شرح أبي داود للعيني

155- بَابُ: الفتح على الإمَام فِي الصَّلاة
أي: هذا باب في بيان فتح المصلي علىَ إمامه في الصلَاة إذا استَطْعَمَ ذلك.
884 - ص- نا محمد بن العلاء، وسليمانُ بن عبد الرحمن الدمشقي قالا: أنا مروانُ بن معاوية، عن يحيى الكاهلي، عن المُسَورٍ بن يزيد المالكي أن رسولَ الله- عليه السلام-. قال يحيى: "ربما قال: شهدتُ رسولَ الله يَقْرأ في الصلَاة فَتركَ شَيئا لم يَقرأهُ فقال له رجل: يا رسول الله، تَرَكْتَ آيةً كَنَا وكَذا؟ فقاَلَ له رسولُ الله: " فَهلا أذكَرْتَنِيهَا"؟ (1) .
ش- سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي: ابن بنت شرحبيل.
ويحيي: ابن كثير الكاهلي الأسدي الكوفي. سمع: المُسور بن يزيد. روى عنه: مروان بن معاوية. قال أبو حاتم: هو شيخ. روى له: أبو داود (2) .
والمُسورُ- بضم الميم، وفتح السين المهملة، وتشديد الواو وفتحها- ابن يزيد الأسدي المالكي. قال أبو بكر الخطيب: يروى عنه عن النبي - عليه السلام- حديث واحد. انتهى. وروى له: أبو داود.
والمالكي هذا نسْبة إلى بطن من بني أسد بن خزيمة. وفي الرواة: المالكي نسبة إلى قبائل عدة، والمالكي إلى الجد، والمالكي إلى المذهب، والمالكي إلى القرية المشهورة على القراءة، يُقال لها: المالكية. وذكره ابن أبي حاتم وأبو عُمر النمْري وغيرهما في باب من اسمه: مِسْور - بكسر الميم وسكون السين- والذي قيده الحُفاظ فيه ما ذكرناه (3) . قوله: " قال يحيى" أي: يحيي الجاهلي المذكور، ثم حكم هذا
__________
(1) تفرد به أبو داود.
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (31/ 6905) .
(3) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (418/3) ، وأسد الغابة (5/ 176) ، والإصابة (3/ 0 42) .

(4/128)


الحديث أن العلماء " (1) اختلفوا فيه؛ فروي عن عثمان بن عفان، وابن
عمر أنهما (2) كانا لا يَريان بتلقين الإمام بأساً؛ وهو قول عطاء
والحسن (3) ، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق. وروي عن ابن
مَسعود الكراهة في ذلك، وإليه ذهب الشعبي والثوري".
وقال أصحابنا: إذا فتح على غير إمامه فسدت صلاته؛ لأنه تعليم
وتعلم، فكان من كلام الناس، وفي الأصل: شرط التكرار- أي: في
الفتح- لأنه ليس من أعمال الصلاة فيُعفى القليل منه، ولم يشترطه (4)
في " الجامع الصغير" لأن الكلام نفسه قاطع وإن قل، وإن فتح على
إمامه " يكن كلاما استحسانا، سواء قرأ ما تجوز به الصلاة أو لم يقرأ
هذا هو الصحيح لجواز أن يجري على لسانه ما يكون مفسدا للصلاة،
فيكون المقتدي مضطرا إلى الفتح. وقيل: إذا قرأ ما تجوز به الصلاة ففتح
عليه، فسدت صلاته لأنه " لا يحتاج ح (5) إلى الإصلاح، ثم إنه ينوي
الفتح على إمامه دون القراءة هو الصحيح لأنه مرخص فيه، وقراءته
ممنوع عنه، ولو كان الإمام انتقل إلى آية أخرى تفسد صلاة الفاتح،
وتفسد صلاة الإمام لو أخذ بقوله، لوجود التلقين والتلقي من غير
ضرورة، وينبغي للمقتدي أن لا يعجل بالفتح، وللإمام أن لا يُلجئهم إليه
بل يركع/ إذا جاء أوانه، أو ينتقلُ إلى آية أخرى، وتفسير الإلجاء: أن [2/25 - أ] يُردد الآية، أو يقف ساكتاً.
ص- قال سليمان في حديثه: قال: كُنتُ أرَاها نُسِخَت.
ش- أي: قال سُليمان بن عبد الرحمن: كنتُ أظنها نُسخت،
والضمير راجع إلى قصة فتح المصلي على الإمام ولهذا قال إبراهيم النخعي: الفتح كلام، على ما روى أبو بكر بن أبي شيبة قال: نا
__________
(1) انظر: معالم السنن (1/ 187) .
(2) في الأصل: " أنها " خطأ.
(3) في المعالم زيادة: "وابن سيرين".
(4) في الأصل: "يشترط".
(5) أي: "حينئذ".
9. شرح سنن أبي داوود 4

(4/129)


شريك، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي، وعن مغيرة، عن إبراهيم قالا: هو كلام- يعني: الفتح على الإمام.
حدَثنا ابن علية، عن ميمون أبي حمزة، عن إبراهيم، عن ابن
مسعود في تلقين الإمام: إنما هو كلام يلقنه إليه.
ونا حفص، عن محمد بن قيس، عن مسلم بن عطية أن رجلاً فتح
على إمام شريح وهو في الصلاة، فلما انصرف قال له: اقض صلاتك.
ص- وقال سليمان: حدثنا يحيي بن كثير (1) .
ش- أشار بهذا أن سليمان روى هذا الحديث من طريقين: طريق مروان
ابن معاوية، وطريق يحيي بن كثير بإسقاط مروان من البين. ورَواه أحمدَُ في "مسنده" عن سريج (2) بن يونس، عن مروان بن معاوية، عن يحيي بن كثير، عن مسور بن يزيد.
ص- نا يَزيد بن محمد الدمشقي: نا هشام بن إسماعيل: نا محمد بن شعيب: نا عبد الله بن العلاء بن زبر، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرَ، أن النبي- عليه السلام- صلي صَلاةً فقرأ فيها فلُبسَ (3) عليه، فلفا انصرف قال لأبيّ: " أصليتَ مَعنا؟ " قال: نعم، قال: "فما مَنَعَكَ؟ ". ش- يزيد بن محمد: ابن عبد الصمد بن عبد الله بن يزيد بن ذكوان القرشي الهاشمي مولاهم الدمشقي أبو القاسم، روى عن: هشام بن إسماعيل العطار، وأبي مسْهر، ويحي بن صالح، وغيرهم. روى عنه: أبو داود، والنسائي، وأبو زرعة الدمشقي، وأبو عوانة الإسفرائيني وغيرهم. توفي بدمشق سنة- سبع وسبعين ومائتين، وكان ثقة. وقال النسائي والدارقطني وابن أبي حاتم: هو ثقة (4) .
__________
(1) في سنن أبي داود: "حدثنا يحيى بن كثير الأزدي قال: حدثنا المسور بن يزيد الأسدي المالكي".
(2) في الأصل: "شريح" خطأ.
(3) سبب فوقها المصنف.
(4) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (32/ 44 70) .

(4/130)


وهشام بن إسماعيل: ابن يحيى بن سليمان بن عبد الرحمن العطار
أبو عبد الملك الحنفي، وقيل: الخزاعي الدمشقي. سمع: إسماعيل بن عياش، ومحمد بن شعيب، ومروان بن محمد الطاطري، وغيرهم. روى عنه: أبو زرعة، والعباس بن الوليد، وأحمد بن عبد الواحد الدمشقيون، وغيرهم. وقال النسائي: ثقة. وقال أبو حاتم: كان شيخا صالحا. مات سنة عشر ومائتين. روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي (1) .
ومحمد بن شعيب: ابن شابور الدمشقي، وعبد الله بن العلاء بن زَبْر: الدمشقي أبو زبر الربًعي.
قوله: "فلُبسَ عليه"- بضم اللام وكسر الباء المخففة- من اللَبْس- بفتح اللام- وَهو الخَلْط.
قوله: "فلما انصرف " أي: فلما خرج من الصلاة.
قوله: "قال لأي " أي: قال النبي- عليه السلام- لأبي بن كعب: "أصليتَ معنا؟ " الهمزة فيه للاستفهام، وفي بعض الرواية: " كُنتَ معنا؟ "، وإنما قال له من بين سائر الأصحاب لأنه كان أقرأهم.
قوله: " فما يَمنعك" أي: من الفَتْح؛ وهذا فيه تصريح على جواز الفتح على إمامه، وتقييد بأن الفتح إنما يجوز إذا كان ممنْ هو في صلاته.
156-بَابُ: النهي عَن التَّلقين
أي: هذا باب في بيان النهي عن تلقين المصلي الَإمامَ في الصلاة.
885 - ص- نا عبد الوهاب بن نجدة: نا محمد بن يوسف الفريابي، عن يُونس بن أبي إسحاق، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: قال رسولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: " يا علي، لا تَفتحْ على الإِمَام في الصلاةِ" (2) .
__________
(1) المصدر السابق (30/ 6568) .
(2) تفرد به أبو داود.

(4/131)


ش- يونس بن أبي إسحاق: عَمرو بن عبد الله السبِيعي.
والحارث: ابن عبد الله الأعور، أبو زهير الهمداني الخارفي الكوفي.
سمع: علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود. روى عنه: عبد الله
ابن مرة الخارفي، وأبو إسحاق السبيعي، والشعبي، وغيرهم. قال ابن
أبي خيثمة: سمعت أبي يقولَ: الحارث الأعور كذاب. وقال
أبو إسحاق السبيعي: زعم الحارث الأعور وكان كذابا. وقال أبو زرعة:
لا يحتج بحديثه. وقال أبو حاتم: ليس بقوي ولا ممن يحتج بحديثه.
وقال علي بن المديني: الحارث كذاب، وكان ابن سيرين يَرى أن عامة ما
يروي عن علي باطل. روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي،
وابن ماجه (1) .
وهذا الحديث فيه تصريح على عدم جواز الفتح؛ ولكن فيه مقال من
جهة الحارث.
ص- قال أبو داود: أبو إسحاق لم يسمعْ من الحارثِ إلا أربعةَ أحاديثَ
ليْس هذا منها.
[2/ 25 - ب] ش- أي: ابو إسحاق السبيعي/ لم يسمع من الحارث الأعور إلا أربعة أحاديث ليْس هذا الحديث منها.
والحاصل: أن هذا الحديث ضعيف؛ بل هو قريب من البطلان؛ لأن
أبا إسحاق وإن كان سمع هذا الحديث من الحارث فحال الحارث معلوم.
وفي بعض النسخ عقيب هذا الباب: باب السجود على الأنف: لا مؤمل
ابن الفضل: لا عيسى، عن معمر، عن يحيي بن أبي كثير، عن
أبي سلمة، عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله رُؤِي على جبهته وعلى
أرنبته أثر طين من صلاة صلاها للناس. قال أبو علي اللؤلؤي: لم يَقرأه
أبو داود في العَرْضة الرابعة.
* * *
__________
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (5/ 1025) .

(4/132)


157- بَابُ: الالتِفات فِي الصَّلاةِ
أي: هذا باب في بيان حكم الالتفات في الصلاة.
886- ص - نا أحمد بن صالح: نا ابن وهب قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: سمعت أبا الأحوص يُحدثنا في مجلس سعيد بن المسيب قال: قال أبو ذر: قال رسولُ الله: "لا يَزَالُ الله عز وجل مُقبلاَ على العبد وهو في صلاِتهِ ما لم يَلتفت، فإذا التَفتَ انصرفَ عنه" (1) .
ش- يونس: ابن يزيد.
وأبو الأحوص هذا: لا يُعرفُ له اسم، وهو مَولى بني ليث، وقيل: مولى بني غفار، ولم يَرو عنه غير الزهري. قال ابن معين: ليس بشيء. وقال أبو أحمد الكرابيسي: ليس بالمتين عندهم. روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (2) .
قوله: "مقبلا " نصب على أنه خبر "لا يزال"، ومعنى إقبال الله على العَبْد: نظره إليه بالرحمة، ومعنى انصرافه عنه: ترك ذلك (3) . والحديث: أخرجه النسائي، ورواه الحاكم في "مُسْتدركه" وقال: صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. وقال النووي في "الخلاصة": أبو الأحوص فيه جهالة؛ ولكن الحديث لم يُضعفه أبو داود؛ فهو حسَن عنده.
887- ص- نا مسدد: نا أبو الأحوص، عن الأشعث- يعني: ابن سليم-، عن أبيه، عن مسروق، عن عائشةَ قالت: سألتُ رسولَ اللهِ عن
__________
(1) النسائي: كتاب السهو، باب: التشديد في الالتفات في الصلاة (1195) .
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (33/ 96 1 7) .
(3) بل المراد من الإقبال إقبالا حقيقيا يليق به سبحانه، وكذا انصرافه عن العبد: "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير" اعتقاد أهل السنة والجماعة، وانظر: مجموع الفتاوى (5/ 593 وما بعدها) .

(4/133)


التفات الرجل في صَلاته فقال: " هو (1) اخْتلاس يختلسُهُ الشيطانُ من صَلاةِ اَلعَبْدِ" (2) ،، (3) .
ش- أبو الأحوص: سلام بن سُليم الحنفي الجشمي مولاهم الكُوفي. وأشعث: ابن أبي الشعثاء- سليم- بن أسود المحاربي الكوفي. سمع: أباه، وسعيد بن جبير، والأسود بن يزيد النخعي، وغيرهم. روى [عنه] : الثوري، وشعبة، وأبو الأحوص، وغير هم. قال أحمد وابن معين وأبو حاتم: ثقة. مات سنة خمس وعشرين ومائة. روى له الجماعة (4) .
وأبوه: سُليم بن أسود، ذكرناه.
قوله: " اختلاس" لما من خلستُ الشيءَ واختلستُه إذا سلبته، والمعنى: أن المُصلي إذا التفت يمينا أو شمالا يظفرُ به الشيطان في ذلك الوقت، ويُشْغله عن العبادة، فربما يَسْهو أو يَغلط لعدم حضور قلبه باشتغاله بغير المقصود، ولما كان هذا الفعل غير مَرضي منه نُسب إلى الشيطان. وعن هذا قالت العلماء بكراهة الالتفات في الصلاة. َ وروى أبو بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، عن حطان العصفري، عن الحكم قال: إن من تمام الصلاة: أن لا تعرف مَنْ عن يمينك ولا مَن عن شمالك.
__________
(1) في سنن أبي داود: "إنما هو ".
(2) البخاري: كتاب الأذان، باب: الالتفات في الصلاة (751) ، النسائي: كتاب السهو، باب: التشديد في الالتفات في الصلاة (3/ 8) .
(3) جَاء في سنن أبي داود بعد هذا الحديث: باب السجود على الأنف: حدثنا مؤمل بن الفضل: حدثنا عيسى، عن معمر، عن يحيي بن أبي كثير، عن أبي سلمي، عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله يكن رُوي على جبهته وعلى أرنبته أثر طيب من صلاة صلاها بالناس ".
قال أبو علي: "هذا الحديث لم يقرأه أبو داود في العرضة الرابعة ". اهـ. وقد تقدم عندنا هذا الحديث برقم (1 87) ، وعند أبي داود برقم (894) ، ولم يتكرر هذا الحديث في نسخة المصنف، وقد نبه الشارح على هذا معى/ 132) . انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (3/ 526) .

(4/134)


وقال: لا غندر، عن ابن جريج، عن عطاء قال: سمعت أبا هريرة يقولُ: إذا صليت فإن ربك أمامك وأنت مُناجيه، فلا تلتفت. قال عطاء: وبلغني أن الرب يقول: "يا ابن آدم، إلى من تلتفتُ؟ أنا خير لك ممن تلتفت إليه".
وحديث عائشة: أخرجه البخاري، والنسائي، وابن أبي شيبة.
* * *
158-بَابُ: النَّظَر في الصلاة
أي: هذا باب في بيان النظر في الصلاة.
888- ص- نا مسدد: نا أبو معاوية ح، ونا عثمان بن أبي شيبة: نا جرير- وهذا حديثه، وهو أتم-، عن الأعمش، عن المُسيب بن رافع، عن تميم بن طرفة الطائي، عن جابر بن سمرةَ. قال عثمانُ: قال: دخلَ رسولُ الله- عليه السلام- المسجدَ فَرَأى فيه نَاساً يُصلونَ رافعي أيديَهُم إلى السَّماء-َ ثم اتفقا- فقال: لينتهِيَن رِجَال يَشخصُون أبصارَهمَ إلى السَماءِ في الصلاةَ أو لا يرجعُ (1) إليهم أبصارُهم " (2) .
ش- أبو معاوية: الضرير، وجرير: ابن عبد الحميد.
قوله: "وهذا حديثه" أي: حديث عثمان، والحال أنه أتم من حديث مسدد.
قوله: "عن الأعمش" يرجع إلى كل واحد من جرير/ وأبي معاوية؛ [2/26 - أ] لأن كلا منهما روى عن الأعمش.
قوله: "ثم اتفقا" أي: مُسدد وعثمان.
__________
(1) في سنن أبي داود: " إلى السماء. قال مسدد: في الصلاة، أو لا ترجع".
(2) مسلم: كتاب الصلاة، باب: النهي عن رفع البصر إلى السماء في الصلاة رقم4 له 42) ، ابن ماجه: كتاب أقامة الصلاة، باب: الخشوع في الصلاة رقم (1045)

(4/135)


قوله: " يَشْخصُون أبصارهم " من شخص بصرَه فهو شاخص إذا فتح عَيْنيْه وجعل لا يطرف، وهو بفتح العين، وشخُص- بالضم- فهو شخيص أي: جسيم، وهذه الجملة في محل الرفع لأنها وقعت صفةً للرجال.
قوله: " أو لا يرجع إليهم أبصارُهم " والمعنى: إن لم ينتهوا، وأحد الأمرين واقع: إما الانتهاء، أو عدم رجوع أبصارهم إليهم، وفيه النهي الأكيد، والوعيد الشديد، وقد نقل الإجماع في النهي عن ذلك. وقال القاضي عياض: واختلفوا في كراهة رفع البصر إلى السماء في الدعاء في غير الصلاة، فكرهه شريح وآخرون، وجوزه الأكثرون، قالوا: لأن السماء قبلة الدعاء كما أن الكعبة قبلة الصلاة، فلا ينكر رفع الأبصار إليها، كما لا يكره رفع اليد، قال الله تعالى: وَفي السمَاء رزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون " (1) . والحديث: أخرجه مسلم، والَنسائي، َ وَأخرج ابن ماجه طرفا منه.
ص- نا مسدد: نا يحيي، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن أنس بن مالك حدثهم قال: قال رسول الله- عليه السلام-: " ما بَالُ أقوامٍ يَرفَعُونَ أبصارَهم في صلاِتهِم؟ " فاشْتَد قولُه في ذلك فقال: "لينتَهِيَن عن ذلك أو لتُخْطَفَن أبصارُهم " (2) .
ش- أي: ما شأن أقوام؟ وذكر الجوهري "البَالَ " في الأجْوف
الواوي، وقال: البال: الحالُ.
قوله: "فاشتد قولُه في ذلك" أي: قول النبي- عليه السلام- في رفع البصر إلى السماء في الصلاة.
(1) سورة الذاريات: (22)
(2) البخاري كتاب الأذان، باب: رفع البصر إلى السماء في الصلاة (750) ، النسائي: كتاب السهو، باب: النهي عن رفع البصر إلى السماء (3/ 7) ،
ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: الخشوع في الصلاة (1044) .

(4/136)


قوله: " أو لتخطفن " على صيغة المجهول، والمعنى مثل ما ذكرنا إن لم ينتهوا عن ذلك فأحدُ الأمرين واقع. والحديث: أخرجه البخاري، والنسائي، وابن ماجه. وذكر الواحدي في " أسباب النزول " من حديث ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن أبي هريرة، أن فلانا كان إذا صلى رفع بصرَه إلى السماء فنزلت: "الَّذينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشعُونَ " (1) . وروي عن ابن عباس: كان النبيَ- عليه السلام- إذا استفتَح الصلاة لم ينظر إلا إلى موضع سجوده.
وروى أبو بكر قال: نا هشيم، عن ابن عون، عن ابن سيرين قال: كان رسول الله مما يَنظر إلى الشيء في الصلاة، فيرفعِ بصرَه حتى نزلت آية، إنِ لم تكن هذه فلا أدري ما هي "الَّذِين هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُون " قال: فوضع النبي- عليه السلام- رأسه.
ونا هشيم، عن حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله، أنه رأى رجلاً رافعا بصره إلى السماء، فقال عبد الله: ما يدري هذا لعل بصره سيَلتمع قبل أن يرجع إليه.
فإن قيل: إذا غمض عَيْنيه في الصلاة ما حكمه؟ قلت: قال الطحاوي: كرهه أصحابنا. وقال مالك: لا بأس به في الفريضة والنافلة. وقال النووي: والمختار: أنه لا يكره إذا لم يخف ضررا، لأنه يجمع الخشوع، ويمنع مِن إرسال البصر وتفريق الذهن.
890- ص- نا عثمان بن أمر شيبة: نا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: صَلّى رسولُ الله- عليه السلام- في خَميصة لها أعْلام فقال: " شَغَلَتْنِي أعلامُ هذه، اذهبوا بها إلى أَبي جَهْم بنِ حذيفةَ وائتُوني بأنبجَانيّةٍ " (2) .
(1) سورة المؤمنون: (2) .
(2) البخاري: كتاب الأذان، باب: الالتفات في الصلاة (752) ، مسلم: كتاب المساجد، باب: كراهية الصلاة في ثوب له أعلام (61/ 556) ، النسائي:=

(4/137)


ش- " الخميصة": كساء مُرتع من صوف، وقال ابن حبيب في "شرح الموطأ": الخميصة: كساء صوف أو مِرْعِزي مُعْلم الصَنِفة.
قوله: "شغلتني أعلام هذه " يعني: عن كمال الحضور في الصلاة وتدبر أذكارها وتلاوتها ومقاصدها من الانقياد والخضوع، ففيه الحث على الحضور والتدبر، ومنع النظر من الامتداد إلى ما يُشْغِل، وإزالة ما يخاف اشتغال القلب به، وكراهة تزْويق المحراب وحائط المسجد ونقشه، وغير ذلك من الشاغلات؛ لأنه- عليه السلام- جعل العلة في إزالة الخميصة هذا المعنى، وفيه: أن الصلاة تصح وإن حصل فيها فكر، وفيه: صحة الصلاة في ثوب له أعلام، وأن غيره أوْلى.
قوله: " إلى أبي جَهْم" واسمه: عامر بن حذيفة بن غانم القرشي العدوي المدني الصحابي، ويقال: عُبيد بن حذيفة، أسلم عام الفتح، وكان مُعظما في قريش وعالما بالنسب، شهد بنيان الكعبة مَرتين، وهو غير أبي جُهيم بالتصغير. وأما بَعثه- عليه السلام- بالخميصة إلى أبي جهم وطلب أنبجانيه فهو من باب الإدلال عليه، لعلمه بأنه يؤثر هذا [2/26 - ب] ويفرح به./ ويقال: َ إنما خصه بذلك لأنه كان بعث إلى النبي- عليه السلام- خميصة لها أعلام، فلما شغلته في الصلاة قال: ردوها عليه وائتوني بأنبجانية، لئلا يؤثر رَد الهدية في قلبه.
وقال ابن الأثير: اختلفوا في هذه الخميصة؛ فمنهم من قال: إن رسول الله- عليه السلام- أتِي بخميصتَيْن سوداوَيْن فلبس إحديهما وبعث بالأخرى إلى أبي جَهْم، فلما ألهتَه بعثها إلى أبي جَهْم، وطلب التي كانت عند أبي جهْم بعد أن لبسها لبْساتِ.
قوله: " وائتوني بأنبجانية" قال القاضي عياض: رويناه بفتح الهمزة وكسرها، وبفتح الباء وكسْرها في غيرْ مسلم بالوجهين ذكرها ثعلب،
__________
= كتاب القبْلة، باب: الرخصة في الصلاة في خميصة لها أعلام (770) ، ابن ماجه: ككتاب اللباس، باب: لباس رسول الله- عليه السلام- (3550) .

