومة، والهينمة مثلها، أو نحوها.
قوله: " حولهما " أي: حول الجنة والنار، " ندندن " أي: في طلبهما من دندن الرجل إذا اختلف في مكان واحد مجيئا وذهابا. وقال ابن الأثير (3) : " وفي رواية عنهما: " ندندن " معناه: أن دندنتنا صادرة عنهما وكائنة بسببيهما ". والحديث أخرجه: ابن ماجه من حديث أبي صالح، عن أبي هريرة، وذكر الخطيب أن هذا الرجل الذي قال له النبي: " كيف تقول " هو سليم الأنصاري السلمي. وفيه من الفقه: أن التخفيف في الأدعية من الصلاة مطلوب، ولذلك حسن النبي- عليه السلام- كلام الرجل بقوله: " حولهما ندندن "، ولا سيما إذا كان إماما، حتى قال البعض: إذا عرف الإمام ملل القوم يترك الأدعية بالكلية.
769- ص- نا يحيى بن حبيب، نا خالد بن الحارث، نا محمد بن عجلان، عن عبيد الله بن مقسم، عن جابر، ذكر قصة معاذ، قال: وقال- يعني: النبي- عليه السلام- للفتى: " كَيفَ تَصنعُ نا ابنَ أخي إذا صَلَّيتَ؟ قال: أَقرأ بفاتحة الكتاب، وأَسألُ الله الجنةَ، وأعوذُ به من النار، وإني لا أَدرِي ما دندنَتُكً وَدنْدًنَةُ (4) مُعاذ، فقال رسول الله: إني ومُعاذاً حولَ هاتين، أو نحوَ هذا " (5) .
__________
(1) في سنن أبي داود: " حولها "
(2) ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب: ما يقال في التشهد والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (910) .
(3) النهاية (2 / 137) .
(4) في سنن أبي داود:" ولا دندنة ".
(5) تفرد به أبو داود.

(3/450)


ش- الفتى: هو سليم الأنصاري.
قوله:" ومعاذا " بالنصب، عطف على اسم " إن " في قوله: " إني " وخبره محذوف، والتقدير: إني ومعاذا ندندن حول هاتين أي: الجنة، والنار، و " حول " منصوب على الظرفية، والعامل فيه الخبر المقدر. قوله: " أو نحو هذا " شك من الراوي، والحديث أخرجه: ابن خزيمة في " صحيحه " (1) .
770- ص- نا القعنبي، عن مالك، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبى هريرة، أن النبي- عليه السلام- قال: " إذا صلى أحدُكم للناسِ فَليخَففْ، فإن فيهم الضعيفَ، والسقيمَ، والكَبيرَ، وإذَا صَلَّى لنفسه فليُطَولْ مَا شَاءَ" (2)
.ً
ش- الحديث أخرجه: البخاري، ومسلم، والترمذي، والنسائي، وفي لفظ لمسلم: " والمريض "، وفي لفظ له: " الصغير، والكبير، والضعيف، والمريض، وذا الحاجة "، والفرق بين الضعيف والسقيم: أن الضعيف أعم من السقيم، لأن السقيم من استقام وهو المرض، والضعيف من الضعف، وهو خلاف القوة، فلا يلزم أن يكون ضعيف القوة سقيما كالشيخ الصحيح، فإنه ضعيف القوة غير سقيم.
قوله: " وإذا صلى لنفسه " معناه: إذا صلى منفردا فليطول ما شاء، وفي رواية عبد الرزاق: " وإذا قام وحده فليطل صلاته
"، وفي " مسند السراج ": " وإذا صلى وحده فليطول إن شاء "، وفي رواية لمسلم: " وإذا صلى وحده فليصل كيف شاء ".
__________
(1) (1 / 358- 359) كتاب الصلاة.
(2) البخاري: كتاب الأذان، باب: من شكا إمامه إذا طال (704) ، مسلم: كتاب الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة (467) ، الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاه إذا أم أحدكم بالناس فليخفف (236) ، النسائي: كتاب الإمامة، باب: ما على الإمام من التخفيف (2 / 94) .

(3/451)


وفيه من الفقه: أن الإمام ينبغي أن لا يطول بالصلاة على الجماعة، بل يخففها، بحيث لا يخل بسننها ومقاصدها، وأنه إذا صلى لنفسه طول ما شاء في الأركان التي تحتمل التطويل كالقيام، والركوع، والسجود، دون الاعتدال، والجلوس بين السجدتين.
771- ص- نا الحسن بن علي، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب وأبي سلمة (1) ، عن أبي هريرة، أن النبي- عليه السلام- قال: " إذَا صلى أحدُكُم للناسِ فليخفف،، فإن فيهمُ السقيمَ، والشيخَ الكَبِيرَ، وذا الحَاجَةِ " (2) .
ش - عبد الرزاق بن همام، ومعمر بن راشد، وأبو سلمة عبد الله بن عبد الرحمن.
فإن قيل: ما حكم الأمر المذكور في هذه الأحاديث؟ قلت: أمر ندب واستحباب، وقيل: أمر وجوب، حتى أوجب على الإمام تخفيف الصلاة بمطلق الأمر، قلنا: القرينة الدالة على ما ذكرنا تنفى الوجوب، والله أعلم.
***
[1/271-ب] / 121- باب: تخفيف الصلاة للأمر يحدث
أي: هذا باب في بيان تخفيف الصلاة لأجل أمر يحدث.
772- ص- نا عبد الرحمن بن إبراهيم، نا عمر بن عبد الواحد، وبشر
ابن بكر، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قتادة
عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إني لأقُومُ إلى الصلاة وأنا أريدُ أنْ
أطَولَ فيها، فأسْمَعُ بُكَاءَ الصبي، فأتَجَوزَ كَرَاهِيَة أنْ أشُق على أمهِ " (3) .
__________
(1) في الأصل:" عن ابن المسيب، عن أبي سلمة " خطأ، وانظر: التحفة (10 / 13304) ، و (11 / 15288) .
(2) انظر الحديث السابق.
(3) البخاري: كتاب الأذان، باب: من أخف الصلاة عند بكاء الصبي (707) ، =

(3/452)


ش- عبد الرحمن بن إبراهيم القرشي الدمشقي، وعمر بن عبد الواحد
الدمشقي.
وبشر بن بكر التنيسي الدمشقي أبو عبد الله البجلي. سمع: الأوزاعي، وحريز بن عثمان، وعبد الرحمن بن زيد، وغيرهم. روى عنه: الإمام الشافعي، وابن وهب، وهما أقدم وفاة منه، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وغيرهم. قال أبو زرعة: ثقة. وقال أبو حاتم: ما به بأس. مات سنة خمس ومائتين. روى له: البخاري، وأبو داود، وابن ماجه (1) .
قوله: " فأتجوز " من التجوز، والمراد به: تقليل القراء ة كما ذكره ابن سابط وغيره، كما جاء في رواية مسلم: " فيقرأ السورة الخفيفة "، واستدل بعض الشافعية بهذا على ابن الإمام إذا كان راكعا فأحس بداخل يريد الصلاة معه، ينتظره ليدرك معه فضيلة الركعة في جماعة، وذلك لأنه إذا كان له ابن يحذف من طول الصلاة لحاجة الإنسان في بعض أمور الدنيا، كان له أن يزيد فيها لعبادة الله تعالى، بل هذا أحق وأَوْلى. وقال القرطبي: ولا دلالة فيه، لأن هذا زيادة عمل في الصلاة، بخلاف الحذف. وقال ابن بلال: وممن أجاز ذلك الشعبي، والحسن، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وقال آخرون: ينتظر ما لم يشق على أصحابه، وهو قول أحمد، وإسحاق، وأبي ثور. وقال مالك: لا ينتظر، لأنه يضر مَن خلفه، وهو قول الأوزاعي، وأبي حنيفة، والشافعي. وقال السفاقسي، عن سحنون: إن صلاتهم باطلة.
قلت: هذه رواية عن بعض أصحابنا، حتى قال بعضهم: يخشى عليه
__________
= مسلم: كتاب الصلاة، باب: أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام (191- 470) ، النسائي: كتاب الإمامة، باب: ما على الإمام من التخفيف (824) ، ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: الإمام يخفف الصلاة إذا حدث أمر (911) .
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (4 / 679) .

