شرح أبي داود
للعيني 73- باب: المشي بين
القبور في النعل (1)
أي: هذا باب في بيان المشي بين القبور، والماشي لابس
النعل.
1664- ص- نا سهل بن بكار، نا الأسود بن شيبان، عن خالد بن
سمير السدوسي، عن بشير بن نهيك، عن بشير مولى رسول الله
صلى الله عليه وسلم وكان اسمه في الجاهلية: زحمَ بنَ معبد،
فهاجر إلى رسول الله- عليه السلام- فقال: " ما اسمُكَ؟
قال: زَحْم، فقال (2) : بل أنَتَ بشير، قال: بينما أنا
أمَاشي رسولَ الله- عليه السلام- مَر بقُبورِ المشركينَ،
قال: لقد سَبَقَ هؤلاء خيرا كثيراً ثلاثاً ثم مَر بقبورِ
المسلمينَ فقال: لقد أدركَ هؤلاء خيراً كثيراً، وحَانتْ من
رسول اللهِ نظرة، فإذا رجل يمشِي في القُبورِ عليه نعلَانِ
فقال: يا صاحبَ السبتيتين وَيْحكَ، ألقِ سبْتيتيْكَ، فنظر
الرجلُ فلَما عَرَفَ رسولَ اللهِ خَلَعَهُمَا، فَرَمى بهما
" (3) .
ش- بَشير بن نهيك بفتح الباء الموحدة، وكسر الشين المعجمة،
ونهيك بالنون، وبشير مولى النبي- عليه السلام- هو ابن
الخصاصية وهي أمه، وأبوه: معبد بن شراحيل السدوسي، وقد مر
مرة.
قوله: "زحم بن معبد " بفتح الزاد، وسكون الحاء المهملة.
قوله: " لقد سبق هؤلاء خيرا كثيرا " والمعنى فاتهم خير
كثير، وخرجوا منه، ولم يعلقوا منه بشيء.
__________
(1) في سنن أبي داود: "باب المشي في النعل بين القبور".
(2) في سنن أبي داود:" قال".
(3) النسائي: كتاب الجنائز، باب: كراهية المشي بين القبور
في النعال السبتية (96/4) ، ابن ماجه: كتاب الجنائز، باب:
ما جاء في خلع النعلين في المقابر (1568) .
(6/186)
قوله: " ثلاثا " أي: قاله ثلاث مرات.
قوله: " وحانت من رسول الله نظرة " أي: وقعت منه نظرة من
حان إذا قرب.
قوله: "يا صاحب السبتيتين" أي صاحب النعلين، السبة- بكسر
السين وسكون الباء الموحدة- جلود البقر المدبوغة بالقرب،
يتخذ منها النعال، سميت بذلك لأن شعرها قد سبت عنها، أي:
حلق وأزيل، وقيل: لأنها انْسَبَتَتْ بالدباغ، أي: لانت
وهاهنا روي على النسب إلى السبت، وقال ابن الأثير (1) : "
دائما أمره بالخلع احتراما للمقابر، لأنه كان يمشي بينها،
وقيل: لأن كان بها قذرا، أو لاختياله في مشيه، ومنه حديث
ابن عمر: "قيل له: إنك تلبس النعال السبتية، إنما اعترض
عليه لأنها نعال أهل النعمة والسعة،. وقال الخطابي (2) :
"وخبر أنس يدل على جواز لبس النعال لزائر القبور، وللماشي
بحضرتها، وبين ظهرانيها، فأما خبر السبتيتين فيشبه أن يكون
إنما كره ذلك لما فيها من الخيلاء، وذلك أن يقال: السِّبت
من لباس أهل اقترفه والتنعم، قال الشاعر يمدح رجلا:
يُحذى نعال السبت ليس بتوائم
فأحب رسول الله- عليه السلام- أن يكون دخوله المقابر على
زي التواضع، ولباس أهل الخشوع.
قلت: أراد الخطابي بحديث أنس الحديث الذي يلي هذا الحديث،
ولكنه لا يدل على ما ادعاه، لأنه ساكت عن ذلك، فافهم.
قوله: "ويحك" كلمة ترحم وشفقة، وعكسها ويلكم والحديث أخرجه
النسائي، وابن ماجه.
