شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

4 - كتاب الوضوء
(بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الوضوء) وهو بالضم الفعل وبالفتح الماء الذي يتوضأ به، وحكي في كل الفتح والضم وهو مشتق من الوضاءة وهي الحسن والنظافة لأن الصلي يتنظف به فيصير وضيئًا، ولابن عساكر تأخير البسملة عن كتاب الوضوء، ولغير ابن عساكر وأَبي ذر باب بالتنوين في الوضوء.

1 - باب
مَا جَاءَ فِي َقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَبَيَّنَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ فَرْضَ الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً، وَتَوَضَّأَ أَيْضًا مَرَّتَيْنِ، وَثَلاَثًا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ثَلاَثٍ. وَكَرِهَ أَهْلُ الْعِلْمِ الإِسْرَافَ فِيهِ، وَأَنْ يُجَاوِزُوا فِعْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
هذا (باب ما جاء) من اختلاف العلماء (في) معنى (قول الله تعالى): {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} أي مع المرافق، ودلّ على دخولها في الغسل الإجماع، كما استدل به الشافعي في الأم، وفعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما رواه مسلم أن أبا هريرة توضأ فغسل وجهه فأسبغ الوضوء، ثم غسل يده اليمنى حتى أشرع في العضد، ثم اليسرى حتى أشرع في العضد الحديث. وفيه: ثم قال هكذا رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوضأ، فثبت غسله عليه الصلاة والسلام لها، وفعله بيان للوضوء المأمور به ولم ينقل تركه ذلك، ودل عليه الآية أيضًا بجعل اليد التي هي حقيقة إلى المنكب، وقيل إلى الكوع مجازًا إلى المرفق مع جعل إلى للغاية الداخلة هنا في المغيا أو للمعية كما في {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] أو بجعل اليد باقية على حقيقتها إلى المنكب مع جعل

إلى غاية للغسل أو للترك المقدّر كما قال بكلٍّ منهما جماعة، فعلى الأوّل منهما تدخل الغاية لا لكونها إذا كانت من جنس ما قبلها تدخل كما قيل لعدم اطّراده كما قال التفتازاني وغيره فإنها قد تدخل كما في قرأت القرآن إلى آخره، وقد لا تدخل كما في قرأت القرآن إلى سورة كذا، بل لقرينتي الإجماع والاحتياط للعبادة، قال المتولي: بناء على أنها حقيقة إلى المنكب لو اقتصر على قوله: {وأيديكم} لوجب غسل الجميع، فلما قال: {إلى المرافق} أخرج البعض عن الوجوب فما تحقّقنا خروجه تركناه وما شككنا فيه أوجبناه احتياطًا للعبادة انتهى.
المعنى اغسلوا أيديكم من رؤوس أصابعها إلى المرافق، وعلى الثاني تخرج الغاية، والمعنى اغسلوا أيديكم واتركوا منها إلى المرافق {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} بالجر، وللأصيلي بالنصب {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] هل فيه تقدير أو الأمر على ظاهره وعمومه، فقال بالأوّل الأكثرون وأنه مطلق أُريد به التقييد، والمعنى إذا أردتم القيام إلى الصلاة محدثين. وقال الآخرون: بل الأمر على عمومه من غير تقدير حذف إلا أنه في حق المحدث واجب وفي حق غيره مندوب، وقيل كان ذلك في أول الأمر ثم نسخ فصار مندوبًا.
واستدلوا له بحديث عبد الله بن حنظلة الأنصاري أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره بالوضوء لكل صلاة طاهرًا كان أو غير طاهر، فلما شق عليه وضع عنه الوضوء إلا من حدث رواه أبو داود وهو ضعيف لقوله عليه الصلاة والسلام: "المائدة من آخر القرآن نزولاً فأحلّوا حلالها وحرّموا حرامها" وافتتح المؤلف رحمه الله الباب بهذه الآية للتبرّك أو لأصالتها في استنباط مسائله وإن كان حق الدليل أن يؤخر عن المدلول لأن الأصل في الدعوى تقديم المدّعى، وعبّر عن إرادة الفعل في قوله: {إذا قمتم} بالفعل المسبب عنها للإيجاز والتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغي له أن يبادر إليها بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة.
واختلف في موجب الوضوء فصحح في التحقيق والمجموع، وشرح مسلم الحدث والقيام إلى الصلاة معًا وبعضهم القيام إلى الصلاة، ويدل له حديث ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة" رواه أصحاب السُّنن. وقال الشيخ أبو علي: الحدث وجوبًا موسعًا وعليه يتمشى نيّة الفرضية قبل الوقت، ويجوز أن يقال ما يعني بها لزوم الإتيان ولهذا يصح من الصبي، بل المعنى إقامة طهارة الحدث المشروطة للصلاة وشروط الشيء تسمى فروضه، وهل الحدث يحل جميع البدن كالجنابة حتى يمنع من مس المصحف بظهره وبطنه، أو مختص بالأعضاء الأربعة؟ خلاف. والأصح الثاني؟ ووقع في رواية الأصيلي ما جاء في قوله الله دون ما قبله، وفي فرع اليونينية كأصلها ما جاء في الوضوء.

(1/225)


وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} إلى {الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] ولكريمة باب في الوضوء وقول الله الخ. وفي نسخة صدر بها في فرع اليونينية عقب البسملة كتاب الطهارة باب ما جاء في الوضوء، وهو أنسب من السابق لأن الطهارة أعمّ من الوضوء، والكتاب الذي يذكر فيه نوع من الأنواع ينبغي أن يترجم بنوع عام حتى يشمل جميع ذلك،

ولا بدَّ من التقييد بالماء لأن الطهارة تطلق على التراب كما قاله الشافعي، والطهارة بالفتح مصدر طهر بفتح الهاء وضمها والفتح أفصح يطهر بالفتح فيهما وهي لغة النظافة والخلوص من الأدناس حسيّة كالأنجاس أو معنوية كالعيوب يقال: تطهرت بالماء وهم قوم يتطهرون أي يتنزهون عن العيب وشرعًا، كما قال النووي في شرح المهذب رفع حدث أو إزالة نجس، أو ما في معناهما أو على صورتهما كالتيمم والاغتسالات المسنونة وتجديد الوضوء والغسلة الثانية والثالثة ومسح الأُذنين والمضمضة ونحوها من نوافل الطهارة وطهارة المستحاضة وسلس البول.
(قال أبو عبد الله) يعني البخاري مما سيأتي موصولاً (وبيَّن) وفي رواية الأصيلي قال: وبين
(النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن فرض الوضوء) المجمل في الآية السابقة غسل الأعضاء (مرة) للوجه (مرة) لليد إلى آخره، فالتكرار لإرادة التفصيل والنصب على أنه مفعول مطلق أو على الحال السادّة مسدّ الخبر أي يفعل مرة. وقال في الفتح: وهو في روايتنا بالرفع على الخبرية اهـ. وهو أقرب الأوجه، والأوّل هو الذي في فرع اليونينية فقط.
(وتوضأ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أيضًا) وضوءًا (مرتين مرتين) كذا في رواية أبي ذر ولغيره مرتين بغير تكرار، (و) توضأ عليه الصلاة والسلام أيضًا (ثلاثًا) أي ثلاث مرات، وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وثلاثًا بالتكرار (ولم يزد) عليه الصلاة والسلام (على ثلاث) أي ثلاث مرات، بل ورد أنه ذم من زاد عليها كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عند أبي داود وغيره بإسناد جيد أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ ثلاثًا ثلاثًا ثم قال: "من زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" أي ظلم بالزيادة بإتلاف الماء ووضعه في غير موضعه، وظاهره الذم بالنقص عن الثلاث وهو مشكل.
وأجيب: بأن فيه حذفًا تقديره من نقص من واحدة فقد أساء. ويؤيده ما رواه نعيم بن حماد مرفوعًا: "الوضوء مرة ومرتين وثلاثًا فمن نقص من واحدة أو زاد على ثلاث فقد أخطأ". وهو مرسل ورجاله ثقات. وقال في المجموع عن الأصحاب وغيرهم: إنّ المعنى زاد على الثلاث أو نقص منها. قال: واختلف أصحابنا في معنى أساء وظلم، فقيل: أساء في النقص وظلم في الزيادة. فإن الظلم مجاوزة الحدود ووضع الشيء في غير محله، وقيل: عكسه لأن الظلم يستعمل بمعنى النقص لقوله تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا} [الكهف: 33] وقيل: أساء وظلم فيهما. واختاره ابن الصلاح لأنه ظاهر الكلام اهـ.

وأجيب أيضًا: بأن الرواة لم يتفقوا على ذكر النقص فيه، بل أكثرهم اقتصر على قوله فمن زاد فقط كما رواه ابن خزيمة في صحيحه وغيره بل عدّ مسلم قوله أو نقص مما أنكر على عمرو بن شعيب، وإنما تحسب غسله إذا استوعب العضو فلو شك في العدد أثناء الوضوء، فقيل: يأخذ بالأكثر حذرًا من زيادة رابعة، والأصح بالأقل كالركعات والشك بعد الفراغ لا عبرة به على الأصح لئلا يؤدّيه الأمر إلى الوسوسة المذمومة، وفي رواية أبي ذر وابن عساكر على ثلاثة بالهاء، والأصل عدمها إذ المعدود مؤنث لكنه أوّله بأشياء، وفي أخرى على ثلاث.
(وكره أهل العلم) المجتهدون (الإسراف فيه) كراهة تنزيه وهذا هو الأصح من مذهبنا وعبارة إمامنا الشافعي في الأم: لا أحب أن يزيد المتوضئ على ثلاث، فإن زاد لم أكرهه أي لم أحرمه لأنه قوله: لا أحب يقتضي الكراهة. وقال أحمد وإسحاق وغيرهما: لا تجوز الزيادة على الثلاث، وقال ابن المبارك: لا آمن أن يأثم. ثم عطف المؤلف على السابق لتفسيره قوله (وأن يجاوزوا) أي أهل العلم (فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، فليس المراد بالإسراف إلا المجاوزة عن فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثلاث، وفي مصنف ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال: ليس بعد الثلاث شيء.

2 - باب لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُور
هذا (باب) بالتنوين (لا تقبل) بضم المثناة

(1/226)


الفوقية على ما لم يسم فاعله (صلاة) بالرفع نائب عنه. وفي رواية بفرع اليونينية موافقة لما عند المؤلف في ترك الحيل لا يقبل الله صلاة (بغير طهور) بضم الطاء الفعل الذي هو المصدر، والمراد به ما هو أعم من الوضوء والغسل وبفتحها الماء الذي يتطهر به. وهذه الترجمة لفظ حديث ليس على شرط المؤلف رواه مسلم وغيره من حديث ابن عمر، وقد قال القاضي عياض في شرحه: إنه نص في وجوب الطهارة، وتعقبه أبو عبد الله الأبّي بأن الحديث إنما فيه أنها شرط في القبول والقبول أخصّ من الصحة وشرط الأخص لا يكون شرطًا في الأعم، وإنما كان القبول أخص لأن حصول الثواب على الفعل، والصحة وقوع الفعل مطابقًا للأمر فكل متقبل صحيح دون العكس، والذي ينتفي بانتفاء الشرط الذي هو الطهارة القبول لا الصحة، وإذا لم تنتف الصحة لم يتم الاستدلال بالحديث، والفقهاء يحتجون به وفيه من البحث ما سمعت.
فإن قلت إذا فسرت الصحة بأنها وقوع الفعل مطابقًا للأمر فالقواعد تدل على أن الفعل إذا وقع مطابقًا للأمر كان سببًا في حصول الثواب، قلت: غرضنا إبطال التمسك بالحديث من قبل االشرطية وقد اتّضح، ثم نمنع أنها سبب في حصول الثواب لأن الأعم ليس سببًا في حصول أخصه المعين انتهى.
ويجاب بأن المراد بالقبول هنا ما يرادف الصحة وهو الأجزاء، وحقيقة القبول ثمرة وقوع الطاعة مجزئة رافعة لما في الذمة، ولما كان الإتيان بشروطها مظنة الأجزاء الذي القبول ثمرته عبّر عنه بالقبول مجازًا لأن الغرض من الصحة مطابقة العبادة للأمر، وإذا حصل ذلك ترتب عليه القبول، وإذا انتفى القبول انتفت الصحة لما قام من الأدلة على كون القبول من لوازمها، فإذا انتفى انتفت.
وأما القبول النفي في نحو قوله: من أتى عرّافًا لم يقبل له صلاة فهو الحقيقي لأنه قد يصح العمل ويتخلّف القبول، ولهذا كان بعض السلف يقول لأن تقبل لي صلاة واحدة أحبّ إلي من جميع الدنيا.
قال ابن عمر: لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِين} [المائدة: 27].

135 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْحَنْظَلِيُّ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تُقْبَلُ صَلاَةُ مَنْ أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ». قَالَ رَجُلٌ مِنْ حَضْرَمَوْتَ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ. [الحديث 135 - طرفه في: 6954].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي) بالظاء المعجمة (قال: أخبرنا عبد الرزاق) بن همام (قال: أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن همام بن منبه) بتشديد ميم الأوّل وضم ميم الثاني وفتح النون وتشديد الموحدة المكسورة (أنّه سمع أبا هريرة) رضي الله عنه (يقول):

(قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا تقبل) بضم المثناة الفوقية (صلاة من) أي الذي (أحدث) وصلاة بالرفع نائب عن الفاعل وفي رواية لا يقبل الله بالنصب على المفعولية من أحدث أي وجد منه الحدث الأكبر كالجنابة والحيض والأصغر الناقض للوضوء (حتى) أي إلى أن (يتوضأ) بالماء أو ما يقوم مقامه فيقبل حينئذ. قال في المصابيح، قال لي بعض الفضلاء: يلزم من حديث أبي هريرة أن الصلاة الواقعة في حال الأحدث إذا وقع بعدها وضوء صحّت، فقلت له: الإجماع يدفعه. فقال: يمكن أن يدفع من لفظ الشارع وهو أولى من التمسك بدليل خارج، وذلك بأن تجعل الغاية للصلاة لا لعدم القبول، والمعنى صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ لا تقبل اهـ.
والذي يقوم مقام الوضوء بالماء هو التيمم أو أنه يسمى وضوءًا كما عند النسائي بإسناد صحيح من حديث أبي ذر أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "الصعيد الطيب وضوء المسلم وإن لم يجد الماء عشر سنين" فأطلق عليه الصلاة والسلام على التيمم أنه وضوء لكونه قائمًا مقامه، وإنما اقتصر ذكر الوضوء نظرًا إلى كونه الأصل، ولا يخفى أن المراد بقبول صلاة من كان محدثًا فتوضأ أي مع باقي شروط الصلاة.
واستدل بهذا الحديث على أن الوضوء لا يجب لكل صلاة لأن القبول انتفى إلى غاية الوضوء وما بعدها مخالف لما قبلها، فاقتضى ذلك قبول الصلاة بعد الوضوء مطلقًا وفيه الدليل على بطلان الصلاة بالحدث سواء كان خروجه اختياريًّا أو اضطراريًا لعدم التفرقة في الحديث بين حدث وحدث في حالة دون حالة.
(قال رجل من حضرموت) بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وفتح الراء والميم بلد باليمن وقبيلة أيضًا: (ما الحدث) وفي رواية فما الحدث. (يا أبا هريرة؟ قال)

(1/227)


هو (فساء) بضم الفاء والمد (أو ضراط) بضم الضاد وهما يشتركان في كونهما ريحًا خارجًا من الدبر، لكن الثاني مع صوت، وإنما فسر أبو هريرة الحدث بهما تنبيهًا بالأخف على الأغلظ، أو أنه أجاب السائل بما يحتاج إلى معرفته في غالب الأمر، وإلاّ فالحدث يطلق على الخارج المعتاد وعلى نفس الخروج وعلى الوصف الحكمي المقدر قيامه بالأعضاء قيام الأوصاف الحسية وعلى المنع من العبادة المترتب على كل

واحد من الثلاثة، وقد جعل في الحديث الوضوء رافعًا للحدث فلا يعني بالحدث الخارج المعتاد ولا نفس الخروج، لأن الواقع لا يرتفع فلم يبق أن يعني إلا المنع أو الصفة.

3 - باب فَضْلِ الْوُضُوءِ، وَالْغُرُّ الْمُحَجَّلُونَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ
هذا (باب فضل الوضوء) بالجرّ على الإضافة (والغرّ المحجلون) بالرفع عطفًا على باب أي وباب الغرّ المحجلين فأقيم المضاف إليه مقام باب المحذوف أو الغرّ مبتدأ أو خبره محذوف أي مفضلون على غيرهم، ووقع في رواية الأصيلي وفضل الغرّ المحجلين (من آثار الوضوء) جمع أثر الشيء وهو بقيته.
136 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ خَالِدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلاَلٍ عَنْ نُعَيْمٍ الْمُجْمِرِ قَالَ: رَقِيتُ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ فَتَوَضَّأَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِنَّ أُمَّتِي يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يُطِيلَ غُرَّتَهُ فَلْيَفْعَلْ».
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف وإسكان المثناة التحتية المصري (قال حدّثنا الليث) بن سعد المصري أيضًا (عن خالد) هو ابن يزيد من الزيادة الإسكندراني البربري الأصل المصري الفقيه المفتي التابعي، المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائة (عن سعيد بن أبي هلال) التيمي مولاهم البصري المولد المدني المنشأ، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة (عن نعيم) بضم النون وفتح العين وسكون المثناة التحتية ابن عبد الله المدني العدوي (المجمر) بضم الميم الأولى وكسر الثانية اسم فاعل من الإجمار على الأشهر، وقيل بتشديد الميم الثانية من التجمير وهو صفة لهما حقيقة أنه (قال):

(رقيت) بكسر القاف أي صعدت (مع أبي هريرة) رضي الله عنه (على ظهر المسجد) النبوي (فتوضأ) بالفاء التعقيبية وفي نسخة بالواو، ولأبي ذر توضأ بدونهما، وللكشميهني يومًا بدل توضأ وهو تصحيف، وللإسماعيلي وغيره ثمّ توضأ (فقال) وفي رواية الأربعة قال بحذف حرف العطف على الاستئناف كأن قائلاً قال: ثم ماذا؟ فقال: قال: (إني سمعت النبي) وفي رواية أبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يقول) بلفظ المضارع استحضارًا للصورة الماضية أو لأجل الحكاية عنها (إن أمتي) المؤمنين (يدعون) بضم أوّله وفتح ثالثه (يوم القيامة) على رؤوس الأشهاد حال كونهم (غرًّا) بضم الغين المعجمة وتشديد الراء جمع أغر أي ذو غرة وهي بياض في الجبهة، والمراد به النور يكون في وجوههم وحال كونهم (محجلين) من التحجيل وهو بياض في اليدين والرجلين، والمراد به النور أيضًا أي يدعون إلى يوم القيامة وهم بهذه الصفة فيكون معدّى بإلى نحو: {يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَاب الله}

[آل عمران: 23] وتعقبه الدماميني بأن حذف مثل هذا الحرف ونصب المجرور بعد حذفه غير مقيس. قال: ولنا مندوحة عن ارتكابه بأن نجعل يوم القيامة ظرفًا أي يدعون فيه غرًّا محجلين اهـ.
وقال ابن دقيق العيد: أو مفعول ثانٍ ليدعون بمعنى ينادون على رؤوس الأشهاد بذلك أو بمعنى يسمون بذلك.
فإن قلت: الغرة والتحجيل في الآخرة صفات لازمة غير منتقلة فكيف يكونان حالين؟ أجيب: بأن الحال تكون منتقلة أو في حكم المنتقلة إذا كانت وصفًا ثابتًا مؤكدًا نحو قوله تعالى: {وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا} [البقرة: 91] ومنه خلق الله الزرافة يديها أطول من رجليها، فأطول حالاً لازمة غير منتقلة، لكنها في حكم المنتقلة لأن المعلوم من سائر الحيوانات استواء القوائم الأربع فلا يخبر بهذا الأمر إلا من يعرفه، وكذلك هنا المعلوم في سائر الخلق عدم الغرة والتحجيل، فلما جعل الله ذلك لهذه الأمة دون سائر الأمم صارت في حكم المنتقلة بهذا العنى، ويحتمل أن تكون هذه علامة لهم في الموقف وعند الحوض، ثم تنتقل عنهم عند دخولهم الجنة فتكون منتقلة بهذا المعنى:
(من) أي لأجل (آثار الوضوء) أو من سببية أي بسبب آثار الوضوء ومثله قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا} [نوح: 25] أي بسبب خطاياهم أغرقوا، وحرف الجرّ متعلق بمحجلين أو بيدعون على الخلاف في باب التنازع بين البصريين والكوفيين، والوضوء بضم الواو

(1/228)


ويجوز فتحها فإن الغرة والتحجيل نشآ عن الفعل بالماء فيجوز أن ينسب إلى كُل منهما. (فمن استطاع) أي قدر (منكم أن يطيل غرته) بأن يغسل شيئًا من مقدّم رأسه وما يجاوز وجهه زائدًا على القدر الذي يجب غسله لاستيعاب كمال الوجه، وأن يطيل تحجيله بأن يغسل بعض عضده أو يستوعبها كما روي عن أبي هريرة وابن عمر (فليفعل) ما ذكر من الغرة والتحجيل فالمفعول محذوف للعلم به، ولمسلم فليطل غرّته وتحجيله، وادّعى ابن بطال وعياض وابن التين اتفاق العلماء على عدم استحباب الزيادة فوق المرفق والكعب، وردّ بأنه ثبت من فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفعل أبي هريرة. وأخرجه ابن أبي شيبة من فعل ابن عمر بإسناد حسن وعمل العلماء وفتواهم عليه، وقال به القاضي حسين وغيره من الشافعية والحنفية، وأما قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فمن زاد على هذا أو نقص فقد أساء وظلم" فالمراد به الزيادة في عدد المرّات أو النقص عن الواجب لا الزيادة على تطويل الغرّة والتحجيل وهما من خواص هذه الأمة لا أصل الوضوء، واقتصر هنا على الغرّة لدلالتها على الآخر وخصّها بالذكر لأن محلها أشرف أعضاء الوضوء، وأوّل ما يقع عليه النظر من الإنسان. وحمل ابن عرفة فمما نقله عنه أبو عبد الله الأبّي الغرّة والتحجيل على أنهما كناية عن إنارة كل الذات لا أنه مقصور على أعضاء الوضوء، ووقع عند الترمذي من حديث عبد الله بن بسر وصححه "أمتي يوم القيامة غرّ من السجود محجلة من الوضوء". قال في المصابيح: وهو معارض بظاهر ما في البخاري.