(4/138)


قال: ورويناه بتشديد الياء في آخره وبتخفيفها معا في غير مسلم؛ إذ هو في رواية مسلم: "بأنبجانية" مشدد مكسور على الإضافة إلى أبي جهم، وعلى التذكير كما قال في الرواية الأخرى كساء له أنبجانيا. وفي "مختصر السنن": الأنبجانية- بفتح الهمزة، وسكون النون، وكسر الباء الموحدة، وبعد الألف نون مكسورة، وياء آخر الحروف مشددة، وتاء تأنيث-: هو ما كثُف والتف، وقيل: إذا كان الكساء ذا علَمين فهو الخميصة، وإن لم يكن له علم فهو الأنبجانية، وقيل: هو منسوب إلى "منبِج " المدينة المشهورة؛ وهي بكسر الباء كما قالوا في النسبة إلى سلمة: سلمي وغير ذلك.
وقال في " الصحاح": إذا نسبت إلى " منبج" فتحت الباء، قلت: كساء منبجاني، أخرجوه مخرج مخبراني ومنظراني، قلت: يكون منسوبا على غير قياس، وقيل: نسبة إلى موضع يُقال له: أنبجان، وقال ثعلب: يقال: كبش أنبجاني- بكسر الباء وفتحها- إذا كان ملتفا كثير الصوف، وكساء أنبجاني كذلك. قال ابن القصار في "تعريب المدارك": من زعم أنه منسوب إلى منبج فقد وهم.
وفي " شرح الموطأ": هي كساء غليظ يُشبه الشملة، يكون سداه: قطنا غليظا، أو كتانا غليظا، ولحمته: صوف ليس بالمُبرم في فتله لين غليظ، يلتحف بها في الفراش، وقد يُشتمل بها في شدة البرد.
وفي كتاب " المغيث": المحفوظ: كسر باء الإنبجانية. وعند السفاقسي: رأيت هذا الحرف في بعض الكتب بالخاء المعجمة، قال: وسماعي بالجيم. وقال الأصمعي: هو كساء من صوف أو خز مُعلم بسُودٍ. وقال غيرُه: كساء رقيق أصفر أو أحمر أو أسود، ويجمع على خمائص؛ وسُميت خميصة للينها ورقتها وصغر حجمها إذا طُوِيت. والحديث: أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي، وابن ماجه، ومالك في " الموطأ"، والطحاوي- أيضا- بسند صحيح، عن المزني، عن الشافعي: حدثنا مالك، عن القمة بن أبي القمة، عن أمه، عن

(4/139)


عائشة قالت: أهدى أبو جَهْم إلى النبي- عليه السلام- خميصة شامية لها علَم يشهد فيها النبي- عليه السلام- الصلاة، فلما انصرف قال: "ردي هذه الخميصة إلى أبي جَهْم، فإنها كانت تَفْتِنُني ".
891- ص- نا عبيد الله بن معاذ: نا أبي: نا عبد الرحمن- يعني: ابن أبي الزناد- قال: سمعتُ هشاما يُحدثُ عن أبيه، عن عائشةَ- رضي الله عنها- بهذا الخبرِ قالَ: وأخذَ كَرْدي (1) كان لأبي جهْمِ، فقيل: يا رسولَ الله، الخَمِيصَةُ كانتْ خيرا مِنَ الكَردي (2) .
ش- هشام: ابن عروة بن الزبير.
قوله: " بهذا الخبر": أي: الخبر المذكور.
قوله: " وأخذ كردكن " على صيغة المجهول، وفي بعض الرواية وهي الصحيحة: "وَأخذ كرديا" أي: أخذ رسول الله كرديا كان لأبي جهم، والكَردي- بفتح الكاف- كساء ساذج ليس لها أعْلام ولا حَرِير.
قوله: "فقيل: يا رسول الله، الخميصة كانت خيراً من الكردي " يعني: من حيث النفاسة والقماش، ألا ترى أن هذه الخميصة كانت لها أعلام من حرير، ولأجل هذا قال بعضهم: إنما كرهها لما فيها من الحرير.
فإن قيل: كيف يَبْعث- عليه السلام- إلى غيره بشيء يكرهُه؟ قلت: هذا كما أرْسل إلى عمر- رضي الله عنه- بالحلة ليبيعها، وينتفع بها، لا ليَلْبسها.
* * *
159- بَابُ: الرخصَةِ في ذلك
أي: هذا باب في بيان الرخصة في النظر والالتفات لضرورة.
892- ص- نا الربيع بن نافع: نا معاوية (3) - يعني: ابن سلام-، عن [2/27 -أ] زيد أنه سمع أبا سلام قال:/ حدثنا السلُولي، عن سَهْل ابن الحنظلية قال:
__________
(1) في سنن أبي داود: "وأخَذَ كرديا "، وسيشير المصنف إلى أنها نسخة.
(2) تفرد به أبو داود.
(3) في الأصل: "أبو معاوية " خطأ.

(4/140)


ثُوّب بالصلاة- يعني: صَلاةَ الصُبحِ- فجعلَ رسولُ الله يُصلّي وهو يَلتَفتُ إلى الشّعْبِ (1) .
ش- زيد: ابن سلام بن أبي سلام الحبشي الدمشقي وقع. إلى اليمامة، أخو مُعاوية، روى عن: جده: أبي سلام ممطور الحبشي، وعبد الله بن زيد الأزرق، وعدي بن أرطاة. روى عنه: أخوه: معاوية، ويحيي بن أبي كثير. قال الدارقطني: زيد بن سلام، عن جده ثقتان. وقال يعقوب بن شيْبة: ثقة صدوق. روى له: الجماعة إلا البخاريّ (2) . وأبو سلام: ممطور بن الأعرج الباهلي الحبشي- نُسِب إلى حيّ من حمْير من اليمن لا إلى الحبشة- الدمشقيّ. روى عن: عليّ بن أبي طالب، وثوبان مولى النبي- عليه السلام-، وأبي سلمه راعي النبي- عليه السلام-، وغيرهم. روى عنه: ابنا ابنه: معاوية وزيد ابنا سلام، ومكحول، والأوزاعي، وغيرهم. قال أحمد بن عبد الله: تابعي ثقة. وقال البرقاني: زيد وجده ثقتان. روى له: الجماعة إلا البخاري (3) .
والسَّلُولي: أبو كبيشة، روى عن: عبد الله بن عَمْرو، وسهل ابن الحنظلية، وثوبان مَوْلى رسول الله. روى عنه: أبو سلام المذكور، وحسان بن عطية. وقال أحمد بن عبد الله: تابعيّ شامي ثقة. وقال عبد الغني بن سعيد في " الأوهام " التي أخذها على الحاكم أبي عبد الله: قال: قال أبو كبشة السَّلُولي: اسمه: البراء بن قيس؛ وهذا وهم؛ لأن أبا كبوة السلولي يُعد في الشاميين، وهو من هوازن، وهوازن ترجع إلى مضر، والبراء بن قيس كوفي من السكون، والسكون من اليمن، والبراء ابن قيس يكنى أبا كيسة مثلها في الخط إلا أنه بالياء باثنتين من تحتها والسين المهملة. روى له: البخاريّ، وأبو داود، والترمذي (4) .
__________
(1) تفرد به أبو داود.
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (10/ 2111) .
(3) المصدر السابق (28/ 172 6) .
(4) المصدر السابق (34/ 7583) .

(4/141)


وسهل: ابن الربيع بن عَمرو بن عدي بن زيد بن جشم بن حارثة، وهو سهل ابن الحنظلية؛ وهي أمه، شهد بَيْعة الرضوان مع رسول الله - عليه السلام-، وروى عن النبي- عليه السلام-، وكان متعبدا متوحدا لا يُخالط الناس، سكن دمشق وكانت داره بها في حَجَرِ الذهب. روى عنه: أبو كبشة السلولي، وقَيْس بن بشر التغلبي، والقاسم بن عبد الرحمن. مات بدمشق في أول خلافة معاوية، ولا عقب له. روى له: أبو داود، والنسائي (1) .
قوله: " ثُوب بالصلاة " أي: أقيم لها.
قوله: " وهو يَلتفتُ " جملة حالية.
قوله: لا إلى الشِّعْب،- بكسر الشين المعجمة، وسكون العين المهملة- وهي الطريق في الجبل، وجمعها: شِعاب. وبهذا قالت العلماء: إذا التفت المصلي في صلاته لأجل ضرورة أو حاجة شديدة، لا بأس به، ولا يضر ذلك صلاته، وبغير الضرورة يكره- لما قلنا- ولو نظر بمؤخر عيْنه يمنةً أو يسرةً من غير أن يَلْوي عنقه لا يكره؛ " (2) لما روى الترمذي، والنسائي بإسنادهما إلى ابن عباس قال: " كان رسول الله يلحظ في الصلاة يمينا وشمالا، ولا يَلْوي عنقه خلف ظهره ". قال الترمذي: حديث غريب. ورواه ابن حبان في 9 صحيحه " في النوع الأول من القسم الرابع مرفوعا، والحاكم في "المستدرك " (3) وقال: صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه. ورواه الدارقطني في " سننه ".
وقال ابن القطان في كتابه: هذا حديث صحيح؛ دان كان غريبا. وروى البزار في "مُسنده" بإسناده إلى ابن عباس أن النبي- عليه السلام- كان إذا صلى يُلاحظ أصحابه في الصلاة يمينا وشمالا ولا يلتفت. ورواه
__________
(1) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (2/ 95) ، وأسد الغابة (3/ 469) ، والإصابة (2/ 86) .
(2) انظر: نصب الراية (2/ 89- 90)
(3) (1/ 226، 256) .

(4/142)


ابن عدي في "الكامل ". وقال أبو بكر بن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع، عن عبد الله بن سعيد، عن رجل من أصحاب عكرمة أن رسول الله كان يلحظ في الصلاة من غير أن يثني عنقه.
قلت: فيه مجهول وانقطاع.
وحدَّثنا هشيم قال: نا خالد، عن أنس بن سيرين قال: رأيتَ أنسَ ابن مالك يَتشرفُ إلى الشيء، يَنظرُ إليه في الصلاة.
وحدَّثنا وكيع، عن الوليد بن عبد الله بن جميع قال: رأيتُ إبراهيم يَلحظُ يمينا وشمالا.
ص- قال أبو داود: يعني: وكان أرسلَ فارسا إلى الشعْبِ مِن الليلِ يحرس.
ش- أي: كان رسولُ الله- عليه السلام- أرْسلَ فارسا إلى الشعْب من الليْل يَحْرسُ [....] ، (1) /.
* * *
160- بَابُ: العَمَل فِي الصَّلاة
أي: هذا باب في بيان حكم العمل في الصلاة.
893- ص- نا القعنبي: نا مالك، عن عامر بن عبد الله بن الزبَير، عن عَمرِو بن سُليم، عن أبي قتادةَ أن رسولَ الله كان يُصلي وهو حَامل أمَامةَ بنت زينبَ ابنةَ (2) رسولِ الله، فهذا سجَدَ وضًعَها وافق قَامَ حَملَها (3) . ش- أبو قتاده: الحارث بن رِبْعي، وقد ذكرناه. وأمامه- بضم
__________
(1) بيض له المصنف قدر ثلاثة أرباع سطر.
(2) في سنن أبي داود: "بنت".
(3) البخاري: كتاب الصلاة، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة (516) ، مسلم: كتاب المساجد، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة (543) ، النسائي: كتاب السهو، باب: حمل الصبايا في الصلاة ووضعهن في الصلاة (3/ 10) .

(4/143)


الهمزة- بنت زيْنب- رضي الله عنها-، وكانت زينب أكبر بنات رسول الله- عليه السلام-، وكانت فاطمة أصغرَهن وأحبهنّ إلى رسول الله- عليه السلام-، وكان أولاد النبي- عليه السلام- كلها من خديجة سوى إبراهيم، فإنه من مارية القبطية، وتزوج النبي- عليه السلام- خديجة بنت خويلد بن أسد بن عَبد العزى بن قصَيّ بن كلاب القرشية قبل البعثة. وقال الزهري: وكان عمر رسول الله- عليه السلام- يومئذ إحدى وعشرين سنة، وقيل: خمسا وعشرين سنة زمان بُنيت الكعبة، قاله الواقدي، وزاد: ولها من العمر خمس وأربعون سنة، وقيل: كان عمره- عليه السلام- ثلاثين سنة وعمرها أربعين سنةً، وقال ابن جريج: كان- عليه السلام- ابن سبع وثلاثين سنة، فولدت له القاسمِ- وبه كان يكنى- والطاهر- وزينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة، وتزوج بزينب أبو العاص بن الربيع فولدَت منه عليا وأمامة، وهي التي كان رسول الله يحملها في الصلاة، ولعل ذلك كان بعد موت أمها سنة ثمان من الهجرة على ما ذكره الواقدي وقتادة، وكأنها كانت طفلا صغيرةً، وقد تزوجها علي بن أبي طالب بعد موت فاطمة، فولدت منه محمداً، وكانت وفاة زينب في سنة ثمان، قاله الواقدي، وقال قلادة عن ابن حزم: في أول سنة ثمان.
قوله: " وهو حامل " جملة اسمية وقعت حالا من الضمير الذي في "يُصلي "، ثم تكلم الناسُ في حكم هذا الحديث، فقال الشيخ محيي الدين (1) : هذا يدل لمذهب الشافعي ومن وافقه أنه يجوز حمل الصبي والصبيّة وغيرهما من الحيوان في صلاة الفرض وصلاة النفل، ويجوز ذلك للإمام والمأموم والمنفرد.
قلت: أما مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة فقد قال صاحب "البدائع" في بيان العمل الكثير الذي يفسد الصلاة والقليل الذي لا يفسد: فالكثير
__________
(1) شرح صحيح مسلم (32/5) .

(4/144)


ما يحتاج فيه إلى استعمال اليدين، والقليل ما لا يحتاج فيه إلى ذلك،
حتى قالوا: إذا زَرّر قميصه في الصلاة فسدت صلاته، وإذا حل إزراره لا
تفسد، وقال بعضهم: كلُّ عمل لو نظر إليه الناظرُ من بعيد لا يَشك أنه
في غير الصلاة فهو كثير، وكل عمل لو نظر إليه الناظرُ بما يَشتبه عليه أنه
في الصلاة فهو قليل، وهذا أصح، وعلى هذا الأصل يخرجُ ما إذا قاتل
في صلاته في غير حالة الخوف أنه تفسدُ صلاته؛ لأنه عمل كثير ليس من
أعمال الصلاة، وكذا إذا أخذ قوساً ورمى فسدت صلاته، وكذا لو دَهَن
أو سرح رأسه، أو حملت امرأة صبيها فأرضعته لوجود العمل الكثير على العبارتين، فأما حملُ الصبي بدون الإرضاع فلا يُوجب الفساد؛ لما روي
أن النبي- عليه السلام- كان يُصلي في بيْته وقد حمل أمامة بنت
أبي العاص على عاتقه، فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها، ثم
هذا الصنيع لم يكره منه- عليه السلام- لأنه كان محتاجا إلى ذلك لعدم
من يحفظها، أو لبيانه الشرع بالفعل، وهذا غيرُ موجب فسادَ الصلاةِ،
ومثل هذا- أيضا- في رماننا لا يكره لواحد منا لوً فعل ذلك عند
الحاجة، أما بدون الحاجة فمكروه. انتهى.
وذكر أشهب عن مالك أن ذلك كان من رسول الله- عليه السلام- في
صلاة النافلة، وأن مثل هذا الفعل غير جائز في الفريضة. قال أبو عُمر:
حَسْبك بتفسير مالك، ومن الدليل على صحة ما قاله في ذلك أني لا أعلم
خلافا أن مثل هذا العمل في الصلاة مكروه.
وقال الشيخ محيي الدين (1) : هذا التأويل فاسد؛ لأن قوله: "يؤم
الناسَ" صريح أو كالصريح في أنه كان في الفريضة.
قلت: هو ما رواه سفيان بن عيينة يُسنِدهُ إلى أبي قلادة الأنصاري قال:
رأيت النبي- عليه السلام- يؤم الناسَ/ وأمامة بنت أبي العاص وهي [2/28 - أ]
__________
(1) المصدر السابق.
10- شرح سنن أبي داوود 4

(4/145)


بنت زينب ابنة رسول الله- عليه السلام- على عاتقه؛ ولأن الغالب في إمامة رسول الله- عليه السلام- كانت في الفرائض دون النوافل.
وقال الشيخ محيي الدين (1) : وادعى بعض المالكية أنه منسوخ.
وقال الشيخ تقي الدين: وهو مروي عن مالك- أيضا.
وقال أبو عمر: ولعل هذا نسخ بتحريم العمل والاشتغال بالصلاة. وقد رد هذا بأن قوله- عليه السلام-: " إن في الصلاة لشغلا" كان قبل بدر عند قدوم عبد الله بن مسعود من الحبشة، وأن قدوم زينب وابنتها إلى المدينة كان بعد ذلك؛ ولو لم يكن الأمر كذلك لكان فيه إثبات النسخ بمجرد الاجتهاد. وروى أشهب، وابن نافع، عن مالك: أن هذا كان للضرورة. وادعى بعض المالكية أنه خاص بالنبي- عليه السلام-، ذكره القاضي عياض.
وقال الشيخ محيي الدين (2) : وكل هذه الدعاوى باطلة ومردودة؛ فإنه
لا دليل عليها ولا ضرورة إليها؛ بل الحديث صحيح صريح في جواز ذلك وليس فيه ما يخالف قواعد الشرع؛ لأن الآدمي طاهر وما في جوفه من النجاسة معفو عنه لكونه في معدته، وثياب الأطفال وأجسادهم على الطهارة ودلائل الشرع متظاهرة على أن هذه الأفعال في الصلاة لا تبطلها إذا قلت أو تفرقت، وفعل النبي- عليه السلام- هذا بيانا للجواز وتنبيها به عليه.
قلت: وقد قال بعض أهل العلم: إن فاعلاً لو فعل مثل ذلك لم أر عليه إعادة من أجل هذا الحديث، لان كنت لا أُحب لأحد فعله. وقد كان أحمد بن حنبل يُجيز هذا. قال الأثرم: سئل أحمدُ: َ أيأخذ الرجلُ ولده وهو يُصلي؟ قال: نعم، واحتج بحديث أبي قتادة.
وقال الخطابي (3) : يُشبه أن يكون هذا الصنيع من رسول الله- عليه السلام- لا عن قصدِ وتعمد له في الصلاة ولعل الصبية لطول ما ألفته واعتادته من ملابسته في غير الصلاة، كانت تتعلق به، حتى تلابسه وهو
__________
(1) المصدر السابق
(2) نفسه.
(3) معالم السنن (1/188) .

(4/146)


في الصلاة فلا يدفعها عن نَفسه ولا يُبْعدها، فإذا أراد أن يَسْجد وهي على عاتقه وضعها بأن يَحُطها أو يُرسلها إلىَ الأرض حتى يَفرغ من سجوده، فإذا أراد القيامَ وقد عادت الصبيةُ إلى مثل الحالة الأولى لم يدافعها ولم يَمْنعها، حتى إذا قام بقيت محمولةً معه. هذا عندي وجه الحديث، ولا يكاد يتوهم عليه- عليه السلام- أنه كان يتعمد لحملها عليه ووضعها وإمساكها في الصلاة تارةً بعد أخرى؛ لأن العمل في ذلك قد يكثر فيتكرّر، والمصلي يشتغل بذلك عن صلاته، ثم ليس في شيء كثر من قضائها وطرا من لعبٍ لا طائل له، ولا فائدة فيه، وإذا كان علم الخميصة يُشْغلهُ عن صلاته حتى يستبدل بها الأنبجانية، فكيف لا يشتغل عنها بما هذا صفته من الأمْر؟ وفي ذلك بيان ما تأولناه، والله أعلم.
وقال الشيخ محيي الدين (1) : بعد أن نقل ملخّص كلام الخطابي:
هذا الذي ذكرناه وهو باطل ودعوى مجردة، ومما يَرُد قولَه في "صحيح مسلم": " فإذا قام حملها"، وقوله: " فإذا رفع من السجود أعادَها "، وقوله في غير رواية مسلم: " خرج علينا حاملاً أمامة فصلّى،، وذكر الحديث. وأما قضية الخميصة: فلأنها تشغل القلب بلا فائدة، وحمل أمامة لا نسلم أنه يُشغلُ القلبَ، وإن شغله فيترتبُ عليه فوائد وبيان قواعد مما ذكرناه وغيره، فاحتمل ذلك الشَّغْل لهذه الفوائد بخلاف الخميصة؛ فالصواب الذي لا معدل عنه: أن الحديث كان لبيان الجواز والتنبيه على هذه الفوائد، فهو جائز لنا وشرع مستمر للمسلمين إلى يوم الدين.
قلت: الصواب مع الشيخ محيي الدين؛ لأن الحديث صحيح، والنسخ والخصوصية والتقييدُ بالفعل وغير ذلك لم يثبت، فوجب العمل به، ولا حاجة إلى تكثير الكلام الذي ليْس تحته طائل ولا منفعة. والحديث: أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي.
894- ص- لا قتيبةُ: لا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد، عن عمرو بن
__________
(1) شرح صحيح مسلم (5/32 - 33) .