1665- ص- نا محمد بن سليمان الأنباري، نا عبد الوهاب- يعني
ابن عطاء - عن سعيد، عن قتادة، عن أنس- رضي الله عنه- عن
النبي - عليه السلام- أنه قال: "إن العبدَ إذا وُضع في
قبره وتولى عنه أصحابه إنه لَيَسْمعُ قَرع نِعَالِهِم" (3)
.
__________
(1) النهاية (2/ 0 33) .
(2) معالم السنن (1/ 276) .
(3) البخاري: كتاب الجنائز، باب: الميت يسمع خفق النعال
(1338) ، مسلم:=
(6/187)
ش- سعيد بن أبي عروبة.
قوله: " إنه" أي: إن الميت.
قوله: "قرع نعالهم" أي: صوت دوس النعال على الأرض، وفيه
دليل على أن الميت تعود إليه روحه لأجل السؤال، وأنه يسمع
صوت نعال الأحياء، وهو في السؤال، والحديث أخرجه: البخاري،
ومسلم، والنسائي- رحمهم الله-.
74- باب: الميت يحول من موضعه
للأمر يحدث (1)
أي: هذا باب في بيان تحويل الميت من قبره لأمر يحدث ويقتضي
ذلك،
وفي بعض النسخ: "باب تحويل الميت عن موضعه للأمر يحدث".
1666- ص- نا سليمان بن حرب، نا حماد بن زيد، عن سعيد بن
يزيد أبي مسلمة، عن أبي نضرة، عن جابر، قال: "دُفِنَ مع
أبي رجل،
فكان في نَفْسِي من ذلك حاجة، فأخرجتُه بعد ستةِ أشهرِ فما
أنكرتُ منه
شيئا إلا شُعيراتِ كن في لحينِهِ مما بلي الأرضَ" (2) .
ش- سعيد بن يزيد الأزدي أبو مسلمة البصري، ويقال: الطاحي
(3)
القصير. سمع: أنس بن مالك، وأبا نضرة، وعبد الله بن غالب.
روي عنه: شعبة، وحماد بن زيد، وابن علية، قال ابن معين:
ثقة،
روى له: الجماعة (4)
وأبو نضرة المنذر بن مالك العوقي، وجابر بن عبد الله.
__________
= كتاب الجنة، باب: عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه
(2870) ، النسائي: كتاب الجنائز، باب: المسألة في القبر
(4/ 97) (2050) .
(1) في سنن أبي داود: "باب في تحويل الميت من موضعه للأمر
يحدث ".
(2) تفرد به أبو داود.
(3) في الأصل:" الطائي " خطأ.
(4) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (11/ 2381) .
(6/188)
قوله: "فكان في نفسي من ذلك " أي: من كونه
دفن مع ذلك الرجل "حاجة" أي: قلق واضطراب دعاني ذلك إلى
إخراجه من قبره.
قوله: "شعيرات" جمع شعيرة تصغير شعرة ... (1)
75- باب (2) : الثناء على الميت
أي: هذا باب في بيان الثناء على الميت.
1667- ص- نا حفص بن عمر، نا شعبة، عن إبراهيم بن عامر، عن
عامر بن سعد، عن أبي هريرة، قال: " مَروا على رسول الله-
عليه السلام- بجَنازَة فَأثنوا عليها خيرا، فقال: وَجَبتْ،
ثم مَروُا بأخرى، فأثْنَوا شرا فقال: وَجبتْ، ثم قال: إن
بعضكُم على بعض شُهداء" (3) .
ش- إبراهيم بن عامر بن مسعود بن أمية بن خلف القرشي الجمحي
الكوفي. روى عن: سعيد بن المسيب، وعامر بن سعد بن أبي
وقاص. روى عنه: شعبة، والثوري، ومسعر، قال ابن معين: ثقة،
وقال أبو حاتم: صدوق لا بأس به. روى له: أبو داود،
والنسائي (4) . قوله: " وجبت" أي: وجبت الجنة في الأول،
وفي الثاني وجبت النار، والمعنى أن ثناءهم عليه بالخير يدل
على أن أفعاله كانت خيرا، فوجبت له الجنة، وثناءهم عليه
بالشر يدل على أن أفعاله كانت شرا فوجبت له النار، وذلك
لأن المؤمنين شهداء بعضهم على بعض،
__________
(1) بياض في الأصل قدر سطرين وثلث.
(2) في سنن أبي داود:" باب في".