4 - باب لاَ يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ
هذا (باب) بالتنوين (لا يتوضأ) بفتح أوّله، وفي رواية ابن عساكر باب من لا يتوضأ (من الشك) أي لأجله كقوله: وذلك من نبأ جاءني. والشك عند الفقهاء هو التردّد على السواء (حتى يستيقن).
137 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّىْءَ فِي الصَّلاَةِ. فَقَالَ: «لاَ يَنْفَتِلْ -أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ- حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا». [الحديث 137 - طرفاه في: 177، 2056].

وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عليّ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابن عبد الله المديني (قال: حدّثنا سفيان) بن عيينة
(قال: حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم (عن سعيد بن المسيب) بفتح الياء (وعن عباد بن تميم) بفتح العين المهملة وتشديد الموحدة ابن يزيد الأنصاري المدني عدّه الذهبي في الصحابة وغيره في التابعين، ووقع في رواية كريمة سقوط واو العطف من قوله وعن عباد وهو خطأ لأنه لا رواية لسعيد بن المسيب عن عباد أصلاً، وحينئذ فالعطف على قوله عن سعيد بن السيب هو الصحيح لأن الزهري يروي عن سعيد وعباد وكلاهما (عن عمه) عبد الله بن زيد بن عاصم الأنصاري المازني قتل في ذي الحجة بالحرّة في آخر سنة ثلاث وستين، له في البخارى تسعة أحاديث.
(أنه شكا) بالألف أي عبد الله بن زيد كما صرّح به ابن خزيمة (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرجل) بالنصب على المفعولية، وفي رواية أنه شكي بضم أوّله مبنيًّا للمفعول موافقة لمسلم كما ضبطه النووي رحمه الله تعالى الرجل بالضم، قال في التنقيح: وعلى هذين الوجهين أي في شكا يجوز في الرجل الرفع والنصب، وتعقبه البدر الدماميني بأن الوجهين محتملان على الأوّل وحده، وذلك أن ضمير أنه يحتمل أن يكون ضمير الشأن، وشكا الرجل فعل وفاعل مفسر للشأن، ويحتمل أن يعود إلى الراوي وشكا مسند إلى ضمير يعود إليه أيضًا والرجل مفعول به (الذي يخيل إليه) بضم المثناة التحتية وفتح المعجمة مبنيًّا لما لم يسمّ فاعله أي يشبه له (أنّه يجد الشيء) أي الحدث خارجًا من دبره وهو (في الصلاة، فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لا ينفتل أو لا ينصرف) بالجزم فيهما على النهي وبالرفع على النفي، والشك من الراوي وكأنه من شيخ المؤلف عليّ (حتى) أي إلى أن (يسمع صوتًا) من دبره (أو يجد ريحًا) منه، والمراد تحقق وجودهما حتى أنه لو كان أخشم لا يشم أو أصم لا يسمع كان الحكم كذلك وذكرهما ليس لقصر الحكم عليهما، فكل حدث كذلك إلا أنه وقع جوابًا لسؤال، والمعنى إذا كان أوسع من الاسم أن الحكم للمعنى، وهذا كحديث إذا استهل الصبي ورث وصلي عليه إذ لم يرد تخصيص الاستهلال دون غيره من أمارات الحياة كالحركة والنبض ونحوهما، وهذا الحديث فيه قاعدة لكثير من الأحكام وهي استصحاب اليقين وطرح الشك الطارئ، والعلماء متفقون على ذلك فمن تيقن

(1/229)


الطهارة وشك في الحدث عمل بيقين الطهارة أو تيقن الحدث وشك في الطهارة عمل بيقين الحدث فلو تيقنهما وجهل السابق منهما كما لو تيقن بعد طلوع الشمس حدثًا وطهارة ولم يعلم السابق فأوجه، أصحها إسناد الوهم لما قبل الطلوع فإن كان قبله محدثًا فهو الآن متطهر لأنه تيقن أن الحدث السابق ارتفع بالطهارة اللاحقة وشك هل ارتفع أم لا؟ والأصل بقاؤه وإن كان قبله متطهرًا نظر. إن كان ممن يعتاد تجديد الوضوء فهو الآن محدث لأن الغالب أنه بنى وضوءه على الأوّل فيكون الحدث بعده، وإن لم يعتد فهو الآن متطهر لأن طهارته بعد الحدث وإن لم يتذكر ما قبلهما توضأ للتعارض، واختار في المجموع لزوم الوضوء بكل حال احتياطًا.
وذكر في شرح المهذب والوسيط أن الجمهور أطلقوا المسألة وأن المقيد لها المتولي والرافعيّ مع أنه نقله في أصل الروضة عن الأكثرين. قال في المهمات: وعليه الفتوى وقد أخذ بهذه القاعدة وهي العمل بالأصل جمهور العلماء خلافًا لمالك حيث روي عنه النقض مطلقًا أو خارج الصلاة دون داخلها. وروي هذا التفصيل عن الحسن البصري والأول مشهور مذهب مالك قاله القرطبي وهو رواية ابن القاسم عنه، وروى ابن نافع عنه لا وضوء عليه مطلقًا كقول الجمهور، وروى ابن وهب عنه أحبّ إليّ أن يتوضأ ورواية التفصيل لم تثبت عنه وإنما هي لأصحابه. وقال القرافيّ: ما ذهب إليه مالك أرجح لأنه احتاط للصلاة وهي مقصد وألغى الشك في السبب المبرئ وغيره احتياط
للطهارة وهي وسيلة وألغى الشك في الحدث الناقض لها والاحتياط للمقاصد أولى من الاحتياط للوسائل. وجوابه: أن ذلك من حيث النظر أقوى لكنه مغاير لمدلول الحديث لأنه أمر بعدم الانصراف إلا أن يتحقق، والله سبحانه أعلم بالصواب.

5 - باب التَّخْفِيفِ فِي الْوُضُوءِ
هذا (باب) جواز (التخفيف في الوُضوء).

138 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ صَلَّى -وَرُبَّمَا قَالَ اضْطَجَعَ حَتَّى نَفَخَ ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى. ثُمَّ حَدَّثَنَا بِهِ سُفْيَانُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ عَنْ عَمْرٍو عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ عِنْدَ خَالَتِي مَيْمُونَةَ لَيْلَةً، فَقَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا كَانَ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَوَضَّأَ مِنْ شَنٍّ مُعَلَّقٍ وُضُوءًا خَفِيفًا - يُخَفِّفُهُ عَمْرٌو وَيُقَلِّلُهُ- وَقَامَ يُصَلِّي، فَتَوَضَّأْتُ نَحْوًا مِمَّا تَوَضَّأَ، ثُمَّ جِئْتُ فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ عَنْ شِمَالِهِ- فَحَوَّلَنِي فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ. ثُمَّ صَلَّى مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ اضْطَجَعَ فَنَامَ حَتَّى نَفَخَ، ثُمَّ أَتَاهُ الْمُنَادِي فَآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ، فَقَامَ مَعَهُ إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. قُلْنَا لِعَمْرٍو: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَنَامُ عَيْنُهُ وَلاَ يَنَامُ قَلْبُهُ. قَالَ عَمْرٌو: سَمِعْتُ عُبَيْدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ: رُؤْيَا الأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ، ثُمَّ قَرَأَ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) [الصافات: 102].

وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا) بالجمع وفي رواية الكشميهني حدّثني (علّي بن عبد الله) المديني (قال: حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو) أي ابن دينار أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (كريب) بضم الكاف وفتح الراء وسكون المثناة التحتية آخره موحدة ابن أبي مسلم القرشي مولى عبد الله بن عباس المكنّى بأبي رشدين بكسر الراء وسكون المعجمة وكسر المهملة وسكون المثناة التحتية آخره نون، المتوفى بالمدينة سنة ثمان وتسعين (عن ابن عباس) رضي الله عنهما:
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نام) مضطجعًا (حتى) أي إلى أن (نفخ ثم صلى) وفي رواية ابن عساكر بإسقاط ثم صلى (وربما قال) سفيان (اضطجع) عليه الصلاة والسلام (حتى) أي إلى أن (نفخ ثم قام فصلى) أي قالها بدون قوله نام وبزيادة قام قال علي بن المديني (ثم حدّثنا به سفيان) بن عيينة تحديثًا (مرة بعد مرة) أي كان يحدّثهم تارة مختصرًا وتارة مطوّلاً (عن عمرو) أي ابن دينار (عن كريب) مولى ابن عباس (عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه (قال بتّ) بكسر الموحدة (عند خالتي) أم المؤمنين (ميمونة) بنت الحرث الهلالية (ليلة) بالنصب على الظرفية (فقام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مبتدئًا (من الليل) وفي رواية ابن السكن فنام من النوم، وصوّبها القاضي عياض لقوله: (فلما كان في) وفي رواية الحموي والمستملي من (بعض الليل قام النبي) وللأربعة رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتوضأ من شنّ) بفتح الشين المعجمة وتشديد النون أي من قربة خلقة (معلق) بالجر صفة لشنّ على تأويله بالجلد أو الوعاء وفي رواية معلقة بالتأنيث (وضوءًا خفيفًا) بالنصب على المصدرية في الأولى والصفة في الأخرى (يخففه عمرو) ابن دينار بالغسل الخفيف مع الإسباغ (ويقلله) بالاقتصار على المرة الواحدة، فالتخفيف من باب الكيف والتقليل من باب الكمّ وذلك أدنى ما تجوز به الصلاة (وقام) عليه الصلاة والسلام (يصلي)
وفي رواية فصلى (فتوضأت) وضوءًا خفيفًا (نحوًا مما توضأ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي رواية تأتي إن شاء الله تعالى فقمت فصنعت مثل ما صنع وهي تردّ على الكرماني حيث قال هنا لم يقل مثلاً لأن حقيقة مماثلته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يقدر عليها أحد غيره انتهى. ولا يلزم من إطلاق المثلية المساواة من كل وجه.

(ثم جئت

(1/230)


فقمت عن يساره وربما قال سفيان) بن عيينة (عن شماله) وهو إدراج من ابن المديني (فحوّلني) عليه الصلاة والسلام (فجعلني عن يمينه ثم صلى) عليه الصلاة والسلام (ما شاء الله ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم أتاه المنادي فآذنه) بالمد أي أعلمه وفي رواية يؤذنه بلفظ المضارع من غير فاء وللمستملي فناداه (بالصلاة فقام) المنادي (معه) عليه السلام (إلى الصلاة فصلى) عليه السلام (ولم يتوضأ) من النوم. قال سفيان بن عيينة: (قلنا لعمرو) أي ابن دينار (إن ناسًا يقولون: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تنام عينه ولا ينام قلبه) ليعي الوحي إذا أُوحي إليه في المنام (قال عمرو) المذكور (سمعت عبيد بن عمير) بالتصغير فيهما ابن قتادة الليثي الكي التابعي (يقول: رؤيا الأنبياء وحي) رواه مسلم مرفوعًا، (ثم قرأ {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] واستدلاله بهذه الآية من جهة أن الرؤيا لو لم تكن وحيًا لما جاز لإبراهيم عليه السلام الإقدام على ذبح ولده.

6 - باب إِسْبَاغِ الْوُضُوءِ
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ الإِنْقَاءُ.
هذا (باب إسباغ الوضوء) أي إتمامه من قوله تعالى: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَه} [لقمان: 20] أي أتمها (وقال ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنه مما وصله عبد الرزاق في مصنفه بإسناد صحيح (إسباغ الوضوء الإنقاء) وهو من تفسير الشيء بلازمه إذ الإتمام يستلزم الإنقاء عادة، وكان ابن عمر يغسل رجليه في الوضوء سبع مرات كما رواه ابن المنذر بسند صحيح، وإنما بالغ فيهما دون غيرهما لكونهما محلاً للأوساخ غالبًا لاعتيادهم المشي حفاة، واستشكل بما تقدم من أن الزيادة على الثلاث ظلم وتعدّ، وأجيب: بأنه فيمن لم يرَ الثلاث سنة أما إذا رآها وزاد على أنه من باب الوضوء على الوضوء يكون نورًا على نور. وقال في المصابيح: والمعروف في اللغة أن إسباغ الوضوء إتمامه وإكماله والمبالغة فيه.
139 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ: دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عَرَفَةَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالشِّعْبِ نَزَلَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ. فَقُلْتُ: الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ. فَرَكِبَ. فَلَمَّا جَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ نَزَلَ فَتَوَضَّأَ، فَأَسْبَغَ الْوُضُوءَ ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الْعِشَاءُ فَصَلَّى وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا. [الحديث 139 - أطرافه في: 181، 1667، 1669، 1672].
وبالسند إلى البخاري رحمه الله تعالى قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) إمام دار الهجرة (عن موسى بن عقبة) بن أبي عياش المدني، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائة ذي المغازي التي هي أصح المغازي (عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد) أي ابن حارثة الكلبي المدني الحب ابن الحب وأمه أم أيمن المتوفى بوادي القرى سنة أربع وخمسين له في البخاري سبعة عشر حديثًا (أنّه سمعه يقول):
(دفع) أي رجر (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من) وقوف (عرفة) بعرفات الأوّل غير منوّن وهو اسم للزمان وهو التاسع من ذي الحجة، والثاني الوضع الذي يقف به الحاجّ وحينئذ فيكون المضاف فيه محذوفًا (حتى إذا كان) عليه السلام (بالشعب) بكسر الشين المعجمة وسكون العين المهملة الطريق المعهودة للحاج (نزل) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فبالَ ثم توضأ) بماء زمزم كما في زوائد المسند بإسناد حسن (ولم يسبغ الوضوء) أي خفّفه لإعجاله الدفع إلى المزدلفة، وفي مسلم فتوضأ وضوءًا خفيفًا، وقيل: معناه توضأ مرة مرة لكن بالإسباغ أو خفّف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عاداته، واستبعد القول بأن المراد به الوضوء اللغوي وأبعد منه القول بأن المراد به الاستنجاء، ومما يقوّي استبعاده قوله في الرواية الآتية إن شاء

الله تعالى في باب الرجل يوضئ صاحبه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدل إلى الشعب فقضى حاجته فجعلت أصبّ الماء عليه ويتوضأ، إذ لا يجوز أن يصبّ عليه أسامة إلا وضوء الصلاة لأنه كان لا يقرب منه أحد وهو على حاجته. (فقلت الصلاة) بالنصب على الإغراء أو بتقدير أتريد أو أتصلي الصلاة (يا رسول الله فقال) وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي قال: (الصلاة) بالرفع على الابتداء وخبره (أمامك) بفتح الهمزة أي وقت الصلاة أو مكانها قدامك، (فركب فلما جاء المزدلفة نزل فتوضأ) بماء زمزم أيضًا (فأسبغ الوضوء).

فإن قلت: لِمَ أسبغ هذا الوضوء وخفّف ذلك؟ أجيب: بأن الأوّل لم يرد به الصلاة وإنما أراد به دوام الطهارة وفيه استحباب تجديد الوضوء وإن لم يصل بالأوّل، لكن ذهب جماعة إلى أنه ليس له ذلك قبل أن يصلي به لأنه لم يوقع به عبادة ويكون كمن زاد على ثلاث في وضوء واحد وهذا هو الأصح عند الشافعية، قالوا: ولا يسنّ تجديده إلاّ إذا صلى بالأوّل صلاة فرضًا أو نفلاً.
(ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب) قبل حط الرحال (ثم أناخ كل إنسان) منا (بعيره في منزله ثم

(1/231)


أقيمت العشاء) بكسر العين وبالمدّ أي صلاتها (فصلى ولم يصل بينهما) وتأتي مباحث الحديث في كتاب الحج إن شاء الله تعالى بعون الله وقوّته.

7 - باب غَسْلِ الْوَجْهِ بِالْيَدَيْنِ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ
هذا (باب غسل الوجه) بفتح الغين (باليدين من غرفة واحدة) أي فلا يشترط الاغتراف باليدين معًا، والغرفة بفتح الغين المعجمة بمعنى المصدر وبالضم بمعنى الغروف وهي ملء الكف.
140 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو سَلَمَةَ الْخُزَاعِيُّ مَنْصُورُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ بِلاَلٍ -يَعْنِي سُلَيْمَانَ- عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ تَوَضَّأَ فَغَسَلَ وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَجَعَلَ بِهَا هَكَذَا أَضَافَهَا إِلَى يَدِهِ الأُخْرَى فَغَسَلَ بِهِمَا وَجْهَهُ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُمْنَى ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ بِهَا يَدَهُ الْيُسْرَى، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً مِنْ مَاءٍ فَرَشَّ عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى حَتَّى غَسَلَهَا، ثُمَّ أَخَذَ غَرْفَةً أُخْرَى فَغَسَلَ بِهَا رِجْلَهُ -يَعْنِي الْيُسْرَى- ثُمَّ قَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ.
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا) وللأصيلي بالإفراد (محمد بن عبد الرحيم) بن أبي زهير البغدادي الملقب بصاعقة لسرعة حفظه وشدّة ضبطه البزاز، المتوفى سنة خمس وخمسين ومائتين (قال: أخبرنا) وللأصيلي حدّثنا (أبو سلمة) بفتح السين واللام (الخزاعي منصور بن سلمة) البغدادي الحافظ، المتوفى بالمصيصة سنة عشرين ومائتين أو سنة عشر أو سبع أو تسع ومائتين (قال):
(أخبرنا ابن بلال يعني سليمان) السابق في باب أمور الإيمان (عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن ابن عباس) رضي الله عنهما (أنه توضأ فغسل وجهه) من باب عطف المفصل على المجمل ثم بين الغسل على وجه الاستئناف فقال: (أخذ غرفة من ماء فمضمض بها) وفي رواية الأصيلى وابن عساكر فتمضمض بها (واستنشق ثم أخذ غرفة من ماء فجعل بها هكذا أضافها إلى يده الأخرى) أي جعل الماء الذي في يده في يديه جميعًا لكونه أمكن في الغسل لأن اليد قد لا تستوعب الغسل وسقط للأصيلي وابن عساكر من ماء (فغسل بها وجهه) أي بالغرفة وللأصيلي وكريمة فغسل بهما أي باليدين وظاهر قوله: إنه توضأ فغسل وجهه مع قوله أخذ غرفة أن المضمضة، والاستنشاق بغرفة من جملة غسل الوجه، لكن المراد بالوجه أوّلاً ما هو أعمّ من المفروض والمسنون بدليل أنه أعاد ذكره ثانيًا بعد ذكر المضمضة والاستنشاق بغرفة مستقلة. (ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى، ثم أخذ غرفة من ماء) أيضًا (فغسل بها يده اليسرى ثم مسح برأسه) بعد أن قبض قبضة من الماء ثم نفض يده كما في رواية أبي داود مع زيادة مسح أُذنيه ففي الحديث هنا حذف دلّ عليه ما رواه أبو داود. (ثم أخذ غرفة من ماء فرش) أي صب الماء قليلاً قليلاً (على رجله اليمنى حتى) أي إلى أن (غسلها) والرش قد يراد به الغسل، ويؤيد قوله هنا حتى غسلها والرش القوي يكون معه الإسالة وعبّر به تنبيهًا على الاحتراز عن الإسراف لأن الرجل مظنته في الغسل (ثم أخذ غرفة أخرى فغسل بها رجله يعني اليسرى) وفي رواية أبوي ذر والوقت فغسل بها يعني رجله اليسرى والقائل يعني زيد بن أسلم أو من هو دونه من الرواة. (ثم قال) أي ابن عباس (هكذا رأيت رسول الله) ولأبي الوقت النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوضأ) حكاية حال ماضية، وفي رواية ابن عساكر توضأ، وفي هذا الحديث دليل الجمع بين المضمضة والاستنشاق بغرفة واحدة المحكي في الكفاية عن نصه في الأم، وهو يحتمل وجهين أن يتمضمض منها ثلاثًا ولاء ثم يستنشق كذلك، وأن يتمضمض ثم يستنشق ثم يفعل كذلك ثانيًا وثالثًا، وأولى الكيفيات أن يجمع بين ثلاث غرفات يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق، فقد صح من حديث عبد الله بن زيد وغيره وصححه النووي وتأتي بقية الكيفيات إن شاء الله تعالى في باب المضمضة في الوضوء.