(4/147)


سُليم الزرقي سمع أبا قتادةَ يقولُ: بينا نحنُ في المسجد إذ خَرجَ علينا [2/ 28 - ب] ، رسولُ الله يَحملُ أمَامة بنتَ أبي العاصِ بنِ الربيع، وأمُهاَ زينبُ بنتُ/ رسول اللهَ- عليه السلام- وهي صَبية يَحملُها على عاتِقه، فَصلي رسولُ الله
وهي عَلَىَ عَاتقه يَضَعُها إذَا رَكعَ وَيُعيدُها إذا قَامَ حتى قضَى صَلاتَه، يَفْعلُ
ذلك بها (1) .َ
ش- "بينا" أصله "بَيْن " زيدت فيه الألف للإشباع؛ وقد مر الكلام فيه غير مرة.
قوله: " بنت أبي العاص بن الربيع " " (2) هو الصحيح المشهور في كتب أسماء الصحابة وكتب الأنساب وغيرهما، أنه أبو العاص بن الربيع، ورواه كثر رواة "الموطأ" عن مالك فقالوا: ابن ربيعة، وكذا رواه البخاري من رواية مالك. قال القاضي عياض: وقال الأصيلي: هو ابن ربيع بن ربيعة. فنسبه مالك إلى جَدته. قال القاضي: وهذا الذي قاله غير معروف، ونسبُه عند أهل الأخبار والأنساب باتفاقهم: أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف، واسمُ أبي العاص: لقيط، وقيل: هشيم، وقيل: مهشم". وقال الزبير، عن محمد بن الضحاك، عن أبيه: اسمُه: القاسم. وقال أبو عُمر: وا"ثر: لقيط ويُعرفُ بجرْو البطحاء، وربيعة عَمّه، وأم أبي العاص: هالة، وقيل: هنْد بنت خويلد، أخت خديجة- رضي الله عنها- لأبيها وأمها. وفال ابن إسحاق: وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا وأمانةً وتجارةً وكانت خديجة هي التي سألت رسول الله أن يُزوجه بابنتها زينب، وكان لا يخالفها، وذلك قبل الوحي، وكان عليه السلام قد زَوج ابنته رُقية من عُتبة بن أبي لهب، فلما جاءه الوَحيُ قال أبو لهب: اشغلوا محمداً بنفسه، وأمَر ابنه عُتْبة فطلق ابنة رسول الله قبل الدخول، فتزوَجها عثمان
__________
(1) البخاري: كتاب الصلاة، باب: إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة (516) ، مسلم: كتاب المساجد، باب: جواز حمل الصبيان في الصلاة (543) ، النسائي: كتاب المساجد، باب: إدخال الصبيان المساجد (2/ 45) ، وكتاب الإمامة، باب: ما يجوز للإمام من العمل في الصلاة (2/ 95) و (3/ 10) .
(2) انظر: شرح صحيح مسلم (33/5) .

(4/148)


ابن عفان- رضي الله عنه- ومَشوا إلى أبي العاص فقالوا له: فارِقْ صاحبتك ونحنُ نُزوجك بأي امرأة من قريش شئتَ. قال: لا والله، إذا لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأةً من قريش، َ وكان رسول الله يثني عليه في صهْره، وكان رسول الله لا يُحِل بمكة ولا يحرّم مغلوباً على أمره، وكان الإسلام قد فرق بين زينب وبين أبي العاص، فكان لا يقدرُ على أن يُفرق بينهما.
وقال ابن كثير: إنما حرم الله المسلمات على المشركين عام الحديبية سنة ست من الهجرة. انتهى. وكان أبو العاص في غزِوة بدر مع المشركين ووقع في الأسرى. قال ابن هشام: وكان الذي أسره خراش بن الصمة أحد بني حَرَام.
وقال ابن إسحاق، عن عائشة- رضي الله عنها-: لما بعث أهل مكة
في فداء أسْراهم بعثت زيْنب بنت رسول الله في فداء أبي العاص بمالٍ، وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قالت: فلما رآها رسول الله رق لها رقةً شديدةً وقال: " إن رأيتم أن تُطلقوا لها أسيرَها، وترقوا عليها الذي لها فافعلوا، قالوا: نعم يا رسول الله، فأطلقوه، ووفوا عليها الذي لها. قال ابن إسحاق: وقد كان رسول الله قد أخذ عليه أن يخلي سبيل زينب- يعني: أن تهاجر إلى المدينة- فوفى أبو العاص بذلك. وقال ابن إسحاق: ولما رجع أبو العاص إلى مكة أمَرها باللحوق إلى أبيها فخرجت ولحقت بأبيها - عليه السلام-، وأقام أبو العاص بمكة على كفره، واستمرت زينب عند أبيها بالمدينة، حتى إذا كان قبيل الفتح خرج أبو العاص في تجارة لقريش، فلما قفل من الشام لقيته سرية فأخذوا ما معه وأعجزهم هربا، وجاء تحت الليل إلى زوجته زينب، فاستجار بها فأجارته فلما خرج رسول الله لصلاة الصبح وكبر وكبّر الناسُ خرجت من صُفة النساء: أيها الناسُ، إني قد أجرتُ أبا العاص بن الربيع، فلما سلم رسول الله أقبل على الناس فقال: " أيها الناسُ، هل سمعتم الذي سمعتُ؟ " قالوا: نعم، قال: "أما والذي نفس محمد بيده ما علمت بشيء حتى سمعتُ ما سمعتم، وإنه يجيرُ على المسلمين أدناهم "، ثم انصرف رسول الله

(4/149)


فدخل على ابنته زينب، فقال: " أيْ بُنية، أكرمي مثواه ولا يخلصُ إليك؛ فإنك لا تحلين له" قال: وبعث رسول الله فحثهم على رد ما كان معه، فردوه بأسْره لا يفقد منه شيئا، فأخذه أبو العاص ورجع به إلى مكة، فأعطى كل إنسان ماله ثم قال: يا معشر قريش، هل بقي لأحد معكم عندي مال لم يأخذه؟ قالوا: لا، فجزاك الله خيرا/ فقد وجدناك وفيا كريما، قال: فإني أشهد أنْ لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، والله ما منعني عن الإسلام عنده إلا تخوف أن تظنوا أني إنما أردتُ أن آكل أموالكم، فلما أدى الله إليكم، وفرغت منها أسلمتُ، ثم خرج حتى قدم على رسول الله.
قال ابن إسحاق: فحدثني داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ورد عليه رسول الله ابنته زينب على النكاح الأول، لم يُحدث شيئاً وسنذكر حقيقة هذا الكلام في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله: " يضعها إدْا ركع " إلى آخره أي: يَضع أمامة إذا أراد الركوع.
فإن قيل: أليْس هذا بعمل كثير؟ والعمل الكثير يُفسد الصلاة؟ قلت: هذه الأفعال وإن تعددت ولكنها غير متوالية في كل ركن من أركان الصلاة، فلا يضر ذلك، فصار ذلك الفعل منه- عليه السلام- بيانا للتشريع والجوار في حمل الحيوان الطاهر، وأن ثياب الأطفال وأجْسادهم طاهرة حتى تتحقق نجاستها، وأن دخولهم المساجد جائز.
وقال الخطابية (1) : وفي الحديث دلالة على أن لَمْس ذوات المحارم لا ينقض الطهارة؛ وذلك لأنها لا تلابسُه هذه الملابسة إلا وقد تمسكه ببعض أعضائها.
قلت: قال الشيخ تقي الدين: أجيب عنه بأنه يحتمل أن يكون من وراء حائل، وهذا يُستمد من أن حكايات الأحوال لا عموم لها. وقال القرطبي: حكم من لا تُشتَهي منهن بخلاف حكم من تُشتَهى.
__________
(1) معالم السنن (1/188) .

(4/150)


قلت: ويُستفادُ من هذا الحديث فائدة أخرى وهي عظيمة؛ وهي أن حمل الجارية على العُنق إذا لم تضر الصلاة، فمُرورُها بَيْن يدي المُصلي أوْلى وأجدر أن لا تقطعَ صلاته، فافهم.
895- ص- نا محمد بن سلمة المرادي: نا ابن وهب، عن مخرمة،
عن أبيه، عن عمرو بن سُليم الزرقي قال: سمعتُ أبا قتادةَ الأنصاريَّ يَقول رَأيتُ رسولَ الله يُصلي للناس وأمَامةُ بنتُ أي العاص على عُنُقه، فإذا سَجَدَ وَضَعَهَا (1) .ًً
ش- مخرمة: ابن بكير بن عبد الله بن الأشج المخزومي مولاهم
أبو المسور المدني. روى عن: أبيه. روى عنه: مالك بن أنس، وعبد الله بن المبارك، وعبد الله بن وهب، والقعنبي، وغيرهم. وقال أحمد بن صالح: كان مخرمة من ثقات الناس. وقال أحمد: ثقة. وقال عباس (2) ، عن ابن معين: هو ضعيف، وحديثه عن أبيه كتاب. وقال ابن عدي: أرجو أنه لا بأس به. روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه (3) .
وأبوه: بكير بن عبد الله، قد ذكرناه.
قوله: "فإذا سجد" أي: إذا أراد أن يَسْجد وضع أمامة.
ص- قال أبو داود: مخرمةُ لم يَسْمعْ (4) من أبيه ألا حديثا واحدا.
ش- أشار بهذا الكلام إلى أن مخرمة لم يسمع هذا الحديث من أبيه:
بكير بن عبد الله، ويُناقض هلما: ما روي عن مالك: قلتُ لمخرمة: ما حدثتَ عن أبيك سمعتَه منه؟ فحلَف بالله لقد سمعتُه. وما قال أبو حاتم: صالح الحديث إن كان سمع من أبيه، فكل حديث عن أبيه إلا
__________
(1) انظر التخريج المتقدم.
(2) في الأصل: " ابن عباس " خطأ، وأنما هو عباس الدوري.
(3) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (27/ 5829) .
(4) في سنن أبي داود: " لم يسمع مخرمة ".

(4/151)


حديث يُحدثُ به عن عامر بن عبد الله بن الزبير، وما قال مَعْنُ بن
عيسى: مخرمةُ سمع من أبيه.
قلتُ: ومما يؤيدُ كلامَ أبي داود: ما رُوي أن أحمد بن حنبل سئل عنه
فقال: ثقة، ولم يسمع من أبيه شيئا؛ إنما يَرْوي من كتاب أبيه. ومَا قال
ابن أبي خيثمة ويحيي بن معين: وقع إليه كتابُ أبيه ولم يَسْمعْه منه. وما
قال ابن المديني: ولم أجد أحدا بالمدينة يخبرني عن مخرمة، أنه كان
يقول في شيء من حديثه: سمعتُ أبي.
896- ص- نا يحيى بن خلف: نا عبد الأعلى: نا محمد بن إسحاق،
عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن عَمرو بن سُليم الزرقي، عن أبي قتادةَ
صاحب رسول الله- عليه السلام- قال: بينما نحن نَنتظرُ رسول الله للصلاة
في الظهَرِ أو الَعَصرِ وقد دَعاهُ بلال للصلاة إذ خَرجَ إلينا وأمًامةُ بنتُ
أبي العاصِ بنتُ ابنتَهِ على عُنُقه، فَقَامَ رسولُ الله في مُصَلاه وقُمْنَا خَلفَه وهي
في مَكَانهَا الذي هي فيه، قال: فَكَبر فَكَبرنَا قال: حتى إذا أرَادَ رسولُ اللهِ أن
يَرْكَعَ أخذها فوضَعَها، ثم رَكَعَ وسجدَ، حتىِ إذا فَرغَ من سُجُوده ثم قَامَ
أخذها فَرَدها في مَكَانهَا، فما زالَ رسولُ الله يصْنعُ بها ذلك في كُلَّ رَكعةِ
حتى فَرغَ من صَلاِتهِ (1) .
ش- يحيي بن خلف: أبو سلمه الباهلي البصري، يُعرف بالجُوبَاري [2/ 29 - ب] روى عن: معتمر بن سليمان، وبشر بن المفضل، وعبد الأعلى بن عبد الأعلى السامي، وغيرهم. روى عنه: مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجه، وغيرهم. مات بالبصرة سنة اثنتين وأربعين ومائتين (2) .
قوله: "في الظهر أو العَصْر" صريح أنه- عليه السلام- صلى الفرض
وهو حامل أمامة؟ وهذا يرد قول من يقول: إنه كان في النفل، وقد
ذكرناه.
__________
(1) انظر الحديث السابق.
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (31/ 6819) .

(4/152)


قوله: "على عنقه" وفي رواية: "على عاتقه"، وقد مر الكلام فيه مستوفى.
897- ص- نا مسلم بن إبراهيم: نا علي بن المبارك: نا يحيي بن أبي كثير، عن ضمضم بن جَوْسٍ، عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ [اللهِ]- عليه السلام-: "اقْتُلُوا الأسْودينِ في الصلاةِ: الحَيةَ، والعَقْربَ " (1) . ش- علي بن المبارك: الهنائي البصري.
وضمضم بن جَوْس: الهِفاني اليماني. سمع: أبا هريرة، وعبد الله ابن حنظلة بن الراهب. روى عنه: يحيي بن أبي كثير، وعكرمة بن عمار اليمانيان. قال ابن معين: هو ثقة. وقال أحمد: ليس به بأس. روى له: أبو داود، والنسائي، وابن ماجه، والترمذي (2) .
قوله: "اقتلوا الأسْودين، الأسود: أخبث الحيات وأعظمها، وهي من الصفة الغالبة حتى استعمل استعمال الأسماء، وجُمع جمعها، فيُقال: أسَاودُ، ولو استُعمل استعمالَ الصفة لقيل: سُود، ويُقال: أسَود سالخ غيرُ مضاف لأنه ينسلخُ جلده كل عامَ، والأنثى: أسْوَدة ولا تُوصَفُ بسَالخة، وإطلاق الأسود على العقرب- أيضا من باب التغليب كالعُمرَيْن والقمرين ونحوهما. وبهذا اتخذ علماؤنا أن المصلي إذا قتل الحية والعقرب لا بأس به؛ لأن فيه إزالة الشغْل، فأشْبه درْء المال، وقد قيل: هذا إذا قتله بضربة، والأظهر أن الضرب والضربات سواء؛ لأن القليل والكثير فيما ثبت رخصةَ سواء كالمشي بعد الحدث والاستقاء من البئر والتوضؤ بِه.
وقال الخطابية (3) : وفي معنى الحية والعقرب كل ضرار مباح القَتْل، كالزنابير والشبثان ونحوها.
__________
(1) الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاء في قتل الحية والعقرب (390) ، النسائي: كتاب السهو، باب: قتل الحية والعقرب في الصلاة (1201) ،
ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: ما جاء في قتل الحية والعقرب في الصلاة (1245) .
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (13/ 2941) .
(3) معالم السنن (1/ 189) .

(4/153)


قلت: الشبثان جمع شَبَث، وهي دُوَيبة تكون في الرمْل، كثيرة الأرجل، من أحناش الأرض؛ وهو بفتح الشين المعجمة والباء الموحدة، وفي آخره: ثاء مثلثة- والشِبْثان- بكسر الشين. وقال: ورخص عامة أهل العلم في قتل الأسودين في الصلاة، إلا إبراهيم النخعي.
قلت: روى أبو بكر بن أبي شيبة وقال: حدَّثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم أنه سئل عن قتل العقرب في الصلاة فقال: إن في الصلاة لشغلا. قلت: لعل السُّنَّة المتبعة لم تبلغه فلذلك منع من ذلك. والحديث: أخرجه الترمذي، والنسائي، وابن ماجه. وقال الترمذي: حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي- عليه السلام-، وغيرهم، وبه يقولُ أحمد، وإسحاق. وكره بعض أهلُ العلم قَتلَ الحية والعقرب في الصلاة. وقال إبراهيم: إن في الصلاة لشُغْلا، والقولُ الأول أصحّ. والحديث: رواه ابن حبان في " صحيحه لما في النوع السبعين من القسم الأول، وفي النوع السبعين من القسم الرابع، وأحمد في "مسنده"، والحاكم في " مستدركه". وقال: حديث صحيح ولم يُخرجاه. ورواه أبو بكر بن أبي شيبة في " مصنفه "، وقال: وحدَّثنا معمر، عن برد، عن سليمان بن موسى قال: رأى نبي الله - عليه السلام- رجلا يُصلي جالسا، فقال النبي- عليه السلام-: "لِمَ تُصلي جالسا؟ "، فقال: إن عقربا لسَعَتْني، قال: (فإذا رأى أحدكم عقربا وإن كان في الصلاة، فيأخذ نعله اليُسْرى فليقتلها بها".
حدَّثنا ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار: رأى ابن عمر ريشة وهو يصلي، فحسب أنها عقرب فضرَبها بنعله.
898- ص- نا أحمد بن حنبل، ومُسدّد- وهذا لفظه- قال: نا بشر
- يعني: ابن المفضل- نا بُرْد، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عائشةَ- رضي الله عنها- قالت: كان رسولُ اللهِ- عليه السلام- قال أحمدُ:

(4/154)


يُصليِ وِالبَابُ عليه مُغلَق فجئتُ فاسْتفتَحتُ. قال أحمدُ: فَمشَى ففتَحَ لي، ثم رَجع إلى مُصَلاهُ، وذكر أَن البابَ كان في القِبلةِ (1) .
ش- بُرْد: ابن سنان الشامي أبو العلاء.
قوله: "قال أحمد" أي: أحمد بن حنبل. والحديث: أخرجه النسائي، وفي حديثه: " يُصلي تَطوُّعا". وقد قال الترمذي: " باب ما يجوز من المشي والعمل في صلاة التطوع "، ثم قال: حدثنا أبو سلمة يحيى بن خلف: نا بشْرُ بن المفضل، عن بُرد بن سنان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: جئتُ ورسول الله- عليه السلام- يُصلي في البيْت والباب عليه مغلق، فمشى حتى فتح لي، ثم رجع إلى مكانه، ووصفت الباب في القِبْلة. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. قوله: "ومشى" محمول على أنه مشى أقل من ثلاث خطوات لقُربه من الباب، وفتحه الباب- أيضا- محمول على أنه فتحه بيده الواحدة، وذلك لأن الفتح باليدين عمل كثير، فتفسد به الصلاة. وعن هذا قال أصحابنا: لو غلق المصلي الباب لا تفسد صلاته، ولو فتحه (2) فسدت؛ لأن الفتح يحتاج غالبا إلى المعالجة باليدين بخلاف الغلق، حتى لو فتحه (2) بيده لا تفسد.
/ 161- بَابُ: رَد السَّلام فِي الصلاة
أي: هذا باب في بيان حكم رَد السلام في الصلاة، وفي بعض النسخ: (باب رد السلام) .
899-ص- نا محمد بن عبد الله بن نُمير: نا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: كنا نُسلم على النبي- عليه
__________
(1) أخرجه النسائي: كتاب الافتتاح، باب: المشي أمام القِبلة (3/ 11) .
(2) في الأصل: "فتحها".

(4/155)


السلام- وهو في الصلاة فيَرُدُ علينا، فلما رَجَعْنَا من عند النجاشيِّ سَلَّمنا عليه فلم يرَدَّ علينا وقال: " إن في الصلاةِ لشُغْلاً " (1) .
ش- محمد بن عبد الله بن نُمير: أبُو عبد الرحمن الكوفي الهَمْداني الخارفي، وخارف بَطن من همدان. سمع: أباه، وأبا معاوية، وابن فضيل، وغيرهم. روى عنه: أبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، وابن ماجه، وأبو يعلى الموصلي، وغيرهم. وقال أحمد بن عبد الله: كوفي ثقة. مات سنة أربع وثلاثين ومائتين في شعبان أو رمضان.
وابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان الكوفي (2) .
قوله: "فلما رجعنا من عند النجاشي" ذكر الواقدي أن خروج الصحابة إلى الحبشة كان في رجب سنة خمس، وأن أول من هاجر منهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة، وأنهم انتهوا إلى البَحْر ما بين ماشٍ وراكبٍ، فاستأجروا سفينةً بنصف دينار إلى الحبشة، وهم: عثمان بن عفان، وامرأته: رقية بنت رسول الله، وأبو حذيفة بن عتبة، وامرأته: سهْلة بنت سُهيل، والزبير بن العوام، ومُصْعب بن عمير، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو سلمه بن عبد الأسد، وامرأته: أم سلمي بنت أبي أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة العنزي، وامرأته: ليلى بنت أبي حَثْمَة، وأبو سَبْرة بنُ أبي رُهْم، وحاطب بن عَمرو، وسُهَيْل ابن بَيْضاء، وعبد الله بن مَسْعود. وقال آخرون: بل كانوا اثنين وثمانين رجلاً سوى نسائهم وأبنائهم، ثم بعد ذلك خرج جَعْفر بن أبي طالب ومعه: امرأته: أسماء بنْت عُميْس، وولدت له بها عبد الله بن جَعْفر، وتتابع
__________
(1) البخاري: كتاب التهجد، باب: ما ينهى من الكلام في الصلاة (1199) ، مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من مباحة له (538) ، النسائي: كتاب السهو، باب: الكلام في الصلاة (3/ 19) .
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (25/ 5379) .