(3) البخاري: كتاب الجنائز، باب: ثناء الناس على الميت
(1367) ، مسلم: كتاب الجنائز، باب: فيمن يثنى عليه خير أو
شر من الموتى (949) ، الترمذي: كتاب الجنائز، باب: ما جاء
في الثناء الحسن على الميت لله (1085) ، النسائي: كتاب
الجنائز، باب: الثناء (4/ 50) ، ابن ماجه: كتاب الجنائز،
باب: ما جاء في الثناء على الميت (1491) .
(4) نظر ترجمته في: تهذيب الكمال (2/ 187) .
(6/189)
والحديث أخرجه النسائي، وقد أخرجه:
البخاري، ومسلم، وابن ماجه من حديث ثابت البناني، عن أنس-
رضي الله عنه-.
76- باب: في زيارة القبور
أي: هذا باب في بيان زيارة القبور.
1668- ص- نا محمد بن سليمان الأنباري، نا محمد بن عبيد، عن
يزيد بن كيسان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة- رضي الله عنه-
قال: " أتَى رسولُ الله على قبرَ أمّهِ فبكَى وأبْكَى مَن
حولَه، فقال: استأذنتُ ربِّي- عز وجل- عَلى أن أستغفر لها
فلم يُؤْذنْ لي، واستأذنتُه أن أزورَ قبرهَا فَأذن لي،
فَزُورُوا القُبورَ، فإنها تُذكرُ بالموتِ" (1) .
ش- محمد بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي الأحدب، وأبو حازم
بالحاء المهملة والزاي سلمان الأشجعي الكوفي، مولى عزة
الأشجعية.
قوله: " قبر أمه ما هي آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة
بن كلاب
ابن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر، وقال ابن إسحاق:
فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ست سنين توفيت أمه
آمنة بنت وهب بالأجواء بين مكة والمدينة، كانت قد قدمت به
على أخواله من بني عدي بن النجار تزيره إياهم، فماتت وهي
راجعة به إلى مكة. وعن ابن بريدة، عن أبيه، قال: "خرجنا مع
رسول الله- عليه السلام- حتى إذا كنا بودان قال: مكانكم
حتى آتيكم، فانطلق، ثم جاءنا وهو يقبل (2) فقال: إني قد
أتيت قبر أم محمد، فسألت ربي الشفاعة- يعني لها- فمنعنيها،
وإني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها" رواه أحمد (3) .
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز، باب: استئذان النبي صلى الله عليه
وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (976) ، النسائي: كتاب
الجنائز، باب: زيارة قبر المشرك (4/ 0 9) ،
ابن ماجه: كتاب الجنائز، باب: ما جاء في زيارة القبور
(1569) .
(2) كذا، وفي المسند: " وهو سقيم ".
(3) مسند أحمد (5/ 356، 357) ، وتصحف فيه " ابن بريدة" إلى
"أبي بريدة".
(6/190)
قال ابن كثير: وأما الحديث الذي ذكره
السهيلي عن عائشة: "أن
رسول الله- عليه السلام- سأل ربه أن يدعي أبويه فأحياهما،
وآمنا به "
فإنه حديث منكر جدا، وإن كان ممكنا بالنظر إلى قدرة الله
تعالى لكن
الذي ثبت في الصحيح يعارضه/ وهو ما رواه أنس "أن رجلا قال:
يا رسول الله، أين أبي؟ قال: في النار، فلما قفا دعاه
فقال: إن أبي وأباك في النار " رواه مسلم.
قلت: الذي ذكره السهيلي هو اللائق بحضرة الرسالة وتدفع
المعارضة
بأن يكون وقوع حديث الإحياء بعد وقوع الذي ثبت في الصحيح،
فليتأمل.
قوله: "فإنها تذكر" أي: فان زيارة القبور تذكر بالموت،
وثبت من
هذا أن زيارة القبور جائزة، وأن النهي عنها قد انتسخ،
والحديث أخرجه:
مسلم، والنسائي، وابن ماجه.
1669- ص- نا أحمد بن يونس، نا مُعرف بنُ واصل، عن محارب
ابن دثار، عن ابن بعيدة، عن أبيه، قال: قال رسول الله-
عليه السلام-:
"نهيتُكُم عن زيارة القُبورِ فزُورُوها، فإن في زيارَتِها
تذكرةً" (1) .