8 - باب التَّسْمِيَةِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَعِنْدَ الْوِقَاعِ
هذا (باب التسمية على كل حال وعند الوقاع) بكسر الواو أي الجماع وهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به، والحديث الذي في ساقه هنا شاهد للخاصّ لا للعامّ، لكن لما كان حال الوقاع أبعد حال من ذكر الله تعالى ومع ذلك سنّ التسمية فيه. ففي غيره أولى، ومن ثم ساقه المؤلف هنا لمشروعية التسمية عند الوضوء ولم يسق حديث لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه مع كونه أبلغ في الدلالة لكونه ليس على شرطه بل هو مطعون فيه.

141 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَبْلُغُ بِهِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا أَتَى أَهْلَهُ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبِ الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَقُضِيَ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ لَمْ يَضُرَّهُ». [الحديث 141 - أطرافه في: 3271، 3283، 5165، 6388، 7396].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني (قال: حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن سالم بن أبي الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة رافع الأشجعي مولاهم الكوفي التابعي، المتوفى سنة مائة (عن كريب) مولى ابن عباس

(1/232)


(عن ابن عباس) رضي الله عنهما حال كونه (يبلغ به) بفتح أوّله وضم ثالثه وسقط لفظ به لغير الأربعة أي يصل ابن عباس بالحديث (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهذا كلام كريب أي أنه ليس موقوفًا على ابن عباس، بل هو مسند إلى الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لكنه يحتمل أن يكون بواسطة بأن يكون سمعه من صحابي سمعه الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأن يكون بدونها (قال) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(لو أن أحدكم إذا أتى أهله) أي زوجته وهو كناية عن الجماع (قال: بسم الله اللَّهمَّ جنّبنا) أي أبعد عنا (الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا) أي الذي رزقتناه، والمراد الولد وإن كان اللفظ أعم (فقضي) بضم القاف وكسر الضاد (بينهما) أي بين الأحد والأهل وللمستملي والحموي فقضي بينهم بالميم نظرًا إلى معنى الجمع في الأهل (ولد) ذكرًا كان أو أنثى (لم يضره) الشيطان بضم الراء على الأفصح أي لا يكون له على الولد سلطان، فيكون من المحفوظين، أو المعنى لا يتخبطه الشيطان ولا يداخله بما يضرّ عقله أو بدنه أو لا يطعن فيه عند ولادته أو لم يفتنه بالكفر، وروى ابن جرير في تهذيب الآثار بسنده عن مجاهد قال: إذا جامع الرجل أهله ولم يسم انطوى الجان على إحليله فجامع معه فذلك قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56].

9 - باب مَا يَقُولُ عِنْدَ الْخَلاَءِ
هذا (باب ما يقول عند) إرادة دخول (الخلاء) بالمد أي موضع قضاء الحاجة وهو المرحاض والكنيف والحش والمرفق وسمي به لأن الإنسان يخلو فيه.
142 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا دَخَلَ الْخَلاَءَ قَالَ: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ».
تَابَعَهُ ابْنُ عَرْعَرَةَ عَنْ شُعْبَةَ. وَقَالَ غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ: "إِذَا أَتَى الْخَلاَءَ". وَقَالَ مُوسَى عَنْ حَمَّادٍ: "إِذَا دَخَلَ". وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ: "إِذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ". [الحديث 142 - طرفه في: 6322].

وبالسند إلى البخاري رحمه الله تعالى قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدّثنا شُعبة) بن الحجاج (عن عبد العزيز بن صهيب) بضم الصاد المهملة (قال: سمعت أنسًا) حال كونه (يقول):

(كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا دخل الخلاء) أي إذا أراد دخول الخلاء (قال: اللهمَّ إني أعوذ بك من الخبث) بضم المعجمة والموحدة وقد تسكن، وهي رواية الأصيلي كما في فرع اليونينية ونص عليها غير واحد من أهل اللغة. نعم صرح الخطابي بأن تسكينها ممنوع وعدَّه من أغاليط المحدثين، وأنكره عليه النووي وابن دقيق العيد لأن فعلاً بضم الفاء والعين تخفف عينه بالتسكين اتفاقًا، ورده الزركشي في تعليق العمدة بأن التخفيف إنما يطرد فيما لا يلبس كعنق من المفرد ورسل من الجمع لا فيما يلبس كحمر فإنه لو خفف ألبس بجمع أحمر، وتعقبه صاحب مصابيح الجامع بأنه لا يعرف هذا التفصيل لأحد من أئمة العربية بل في كلامه ما يدفعه فإنه صرّح بجواز التخفيف في عنق مع أنه يلبس حينئذ بجمع أعنق وهو الرجل الطويل العنق، والأنثى عنقاء بيّنة العنق وجمعهما عنه بضم العين وإسكان النون اهـ.
(والخبائث) أي ألوذ بك وألتجئ من ذكران الشياطين وإناثهم، وعبّر بلفظة كان للدلالة على الثبوت والدوام، وبلفظ المضارع في يقول استحضارًا لصورة القول، وكان عليه الصلاة والسلام يستعيد إظهارًا للعبودية ويجهر بها للتعليم، وإلا فهو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- محفوظ من الجنّ والإنس، وقد روى المعمري هذا الحديث من طريق عبد العزيز بن المختار عن عبد العزيز بن صهيب بإسناد على شرط مسلم بلفظ الأمر قال: "إذا دخلتم الخلاء فقولوا بسم الله أعوذ بالله من الخبث والخبائث" وفيه زيادة البسملة. قال الحافظ ابن حجر: ولم أرها في غير هذه الرواية انتهى. وظاهر ذلك تأخير التعوّذ عن البسملة. قال في المجموع: وبه صرّح جماعة لأنه ليس للقراءة، وخصّ الخلاء لأن الشياطين تحضر الأخلية لأنه يهجر فيها ذكر الله تعالى.
(تابعه) ولابن عساكر: قال أبو عبد الله أي البخاري تابعه أي تابع آدم بن أبي إياس (ابن عرعرة) محمد في رواية هذا الحديث (عن شعبة) كما رواه المؤلف في الدعوات موصولاً، والحاصل أن محمد بن عرعرة روى هذا الحديث عن شعبة كما رواه آدم عن شعبة، وهذه هي المتابعة التامة ْوفائدتها التقوية. (وقال غندر) بضم الغين المعجمة وسكون النون وفتح المهملة آخره راء لقب محمد بن جعفر البصري (عن شعبة) مما وصله البزار في مسنده (إذا أتى الخلاء، وقال موسى) بن إسماعيل التبوذكي مما وصله البيهقي (عن حماد) ابن سلمة بن دينار الربعي وكان من الأبدال تزوّج سبعين امرأة فلم يولد له

(1/233)


لأن البدل لا يولد به، المتوفى سنة سبع وستين ومائة (إذا دخل) الخلاء.
(وقال سعيد بن زيد) أي ابن درهم الجهضمي البصري مما وصله المؤلف في الأدب المفرد (حدّثنا عبد العزيز) بن صهيب (إذا أراد أن يدخل) وسعيد بن زيد فيه من قبل حفظه، وليس له عند المؤلف غير هذا التعليق مع أنه لم ينفرد بهذا اللفظ، فقد رواه مسدد عن عبد الوارث عن عبد العزيز مثله. وأخرجه البيهقي من طريقه وهو على شرط المصنف. وهذه الروايات وإن كانت مختلفة اللفظ

فمعناها متقارب يرجع إلى معنى واحد، وهو أن التقدير كان يقول ذلك إذا أراد الدخول في الخلاء، ولم يذكر المؤلف ما يقول بعد الخروج منه لأنه ليس على شرطه.
وفي ذلك حديث عائشة رضي الله عنها عند ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خرج من الغائط قال: (غفرانك) وحديث أنس عند ابن ماجة إذا خرج من الخلاء قال: "الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني" وحديث ابن عباس عند الدارقطني مرفوعًا: "الحمد لله الذي أخرج عني ما يؤذيني وأمسك عليَّ ما ينفعني" ولابن عساكر بعد قوله: إذا أراد أن يدخل قال أبو عبد الله يعني البخاري، ويقال الخبث يعني بسكون الموحدة.

10 - باب وَضْعِ الْمَاءِ عِنْدَ الْخَلاَءِ
هذا (باب وضع الماء عند الخلاء) ليستعمله المتوضئ بعد خروجه.
143 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ الْخَلاَءَ فَوَضَعْتُ لَهُ وَضُوءًا. قَالَ: مَنْ وَضَعَ هَذَا؟ فَأُخْبِرَ فَقَالَ: «اللَّهُمَّ فَقِّهْهُ فِي الدِّينِ».
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي الجعفي (قال: حدّثنا هاشم بن القاسم) أبو النضر بالضاد المعجمة التيمي الليثي الكناني الخراساني اللقب بقيصر الكوفي، المتوفى سنة سبع ومائتين (قال: حدّثنا ورقاء) بإسكان الراء مع المدّ ابن عمر اليشكري الكوفي المتوفى سنة تسع وستين ومائة (عن عبيد الله) بالتصغير (ابن أبي يزيد) من الزيادة المكي، المتوفى سنة ست وعشرين ومائة (عن ابن عباس) رضي الله عنهما.

(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل الخلاء فوضعت له وضوءًا) بفتح الواو أي ماء يتوضأ به، وقيل ناوله إياه
ليستنجي به. قال في الفتح: وفيه نظر. (قال) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أن خرج من الخلاء، وفي رواية ابن عساكر فقال: (من) استفهامية مبتدأ خبره (وضع هذا) الوضوء (فأخبر) على صيغة المجهول عطف على السابق وقد جوّزوا عطف الفعلية على الاسمية، والعكس أي أخبر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنّه ابن عباس والمخبر خالته ميمونة بنت الحرث لأن ذلك كان في بيتها (فقال) عليه الصلاة والسلام: (اللهمّ فقّهه في الدين) إنما دعا له لما تفرس فيه من الذكاء مع صغر سنّه بوضعه الوضوء عند الخلاء لأنه أيسر له على الصلاة والسلام، إذ لو وضعه في لمكان بعيد منه لاقتضى مشقة ما في طلبه الماء ولو دخل به إليه لكان تعريضًا للاطّلاع عليه وهو يقتضي حاجته، ولما كان وضع الماء فيه إعانة على الدين ناسب أن يدعو له بالتفقّه فيه ليطلع به على أسرار الفقه في الدين ليحصل النفع به وكذا كان.

11 - باب لاَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةُ بِبَولٍ أو غَائطٍ، إِلاَّ عِنْدَ الْبِنَاءِ: جِدَارٍ أَوْ نَحْوِه
هذا (باب) بالتنوين (لا يستقبل القبلة ببول ولا غائط) بفتح المثناة التحتية وكسر الموحدة من يستقبل مبنيًّا للفاعل والقبلة نصب على المفعولية وفي لام يستقبل الضم على أن لا نافية والكسر على أنها ناهية ويجوز في يستقبل ضم المثناة وفتح الموحدة مبنيًّا للمفعول ورفع القبلة مفعول ناب عن الفاعل. قال في الفتح: وهي روايتنا وكِلا الوجهين بفرع اليونينية، وفي رواية ابن عساكر: لا يستقبل القبلة بغائط ولا بول (إلا عند البناء جدار) بالجر بدل من البناء (أو نحوه) كالسواري والأساطين والخشب والأحجار الكبار، وللكشميهني مما ليس في اليونينية أو غيره بدل أو نحوه وهما متقاربان والباء في قوله بغائط ظرفية، والغائط هو الكان المطمئن من الأرض في الفضاء كان يقصد لقضاء الحاجة فيه. ثم كنّي به عن العذرة نفسها كراهة لذكرها بخاص اسمها. ومن عادة العرب استعمال الكنايات صونًا للألسنة عما تصان الأبصار والأسماع عنه فصار حقيقة عرفية غلبت على الحقيقة اللغوية، وليس في حديث الباب ما يدل على الاستثناء الذي ذكره فقيل: إنه أراد بالغائط معناه اللغوي، وحينئذ يصح استثناء الأبنية منه. وقيل: الاستثناء مستفاد من حديث ابن عمر رضي

(1/234)


الله عنهما الآتي إن شاء الله تعالى إذ الحديث كله واحد وإن اختلفت طرقه أو أن حديث الباب عنده عامّ مخصوص. قال العيني: وعليه يتجه الاستثناء.
144 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ اللَّيْثِيِّ عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الْغَائِطَ فَلاَ يَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ يُوَلِّهَا ظَهْرَهُ، شَرِّقُوا أَوْ غَرِّبُوا». [الحديث 144 - طرفه في: 394].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدّثني ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحرث نسبه إلى جدّ جدّه لشهرته به (قال: حدْثني) بالإفراد وفي نسخة بالجمع (الزهري) محمد بن مسلم (عن عطاء بن يزيد) من الزيادة (الليثي) ثم الجندعي بضم الجيم وسكون النون وضم الدال المهملة المدني التابعي، المتوفى سنة سبع أو خمس ومائة (عن أبي أيوب) خالد بن زيد بن كليب (الأنصاري) رضي الله عنه وكان من كبار الصحابة شهد بدرًا ونزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قدم المدينة عليه. وتوفي غازيًا بالروم سنة خمسين، وقيل: بعدها له في البخاري سبعة أحاديث (قال):
(قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أتى) أي جاء (أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة) بكسر اللام على النهي وبضمها على النفي (ولا يولها ظهره) جزم بحذف الياء على النهي أي لا يجعلها مقابل ظهره، وفي رواية مسلم ولا يستدبرها ببول أو غائط، والظاهر منه اختصاص النهي بخروج الخارج من العورة ويكون مثاره إكرام القبلة عن المواجهة بالنجاسة، وقيل: مثال النهي كشف العورة،
وحينئذ فيطرد في كل حالة تكشف فيها العورة كالوطء مثلاً، وقد نقله ابن شاس من المالكية قولاً في مذهبهم وكأن قائله تمسك برواية في الموطأ: لا تستقبلوا القبلة بفروجكم ولكنها محمولة على قضاء الحاجة جميعًا بين الروايتين (شرقوا أو غربوا) أي خذوا في ناحية المشرق أو ناحية المغرب، وفيه الالتفات من الغيبة إلى الخطاب وهو لأهل المدينة ومن كانت قبلتهم على سمتهم، أما من كانت قبلته إلى جهة المشرق أو المغرب فإنه ينحرف إلى جهة الجنوب أو الشمال، ثم إن هذا الحديث يدل على عموم النهي في الصحراء والبنيان، وهو مذهب أبي حنيفة ومجاهد وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري وأحمد في رواية عنه لتعظيم القبلة وهو موجود فيهما، فالجواز في البنيان إن كان لوجود الحائل فهو موجود في الصحراء كالجبال والأودية، وخصّ الشافعية والمالكية وإسحاق وأحمد في رواية هذا العموم بحديث ابن عمر الآتي الدالّ على جواز الاستدبار في الأبنية، وجائز عند أحمد وأبي داود وابن خزيمة الدال على جواز الاستقبال فيها، ولولا ذلك كان حديث أبي أيوب لا يخص من عمومه بحديث ابن عمر. إلا جواز الاستدبار فقط ولا يلحق به الاستقبال قياسًا لأنه لا يصح، وقد تمسك به قوم فقالوا بجواز الاستدبار دون الاستقبال.
وحكى عن ابن حنيفة وأحمد وهو قول أبي يوسف وهل جوازهما في البنيان مع الكراهة أم لا؟ فقيل: يكره وفافًا للمجموع وجزم في التذنيب تبعًا للمتوليّ بالكراهة، واختار في المجموع بقاء الكراهة في استقبال بيت المقدس واستدباره، وذهب عروة بن الزبير وربيعة الرأي وداود إلى جواز الاستقبال والاستدبار مطلقًا جاعلين حديث ابن عمر منسوخًا بحديث جابر عند أبي داود والترمذي وأبناء ماجة وخزيمة وحبان نهانا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نستقبل القبلة أو نستدبرها ببول، ثم رأيته قبل أن يقبض بعام يستقبلها وقد ضعفوا دعوى النسخ بأنه لا يصار إليه إلا عند تعذر الجمع، وحملوا حديث جابر هذا على أنه رآه في بناء أو نحوه لأن ذلك هو المعهود من حاله عليه السلام لمبالغته في التستر، ويستثنى من القول بالحرمة في الصحراء ما لو كان الريح يهب على يمين القبلة أو شمالها فإنهما لا يحرمان للضرورة قاله القفال في فتاويه، والاعتبار في الجواز في البنيان والتحريم في الصحراء بالساتر وعدمه، فحيث كان في الصحراء ولم يكن بينه وبينها ساتر أو كان وهو قصير - لا يبلغ ارتفاعه ثلثي ذراع أو بلغ ذلك وبعد عنه أكثر من ثلاثة أذرع حرم وإلاّ فلا، في البنيان يشترط الستر كما ذكرنا وإلاّ فيحرمان إلا فيما بني لذلك وهذا التفصيل للخراسانيين وصحّحه في المجموع.

12 - باب مَنْ تَبَرَّزَ عَلَى لَبِنَتَيْنِ
هذا (باب من تبرز) أي تغوّط جالسًا (على لبنتين) تثنية لبنة بفتح اللام وكسر الموحدة وتسكن مع فتح اللام وكسرها واحدة الطوب النيء.
145 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَمِّهِ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ إِذَا

قَعَدْتَ عَلَى حَاجَتِكَ فَلاَ تَسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَلاَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: لَقَدِ ارْتَقَيْتُ يَوْمًا عَلَى ظَهْرِ بَيْتٍ لَنَا، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلاً بَيْتَ الْمَقْدِسِ لِحَاجَتِهِ. وَقَالَ: لَعَلَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُصَلُّونَ عَلَى أَوْرَاكِهِمْ، فَقُلْتُ: لاَ أَدْرِي وَاللَّهِ.
قَالَ مَالِكٌ: يَعْنِي الَّذِي يُصَلِّي وَلاَ يَرْتَفِعُ عَنِ الأَرْضِ، يَسْجُدُ وَهُوَ لاَصِقٌ بِالأَرْضِ. [الحديث 145 - أطرافه في: 148، 149، 3102].
وبالسند إلى المؤلف

(1/235)


قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس الإمام (عن يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني (عن محمد بن يحيى بن حبان) بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة الأنصاري النجاري بالجيم والنون المازني، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائة (عن عمه واسع بن حبان) بفتح المهملة ابن منقذ له رؤية ولأبيه صحبة رضي الله عنهما (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (أنه) أي عبد الله بن عمر كما صرح به مسلم (كان يقول):
(إن ناسًا) كأبي هريرة وأبي أيوب الأنصاري ومعقل الأسدي وغيرهم ممن يرى عموم النهي في استقبال القبلة واستدبارها (يقولون: إذا قعدت على حاجتك) كناية عن التبرّز ونحوه وذكر القعود لكونه الغالب وإلاّ فلا فرق بينه وبين حالة القيام (فلا تستقبل القبلة ولا بيت المقدس) بفتح الميم وسكون القاف وكسر الدال المخففة وبضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المفتوحة وبيت بالنصب عطفًا على القبلة والإضافة فيه إضافة الموصوف إلى صفته كمسجد الجامع (فقال عبد الله بن عمر) رضي الله عنهما: وهذا ليس جوابًا بالواسع بل الفاء سببية، لأن ابن عمر أورد القول الأوّل منكرًا له، ثم بين سبب إنكاره بما رواه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان يمكنه أن يقول فلقد ارتقيت الخ. لكن الراوي عنه وهو واسع أراد التأكيد بإعادة قوله فقال عبد الله بن عمر والله: (لقد ارتقيت) أي صعدت وفي بعض الأصول رقيت (يومًا) بالنصب على الظرفية ولام لقد جواب قسم محذوف وسقط لابن عساكر لفظ يومًا (على ظهر بيت لنا) وفي رواية تأتي إن شاء الله تعالى على ظهر بيتنا (فرأيت) أي أبصرت (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (على لبنتين) وحال كونه (مستقبلاً بيت المقدس لحاجته) أي لأجل حاجته أو وقت حاجته، وللترمذي الحكيم بسند صحيح فرأيته في كنيف. قال في الفتح: وهذا يرد على من قال ممن يرى الجواز مطلقًا يحتمل أن يكون رآه في الفضاء وكونه على لبنتين لا يدل على البناء لاحتمال أن يكون جلس عليهما ليرتفع بهما عن الأرض، ويرد هذا الاحتمال أيضًا أن ابن عمر كان يرى المنع من الاستقبال في الفضاء إلا بستائر كما رواه أبو داود وغيره. وهذا الحديث مع حديث جابر عند أبي داود وغيره مخصص لعموم حديث أبي أيوب السابق ولم يقصد ابن عمر رضي الله عنهما الإشراف على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تلك الحالة وإنما صعد السطح لضرورة كما في الرواية الآتية إن شاء الله تعالى فحانت منه التفاتة كما في رواية البيهقي، نعم لما اتفق له رؤيته في تلك الحالة من غير قصد أحب أن لا يخلي ذلك من فائدة حفظ هذا الحكم الشرعي اهـ.