(4/156)


المسلمون حتى اجتمعوا بأرض الحبشة. وعد ابن إسحاق من خَرج صحبة جَعْفر فبلغ ثلاثة وثمانين رجلاَ، ثم إن عبد الله بن مسعود تعجل في الرجوع حتى أدرك بدراً وشهدها، وأما جَعْفر: فإنه قدم مع من كان بقي هُناك على رَسُول الله وهو مخيم بخيْبر سنة سبع من الهجرة. وأما النجاشي: فهو اسم كل مَن ملك الحَبشة، كما أن كل من ملك الشام مع الجزيرة مع بلاد الروم يُسمى "قيصر"، وكل من ملك الفُرْس سمي "كسْرى"، وكل من ملك مصْر كافرا سمي" فرعون"، وقد ذكرناه مرةَ. قوله: "إن في الصلاة لشُغْلا " أي: لشغلا للمُصلي، معناه: وظيفته أن يشتغل بصلاته فيتدبر ما يقوله ولا يعرج على غيرها فلا يرد سلاما ولا غيره. واختلف العلماء في هذه المسألة؟ فقالت جماعة: يَرد السَّلام فيها نُطقا؛ منهم: أبو هريرة، وجابر، والحسن، وسَعيد بن المسيب، وقتادة، وإسحاق. وقيل: يرد في نفسه. وقال عطاء، والنخعي، والثوري: يرد بعد السلام من الصلاة. وقال الشافعي، ومالك: يرد إشارةَ ولا يَرد نطقا. وقال أبو حنيفة وأصحابُه: لا يرد لا نطقا ولا إشارةً بكل حال. أما رده بلسانه؛ فلأنه كلام، وأما بيده؛ فلأنه سلام معنَى حتى لو صًافح بنية التسليم تفسد صلاته. والحديث: أخرجه البخاري، ومسلم، والنسائي.
900- ص- نا مُوسى بن إسماعيل: لا أبان: نا عاصم، عن أي وائل، عن عبد الله قال: كُنَّا نُسلم في الصلاة ونَأمُرُ بحاجَتنَا، فقدمتُ على رَسُولِ الله- عليه السلام- وهو يُصلي فسَلمْتُ عليه فلمَ يرد عَلي السلامَ، فأخذني مَا قَدُمَ وحَدُث (1) ، فلما قضَى رسولُ الله الصلاةَ قال: "إن اللهَ تَعالى يُحْدِثُ من أمْرِه ما يَشاءُ، وإن الله قد أحْدَثً (2) أن لا تكَلَمُوا في الصلاةِ" فردَّ عَلَيَّ السلَامَ (3) .
__________
(1) في سنن أبي داود: "وما حدث".
(2) في سنن أبي داود: "قد أحدث من أمره أن لا. . . "
(3) النسائي: كتاب السهو، باب: الكلام في الصلاة (3/ 19) .

(4/157)


ش- أبان: ابن يزيد العطار، وعاصم: ابن بهدلة الأسدي الكوفي، وأبو وائل: شقيق بن سلمة.
قوله: "فأخذني ما قدُم وحَدُث " بضم الدال فيهما. قال ابن الأثير: يعني: همومُه وأفكارُه القديمةُ والحديثةُ، يقال: حدث الشيء بالفتح يحدُث حدوثا، فإذا قرن بقَدُم ضم للازدواج بقَدُم.
قوله: "أن لا تكَلمُوا " أصله: تتكلموا، فحذفت إحدى التائين للتخفيف كما في "نَارا تَلظي" (1) أصله: تتلظى.
ويُستفاد من الحديث مسائل؛ الأولى: عدم جواز رد السلام في الصلاة. الثانية: عدم جواز الكلام فيها أيضا.
الثالثة: ينبغي أن يَرُد السلام بعد الفراغ من الصلاة.
[2/ 30 - ب] ثم استدل/ أصحابنا بهذا الحديث أن من تكلم في صلاته بطلت صلاته سواء كان عامدا أو ساهيا لإطلاق قوله: "وإن الله أحْدث أن لا تكلموا في الصلاة"، وهو حُجة على الشافعي حَيْث قال: لا تفسد في الخطأ والنسيان.
وقال الشيخ محيي الدين (2) : وقالت طائفة منهم الأوزاعي: يجوز الكلام لمصلحة الصلاة؛ لحديث ذي اليدين، وأما الناسي: فلا تبطل صلاته بالكلام القليل عندنا، وبه قال مالك وأحمد والجمهورُ. وقال أبو حنيفة والكوفيون: تبطلُ دليلنا حديث ذي اليدين. فإن كثر كلام الناسي ففيه وجهان مشهوران لأصحابنا أصحهما: تبطل صلاته؛ لأنه نادر. وأما كلام الجاهل إذا كان قريب عهد بالإسلام فهو ككلام الناسي فلا تبطل صلاته بقليله.
وأجابَ بعضُ أصحابنا أن حديث قصة ذي اليدين منسوخ بحديث ابن مسعود وزيد بن أرقم؛ لأن ذا اليدين قُتِلَ يوم بَدرٍ؛ كذا رُوي عن
__________
(1) سورة الليل: (14) .
(2) شرح صحيح مسلم (21/5) .

(4/158)


الزهري، وأن قصته في الصلاة كانت قبل بدر، ولا يمنع من هذا كون أبي هريرة رواه وهو متأخِرُ الإسْلام عن بدر؛ لأن الصحابي قد يَرْوي ما لا يَحضره بأن يَسْمعه من النبي- عليه السلام- أو صحابي آخر.
وقال البيهقي: "باب ما يستدل به على أنه لا يجور أن يكون حديث ابن مسعود في تحريم الكلام ناسخا لحديث أبي هريرة وغيره في كلام الناسي" وذلك تقدم حديث عبد الله وتأخر حديث أبي هريرة وغيره. قال ابن مسعود فيما روينا عنه في تحريم الكلام: "فلما رجعنا من أرض الحبشة، ورجوعه من أرض الحبشة كان قبل هجرة النبي- عليه السلام-، ثم هاجر إلى المدينة وشهد مع النبي- عليه السلام- بدرا، فقصة التسليم كانت قبل الهجرة. والجواب عن هذا: أن أبا عُمر ذكر في "التمهيد " أن الصحيح في حديث ابن مسعود أنه لم يكن الا بالمدينة، وبها نُهي عن الكلام في الصلاة، وقد روي حديث ابن مسعود بما يوافق حديث زيد بن أرقم قال: "كنا نتكلمُ في الصلاة: يكلمُ الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في الصلاة حتى نزلت: "وَقُومُوا لله قانتين " (1) ، فأُمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام "، وهو حديث صحيح صريح في أن تحريم الكلام كان بالمدينة؛ لأن صحبة زيد لرسول الله إنما كانت بالمدينة، وسورة البقرة مدنية، ثم ذكر حديث ابن مسعود من جهة شعبة، ولم يقل: إنه كان حين انصرافه من الحبشة، ثم ذكره من وجه آخر بمعنى حديث زيد سواء؛ ولفظه: "إن الله أحدث أن لا تكلموا الا بذكر الله، وأن تقوموا لله قانتين، ثم ذكر حديثا ثم قال: ففيه وفي حديث ابن مسعود دليل على أن المنع من الكلام كان بعد إباحته. فإن قيل: حديث ابن مسعود في سنده: عاصم ابن بهدلة. قال البيهقي في كتاب "المعرفة": صاحبا الصحيح توقيا روايته لسُوء حفظه. وقال أبو عمر في "لتمهيد ": مَن ذكر في حديث ابن مسعود: "إن الله أحدث أن لا تكلموا في الصلاة " فقد وهم، ولم يقل ذلك غير عاصم، وهو عندهم سيء الحفظ كثير الخطأ. قلت:
__________
(1) سورة البقرة: له 23) .

(4/159)


الحديث رواه ابن حبان في " صحيحه"، والنَّسائي في " سننه" (1) . وقال البيهقي: ورواه جماعة من الأئمة عن عاصم بن أبي النجود، وتداوله الفقهاء إلا أن صاحبي الصحيح يتوقيان روايته لسُوء حفظه؟ فأخرجاه منْ طريق آخر ببَعْض مَعْناه. وقال أبو عمر: وقد رُوي حديث ابن مسعود بما يوافق حديث زيد بن أرقم- كما ذكرناه. وهذا القدر كاف في صحة الاستدلال.
ثم إن حديث عاصم ليس فيه: " فلما رجعنا من أرض الحبشة إلى مكة" بل يحتمل أن يُريد: "فلما رجعنا من أرض الحبشة إلى المدينة" ليتفق حديث ابن مسعود وحديث ابن أرقم. وقد ذكر ابن الجوزي أن ابن مسعود " عاد من الحبشة إلى مكة، رجع في الهجرة الثانية إلى النجاشي، ثم قدم على رسول الله بالمدينة وهو يتجهزُ لبدرٍ. وذكر البيهقي فيما بعد في هذا الباب من كلام الحميدي، أن إتيان ابن مسعود من الحبشة كان قبل بدر، وظاهر هذا يؤيد ما قلناه، وكذا قول صاحب" الكمال" وغيره: هاجر ابن مسعود إلى الحبشة، ثم هاجر إلى المدينة. ولهذا قال الخطابي (2) : إنما نسخ الكلام بعد الهجرة بمدة/ يسيرة، وهذا يدل على اتفاق حديث ابن مسعود وابن أرقم على أن التحريم كان بالمدينة كما تقدم من كلام صاحب "التمهيد".
وقد أخرج النسائي في "سننه" (3) من حديث ابن مسعود قال: كنت آتي النبي- عليه السلام- وهو يُصلي فأسلم عليه فيرد علي، فأتيتُه فسلمت عليه فلم يرد علي، فلما سلم أشار إلى القوم فقال: "إن الله عَز وجَل أحدث في الصلاة أن لا تتكلموا ألا بذكر الله، وما ينبغي لكم، وأن تقوموا لله قانتين". وظاهر قوله: "وأن تقوموا لله قانتين" يدل على
__________
(1) كتاب السهر، باب: الكلام في الصلاة (3/ 19) .
(2) معالم السنن (1/ 203) .
(3) كتاب السهو، باب: الكلام في الصلاة (3/ 19) .

(4/160)


أن ذلك كان بالمدينة بعد نزول قوله تعالى: "وَقُومُوا (1) لله قانتين " مُوافقا لحديث زيد بن أرقم؛ فظهر بهذا كله أن قصة التسليم كَانت بعد الهجرة بخلاف ما ذكره البيْهقي، ثم إنه استدل على ما ذكره بحديث أخرجه عن ابن مسعود قال: بَعثنا رسول الله- عليه السلام- إلى النجاشي ونحن ثمانون رجلاً؛ وفي آخره قال: فجاء ابن مسعود فبادر فشهد بدرا. والجواب: ليس فيه أنه جاء إلى مكة كما زعمه؛ بل ظاهره أنه جاء من الحبشة إلي المدينة؛ لأنه جعل مجيئه وشهوده بدرا قريب هجرته إلى الحبشة بلا تراخ.
ثم خرفي عن مُوسى بن عقبة أنه قال: وممن يذكر أنه قدم على النبي
- عليه السلام- بمكة من مهاجرة أرض الحبشة الأولى، ثم هاجر إلى المدينة، فذكرهم وذكر فيهم ابن مَسْعود قال: وكان ممن شهد بدرا مع رسول الله، وهكذا ذكره سائر أهل المغازي بلا خلافٍ.
والجواب: أما قول ابن عقبة: " قدم على النبي- عليه السلام- بمكة
من مهاجرة الحبشة" أراد به الهجرة الأولى؛ فانه- عليه السلام- كان بمكة حينئذ، ولم يُرد هجرة ابن مسعود الثانية؛ فإنه- عليه السلام- لم يكن بمكة حينئذ. بل بالمدينة فلم يُرد ابن عقبة بقوله: " ثم هاجر إلى المدينة" أنه هاجر إليها من مكة؛ بل من الحبشة في المرة الثانية.
وأما قول البيهقي: " وهكذا ذكره سائر أهل المغازي" إن أراد به شهود
ابن مسعود بدرا فهو مسلم؛ ولكن لا يثبت به ما ادعاه أولا وإن أراد به
ما فهمه من كلام ابن عقبة أن رجوعه في المرة الثانية كان إلى مكة، وأنه هاجر منها إلى المدينة، ليستدل بذلك على أن تحريم الكلام كان بمكة، يُقال له: كلام ابن عقبة يدل على خلاف ذلك- كما قررناه- ولئن أراد ابن عقبة ذلك فليس هو مما اتفق عليه أهل المغازي كما تقدّم عن ابن الجوزي وغيره.
__________
(1) في الأصل: "فقوموا ".
11* شرح سنن أبي داود 4

(4/161)


فإن قيل: فقد ذكر في كتاب "المعرفة " عن الشافعي أن في حديث ابن
مسعود، أنه مر على النبي- عليه السلام- بمكة، قال: فوجدته يُصلي
في فناء الكعبة، الحديث. قلنا: لم يذكر ذلك أحد من أهل الحديث غير الشافعي، ولم يذكر سنده ليُنظر فيه، ولم يجد له البيهقي سندا مع كثرة
تتبعه وانتصاره لمذهب الشافعي.
وذكر الطحاوي في "أحكام القرآن " أن مهاجرة الحبشة لم يرجعوا إلا
إلى المدينة، وأنكر رجوعهم إلى دار قد هاجروا منها؛ لأنهم منعوا من
ذلك، واستدل على ذلك بقوله- عليه السلام- في حديث سَعْد: " ولا
تردهم على أعقابهم ".
ثم ذكر البيهقي عن الحميدي أنه حَمَل حديث ابن مسعود على العَمْد
وإن كان ظاهره يَتناولُ العمد والنسيان، واستدل على ذلك فقال: كان
إتيان ابن مسعود من أرض الحبشة قبل بدر ثم شهد بدرا بعد هذا القول،
فلما وجدنا إسلام أبي هريرة والنبي- عًليه السلام- بخيبر قبل وفاته
بثلاث سنين، وقد حضر صلاة رسول الله، وقولَ ذي اليدين، ووجدنا
عمران بن حصين شهد صلاة رسول الله مَرةً أخرى، وقولَ الخرباق،
وكان إسلام عمران بعد بدرٍ، ووجدنا معاوية بن حُدَيج حضَر صلاةَ
رسول الله، وقولَ طلحة بن عبيد الله، وكان إسلامِ معاوية قبل وفاة
النبي- عليه السلام- بشهرين، ووجدنا ابن عباس يُصوبُ ابن الزبير في
ذلك، ويذكر أنها سُنَة رسول الله، وكان ابن عباس ابن عشر سنين حين [2/31 - ب] قبض النبي- عليه السلام-،/ ووجدنا ابن عمر روى ذلك، وكان أجازه (1) النبي- عليه السلام- ابنَ عمر يوم الخندق بعد بدر، علمنا أن
حديث ابن مسعود خُص به العمدُ دون النسيان، ولو كان ذاك الحديث في
النسيان والعمد يومئذ لكانت صلاة رسول الله هذه ناسخةً له لا بعده.
والجواب: أنه ليس للحميدي دليل على أن ابن مسعود شهد بدرا بعد
__________
(1) كذا.

(4/162)


هذا القول، وعلى تقدير صحة ذلك نَقول: هذا القول كان بالمدينة قبل بدر، وقضية ذي اليدين- أيضا- كانت قبل بدر؛ لكن قضية ذي اليدين كانت متقدمة على حديث ابن مسعود وابن أرقم، فنسخت بهما؛ يدل على ذلك: ما رواه البيهقي في آخر " باب من قال: يسجدهما قبل السلام في الزيادة والنقصان " بسند جيد من حديث معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة وأبي بكر بن سليمان، عن أبي هريرة، فذكر صلاة النبي - عليه السلام- وسَهوَه، ثم قال الزهري: وكان ذلك قبل بدر ثم استحكمت الأمور بعدُ، فهذا يدل على أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة لتأخر إسلامه عن هذا الوقت، وأيضا- فإن ذا اليدين قُتِل ببدرٍ. وروى الطحاوي عن ابن عمر قال: كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين.
وذكر ذلك ابن عبد البر، وابن بطال، وذكر عن ابن وهب أنه قال:
إنما كان حديث ذي اليدين في بَدء الإسلام، ولا أرى لأحد أن يَفْعله اليوم، وقولُ أبي هريرة: صلى بنا رسول الله- يعني: بالمسلمين- وهذا جائز في اللغة. روى عن النزال بن سَبرة قال: قال لنا رسول الله: " أنا وإياكم كنا ندعى بني عبد مناف" الحديث. والنزالُ لم يرَ رسول الله، وإنما أراد بذلك: قال لقومنا. وروى طاوس قال: قدم علينا معاذ بن جبل فلم يأخذ من الخضروات شيئا، وإنما أراد: قدم بلدنا؛ لأن معاذا إنما قدم في عهد رسول الله قبل أن يُولد طاوس، ذكر ذلك الطحاوي، ومثله هذا ذكره البيهقي في " باب البيان أن هذا النهي مخصوص ببعض الأمكنة " (1) عن مجاهد قال: جاءنا أبو ذر إلى آخره، ثم قال البيهقي: مجاهد لا يثبت له سماع من أبي ذر؛ وقوله: " جاءنا " يعني: جاء بلدنا.
قال الطحاوي: ومما يدل على أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة:
__________
(1) السنن الكبرى: كتاب الصلاة (2/ 461) .

(4/163)


أن أبا سعيد الخدري روي عنه أنه قال: كنا نرد السلامَ في الصلاة حتى نُهينا عن ذلك، فأخبر أنه أدرك إباحة الكلام في الصلاة؛ وهو في السن دون ابن أرقم بدهر طويل.
فإن قيل: قد ورد في بعض روايات مسلم في قصة ذي اليدين أن
أبا هريرة قال: "بينما أنا أصلي مع النبي- عليه السلام- "، وهذا تصريح منه أنه حضر تلك الصلاة، فانتفى بذلك تأويل الطحاوي. قلنا: يحتملُ أن بعض رواة هذا الحديث فهم من قول أبي هريرة: (صلى بنا) أنه كان حاضرا، فروى الحديث بالمعنى على زعمه قال: "بينما أنا أصلي" هذا لان كان فيه بعد إلا أنه يُقر به ما ذكرنا من الدليل على أن ذلك كان قبل بدر، ويدل عليه- أيضا- أن في حديث أبي هريرة: "ثم قام إلى خشبة في مقدم المسجد فوضع يديه عليها" وفي حديث عمران بن حصين: "ثم دخل منزله"، ولا يجوز لأحد اليوم أن ينصرف عن القِبلة ويمشي، وقد بَقي عليه شيء من صلاته، فلا يخرجه ذلك عنها.
فإن قيل: فعل ذلك وهو لا يرى أنه في الصلاة. قلنا: فيلزمُ على هذا: أنه لو كل أو شرب أو باع أو اشترى وهو لا يرى أنه في الصلاة، أنه لا يخرجه ذلك منها، وأيضا فقد أخبر النبي- عليه السلام- ذو اليدين، وخبر الواحد يجب العمل به، ومع ذلك تكلم- عليه السلام- وتكلم الناسُ معه مع إمكان الإيماء، فدل على أن ذلك كان والكلام في الصلاة مُباح ثم نسخ كما تقدم.
فإن قيل: قد جاء في رواية حماد بن زيد: "أنهم أومأوا". قلنا: قد اختلف على حماد في هذه اللفظة؛ قال البيهقي في كتاب (المعرفة) : هذه اللفظة ليست في رواية مسلم، عن أبي الربيع، عن حماد؛ وإنما هي في رواية أبي داود، عن محمد بن عُبيد. وروى/ الطحاوي أن عمر - رضي الله عنه- كان مع النبي- عليه السلام- يوم ذي اليدين، ثم حدثت به تلك الحادثة بعد النبي- عليه السلام-، فعمل فيها بخلاف ما عمل- عليه السلام- يومئذ، ولم ينكر عليه أحد ممن حضر فعله من

(4/164)


الصحابة، وذلك لا يصح أن يكون منه ومنهم إلا بعد وقوفهم على نسخ
ما كان منه- عليه السلام- يوم ذي اليدين، ويدل على ذلك- أيضا- أن الأمة أجمعت على أن السنة من الإمام إذا نابه شيء في صلاته أن يسبح به، ولم يُسبح ذو اليدين برسول الله، ولا أنكره- عليه السلام- عليه، فدل على أن ما أمر به- عليه السلام- من التسبيح للنائبة في الصلاة متأخر عما كان في حديث ذي اليدين.
فإن قيل: قد سجد النبي- عليه السلام- سجدتي السهو في حديث
ذي اليدين، ولو كان الكلام حينئذ مباحا كما قلتم لما سجدهما. قلنا:
لم تتفق الرواةُ على أنه- عليه السلام- سجدهما؛ بل اختلفوا في ذلك. قال البيهقي: لم يحفظهما الزهري لا عن أبي سلمة، ولا عن جماعة حدثوه بهذه القصة عن أبي هريرة. وخرج الطحاوي، عن الزهري قال: سألت أهل العلم بالمدينة فما أخبرني أحد منهم أنه صلاها- يعني: سجدتي السهو- يوم ذي اليدين؛ فإن ثبت أنه لم يسجدهما فلا إشكال، وإن ثبت أنه سجدهما نقول: الكلام في الصلاة- "أن كان مباحا حينئذ- لكن الخروج منها بالتسليم قبل تمامها لم يكن مباحا، فلما فعل- عليه السلام- ذلك ساهيا كان عليه السجود لذلك.
وقال الشيخ علاء الدين المارديني في "الجوهر النقي في الرد على البيهقي": ثم إني نظرتُ فيما بأيدينا من كتب الحديث، فلم أجد في شيء منها أن عمران بن الحصين حضر تلك الصلاة، ولم يذكر البيهقي ذلك مع كثرة سَوْقه للطُرق؛ بل في كتاب النسائي، عن عمران أنه- عليه السلام- صلي بهم وسهى، فسجد ثم سلم، وكذا في "صحيح مسلم " وغيره بمعناه؛ والأظهر: أن ذلك مختصر من حديث ذي اليدين؛ فظاهر قوله: مصلى بهم " أنه لم يحضر تلك الصلاة، وإذا حُمل حديث أبي هريرة على الإرْسال بما ذكرنا من الأدلة، فَحمْلُ حديث عمران على ذلك أوْلى، وحديث مُعاوية بن حُدَيْج رواه عنه سُويدُ بن قَيْس المِصْري التُجِيبي. قال الذهبي في كتابه " الميزان" و "الضعفاء": مجهول

(4/165)


تفرد عنه: يزيد بن أبي حبيب. وفي حديث معاوية هذا مخالفة لحديث
ذي اليدين من وجوه تظهر لمن ينظر فيه، وفيه: أنه- عليه السلام- أمر
بلالا فأقام الصلاة، ثم أتم تلك الركعة، وأجمعوا على العمل بخلاف
ذلك، وقالوا: إن فعلَ الإقامة ونحوها يقطع الصلاة، وتَصويبُ ابن
عباس لابن الزبير في ذَلك ذكره البيهقي من طريقي، في أحدهما: حماد
ابن سلمي، عن عسل بن سفيان، وقال في " باب منْ مر بحائط إنسان":
ليس بالقوي، وعسْل: ضعفه ابن معين وأبو حاتم والبخاري وغيرهم.
وفي الطريق الثانيَ: الحارث بن عُبيد أبو قدامة. قال النسائي: ليس
بالقوي. وقال أحمد: مضطرب الحديث، وعنه قال: لا أعرفه. وقال
البيهقي في "باب سجود القرآن إحدى عشرة": ضعفه ابن معين.
وأما قوله: "وكان ابن عباس ابن عشر سنين حين قبض النبي- عليه
السلام-" فكأنه أراد بذلك استبعاد قول من يقول: إن قضية ذي اليدين
كانت قبل بدر؛ لأن ظاهر قول ابن عباس: ما أماط عن سُنَة نبيه- عليه السلام- يدلُ على أنه شهد تلك القضية، وقبل بدر لم يكن ابن عباس
من أهل التمييز، وتحمل الرواية لصغره جدا، ونحنُ بعد تسليم دلالته
على أنه شهد القضية نمنع كون سنه كذلك؛ بل قد رُوِي عنه أنه قال:
توفي- عليه السلام- وأنا ابن خمس عشرة. وصوب أحمد بن حنبل
هذا القول، ويدل عليه ما روي في " الصحيح " (1) عن ابن عباس أنه
قال في حجة العدل: وكنتُ يومئذ قد ناهزتُ الحُلم. ولا يلزمُ من رواية
[2/32 - ب] ابن عمر ذلك، وإجازته- عليه السلام- بعد بدر أن لا تكون/ القضية قبل بدر؛ لأنه كان عند ذلك من أهل التحمل.
وقوله: " علمنا أن حديث ابن مسعود خص به العمد دون النسيان ".
قلنا: لم يكن الكلام الذي صدر من ذي اليدين سهواً وكذا من النبي
- عليه السلام- وأصحابه؛ لأن ذا اليدين لما قال: " بلى قد كان بعض
__________
(1) البخاري: كتاب العلم، باب: متى يصح سماع الصغير؟ (76) .