ش- مُعرف بن واصل أبو بدل السعدي الكوفي. سمع: أبا وائل،
وابن بعيدة، ومحارب بن دثار، والشعبي، والنخعي. روى عنه:
وكيع، وأبو نعيم، وأحمد بن عبد الله بن يونس، قال أحمد بن
حنبل:
ثقة ثقة. روى له: البخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي (2)
.
وابن فريدة: عبد الله بن شريدة بن الحبيب.
قوله: " تذكرة " بالنصب، أي: تذكرة للموت وموعظة. والحديث
أخرجه مسلم، والنسائي بنحوه.
__________
(1) مسلم: كتاب الجنائز، باب: استئذان النبي ربه عز وجل في
زيارة قبر أمه (977) ، النسائي: كتاب الجنائز، باب: زيارة
القبور (4/ 89) .
(2) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (28/ 84 0 6) .
(6/191)
77- باب: كراهة (1) زيارة النساء القبور
أي: هذا باب في بيان كراهة زيارة النساء القبور.
1670- ص- نا محمد بن كثير، أنا شعبة، عن محمد بن جُحادة،
قال: سمعت أبا صالح يحدث، عن ابن عباسِ- رضي الله عنهما-
قال: " لَعنَ رسولُ اللهِ " زَائرَاتِ القُبورِ،
والمتَّخِذين عليها المساجِدَ والسرُجَ " (2) .
ش- أبو صالح هذا باذان، وقيل: باذام الهاشمي، مولى أم هانئ
بنت أبي طالب الكوفي. روى عن: أم هانئ، وأخيها علي، وابن
عباس، وأبي هريرة. روى عنه: إسماعيل بن أبي خالد، والسدي،
وسماك، والثوري وآخرون، قال يحيى بن سعيد: لم أر أحدا من
أصحابنا ترك أبا صالح مولى أم هانئ، وما سمعت أحدا من
الناس يقول فيه شيئا، ولم يتركه شعبة، ولا زائدة، وقال
أحمد: كان ابن مهدي يترك حديث أبي صالح. وقال ابن معين:
ليس به بأس، وإذا روى عنه الكلبي فليس بشيء. وقال أبو
حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال ابن عدي: عامة ما
يرويه تفسير، وما أقل ما له في المسند، ولم أعلم أحدا من
المتقدمة رضيه. روى له: أبو داود، والترمذي (3) .
قوله: " زائرات القبور" أي: لعن نساء زائرات القبور،
ويستفاد من الحديث ثلاث فوائد، الأولى: كراهة زيارة النساء
القبور، واختلف العلماء هل هو كراهة تنزيه أو تحريم، قيل:
تنزيه، والجمهور على أنه تحريم وهو الأصح، وعليه الفتوى.
الثانية: كراهة اتخاذ المساجد على القبور.
__________
(1) في سنن أبي داود:" باب في زيارة ... ".
(2) الترمذي: كتاب الصلاة، باب: ما جاء في كراهية أن يتخذ
على القبر مسجدا (320) ، النسائي: كتاب الجنائز، باب:
التغليظ في اتخاذ السرج على القبور (95/4) ، ابن ماجه:
كتاب الجنائز، باب: ما جاء في النهي عن زيارة النساء
القبور (1575) .
(3) انظر ترجمته في: تهذيب الكمال (4/ 636) .
(6/192)
الثالثة: كراهة اتخاذ السرج عليها، و
"السُّرجٌ " بضمتين جمع سراج، والحديث أخرجه: الترمذي،
والنسائي، وابن ماجه، وقال الترمذي: حديث حسن، وقال
المنذري: وفيما قاله نظر، فإن أبا صالح هذا هو: باذام مكي
مولى أم هانئ بنت أبي طالب، وهو صاحب الكلبي، وقد قيل: إنه
لم يسمع من ابن عباس، وقد تكلم فيه جماعة من الأئمة، وقد
نُقِلَ عن يحيى القطان وغيره تحسين أمره، ولعله يريد:
يرضاه حجة، اهو قال: هو ثقة.
قلت: وقد تكلمنا فيه بما فيه الكفاية آنفا، والله العلم.
78- باب: ما يقول إذا مَرَّ بالقبور (1)
أي: هذا باب في بيان ما يقول الرجل إذا مر بالقبور.
1671- ص- لا القعنبي، عن مالك، عن العلاء بن عبد الرحمن،
عن أبيه، عن أبي هريرة- رضي الله عنه-: " أن رسولَ الله
صلى الله عليه وسلم خرج إلى المَقْبَرَة فقال: " السلامُ
عليكم دار قوم مُؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحِقُونَ "
(2) .