(وقال) أي ابن عمر لواسع (لعلك من الذين يصلّون على أوراكهم) أي من الجاهلين بالسُّنّة في السجود من تجافي البطن عن الوركين فيه إذ لو كنت ممن لا يجهلها لعرفت الفرق بني الفضاء وغيره، والفرق بين استقبال الكعبة وبيت القدس قال: واسع (فقلت لا أدري والله) أنا منهم أم لا أو لا أدري السّنة في استقبال الكعبة أبي بيت القدس. (قال مالك) الإمام في تفسير الصلاة على الورك (يعني الذي يصلي ولا يرتفع عن الأرض يسجد وهو لاصق بالأرض).

13 - باب خُرُوجِ النِّسَاءِ إِلَى الْبَرَازِ
هذا (باب خروج النساء إلى البراز) بفتح الموحدة الفضاء الواسع من الأرض وكني به عن الخارج من باب إطلاق اسم المحل على الحال.
146 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُنَّ يَخْرُجْنَ بِاللَّيْلِ إِذَا تَبَرَّزْنَ إِلَى الْمَنَاصِعِ -وَهُوَ صَعِيدٌ أَفْيَحُ- فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- احْجُبْ نِسَاءَكَ. فَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُ، فَخَرَجَتْ سَوْدَةُ بِنْتُ زَمْعَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةً مِنَ اللَّيَالِي عِشَاءً، وَكَانَتِ امْرَأَةً طَوِيلَةً، فَنَادَاهَا عُمَرُ: أَلاَ قَدْ عَرَفْنَاكِ يَا سَوْدَةُ. حِرْصًا عَلَى أَنْ يَنْزِلَ الْحِجَابُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ الْحِجَابِ. [الحديث 146 - أطرافه في: 147، 4795، 5237، 6240].
وبالسند إلى المؤلف رحمه الله قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف (قال: حدّثنا الليث) بن سعد إمام أهل مصر (قال: حدّثني) بالإفراد (عقيل) بضم العين (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عروة) بن الزبير (عن عائشة) أم المؤمنين رضي الله عنها: (أن أزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كن يخرجن بالليل) أي في الليل (إذا تبرزن) أي إذا خرجن إلى البراز للبول والغائط (إلى المناصع) بفتح الميم والنون وكسر الصاد آخره عين مهملتين مواضع آخر المدينة من جهة البقيع (وهو) أي المناصع (صعيد أفيح) بالفاء والحاء المهملة أي

(1/236)


واسع (فكان عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (يقول للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: احجب نساءك) أي امنعهن من الخروج من البيوت (فلم يكن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعل) ما قاله عمر رضي الله عنه (فخرجت سودة بنت زمعة) بالزاي والميم والعين المهملة المفتوحات أو بسكون الميم. قال في النهاية: وهو أكثر ما سمعنا من أهل الحديث والفقهاء يقولونه القرشية العامرية رضي الله عنها هي (زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) المتوفاة آخر خلافة عمر رضي الله عنه، وقيل في خلافة معاوية بالمدينة سنة أربع وخمسين (ليلة) أي خرجت في ليلة (من الليالي عشاء) بكسر العين والمدّ والنصب بدل من قوله ليلة (وكانت) أي سودة (امرأة طويلة فناداها عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام حرف استفتاح ينبّه به على تحقيق ما بعده (قد عرفناك يا سودة) بالبناء على الضم لأنه منادى مفرد معرفة (حرصًا) بالنصب مفعول له معمول لقوله فناداها (على أن

ينزل) بضم المثناة مبنيًّا للمفعول وسقط لفظ على للأصيلي وفي نسخة في الفرع أن ينزل بفتحها مبنيًّا للفاعل وأن مصدرية أي على نزول (الحجاب فأنزل الله) عز وجل (الحجاب) ولغير الأصيلي: فأنزل الله تعالى آية الحجاب أي حكم الحجاب، وللمستملي فأنزل الله آية الحجاب، وزاد أبو عوانة في صحيحه من طريق الترمذي عن ابن شهاب فأنزل الله تعالى آية الحجاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} [الأحزاب: 53] الآية. ففسر المراد من آية الحجاب صريحًا وهذا أحد المواضع الأحد عشر التي وافق عمر فيها نزول القرآن الآتية مع تمام البحث في الحديث إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الأحزاب بعون الله تعالى وقوّته.
147 - حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَدْ أُذِنَ أَنْ تَخْرُجْنَ فِي حَاجَتِكُنَّ». قَالَ هِشَامٌ: يَعْنِي الْبَرَازَ.
وبه قال: (حدّثنا) ولابن عساكر وحدّثنا بالواو وفي رواية أيضًا حدّثني (زكريا) بن يحيى بن صالح اللؤلؤي البلخي الحافظ، المتوفى ببغداد سنة ثلاثين ومائتين (قال: حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة الكوفي (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام (عن عائشة) رضي الله عنها (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) بعد نزول الحجاب:
(قد أذن) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول أي أذن الله (أن) أي بأن (تخرجن) أي بخروجكن (في حاجتكن قال هشام) أي ابن عروة (تعني) أي عائشة رضي الله عنها بالحاجة، وفي بعض الأصول يعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (البراز) بفتح الموحدة كما مرّ. قال الداودي قوله قد أذن أن تخرجن دال على أنه لم يرد هنا حجاب البيوت فإن ذلك وجه آخر إنما أراد أن يستترن بالجلبابات حتى لا يبدو منهنّ إلاّ العين انتهى.
وهذا الحديث طرف من حديث يأتي إن شاء الله في التفسير بطوله، والحاصل منه أن سودة خرجت بعدما ضرب الحجاب لحاجتها وكانت عظيمة الجسم، فرآها عمر رضي الله عنه فقال: يا سودة أما والله لا تخفين علينا فانظري كيف تخرجين فرجعت فشكت ذلك إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يتعشى، فأوحى الله تعالى إليه فقال: إنه قد أذن لكنّ أن تخرجن لحاجتكنّ أي لضرورة عدم الأخلية في البيوت، فلما اتخذت فيها الكنف منعهنّ من الخروج إلا لضرورة شرعية ولهذا عقب المصنف رحمه الله هذا الباب بقوله:

14 - باب التَّبَرُّزِ فِي الْبُيُوتِ
هذا (باب التبرز في البيوت).

148 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ عَنْ وَاسِعِ بْنِ حَبَّانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: ارْتَقَيْتُ فَوْقَ ظَهْرِ بَيْتِ حَفْصَةَ لِبَعْضِ حَاجَتِي، فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْضِي حَاجَتَهُ مُسْتَدْبِرَ الْقِبْلَةِ مُسْتَقْبِلَ الشَّأْمِ.
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا) بالجمع وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني حدّثني (إبراهيم بن المنذر) بضم الميم وكسر الذال بلفظ اسم الفاعل القرشي الحرّاني (قال: حدّثنا أنس بن عياض) أبو ضمرة الليثي المدني المتوفى سنة مائتين (عن عبيد الله) بالتصغير ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب القرشي المدني، المتوفى سنة سبع وأربعين ومائة (عن محمد بن يحيى بن حبّان) بفتح الحاء المهملة وتشديد الموحدة (عن) عمه (واسع بن حبان عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (قال ارتقيت) أي صعدت (فوق ظهر بيت حفصة) يعني أخته كما صرّح به مسلم (لبعض حاجتي) وفي رواية ارتقيت فوق بيت حفصة بإسقاط ظهر، وفي الرواية السابقة في باب من تبرز على

(1/237)


لبنتين على ظهر بيت لنا. وفي رواية يزيد الآتية على ظهر بيتنا وطريق الجمع أن يقال: إضافة البيت إليه على سبيل المجاز لكونها أخته وحيث أضافه إلى حفصة كان باعتبار أنه البيت الذي أسكنها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه، واستمر في يدها إلى أن ماتت فورثه عنها وحيث أضافه إلى نفسه كان باعتبار ما آل إليه الحال لأنه ورث حفصة دون إخوته لكونها كانت شقيقته ولم تترك من يحجبه عن الاستيعاب.
(فرأيت) أي فأبصرت (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يقضي حاجته) وحال كونه (مستدبر القبلة مستقبل الشام) لا يقال شرط الحال أن تكون نكرة ومستدبر مضاف لتاليه فيعرف لأن إضافته لفظية وهي لا تفيد التعريف.
149 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ حَبَّانَ أَنَّ عَمَّهُ وَاسِعَ بْنَ حَبَّانَ أَخْبَرَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ أَخْبَرَهُ قَالَ: لَقَدْ ظَهَرْتُ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِنَا فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَاعِدًا عَلَى لَبِنَتَيْنِ مُسْتَقْبِلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ.
وبه قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) بن يوسف الدورقي، وفي رواية غير أبوي ذر والوقت والأصيلي باب بالتنوين حدّثنا يعقوب بن إبراهيم (قال: حدّثنا يزيد) أي (ابن هارون) كما عند الأصيلي وأبي الوقت، وتوفي يزيد هذا بواسط سنة ست ومائتين (قال أخبرنا يحيى) بن سعيد الأنصاري المدني الذي روى عنه هذا الحديث مالك كما مرّ (عن محمد بن يحيى بن حبان أن عمه واسع بن حبان) بفتح المهملة فيهما (أخبره أن عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (أخبره قال: لقد ظهرت) أي علوت وارتفعت وأكد باللام وقد (ذات يوم) أي يومًا فهو من إضافة المسمى إلى اسمه أي ظهرت في زمان هو مسمى لفظ اليوم وصاحبه (على ظهر بيتنا فرأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاعدًا على لبنتين) يقضي حاجته حال كونه (مستقبل بيت المقدس) ولم يقع في رواية يحيى الأنصاري

هذه مستدبر القبلة كما في رواية عبيد الله لأن ذلك من لازم من استقبل الشام بالمدينة، وإنما ذكرت في رواية عبيد الله للتأكيد والتصريح به. وقال هنا مستقبل بيت القدس، وفي السابقة مستقبل الشام فغاير في اللفظين والمعنى واحد لأنهما في جهة واحدة.

15 - باب الاِسْتِنْجَاءِ بِالْمَاء
هذا (باب الاستنجاء بالماء) استفعال أي طلب الإنجاء والهمزة للسلب الإزالة كالاستعتاب لطلب الإعتاب لا العتب والاستنجاء إزالة النجو وهو الأذى الباقي في فم أحد المخرجين بالحجر أو بالماء وأصله الإزالة والذهاب إلى النجو، وهو ما ارتفع من الأرض كانوا يستترون بها إذا قعدوا للتخلي، وقصد المؤلف بهذه الترجمة الرد على من كره الاستنجاء بالماء وعلى من نفى وقوعه من الشارع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
150 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي مُعَاذٍ -وَاسْمُهُ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ- قَالَ سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَجِيءُ أَنَا وَغُلاَمٌ مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ. يَعْنِي يَسْتَنْجِي بِهِ. [الحديث 150 - أطرافه في: 151، 152، 217، 500].
وبالسند أول الكتاب إلى المؤلف قال: (حدّثنا أبو الوليد هشام بن عبد الملك) الطيالسي البصري (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي معاذ) بضم الميم وبالذال المعجمة (واسمه عطاء بن أبي ميمونة) البصري التابعي القدري، المتوفى بعد الثلاثين والمائة. وفي رواية الاقتصار على أبي معاذ دون تاليه (قال: سمعت أنس بن مالك) حال كونه (يقول كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خرج) من بيته أو من بين الناس (لحاجته) أي البول أو الغائط ولفظة كانت تشعر بالتكرار والاستمرار (أجيء أنا وغلام) زاد في الرواية الآتية منا أي من الأنصار كما صرّح به الإسماعيلي في روايته وكلمة إذ ظرف، ويحتمل أن يكون فيها معنى الشرط وهي أجيء، والجملة في محل نصب على أنها خبر كان والعائد محذوف أي أجيئه وأنا ضمير مرفوع أبرزه ليصح عطف غلام على ما قبله لئلا يلزم عطف اسم على فعل. والغلام الذي طرّ شاربه وقيل هو من حين يولد إلى أن يشب وفي أساس البلاغة الغلام هو الصغير إلى حدّ الالتحاء. فإن قيل له بعد الالتحاء غلام فهو مجاز ولم يسم الغلام، وقيل هو ابن مسعود ويكون سماه غلامًا مجازًا وحينئذٍ فقول أنس منا أي من الصحابة أو من خدمه عليه الصلاة والسلام، وأما رواية الإسماعيلي التي فيها من الأنصار فلعلها من تصرف الراوي حيث رأى في الرواية منا فحملها على القبيلة فرواها بالعنى، وقال من الأنصار أو من إطلاق الأنصار على جميع
الصحابة رضي الله عنهم وإن كان العرف خصّه بالأوس والخزرج، وقيل أبو هريرة وقد وجد لذلك شاهد وسماه أنصاريًّا مجازًا، لكن يبعده أن إسلام أبي هريرة بعد بلوغ أنس وأبو هريرة كبير، فكيف يقول أنس كما في مسلم وغلام نحوي أي

(1/238)


مقارب لي في السن، ووقع في رواية الإسماعيلي من

طريق عاصم بن علي فأتبعه وأنا غلام بتقديم الواو فتكون حالية، ولكن تعقبه الإسماعيلي بأن الصحيح أنا وغلام بواو العطف (معنا) بفتح العين وقد تسكن (إداوة) بكسر الهمزة إناء صغير من جلد كالسطيحة مملوءة (من ماء) قال هشام (يعني) أنس (يستنجي به) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد تعقب الأصيلي البخاري في استدلاله بحديث الباب على الاستنجاء بالماء قال لأن قوله هنا به يستنجي به ليس هو من قول أنس إنما هو من قول أبي الوليد هشام الراوي، وقد رواه سليمان. بن حرب عن شعبة فلم يذكرها، فيحتمل أن يكون الماء لوضوئه انتهى.

وزعم بعضهم أن قوله يستنجي به مدرج من قول عطاء الراوي عن أنس فيكون مرسلاً، وحينئذٍ فلا حجة فيه وهذا يردّه ما عن الإسماعيلي من طريق عمرو بن مرزوق عن شعبة، فانطلقت أنا وغلام من الأنصار معنا إداوة فيها ماء يستنجي منها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولمسلم من طريق خالد الحذاء عن عطاء عن أنس، فخرج علينا وقد استنجى بالماء، وللمؤلف من طريق روح بن القاسم عن عطاء بن أبي ميمونة إذا تبرز لحاجته أتيته بماء فيغسل به. وعند ابن خزيمة في صحيحه من حديث إبراهيم بن جرير عن أبيه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل الغيضة فقضى حاجته فأتاه جرير بإداوة من ماء فاستنجى بها. وفي صحيح ابن حبان من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج من غائط قطّ إلاّ مسّ ماء. وعند الترمذي وقال حسن صحيح أنها قالت: مُرْن أزواجكنّ أن يغسلوا أثر الغائط والبول، فإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفعله، وهذا يردّ على من كره الاستنجاء بالماء ومن نفى وقوعه من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متمسكًا بما رواه ابن أبي شيبة بأسانيد صحيحة عن حذيفة بن اليمان أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إذًا لا يزال في يده نتن. وعن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما كان لا يستنجي بالماء، وعن الزهري قال: ما كنا نفعله. وعن سعيد بن المسيب أنه سئل عن الاستنجاء بالماء فقال: إنه وضوء النساء. ونقل ابن التين عن مالك أنه أنكر أن يكون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استنجى بالماء، وعن ابن حبيب من المالكية أنه منع من الاستنجاء بالماء لأنه مطعوم، وقال بعضهم: لا يجوز الاستنجاء بالأحجار مع وجود الماء والسُّنّة قاضية عليهم، استعمل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأحجار وأبو هريرة معه ومعه إداوة من ماء، والذي عليه جمهور السلف والخلف رضي الله عنهما أن الجمع بين الماء والحجر أفضل فيقدم الحجر لتخفيف النجاسة وثقل مباشرتها بيده ثم يستعمل الماء وسواء فيه الغائط والبول كما قاله ابن سراقة وسليم الرازي، وكلام القفال الشاشي في محاسن الشريعة يقتضي تخصيصه بالغائط فإن أراد الاقتصار على أحدهما، فالماء أفضل لكونه يزيل عين النجاسة وأثرها والحجر يزيل العين فقط والخنثى المشكل يتعين فيه الماء على المذهب، ويشترط في الحجر الطهارة إلا في الجمع بينه وبين الماء كما نقله صاحب الإعجاز عن الغزالي.

16 - باب مَنْ حُمِلَ مَعَهُ الْمَاءُ لِطُهُورِهِ
وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: أَلَيْسَ فِيكُمْ صَاحِبُ النَّعْلَيْنِ وَالطَّهُورِ وَالْوِسَادِ.
هذا (باب من حمل) بضم الحاء وكسر الميم خفيفة (معه الماء لطهوره) بضم الطاء أي ليتطهر به وفي رواية ابن عساكر لطهور بفتح الطاء وحذف الضمير. (وقال أبو الدرداء) عويمر بن مالك بن عبد الله بن قيسّ ويقال عويمر بن يزيد بن قيس الأنصاري قاضي دمشق في خلافة عثمان رضي الله عنهما، المتوفى بها سنة إحدى أْو اثنتين وثلاثين يخاطب علقمة بن قيس ومن سأله من العراقيين عن أشياء لا كان بالشام مما وصله المؤلف في المناقب. (أليس فيكم صاحب النعلين) عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. (والطهور) بفتح الطاء (والوساد) بكسر الواو أي صاحب نعلي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومائه الذي يتطهّر به ومخدته والإسناد إليه مجاز لأجل الملابسة لأنه كان يخدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. أي: لَمِ لا تسألون ابن مسعود رضي الله عنه وهو في العراق بينكم وكيف تحتاجون معه إلى أهل الشام أو إلى مثلي.
151 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ تَبِعْتُهُ أَنَا وَغُلاَمٌ مِنَّا مَعَنَا إِدَاوَةٌ مِنْ مَاءٍ.
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) بفتح الحاء المهملة وسكون الراء آخره موحدة الواشحي (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج

(1/239)


(عن عطاء بن أبي ميمونة) البصري التابعي وفي رواية غير أبي ذر والأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت عن أبي معاذ وهو عطاء بن أبي ميمونة (قال):
(سمعت أنسًا) رضي الله عنه، وفي رواية الأصيلي أنس بن مالك حال كونه (يقول كان رسول

الله) وفي رواية كان النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا خرج) من بيته أو من بين الناس (لحاجته) البول أو الغائط (تبعته أنا وغلام منّا) أي من الأنصار كما صرح به الإسماعيلي في روايته أو من قومنا أو من خدمه عليه الصلاة والسلام كما مر (معنا إداوة) مملوءة (من ماء). فإن قلت: إذا للاستقبال وخرج للمضي فكيف يصح هنا إذًا لخروج قد وقع؟ أجيب: بأن إذا هنا لمجرد الظرفية فيكون المعنى تبعته حين خرج أو هو حكاية للحال الماضية.

17 - باب حَمْلِ الْعَنَزَةِ مَعَ الْمَاءِ فِي الاِسْتِنْجَاء
هذا (باب حمل العنزة) بفتح العين والنون والزاي عصا أقصر من الرمح (مع الماء في الاستنجاء).
152 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُ الْخَلاَءَ، فَأَحْمِلُ أَنَا وَغُلاَمٌ إِدَاوَةً مِنْ مَاءٍ وَعَنَزَةً، يَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ. تَابَعَهُ النَّضْرُ وَشَاذَانُ عَنْ شُعْبَةَ. الْعَنَزَةُ عَصًا عَلَيْهِ زُجٌّ.