(4/166)


ذلك" علم- عليه السلام- أن النسيان قد وقع، فابتدأ عامدا فسأل الناس فأجابوه- أيضا- عامدين؛ لأنهم علموا أنها لم تقصر، وأن النسيان قد وقع. ثم خرج البيهقي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي قال: كان إسلام معاوية بن الحكم في آخر الأمر، ثم قال: فلم يأمره النبي- عليه السلام- بإعادة الصلاة، فمن تكلم في صلاته ساهيا أو جاهلاَ مضت صلاته. والجواب: أن الوليد بن مسلم مُدلس ولم يصرح هاهنا بالسماع من الأوزاعي، وكان معاوية جاهلاَ بتحريم الكلام. ثم قال البيهقي: الذي قُتل ببدرِ هو ذو الشمالين ابن عبد عمر [و] ، بن نضلة حليف لبني زهرة من خزاعة، وأما ذو اليدين الذي أخبر النبي- عليه السلام- بسَهوه فإنه بقي بعد النبي- عليه السلام-؛ كذا ذكره شيخنا أبو عبد الله الحافظ، ثم خرج عنه بسنده إلى معدي بن سليمان قال: حدثني شعيب بن مطير، عن أبيه- ومطير حاضر وصدقه- قال شعيب: "يَا أبتاه، أخبرتَني أن ذا اليدين لَقيك بذي حُسْب فأخبرك أن رسول الله" الحديث. ثم قال البيهقي: وقالَ بعض الرواة فًي حديث أبي هريرة: "فقال ذو الشمالين: يا رسول الله، أقصرت الصلاة؟ ". وكان شيخنا أبو عبد الله يقولُ: كل من قال ذلك فقد أخطأ؟ فإن ذا الشمالين تقدم موتُه ولم يُعقِب، وليس له راوِ.
والجواب في "المُوطأ": مالك، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن سليمان بن (1) أبي حثمة: بلغني أن رسول الله- عليه السلام- ركع ركعتين من إحدى صلاتي النهار: الظهر أو العَصْر، فسلم من اثنتَيْن، فقال له ذو الشمالين- رجل من بني زهرة بن كلاب-: أقصرت الصلاة؟ الحديث؛ وفي آخره: مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وعن أبي سلمه بن عبد الرحمن مثل ذلك، فقد صرح في هذه الرواية أنه ذو الشمالين وأنه من بني زهرة.
__________
(1) في الأصل: "عن" خطأ.

(4/167)


فإن قيل: إنه مُرسل. قلنا: ذكر أبو عمر في "التمهيد" أنه متصل من وجوه صحاح، وقد قال النسائي في " سننه" (1) : نا محمد بن رافع: ثنا عبد الرزاق: نا معمر، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، وأبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن أبي هريرة قال: صلى النبي- عليه السلام- الظهر أو العصرَ فسلّم من ركعتين فانصرف، فقال له ذو الشمالين بن عَمْرو: أنقصَ الصلاة أم نسيت؟ الحديث. وهذا سند صحيح متصل، صرح فيه بأنه ذو الشمالين. وقال النسائي (2) - أيضا-: نا هارون بن موسى الفروي: حدثني أبو ضمرة، عن يونس، عن ابن شهاب أخبرني أبو سلمة، عن أبي هريرة قال: نسي رسول الله فسلّم في سجدتين فقال له ذو الشمالين: أقصرت الصلاة؟ الحديث. وهذا- أيضا- سند صحيح صرح فيه- أيضا- أنه ذو الشمالين.
فإن قيل: فقد ذكر أبو عمر في "التمهيد" و" الاستيعاب " أن هذا وهم من الزهري عند كثر العلماء. قلنا: قد تابع الزهري على ذلك عمران بن أبي أنس. قال النسائي (3) : نا عيسى بن حماد: نا الليث، عن يزيد بن (4) أبي حبيب، عن عمران بن أبي أنس، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: أن رسول الله- عليه السلام- صلى يومأ فسلم في ركعتين ثم انصرف فأدركه ذو الشمالين فقال: يا رسول الله، أنقصت الصلاة أم نسيت؟ الحديث. وهذا سند صحيح على شرط مسلم يثبت أن الزهري لم ينفرد بذلك، وأن المخاطب للنبي- عليه السلام- ذو الشمالين، ويؤيد ذلك ما في كتاب النساَئي من قوله: ذو الشمالين بن عَمرو، وكأنه ابن عبد عمرو، فأسْقط الكاتب لفظة " عبد"، ولا يلزم من عدم تخريج ذلك في "الصحيحين" عدم صحته على ما عرف، وثبت- أيضا أن ذا اليدين وذا الشمالي واحد، وقد ورد اللقبان جميعاً
__________
(1) كتاب السهو، باب: ما يفعل من سلم ركعتين ناسيا وتكلم (3/ 24) .
(2) (3/ 24) .
(3) (صم 23) .
(4) في الأصل: "عن " خطأ.

(4/168)


/ في كتاب النسائي من الوجهين المتقدمين. وقال السَمْعاني في "الأنْساب": ذو اليدين، ويقال له: ذو الشمالين؛ لأنه كان يعمل بيديه جميعاً. وفي "الفاصل " للرامهُرمزي: ذو اليدين وذو الشمالين، قد قيل: إنهما واحد. وقال ابن حبان في "الثقات": ذو اليدين، ويقال له- أيضا-: ذو الشمالين ابن عبد عمرو بن نضلة الخزاعي، وقال- أيضا-: ذو الشمالين عمرو بن عبد عمرو بن نضلة بن عامر بن الحارث بن غبشان الخزاعي حليف بني زهرة. وهذا أوْلى من جعله رجلين لأنه خلاف الأصل. والحديث الذي استدلّ به البَيْهقي وغيره على بقاء ذي اليدين بعد النبي- عليه السلام- سندُه ضعيف؛ لأن مَعدي بن سليمان متكلم فيه. قال أبو زرعة: واهي الحديث. وقال النسائي: ضعيف الحديث. وقال أبو حاتم: يُحدّث عن ابن عجلان بمناكير. وقال ابن حبان: يروي المقلوبات عن الثقات، والمُلزقات عن الأثبات، لا يجوز الاحتجاج به إذا انفرد. وشعيب ما عرفنا حاله ووالده: مَطير قال فيه ابن الجارود: سمع ذا اليدين، روى عنه: ابنه: شعيب، لم نكتب حديثه. وفي لا الضعفاء، للذهبي: لم يصح حديثه، وفي "الكاشف ": مطير بن سليم عن ذي الزوائد، وعنه: ابناه: شعيب وسليم، لم يصح حديثه. ولضَعْف هذا السند قال البيهقي في كتاب "المعرفة ": ذو اليدين بقي بعد النبي- عليه السلام- فيما يُقال، ولقد أحسن وأنصف في هذه العبارة، وقول الحاكم عن ذي الشمالين: " لم يُعقِب " يفهم من ظاهره: أن ذا اليدين أعقب، ولا أصل لذلك. ثم ذكر البيهقي حديث أبي سعيد بن المعلى وقوله- عليه السلام-: ما ما منعك أن تُجيبني حين دعوتك؟ أما سمعت الله يَقولُ: استجيبوا لله وللرسول؟ " الحديث، ثم قال: وفي هذا دلالة على أن جواب أصحاب النبي- عليه السلام- حين سألهم عما يقول ذو اليدين لم تبطل صلاتهم مع ما روينا عن حماد بن زيد في تلك القصة أنهم أومأوا.
والجواب: "قوله: مع ما روينا عن حماد " إلى آخره لا يلائم كلامَه

(4/169)


المُتقدم؛ لأنه استدل أولا على أن كلامهم لم يُبطل الصلاة، وفي رواية حماد بن زيد أنهم لم يتكلموا؛ بل أومأوا، على أن حمادا اختلف عليه في هذه اللفظة، والله أعلم.
فإذا تأملت جميع ما ذكرنا في هذا الموضع حصل لك جواب عما قاله الخطابيّ في " معالم السنن"، وما قاله البيهقي في "سننه"، وكتابه "المعرفة"، وما قاله الشيخ محيي الدين في "شرح مُسلم "، وما قاله غيرهم، ويَظهر لك ضعف كلامهم، ويَحصل لك الريُّ؛ وليْس الري من التشاف.
901- ص- ثنا يَزيدُ بن خالد بن مَوْهب، وقتيبة بن سعيد أن الليث حدثهمِ عن بُكَير، عن نَابل صاحب العبَاء، عن ابن عُمر، عن صُهَيب أنه قال: مرَرْتُ برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يُصلي فَسلمتُ عليه فرَد إِشارةً، قال: ً ولا أعلَمُه إلا قال: إشارَةً بإِصْبعه (1) .
ش- نابل: بالنون في أَوَله، وبالباء الموحدة المكسورة صاحب العَبَاء، ويقال: صاحب الشمال، وهي [جمع] شملة. سمع: عبد الله بن عمر، وأبا هريرة. روى عنه: بكير بن عبد الله بن الأشج، وصالح بن عُبَيد. قال البرقاني: قلت للدارقطني: نابل صاحب العباء ثقة؟ فأشار بيده أن لا. روى له: أبو داود، والترمذي، والنسائي (2) .
وصهيب: ابن سنان بن مالك القيمي، أبو يحيي، كان أبوه عاملا لكسرى على الأبلة، وكانت ديارهم بأرض الموصل، ويقال: كانوا في قرية على شط الفرات مما يلي الجزيرة والموصل فأغارت الروم على تلك الناحية فسبت صُهيبا وهو غلام صغير، فنشأ صهيب بالروم فصار ألْكَن، فابتاعه كلب منهم فقدمت به مكة، فاشتراه عبد الله بن جُدْعان التيمي
__________
(1) الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاء في الإشارة في الصلاة (367) ، النسائي: كتاب السهو، باب: رد السلام بالإشارة في الصلاة (3/ 5) .
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (29/ 6349) .

(4/170)


منهم فأعتقه، وقيل غير ذلك، شهد صهيب بدرا مع رسول الله وهاجر
إلى المدينة في شهر ربيع الأول في النصف منه، وأدرك رسول الله بقباء
قبل أن يدخل المدينة. روى عنه: عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله،
وبنوه: عثمان، وصيفي، وسَعْد/، وعباد، وحبيب، ومحمد، [2/ 33 - ب] وصهيب، وسعيد بن المسيب، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، وكعب الأحبار. مات بالمدينة في شوال سنة ثمان وثلاثين، وهو ابن ثلاث وسبعين سنة ودفن بالبقيع. روى له: الجماعة إلا البخاري (1) .
قوله: " فرد إشارةً " أي: فرد السلام علي من حيث الإشارة بإصبعه.
وبهذا استدل الشافعي ومالك أن المصلي إذا سُلم عليه يَرد إشارة.
وقال الخطابي (2) : والإشارة حَسنة، ثم روى هذا الحديث؛ فكأنه
استدل به على ما قال. وقال أصحابنا: لا يرد لا نطقا ولا إشارة- كما
ذكرناه-؛ لأن قول عبد الله: "فلم يَرُدَّ علي السلام يَتناولُ جميع أنواع
الرد، على أن الحديث فيه مقال؛ حيث رواه النسائي، ثم قال: نابل
ليس بالمشهور. وأخرجه الترمذي وقال: حديث صهيب حديث حسن،
لا نعرفه إلا من حديث الليث، عن بكير.
وفي "المصنف ": حدثنا أبو خالد الأحمر، عن ابن عجلان، عن
يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن بشر بن سعيد قال: سلم على النبي
- عليه السلام- رجل وهو يُصلي فأشَار إليه بيده كأنه يَنْهاهُ.
ص- وهذا لفظُ حديثِ قُتيبةَ.
ش- أي: الحديث المذكور لفظ حديث قتيبة بن سعيد، أحد شيوخ
أبي داود.
902- ص- نا عبد الله بن محمد النُفيلي: لا زهير: لا أبو الزبير، عن
__________
(1) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (2/ 174) ، وأسد الغابة (3/ 36) ، والإصابة (2/ 95 1) .
(2) معالم السنن (1/ 189) .

(4/171)


جابر قال: أرْسَلَني نبي الله- عليه السلام- إلى بَني المُصْطَلَق فأتيتُه وهو يُصلِّي على بَعيرهَ فكلَمْته فقَالَ لي بيده هكذا، ثم كلَمتُه فقال ليَ بيده هكذا وأنا أسمَعُه يَقرأَ ويُومئُ برأسه قال: فلما فَرغ قال: " ما فَعلتَ في الذي أرسلتُك؛ فإنه لم يَمْنعَنِي أن أكلِّمَكَ إلا أني كنتُ أصَلِّي" (1) .
ش- زُهَيْر: ابن معاوية، وأبو الزبير: محمد بن مسلم بن تدرس المكي.
قوله: "إلى بني المُصطلق " هو مُفتعل من الصَّلْق، وهو رفع الصَوْت؛ وبنو المصطلق هم بنو جذيمة بن سَعْد بن عمرو بن ربيعة بن جابر بن عَمرو ابن عامر، بطن من خزاعة.
قوله:" أن أكلمك " في محل النَّصْب، و"أنْ" مَصْدرية؛ والمعنى:
لم يَمْنعني كلامَك، وفاعل " لم يَمْنعْني " قوله: " أني كنت أصلي "، والتقدير: إلا كَوْني في الصَلاة. والحديث: أخرجه مسلم، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه.
903- ص- نا حُسَيْن بن عيسى الخُراسَاني الدامغاني: نا جَعْفر بن عون: نا هشام بن سَعْد: نا نافع قال: سمعت عبد الله بن عُمرَ يَقولُ: خرجَ رسولُ الله- عليه السلام- إلى قُبَاءَ يُصلِّي فيه، قال: فجاءته الأنْصار فَسلَّمُوا عَليْه وهو يُصلي، قال: فقلتُ لبلال: كيف رَأيتَ رسولَ الله يَرد عليهم حين كانوا يُسلِّمون عليه وهو يصلي؟ قَال: يقولُ هكذا وبَسَطَ كَفَّه، وبَسَطَ جَعْفرُ بنُ عونٍ كَفَّه، وجَعلاَ بَطنَه أسفلَ وظهرَه إلى فوقَ (2) .
__________
(1) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب: تحريم الكلام في الصلاة، ونسخ ما كان من إباحة (539) ، الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاء
في الصلاة على الدابة حيث ما توجهت به (351) ، النسائي: كتاب السهو، باب: رد السلام بالإشارة في الصلاة (3/ 6) ، ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: المصلي يسلم عليه كيف يرد (1017) .
(2) الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاء في الإشارة في الصلاة (368) .

(4/172)


ش- حسين بن عيسى المذكور، أحد شيوخ أبي داود. روى عن: جَعفر بن عَوْن بن جعفر بن عَمرو بن حريث المخزومي أبو عون، وجَعْفر ابن عون: ثقة، قاله ابن معين. وقال أبو حاتم: صدوق. مات بالكوفة سنة ست ومائتين. روى له الجماعة.
ونافع: مولى ابن عمر- رضي الله عنهما-.
قوله: "إلى قُبَاء" قد مر تفسير قُباء غير مرة.
904- ص- نا أحمد بن حنبل: نا عبد الرحمن بن مَهْدي، عن سفيان، عن أبي مالك الأشجعي، عن أبي حازم، عن أبي هُريرةَ، عن النبي- عليه السلام- قال: "لا غِرَارَ في صلاة ولا تسليمَ " (1) .
ش- سفيان: الثوري، وً أبو مالك: سَعْد بن طارق، الكوفي
الأشجعي.
وأبُو حازم: اسمُه: سَلْمان الأشجعي الكوفي، مولى عزةَ الأشجعية. روى عن: الحسن بن علي، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وأبي هريرة وكثر عنه، وقال: قاعدتُ أبا هريرة خمس سنين. روى عنه: الأعمش، ومنصور بن المعتمر، وعدي بن ثابت، وغيرهم. قال أحمد ويحيى: ثقة. توفي في خلافة عمر بن عبد العزيز. روى له الجماعة (2)
وقال الطبراني: أبو حازم أربعة، كل منهم يروي عن أبي هريرة، أحدهم: هذا، والثاني: أبو حازم التمار، اسمه: دينار مولى بني رهم، والثالث: أبو حازم: سلمه بن دينار الزاهد، والرابع: أبو حازم نَبتل الكوفي.
قوله: "لا غِرارَ" الغِرار- بكسر الغين المعجمة-: النقصان، وغرار
__________
(1) تفرد به أبو داود.
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (11/ 2440) .

(4/173)


النوم. قلته: ويُريد بغرار الصلاة: نقصان هيئاتها وأركانها، وغِرارُ التسليم: أن يقول المُجيبُ: وعليك، ولا يقول: السلامُ، وقيل: أراد بالغرار النوم أي: ليس في الصلاة نوم.
قوله: "ولا تسليمَ " يُروى بفتح الميم، ويروى بالجر، فمَنْ فتحها كان معطوفا على (1) / الغرار، ويكون المعنى: لا نَقْص ولا تسليمَ في الصلاة؛ لأن الكلام في الصلاة بغير كلامها لا يجوز، ومَنْ جَرها يكون معطوفا على الصلاة ويكون المعنى: لا نقص في صلاة ولا في تسليم. واعلم أن " لا" هاهنا لنفي الجنْس، واسمها مبني على الفتح، نحو:
لا رجلَ في الدار؛ وإنما عملت في الاسم لاختصاصها بالاسم، إذ هو الذي له أفراد يقصد نفي جميعها بها، وإنما بني اسمها لتضمنه معنى الحرف؛ لأن معنى" لا رجل": لا من رجل، وعلى الفتح لأنه أخف الحركات، فيكون المعنى في الحديث نفي جنس الغرار، ونفي جنس التسليم على عطفه على اسم "لا" كما قررناه، وإذا نُفي جنس التسليم يُنْفى- أيضا- جنس الجواب، وهو يَشملُ أنواعه من اللسان والإشارة ونحو هما، فافهم.
ص- قال أحمدُ: يعني فيما أرَى: أن لا تُسلم ويُسَلم عليكَ ويُغررُ الرجلُ بصلاِتهِ فينصرفُ وهو شاك (2) .
ش- أي: قال أحمد بن حنبل: فيما أرَى أي: فيما أظن أن لا تسلم أنْت في الصلاة، ولا يُسلم غيرُك عليك؛ وهذا تفسيرُ "ولا تسليمَ". وقوله: "ويُغررُ الرجل " إلى آخره تفسير قوله: " لا غرارَ" وهو أن يغرر الرجل بصلاته فيسلم ويخرج منها وهو شاك، هل صلى ثلاثا أو أربعا؟ فيأخذ بالأكثر ويترك اليقين، ويَنْصرف وهو شاك. وذكر ابن الجوزي هذا الحديث في " جامع المسانيد"، فقال: نا أحمد قال: نا عبد الرحمن قال: ثني سفيان، عن أبي مالك الأشجعي، عن
__________
(1) مكررة في الأصل.
(2) في سنن أبي داود: "وهو فيها شاك".