(3/453)


الكفر، وقيل: إذا لم يعرف الداخل لا يكره، وقيل: إن كان الداخل غنيا يكره، وإن كان فقيرا لا يكره.
قوله: " كراهية " نصب على التعليل، أي: لأجل كراهية أن أشق، ومحل " أن " الجر بالإضافة، وهي مصدرية، والتقدير: كراهية الشق. وفيه من الفقه: الدلالة على الرفق بالقوم، وسائر الأتباع، ومراعاة مصلحتهم، وأن لا يدخل عليهم ما يشق عليهم، دان كان يسيراً، من غير ضرورة، وفيه جواز صلاة النساء مع الرجال في المسجد، وأن الصبي يجوز إدخاله في المسجد، دان كان الأولى تبرئة المسجد عمن لا يؤمن منه الحدث، والحديث أخرجه: البخاري، ومسلم من حديث قتادة، عن أنس بن مالك، وأخرجه النسائي، وابن ماجه أيضاً.
773- ص- نا (1) قتيبة بن سعيد، عن بكر بن مضر، عن ابن عجلان، عن سعيد المقبري، عن عمر بن الحكم، عن عبد الله بن عَنمةَ المزني، عن عمار بن ياسر، قال: سمعت رسول الله- عليه السلام- يقول: " إن الرجُلَ لَيَنْصَرفُ وما كُتبَ له إلا عُشرُ صلاة (2) ، تُسعُها، ثُمُنُها، سُبُعُها، سُدسُها، خُمسُها، رُبُعُها، ثُلُثُها، نِصْفُها " (3) .
ش- بكر بن مضر بن محمد المصري.
وعمر بن الحكم بن ثوبان الحجازي المدني. روى عن: عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وأبي سلمة بن عبد الرحمن. روى عنه: سعيد المقبري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويحيى بن أبي كثير، ومحمد بن عمرو بن علقمة. روى له الجماعة (4) . وعبد الله بن عنمة- بفتح العن المهملة، وفتح النون- ويقال: بسكون النون، ويقال: عثمة- بالثاء المثلثة الساكنة- المدني. روى عن:
__________
(1) جاء هذا الحديث في سنن أبي داود تحت: " باب ما جاء في نقصان الصلاة ".
(2) في سنن أبي داود:" صلاته ".
(3) النسائي في الكبرى، كتاب الصلاة.
(4) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (21 / 4219) .

(3/454)


عمار بن ياسر- رضي الله عنه- روى عنه: عمر بن الحكم بن ثوبان. روى له: أبو داود (1) .
قوله: " وما كتب له " الواو فيه للحال، والمعنى: أن الناس تختلف أحوالهم في ثواب صلواتهم على حسب حالاتهم في إقامتها، فمنهم من يحصل له ثواب عشر صلاة، ومنهم تسعها، ومنهم ثمنها إلى نصفها، فالرجل السعيد أن يحصل له ثواب كلها.
***
/ 122- باب: القراءة في الظهر [1/272-أ]
أي: هذا باب في بيان حكم القراءة في صلاة الظهر.
774- ص- نا موسى بن إسماعيل، نا حماد، عن قيس بن سعد، وعمارة بن ميمون، وحبيب، عن عطاء بن أبي رباح، أن أبا هريرة قال: " في كُل صَلاة يُقرأُ (2) ، فما أسمعَنَا النبيُّ- عليه السلام- أسمعنَاكُم، وما أَخفَى عَلَينَا أخفينا عَليكُم " (3) .
ش- حماد بن سلمة، وقيس بن سعد المكي.
وعمارة بن ميمون، روى عن: عطاء، روى عنه: حماد بن سلمة، روى له: أبو داود (4) .
وحبيب بن أبي قُريبة المعلم البصري، روى له: مسلم.
قوله: " في كل صلاة يقرأ " يعني: في كل صلاة لا بد من قراءة
القرآن.
__________
(1) المصدر السابق (15 / 3468) .
(2) في الأصل: " تُقرأ " كذا، فلعله أراد أنها بالتاء والياء.
(3) البخاري: كتاب الأذان، باب: القراءة في الفجر (772) ، مسلم: كتاب الصلاة، باب: وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة ... (396 / 42، 44) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: قراءة النهار (2 / 163) .
(4) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (21 / 98 41) .

(3/455)


وقوله: " يقرأ " على صيغة المجهول، أي: يقرأ القرآن، وروي:" نقرأ " بالنون، أي: في كل صلاة نقرأ نحن القرآن.
قوله: " فما أسمعنا النبي " يعني: الذي أسمعنا النبي إياه، أراد بالذي جهر فيه بالقراءة كالمغرب، والعشاء، والصبح أسمعناكم إياه، والذي أخفاه علينا كالظهر، والعصر أخفينا عليكم، وقد أجمعت الأمة على الجهر بالقراءة في الصبح، والأولين في المغرب، والعشاء، وفي الجمعة، وعلى الإسرار في الظهر، والعصر، وثالثة المغرب والأخريين من العشاء، واختلفوا في العيد، والاستسقاء، أما العيد فإنه يجهر فيه عندنا، وعند الشافعي، وأما الاستسقاء فليس فيه صلاة عند أبي حنيفة، وإنما هو دعاء واستغفار. وقال أبو يوسف، ومحمد: يصلي الإمام بالناس ركعتن، ويجهر فيهما بالقراءة، وبه قال الشافعي، ومالك، وأحمد، وأما صلاة الكسوف والخسوف، فلا جهر فيها عند أبي حنيفة، ومحمد. وقال أبو يوسف: فيها الجهر، وبه قال أحمد. وقال الشافعي: يسر بها نهارا، ويجهر ليلاً، وأما باقية النوافل ففي النهار لا جهر فيها، وفي الليل يتخير. وقال الشيخ محيى الدين: وفي نوافل الليل قيل: يجهر فيها، وقيل: بين الجهر، والإسرار. والحديث أخرجه: البخاري، ومسلم، وا لنسائي.
775- ص- نا مسدد، نا يحيى، عن هشام بن أبي عبد الله ح، ونا ابن المثنى، نا ابن أبى عدي، عن الحجاج- وهذا لفظه- عن يحيى، عن عبد الله ابن أبي قتادة، قال ابن المثنى: وأبي سلمة، ثم اتفقا على أبي قتادة، قال: "كان النبي- عليه السلام- يُصفي بنا، فَقَرأ في الظهر، والعَصرِ في الركعتين الأولَين بفاتحة الكتابِ وسورتينِ، ويُسْمعُنَا الآيةَ أحيانا، وكان يُطَولُ الرَكعةَ الأولَى منَ الظهَرِ، ويُقصرُ الثانيةَ، وكذَلك في الصبح ".
لم يذكر مسدد فاتحة الكتاب وسورة (1) .
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان، باب: القراءة في الظهر (759) ، مسلم: كتابة

(3/456)