وبالسند إلى المؤلف قال رحمه الله تعالى: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة وتشديد المعجمة الملقب ببندار (قال حدّثنا محمد بن جعفر) الملقب غندر (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عطاء بن أبي ميمونة) البصري التابعي أنه (سمع أنس بن مالك) رضي الله عنه (يقول):
(كان رسول الله) ولابن عساكر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدخل الخلاء) بالمد أي المتبرز (فأحمل أنا وغلام
إداوة) مملوءة (من ماء وعنزة) بالنصب عطفًا على إداوة وكان أهداها له عليه الصلاة والسلام النجاشي كما في طبقات ابن سعد ومفاتيح العلوم للخوارزمي، والمراد بالخلاء هنا الفضاء كما في الرواية الأخرى كان إذا خرج لحاجته ولقرينة حمل العنزة مع الماء فإن الصلاة إليها إنما تكون حيث لا سترة غيرها، ولأن الأخلية المتخذة في البيوت إنما يتولى خدمته فيها في العادة أهله (يستنجي) عليه الصلاة والسلام (بالماء) وينبش بالعنزة الأرض الصلبة عند قضاء الحاجة لئلا يرتدّ عليه الرشاش أو يصلي إليها في الفضاء أو يمنع بها ما يعرض من الهوام أو يركزها بجنبه لتكون إشارة إلى منع من يروم المرور بقربه لا ليستتر بها عند قضاء الحاجة لأن ضابط هذا ما يستر الأسافل والعنزة ليست كذلك.
(تابعه) أي تابع محمد بن جعفر (النضر) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن شميل بضم الشين المعجمة المازني البصري من أتباع التابعين، المتوفى آخر سنة ثلاث أو أربع ومائتين (وشاذان) بالشين والذال المعجمتين آخره نون لقب الأسود بن عامر الشامي أو البغدادي، المتوفى سنة ثمان ومائتين (عن شعبة) فأما متابعة الأوّل فموصولة عند النسائي والثانية عند المؤلف في الصلاة وزاد في رواية كريمة فقط وفي اليونينية سقوطها للأربعة (العنزة عصا عليه زج) بضم الزاي المعجمة وبالجيم المشددة وهو السنان أقصر من الرمح.

18 - باب النَّهْيِ عَنْ الاِسْتِنْجَاءِ بِالْيَمِين
هذا (باب النهي عن الاستنجاء باليمين).
153 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ هُوَ الدَّسْتَوَائِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ، وَإِذَا أَتَى الْخَلاَءَ فَلاَ يَمَسَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ». [الحديث 153 - طرفاه في: 154، 5630].
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع وفي رواية ابن عساكر حدّثني (معاذ بن فضالة) بفتع الميم وبالذال المعجمة في الأول وفتح الفاء والضاد المعجمة في الثاني البصري الزهراني (قال: حدّثنا هشام) أي ابن عبد الله (هو الدستوائي) بفتح الدال وسكون السين المهملتين وفتح المثناة الفوقية وبالهمز من غير نون (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة الطائي (عن عبد الله بن أبي قتادة) السلمي، المتوفى سنة خمس

وتسعين (عن أبيه) وفي رواية عن أبي قتادة بدل قوله عن أبيه واسم أبي قتادة الحرث أو النعمان أو عمرو بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شهد أُحُدًا وما بعدها، واختلف في شهوده بدرًا له في البخاري ثلاثة عشر حديثًا، توفي بالمدينة أو بالكوفة سنة أربع وخمسين رضي الله عنه (قال):
(قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا شرب أحدكم) ماء أو غيره (فلا يتنفس) بالجزم على النهي كالفعلين

اللاحقين والرفع على النفي (في الإناء) أي داخله وحذف المفعول يفيد العموم، ولذا قدّر بماء أو غيره، وهذا النهي للتأديب لإرادة البالغة في النظافة لأنه ربما يخرج منه ريق فيخالط الماء فيعافه الشارب، وربما تروّح الإناء من بخار رديء بمعدته فيفسد الماء للطافته، فيسنّ أن يبين الإناء عن فمه

(1/240)


ثلاثًا مع التنفس في كل مرة ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى بعون الله في كتاب الأشربة (وإذا أتى الخلاء) فبال كما فسّرته الرواية الآتية (فلا يمس ذكره) وكذا دبره (بيمينه) حالة البول والفاء في فلا جواب الشرط كهي في السابقة، ويجوز في سين يمس فتحها لخفته وكسرها في الأصل في تحريك الساكن وفك الإدغام، وإنما يظهر الجزم فيها للإدغام فإذا زال ظهر (ولا يتمسح بيمينه) تشريفًا لها عن مماسّة ما فيه أذى أو مباشرته، وربما يتذكر عند تناوله الطعام ما باشرته يمينه من الأذى فينفر طبعه عن تناوله والنهي فيهما للتنزيه عند الجمهور كما صرحوا به، وعبارة الروضة يستحب باليسار وكلامه في الكافي يفهم أن الاستنجاء بها حرام فإنه قال: لو استنجى بيمينه صحّ كما لو توضأ من إناء فضة، وإنما خص الرجال بالذكر لكون الرجال في الغالب هم المخاطبون والنساء شقائق الرجال في الأحكام إلا ما خص، وقد استشكل ما ذكر من المسّ والاستجمار باليمين لأنه إذا استجمر باليسار استلزم مسّ الذكر باليمين، وإذا مسّ باليسار استلزم الاستجمار باليمين وكلاهما منهي عنه. وأجيب بأن التخلص من ذلك ما قاله إمام الحرمين والبغوي في تهذيبه والغزالي في وسيطه أنه يمر العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه وهي قارة غير متحركة، وحينئذ فلا يعدّ مستجمرًا باليمين ولا ماسًّا بها فهو كمن صبّ الماء بيمينه على يساره حالة الاستنجاء، ومحصله أنه لا يجعل يمينه محركة للذكر ولا للحجر ولا يستعين بها إلا لضرورة كما إذا استنجى بالماء أو بحجر لا يقدر على الاستنجاء به إلا بمسكه بها قاله ابن الصباغ.
ولما فرغ من ذكر ما ترجم له وهو النهي عن الاستنجاء باليمين شرع يذكر ترجمة النهي عن مس الذكر بها فقال:

19 - باب لاَ يُمْسِكُ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ إِذَا بَال
هذا (باب) بالتنوين (لا يمسك) بالرفع في اليونينية على أن لا نافية وفي غيرها بالجزم وفي نسخة بالفرع كأصله لا يمس (ذكره بيمينه إذا بال). فإن قلت: حكم هذه الترجمة مرَّ في الحديث السابق فما فائدة هذه الترجمة؟ فالجواب: أن فائدتها اختلاف الإسناد مع ما وقع في لفظ المتن من

الخلاف الآتي في بيانه وتحرّيه على عادته في تعدّد التراجم بتعدّد الأحكام المجموعة في الحديث
الواحد كما في هذا.
154 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَأْخُذَنَّ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَسْتَنْجِي بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَتَنَفَّسْ فِي الإِنَاءِ».
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي (قال: حدّثنا الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو إمام أهل الشام (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة (عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه) أبي قتادة وقد صرّح ابن خزيمة في روايته بسماع يحيى له من عبد الله بن أبي قتادة فحصل الأمن من التدليس (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا بال أحدكم فلا يأخذن ذكره بيمينه) بنون التوكيد، ولغير أبي ذر مما ليس في اليونينية فلا يأخذ بإسقاطها، وفي الرواية السابقة إذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه (ولا يستنج بيمينه) مجزوم بحذف حرف العلة بعد الجيم على النهي، وفي رواية الأربعة ولا يستنجي بإثباتها على النفي وهو مفسر لقوله في الرواية السابقة: ولا يتمسح بيمينه ولفظ لا يستنجي أعمّ من أن يكون بالقبل أو بالدبر، وهو يردّ على الطيبي حيث قال في الرواية السابقة ولا يتمسح بيمينه مختص بالدبر (ولا يتنفس في الإناء) جملة استئنافية على أن لا نافية أو معطوفة على أنها ناهية ولا يلزم من كون المعطوف عليه مقيدًا بقيد أن يكون المعطوف مقيدًا به لأن التنفس لا يتعلق بحالة البول، وإنما هو حكم مستقل.

20 - باب الاِسْتِنْجَاءِ بِالْحِجَارَةِ
هذا (باب الاستنجاء بالحجارة).

155 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدِ بْنِ عَمْرٍو الْمَكِّيُّ عَنْ جَدِّهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اتَّبَعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخَرَجَ لِحَاجَتِهِ، فَكَانَ لاَ يَلْتَفِتُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَقَالَ: «ابْغِنِي أَحْجَارًا أَسْتَنْفِضْ بِهَا -أَوْ نَحْوَهُ- وَلاَ تَأْتِنِي بِعَظْمٍ وَلاَ رَوْثٍ. فَأَتَيْتُهُ بِأَحْجَارٍ بِطَرَفِ ثِيَابِي فَوَضَعْتُهَا إِلَى جَنْبِهِ وَأَعْرَضْتُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَضَى أَتْبَعَهُ بِهِنَّ. [الحديث 155 - طرفه في: 3860].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) أي ابن أبي الوليد (المكي) الأزرقي جدّ أبي الوليد محمد بن عبد الله صاحب تاريخ مكة، المتوفى سنة أربع عشرة أو اثنتين وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا

عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو) بكسر عين سعيد (المكي) القرشي الأموي (عن جدّه) سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاصي الثقة (عن أبي هريرة) رضي الله عنه أنه (قال):
(أتبعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بقطع الهمزة من الرباعي أي لحقته قال تعالى: {فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِين} [الشعراء: 60] وبهمزة وصل وتشديد المثناة الفوقية أي مشيت وراءه (و) قد (خرج لحاجته) جملة وقعت حالاً فلا بدّ فيها من قد إما ظاهرة أو مقدرة

(1/241)


(فكان) عليه الصلاة والسلام بفاء العطف ولغير أبي ذر مما ليس في اليونينية وكان (لا يلتفت) وراءه، وهذه كانت عادته عليه الصلاة والسلام في مشيه (فدنوت) أي قربت (منه) لأستأنس به كما في رواية الإسماعيلي وزاد فقال: من هذا؟ فقلت: أبو هريرة، (فقال: ابغني) بهمزة وصل من الثلاثي أي اطلب لي يقال: بغيتك الشيء أي طلبته لك وبهمزة قطع إذا كان من المزيد أي أعني على الطلب. يقال: أبغيتك الشيء أي أعنتك على طلبه. قال العيني كالحافظ ابن حجر وكلاهما روايتان، وللأصيلي فقال: أبغ ليس بهمزة قطع وباللام بعد الغين بدل النون، وللإسماعيلي ائتني (أحجارًا) نصب مفعول ثانٍ لابغني (أستنفض بها) بالنون والفاء المكسورة والضاد العجمة مجزوم جوابًا للأمر وهو الذي في فرع اليونينية كهي، ويجوز رفعه على الاستئناف والاستنفاض الاستخراج ويكنى به عن الاستنجاء كما قاله المطرزي، وفي القاموس استنفضه استخرجه وبالحجر استنجى (أو) قال عليه الصلاة والسلام (نحوه) بالنصب معمول قال، أي قال نحو هذا كأستنجي أو أستنظف والتردد من بعض رواته (ولا تأتي) بالجزم بحذف حرف العلة على النهي. وفي رواية ابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني ولا تأتيني بإثباته على النفي، وفي رواية في الفرع ولا تأتي (بعظم ولا روث) لأنهما مطعومان للجن كما عند المؤلف في البعث أن أبا هريرة رضي الله عنه قال للنبي صلى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أن فرغ: ما بال العظم والروث، قال "هما من طعام الجن" وفي حديث أبي داود عن ابن مسعود أن وفد الجن قدموا على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا: يا محمد أنّه أمتك عن الاستنجاء بالعظم والروث فإن الله تعالى جعل لنا فيه رزفًا فنهاهم عن ذلك وقال: "إنه زاد إخوانكم من الجن" وقيل النهي في العظم لأنه لزج فلا يتماسك لقطع النجاسة، وحينئذ فيلحق به كل ما في معناه كالزجاج الأملس أو لأنه لا يخلو غالبًا من بقية دسم تعلق به فيكون مأكولاً للناس، ولأن الروث نجس فيزيد ولا يزيل ويلحق به كل نجس ومتنجس، ولو أحرق العظم وخرج عن حال العظام فوجهان. أصحهما في المجموع المنع، ويلحق بالعظم كل مطعوم للآدمي لحرمته وإن اختصّ بالبهائم. قال الماوردي: لم يحرم. ومنعه ابن الصباغ، والغالب كالمختص أو استويا فوجهان.
وقد نبّه في الحديث باقتصاره في النهي على العظم والروث على أن ما سواهما مجزئ ولو كان ذلك مختصًّا بالأحجار كما يقول بعض الحنابلة، والظاهرية لم يكن لتخصيص هذين بالنهي معنى، وإنما خص الأحجار بالذكر لكثرة وجودها.
قال أبو هريرة (فأتيته) عليه الصلاة والسلام (بأحجار بطرف) أي في طرف (ثيابي فوضعتها) بتاء بعد العين الساكنة وفي رواية فوضعها (إلى جنبه وأعرضت) وللكشميهني في غير اليونينية
واعترضت (عنه) بزيادة تاء بعد العين، (فلما قضى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حاجته (أتبعه) بهمزة قطع أي ألحقه (بهن) أي أتبع المحل بالأحجار وكنى به عن الاستنجاء واستنبط منه مشروعية الاستنجاء وهل هو واجب أو سُنّة؟ وبالأول قال الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى لأمره عليه الصلاة والسلام بالاستنجاء بثلاثة أحجار، وكل ما فيه تعدد يكون واجبًا كولوغ الكلب. وقال مالك وأبو حنيفة والمزني من أصحابنا الشافعية: هو سنّة واحتجّوا بحديث أبي هريرة عند أبي داود مرفوعًا: "من استجمر فليوتر من فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" الحديث. قالوا: وهو يدل على انتفاء المجموع لا الإيتار وحده وأن يكون قبل الوضوء اقتداء به عليه الصلاة والسلام وخروجًا من الخلاف فإنه شرط عند أحمد وإن أخّره بعد التيمم لم يجزه.

21 - باب لاَ يُسْتَنْجَى بِرَوْثٍ
هذا (باب) بالتنوين (لا يستنجى بروث) بضم المثناة التحتية وفتح الجيم مبنيًّا للمفعول، وثبت في رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر ما بعد الباب.
156 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: لَيْسَ أَبُو عُبَيْدَةَ ذَكَرَهُ، وَلَكِنْ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الأَسْوَدِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ يَقُولُ: أَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْغَائِطَ فَأَمَرَنِي أَنْ آتِيَهُ بِثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، فَوَجَدْتُ حَجَرَيْنِ، وَالْتَمَسْتُ الثَّالِثَ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَأَخَذْتُ رَوْثَةً فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَأَخَذَ الْحَجَرَيْنِ وَأَلْقَى الرَّوْثَةَ وَقَالَ: هَذَا رِكْسٌ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين (قال: حدّثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي المكي الكوفي (عن أبي إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي بفتح السين المهملة وكسر الموحدة التابعي وما ذكر من كون زهير سمع من أبي إسحاق بآخرة لا يقدح لثبوت سماعه منه هذا

(1/242)


الحديث قبل الاختلاط بطرق متعددة (قال) أي أبو إسحاق (ليس أبو عبيدة) عامر بن عبد الله بن مسعود (ذكره) لي (ولكن) ذكره ليس وحدّثني به (عبد الرحمن بن الأسود) المتوفى سنة تسع وتسعين أي لست أرويه الآن عن أبي عبيدة، وإنما أرويه عن عبد الرحمن بن الأسود (عن أبيه) الأسود بن يزيد النخعي الكوفي صاحب ابن مسعود، وقد اختلف فيه على أبي إسحاق فرواه إسرائيل عنه عن أبي عبيدة عن أبيه وابن مغول وغيره عن الأسود عن أبيه عن عبد الله من غير ذكر عبد الرحمن، ورواه زكريا بن أبي زائدة عنه عن عبد الرحمن بن يزيد عن الأسود ومعمر عنه عن علقمة عن عبد الله، ويونس بن أبي إسحاق عن أبيه عن أبي الأحوص عن عبد الله، ومن ثم انتقده الدارقطني على المؤلف لكنه قال: أحسنها سياقًا الطريق التي أخرجها البخاري لكن في النفس منه شيء لكثرة الاختلاف فيه على أبي إسحاق. وأجيب: بأن الاختلاف على الحفاظ لا يوجب الاضطراب إلا مع استواء وجوه الاختلاف

فمتى رجح أحد الأقوال قدم، ومع الاستواء لا بدّ أن يتعذر الجمع على قواعد المحدثين، وهنا يظهر عدم استواء وجود الاختلاف على أبي إسحاق فيه لأن الروايات المختلفة عنه لا يخلو إسناد منها عن مقال غير طريق زهير وإسرائيل مع أنه يمكن ردّ أكثر الطرق إلى رواية زهير.
وقد تابع زهيرًا يوسف بن إسحاق كما سيأتي وهو يقتضي تقديم رواية زهير (أنه) بفتح الهمزة بتقدير الموحدة أي الأسود (سمع عبد الله) أي ابن مسعود رضي الله عنه (يقول):
(أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الغائط) أي الأرض المطمئنة القضاء حاجته، فالمراد به معناه اللغوي (فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار) أي فأمرني بإتيان ثلاثة أحجار وفي طلبه الثلاثة دليل على اعتبارها وإلاّ لما طلبها، وفي حديث سلمان نهانا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن نكتفي بدون ثلاثة أحجار كما رواه مسلم وأحمد. قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (فوجدت) أي أصبت (حجرين والتمست) أي طلب الحجر (الثالث فلم أجده) بالضمير المنصوب أي الحجر، ولأبي ذر فلم أجد بحذفه (فأخذت روثة) زاد ابن خزيمة في رواية له في هذا الحديث أنها كانت روثة حمار (فأتيته) عليه الصلاة والسلام (بها) أي بالثلاثة (فأخذ) عليه الصلاة والسلام (الحجرين وألقى الروثة وقال: هذا ركس) بكسر الراء أي رجس كما في رواية ابن خزيمة وابن ماجة في هذا الحديث أو طعام الجن، وعزي للنسائي أو الرجيع رد من حالة الطهارة إلى حالة النجاسة قاله الخطابي وذكر إشارة الروثة باعتبار تذكير الخبر على حدّ قوله تعالى: {هَذَا رَبِّي} [الأنعام: 78] وفي بعض النسخ هذه ركس على الأصل.

فإن قلت: ما وجه إتيانه بالروثة بعد أمره عليه الصلاة والسلام له بالأحجار؟ أجيب: بأنه قاس الروث على الحجر بجامع الجمود فقطع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قياسه بالفرق أو بإبداء المانع، ولكنه ما قاسه إلا لضرورة عدم المنصوص عليه، وزاد في رواية الأصيلي وابن عساكر وأبوي الوقت وذر.
(وقال إبراهيم بن يوسف) بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي، المتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة (عن أبيه) يوسف بن أبي إسحاق الكوفي الحافظ، المتوفى في زمن أبي جعفر المنصور أو سنة سبع وخمسين ومائة (عن) جدّه (أبي إسحاق حدّثني) بالإفراد (عبد الرحمن) هو ابن الأسود بن يزيد أي بالإسناد السابق، وأراد المؤلف بهذا التعليق الردّ على رغم أن أبا إسحاق دل هذا الخبر وفي ذكر مبحث ذلك طول يخرج عن غرض الاختصار. وقد استدل الطحاوي بقوله: وألقى الروثة على عدم اشتراط الثلاث في الاستنجاء، وعلّله بأنه لو كان شرطًا لطلب ثالثًا، وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وداود. وأجيب: بأن في رواية أحمد في مسنده بإسناد رجاله ثقات أثبات عن ابن مسعود في هذا
الحديث، فألقى الروثة وقال: إنها ركس ائتني بحجر أو أنه عليه الصلاة والسلام اكتفى بطرف أحد الحجرين عن الثالث لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات وذلك حاصل ولو بواحد له ثلاثة أطراف، وتأتي بقية المباحث قريبًا إن شاء الله تعالى.

22 - باب الْوُضُوءِ مَرَّةً مَرَّةً
(باب الوضوء مرة مرة) لكل عضو.
157 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَوَضَّأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّةً مَرَّةً.
وبه قال:

(1/243)


(حدّثنا محمد بن يوسف) البيكندي أو الفريابي (قال: حدثنا سفيان) بن عيينة أو الثوري وجزم الحافظ ابن حجر والبرماوي بأن المراد محمد بن يوسف الفريابي لا البيكندي وسفيان الثوري لا ابن عيينة والتردد فيهما للكرماني وأقره العيني عليه (عن زيد بن أسلم) التابعي المدني (عن عطاء بن يسار) بفتح المثناة التحتية والسين المهملة المخففة (عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه (قال): (توضأ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فغسل كل عضو من أعضاء الوضوء (مرة مرة) بالنصب فيهما على المفعول المطلق المبين للكمية وقيل على الظرفية أي توضأ في زمان واحد، وقيل على المصدر أي توضأ مرة من التوضؤ أي غسل الأعضاء غسلة واحدة.