(4/174)


أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله- عليه السلام-: " لا إغرار في صلاة ولا تسليمَ ". قال أحمد: سألت أبا عمرو الشيباني عنه فقال: إنما هو " لا غِرارَ" قال أحمد: ومعناه: لا يخرج من الصلاة وهو يظن أنه قد بقي عليه منها شيء حتى يكون على اليقين والكمال.
905- ص- نا محمد بن العلاء: نا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن
أبي مالك، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: أرَاهُ رفَعه قال: " لا غِرارَ في تسليمِ ولا صلاة" (1) .
ش- " أراهَ "- بضم الهمزة- أي: أظنه رَفعَ الحديثَ وقال: " لا غرارَ في تسليم ولا صلاة"، وهذه الرواية تؤيدُ قول من جر: " ولا تسليم" في الرواية الأولىً عطفا على قوله: " في صلاة". وأخرج البيهقي الطريقين ثم قال: هذا اللفظ- أعني: الطريق الثاني- وهي طريق معاوية بن هشام يقتضي نفي الغرار عن الصلاة والتسليم جميعاً والأخبار التي مضت تُبيح التسليمِ على المصلي والرد بالإشارة، وهي أوْلى بالاتباع. وأراد بالأخبار التي مَضتْ: خبر صهَيب ونحوه.
قلنا: لا يلزم من نفي الغرار عن الصلاة والتسليم تحريم التسليم حتى يكون ذلك مُعارضا للأخبار المُبيحة للتسليم والرد بالإشارة حتى يحتاج إلى الترجيح، نعم الرواية الأولى تقتضي منع التسليم مطلقا، وهي التي تقتضي المُعارضة للأخبار المُبيحة، وكان يتعين عليه أن يُذكر هذا، ثم نقولُ: لا نُسلم أن المُبِيح والمحرم إذا اجتمعا أنْ يكون المُبيح أولى؛ بل المحرم أولى كما هي القاعدة عند المحققين من العلماء، فالأخبارُ التي مضت تشيرُ بإباحته السلام على المصلي وإباحة رد المصلي إشارةً، وهذا الخبرُ يُحَرًمُ السلامَ بالكلية، فلا يَستحق المُسلم بالسلام الحرام جوابا، لا نطقا ولا إشارةً، وهذا أولى بالاتباع عكس ما قاله البيهقي، عملاً بالقاعدة المذكورة، فافهم.
__________
(1) تفرد به أبو داود.

(4/175)


ص- قال أبو داودَ: ورواه ابنُ فضيلِ على لفظِ ابن مَهْدي، ولم يَرفَعْهُ. ش- أي: وروى هذا الحديث محمد بن فضيل على لفظ عبد الرحمن ابن مَهدي، فأوقفه على أبي هريرة ولم يَرْفعه.
* * *
162- بَاب: تشميت العاطس في الصلاة
أي: هذا باب في بيان تشميت العاطس في الصلاة. والتشميت
- بالشين المعجمة والسن المهملة-: الدعاء بالخير والبركة، والمعجمة أعلاهما يقال: شمت فلانا (1) ، وشمت عليه تشميتا فهو مشمت، واشتقاقه من الشوامت، وهي القوائم، كأنه دعاء للعاطس بالثبات على طاعة الله، وقيل: معناه: أبعدك الله عن الشماتَة وجَنبك ما يُشمَتُ به، عليك، والشماتة: فرح/ العَدو ببليةِ تَنْزلُ بما يُعاديه، يُقال: شمِت به يَشمَتُ فهو شامت، وأشْمته غَيْره.
906- ص- نا مسدد: نا يحيي ح، ونا عثمان بن أي شيبة: نا إسماعيل
- يعْني: ابن إبراهيم- المعنى، عن حجاج الصواف قال: حدَّثني يحيي بن أبي كثير، عن هلال بن أبي ميمونة، عن عطاءَ بن يَسار، عن معاويةَ بن الحكم السلمي قال: صَلَّيتُ مع رسول الله- عليه السلام- فَعَطسَ رجل من القوم فقُلتُ: يرحَمُكَ الله، فرمَانِي القًومُ بَأبْصارِهم فقُلتُ: وَاثكلَ أمياهُ، ما شأنكم تنظرون ليَّ؟ قال: فجَعَلُوا يَضْربونً بأيديهم على أَفْخَاذهم، فعَرَفْتُ أنهم يُصَمتونَني. قال عثمانُ: فلما رأيتُهم يُسَكتُونَنِي (2) لَكَنِي سكتُ، فلما صلَّى رسولُ الله بأبي وأمي ما ضَرَبَنِي ولا كَهَرَني ولا سبَّني، ثم قال: " أن هذه الصلاةَ لا يَحل فيها شيء من كلام الناسِ هذا، إنما هو التسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآن " أو كما قال رسولُ الله. قلتُ: يا رسولَ الله"
__________
(1) في الأصل: " فلا" كذا، وما أثبتناه من النهاية (2/ 499- 0 0 5) ، فالنص فيه بلفظه.
(2) في سنن أي داود: " يسكتوني ".

(4/176)


إنا قوم حديثُ عهد بالجَاهلية (1) وقد جَاءَنا اللهُ بالإسلام ومنَّا رجال يأتُون اَلكُهَّان، قال: "فلاً تأتهِمْ " قَالَ: قلتُ: ومنا رجال يتطيّرُونَ، قال: " ذاك شيءٌ يَجدُونه في صُدورهم فلا يَصُدَّهُم ". َ قال: قلت:، وَمنا رجال يخُطُّون، قال: "كان نبيّ من الأنبياء يخُطُّ فمَنْ وَافَقَ خَطَّه فذاك" قال: قلتُ: جارية لي كانت تَرْعَى غنَيماتَ قِبلَ أحُد والجَوَّانيّة إذ اطلَعتُ عليهِا اطلاعةً فإذا الذئبُ قد ذهَب بشاة منها، وأنا منْ بًني آدم آَسًفُ كما يأسَفُون، لكني صككْتها صَكَّةً، فَعَظَّمَ ذلكً (2) عَليَّ رَسولُ الله. فقلتُ: أَفلا أُعْتقُهَا؟ قال: " ائتِني بها " قال: فجئتُ بها، فقال: " أينَ اللهُ؟ " قالَتْ: في السَماء، قال: " مَنْ أنا؟ " قالَتْ: أنتَ رسولُ اللهِ، قال: "أَعتِقْها فإنها مُؤمنه" (3) . ش- إسماعيل: ابن إبراهيم المعروف بابن عُلية.
وهلال بن أبي ميمونة: ويقال: ابن أبي هلالْ، وهو هلال بن علي ابن أسامة الفهري العامري مولاهم القرشي المديني. سمع: أنس بن مالك، وأبا سلمة، وعطاء بن يسار، وغيرهم. روى عنه: يحيي بن أبي كثير، وزياد بن سعد (4) ، ومالك بن أنس، وغيرهم. قال أبو حاتم: يكتب حديثه وهو شيخ. مات في آخر خلافة هشام. روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه (5) . ومعاوية بن الحكم السُّلمي: وقيل: عمر بن الحكم؛ وعُمر وهم والصحيح: معاوية، رُوي له عن رسول الله- عليه السلام- ثلاثة عشر حديثا، روى له مسلم حديثا واحداً، روى له: أبو داود، والنسائي (6) .
__________
(1) في سنن أبي داود: " بجاهلية".
(2) في سنن أبي داود: " ذاك".
(3) مسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة فيها، باب: تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته (537) ، النسائي: كتاب السهر، باب: الكلام في الصلاة.
(4) في الأصل؛ " سعيد " خطأ.
(5) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (30/ 6626) .
(6) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (3/ 403) ، وأسد الغابة (5/ 7 0 2) ، والإصابة (3/ 432) .
12. شرح سنن ني داوود 4

(4/177)


قوله: "واثكل أمياه " الثكْلُ- بضم الثاء المثلثة، وإسكان الكاف وبفتحهما- جميعاً- لغتان كالبُخل والبَخَل حكاهما الجوهري وغيره، وهو فقدان المرأة ولدها، وامرأة ثكلى وثاكل، وثكلته أمّه. بكسر الكاف، وأثكله اللهُ أمه، وثكلت المرأة وأثكلت فقدَتْ ولدهَا؛ والواو في قوله: "واثكل " يُسمَّى واوَ النُدبة نحو: وازيداه، والندبة، والندب مأخوذ (1) من ندبت الميت إذا بكيت عليه وعددت محاسنه؛ وأصله من ندبَه إذا حثه؛ كأن الحزنُ يَحث النادبَ على مَد الصَوْت باسم الميت، ودعاء الناس إلى التضجر معه؛ والأولى بالندبة: النساء؛ لضعفهن عن تحمل المصيبة، فيبنَى المفرد على ما يرفع، نحو: وازيد، وازيدان، ويُنصب المضاف وشبهه نحو: واعبدَ الله، ثم يلحقونه حرف مَدّ ليطول الصوت به فيكون أظهر للغرض وهو التفجع، وإظهار اسم المندوب، فيقال: وازيداه، واختير الألف؛ لأنه أقعد في المد من أختيْها، أو لأنها أخف، وزيادتها أكثر، ولا تلحق الألف المضاف عند الإضافة، لئلا يلزم الفصل بين المضاف والمضاف إليه، بل يلحق المضاف إليه نحو: واعَبْد الملكاه، وإن كان المضاف إليه منونا فسيبويه يحذف تَنْوينه نحو: وَاغُلام زيداه، ثم هاهنا قوله: لا والكل المياه " مضاف ومضاف إليه، فدخل الألف في المضاف إليه وهو " أمياه "، و "أمياه " بكسر الميم، وأصله: ثكلت أمي، فزيدت في أوله واو الندبة، وفي آخره الألف- لما ذكرناه- وأما الهاء: فهي هاء السكْت، دخلت ليتبين بها الألف؛ لأنها حرف خفي، فالوقف [2/35 - أ] / عليه يَزيدها خفاء.
قوله: " فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم " يعني: فعلوا هذا ليُسكتوه؛ وهذا محمول على أنه كان قبل أن يشرع التسبيح لمن نابه شيء في صلاته، وفيه دليل على جواز الفعل القليل في الصلاة، وابنه لا تبطل به الصلاة، وأنه لا كراهة فيه إذا كان لحاجة.
__________
(1) غير واضحة في الأصل.

(4/178)


قوله: " فلما رأيتهم" جواب "لما " محذوف تقديرُه: ما خالفتهم بَلْ سكتُّ.
قوله: " بأبي وأمّي " في محل الرفع تقديره: هو مُفدَى بأبي وأمي، وقد مر مثله غير مرة.
قوله: " ولا كهرني، معناه: ما انتهرني ولا أغلظ لي، وقيل: الكَهْرُ: استقبالك الإنسان بالعُبوس، وقرأ بعض الصحابة:" فأما اليتيم فلا تكهر" وقيل: كهَره وقهره بمعنىً.
قوله: " لا يحلّ فيها شيء من كلام الناس " نص صريح على تحريم الكلام في الصلاة، سواء كان عامدا لحاجة أو لغيرها، وسواء كان لمصلحة الصلاة أو غيرها، فإن احتاج إلى تنبيًه إمام ونحوه سبح إن كان رجلاً، وصفقت إن كانت امرأة، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والجمهور من السلف والخلف. وقالت طائفة- منهم الأوزاعي-: يجوز الكلام لمصلحة الصلاة؛ لحديث ذي اليدين. وقال الشيخ محيي الدين (1) : هذا في كلام العامد العالم، أما الناسي فلا تبطل صلاته بالكلام عندنا، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة والكوفيون: تبطل؛ دليلنا: حديث ذي اليدين. وقد بينا دلائلنا والجواب عن حديث ذي اليدين مستو"ى مُطولا.
قوله: " هذا " إنما هو إشارة إلى الصلاة باعتبار المذكور، أو باعتبار نفس الفعل، والمعنى: لا يصلح فيها شيء من كلام الناس ومخاطباتهم؛ وإنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن، ذكر بعض الأركان وبعض الشروط وبعض السنن، واقتصر بها عن غيْرها لعلم المخاطبين بذلك؛ فقوله: "التسبيحُ " يتناولُ كل ذكر في الصلاة من الثناء، وتسبيحات الركوع والسجود، والأدعية التي يدعى بها فيها، وكذلك قوله: "والتكبير" يتناول تكبيرة الافتتاح وغيره من تكبيرات الانتقالات. وقال
__________
(1) شرح صحيح مسلم (21/5) .

(4/179)


النوويُ (1) : وفيه دليل على أن من حلف لا يتكلم فسبح أو كبر أو قرأ القراَن لا يحنث؛ وهذا هو الصحيح المشهور في مذهبنا، وفيه دلالة لمذهب الشافعي والجمهور أن تكبيرة الإحرام فرض من فروض الصلاة وجزء منها. وقال أبو حنيفة: ليست منها؛ بل هو شرط خارج عنها، متقدم عليها.
قلت: عدم الحنث في المسألة المذكورة مَبني على العُرْف فلا يحتاج إلى الاستدلال بهذا، وقوله: " وفيه دلالة لمذهب الشافعي " إلى آخره غير مسلم؛ لأن قوله: "والتكبير" يتناولُ سائر التكبيرات- كما ذكرناه- ولا يفهم منه فرضية تكبيرة بعينها، ولا سُنية تكبيرة بعينها؛ بل يتناول ذا وذا، ومن أن الدليل الواضح على مُدعَاه، ليتَ شعري! كيف يَذكرون أشياء غير جلية ويجعلونها حجةً لإمامهم على غيره، ويتركون الشيء الواضح الجلي الذًي هو حجة عليهم؟ فإن قوله- عليه السلام-:" وقراءة القرآن" نص صريح على أن الفرض في الصلاة مطلق القراءة، وهو يُنافي فرضية فاتحة الكتاب؛ إذ لو كانت فرضا لقال: وقراءة الفاتحة، وليس لهم أن يقولوا؛ المراد به: فاتحة الكتاب؛ لأنه تخصيص بلا مخصص؛ وهو باطل؛ وليْس فيه إجمال حتى يكون قوله- عليه السلام-: "لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب " بيانا له. ثم في هذا الحديث: النهي عن تشميت العاطس في الصلاة، وأنه من كلام الناس الذي يحرم في الصلاة وتَفْسد به. وقال صاحب " الهداية ": ومن عطسَ فقال له آخرُ: يرحمك الله وهو في الصلاة فسدت صلاته؛ لأنه يجري في مخاطبات الناس، فكان من كلامهم، بخلاف ما إذا قال العاطسُ أو السامعُ: الحمد لله- على ما قالوا-؛ لأنه لم يُتعارف جوابا.
قلت: قوله: لا على ما قالوا، إشارة إلى خلاف فيه رُوي عن أبي حنيفة أن العاطس إذا حمد الله في نفسه، ولم يحرك لسانه لا تَفسد
__________
(1) شرح صحيح مسلم (21/5) .

(4/180)


صلاته، ولو حرك تفسدُ. وفي "المحيط ": رجل عطس فقال المصلي:
يرحمك الله،/ أو يرحمك ربك، تفسد صلاته؛ لأنه من كلام الناس [2/35 - ب] منزلة قوله: أطال اللهُ بقاءك، وعافاك اللهُ، ولو قال له: الحمدُ لله لم
تفسد وان أراد به الجواب، لأن التحميد لا يستعمل لجواب العاطس؛ فإذاً
فَحَمْدُ العاطس في الصلاة إذا خاطب نفسه فقال: يرحمك الله لم يضره
لأنه لم يكلم غيره وإنما يَدْعو لنفسه.
وقال الشيخ محيي الدين (1) : وقال أصحابنا: إن قال: يرحمك اللهُ،
أو يرحمكم اللهُ بكاف الخطاب بطلت صلاته، وان قال: يَرْحمه اللهُ،
أو: اللهم ارحمه، أو: رحم الله فلانا لم تبطل صلاته؛ لأنه ليس بخطاب، وأما العاطس في الصلاة فيُستحبُّ له أن يحمد الله تعالى سرّا
هذا مذهبنا، وبه قال مالك، وغيره. وعن ابن عمر، والنخعي،
وأحمد: أنه يجهرُ به. والأول أظهر.
وفي " المصنف": ثنا إسماعيل ابن علية، عن سعيد بن أبى صدقة
قال: قلتُ لابن سيرين: إذا عطستُ في الصلاة ما أقول؟ قال: قل:
الحمد لله رب العالمين.
لا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في الرجل يَعطسُ
في الصّلاة قال: يحمد الله في المكتوبة وغيرها.
نا عبدة، عن سفيان، عن غالب بن الهذيل قال: سئل إبراهيم عن
رجل عطس في الصلاة فقال له آخرُ: وهو في الصلاة: يرحمك اللهُ.
فقال إبراهيم: إنما قال معروفاً وليس عليه إعادة.
قوله: " إنا قوم حديثُ عهد بالجاهلية " الجاهليةُ: ما قبل ورود الشرع
سموا جاهليةً لكثرة جهالاتهم وفحشها.
قوله: " يأتون الكُهّان "- بضم الكاف وتشديد الهاء- جمع كاهن؟
وهو الذي يتعاطى الأخبار عن الكوائن في المستقبل، ويَدعي معرفة
__________
(1) شرح صحيح مسلم (21/5) .

(4/181)


الأسْرار، والعراف: الذي يتعاطى بمعْرفة الشيء المسروق ومكان الضالة ونحوهما؛ وبهذا حصل الفرق بينهما.
" (1) وإنما نهى عن إتيان الكهان لأنهم يتكلمون في. مغيبات، قد يصادف بعضها الإصابة فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك، ولأنهم يلبسون على الناس كثيرا من أمر الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكُهان وتصديقهم فيما يقولون، وتحريم ما يعطون من الحُلْوان؛ وهو حرام بإجماع المسلمين، وقد نقل الإجماع في تحريمه جماعة منهم: أبو محمد البغوي.
وقال الخطابي (2) : كان في العرب كهنة يدعون أنهم يعرفون كثيراً من الأمور، فمنهم من يزعم أن له ربيبا من الجن يلقي إليه الأخبارَ، ومنهم مَنْ يدعي استدراك ذلك بفهم أعطيَه، ومنهم من يُسمى عرافا؛ وهو الذي يَزعم معرفة الأمور بمقدمات وأسباَب يستدل بها، كمعرفة من سرق الشيء الفلاني، ومعرفة من يُتهم به المرأة (3) ونحو ذلك، ومنهم مَن يُسمي المنجمَ كاهنا؛ ذكر ذلك في قوله- عليه السلام-: " مَنْ أتى كاهنا فصدقه " الحديث، ثم قال: فالحديث يشمل النهي عن إتيان هؤلاء كلهم، والرجوع إلى قولهم، وتصديقهم فيما يدعونه" (4) .
قوله: "يتطيرون " من التطير؟ وهو التشَاؤمُ بالشيء، وكذلك الطيرة وهي مصدر تطير- أيضا- يقال: تطير طيرةً كتخير خيرة، ولم يجئ من المصادر هكذا غيرهما؛ وأصله فيما يقال: التطير بالسوانح والبَوارح من الطير والظباء وغيم هما، وكان ذلك يصدهم عن مقاصدهم، فنفاه الشرع وأبطله، ونهى عنه.
__________
(1) انظر: شرح صحيح مسلم (22/5) .
(2) معالم السنن (4/ 209- 210) .
(3) في الأصل: "المعرفة " خطأ.
(4) إلى هنا انتهى النقل من شرح صحيح مسلم.

(4/182)


قوله: " ذاك شيء يجدونه في صدورهم " معناه: " (1) أن الطيرة شيء
يجدونه في نفوسهم ضرورة، ولا عتب عليهم في ذلك؛ فإنه غير
مكتَسَب لهم فلا تكليف به؛ ولكن لا يمتنعوا بسببه من التصرف في أمورهم، فهذا هو الذي يقدرون عليه وهو مكتسب لهم، فيقع به التكليف، فنهاهم النبي- عليه السلام- عن العلم بالطيرة، والامتناع من تصرفاتهم بسببها، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة في النهي عن
التطير، والطيرة هنا محمولة على العمل بها لا على ما يوجد في النفس
من غير عمل على مقتضاه عندهم.
قوله: "فلا يَصدهم " أي: لا يصدهم ذلك عن التصرفات، كما
ذكرناه.
قوله: " يخطون" من الخط. وهو الضربُ في الرمْل على ما ذكر في
كيفيته. " (2) وقال/ ابن الأعرابي في تفسير الخط: كان الرجل يأتي [2/36- أ] لا العَرافَ وبين يدَيه غلامْ، فيأمره بأن يَخُط في الرمل خطوطا كثيرةً وهو
يقول: ابنَيْ عيَانْ أسرعا البَيانْ، ثم يأمره أن يَمْحو منها اثنين اثنين، ثم
ينظر إلى آخر ما يبقي من تلك الخطوط، فإن كان الباقي منها زوجا فهو
دليل الفَلْج والظفر، وإن بقي فردا فهو دليل الخيْبة واليأس.
قوله: " فمَنْ وافقَ خطه فذاك " أي: من وافقَ خط هذا النبي فذاك،
يعني: فهو مُباح له؛ ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا تُباحُ.
وقال الشيخ محيي الدين (3) : والمقصود: أنه حرام؛ لأنه لا يباح إلا
بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها؛ وإنما قال- عليه السلام-: "فمَنْ
وافق خطه فذاك"، ولم يقل: هو حرام بغير تعليق على الموافقة لئلا
يتوهم متوهم أن هذا النهي يدخلُ فيه ذلك النبي الذي كان يَخُط، فحافظ
__________
(1) انظر: شرح صحيح مسلم (23/5) .
(2) انظر: معالم السنن (1/ 192) .
(3) شرح صحيح مسلم (23/5) .