ش- يحيى القطان، وهشام بن أبي عبد الله الدَستوائي البصري،
وابن المثنى هو: محمد بن المثنى، وابن أبي عدي هو: محمد بن أبي عدي، والحجاج هو: ابن أبي عثمان الصواف، ويحمص الثاني هو: يحيى بن أبي كثير، وأبو سلمة هو: عبد الله بن عبد الرحمن.
قوله، " وهذا لفظه " أي: لفظ الحجاج الصواف، عن يحيى بن
أبي كثير.
قوله: " قال ابن المثنى: وأبي سلمة " أي: قال محمد بن المثنى: يحمى عن عبد الله بن أبي قتادة، وعن أبي سلمة أيضاً، ثم اتفق كلاهما على أبي قتادة الحارث بن ربعي.
قوله: " في الركعتين الأولين بفاتحة الكتاب " فيه دليل على وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة من الأولين من ذوات الأربع، والثلاث، وكذلك جمع السورة إلى الفاتحة، وفيه استحباب قراءة سورة قصيرة بكمالها، وأنها أفضل من قراءة بقدرها من طويلة، وفي " شرح الهداية ": إن قراءة بعض سورة في ركعة، وبعضها في الثانية الصحيح أنه لا يكره، وقيل: يكره، ولا ينبغي أن يقرأ في الركعتين من وسط السورة، ومن آخرها، ولو فعل لا بأس به، وفي النسائي: " قرأ رسول الله من سورة المؤمنين إلى ذكر موسى وهارون، ثم أخذته سعلة فركع " (1) ، وقال في " المغني ": لا يكره قراءة آخر السورة، وأوساطها في إحدى الروايتين عن أحمد، والرواية الثانية مكروهة.
قوله: " ويسمعنا الآية أحيانا " أي: في بعض الأحيان، أي: الأوقات، هذا محمول على أنه أراد بأن جواز الجهر في القراءة السرية، وأن الإسرار
__________
الصلاة، باب: ما جاء في القراءة في الظهر والعصر (451) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: تطويل القيام في الركعة الأولى من صلاة الظهر (2 / 164) ، ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: الجهر بالآية أحيانا في صلاة الظهر والعصر (829) .
(1) النسائي: كتاب الافتتاح، باب: قراءة بعض السورة (2 / 176) .

(3/457)


ليس بشرط لصحة الصلاة، بل هو سُنة، ويحتمل أن الجهر بالاَ ية كان
يحصل بسبق اللسان للاستغراق في التدبر.
[1/272-ب] قوله: " وكان يطول الركعة الأولى من الظهر / ويقصر الثانية " أي: الركعة الثانية، وبه استدل محمد بن الحسن في أن تطويل الركعة الأولى
على الثانية في جميع الصلوات، وبه قال بعض الشافعية، وعند
أبي حنيفة، وأبي يوسف: يسوي بين الركعتين إلا في الفجر، فإنه يطول
الأولى على الثانية، وبه قال بعض الشافعية، والجواب عن الحديث: إنه
كان يطول الأولى بدعاء الاستفتاح، والتعوذ، أو استماع دخول داخل في
الصلاة ونحوه، لا في القراءة.
قوله: " وكذلك في الصبح " أي: وكذلك كان يطول الركعة الأولى في
صلاة الصبح، وهذا بالإجماع، لأنه وقت نوم وغفلة. والحديث
أخرجه: البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه.
776- ص- نا الحسن بن علي، نا يزيد بن هارون أنا همام، وأبان بن
يزيد العطار، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه بعض هذا،
وزاد: " وفي الأخْرَيَين بفاتحة الكتاب "، وزاد عن همام، قال: " وكانَ
يُطَولُ في الركعة الأولَى مَا لا يُطَولُ في الثانية، وهكذا في صَلاة العصر،
وهكذا في صلاةَِ الغَدَاةِ " (1) .
ش- همام بن يحيى العوذي.
قوله: " ببعض هذا " أي: الحديث المذكور، وزاد فيه: " وفي
الأخريين " يعني: قرأ في الأخريين بفاتحة الكتاب. وقال الشيخ محيي
الدين (2) : " وفي هذه الأحاديث دليل على أنه لا بد من قراءة الفاتحة في
جميع الركعات، ولم يوجب أبو حنيفة في الأخريين قراءة، بل خيره بين
القراءة والتسبيح، والسكوت، والجمهور على وجوب القراءة، وهو
الصواب الموافق للسنن الصحيحة ".
__________
(1) انظر التخريج المتقدم.
(2) شرح صحيح مسلم (4/ 175) .

(3/458)


قلت: إنما لم يوجب أبو حنيفة القراءة في الأخريين " روى أبو بكر، قال: نا شريك، عن أبي إسحاق، عن عليّ، وعبد الله، أنهما قالا: " اقرأ في الأولين، وسبح في الأخريين ".
ونا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، أنه قال: " يقرأ في الأوليين، ويسبح في الأخريين ".
حدثنا جرير، عن منصور، قال: قلت لإبراهيم: ما نفعل في الركعتين الأخريين من الصلاة؟ قال: " سبح، واحمد الله، وكبر ". حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن ابن الأسود، قال: "يقرأ في الركعتين الأولين بفاتحة الكتاب، وسورة، وفي الأخريين يسبح، ويكبر ".
وكفى أبا حنيفة علي- رضي الله عنه- قدوة في الباب، على أن الحسن روى عن أبي حنيفة: إن القراءة في الأخريين واجبة، حتى لو تركها ساهيا يلزمه سجدة السهو، واتفق أصحابنا كلهم على أن القراءة أفضل في الأخريين، وكل حديث ورد بالقراءة في الأخريين محمول على الفضيلة.
قوله: " وزاد: عن همام " أي: زاد يزيد بن هارون: عن همام بن يحيى، وقد أجبنا عن وجه هذه الزيادة.
777- ص- نا الحسن بن عليّ، نا عبد الرزاق، أنا معمر، عن يحيى، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، قال: " فَظَننا أنه يُريدُ بذلكَ أن يُدْركَ الناسُ الركعةَ الأولى " (1) .
ش- عبد الرزاق بن همام، ومعمر بن راشد، ويحيى بن أبي كثير. قوله: " يريد بذلك " بتطويله الأولى على الثانية، وقد ذكرنا هل يجور ليمام أن يطول لأجل إدراك داخل أم لا.
__________
(1) انظر الحديث قبل السابق.

(3/459)


778- ص- نا مسدد، نا عبد الواحد بن زياد، عن الأعمش، عن
عمارة بن عمير، عن أبي معمر، قال: " قُلنا لخَباب: هلْ كانَ رسولُ الله
- عليه السلام- يَقرأ في الظهر، والعصر؟ قال: نعَم، قال (1) : بم كُنتمَ
تَعرفونَ (2) ؟ قال: باضطرابِ لَحيتِهِ " (3) .
ش- أبو معمر: عبد الله بن سخبرة.
وخباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة بن كعب بن سعد
أبو عبد الله، شهد بدرا مع رسول الله، روي له عن رسول الله اثنان
وثلاثون حديثا، اتفقا على ثلاثة أحاديث، وانفرد البخاري بحديثين،
ومسلم بواحد. روى عنه: قيس بن أبي حازم، ومسروق، وأبو معمر.
نزل الكوفة، ومات بها سنة سبع وثلاثين، وهو ابن ثلاث وسبعينَ سنة،
وصلى عليه علي بن أبي طالب. روى له الجماعة (4) .
قوله: " باضطراب لحيته " أي: بحركتها، وفي بعض النسخ: " لحييه "
بفتح اللام، وبالياءين، أوليهما مفتوحة، والأخرى ساكنة، وهي تثنية
" لحي " بفتح اللام، وسكون الحاء، وهي: منبت اللحية من الإنسان
وغيره. ويستفاد من الحديث مسألتان، الأولى: وجوب القراءة في الصلاة، والثانية: وجوب الإخفاء في الظهر، والعصر. والحديث
أخرجه: البخاري، والنسائي، وابن ماجه.
ثم إن الرجل إن جهر فيما يخافت فيه، أو خافت فيما يجهر فيه،
فعند أبي حنيفة يسجد للسهو، وعن أبي يوسف: إن جهر بحرف يسجد،
[1/273-أ] وفي رواية عنه: إن زاد في المخافتة / على ما سمع أذنيه تجب سجدتا السهو، والصحيح إذا جهر مقدار ما تجور به الصلاة، وقال بعض
__________
(1) في سنن أبي داود: " قلنا ".
(2) في سنن أبي داود: " تعرفون ذاك".
(3) البخاري: كتاب الأذان، باب: رفع البصر إلى الإمام في الصلاة (746) ، ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر (826) .
(4) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (1 / 423) ، وأسد الغابة (2 / 114) ، والإصابة (1 / 416) .