23 - باب الْوُضُوءِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ
(باب الوضوء مرتين مرتين) لكل عضو أيضًا.
158 - حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عِيسَى قَالَ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَوَضَّأَ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع، وفي رواية ابن عساكر حدّثني (حسين بن عيسى) بتصغير الأوّل ابن حمران بضم الحاء المهملة الطائي القومسي بالقاف والسين المهملة الدامغاني البسطاني، المتوفى بنيسابور سنة سبع وأربعين ومائتين وفي رواية ابن عساكر وأبي ذر الحسين بن عيسى (قال: حدّثنا يونس بن محمد) بن مسلم المؤدّب المعلّم المؤذن البغدادي الحافظ، المتوفى بعد المائتين سنة سبع أو ثمان أو غير ذلك (قال: حدّثنا) وفي رواية الأربعة أخبرنا (فليح بن سليمان) بضم الفاء وفتح اللام وسكون التحتية آخره مهملة واسمه عبد الملك (عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم) بفتح العين في الأوّل وفتح الحاء المهملة وسكون الزاي في الثاني المدني الأنصاري التابعي، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة، وفي رواية أبي ذر أبي بكر بن محمد بن عمرو بزيادة ابن محمد بين أبي بكر وابن عمرو (عن عباد بن تميم) بتشديد الموحدة بعد العين ابن يزيد الأنصاري المختلف في صحبتها (عن عبد الله بن زيد) أي ابن عبد ربه صاحب رؤيا الأذان رضي الله عنه.

(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ) فغسل أعضاء الوضوء (مرتين مرتين) بالنصب فيهما على المفعول المطلق كالسابق.

24 - باب الْوُضُوءِ ثَلاَثًا ثَلاَثًا
هذا (باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا) لكل عضو.

159 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأُوَيْسِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ أَنَّ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ دَعَا بِإِنَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى كَفَّيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ فَغَسَلَهُمَا ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ ثَلاَثَ مِرَارٍ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ». [الحديث 159 - أطرافه في: 160، 164، 1934، 6433].
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله الأويسي) بضم الهمزة وفتح الواو وسكون المثناة التحتية (قال: حدّثني) بالتوحيد (إبراهيم بن سعد) بسكون العين سبط عبد الرحمن بن عوف (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (أن عطاء بن يزيد) التابعي (أخبره) أي أخبر ابن شهاب (أن) بفتح الهمزة بتقدير الباء (حمران) بضم الحاء المهملة وسكون الميم وبالراء ابن أبان بفتح الهمزة والموحدة المخففة ابن خالد (مولى عثمان) بن عفان رضي الله عنه، المتوفى سنة خمس وسبعين (أخبره) أي أن حمران أخبر عطاء.
(أنه رأى) أي أبصر (عثمان بن عفان) بن أبي العاص بن أمية أمير المؤمنين الملقب بذي النورين ولا نعلم أن أحدًا أرخى سترًا على ابنتي نبيّ غيره قاله الحافظ الزين العراقي، المستشهد في يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين رضي الله عنه حال كونه قد (دعا بإناء) فيه ماء للوضوء (فأفرغ) بفاء التفسير أي فصب (على كفيه) إفراغًا (ثلاث مرار). والظاهر أن المراد أفرغ على واحدة بعد واحدة لا عليهما وقد بين في رواية أخرى أنه أفرغ بيده اليمنى على اليسرى ثم غسلهما، وقوله غسلهما قدر مشترك بين كونه غسلهما مجموعتين أو متفرقتين، والذي جزم به في الروضة من زوائده أن الكفين كالأذُنين، والصحيح في الأُذنين مسحهما معًا فكذلك
يغسل الكفّين معًا. ويدل عليه من هذا الحديث أنه قال: فغسلهما ثلاثًا ولو أراد التفريق لقال غسلهما ثلاثًا ثلاثًا، وفي رواية الأصيلي وكريمة ثلاث مرات (فغسلهما) أي غسل كفّيه قبل إدخالهما الإناء (ثم أدخل يمينه في الإناء) فأخذ منه الماء وأدخله في فيه (فمضمض) بأن أدار الماء في فيه، وفي رواية الأصيلي فتمضمض بالتاء بعد الفاء (واستنشق) بأن أدخل الماء في أنفه، وفي رواية ابن عساكر والأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني واستنثر بالمثناة الفوقية المثلثة بينهما نون ساكنة أي أخرج

الماء من أنفه بعد

(1/244)


الاستنشاق، وفي رواية أبي داود وابن المنذر فتمضمض ثلاثًا واستنثر ثلاثًا (ثم غسل وجهه) غسلاً (ثلاثًا) وحدّ الوجه من قصاص الشعر إلى أسفل الذقن طولاً، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأُذن عرضًا. وفيه تأخير غسل الوجه عن السابق كما دلّ عليه العطف بثم المقتضية للمهلة والترتيب احتياطًا للعبادة. لأن اعتبار أوصاف الماء لونًا وطعمًا وريحًا يدرك بالبصر والفم والأنف فظهر سر تقديم المسنون على المفروض (و) غسل (يديه) كل واحدة (إلى) أي مع (المرفقين) بفتح الميم وكسر الفاء وبالعكس لغتان مشهورتان غسلاً (ثلاث مرار ثم مسح برأسه) وسقط ثم لغير الأربعة ولم يذكر عددًا للمسح كغيره فاقتضى الاقتصار على مرة واحدة وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد، لأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل لأنّ المراد منه المبالغة في الإسباغ. نعم روى أبو داود من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره في حديث عثمان تثليث مسح الرأس والزيادة من العدل مقبولة وهو مذهب الشافعي كغيره من الأعضاء. وأجيب: بأن رواية المسح مرة إنما هي لبيان الجواز. (ثم غسل رجليه) غسلاً (ثلاث مرار إلى) أي مع (الكعبين) وهما العظمان المرتفعان عند مفصل الساق والقدم. (ثم قال) عثمان رضي الله عنه (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: من توضأ) وضوءًا (نحو وضوئي هذا) أي مثله لكن بين نحو ومثل فرق من حيث إن لفظ مثل يقتضي المساواة من كل وجه إلا في الوجه الذي يقتضي التغاير بين الحقيقتين بحيث يخرجان عن الموحدة، ولفظ "نحو" لا يقتضي ذلك، ولعلها استعملت هنا بمعنى المثل مجازًا أو لعله لم يترك مما يقتضي المثلية إلا ما لا يقدح في المقصود قاله ابن دقيق العيد.

قال البرماوي في شرح العمدة: وإنما حمل نحو على معنى مثل مجازًا أو على جل المقصود لأن الكيفية المترتب عليها ثواب معين باختلال شيء منها يختل الثواب المترتب بخلاف ما يفعل لامتثال الأمر مثل فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه يكتفى فيه بأصل الفعل الصادق عليه الأمر انتهى.
وقد وقع في بعض طرق الحديث بلفظ مثل كما عند المؤلف في الرقاق، وكذا عند مسلم وهو معارض لقول النووي إنما قال: نحو وضوئي ولم يقل مثل لأن حقيقة مماثلته لا يقدر عليها غيره.
نعم علمه عليه الصلاة والسلام بحقائق الأشياء وخفيات الأمور لا يعلمه غيره، وحينئذ فيكون قول عثمان رضي الله عنه مثل بمقتضى الظاهر.
(ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه) بشيء من المدنيا كما رواه الحكيم الترمذي في كتاب الصلاة له، وحينئذ فلا يؤثر حديث نفسه في أمور الآخرة أو يتفكر في معاني ما يتلوه من القرآن، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يجهز جيشه في صلاته، لكن قال البرماوي في شرح العمدة: ينبغي تأويله أي لكونه لا تعلق له بالصلاة إذ السائغ إنما هو ما يتعلق بها من فهم المتلو فيها أو غيره كما قرره الشيخ عز الدين بن عبد السلام. وقال في الفتح: المراد ما تسترسل النفس معه ويمكن المرء قطعه لأن قوله يحدث يقتضي تكسبًا منه، فأما ما يهجم من الخطرات والوساوس ويتعذر دفعه فذلك معفوّ عنه. نعم هو بلا ريب دون من سلم من الكل لأنه عليه الصلاة والسلام إنما
ضمن الغفران لمن راعى ذلك بمجاهدة نفسه من خطرات الشيطان ونفيها عنها وتفرغ قلبه، ولا ريب أن المتجردين عن شواغل الدنيا الذين غلب ذكر الله على قلوبهم يحصل لهم ذلك. وروي عن سعد رضي الله عنه أنه قال: ما قمت في صلاة فحدّثت نفسي فيها بغيرها. قال الزهري رحمه الله: رحم الله سعدًا إن كان لمأمونًا على هذا ما ظننت أن يكون هذا إلا في نبي انتهى.
وجواب الشرط قوله: (غفر له) بضم الغين مبنيًّا للمفعول، وفي رواية ابن عساكر غفر الله له (ما تقدم من ذنبه) من الصغائر دون الكبائر كما في مسلم من التصريح به، فالمطلق يحمل على المقيد، وزاد ابن أو شيبة: وما تأخر، ويأتي لفظه في باب المضمضة بعون الله تعالى.
160 - وَعَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: قَالَ صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ، وَلَكِنْ عُرْوَةُ يُحَدِّثُ عَنْ حُمْرَانَ، فَلَمَّا تَوَضَّأَ عُثْمَانُ قَالَ: أَلاَ أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا لَوْلاَ آيَةٌ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ؟ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لاَ يَتَوَضَّأُ رَجُلٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهُ وَيُصَلِّي الصَّلاَةَ إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الصَّلاَةِ حَتَّى يُصَلِّيَهَا».
قَالَ عُرْوَةُ: الآيَةُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ}. [البقرة: 159].
(وعن إبراهيم) بن سعد السابق أوّل الباب وهو معطوف على قوله حدّثني إبراهيم بن سعد (قال: قال صالح بن كيسان) بفتح الكاف وسكون المثناة التحتية (قال: ابن شهاب) الزهري.
(ولكن عروة) بن الزبير بن العوّام (يحدث عن

(1/245)


حمران) هذا استدراك من ابن شهاب، يعني أن شيخيه اختلفا في روايتهما له عن حمران عن عثمان رضي الله عنه فحدّثه عطاء على صفة وعروة على صفة، وليس ذلك اختلافًا وإنما هما حديثان متغايران، فأما صفة تحديث عطاء فتقدمت وأما صفة تحديث عروة عنه فأشار إليها بقوله: (فلما توضأ عثمان) رضي الله عنه عطف على محذوف تقديره عن حمران أنه رأى عثمان رضي الله عنه دعا بإناء فأفرغ على كفّيه إلى أن قال: فغسل رجليه إلى الكعبين، فلما توضأ (قال: ألا أحدّثكم) وفي رواية الأربعة لأحدّثنكم أي والله لأحدّثنكم (حديثًا لولا آية) ولابن عساكر لولا آية ثابتة في كتاب الله تعالى (ما حدّثتكموه) أي ما كنت حريصًا على تحديثكم به (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يقول: لا يتوضأ) وفي رواية لا يتوضأن بنون التوكيد الثقيلة (رجل يحسن) وفي رواية الأربعة فيحسن (وضوءه) بأن ويأتي به كاملاً بآدابه وسننه، والفاء بمعنى ثم لأن إحسان الوضوء ليس متأخرًا عن الوضوء حتى يعطف عليه بالفاء التعقيبية، بل هي لبيان الرتبة دلالة على أن الإجادة في الوضوء أفضل وأكمل من الاقتصار فيه على الواجب، (ويصلي الصلاة) المفروضة (إلا) رجل (غفر له) بضم الغين وكسر الفاء (ما بينه وبين الصلاة) التي تليها كما في مسلم من رواية هشام بن عروة أي من الصغائر (حتى يصليها) أي يفرغ منها، فحتى غاية يحصل المقدر في الظرف إذ الغفران لا غاية له. وقال في الفتح: حتى يصليها أي يشرع في الصلاة الثانية.
(قال عروة الآية: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا}. [البقرة: 159] ولابن عساكر {مَا أَنْزَلْنَا مِنَ

البَيِّنَاتِ)، وفي رواية "مَا أَنْزَلْنَا" الآية أي التي في سورة البقرة إلى قوله: {ويلعنهم اللاعنون} كما في مسلم. وهذه الآية وإن كانت في أهل الكتاب فهي تحثّ على التبليغ، ومن ثم استدلّ بها في هذا المقام لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب على ما عرف في محله، ثم إن ظاهر الحديث يقتضي أن المغفرة لا تحصل بما ذكر من إحسان الوضوء بل حتى تنضاف إليه الصلاة.
قال ابن دقيق العيد: الثواب الموعود به يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور، وصلاة الركعتين بعده به والمترتب على مجموع أمرين لا يترتب على أحدهما إلا بدليل خارج، وقد أدخل قوم هذا الحديث في فضل الوضوء وعليهم في ذلك هذا السؤال. ويجاب بأن كون الشيء جزءًا فيما يترتب عليه الثواب العظيم كافٍ في كونه ذا فضل فيحصل المقصود من كون الحديث دليلاً على فضيلة الوضوء، ويظهر بذلك الفرق بين حصول الثواب المخصوص وحصول مطلق الثواب، فالثواب المخصوص يترتب على مجموع الوضوء على النحو المذكور والصلاة الموصوفة، وفضيلة الوضوء قد تحصل بما دون ذلك انتهى.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الصحيح "إذا توضأ العبد خرجت خطاياه" الحديث.
وفيه أن الخطايا تخرج مع آخر الوضوء حتى يفرغ من الوضوء نقيًّا من الذنوب وليس فيه ذكر الصلاة. وأجيب: بأن يحمل حديث أبي هريرة عليها لكن يبعده أن في رواية لمسلم من حديث عثمان رضي الله عنه وكانت صلاته ومشيه إلى المسجد نافلة. وأجيب باحتمال أن يكون ذلك باختلاف الأشخاص، فربَّ متوضئ يحضره من الخشوع ما يستقل وضوءه بالتفكير وآخر عند تمام الصلاة، والله تعالى أعلم.

25 - باب الاِسْتِنْثَارِ فِي الْوُضُوءِ
ذَكَرَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهم- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(باب الاستنثار في الوضوء) وهو دفع الماء الذي يستنشقه المتوضئ أي يجذبه بريح أنفه لتنظيف ما في داخله فيخرجه بريح أنفه سواء كان بإعانة يده أم لا (ذكره) أي الاستنثار (عثمان) بن عفان رضي الله عنه فيما رواه المؤلف موصولاً في باب مسح الرأس كله كما تقدم، (وعبد الله بن زيد) فيما وصله المؤلف فيما سيأتي إن شاء الله تعالى، (وابن عباس رضي الله عنهم عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، وفي رواية ابن عساكر والأصيلي وعبد الله بن عباس وتقدم حديثه موصولاً عند المؤلف، في باب غسل الوجه من غرفة، لكن ليس فيه ذكر الاستنثار، قال في الفتح: كأن المصنف أشار بذلك إلى ما رواه أحمد وأبو داود والحاكم من حديثه موقوفًا استنثروا مرتين بالغتين أو ثلاثًا.

(1/246)


161 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو إِدْرِيسَ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ، وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ». [الحديث 161 - طرفه في: 162].
وبه قال (حدّثنا عبدان) اسمه عبد الله بن عثمان المروزي (قال: أخبرنا عبد الله) أي ابن المبارك (قال: أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالتوحيد (أبو إدريس) عائذ الله بالهمزة والذال المعجمة ابن عبد الله الخولاني بالمعجمة التابعي الجليل قاضي دمشق لمعاوية المتوفى سنة ثمانين.

(أنه سمع أبا هريرة) رضي الله عنه (عن النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) وفي رواية أبوي الوقت وذر عن المستملي أنه قال: (من توضأ فليستنثر) بأن يخرج ما في أنفه من أذى بعد الاستنشاق لما فيه من تنقية مجرى النفس الذي به تلاوة القرآن وبإزالة ما فيه من الثفل تصح مجاري الحروف، وفيه طرد الشيطان لما عند المؤلف رحمه الله تعالى في بدء الخلق: إذا استيقظ أحدكم من منامه فتوضأ فليستنثر ثلاثًا، فإن الشيطان يبيت على خيشومه، والخيشوم أعلى الأنف ونوم الشيطان عليه حقيقة أو هو على الاستعارة لأن ما ينعقد من الغبار ورطوبة الخياشيم قذارة توافق الشياطين فهو على عادة العرب في نسبتهم المستخبث والمستبشع إلى الشيطان، أو ذلك عبارة عن تكسيله عن القيام إلى الصلاة ولا مانع من حمله على الحقيقة، وهل مبيته لعموم النائمين أو مخصوص بمن لم يفعل ما يحترس به في منامه كقراءة آية الكرسي وظاهر الأمر فيه للوجوب فيلزم من قال بوجوب الاستنشاق لورود الأمر به كأحمد وإسحاق وغيرهما أن يقول به في الاستنثار. وظاهر كلام صاحب المغني من الحنابلة أنهم يقولون بذلك، وأن مشروعية الاستنشاق لا تحصل إلا بالاستنثار وقول العيني: إن الإجماع قائم على عدم وجوبه، يردّه تصريح ابن بطال بأن بعض العلماء قال بوجوبه، وقال الجمهور: إن الأمر فيه للندب مستدلين له بما أخرجه الترمذي وحسنه والحاكم وصححه من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للأعرابي: من توضأ كما أمر الله فأحال على الآية وليس فيها ذكر الاستنشاق.
(ومن استجمر) أي مسح محل النجو بالجمار وهي الأحجار الصغار (فليوتر) وحمله بعضهم على استعمال البخور، فإنه يقال تجمر واستجمر أي فليأخذ ثلاث قطع من الطيب ويتطيب ثلاثًا أو أكثر وترًا حكاه ابن حبيب عن ابن عمرو لا يصح، وكذا حكاه ابن عبد البرّ عن مالك، وروى ابن خزيمة في صحيحه عنه خلافه والأظهر الأوّل.

26 - باب الاِسْتِجْمَارِ وِتْرًا
(باب الاستجمار) بالأحجار حال كونه (وترًا).

162 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ. وَمَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ. وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) إمام دار الهجرة ابن أنس الأصبحي (عن أبي الزناد) بكسر الزاي وبالنون واسمه عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا توضأ) أي إذا أراد أن يتوضأ (أحدكم فليجعل في أنفه) كذا في فرع اليونينية كهي بحذف المفعول لدلالة الكلام عليه وهو رواية الأكثرين أي فليجعل في أنفه ماء، ولأبي ذر إثباته كمسلم من رواية سفيان عن أبي الزناد (ثم لينثر) بمثلثة مضمومة بعد النون الساكنة من باب الثلاثي المجرد، ولأبي ذر والأصيلي ثم لينتثر على وزن ليفتعل من باب الافتعال. يقال: نثر الرجل وانتثر إذا حرك النثرة وهي طرف الأنف في الطهارة، (ومن استجمر) بالأحجار (فليوتر) بثلاث أو خمس أو سبع أو غير ذلك، والواجب الثلاثة لحديث مسلم: لا يستنجي أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار، فأخذ بهذا الحديث الشافعي وأحمد وأصحاب الحديث، فاشترطوا أن لا ينقص من الثلاثة فإن حصل الإنقاء بها وإلا وجبت الزيادة، واستحب الإيتار إن حصل الإنقاء بشفع للحديث الصحيح: "ومن استجمر فليوتر" وليس بواجب لزيادة لأبي داود بإسناد حسن قال: ومن لا فلا حرج والمدار عند المالكية والحنفية على أن الإنقاء حيث وجد اقتصر عليه. (وإذا استيقظ أحدكم من نومه) عطف على قوله: إذا توضأ (فليغسل) ندبًا (يده) بالإفراد وفي مسلم ثلاثًا (قبل أن يدخلها) أي قبل إدخالها (في) دون القلتين من (وضوئه) بفتح الواو وهو الماء الذي يتوضأ به، وللكشميهني كمسلم قبل أن يدخلها في الإناء وهو ظرف الماء المعد للوضوء لا يبلغ قلتين، (فإن أحدكم لا يدري أين باتت

(1/247)


يده) من جسده أي: هل لاقت مكانًا طاهرًا منه أو نجسًا بثرة أو جرحًا أو أثر الاستنجاء بالأحجار بعد بلل المحل أو اليد بنحو عرق، ومفهومه أن من درى أين باتت يده كمن لفّ عليها خرقة مثلاً فاستيقظ وهي على حالها أنه لا كراهة. نعم يستحب غسلهما في الماء القليل، فقد صح عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غسلهما قبل إدخالهما في الإناء في حالة اليقظة فاستحبابه بعد النوم أولى، ومن قال كمالك إن الأمر للتعبد لا يفرق بين شاكٍّ ومتيقن، والأمر في قوله: فليغسل للندب عند الجمهور، فإنه علّله بالشك في قوله: فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده، والأمر المضمن بالشك لا يكون واجبًا في هذا الحكم استصحابًا لأصل الطهارة، وحمله الإمام أحمد رحمه الله على الوجوب في نوم الليل دون نوم النهار لقوله في آخر الحديث: أين باتت يده، لأن حقيقة المبيت تكون في الليل، ووقع التصريح به في رواية أبي داود بلفظ: إذا قام أحدكم من الليل، وكذا عند الترمذي وأجيب: بأن التعليل يقتضي إلحاق نوم النهار بنوم الليل، وإنما خصّ نوم الليل بالذكر للغلبة.