ش- مالك بن أنس، وعبد الرحمن بن يعقوب الشرقي.
قوله: " دار قوم " بالنصب أي: يا دار قوم، وسمى المقبرة
دارا، فدل
أن اسم الدار يقع من جهة اللغة على الربع العامر المسكون،
وعلى الخراب غير المأهول، كقول النابغة:
يا دار مَيَّة بالعلياء فالسند ... ثم قال:
أقْوَتْ وطال عليها سالف الأبد
__________
(1) في سنن أبي داود: "باب ما يقول إذا زار القبور أو مر
به".
(2) مسلم: كتاب الطهارة، باب: استحباب إطالة الغرة
والتحجيل في الوضوء (249) ، النسائي: كتاب الطهارة، باب:
حلية الوضوء (150) ، ابن ماجه: كتاب الزهد، باب: ذكر الحوض
(4306) .
13. شرح سنن أبي داوود
(6/193)
قوله: " إن شاء الله/ بكم لاحقون " " (1)
ليس على معنى الاستثناء الذي يدخل الكلام في شك وارتياب،
ولكن عادة المتكلم يُحسِّنُ بذلك كلامه، ويزينه، كما يقول
الرجل لصاحبه: إن أحسنت إلي شكرتك إن شاء الله، وإن
ائتمنتني لم أخنك إن شاء الله، ونحو ذلك من الكلام، وهو لا
يريد به الشك في كلامه ".
قلت: هذا ما قاله الخطابي، والأحسن أن يقال: إنه للتبرك
كما في قوله تعالى: {لَتَدْخُلُن المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن
شَاء اللهُ} (2) .
" (3) وقد قيل: إنه دخل المقبرة ومعه يومئذ مؤمنون متحققون
في الإيمان، وآخرون يُظنُّ بهم النفاق، فكان استثناؤه
منصرفا إليهم (3) دون المؤمنين، معناه اللحوق بهم في
الإيمان، وقيل: إن الاستثناء إنما وقع في استصحاب الإيمان
إلى الموت، لا في نفس الموت، وفيه من الفقه أن السلام على
الموتى كالسلام على الأحياء في تقديمه الدعاء على الاسم،
ولا يقدم الاسم على الدعاء كما تفعله العامة، وكذلك هو في
كل دعاء الخير كقوله سبحانه: {رَحْمَتُ اللهُ وَبَرَكاتُهُ
عَلَيكُمْ أهْلَ البيت} (4) ، وكقوله: {سَلام عَلَى إِلْ
ياسينَ} (5) ، وقال في خلاف ذلكَ: {وَإِن عَلَيْكَ
لَعْنَتِي إِلَى يَوْم الدّينِ} (6) فقدم الاسم على الدعاء
".
والحديث أخرجه: مسلم، والنسائي، وابن ماجه.
79- باب: في المحرم يموت (7) كيف يصنع به؟
أي: هذا باب في بيان حكم المحرم الذي يموت كيف يصنع به؟
وفي بعض النسخ: "باب كيف يصنع بالمحرم إذا مات ".
__________
(1) انظر: معالم السنن (1/ 277) .
(2) سورة الفتح: (27) .
(3) في الأصل: "منصرفا إلى إليهم ".
(4) انظر: معالم السنن (1/ 276، 277) .
(5) سورة هود: (73) .
(6) سورة الصافات: (0 13) .
(7) سورة ص (78) .
(8) غير واضحة في الأصل، وما أثبتناه من سنن أبي داود،
ولعل ما في الأصل: " الميت".
(6/194)
1672- ص- نا محمد بن كثير، نا سفيان، حدثني
عمرو بن دينار،
عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: " أتي النبي- عليه
السلام- برجُلِ وَقَصَتْهُ راحلَتُهُ فماتَ وهو محرم،
فقال: كَفَنوهُ في ثوبَيْه، واغْسلُوهُ بماء وسِدر، ولا
تُخَمرُوا رأسَهُ، فإن اللهَ يبعثُهُ يومَ القيامة يُلبي "
(اَ) .
ش- "وَقصته " أي: صرعنه فدقت عنقه، وأصل الوقص الدق، أو
الكسر. قوله: "وهو محرم" جملة حالية.