(3/460)


أصحابنا: الإسرار سنة، وليس بواجب، وفي " المصنف ": وممن كان يجهر بالقراءة في الظهر، والعصر: خباب بن الأرت، وسعيد بن جبير، والأسود، وعلقمة، وعن جابر، قال: " سألت الشعبي، وسالماً، وقاسما، والحكم، ومجاهدا، وعطاء عن الرجل يجهر في الظهر، والعصر، فقالوا: ليس علي سهو ". وعن قتادة: أن أنسا جهر بهما فلم يسجد، وكذا فعله سعيد بن العاص إذ كان أميراً بالمدينة، ويستدل من رأى الإسرار واجبا بما في " المصنف ": عن يحيى بن أبي كثير، قالوا: " يا رسول الله، إن هنا قوماً يجهرون بالقراءة بالنهار، فقال: ارموهم بالبعر"، وعن الحسن، وأبي عبيدة: صلاة النهار عجماء، وقد قيل: إن هذا حديث، وليس بصحيح، وسمع ابن عمر رجلاً يجهر بالقراءة نهارا، فقال له: " إن صلاة النهار لا يجهر فيها بالقرآن، فأسر قراءتك ".
779- ص- نا عثمان بن أبي شيبة، نا عفان، نا همام، نا محمد بن جُحادةَ، عن رجل، عن عبد الله بن أبي أوفى: " أن النبي- عليه السلام- كان يَقومُ في الركعةِ الأولى مِن صَلاةِ الظُّهرِ حتى لا يَسْمَعَ وَقع القَدمَ " (1) . ش- عفان بن مسلم البصري، وهمام بن يحيى.
وعبد الله بن أبي أوفى: علقمة بن خالد بن الحارث بن أبي أسيد
- بفتح الهمزة- بن رفاعة بن ثعلبة أبو إبراهيم، أو أبو محمد، أو أبو معاوية الأسلمي، أخو زيد، شهد بيعة الرضوان، روي له عن رسول الله- عليه السلام- خمسة وتسعون حديثا، اتفقا على عشرة، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بحديث. روى عنه، طلحة بن مصرف، وإسماعيل بن أبي خالد، وعمرو بن مرة، وغيرهم، نزل الكوفة، ومات بها سنة ست وثمانين، وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة. روى له الجماعة (2) .
__________
-
(1) تفرد به أبو داود.
(2) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (2 / 264) ، وأسد الغابة (3 / 182) ، والإصابة (2 / 279) .

(3/461)


والحديث معلول برجل مجهول.
قوله:" وقع القدم " بسكون القاف، وهو سقوطه، والمراد منه: حسه، وفي رواية: " وقع قدم " بدون التعريف، وروى أبو بكر بن أبي شيبة بهذا الإسناد بعينه، عن ابن أبي أوفى، أن النبي- عليه السلام- كان ينتظر ما سمع وقع نصل علي.
***
123- باب: تخفيف الأخريين
أي: هذا باب في بيان التخفيف في الركعتين الأخريين، وفي بعض النسخ: " باب ما جاء في تخفيف الأخريين ".
780- ص- نا حفص بن عمر، نا شعبة، عن محمد بن عبيد الله أبي عون، عن جابر بن سمرة، قال: قال عمرُ لسعد: قد شَكَاكَ الناسُ في كلِّ شيء حتى في الصلاةِ! قال: " إذا أنَا فأمدُّ في الأولَيَينِ، أو كما قال، وأحذفُ في الأخْرَيين، وما آلو ما اقتديتُ (1) من صلاة رسول الله، قال: ذاك الظنُّ بكَ " (2)
.ً
ش- أي: قال عمر بن الخطاب لسعد بن أبي وقاص- رضي الله عنهما-.
قوله: " أما أنا فأمد في الأوليين " أي: أطول.
قوله: " أو كما قال " شك من الراوي، وفي رواية البخاري ومسلم:
" إني لأر كد بهم في الأوليين ".
قوله:" وأحذف في الأخريين " يعني: أقصرهما عن الأولين لا أنه
__________
(1) في سنن أبي داود:" ولا آلو ما اقتديت به ".
(2) البخاري: كتاب الأذان، باب: وجوب القراءة للأمام وا"موم في الصلوات كلها في الحضر والسفر، وما يجهر فيها وما يخافت (755) ، مسلم: كتاب الصلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر (159- 453) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: الركود في الركعتين الأوليين (2 / 174) .

(3/462)


يُخلهما بالكلية، وقد استدل به البعض لأبي حنيفة في أن لا قراءة في
الأخريين، لأن ظاهر العبارة يدل على أنه كان يحذف القراءة، أي:
يتركها في الأخريين.
قوله: " وما آلو " بالمد في أوله، وضم اللام، أي: ما أقصر فيما
اقتديت به من صلاة رسول الله، ومنه قوله تعالى: (لا يَألُونَكُمْ
خَبالا) (1) من آل يألو، فهو آل، وهي آلية، وجمعها أوال، وتمام
الحديث في " الصحيحين " عن جابر بن سمرة: " شكى أهل الكوفة
سعداً إلى عمر، فعزله، واستعمل عليهم عمارا، فشكوا حتى ذكروا أنه
لا يحسن يصلي، فأرسل إليه، فقال: يا أبا إسحاق، إن هؤلاء
يزعمون أنك لا تحسن تصلي! قال: أما أنا، والله فإني كنت أصلي بهم
صلاة رسول الله ما أخرم عنها، أصلي صلاة العشاء، فأركد في الأوليين،
وأحذف في الأخريين، قال: ذاك الظن بك نا أبا إسحاق، فأرسل معه
رجلاً، أو رجالا إلى الكوفة، يسأل عنه أهل الكوفة، ولم يدع مسجدا
إلا سأل عنه، ويثنون معروفا، حتى دخل مسجدا لبني عبس، فقام رجل
منهم يقال له: أسامة بن قتادة- يكنى أبا سعدة- قال: أما إذا نشدتنا،
فإن سعدا كان لا يسير بالسرية، ولا يقسم بالسوية، ولا يعدل في
القضية، قال سعد: أما والله لأدعون / بثلاث، اللهم إن كان عبدك هذا [1/273-ب] كاذبا، قام رياء وسمعة: فأطل عمره، وأطل فقره، وعرضه للفتن،
فكان بعد إذا سئل يقول: شيخ كبير مفتون، أصابتني دعوة سعد، قال
عبد الملك: فأنا رأيته بعد قد سقط حاجباه على عينيه من الكبر، وإنه
ليتعرض للجواري في الطريق يغمزهن"
ويستفاد من الحديث فوائد، الأولى: أن الإمام إذا شكي إليه نائبه ينبغي
أن يبعث إليه، ويستفسر عن ذلك، ولا يسكت، فإن خاف من ذلك فتنة
أو مفسدة عزله، ويولي غيره، وإن لم يكن فيه خلل، ألا ترى كيف
__________
(1) سورة آل عمران: (118) .