قال الرافعي في شرح المسند: يمكن أن يقال الكراهة في الغمس لمن نام ليلاً أشد منها لمن نام نهارًا لأن الاحتمال في نوم الليل أقرب لطوله عادة وليس الحكم مختصًّاً بالنوم، بل المعتبر الشك في نجاسة اليد، واتفقوا على أنه لو غمس يده لم يضرّ الماء خلافًا لإسحاق وداود وغيرهما، وحيث ثبتت الكراهة فلا تزول إلا بتثليث الغسل كما نص عليه في البويطي، وهي المطلوبة عند كل وضوء. قال الإمام: حتى لو كان يتوضأ من قمقمة فيستحب غسلها احتياطًا لتوقع خبث وإن بعد لا للحدث واحترز بالإناء عن البرك والحياض، ويستفاد من الحديث استحباب غسل النجاسات ثلاثًا لأنه إذا أمر به في المشكوك ففي المحقق أولى، والأخذ بالاحتياط في العبادات وأن الماء ينجس بورود النجاسة عليه وفي الإضافة إلى المخاطبين في قوله: فإن أحدكم إشارة إلى مخالفة نومه عليه الصلاة والسلام لذلك فإن عينه تنام ولا ينام قلبه.
وهذا الحديث أخرجه الستة، وهاهنا تنبيه وهو أنه ينبغي للسامع لأقواله عليه الصلاة والسلام أن يتلقاها بالقبول ودفع الخواطر الرادّة لها، فقد بلغنا أن شخصًا سمع هذا الحديث فقال: وأين تبيت يده منه فاستيقظ من النوم ويده داخل دبره محشوّة فتاب عن ذلك وأقلع، فنسأل الله تعالى أن يحفظ قلوبنا من الخواطر الرديئة والله الموفّق.

27 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى الْقَدَمَيْنِ
(باب غسل الرجلين) زاد أبو ذر فيما أفاده في الفتح (ولا يمسح على القدمين) أي إذا كانتا عاريتين وهي كذا في الفرع ثابتة من غير تعيين.
163 - حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ يُوسُفَ بْنِ مَاهَكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: تَخَلَّفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنَّا فِي سَفْرَةٍ، فَأَدْرَكَنَا وَقَدْ أَرْهَقْنَا الْعَصْرَ، فَجَعَلْنَا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا. فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ» مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا.

وبه قال: (حدّثنا) بالجمع وفي رواية أبي ذر حدّثني (موسى) بن إسماعيل التبوذكي (قال: حدّثنا) وفي رواية الأصيلي أخبرنا (أبو عوانة) بفتح العين المهملة الوضاح اليشكري (عن أبي بشر) بكسر الموحدة وسكون العجمة واسمه جعفر بن أبي وحشية الواسطي (عن يوسف بن ماهك) بكسر الهاء وفتحها منصرفًا وغير منصرف كما مرّ (عن عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص رضي الله عنه أنه (قال):
(تخلّف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عنّا في سفرة) من مكة إلى المدينة في حجة الوداع أو عمرة القضية، (فأدركنا) بفتح الكاف أي لحق بنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي رواية كريمة وأبي الوقت في سفرة سافرناها فأدركنا (وقد أرهقنا العصر) بسكون القاف من الإرهاق ونصب العصر مفعوله أي أخّرناها حتى دنا وقتها وهذه رواية أبي ذر، ولكريمة والأصيلي أرهقتنا بتأنيث الفعل العصر بالرفع على الفاعلية ولمسلم

رجعنا مع رسول الله "-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة إلى المدينة حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر أي قرب دخول وقتها فتوضؤوا وهم عجال الحديث (فجعلنا نتوضأ ونمسح على أرجلنا) بالجمع مقابلة للجمع فالأرجل موزعة على الرجال (فنادى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بأعلى صوته: ويل) دعاء بوادٍ في جهنم (للأعقاب) أي لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها (من النار) أو العقاب خاص بالأعقاب إذا قصر في غسلها والألف واللام في الأعقاب للعهد أي الأعقاب المرئية إذ ذاك، والعقب مؤخر القدم (مرتين أو ثلاثًا) أي نادى مرتين أو ثلاثًا واستنبط من هذا الحديث الرد على الشيعة القائلين

(1/248)


بأن الواجب المسح أخذًا بظاهر قراءة وأرجلكم بالخفض، إذ لو كان الفرض المسح لا توعد عليه بالنار.
لا يقال إن ظاهر رواية مسلم أن الإنكار عليهم إنما هو بسبب الاقتصار على غسل بعض الرجل حيث قال: فانتهينا إليهم وأعقابهم بيض تلوح لم يمسها الماء، لأن هذه الرواية من أفراد مسلم، والأولى ما اتفقا عليه فهي أرجح فتحمل هذه الرواية عليها بالتأويل، فيحتمل أن يكون معنى قوله لم يمسّها الماء أي الغسل جمعًا بين الروايتين، وقد صرّح بذلك في رواية مسلم عن أبي هريرة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلاً لم يغسل عقبه، وأيضًا فالقائلون بالمسح لم يوجبوا مسح العقب، وقد تواترت الأخبار عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في صفة وضوئه أنه غسل رجليه وهو المبين لأمر الله تعالى، وقد قال في حديث عمرو بن عنبسة المروي عند ابن خزيمة ثم يغسل قدميه كما أمره الله تعالى، وأما ما روي عن علي وابن عباس وأنس رضي الله عنهم من المسح، فقد ثبت عنهم الرجوع عنه. وهذا الحديث قد سبق بسنده في باب من أعاد الحديث ثلاثًا من كتاب العلم إلا أن الراوي الأوّل هناك أبو النعمان وهنا موسى، والله أعلم بالصواب.

28 - باب الْمَضْمَضَةِ فِي الْوُضُوءِ
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ -رضي الله عنهم- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
هذا (باب المضمضة في الوضوء) بإضافة باب لتاليه، وفي رواية باب بالتنوين المضمضة من الوضوء (قاله) أي ما ذكر من المضمضة (ابن عباس) فيما تقدم موصولاً في الطهارة (وعبد الله بن زيد) أي ابن عاصم فيما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى في باب غسل الرجلين إلى الكعبين (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
164 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَطَاءُ بْنُ يَزِيدَ عَنْ حُمْرَانَ مَوْلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّهُ رَأَى عُثْمَانَ دَعَا بِوَضُوءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إِنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الْوَضُوءِ، ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ثَلاَثًا، ثُمَّ مَسَحَ بِرَأْسِهِ، ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ نَحْوَ

وُضُوئِي هَذَا وَقَالَ: «مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فِيهِمَا نَفْسَهُ، غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال: أخبرني) بالتوحيد (عطاء بن يزيد) من الزيادة (عن حمران) بضم المهملة (مولى عثمان بن عفان).

(أنّه رأى عثمان) زاد الأصيلي وأبو ذر ابن عفان (دعا بوضوء) بفتح الواو وفي باب الوضوء ثلاثًا دعا بإناء فيه ماء للوضوء (فأفرغ) أي فصبَّ (على يديه من إنائه فغسلهما ثلاث مرات) أي قبل أن يدخلهما الإناء وفي السابقة فأفرغ على كفّيه ثلاث مرار (ثم أدخل يمينه في الوضوء) بفتح الواو فأخذ منه (ثم تمضمض) وفي رواية أبي ذر مضمض (واستنشق) بأن جذب الماء بريح أنفه (واستنثر) بأن أخرجه، وفي السابقة ثم أدخل يمينه في الإناء فمضمض واستنثر والمضمضة وضع الماء في الفم وإدارته بالإصبع أو بقوّة الفم ثم مجّه، لكن المشهور عند الشافعية أنه لا يشترط تحريكه ولا مجّه، وإذا كان بالإصبع فاستحب بعضهم أن يكون باليمين لأن الشمال مسّت الأذى، وإذا كان في الفم درهم أداره ليصلَ الماء إلى محله، وفي رواية أبي داود وابن المنذر فمضمض ثلاثًا واستنثر ثلاثًا، وتقديم المضمضة على الاستنشاق مستحق لاختلاف العضوين. وقيل: مستحب كتقديم اليمين.
قال في الفتح: واتفقت الروايات على تقديم المضمضة على الاستنشاق وهما سُنّتان في الوضوء والغسل وأوجبهما أحمد، والأفضل في كيفيتهما أن يفصل بينهما في أظهر القولين عند الرافعي.
وعلى هذا فالأصح، ونص عليه في البويطي الفصل بغرفتين يتمضمض بغرفة ثلاثًا ثم يستنشق بأخرى ثلاثًا، وقيل بست غرفات إلحاقًا بسائر الأعضاء وقصدًا للنظافة، والقول الثاني أن الجمع أفضل وعلى هذا فالأولى أن يجمع بثلاث غرفات يتمضمض من كل واحدة ثم يستنشق وهو الأصح عند النووي، وقيل يجمع بغرفة واحدة حكاه في الكفاية عن نصه في الأم، وعلى هذا يتمضمض منها ثلاثًا ثم يستنشق كذلك، وقيل: يتمضمض منها ثم يستنشق ثم يفعل كذلك ثانيًاً وثالثًا، واستدل بعضهم بقوله: ثم أدخل يمينه على عدم أشراط نيّة الاغتراف ولا دلالة فيه نفيًا ولا إثباتًا.
(ثم غسل وجهه) غسلاً (ثلاثًا و) غسل (يديه) كل واحدة (إلى) أي مع (المرفقين) غسلاً (ثلاثًا) وفي السابقة ثلاث مرات، (ثم مسح برأسه) زاد في رواية أبي داود وابن خزيمة فيِ صحيحه ثلاثًا (ثم غسل كل رجل) غسلاً (ثلاثًا) كذا للكشميهني والأصيلي، وفي رواية المستملي والحموي كل رجله وهي تفيد تعميم كل رجل بالغسل، وفي رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي كل رجليه بالتثنية. قال في الفتح: وهي بمعنى الأولى أي

(1/249)


رواية الكشميهني والأصيلي، وفي رواية ابن عساكر كلتا رجليه وهي التي اعتمدها في عمدة الأحكام.

(ثم قال) رضي الله عنه: (رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوضأ نحو وضوئي هذا، وقال) وفي رواية ثم
قال: (من توضأ) وضوءًا (نحو وضوئي هذا) وفي الرقاق عند المؤلف مثل وضوئي هذا (وصلَّى) وفي رواية ثم صلى (ركعتين لا يحدث فيهما نفسه) بشيء أصلاً كذا نقله القاضي عياض عن بعضهم، ويشهد له ما أخرجه ابن المبارك في الزهد بلفظ لم يسر فيهما، ورده النووي فقال: الصواب حصول هذه الفضيلة مع طريان الخواطر العارضة غير المستقرة (غفر الله له) وفي رواية غير المستملي غفر له مبنيًّا للمفعول (ما تقدم من ذنبه) من الصغائر، وفي الرواية السابقة في باب الوضوء ثلاثًا ثلاثًا. ثم غسل رجليه ثلاث مرات إلى الكعبين، ثم قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من توضأ نحو وضوئي هذا" الخ فوقع في الحديث المسوق هنا رفع صفة الوضوء إلى فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وهذا الحديث رواه ابن أبي شيبة في مصنفه ومسنده معًا بلفظ: حدّثنا خالد بن مخلد قال: حدّثنا إسحاق بن حازم قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: حدّثني حمران بن أبيان مولى عثمان قال دعا عثمان بن عفان رضي الله عنه بوضوء في ليلة باردة وهو يريد الخروج إلى الصلاة فجئته بماء فأكثر ترداد الماء على وجهه ويديه فقلت: حسبك فقد أسبغت الوضوء والليلة شديدة البرد، فقال: صبّ فإني سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لا يسبغ عبد الوضوء إلا غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، قال الحافظ ابن حجر: وأصل هذا الحديث في الصحيحين من أوجه وليس في شيء منها زيادة وما تأخر.
وأخرجه أيضًا الحافظ أبو بكر أحمد بن علي بن سعيد المروزي شيخ النسائي في مسند عثمان له، وتابع ابن أبي شيبة جماعة منهم محمد بن سعيد بن يزيد التستري أخرجه عنه عبد الرزاق وسقط لفظ نفسه لابن عساكر عن الكشميهني.

29 - باب غَسْلِ الأَعْقَابِ. وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الْخَاتَمِ إِذَا تَوَضَّأَ
(باب غسل الأعقاب) جمع عقب بفتح العين وكسر القاف أي وما يلحق بها مما فى معناها من جميع الأعضاء التي قد يحصل التساهل في إسباغها، ومن ثم ذكر موضع الخاتم لأنه قد لا يصل إليه الماء إذا كان ضيقًا فقال: (وكان ابن سيرين) محمد التابعي الجليل مما وصله ابن أبي شيبة في مصنفه بسند صحيح والمؤلف في تاريخه (يغسل موضع الخاتم إذا توضأ)، وذهب الشافعي والحنفية إلى أنه إن كان الخاتم واسعًا بحيث يدخل الماء تحته أجزأ من غير تحريكه وإن كان ضيفًا فليحرك.
165 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زِيَادٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -وَكَانَ يَمُرُّ بِنَا وَالنَّاسُ يَتَوَضَّئُونَ مِنَ الْمِطْهَرَةِ - قَالَ: أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ، فَإِنَّ أَبَا الْقَاسِمِ قَالَ: «وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ».

وبه قال: (حدّثنا آدم بن أبي إياس) بكسر الهمزة وتخفيف المثناة التحتية، وسقط لابن عساكر لفظ ابن أبي إياس (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: حدثنا محمد بن زياد) بكسر الزاي وتخفيف المثناة التحتية القرشي الجمحي المدني التابعي الجليل (قال):
(سمعت أبا هريرة) رضي الله عنه (وكان يمرّ بنا) جملة حالية من مفعول سمعت، وهو قول أبي هريرة ويمر بنا جملة في محل نصب خبر كان (والناس) مبتدأ خبره (يتوضؤون) والجملة حال من فاعل كان (من المطهرة) بكسر الميم الإناء المعدّ للتطهير وفتحها أجود، وصح في الحديث السواك مطهرة للفم (قال) أي سمعت أبا هريرة حال كونه قائلاً، وفي رواية الأربعة فقال بالفاء التفسيرية لأنه يفسر قال المحذوفة بعد قوله أبا هريرة، لأن التقدير سمعت أبا هريرة قال: وكان يمر بنا الخ فإن الذات لا تسمع فالمراد قول أبي هريرة: (أسبغوا الوضوء) بفتح الهمزة من الإسباغ وهو إبلاغه مواضعه وإيفاء كل عضو حقه (فإن أبا القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ويل للأعقاب من النار). والأعقاب جمع عقب بكسر القاف وهو العظم المرتفع عند مفصل الساق والقدم ويجب إدخاله في غسل الرجلين لقوله تعالى: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ} [المائدة: 6] قال المفسرون أي مع الكعبين، وأل في الأعقاب للعهد، ويلحق بها ما يشاركها في ذلك.
وفي حديث عبد الله بن الحرث عند الحاكم: ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار، والمعنى كما قاله البغوي ويل لأصحابها المقصرين في غسلها ففيه حذف المضاف، أو المعنى أن العقب يختص بالعقاب إذا

(1/250)


قصر في غسله لأن مواضع الوضوء لا تمسّها النار كما في مواضع السجود، ولو لم يكن واجبًا لما توعد عليه بالنار أعاذنا الله منها ومن سائر المكاره بمنّه وكرمه. وهذا الحديث من رباعياته رضي الله عنه، ورواته ما بين بصري وخراساني ومدني وفيه التحديث والسماع.

30 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي النَّعْلَيْنِ، وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ
هذا (باب غسل الرجلين في النعلين ولا يمسح على النعلين) لأنه لا يجزئ، وحديث مسحهما المروي في سنن أبي داود ضعفه ابن مهدي وغيره، وأما تمسك من أجازه بظاهر قوله تعالى: {بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُم} فأجيب: بأنه قرئ وأرجلكم بالنصب عطفًا على أيديكم أو على محل برؤوسكم، فقراءة الجر محمولة على مسح الخفين، وقراءة النصب على غسل الرجلين، وهو معنى قول الإمام الشافعي أراد بالنصب آخرين وبالجر آخرين: أو هو معطوف على برؤوسكم لفظًا ومعنىً ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل وهو حكم آخر.
166 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ أَنَّهُ قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا لَمْ أَرَ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا. قَالَ: وَمَا هِيَ يَا ابْنَ جُرَيْجٍ؟ قَالَ: رَأَيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنَ الأَرْكَانِ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ، وَرَأَيْتُكَ تَلْبَسُ

النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ، وَرَأَيْتُكَ تَصْبُغُ بِالصُّفْرَةِ، وَرَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: أَمَّا الأَرْكَانُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمَسُّ إِلاَّ الْيَمَانِيَيْنِ. وَأَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. وَأَمَّا الصُّفْرَةُ فَإِنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْبُغُ بِهَا، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِهَا. وَأَمَّا الإِهْلاَلُ فَإِنِّي لَمْ أَرَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ. [الحديث 166 - أطرافه في: 1514، 1552، 1609، 2865، 5851].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا) إمام الأئمة (مالك عن سعيد المقبري) بضم الموحدة (عن عبيد بن جريج) بالجيم والتصغير فيهما المدني الثقة.
(أنه قال لعبد الله بن عمر) رضي الله عنهما: (يا أبا عبد الرحمن رأيتك تصنع أربعًا) أي أربع خصال (لم أبي أحدًا من أصحابك) وفي رواية أبي الوقت ما أصحابنا، والمراد أصحاب الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يصنعها) مجتمعة وإن كان يصنع بعضها أو المراد الأكثر منهم (قال: وما هي يا ابن جريج؟ قال: رأيتك لا تمس من الأركان) أي أركان الكعبة الأربعة (إلا) الركنين (اليمانيين) تغليبًا، وإلاّ فالذي فيه الحجر الأسود عراقي لأنه إلى جهته ولم يقع التغليب باعتبار الأسود خوف الاشتباه على جاهل وهما باقيان على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام، ومن ثم خصّا أخيرًا بالاستلام. وعلى هذا لو بني البيت على قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام الآن استلمت كلها اقتداء به، ولذا لما ردّهما ابن الزبير على القواعد استلمهما. وقد صح استلامهما أيضًا عن معاوية. وروي عن الحسن والحسين رضي الله عنهما. وظاهر ما في الحديث هنا انفراد ابن عمر رضي الله عنهما باستلام اليمانيين دون غيره ممن رآهم عبيد وإن سائرهم كان يستلم الأربعة ثم قال ابن جريح لابن عمر رضي الله عنهما. (ورأيتك
تلبس) بفتح المثناة الفوقية والموحدة (النعال السبتية) بكسر المهملة وسكون الموحدة آخره مثناة فوقية التي لا شعر عليها من السبت وهو الحلق وهو ظاهر جواب ابن عمر الآتي أو هي التي عليها الشعر أو جلد البقر المدبوغ بالقرظ والسبت بالضم نبت يدبغ به أو كل مدبوغ أو التي أسبتت بالدباغ أي لانت، أو نسبة إلى سوق السبت، وإنما اعترض على ابن عمر رضي الله عنهما بذلك لأنه لباس أهل النعيم، وإنما كانوا يلبسون النعال بالشعر غير مدبوغة وكانت المدبوغة تعمل بالطائف وغيره (ورأيتك تصبغ) ثوبك أو شعرك (بالصفرة ورأيتك إذا كنت) مستقرًا (بمكة أهلّ الناس) أي رفعوا أصواتهم بالتلبية للإحرام بحج أو عمرة (إذا رأوا الهلال) أي هلال ذي الحجة (ولم) وفي رواية الأصيلي فلم (تهلّ أنت حتى كان يوم التروية) الثامن من ذي الحجة لأنهم كانوا يروون فيه من الماء ليستعملوه في عرفة شربًا وغيره، وقيل غير ذلك فتهلّ أنت حينئذٍ، ويوم بالرفع اسم كان وبالنصب خبرها، فعلى الأوّل كان تامة وعلى الثاني ناقصة والرؤية هنا تحتمل البصرية والعلمية. (قال عبد الله) بن عمر رضي الله عنهما مجيبًا لابن جريج: (أما الأركان) الأربعة (فإني لم أر رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

يمس) منها (إلا) الركنين (اليمانيين وأما النعال السبتية فإني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يلبس النعال) ولغير الأربعة النعل بالإفراد (التي ليس فيها شعر ويتوضأ فيها) أي في النعل (فأنا) وفي رواية أبي ذر عن الحموي والمستملي فإني (أحب أن ألبسها) فيه التصريح بأنه عليه الصلاة والسلام كان يغسل رجليه الشريفتين وهما في نعليه، وهذا موضع استدلال المصنف للترجمة.
(وأما الصفرة فإني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصبغ بها فأنا أحب أن

(1/251)


أصبغ بها) يحتمل صبغ ثيابه لما في الحديث المروي في سُنن أبي داود وكان يصبغ بالورس والزعفران حتى عمامته أو شعره لا في السنن أنه كان يصفّر بهما لحيته، وكان أكثر الصحابة والتابعين رضي الله عنهم يخضب بالصفرة، ورجح الأول القاضي عياض. وأجيب عن الحديث المستدل به للثاني باحتمال أنه كان يتطيب بهما لا أنه كان يصبغ بهما.