(4/183)


النبي- علية السلام- على حرمة ذاك النبي- عليه السلام- مع بيان الحكمة في حقنا؛ فالمعنى: أن ذاك النبي- عليه السلام- لا منع في حقه، وكذا لو علمتم موافقته؛ ولكن لا علم لكم بها.
قلت: هذا الكلام كله خارج عما دل عليه اللفظ النبوي، ولا يدل اللفظ صريحا على الحرْمة ولو بَيَّنَ النبي- عليه السلام- حرمته من غير تعليقٍ ما كان يحصل التوهُم المذكور؛ لأن كثيرا من الأمور كانت مباحةً في شريعة من قبلنا، وهي حرام عندنا، ولا يلزم من ذلك ما ذكره من التوهم؛ لأن غايته يكون منسوخا في شرعنا.
وقال الخطابي (1) : يشبه أن يكون أراد به الزجْر عنه، وترك التعاطي
له؛ إذ كانوا لا يصادفون معنى خط ذلك النبي؛ لأن خطه كان عَلَما لنبوته، وقد انقطعت نبوته وذهبَتْ معالمها.
" (2) وقال القاضي عياض: المختار: أن معناه: من وافق خطه فذاك تجدون إصابته فيما يقول؛ لا أنه أباح ذلك لفاعله، قال: ويحتمل أن هذا نسخ في شرعنا.
وذكر المازري في كتاب "المُعلم " قوله: "فمَنْ وافق خطَه فذاك " أي: من أصاب ذلك فقد أصابَ، وقيل: إنما قال ذلك على وجه الإِبْعاد لمن يَسْلك هذا، فكأنه يقول: وكيف لكم موافقة خطه؟!. وقال ابن عبَاس في تفسير هذا الحديث: هو الخط الذي يَخطه الحازي؛ وهو علمٌ قد تركه الناسُ.
قلت: الحازي،- بالحاء المهملة- والزاي- من حَزَى الشيءَ تَحْزِية وتحزُوة إذا قدره. وقال الجوهري: الحازي: الذي ينظر في الأعضاء وخيلان الوجه يتكهن.
قوله: " غُنَيمات" جمع غُنَيْمَةِ؛ وهي تصْغيرُ غنم؛ والغنم يقع على الذكر والأنثى.
__________
(1) معالم السنن (1/ 192) .
(2) شرح صحيح مسلم (23/5) .

(4/184)


قوله: "قبَل أحد"- بكسر القاف وفتح الباء- أي: في جهة أحُد،
والأحُد: الَجبل المعروف بالمدينة، سمي بذلك لتوحده وانقطاعه عن جبال
أُخَر هناك. و" الجَوانِية"- بفتح الجيم، وتشديد الواو المفتوحة، وبعد
الألف نون مكسورة، وياء آخر الحروف مشددة، وحكي في الياء التخفيف- وهي أرض من عمل المدينة من جهة الفُرع، كأنها نُسبت إلى
جَوان؛ قاله القاضي عياض. وقال الشيخ محيي الدين (1) : الجوانية
موضع بقرب أُحُد في شمالي المدينة. وأما قول القاضي: " إنها من عمل
الفرع " فليس بمقبول؛ لأن الفُرع بين مكة والمدينة، والمدينة بعيد من
الفرع، وأحد في شام المدينة، وقد قال في الحديث: " قِبلَ أُحد والجوانية"، فكيف يكون عند الفرع"؟.
قلت: الصواب مع الشيخ محيي الدين؛ لأن الفرع- بضم الفاء،
وسكون الراء وبالعين المهملتين- من المدينة على أربعة أيام في جِنوبِيها،
وهي عدة قرى آهلة، والطريق القريبة من المدينة إلى مكة إنما هي على
الفُرع؛ ولكن لاَ يكاد يَسْلم المار بها من قطاع الطريق، وكذا ذكرته في
تاريخي في كتاب " البلدان" في فصل "إقليم الحجاز". وفيه: دليل
على استخدام السيّد جاريته في الرعي وإن كانت تنفردُ في المَرعى.
قوله: "آسف " أي: أغضبُ كما يغضبون، من أسف يأسَفُ من باب
علم يعلم؛ والأسَف بفتحتين: أشد الحزن.
قوله: "لكني صككتها" فيه حذف حتى يصح الاستدراك؛ / والتقدير: [2/36 - ب] فلم أصبر على ذلك، فما اكتفيت بشَتمها؛ لكني صككتُها؛ الصك:
الضربُ، ويُقالُ: اللطمُ.
قوله: "فعظم ذلك على" وفاعِلُ "عَظم": رسولُ الله- عليه السلام-
__________
(1) شرح صحيح مسلم (23/5-24) .

(4/185)


وهو من التعظيم بمعنى: جعل هذا الف [ـعل عظيما] (1) وذلك إشارة إلى ما أخبره في فعله بالجارية شفقةَ منه عليها.
قوله: " فقالَ: أين اللهُ " أي: فقال النبي- عليه السلام- سائلاَ عنها: أين الله؟ إنما أراد- عليه السلام- أن يَتطلبَ دليلاَ على أنها مُوحدة، فخاطبَها بما يفهم قصدها؛ إذ من علامات الموحدين: التوجهُ إلى السماء عند الدعاء وطلب الحوائج؛ لأن العرب التي تعبدُ الأصنامَ تطلب حوائجها من الأصنام، والعجم من النيران، فأرادَ- عليه السلام- الكشفَ عن مُعتقدها هل هي من جملة من آمن؟ فأشارت إلى السماء، وهي الجهة المقصودة عند الموحدين. وقيل: إنما وَجْهُ السؤالِ بـ " أين " هاهنا سُؤال عما يَعتقدُه من جلال الباري، وإشارتها إلى السماء إخبار عن جلالته تعالى في نفسها، والسماء قبلة الداعين كما أن الكعبة قبلة المصلين، فكما لم يَدل استقبالُ الكعبة على أن الله جلت قدرته فيها، لم يدل التوجه إلى السماء والإشارة على أن الله عَزَّ وجَلَّ فيها (2) .
قوله: "اعتقها" إنما أمر بعتقها لأنه ضربها من غير ذنب، وكان عتقها كفارةً لذلك الذنب، وفيه: دليل على أن إعتاق المؤمن أفضل من إعتاق الكافر.
قوله: " فإنها مؤمنه " الفاء فيه للتعليل؟ فكان إيمانها بالله وبرسوله هو الذي حبب عتقها، ثم إن النبي- عليه السلام- حكم بإيمانها بالإقرار بالله وبرسالته، وهكذا هو الحكم في كل كافر لا يَعتقدُ دينا باطلاً، ولا يَعْرف إلا الله تعالى، فإنه متى أقر بالله وبرسالة نبيه- عليه السلام- جزما يَصيرُ مؤمنا، ويكون من أهل القِبْلة والجنة، ولا يكلف على إقامة الدليل والبرهان، وأما الكافر الذي يَعْتقدُ دينا من الأديان الباطلة، أو
__________
(1) غير واضح في الإلحاق.
(2) بل أن اعتقاد أهل السنة والجماعة أن الله في السماء، مستو على عرشه، محيط بكل شيء وفوقه، "ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"، وانظر:
" مختصر العلو".

(4/186)


كتابا من الكتب السماوية، فلا يحكم بإسلامه بمجرد الإقرار بالله وبرسوله حتى يتبرأ عما يعتقده من الدين الباطل. والحديث: أخرجه مسلم، والنسائي، والبيهقي؛ ولفظه: " إنما هو التسبيح والتكبير" موضع قوله:
"إنما هُو". وفي لفظ للطبراني: "إن صلاتنا لا يحل فيها شيء من كلام الناس". وأخرج ابن أبي شيبة كثره في " مصنفه".
وقال الخطابي (1) : في هذا الحديث من الفقه أن الكلام ناسيا في الصلاة لا يُفسد الصلاة؛ وذلك أن النبي- عليه السلام- علمه أحكام الصلاة وتحريم الكلام فيها، ثم لم يأمره بإعادة الصلاة التي صلاها معه، وقد كان تكلم بما تكلم به، ولا فرق بين مَنْ تكلم جاهلاً بتحريم الكلام عليه وبين من تكلم ناسيا لصلاة في أن كل واحد منهما قد تكلم، والكلام مباح له عند نفسه.
والجواب عن هذا: أنا لا نُسلم أن كلام معاوية بن الحكم كان على
وجه السهو والنسيان؛ بل كان عامدا؛ ولكن كان جاهلاً بتحريم الكلام، وأما قوله:" ثم لم يأمره بإعادة الصلاة التي صلاها معه "، فيحتمل أن يكون أقره بها ولم ينقل إلينا، فإذا احتمل عدم أمره بالإعادة وأمرَه بالإعادة، كان الرجوع إلى عموم قوله: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس" في دلالة بطلان الصلاة بكلام الناسِي أوْلى؛ فالحديث لا يدل على أن كلام الناسي لا يبطل الصلاة، ورُبما دل على عكسه.
907- ص- نا محمد بن يونس النسَائي: نا عبد الملك بن عَمرو: نا فليح، عن هلال بن علي، عن عطاء بن يسار، عن معاوية بن الحكم السُّلَمي قال: لما قَدمْتُ عَلَى رسولِ الله عُلمتُ أمورا من أمورِ الإسلام، فكان فيما عُلِّمتُ أن قيل (2) لي: " إذاَ عَطستَ فاحْمدِ الله، وإذا عَطِسَ العاطسُ
__________
(1) معالم السنن (1/ 191- 193) .
(2) في سنن أبي داود: " قال ".

(4/187)


فحمدَ الله فَقلْ: يَرْحَمُكَ اللهُ " قال: فَبينما أنا قائم مع رسولِ الله في الصلاةِ إذ عًطسَ رجُل فحمدَ اللهَ فقلتُ: يَرحَمُكَ اللهُ- رافعا بها صَوتِي- فَرَمَانِي الناسُ بأبْصارِهم حتَى احتمَلَني ذلك، فقلتُ: ما لكم تنظرونَ؟ (فقلت: ما لكم تنظرونً) (1) إِلي بأعين شَزْر؟ قال: فَسَبَّحوا، فلما قَضى النبيُّ - عليه السلام- الصلاةَ قال: " مَنِ المتكلمُ؟ " قيل: هذا الأعرابي فدعاني رسولُ الله/ فقال: " إنمَا الصلاةُ لقرَاءَة القراَن وذكرِ الله، فإذا كنتَ فيها فليكنْ ذلَك شأنَكَ،، فما رأيتَُ مُعلمَا قط أَرفقَ من رسول الله- عليه السلام (2) .
ش- محمد بن يونس النسَائي: روى عن: أبي عامر العقدي، وعبد الله بن يزيد المقرئ. روى عنه: أبو داود، وفُلَيْح بن سُليمان المدني. وهلال بن علي: هو هلال بن أبي ميمونة القرشي المديني.
قوله: " رافعا"، نصب على الحال من الضمير الذي في "فعلتُ ".
قوله: "حتى احتملني ذلك " أي: حتى أغْضبَني فعلُهم ذلك.
قوله:" بأعين شَزْر" الشزْر: النظر عن اليمين والشمال، وقيل: هو النظر بمُؤخر العين، وأكثر ما يكون النظر الشزْر في حال الغضب وإلى الأعْداء.
قوله: "إنما الصلاة لقراءة القراَن وذكر الله" إنما اقتصر على هَذَيْن النَوْعين مطابقة لما صدر من معاوية من الكلام؛ وهذا من بلاغة الكلام، وفصاحة البيان.
قوله:" فليكن ذلك شأنك " أي: فليكن ما ذكر من قراء القرآن وذكر الله، فعلك وقولك في الصلاة.
قوله: " فما رأيتُ مُعَلما " إلى آخره؛ لأنه- عليه السلام- لم
__________
(1) غير موجود في سنن أبي داود، والظاهر أنها مكررة.
(2) تفرد به أبو داود.

(4/188)


يَنْهره، ولم يغضب عليه على ما فَعل من الفعل المحرم في الصلاة، وهذا من كمال خلقه الحسن، ولطافة ذاته الكريمة - صلى الله عليه وسلم -.
* * *
163- بَابُ: التَأمين وَرَاء الإمام
أي: هذا باب في بيان حكم التأمين وراء الإمام.
908- ص- لا محمد بن كثير: نا سفيان، عن سلمة بن كهَيل، عن حُجر أبي العَنْبَس الحَضرمي، عن وائل بن حُجر قال: كان رَسولُ الله- عليه السلام- إذا قَرَأ "ولا الضالِينَ" قال: "آمين "، "رفعَ بها صَوتَه (1) . ش- حُجر- بضم الحاء المهملة، وسكون الجيم-: ابن العنبس الحضرمي، أبو العنبس الكوفي، أدرك الجاهلية ولم يلق النبي- عليه السلام-. سمع: علي بن أبي طالب، ووائل بن حُجر. روى عنه: سلمة بن كهيل، وموسى بن قيس الحضرمي، والمغيرة بن أبي الحر الكندي. قال ابن معين: شيخ كوفي ثقة ومشهور. روى له: أبو داود، والترمذي (2) .
الكلام في "آمين" من وجوه: الأول في لفظه ومعناه، فلفظه صوت سُمي به الفعل، الذي هو استجب، كما أن رويد وحيهل وهلم أصوات سُميت بها الأفعال التي هي: أمْهل، وأسرِعْ، وأقبل.
فإن قيل: الصوت: لفظ حكي به صوت، أو صُوت به للبهائم وهو ليس من القسمين. قلت: إن الصوت ربما يطلق على اللفظ لأنه صَوت يعتمدُ على مخرج الحَرف، وهو المراد هاهنا، وفيه لغتان مد الهمزة وقصرها، وفي حركاته أوجه أصحها: فتح النون؛ وهي القراءة الظاهرة.
__________
(1) الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاء في التأمين (248) " ابن ماء: كتاب إقامة الصلاة والسمعة فيها، باب: الجهر بأمين (855) .
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (5/ 1135) .

(4/189)


لأن أصله: يا أميناه، فحذفت الهاء والألف تخفيفا، فبقيت النون على
الفتحة، ويكون محله الرفع لأنه نداء ندبة، ويقال: إنه مبني على الفتح
ككيف، وأين، وقد تكسر- أيضا-؛ لأن الأصل في البناء: السكون،
فإذا حُركَ حُركَ بالكسْر، وقد يُرفع ظاهره- أيضا- على تأويل من جعله
اسما لله تَعالى فكأنه قال: يا أمينُ، وبالإمالة لغة وقراءة- أيضا- ولو
قرأها بالتشديد فهو خطأ قيل: تفسد به الصلاة. وذكر شمس الأئمة
الحلواني أنه لا تفسد تصحيحا لصلاة العامة؛ لأن له نظيرا، وهو قوله
تعالى: "وَلا آمينَ البَيْتَ الحَرَامَ " (1) ومعناه: ندعو قاصدين، وأما
معناه: فذكر ابن بُزَيزة في " شرح الأحكام" أن ابن عباس سأل رسول الله
عن معنى آمين، فقال: " كذلك يكون ". وعن هلال بن يَساف ومجاهد
وحكيم بن جابر: هي اسم من أسماء الله. وقال عطية العَوْفي: هي
كلمة عبْرانية أو سريانية. وقال عَبْد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي كنز
من كنوز العرش لا يعلمه إلا الله تعالى. وقيل: هي خاتم رب العالمين
على عباده المؤمنين. وفي "بسيط " الواحدي، عن جعفر بن محمد:
معناه: قصدي إليك، وأنت كرم من أن تخيب قاصدا. وفي "الزاهر"
لابن الأنباري: اللهم استجب. وقال ابن قتيبة: معناها: يا أمن أي:
يا الله، وأضمر في نفسك استجب لي. وقال ابن عباس: معناه: اللهم
[2/ 37 - ب] افعل/. وقال الضحاك: هي حروف من أسماء الله عَر وجَل، تختم به قراءة أهل الجنة والنار. وقال وهب: يخلق بكل حرف منه ملك يقول:
اللهم اغفر لمن (2) قال: آمين. وقال أبو علي: وزنه: فعال، والمس
لإشباع؛ لأنه مشى في الكلام أفعال ولا فاعيل ولا فيعيل. وقال
الأخفش: مثلها في العجمية شاهد.
الثاني: هي من القرآن أم لا؟ قال الزمخشري: وليْس من القرآن،
بدليل أنه لم تثبت في المصاحف. وقال ابن الأثير: لا خلاف بين أهل
الإسلام أنها ليست من القرآن العظيم، ولم يكتبها أحد في المصحف.
__________
(1) سورة المائدة: (2) .
(2) في الأصل: "اللهم اغفر لي لمن ".

(4/190)


الثالث: مَن يَقُولها في الصلاة وكيف يقولها؟ قال أصحابنا: وإذا قال الإمام: "ولا الضالين" قال: "آمين" ويَقولُها المؤتم. وروى الحسن عن أبي حنيفة: لا يقولها الإمام لأنه دل والمستمع المأموم، وإنما يؤمن المستمع دون الداعي كما في سائر الأدعية خارج الصلاة.
فإن قيل: ما يقولُ في قوله- عليه السلام-: "إذا أمّن الإمام فأمنوا"؟ قلنا: سُمِّي الإمامُ مُؤمنا باعتبار التسبيب، والمُسببُ يجوز أن يسمى باسم المُباشِر كما يُقال: بَنَى الأميرُ داره، وبمثل هذه الرواية في "المدونة" عن مالك، وفي (العارضة) عنه: لا يؤمن الإمام في صلاة الجهر. وقال ابن حبيب: يُؤمِّن. وقال يحيي بن بكير: هو بالخيار. وقال السفاقسي: وزعمت طائفة من المبتدعة أن لا فضيلة فيها، وعن بعضهم: أنها تفسد الصلاة. وقال ابن حزم: يقولها الإمام سُنَةَ والمأموم فرضا.
وأما كيفية قولها: فقال أصحابنا: الإمام والجماعة يخفونها. وقال الشافعي: يجهر بها الإمام في الصلاة التي يجهر فيها بالقراءة، والمأموم يخافت؛ هكذا ذكر المزني في "مختصره". وفي (الخلاصة) للغزالي: ومن سنن الصلاة: أن يجهر بالتأمين في الجهرية. وقال في (شرح البخاري) : ويجهر بها المأموم عند أحمد وإسحاق وداود. وقال جماعة: يخفيها؛ وهو قول أبي حنيفة والكوفيين، وأحد قولي مالك والشافعي في "الجديد"، وفي "القديم ": يجهر. وعن القاضي حسين عكسُه. قال النووي: وهو غلط؛ ولعله من الناسخ. وقال ابن الأثير: لو قال: "آمين رب العالمين"، وغير ذلك من ذكر الله كان حسناً ثم الشافعي ومن معه تمسكوا في الجهر بالتأمين بهذا الحديث وأمثاله. واحتج أصحابنا بأخبار وآثار؛ منها: ((1) ما روى أحمد، وأبُو داود الطيالسي، وأبُو يعلى الموْصلي في "مسانيدهم"، والطبراني في "معجمه"، والدارقطني في
__________
(1) انظر: نصب الراية (1/ 369) .

(4/191)


" سننه "، والحاكم في "المستدرك " من حديث شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن حجر أبي العنبس، عن علقمة بن وائل، عن أبيه أنه صلى خلف النبي- عليه السلام-، فلما بلغ " غير المغضوب عليهم ولا الضالين" قال: "آمين "، وأخفى بها صوته. أخرجه الحاكم في كتاب " القراءة" ولفظه: وخفض بها صوته. وقال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وقال الدارقطني: هكذا قال شعبة: "وأخفى بها صوته " ويُقالُ: إنه وهِم فيه شعْبة؛ لأن سفيان الثوري ومحمد بن سلمة بن كهيل وغيرهما رووه عن سلمة فقالوا: "ورفع بها صوته"؛ وهو الصواب. وطعن صاحب "التنقيح، في حديث شعبة هذا بأنه قد روي عنه خلافه؟ كما أخرجه البيهقي في " سننه" عن أبي الوليد الطيالسي: نا شعبة، عن سلمه بن كهيل: سمعت حجرا أبا عنبس يُحدثُ عن وائل الحضرمي أنه صلى خلف النبي- عليه السلام- فلما قال: "ولا الضالين" قال: "آمين " رافعا بها صوته. قال: فهذه الرواية توافق رواية سفيان. وقال البيهقي في " المعرفة": إسناد هذه الرواية صحيح، وكان شعبة يقول: سفيان أحفظ. وقال يحيى القطان ويحيى بن معين: إذا خالف شعبةُ سفيانَ (1) ، فالقولُ: قول سفيان- قال: وقد أجمع الحفاظ- البخاري وغيره- أن شعبة أخطأ، وقد روي من أوجه: فجهر بها. انتهى.
قلنا: يكفي لصحة الحديث تصحيح الحاكم وقول الدارقطني، ويقال: إنه وَهم فيه شعبة يدلُ على قلة اعتنائه بكلام/ هذا القائل- وأيضاً قولهم في مثل شعبة: " إنه وهم" لكونه غير معصوم موجود في سفيان، فربما يكون هو وهم، ويمكن أن يكون كلا الإسنادين صحيحاً وقد قال بعض العلماء: والصوابُ أن الخبرين بالجهر بها والمخافتة صحيحان، وعمل بكل منهما جماعة من العلماء، وإن كنتُ مختارا خفضَ الصوت بها؛ إذ كانت الصحابةُ والتابعون على ذلك.
__________
(1) في الأصل: "إذا خالف شعبة يقول سفيان" كذا، وما أثبتناه من نصب الراية.