قوله: "ولا تخمروا رأسه" أي: لا تغطوا، من خمرت الإناء إذا
غطيتها. قوله: " يلبي " جملة وقعت حالا من الضمير الذي في
" يبعثه " أي: حال كونه ملبيا، وبالحديث استدل الشافعي أن
المحرم إذا مات لا يغطى رأسه ووجهه، وقال أصحابنا: يغطى
رأسه ووجهه، ويستفاد منه فوائد، الأولى: أن التكفين في
ثوبين، ولكن هو محمول على حالة القلة، فإن السنة أن يكون
ثوبان وقميص كما ذكرناه مستوفى.
والثانية: استحباب غسل الميت بالسدر لزيادة التنظيف.
والثالثة: أن المحرم إذا مات يسن به سنة الأحياء في اجتناب
الطيب، والحديث أخرجه الجماعة.
ص- قال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: في هذا الحديث
خمس سنن: كفنوه في ثوبيه، أي: يكفن المؤمن في ثوبين،
واغسلوه بماء وسدر، أي: أن في الغسلات كلها سدرا، ولا
تخمروا رأسه، ولا تقربوه طيبا، وكان الكفن من جميع المال.
ش- الثلاثة منها قد ذكرناها، والرابعة قوله: " ولا تخمروا"
وقد ذكرنا الخلاف فيه، والخامس: إن كفن الميت من جميع
المال، فهم ذلك من قوله: "كفنوه في ثوبيه " ولأنه ضروري
فيكون من أصل المال.
__________
(1) البخاري: كتاب الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم (1286) ،
مسلم: كتاب الحج، باب: ما يفعل بالمحرم إذا مات (1206) ،
الترمذي: كتاب الحج، باب: المحرم يموت في إحرامه (951) ،
النسائي: كتاب الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم إذا مات (4/
39) ، ابن ماجه: كتاب المناسك، باب: المحرم يموت (3084) .
(6/195)
1673- ص- نا سليمان بن حرب، ومحمد بن عبيد،
المعنى، قالا: نا حماد، عن عمرو وأيوب، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس نحوه، قال: " وكَفنوهُ في ثَوبينِ " قال
سليمان (1) : قال أيوب: " ثَوْبَيْهِ " وقال عمرو:
"ثَوبينِ " وقال ابن عبيد: قال أيوب: " في ثوبين " وقال
عمرو: (ثوبيه" (2) زاد سليمان وحده: " ولا تُحنطُوا" (3)
(4) .
ش- حماد بن زيد، وعمرو بن دينار، وأيوب السختياني.
قوله: " نحوه " أي: نحو الحديث المذكور.
قوله: "زاد سليمان وحده" أي: سليمان بن حرب منفردا.
1674- ص- نا مسدد، نا حماد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن
ابن عباس، بمعنى سليمان: "في ثوبين" (5) .
ش- أي بمعنى سليمان بن حرب في روايته وفي ثوبين، بالنون.
1675- ص- نا عثمان بن أبي شيبة، نا جريج، عن منصور، عن
الحكم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: " وَقَصَتْ
برجلٍ محرمٍ ناقتُه فقتلَتْهُ فأُتي فيه (6) النبي- عليه
السلام- فقال: اغْسلُوُه وكفنوه، ولا تُغَطُّوا رأسَه، ولا
تُقَربوهُ طِيبا، فإنه يبعَثُ يُهِلُّ" (7) .
ش- جريج: ابن عبد الحميد، ومنصور: ابن المعتمر، والحكم:
ابن عتيبة.
قوله: " فإنه " أي: فإن الرجل المحرم الذي مات يُبعث يوم
القيامة وهو يهل؟ من الإهلال، وهو رفع الصوت بالتلبية، و
"يهل " جملة وقعت حالاً والله أعلم.
***
__________
(1) في سنن أبي داود: "قال أبو داود: قال سليمان".
(2) في سنن أبي داود:" في ثوبيه ".
(3) في سنن أبي داود: "تحنطوه".
(4) انظر التخريج المتقدم.
(5) انظر تخريج الحديث قبل السابق.
(6) كذا، وفي سنن أبي داود:"به ".
(7) البخاري: كتاب الجنائز، باب: كيف يكفن المحرم (1267) ،
النسائي: كتاب المناسك، باب: النهي عن أن يحنط المحرم إذا
مات (5/ 196) .
(6/196)
|