(3/463)


عزل عمر- رضي الله [عنه]- سعدا مع أنه لم يكن فيه خلل، ولا ثبت عنده ما يقدح في ولايته، وأهليته، وقد ثبت في " صحيح البخاري " في حديث مقتل عمر، والشورى، أن عمر قال: " إن أصابت الإمارة سعدا فذاك، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر، فإني لم أعزله من عجز، ولا خيانة " (1) .
الثانية: جواز المدح للرجل الجليل في وجهه إذا لم يخف علي فتنة
الخليل
بإعجاب نفسه.
الثالثة: جواز خطاب الرجل الخليل/ الجليل بكنيته دون اسمه.
الرابعة: جواز ترك القراءة في الأخريين من ذوات الأربع.
الخامسة: فيه نفوذ دعوة الرجل الصالح.
السادسة: الاحتراز عن دعوة المظلوم.
781- ص- نا عبد الله بن محمد، نا هشيم، أنا منصور، عن الوليد بن مسلِم الهجيمي، عن أي الصديق الناجي، عن أبى سعيد الخدري، قال: "حَزرْنَا قيَامَ رسول الله- عليه السلام- في الظهر، والعصر، فَحَزَرْنَا (2) في الركَعتينِ الأولًيَينَ من الظهرِ قَدْرَ ثَلاثينَ آية قَدرَ: (الم تنزيل) السجدة، وحَزَرْنَا قيامَه في الأخْرَيين على النصف من ذلك، وَحزَرْنَا قِيامه في الأولَين من العَصرِ على قدرِ الأخْرَيين من الَظهرِ، وحَزَزنَا قيامَه في الأخْرَيينِ منَ العصرِ على النِّصفِ من ذلك " (3) .
ش- منصور بن المعتمر.
والوليد بن مسلم بن شهاب العنبري أبو بشر، يعد في البصريين.
__________
(1) البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب: قصة البيعة 000 (3700) .
(2) في سنن أبي داود:" فحزرنا قيامه ".
(3) مسلم: كتاب الصلاة، باب: القراءة في الظهر والعصر (452) ، النسائي: كتاب الصلاة، باب: عدد صلاة العصر في الحضر (1 / 237) .

(3/464)


روى عن: طلحة بن نافع، وحِمران بن أبان، وأبي الصديق الناجي روى له مسلم، وأبو داود (1) .
قلت: قد يلتبس كثيراً لوليد بن مسلم هذا بالوليد بن مسلم الدمشقي على كثير من الناس، فلذلك أوضحته، والهُجَيمي- بضم الهاء، وفتح الجيم- نسبة إلى هجيم، والهجيم، والعنبر أخوان، وهما ابنا عمرو بن تميم.
وأبو الصديق الناجي اسمه: بكر بن عمرو، وقيل: ابن قيس البصري سمع: عبد الله بن عمر، وأبا سعيد الخدري. روى عنه: مطرف بن عبد الله، وقتادة، وعاصم الأحول، والوليد بن مسلم العنبري، وغيرهم. قال ابن معين، وأبو زرعة: ثقة. روى له الجماعة (2) . والناجي بالنون والجيم، نسبة إلى ناجية قبيلة.
قوله: " حزرنا " من حزرت الشيء أحزُره أحزِره بالضم والكسر حَزْراً، والحزر التقدير، والخرص.
قوله:" قدر (الم تنزيل) ، بدل من قوله: " قدر ثلاثين ".
قوله: " السجدة " يجوز فيه الجر على البدل، والنصب على تقدير: أعني، والرفع على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي السجدة، وسورة السجدة مكية، ثلاثون آية عند أهل الكوفة والمدينة، وتسع وعشرون عند أهل البصرة، وثلاثمائة وثمانون كلمة، وألف وخمسمائة وثماني عشر حرفا، واستدل به بعض أصحابنا أن يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين (3) منه ثلاثين آية، وكذا في الصبح، لاستوائهما في سَعة الوقت، وفي العصر يقرأ بخمسة عثر آية، وذلك من قوله: " وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر على قدر الأخريين من الظهر "، وكان قدر الأخريين من الظهر قدر خمسة عشر آية، لأنه على النصف من قدر الأوليين،
__________
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (1 3 / 6736) .
(2) المصدر السابق (4 / 751) .
(3) كذا.
.3. شرح سنن أبي داوود 3

(3/465)


وقدر الأوليين كان قدر ثلاثين آية، وقال صاحب " الهداية ": ويقرأ في
الحضر في الفجر في ركعتن بأربعين آية، أو خمسين آية سوى فاتحة الكتاب، ويروى من أربعين إلى ستين، ومن ستين إلى مائة، وبكل ذلك
ورد الأثر، وجه التوفيق أنه يقرأ بالراغبين مائة، وبالكسالى أربعين، وبالأوسط ما بين خمسين إلى ستين، وقيل: ينظر إلى طول الليالي وقصرها، وإلى كثرة الاشتغال وقلتها، قال: وفي الظهر مثل ذلك،
أي: مثل الفجر، وقال في الأصل: أو دونه، لأنه وقت الاشتغال
[1/274-أ] / فينقص عنه، محرزا عن الملال، والعصر، والعشاء سواء، يقرأ فيهما بأوساط المفصل، وفي المغرب دون ذلك، يقرأ فيها بقصار المفصل،
والأصل فيه كتاب، عمر إلى أبي موسى الأشعري أن اقرأ في الفجر،
والظهر بطوال المفصل، وفي العصر، والعشاء بأوساط المفصل، وفي
المغرب بقصار المفصل ".
قلت: " (1) هذا بهذا اللفظ غريب، ولكن روى عبد الرزاق في
"مصنفه ": أخبرنا سفيان الثوري، عن عليّ بن زيد بن جدعان، عن
الحسن، وغيره قال: " كتب عمر إلى أبي موسى- رضي الله عنهما-
أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل، وفي العشاء بوسط المفصل، وفي
الصبح بطوال المفصل ".
وروى البيهقي في " المعرفة " من طريق مالك، عن عمه أبي سهيل بن
مالك، عن أبيه: " أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى: أن اقرأ
في ركعتي الفجر سورتين طويلتين من المفصل ".
وقال الترمذي في باب القراءة في الصبح: ورُوي عن عمر، أنه كتب
إلى أبي موسى: بأن اقرأ في الصبح بطوال المفصل " ثم قال في الباب
الذي يليه: ورُوي عن عمر أنه كتب إلى أبي موسى: " أن اقرأ في الظهر
__________
(1) انظر: نصب الراية (2 / 5) .
(2) قال الحافظ في " الدراية " (ص / 92) : " إسناده ضعيف منقطع ".

(3/466)


بأوساط المفصل "، ثم قال في الباب الذي يليه: ورُوي عن عمر، أنه كتب إلى أبي موسى: " أن اقرأ في المغرب بقصار المفصل " (1) .
***
124- باب: قدر القراءة في صلاة الظهر والعصر
أي: هذا باب في بيان قدر القراءة في صلاة الظهر، وصلاة العصر، وفي بعض النسخ: " باب في قدر القراءة في الظهر ".
782- ص- نا موسى بن إسماعيل، نا حماد، عن سماك بن حرب، عن جابر بن سمرة: " أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الظهرِ، والعصر ب (السمَاءِ وَالطارِقِ) ، (والسماء ذاتَ البُرُوج) ونحوهما من السورِ" (2) .
ش- (والسماء والطارق) مكية، وهي سبع عشرة آية وإحدى وستون كلمة، ومائتان وتسع وثلاثون حرفا، (والسماء ذات البروج) مكية، وهي اثنتان وعشرون آية، ومائة وتسع كلمات، وأربعمائة وثمان وخمسون حرفا، وبهذا الحديث قال صاحب " المبسوط ": يقرأ في الظهر دون ما يقرأ في الفجر، وكان ذكر في الفجر خمسين آية، وفي رواية ستين، وفي رواية أربعين آية وما دون ذلك قدر سورة البروج. والحديث أخرجه: الترمذي، وفي روايته: " كان يقرأ في الظهر والعصر ب (السمَاء ذات البُرُوج) ، (والسمَاء وَالطارِقِ) وشبههما " قدم "البروج " عَلى "َ الطارق "- كما ترى- وفيَ رواية أبي داود على العكس، ولا يفهم من رواية أبي داود أنه كان يقرأ في الركعة الأولى (الطارق) ، وفي الثانية: (البروج) لأن الواو لا يدل على الترتيب، بل كان يقرأ أولا " البروج "، وثانيا " الطارق "، لأن " البروج " أطول من
__________
(1) إلى هنا انتهى النقل من نصب الراية.
(2) الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاء في القراءة في الظهر والعصر (307) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة العصر (2 / 166) .