(4/192)


فإن قيل: (1) قال ابن القطان في كتابه: هذا الحديث فيه أربعة أمور؛ أحدها: اختلاف سفيان وشعبة؛ فشُعبةُ يقولُ:" خَفضَ "، وسفيانُ يقول: " رَفعَ "؛ الثائي: اختلافهما في حُجْر؛ فَشعبةُ يقولُ: حُجر أبو العَنْبس، والثوريُّ يقولُ: حُجر بن عَنْبَسْ، وصوب البخاري وأبو زرعة قولَ الثوري، ولا أَدْري لمَ لم يُصَوبْ قولُهما جميعاً حتى يكون حُجرُ بن عنبس أبا العَنْبس، اللهَم إلا أن يكونا قد علما أنه له كنيةً أخرى، الثالث: أن حُجراً لا يُعرفُ حالُه، والرابع: اختلافُهما - أيضا-؛ فجعَلَه الثوري من رواية حُجْر، عن وائل، وجعَله شعبةُ من رواية حُجر، عن علقمة بن وائل، عن وائل.
قلنا: أما الجوابُ عن الأول: فيُقال: لا يَضر اختلاف سفيان وشعبة؛ لان كلا منهما إمامٌ عظيمٌ في هذا الباب، فلا يُسقطُ رواية أحدهما برواية الآخر، فكل ما يُقالُ في أحدهما من الوَهْم ونحوه يَصدُقُ على الآخر، فلا تحصل بهذا فائدة- كما قررنا آنفا.
والجواب عن الثاني: أن هذا ليس باختلاف؛ لأن حُجراً يجوز أن تكون كنيته: أبا العنبس، ويكونَ هو ابن العَنْبس، فذكره شعبة بكُنْيته والثوريُّ بنَسَبه. وقوله: " اللهم إلا أن يكونا قد عَلما أن له كنيةً أخرى" لا يَضرّنا هذا؛ لأن الشخصَ يجوز أن يكون له كنيتان أو كثر، وكذلك قال الترمذي في " العلل الكبير": سمعتُ محمد بن إسماعيل يَقولُ: حَديثُ الثوري، عن سلمة في هذا الباب أصحُّ من حديث شعبة، وشعبةُ اخطأ في هذا الحديث في مواضع قال: عن سلمة بن حُجر أبي العَنْبس؛ وإنما هو ابن عنبس وكنيتُه: أبو السَّكن. وهذا- أيضا- بَعيدٌ من البخاري، فكيف يُخطئ مثلَ شعبة بمثل هذا الكلام؟ لأنه لمَ لا يجوز ابن يكون حُجر مكنى بكُنيتَين بأبي العنبر وبأبي السَّكن، فذكَره شعبةُ بكُنيته التي عَرفه بها، وغيرهُ ذكره بكُنْيته الأخرى، فهذا ليس بمستحيل ولا مُستَبْعدِ حتى يُخطَّأ شُعْبةُ بمثل هذا.
__________
(1) انظر: نصب الراية (1/ 369- 0 37) .
31. شرح سنن أبي داود 4

(4/193)


والجواب عن الثالث: أن قوله: " إن حجرا لا يُعرفُ حاله " ممنوع وكيف لا يُعرفُ حاله؟ وقد ذكره أبو القاسم البغويُّ وأبو الفرج البغدادي وابنُ الأثير وغيرهم في جملة الصحابة، ولئن نزلناه عن رُتبة الصحابة إلى التابعين فقد وجَدنْا جماعة أثنَوْا عليه ووثقوه؟ منهم: الخطيبُ أبو بكر البغدادي، قال: سار مَعَ علي إلى النَهْروان، وورَد المدائنَ في صحبته
وهو ثقة، احتج بحديثه غيرُ واحد من الأئمة، وذكره ابن حبان في
"الثقات ". وقال ابن معين: كوفي ثقة مشهورٌ.
والجواب عن الرابع: أن دخول علقمة في الوسط ليس بعَيْب؛ لأنه
سمعه من علقمة أولا بنُزولي ثم رواه عن وائل بعلُوّ؛ بينَ ذلكَ الكجي في
"سُنَنه الكبير".
ومنها: ما روى محمدُ بن الحسن في كتاب "الاَثار": حدثنا
أبو حنيفة: نا حماد بن أبي سليمان، عن إبراهيم النخعي قال: أربع
يُخفيهن الإمامُ: التَعوذُ، وبسم الله الرحمن الرحيم، وسبحانك اللهم،
وآميَن. ورواه عبد الرزاق في " مُصنفه": أخبرنا معمر، عن حماد به،
فذكره إلا أنه قال عوض قوله:"سبحانك اللهم ": " اللهم ربنا لك الحمد"، ثم قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم قال:
خمسٌ يخفيهن الإمامُ، فذكرها، وزاد: سبحانك اللهم وبحمدك.
ومنها: ما روى الطبري في " تهذيب الاَثار": نا أبو بكر بن عياش،
عن أبي سعيد، عن أبي وائل قال: لم يكن عمرُ وعلي يجهران ببسم الله
الرحمن الرحيم ولا بآمين.
وحديثُ وائل: أخرجه الترمذي- أيضا-، وابن ماجه؛ ولفظ [2/38 - ب] الترمذي: (ومَدَّ بها صوتَه " / وقال: وفي الباب عن عليه وأبي هريرة. قال أبو عيسى: حديث وائل بن حجر حديث حسن، وبه يقول غير
واحد من أهل العلم من أصحاب النبي- عليه السلام- والتابعين ومَن بعدهم، يَرَوْن أن الرجل يرفع صوته بالتأمين ولا يخفيها، وبه يقول
الشافعي وأحمد وإسحاق.

(4/194)


909- ص- نا مخلد (1) بن خالد الشعيري: نا ابنُ نمير: نا علي بن صالح، عن سَلمة بن كُهيل، عن حُجر بنِ عنْبَس، عن وائل بن حُجر أنه صَلَّي خلفَ النبيٍّ - عليه السلام- فجهَر بآمينَ وسلّم عن يمينه وعن شمَاله حتى رَأيتُ بياض خَدهِ (2) .ًً ش- مخلد (3) بن خالد 00. (4) ، والشعِيري: بفتح الشين المعجمة وكسر العين المهملة، وابن نُمير: هو عبد الله بن نُمير.
وعلي بن صالح: ابن حي الهمداني أبو محمد، ويقال: أبو الحسن الكوفي أخو الحَسن؛ وهما توأمان. روى عن: أبيه، وإبراهيم بن مهاجر، وسلمة بن كُهيل وغيرهم. روى عنه: أخوه: الحسن، ووكيع، وأبو الزبير، وغيرهم. قال أحمد وابن معين: ثقة. روى له: الجماعة إلا البخاري (5) .
واستدلّ أشرف الدين بن مجيب الكاساني صاحب " البدائع" لأبي حنيفة في إخفاء آمين بقوله- عليه السلام-: "إذا قال الإمام: ولا الضالين فقولوا: آمين،، فإن الإمام يَقولُها، ولو كان مسموعا لكانوا علموا بقولها؛ ولأنه من باب الدعاء؛ لأن معناه: اللهم أجبْ أو ليكن كذلك قال الله تعالى: "قَدْ أجيبَت دعوَتُكُمَا" (6) ومُوسى كان يدعو وهارون كان يؤمن، والسُّنَّة فيه الدعاء: الإِخفاء. وحديث وائل طعن فيه إبراهيم النوعي وقال: أشهِد وائل وغابَ عبدُ الله؟ على أنه- عليه السلام- جهر مرةً للتعليم.
__________
(1) في الأصل: "محمد" خطأ.
(2) الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاه في التأمين (249) .
(3) في الأصل: "محمد".
(4) بيض له المصنف قدر ثلاثة أرباع السطر، وهو مترجم في تهذيب الكمال (27/ 5834) ، وكأن المصنف- رحمه الله- لما ذكره بمحمد لم يجد له ترجمة فبيض له لذلك.
(5) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (20/ 4084) .
(6) سورة يونس: (89) .

(4/195)


910- ص- نا نصر بن علي: نا صفوان بن عيسى، عن بشْر بن رافع، عن أبي عبد الله ابن عم أبي هريرةَ، عن أبي هريرةَ قال: كان رسولُ اللهِ إِذا تَلا: "غير المَغْضُوب عليهم ولا الضالينَ " قال: آمين حتى يُسْمِعَ منْ يليه من الصف الأولِ (1) .
ش- نَصْر بن علي: الجهضمي البصري، وصفوان بن عيسى: القرشي البصري.
وبشْر بن رافع: النجراني- بالنون والجيم- أبو الأسباط الحارثي إمام أهل نجران ومفتيهم. سمع: أبا عبد الله ابن عم أبي هريرة، وعبد الله ابن سليمان بن جنادة، ويحيى بن أبي كثير. روى عنه: يحيي بن أبي كثير، وعبد الرزاق بن همام، وصفوان بن عيسى. وقال البخاري: لا يتابع في حديثه. وقال النسائي: هو ضعيف. وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالقوي عندهم. وقال أبو حاتم: ضعيف منكر الحديث. وقال ابن عدي: هو مقارب الحديث، لا بأس بأخباره، ولم أجد له حديثا منكراً وعند البخاري: إن بشر بن رافع هذا أبو الأسباط الحارثي. وعند يحيى ابن معين: إن أبا الأسباط شيخ كوفي ثقة. ولكن ذكر يوسف بن سلمان، عن حاتم، عن أبي أسْباط الحارثي اليمامة (2) . وعند النسائي: أن بشْر بن رافع غير أبي الأسباط. وما قاله كل واحد منهم محتمل، والله العلم، وإن كانا اثني فكأن أحاديث بشر بن رافع أنكر من أحاديث أبي الأسْباط. روى له: أبو داود، والترمذي، وابن ماجه (3) .
وأبو عبد الله الدولي ابن عم أبي هريرة: قال ابن أبي حاتم في كتاب
" الكنى ": اسمُه: عبد الرحمن بن هضاض، ويقال: هضهاض، والصحيح: هضاض. روى عن: أبي هريرة. روى له: أبو داود، وابن ماجه (4) .
__________
(1) ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: الجهر بأمين (853) .
(2) في تهذيب الكمال: " اليماني ".
(3) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (4/687) .
(4) المصدر السابق (34/ 7473) .

(4/196)


قوله: " حتى يُسمع" منْ أسمع يُسمع إسْماعاً. والحديث: أخرجه ابن ماجه- أيضا- بسند ضعيف.
911- ص- نا القعنبي، عن مالك، عن سمي مولى أبي بكر، عنْ أبي صالح السمان، عن أبي هريرةَ، أن النبي- عليه السلام- قال:، إذا قال الإمامُ: "غَيرِ المغضُوب عَلَيهم ولا الضالينَ " فقولوا: آمين فإنه مَن وافَق قولُه قَولَ الملائكة غفِرَ له ما تقدمًّ من ذنبِه " (1) .
ش- أي: من الصَغائر وما لا يكاد ينفك عنه في الغالب من اللمَم. والحديث: أخرجه البخاري، والنسائي، وعبد الرزاق في "مصنفه " وابْنُ حبان في " صحيحه"، (2) وزاد فيه البخاري في كتاب "الدعوات ": "فإن الملائكة تؤمن، فمَنْ وافق تأمينه" الحديث. وقال
ابن حبان في "صحيحه": "فإن الملائكة تقولُ: َ آمين، ثم قال: يُريدُ
أنه إذا أمن كتأمين الملائكة/ من غير إعجاب ولا سُمْعة ولا رياء، خالصا [2/39- أ] لله تعالى؛ فإنه حينئذ يغفر له.
قلت: هذا التفسيرُ يندفع بما في "الصحيحين " عن مالك، عن
أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، عن النبي- عليه السلام-:
"إذا قال أحدكم: آمين، وقالت الملائكة في السماء: [آمين] ، ووافقت
إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه،. انتهى. وزاد فيه مسلم:
"إذا قال أحدكم في الصلاة " ولم يقلها البخاري وغيره؛ وهي زيادة
حسنة، نبه عليها عبد الحق في الجمع بين الصحيحين،، وفي هذا اللفظ
فائدة أخرى وهي: اندراج المنفرد فيه، وغير هذا اللفظ إنما هو في الإمام
وفي المأموم أو فيهما، والله أعلم.
912- ص- لا المعنى، عن مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد بن
__________
(1) البخاري: كتاب الدعوات، باب: التامين (6402) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: جهر الإمام بأمين (2/ 144) .
(2) انظر: نصب الراية (1/368) .

(4/197)


المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنهما أخبراه عن أبي هريرةَ، أن رسول الله- عليه السلام- قال: " إذا أَمَّنَ الإمامُ فأمَنوا، فإنه مَنْ وَافقَ تأمِينُه تَأمنَ الملائكة غُفِرَ له ما تقلَّمَ مِنْ ذنبه" (1) .
ش- الأَمر فيه للاستحباب بإجماع العلماء، خلافا لابن حَزْم، فإنه فرض التأمين على المأموم، كما ذكرناه.
والحديث: أخرجه الستةُ في كتبهم؛ ولفظ النسائي، وابن ماجه: " إذا أمن القارئ ". ورواه البيهقي؛ ولفظه: " إذا قال القارئ: غير المغضوب عليهم ولا الضالين، فقال من خلفه: آمين، ووافق ذلك قول أهل السماء: آمين، غفر له ما تقدمّ من ذنبه ". ورواه أبو محمد الدارمي في "مسنده ".
ص- قال ابن شهاب: وكان رسولُ الله يقولُ: آمين.
ش- أي: قال محمد بن مسلم الزهري: كان رسول الله- أيضا- يقولُ: آمين. وقال البخاري- أيضا: قال ابن شهاب.. إلى آخره. قال السَّفاقُسي: هذا مُرسل ولمِ يُسنده، ولو أسنده لم يكن فيه دليل للمتعلّق، لأنه لم يَقل أنه كان يقولُه في صلاة الجهر، ولعله قاله فيما صلى سرا.
913- ص- نا إسحاق بن إبراهيم بن راهويه: نا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي عثمان، عن بلال أنه قال: يا رسولَ اللهِ، لا تسبقْنِي بآمين (2) .
__________
(1) البخاري: كتاب الأذان، باب: جهر الإمام بالتأمين (780) ، مسلم: كتاب الصلاة، باب: التسميع والتحميد والتأمين (410) ، الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاء في فضل التأمين (250) ، النسائي: كتاب الافتتاح، باب: جهر الإمام باسمين (2/ 143، 144) ، وله عنده ألفاظ أحدها مثل لفظ الباب، ابن ماجه: كتاب إقامة الصلاة، باب: الجهر بأمين (852) .
(2) تفرد به أبو داود.

(4/198)


ش- إسحاق بن إبراهيم: ابن مخلد بن إبراهيم بن عبد الله بن مطر أبو يَعْقوب المروزي المعروف بابن رَاهويه، سكن نيسابور، وسمع: عبدة ابن سليمان، وأبا عامر العَقدي، وإسماعيل ابن عليّة، ووكيعا، وابن المبارك، وجماعة آخرين كثيرة. روى عنه: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والنسائي، والترمذي، وأحمد بن حنبل، وابن معين، وجماعة آخرون كثيرةٌ. وقال أحمد: إسحاق عندنا إمام من أئمة المسلمين. وقال أبو داود الخفاف: أملى علينا إسحاق بن راهويه أحد عشر ألف حديث من حفظه، ثم قرأها عليه، فما زاد حرفا ولا نقص حرفا. وعن محمد بن يحيى بن خالد: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: أعرف مكان مائة ألف حديث كأني أنظر إليها، وأحفظ سبعين ألف حديث عن ظهر قلبي، وأحفظ أربعة آلاف حديث مُزوّرة، فقيل له: ما معنى المزورة؟ قال: إذا مر بي منها حديث في الأحاديث الصحيحة قلبتُه منها قلبا. وقال أحمد بن سلمة: سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: قال لي عبد الله بن طاهر: لم قيل لك ابن راهَوَيْه؟ وما معنى هذا؟ وهل تكره أن يُقال لك هذا؟ قال: اعلم أيها الأميرُ: أن أبي ولد في طريق مكة، فقال المراوزة: راهوَيْ؛ لأنه وُلد في الطريق، وكان أبي يكره هذا، وأما أنا فلستُ كرَهُه. وتوفي إسحاق بن راهويه ليلة النصف من شعبان، سنة سبع أو ثمان وثلاثين ومائتين، وهو ابن سبْع وسبعين سنة (1) .
وعاصم: الأحول، وأبو عثمان: عبد الرحمن بن مَل النهدي، وبلال: ابن رباح (2) - رضي الله عنه-.
قوله: " لا تسبقني بآمين" أوّلُوه على وجهين؛ الأول: أن بلالا كان يقرأ الفاتحة في السكتة الأولى من سكوتي الإمام، فربما يبقى عليه شيء منها ورسول الله- عليه السلام- قد فرغ من قراءتها، فاستمهله بلال في
__________
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (2/ 332) .
(2) في الأصل: " ابن أبي رباح".

(4/199)


التأمين بقدر ما يتم فيه قراءة بقية السورة، حتى ينال بركة على بركة موافقته
في التأمين له، الثاني: أن بلالا كان يقيم في الموضع الذي يؤذن فيه من
وراء الصفوف فإذا قال: قد قامت الصلاة كبّر النبي- عليه السلام-، [2/39 - ب] فربما سبقه ببعض ما يقرأه، فاستمهله بلال قدر ما يلحق/ القراءة والتأمينَ.
قلت: هذا الحديث مُرسل، وقال الحاكم في "الأحكام ": قيل: إن
أبا عثمان لم يُدرك بلالا. وقال أبو حاتم الرازي: رفعه خطأ، ورواية
الثقات عن عاصم، عن أبي عثمان مُرسلاً. وقال البيهقي: وقيل:- عن
أبي عثمان، عن سلمان قال: قال بلال؛ وهو ضعيف ليس بشيء.
914- ص- نا الوليد بن عُتبة الدمشقي، ومحمودُ بن خالد قالا: نا
الفريابي، عن صَبِيح بن مُحْرز الحمْصي قال: حدَّثني أبو مُصبِّح المُقْرائي
قالَ: كنا نجلسُ إلى أبي زُهَيْر النُمَيْرَي- وكان من الصحابة- فنَتحدّثُ (1)
أحسنَ الحديث، فإذا دَعَى الرجلُ منا بدُعاء قال: اختِمْه بَآمين؛ فإن آمينَ
مِثلَ الطَّابَع على الصَّحيفة. قال أبو زهير: أخبرُكُم عن ذلكَ؟ خَرجْنَا مع
رسول اللهِ ذاتَ ليلة فأَتَيْناَ على رجل قد ألغ في المسألة، فوقفَ النبيُّ- عليه السلام- يَسْتمعُ منهَ، فقال النبي- عليه السلام-: " أَوْجَبَ إن خَتَم " فقال
رجل من القوم: بأي شيء يختمُ؟ قال: " بآمين؛ فإنه إن ختم بآمينَ فقد
أوْجبَ" فانْصرفَ الرجلُ الّذي سألَ النبي- عليه السلام- فأتَى الرجَلَ فقال
له (2) : اختِم يا فلانُ بآمين وأبشِرْ (3) .
ش- الوليد بن عتبة: أبو العباس الدمشقي الأشجعي. روى عن:
الوليد بن مسلم، وبقية بن الوليد، والفريابي، وغيرهم. روى عنه:
أبو زمعة الدمشقي، والرازي، وأبو داود، وجماعة آخرون. وقال
__________
(1) في سنن أبي داود: "فيتحدث ".
(2) كلمة "له" غير موجودة في سن أبي داود.
(3) تفرد به أبو داود.

(4/200)


البخاري: معروف الحديث. مات في جمادى الأولى سنة أربعين ومائتين، وولد سنة ست وسبعين ومائة، ويقال: مات بصُور (1) . ومحمود بن خالد: أبو علي الدمشقي، والفرْيابي: هو محمد بن يوسف بن واقد الفِريابي.
وصبيح بن مُحْرز- بفتح الصاد، وكسْر الباء-: الحِمصي. روى عن: أبي مُصبح. روى عنه: الفِريابي. روى له: أبو داود (2) .
وأبو مُصبح المُقْرائي: الأوزاعي الحمْصي، ذكر ابن أبي حاتم أنه دمشقي؛ والصحيح: أنه حِمصيّ. روى عن: أبي زهير النُّميري، وجابر بن عبد الله، وثوبان مولى رسول الله، وشرحبيل بن السًّمْط، وكعب الأحْبار. روى عنه: ابن جابر، وحصين بن حرْملة، وأمية بن يزيد. سئل عنه أبو زرعة فقال: ثقة، لا أعرف اسمه. روى له: أبو داود (3) .
وأبو زُهير: قيل: اسمه: فلان بن شرحبيل، وقال أبو حاتم الرازي:
إنه غير معروف بكنيته فكيف نعرف اسمَه؟. وفي " الكمال": قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: قيل لأبي: إن رجلاً سماه يحيى بن نُفير فلم يَعْرفه، وقال: إنه غير معروف بكنيته فكيف نَعرف اسمه. كان يسكن الشام. روى له: أبو داود (4) .
قوله: " مثل الطابع " الطابَع- بفتح الباء-: الختم؛ يريد أنه يختم عليها ويُرفع كما يفعل الرجل بما يعْسر عليه، والطابع بكسر الباء لغة فيه؛ والطبعْ: الختم؛ وهو التأثير في الطين ونحوه.
قوله: " أوْجَبَ إن ختم " يقال: أوْجب الرجل إذا فعل فعلا وجبت له
__________
(1) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (31/ 6720) .
(2) المصدر السابق (13/ 2849) .
(3) المصدر السابق (34/ 0 763) .
(4) انظر ترجمته في: الاستيعاب بهامش الإصابة (79/4) ، وأسد الغابة (6/ 126) ، والإصابة (4/ كلام.

(4/201)


به الجنة أو النارُ. وعند البَيْهقي: عن أبي زهير النميري: سمع - صلى الله عليه وسلم - رجلاً يلح في المسألة، فقال النبي- عليه السلام-: " أوجبَ إن ختم " فقال رجل: بأي شيء يختم؟ قال: "بآمين؛ فإنه إن ختم بآمين فقَدْ أوجبَ "، وذكر هذا الحديث لأبي عمر (1) النمري فقال: ليس إسناده بالقائم.
ص- وهذا لفظُ محمودِ.
ش- أي: هذا الحديث بهذا اللفظ: لفظ محمود بن خالد الدمشقي. ص- وقال أبو داود: والمُقْرَاء قبيلٌ (2) من حِمْيرِ.
ش- أراد به بيان نسْبة أبي مُصَبح المُقْرائي. المُقْرِئ: بضم الميم، وسكون القاف، ويقال: بفتح الميم، وصوبه بعضهم وهي قبيل من حمير؛ والنسبة إليها "مقرائي " بضم الميم وفتحها. وذكر أبو سعيد المروزي أن هذه نسْبة إلى مَقَراء قرية بدمشق، والأولُ أشهرُ. وأبو مُصبح: بضم الميم، وفتح الصاد المهملة، وكسْر الباء الموحدة وتشديدها، وبعدها حاء مهملة.