(3/467)


" الطارق " - كما ذكرنا- فمتى قلنا بقراءة: " الطارق " أولا، يلزم تطويل الثانية على الركعة الأولى، وهو مكروه، ثم قال الترمذي: حديث جابر بن سمرة حديث حسن صحيح، وقد روي عن النبي- عليه السلام-:" أنه قرأ في الظهر قدر (تنزيل) السجدة "، وروي عنه: " أنه كان يقرأ في الركعة الأولى من الظهر قدر ثلاثين آية، وفي الركعة الثانية قدر خمس عشرة آية "، والنسائي أيضاً أخرج حديث جابر بن سمرة هذا.
783- ص- نا عبيد الله بن معاذ، نا أبي، نا شعبة، عن سماك، سمع جابر بن سمرة، قال: " كان رسولُ الله- عليه السلام- إذا دَحَضَت الشمسُ صلى الظهرَ، وقَرأَ بنحو من (وَالليْل إذَا يَغْشَى) والعَصرَ كذلك، والصلوَات إلا الصبحَ، فإنه كَان يُطِيلُها (1) " (2) .
ش- معنى " دحضت ": زالت، وسورة الليل مكية، وهي إحدى وعشرون آية، وإحدى وسبعون كلمة، وثلاثمائة وعشرة أحرف، وسورة العصر مكية، وهي ثلاث آيات، وأربع عشرة كلمة، وثمان وستون حرفا، وقالت العلماء: كانت صلاته- عليه السلام- تختلف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان القوم يؤثرون التطويل، ولا شغل هناك له ولا لهم طول، وإذا لم يكن كذلك خفف، وقد يريد الإطالة ثم يعرض ما يقتضي التخفيف كبكاء الصبي ونحوه، ويضم إلى [1/274-ب] هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت / فيخفف، وقيل: إنما طوّل في بعض الأوقات وهو الأقل، وخفف في معظمها، فالإطالة لبيان الجوار، والتخفيف لأنه الأفضل، وقد أمر النبي- عليه السلام-
__________
(1) في الأصل: " فإنه كان لا يطيلها " خطأ.
(2) مسلم: كتاب الصلاة، باب: القراءة، في الصبح (460) ، وكتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: استحباب تقديم الظهر في أول الوقت في غير شدة الحر (188/ 618) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة العصر (2 / 166) .
-

(3/468)


بالتخفيف- كما مضى- في حديث معاذ وغيره، وقيل: طول في وقت، وخفف في وقت ليتبين أن القراءة فيما زاد على الفاتحة، لا تقدير فيها من حيث الاشتراط، بل يجوز قليلها وكثيرها، والحديث أخرجه مسلم مختصرا، وأخرجه النسائي.
784- ص- نا محمد بن عيسى، نا معتمر بن سليمان، ويزيد بن هارون، وهشيم، عن سليمان التيمي، عن أمية، عن أبي مجلز، عن ابن عمر: " أن النبيَّ- عليه السلام- سَجَدَ في صَلاة الظهرِ ثم قام َ، فَركَعَ، فَرَأوْا (1) أنه قَرأ: (تنزيل) السجدة " (2) .
ش- سليمان التيمي هو: أبو المعتمر سليمان بن طرخان، وأمية. روى عن: أبي مجلز. روى عنه: سليمان التيمي. روى له: أبو داود. وأبو مجلز لاحق بن حميد الأعور البصري.
قوله: " فرأوا أنه " أي: علموا أنه- عليه السلام- قرأ في صلاته (الم تنزيل) السجدة، وهي ثلاثون آية- كما ذكرناه-.
ص- قال ابن عيسى: لم يذكر أمية أحد إلا معتمر.
ش- أي: قال محمد بن عيسى، أحد شيوخ أبي داود: لم يذكر أمية في هذه الرواية أحد غير معتمر بن سليمان، ولم يذكر في " الكمال " لأمية نسبا ولا نسبة، ولا تعرض إلى حاله بشيء.
785- ص- نا مسدد، نا عبد الوارث، عن موسى بن سالم، نا عبد الله ابن عبيد الله، قال: " دَخلتُ على ابنِ عباس في شباب من بني هاشمٍ، فقلنا لشاب" منا: سَلِ ابنَ عباسٍ: كانَ رسولًُ الله يَقرأ فيه الظهر، والعصرِ؟ فقالَ: لا، لا، فقيلَ له: فلعله كان يقرأ في نفسِهِ؟ فقال: خَمَشا! هذه شَر من الأولَى، كان عبداً مَأموراً، بَلَغَ ما أرسِلَ بهِ، وما اخْتَصنا دونَ الناسِ
__________
(1) في سنن أبي داود: " فرأينا".
(2) تفرد به أبو داود.

(3/469)


بشيء إلا بثلاث خصال: أمرنَا أن نُسبِغَ الوُضوءَ، وأنْ لا نأَكلَ الصدَقَةَ، وأَنْ لاً نُنزِي الحِمًارً علىً الفَرَسِ " (1) .
ش- عبد الوارث بن سعيد البصري.
وموسى بن سالم أبو جهضم الهاشمي، مولى آل العباس بن عبد المطلب. سمع: عبيد الله بن عبد الله، وسلمة بن كهيل. روى عنه: عبد الوارث بن سعيد، ويحيى بن آدم، وحماد بن زيد، والثوري، وإسماعيل ابن علية. قال ابن معين: ثقة. روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (2) .
وعبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي القرشي المدني، والد حسين. سمع عمه: عبد الله بن عباس، روى عنه: يحيى بن سعيد الأنصاري (3) .
وأبو جهضم موسى بن سالم، سئل عنه أبو زرعة، فقال: مديني ثقة. روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
قوله: " في شباب " الشباب جمع شاب، وكذلك الشبان، وكلمة "في " هاهنا للمصاحبة بمعنى مع شباب كما في قوله تعالى: (ادْخُلُوا في أمَم) (4) .
قوله: "أكان " الهمزة فيه للاستفهام.
قوله: " خمشا " دعاء علي بأن يخمش وجهه، أو جلده، كما يقال: جدعا، وصلباً وطعناً وقطعاً ونحو ذلك من الدعاء بالسوء، وهو
__________
(1) الترمذي: كتاب الجهاد، باب: في كراهية أن تنزي الحمر على الخيل (1701) ، النسائي: كتاب الطهارة، باب: الأمر بإسباغ الوضوء (1 / 88) مختصراً، ابن ماجه: كتاب الطهارة، باب: ما جاء في إسباغ الوضوء
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (29 / 6254) .
(3) المصدر السابق (15 / 03 34) .
(4) سورة الأعراف: (8 3) .

(3/470)


منصوب بفعل لا يظهر، والخمش في الوجه، والخدش في غيره، وقيل: هما بمعنى.
قوله: " هذه شر من الأولى " أي: هذه المسألة شر من المسألة الأولى،
أو هذه الحالة، وشر بمعنى أشر، لأنه قد علم أن خيرا وشرا يستعملان
للتفضيل على صيغتهما.
قوله: " كان " أي: رسول الله، عبدا مأمورا من الله.
قوله: " وأن لا نأكل الصدقة " المراد بها الزكاة، لأنها حرام على بني
هاشم.
قوله: " وأن لا ننزي " من أنزى ينزي إنزاء، وثلاثيه نزا الذكر على
الأنثى ينزو نزاء، بالكسر، قال في " الصحاح ": " يقال ذلك في
الحافر، والظلْف، والسباع ".
ثم اعلم أن حديث ابن عباس هذا سنده صحيح رواه مسدد بن مسرهد
في " مسنده الكبير " بسند صحيح، وأبو داود أخذه منه، وهو يدل على
مسألتين، الأولى: أن لا قراءة في الظهر، والعصر أصلاً، وبه قالت
طائفة، وقال بعضهم: إذا تركها ناسيا في الظهر، والعصر تمت صلاته
/ واستدلوا على ذلك بما رواه أبو بكر بن أبي شيبة (1) : حدثنا [1/275-أ] عبد الوهاب، عن هشام، عن الحسن، وعن ابن أبي عروبة، عن قتادة
في رجل نسي القراءة في الظهر، والعصر حتى فرغ من صلاته قالا:
" أجزأت عنه إذا أتم الركوع، والسجود "، وقالت طائفة: إذا تركها في
سائر الصلوات ناسيا تمت صلاته، واستدلوا بما رواه أبو بكر بن
أبي شيبة (2) : حدثنا ابن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم، قال: فإذا
صلى الرجل فنسي أن يقرأ حتى فرغ من صلاته؟ قال: يجزئه، ما كل
الناس يقرأ ".
__________
(1) 1لمصنف (1 / 396) .
(2) 1لمصنف (1 / 397) .

(3/471)


وروى أيضاً قال: ثنا عبد الله (1) بن نمير، عن عبيد الله بن عمر،
عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، قال: " صلى عمر المغرب، فلم يقرأ، ف" انصرف قال له الناس: إنك لم تقرأ! قال: فكيف كان الركوع والسجود، تام هو؟ قالوا: نعم، فقال: لا بأس، إني حدثت نفسي بعيرٍ، جهزتها بأقتابها وحقائبها ". وقالت طائفة: القراءة في الصلواتً مستحبة غير واجبة، وإليه ذهب: الأصم، وابن علية، والحسن بن صالح، وابن عيينة، حتى لو لم يقرأ مع القدرة عليها تجزئه صلاته. وقال الشافعي: فرض في الكل. وقال مالك: فرض في ثلاث ركعات. وقال الحسن: فرض في واحدة. وقال أصحابنا: فرض في الركعتين من غير تعيين، ولهم حجج عرفت في موضعها.
والمسألة الثانية: ظاهر الحديث يدل على أن بني هاشم مخصوصون بثلاثة أشياء: إسباغ الوضوء، وترك الأكل من الزكاة، وترك إنزاء الحمير على الخيل، فإن كان المراد من الإسباغ كونه فرضاً فوجه التخصيص ظاهر، وإلا فكل الناس مشتركون في استحباب إسباغ الوضوء.
وأما الأكل من الصدقة " (2) فقد ورد في " صحيح مسلم " (3) في حديث طويل من رواية عبد المطلب بن ربيعة مرفوعا: " إن هذه الصدقات إنما هي أوساخ الناس، وإنها لا تحل لمحمد، ولا لآل محمد "، وفي رواية الطبراني (4) : " إنه لا يحل لكم أهل أبيت من الصدقات شيء، إنما هي غسالة الأيدي، وإن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم "، وفي " المصنف " (
5ْ) : ثني وكيع، هنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد،
__________
(1) في الأصل: " أبو عبد الله " خطأ.
(2) انظر: نصب الراية (2 / 404) .
(3) كتاب الزكاة، باب: ترك استعمال النبي صلى الله عليه وسلم على الصدقة (1072/167،168) .
(4) قال الهيثمي في " المجمع " (3 /91) : " فيه حسين بن قيس الملقب بحنش، وفيه كلام كثير، وقد وثقه أبو محصن ".
(5) مصنف ابن أبي شيبة (3 / 61) ، وأخرجه ابن جرير في تفسيره (10 / 5) عن ابن وكيع به.

(3/472)


قال: " كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحل لهم الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس " (1) 0 انتهى.
وبنو هاشم: آل علي، وآل عباس، وآل جعفر، وآل عقيل، وآل الحارث بن عبد المطلب، ومواليهم، وفي " شرح الاَثار " للطحاوي، عن أبي حنيفة: لا بأس بالصدقات كلها على بني هاشم، والحرمة في عهد رسول الله للعوض، وهو خمس الخمس، ف" سقط ذلك بموته - عليه السلام- حلت لهم الصدقة. قال الطحاوي: وبالجواز نأخذ. وأما إنزاء الحمير على الخيل فإنه جوزه العلماء، لأنه ثبت أنه- عليه السلام- ركب البغلة واقتناه، ولو لم يجز " فعله، لأن فيه فتح بابه، ثم الجواب عن قول ابن عباس- رضي الله عنه- فقال الخطابي (2) : " هذا وهم من ابن عباس، قد ثبت عن النبي- عليه السلام- أنه كان يقرأ في الظهر، والعصر من طرق كثيرة، منها: حديث أبي قتادة، ومنها: حديث خباب بن الأرت "، وقد ذكرناهما.
قلت: عندي جواب أحسن من هذا، مع رعاية الأدب في حق ابن عباس- رضي الله عنهما- فنقول: أولا: إسناد ابن عباس في قوله هذا قوله تعالى: (أقيمُوا الصلاة) (3) ، وهو مجمل بيَّنه- عليه السلام- بفعله، ثم قال: َ " صلوا كما رأيتموني أصلي " (4) والمرعي هو الأفعال دون الأقوال، فكانت الصلاة اسما للفعل في حق الظهر والعصر، وللفعل والقول في حق غيرهما، ولم يبلغ ابن عباس قراءته- عليه السلام- في الظهر والعصر، فلذلك قال في جواب عبد الله بن عبيد الله في الحديث المذكور: " لا، لا "، ف" بلغه خبر قراءته- عليه السلام- في الظهر والعصر، وثبت عنده، رجع من ذلك القول،
__________
(1) إلى هنا انتهى النقل من نصب الراية.
(2) معالم الحق (1 / 174) .
(3) سورة البقرة: (43) .
(4) البخاري: كتاب الأذان، باب: الأذان للمسافرين إذا كانوا جماعة والإقامة ... (631) من حديث مالك بن الحويرث.

(3/473)


والدليل علي ما رواه أبو بكر بن أبي شيبة، فقال: نا سفيان، عن سلمة ابن كهيل، عن الحسن العُرَني، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ّ: " يُقرأُ في الظهر والعصر "، وإسناده صحيح، قال يحيى بن [1/275-ب] معين: الحسن / بن عبد الله العُرني الكوفي ليس به بأس، صدوق، إنما يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس. وقال أبو زرعة: كوفي، ثقة. ورُوي عن ابن عباس أيضاً، أن رجلا سأله: " أقرأ خلف إمامي؟ فقال: أما في صلاة الظهر، والعصر، فنعم ".
786- ص- ثنا زياد بن أيوب، ثنا هشيم، أنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: " لا أدري، كان رسولُ الله يَقرأ في الظهر، والعصر، أم لا؟ " (1)
.ًَ
ش- حصين بن عبد الرحمن الكوفي، والجواب عن هذا الحديث ما ذكرناه في الحديث قبله.
***
125- باب: قدر القراءة في المغرب
أي: هذا باب في بيان قدر القراءة في صلاة المغرب.
787- ص- نا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس: " أن أمَ الفضلِ ابنةَ الحارثِ سمعتْهُ وهو يقرأ: (والمُرْسَلاتِ عُرْفا) ، فقالتْ: يا بُني، لقد ذَكَرتْني قراءَتُكَ هذه السورةَ (2) ، إنها لآخر ما سمعتُ رسولَ الله يَقرأ بها في المَغرَبَِ " (3) .
__________
(1) تفرد به أبو داود.
(2) في سنن أبي داود: " لقد ذكرتني بقراءة هذه السورة ".
(3) البخاري، كتاب الأذان، باب: القراءة في المغرب (763) ، مسلم: كتاب الصلاة، باب: القراءة في الصبح (462) ، الترمذي: كتاب الصلاة، باب:
ما جاء في القراءة في المغرب (308) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: القراءة في المغرب بالمرسلات (2 / 168) ، ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: القراءة في صلاة المغرب (831) .

(3/474)


ش- " سمعته " أي: سمعت ابن عباس، والحال أنه يقرأ سورة (والمُرْسَلات عُرْفا) وهي مكية، إلا قوله عَزَّ وجَل: (وإِذَا قيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكًعُونَ) وهي خمسون آية، ومائة وإحدى وثمانون كَلمة، وثمانمائة وستة عشر حرفا. والحديث أخرجه الستة، وفي الترمذي (1) : " خرج إلينا رسول الله، وهو عاصب رأسه في مرضه، فصلى المغرب ب (المرسلات) فما صلى بعدها حتى لقي الله- عَزَّ وجَل "، وفي النسائي (2) : " صلى بنا في بيته المغرب، فقرأ (المرسلات) وما صلى بعدها صلاة حتى قبض- عليه السلام "، وفي " الأوسط " (3) للطبراني: " ثم لم يصل لنا عشاء حتى قبض- عليه السلام- ".
88 7- ص- نا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، أنه قال: " سمعتُ رسولَ الله- عليه السلام- قَرأ ب (الطورِ) في المغربِ " (4) .
ش- محمد بن جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصي القرشي النوفلي المدني أبو سعيد، أبوه من كبار أصحاب النبي- عليه السلام- روى عن: عمر بن الخطاب، وسمع: أباه، ومعاوية بن أبي سفيان. روى عنه: بنوه سعيد، وجبير، وعمر، والزهري،
__________
(1) كتاب الصلاة، باب: ما جاء في القراءة في المغرب (308) ، من حديث أم الفضل.
(2) كتاب الافتتاح، باب: القراءة في المغرب بالمرسلات (2 / 168) من حديث أم الفضل.
(3) (6 / 6280) .
(4) البخاري: كتاب الأذان، باب: الجهر في المغرب (765) ، مسلم: كتاب الصلاة، باب: القراءة في الصبح (463) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: القراءة في المغرب بالطور (2 / 168) ، ابن ماجه: كتاب " قامة الصلاة، باب: القراءة في صلاة المغرب (832) .

(3/475)


وغيرهم. قال أحمد بن عبد الله: مدني، تابعي، ثقة. مات في خلافة عمر بن عبد العزيز. روى له الجماعة (1) .
قوله: " قرأ ب (الطور) ، أي: سورة (والطورِ * وَكتَاب فَسْطُور) وهي مكية، وهي تسع وأربعون آية عند أهل الكوفة، وثماَن وأربعون عند أهل البصرة، وسبع وأربعون عند أهل المدينة، وثلاثمائة واثنا عشر كلمة، وألف وخمسمائة أحرف، والحديث أخرجه: البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه.
789- ص- نا الحسن بن علي، نا عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال: حدَثني ابن أبي مليكة، عن عروة بن الزبير، عن مروان بن الحكم، قال: " قال لي زيدُ بنُ ثابت: مالكَ تَقرأ في المغرب بقصار المُفَصَلِ، وقد رأيتُ رسولَ الله- عليه السلام- يَقرأ في المغرب بطُولى الطوليين، قال: قلتُ: ما طُولَى الطَولَيين؟ قال: الأعرافُ " (2) قالَ: وسألتُ أنا ابَنَ أبي مليكة فقال لي مِن قِبَلِ نفسِهِ: المائدةُ والأعرافُ " (3) .
ش- ابن أبي مليكة هو: عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة، واسم أبي مليكة: زهير بن عبد الله، وقد ذكر مرة.
قوله: " بقصار المفصل " المفصل: السبع السابع، سمي به لكثرة فصوله، وهو من " سورة محمد "، وقيل: من " الفتح "، وقيل: من " قاف " (4) ، إلى آخر القرآن، وقصار المفصل من (لَمْ يَكُنِ) إلى آخر القرآن، وأوساطه من (والسَمَاء ذَاتِ البُرُوج) إلى (لَمْ يَكُنِ) ، وطواله من " سورة محمد " أو مَن " الفتح " إلى (وَالسمَاء ذَات البُرُ وج) .
__________
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (24 / 5113) .
(2) في سنن أبي داود: " الأعراف والأنعام ".
(3) البخاري: كتاب الأذان، باب: القراءة في المغرب (764) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: القراءة في المغرب ب (المص) (2 / 170) .
(4) كذا

(3/476)


قوله: " بطولى الطوليين " طولى فعلى بالضم، تأنيث أطول، ككبرى
تأنيث أكبر.
وقوله: " الطوليين " تثنية الطولى، وأراد بهما الأعراف والأنعام،
والأعراف أطول من أختها الأنعام، لأن الأعراف مائتان وخمس آيات عند
أهل البصرة، وست عند أهل الكوفة، وثلاثة آلاف، وثلاثمائة وخمس وعشرون كلمة /، وأربعة عشر ألف حرف، وعشرة أحرف، وأما [1/276-أ] الأنعام فهي مائة وست وستون آية، وثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة،
واثنا عشر ألف حرف وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا، فإن قيل: طولى
الطوليين هي البقرة، لأنها أطول السبع الطول.
قلت: لو أرادها لقال: بطولى الطول، ف" لم يقل دل على أنه أراد
الأعراف، وهي أطول السور بعد البقرة، ويعضده أنها جاءت مذكورة في
بعض الطرق أنها الأعراف، وإنما قلنا: إن الأعراف أطول السور بعد
البقرة، لأن البقرة مائتان وثمانون وست آيات، وهي ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة، وخمسة وعشرون ألف حرف، وخمسمائة حرف،
وسورة آل عمران مائتا آية، وثلاثة آلاف وأربعمائة وإحدى وثمانون كلمة،
وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفا، وسورة النساء مائة
وخمس وسبعون آية، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمسة وأربعون كلمة،
وستة عشر ألفا وثلاثون حرفا، وسورة المائدة مائة واثنان وعشرون آية،
وألف وثمانمائة كلمة وأربع كلمات، وأحد عشر ألفا وسبعمائة وثلاثة
وثلاثون حرفا. والحديث أخرجه: البخاري مختصراً، والنسائي،
وفي لفظ النسائي: عن زيد بن ثابت، أنه قال لمروان بن الحكم:
" أبا عبد الملك، أتقرأ في المغرب (قلْ هُوَ الله أحَد) و (إنا أعْطَيْنَاكَ الكَوْثرَ) ، وفي " صحيح ابن حبان ": قال زيد: "فحلفت له بالله،
لقد رأيت النبي- عليه السلام- يقرأ " الحديث، وفي " الأطراف " لابن
عساكر: قيل لعروة: " ما طولى الطوليين؟ قال: الأعراف، ويونس ".
***

(3/477)