(وأما الإهلال) بالحج والعمرة (فإني لم أر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يهلّ حتى تنبعث به راحلته) أي تستوي قائمة إلى طريقه، والمراد ابتداء الشروع في أفعال النسك وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وقال أبو حنيفة: يحرم عقب الصلاة جالسًا وهو قول عندنا لحديث الترمذي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهل بالحج حين فرغ من ركعتيه. وقال حسن وقال آخرون: الأفضل أن يهلّ من أول يوم من ذي الحجة.
وهذا الحديث خماسي الإسناد ورواته كلهم مدنيون وفيه رواية الأقران لأن عبيدًا وسعيدًا تابعيان من طبقة واحدة، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في اللباس، ومسلم وأبو داود في الحج، والنسائي في الطهارة، وابن ماجة في اللباس، وبقية مباحثه تأتي إن شاء الله تعالى.

31 - باب التَّيَمُّنِ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْل
(باب التيمن) أي الأخذ باليمين (في الوضوء والغسل) بضم الغين اسم للفعل أو بفتحها وهو الذي في الفرع كأصله.
167 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَهُنَّ فِي غُسْلِ ابْنَتِهِ: «ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الْوُضُوءِ مِنْهَا». [الحديث 167 - أطرافه في: 1253، 1254، 1255، 1256، 1257، 1258، 1259، 1260، 1261، 1262، 1263].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا إسماعيل) بن علية (قال: حدّثنا خالد) الحذاء (عن حفصة بنت سيرين) الأنصارية أخت محمد بن سيرين (عن أم عطية) نسيبة بضم النون وفتح المهملة وسكون المثناة التحتية بنت كعب أو بنت الحرث الأنصارية وكانت تغسل الموتى وتمرّض المرضى وشهدت خيبر رضي الله عنها (قالت قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهن) أي لأُم عطية ومن معها (في

غسل ابنته) زينب رضي الله عنها كما في مسلم (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها) وهذا الحديث من الخماسيات ورواته كلهم بصريون، وفيه رواية تابعية عن صحابية والتحديث والعنعنة، وأخرجه في الجنائز بتمامه واقتصر منه هنا على طرف لبيان قول عائشة رضي الله عنها الآتي: كان عليه الصلاة والسلام يعجبه التيمن إذ إنه لفظ مشترك بين الابتداء باليمين، وتعاطي الشيء باليمين، وأخرجه أيضًا مسلم والنسائي وابن ماجة جميعًا فيه.
168 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَشْعَثُ بْنُ سُلَيْمٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ. [الحديث 168 - أطرافه في: 426، 5380، 5854، 5926].
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) الحوضي البصري، المتوفى بالبصرة سنة خمس وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: أخبرني) بالإفراد (أشعث) بفتح الهمزة وسكون المعجمة وفتح العين آخره مثلثة (ابن سليم) بالتصغير (قال: سمعت أبي) سليم بن الأسود المحاربي بضم الميم الكوفي (عن مسروق) هو ابن الأجدع الكوفي أبي عائشة أسلم قبل وفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأدرك الصدر الأوّل من الصحابة (عن عائشة) رضي الله عنها أنها (قالت):

(كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعجبه التيمن) بالرفع على الفاعلية أي لحسنه (في تنعله) بفتح المثناة الفوقية والنون وتشديد العين الضمومة أي حال كونه لابسًا النعل أي الابتداء بلبس اليمين (و) في (ترجله) أي الابتداء بالشق الأيمن في تسريح رأسه ولحيته (و) في (طهوره) بضم الطاء لأن المراد تطهره وتفتح أي البداءة بالشق الأيمن في الغسل وباليمن في اليدين والرجلين على اليسرى، وفي سنن أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا "إذا توضأتم فابدؤوا بميامنكم فإن قدّم اليسرى كره" نص عليه في الأم، ووضوءه صحيح، وأما الكفّان والخدَّان والأذنان فيطهران دفعة واحدة (و) كذا كان عليه الصلاة والسلام يعجبه التيمن (في شأنه كله) كذا في رواية أبي الوقت وفي بواو العطف وهو من عطف العام على الخاص ولغيره في شأنه بإسقاطها وتأكيد الشأن بقوله كله يدل على التعميم فيدخل فيه نحو: لبس الثوب والسروال والخف ودخول المسجد والصلاة على ميمنة الإمام وميمنة المسجد والأكل والشرب والاكتحال وتقليم الأظفار وقصّ الشارب ونتف الإبط وحلق الرأس والخروج من الخلاء وغير ذلك مما في معناه، إلا ما خص بدليل كدخول الخلاء والخروج من

(1/252)


المسجد والامتخاط وخلع السراويل وغير ذلك، وإنما استحب فيها التياسر لأنه من باب الإزالة، والقاعدة أن كل ما كان من باب التكريم والتزيّن فباليمين وإلاّ فباليسار، ولا يقال حلق الرأس من باب الإزالة فيبدأ فيه بالأيسر لأنه من باب التزين، وقد ثبت الابتداء فيه بالأيمن كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا، وفي رواية الأكثر من شأنه كله بحذف العاطف وهو جائز عند بعضهم حيث دلت عليه قرينة أو بدل من الثلاثة السابقة بدل اشتمال، والشرط في بدل الاشتمال أن يكون المبدل منه مشتملاً

على الثاني أو متقاضيًا له بوجه ما وهاهنا كذلك على ما لا يخفى، وإذا لم يكن البدل منه مشتملاً على الثاني يكون بدل الغلط أو هو بدل كل من كل نقله في الفتح عن الطيبي، وعبارته قال الطيبي قوله في شأنه بدل من قوله في تنعله بإعادة العامل، وكأنه ذكر التنعل لتعلقه بالرجل والترجل لتعلقه بالرأس والطهور لكونه مفتاح أبواب العبادة، فكأنه نبّه على جميع الأعضاء فهو كبدل الكل من الكل، ثم قال في الفتح قلت: ووقع في رواية مسلم بتقديم قوله في شأنه كله على قوله في تنعله الخ.
وعليها شرح الطيبي وكذا ذكره البرماوي ولم يعترضه، وتعقبه العيني بأن كلام الطيبي ليس هو على رواية البخاري بل على رواية مسلم ولفظها: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب التيمن في شأنه كله في طهوره وترجله وتنعله، فقال الطيبي في شرحه لذلك: قوله في طهوره وترجله وتنعله بدل من قوله في شأنه بإعادة العامل، فكأنه ظن أن كلام الطيبي في الرواية التي فيها ذكر الشأن متأخرًا كرواية البخاري هنا انتهى. وهو بدل كل من بعض وعليه قوله:
نضر الله أعظمًا دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
أو يقدر لفظ يعجبه التيمن كما مرّ فتكون الجملة بدلاً من الجملة أو هو متعلق بيعجبه لا بالتيمن، والتقدير يعجبه في شأنه كله التيمن في تنعله الخ. أي لا يترك ذلك في سفر ولا حضر ولا في فراغه واشتغاله قاله في فتح الباري كالكرماني، وتعقبه العيني بأنه يلزم منه أن يكون إعجابه التيمن في هذه الثلاث مخصوصة في حالاته كلها وليس كذلك، بل كان يعجبه التيمن في كل الأشياء في جميع الحالات ألا ترى أنه أكد الشأن بمؤكد والشأن بمعنى الحال والمعنى في جميع حالاته.
وفي هذا الحديث الدلالة على شرف اليمين وهو سداسي الإسناد، ورواته ما بين بصري وكوفي وفيه رواية الابن عن الأب وقرينين من أتباع التابعين أشعث وشعبة وآخرين من التابعين سليم ومسروق والتحديث والاخبار والعنعنة، وأخرجه أيضًا في الصلاة واللباس، ومسلم في الطهارة، وأبو داود في اللباس، والترمذي في آخر الصلاة وقال: حسن صحيح والنسائي في الطهارة والزينة وابن ماجة في الطهارة.

32 - باب الْتِمَاسِ الْوَضُوءِ إِذَا حَانَتِ الصَّلاَةُ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: حَضَرَتِ الصُّبْحُ فَالْتُمِسَ الْمَاءُ فَلَمْ يُوجَدْ، فَنَزَلَ التَّيَمُّمُ.
هذا (باب التماس الوضوء) بفتح الواو أي طلب الماء لأجل الوضوء بالضم (إذا حانت الصلاة) أي قرب وقتها (وقالت) أم المؤمنين (عائشة) رضي الله عنها مما أخرجه المؤلف من حديثها في قصة ضياع عقدها المذكور في مواضع منها التيمم، وساقه هنا بلفظ عمرو بن الحرث في تفسير المائدة فقال: (حضرت الصبح) أنّثه باعتبار صلاة الصبح (فالتمس) بضم المثناة مبنيًّا للمفعول أي

طلب (الماء) بالرفع مفعول نائب عن الفاعل (فلم يوجد) وفي رواية الكشميهني فالتمسوا الماء بالجمع والنصب على المفعولية فلم يجدوه بالجمع (فنزل التيمم) أي آيته وإسناد التيمم إلى النزول مجاز عقلي.
169 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَحَانَتْ صَلاَةُ الْعَصرِ، فَالْتَمَسَ النَّاسُ الْوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِوَضُوءٍ، فَوَضَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ذَلِكَ الإِنَاءِ يَدَهُ وَأَمَرَ النَّاسَ أَنْ يَتَوَضَّئُوا مِنْهُ. قَالَ: فَرَأَيْتُ الْمَاءَ يَنْبُعُ مِنْ تَحتِ أَصَابِعِهِ، حَتَّى تَوَضَّئُوا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ. [الحديث 169 - أطرافه في: 195، 200، 3572، 3573، 3574، 3575].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) إمام دار الهجرة (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) زيد بن سهل الأنصاري (عن أنس بن مالك) الأنصاري رضي الله عنه (أنه قال):
(رأيت) أي أبصرت (رسول الله) وفي رواية أبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و) الحال أنه قد (حانت) بالمهملة أي قربت (صلاة العصر) وهو بالزوراء كما رواه قتادة عند المؤلف سوق بالمدينة (فالتمس) أي طلب (الناس الوضوء) بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به (فلم يجدوه) ولغير الكشميهني فلم يجدوا بغير الضمير المنصوب أي فلم يصيبوا الماء، (فأُتي) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول

(1/253)


(رسول الله) بالرفع مفعول نائب عن الفاعل (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوضوء) بفتح الواو أي بإناء فيه ماء ليتوضأ به، وفي رواية ابن المبارك فجاء رجل بقدح فيه ماء يسير، وروى المهلب أنه كان مقدار وضوء رجل واحد (فوضع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ذلك الإناء يده وأمر) عليه الصلاة والسلام (الناس أن) أي بأن (يتوضؤوا) أي بالتوضؤ (منه) أي من ذلك الإناء. (قال) أنس رضي الله عنه: (فرأيت) أي أبصرت (الماء) حال كونه (ينبع) بتثليث الموحدة أي يخرج (من تحت) وفي رواية يفور من بين (أصابعه) فتوضؤوا (حتى توضؤوا من عند آخرهم) أي توضأ الناس ابتداء من أوّلهم حتى انتهوا إلى آخرهم، ولم يبق منهم أحد، والشخص الذي هو آخرهم داخل في هذا الحكم لأن السياق يقتضي العموم والمبالغة لأن (عند) هنا تجعل لمطلق الظرفية حتى تكون بمعنى "في" كأنه قال: حتى توضأ الذين هم في آخرهم، وأنس داخل فيهم إذا قلنا يدخل المخاطب بكسر الطاء في عموم خطابه أمرًا أو نهيًا أو خبرًا، وهو مذهب الجمهور. وقال بعضهم: حتى حرف ابتداء يستأنف بعده جملة اسمية وفعلية فعلها ماضٍ نحو حتى عفوا وحتى توضؤوا ومضارع نحو: حتى يقول الرسول في قراءة نافع ومن للغاية لا للبيان خلافًا للكرماني لأنها لا تكون للبيان إلا إذا كان فيما قبلها إبهام ولا إبهام هنا.
وبقية المباحث تأتي إن شاء الله تعالى في علامات النبوة، واستنبط من هذا الحديث استحباب التماس الماء لمن كان على غير طهارة والرد على من أنكر المعجزة من الملاحدة واغترف المتوضئ من

الماء القليل وهو من الرباعيات، ورجاله ما بين تينسي ومدني وبصري وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المصنف في علامات النبوة، ومسلم والترمذي في المناقب وقال: حسن صحيح، والنسائي في الطهارة والله تعالى أعلم.

33 - باب الْمَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ شَعَرُ الإِنْسَان
وَكَانَ عَطَاءٌ لاَ يَرَى بِهِ بَأْسًا أَنْ يُتَّخَذَ مِنْهَا الْخُيُوطُ وَالْحِبَالُ. وَسُؤْرِ الْكِلاَبِ وَمَمَرِّهَا فِي الْمَسْجِدِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: إِذَا وَلَغَ فِي إِنَاءٍ لَيْسَ لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يَتَوَضَّأُ بِهِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: هَذَا الْفِقْهُ بِعَيْنِهِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا) وَهَذَا مَاءٌ. وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَىْءٌ، يَتَوَضَّأُ بِهِ وَيَتَيَمَّمُ.
هذا (باب) حكم (الماء الذي يغسل به شعر الإنسان) هل هو طاهر أم لا؟ (وكان عطاء) هو
ابن أبي رباح فيما وصله محمد بن إسحاق الفاكهي فى أخبار مكة بسند صحيح (لا يرى به) أي
بالشعر (بأسًا) وفي رواية ابن عساكر لا يرى بأسًا (أن يتخذ منها) أي من الشعور، وفي رواية ابن
عساكر منه أي من الشعر (الخيوط والحبال) جمع خيط وحبل ويفرق بينهما بالرقة والغلظ. (و) باب
(سؤر الكلاب) بالهمزة أي بقية ما في الإناء بعد شربها (وممرها في المسجد) وفي رواية هنا زيادة
وأكلها أي حكم أكلها وهو من إضافة المصدر إلى الفاعل، وظاهر صنيع المؤلف القول بالطهارة.

(وقال) محمد بن مسلم بن شهاب (الزهري) فيما رواه الوليد بن مسلم في مصنفه عن الأوزاعي وغيره عنه، ورواه ابن عبد البر في التمهيد من طريقه بسند صحيح (إذا ولغ الكلب في إناء) فيه ماء بأن أدخل لسانه فيه فحركه فيه تحريكًا قليلاً أو كثيرًا، وفي رواية أبي ذر في الإناء أي والحال أنه (ليس له) أي لمريد الوضوء (وضوء) بفتح الواو ما يتوضأ به (غيره) أي غير ما ولغ الكلب فيه ويجوز في غير النصب والرفع (يتوضأ به) أي بالماء الباقي وهو جواب الشرط في إذا، وفي رواية أبي ذر حتى يتوضأ بها أي بالبقية وفي أخرى منه.
(وقال سفيان) الثوري (هذا) أي الحكم بالتوضؤ به (الفقه بعينه) أي المستفاد من القرآن (يقول الله تعالى) وفي رواية أبي الوقت لقول الله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]. وفي رواية القابسي عن أبي زيد المروزي يقول الله "فإن لم تجدوا" وهو مخالف للتلاوة، والظاهر أن الثوري رواه بالمعنى، ولعله كان يرى جواز ذلك، وقد تتبعت كثيرًا من القراءات فلم أر أحدًا قرأ بها، ووجه الدلالة من الآية أن قوله تعالى: (ماء) نكرة في سياق النفي ولا تخص إلا بدليل، كما قال (وهذا) أي المذكور (ماء) وفي رواية الأصيلي: فهذا ماء وتنجيسه بولوغ الكلب فيه غير متفق عليه بين أهل العلم، (وفي النفس منه شيء) لعدم ظهور دلالته أو لوجود معارض له من القرآن أو غيره، وحينئذ

(يتوضأ به) أي بالماء المذكور وفي رواية منه (ويتيمم) لأن الماء الذي يشك فيه لأجل اختلاف العلماء رضي الله عنهم كالعدم فيحتاط للعبادة.
170 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: قُلْتُ لِعَبِيدَةَ. عِنْدَنَا مِنْ شَعَرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أَنَسٍ -أَوْ مِنْ قِبَلِ أَهْلِ أَنَسٍ- فَقَالَ: لأَنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ مِنْهُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا.
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) بن غسان النهدي الحافظ الحجة العابد

(1/254)


المتوفى سنة عشر ومائتين (قال: حدّثنا إسرائيل) بن يونس بن إسحاق السبيعي الهمداني أبو يوسف الكوفي الثقة المتكلم فيه بلا حجة من الطبقة السابعة المتوفى سنة ستين أو بعدها ومائة (عن عاصم) أي ابن سليمان الأحول البصري الثقة، المتوفى سنة اثنتين وأربعين ومائة (عن ابن سيرين) محمد أنه (قال):
(قلت لعبيدة) بفتح العين وكسر الموحدة آخرها هاء ابن عمرو أو ابن قيس بن عمرو السلماني بفتح السين وسكون اللام الكوفي أحد كبار التابعين المخضرمين أسلم قبل وفاته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يره، المتوفى سنة اثنتين وسبعين ومقول قول ابن سيرين لعبيدة (عندنا) شيء (من شعر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصبناه) أي حصل لنا (من قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي من جهة (أنس أو من قبل أهل أنس) هو ابن مالك، ووجه حصوله لابن سيرين أن سيرين والد محمد كان مولى لأنس بن مالك، وكان أنس بن مالك ربيبًا لأبي طلحة وهو-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعطاه لأبي طلحة رضي الله عنه كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث الآتي (فقال) عبيدة: (لأن تكون عندي شعرة) واحدة (منه أحب إليّ من الدنيا وما فيها) من متاعها. وفي رواية الإسماعيلي: أحبّ إليّ من كل صفراء وبيضاء، ولام لأن تكون لام الابتداء للتأكيد وأن مصدرية أي كون شعرة، وأحب خبر لأن تكون وتكون ناقصة، ويحتمل أن تكون تامة.
فإن قلت: ما وجه الدلالة من الحديث على الترجمة؟ أجيب: بأن ذلك من حفظ أنس لشعر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتمنى عبيدة أن يكون عنده شعرة واحدة منه لطهارته وشرفه، فدلّ ذلك على أن مطلق الشعر طاهر، وإذا كان طاهرًا فالماء الذي يغسل به طاهر، وتعقب بأن شعره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكرم لا يقاس عليه غيره. وأجيب: بأن الخصوصية لا تثبت إلا بدليل، والأصل عدمها وعورض بما يطول فالله أعلم. وهذا الحديث خماسي ورواته ما بين بصري وكوفي وفيه تابعي عن تابعي والتحديث والعنعنة والقول.
171 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَّادٌ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا حَلَقَ رَأْسَهُ كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَوَّلَ مَنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ.

وبه قال: (حدّثنا محمد بن عبد الرحيم) صاعقة البغدادي (قال: أخبرنا) وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي حدّثنا (سعيد بن سليمان) الضبي البزار أبو عثمان سعدويه الحافظ الواسطي، المتوفى سنة خمس وثمانين عن مائة سنة. (قال: حدّثنا عباد) بتشديد الموحدة ابن العوام الواسطي أبو سهل، المتوفى سنة خمس وثمانين ومائة. (عن ابن عون) بفتح العين المهملة وآخره نون واسمه عبد الله تابعي سيد قراء زمانه (عن ابن سيرين) محمد (عن أنس) وللأصيلي زيادة ابن مالك.
(أن رسول الله) وفي رواية أبي ذر أن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما حلق رأسه) في حجة الوداع أي أمر الحلاق فحلقه فأضاف الفعل إليه مجازًا، واختلف في الذي حلق فالصحيح أنه معمر بن عبد الله كما ذكره البخاري رحمه الله، وقيل: هو خراش بن أمية بمعجمتين والصحيح أن خراشًا كان الحالق بالحديبية (كان أبو طلحة) زيد بن سهل بن الأسود الأنصاري النجاري زوج أم سليم والدة أنس شهد الشاهد كلها، المتوفى سنة سبعين كأبي هريرة (أول من أخذ من شعره) عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث من الخماسيات، ورواته ما بين تنيسي ومدني وكلهم أئمة أجلاء وفيه الإخبار والتحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة وقال الترمذي: حسن صحيح.

33 م - باب إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا
هذا (باب) بالتنوين (إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا).
172 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا».
(حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (عن مالك) وللأربعة أخبرنا مالك الإمام (عن أبي الزناد) بكسر الزاي عبد الله بن ذكوان القرشي المدني (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) أنه (قال): (إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط لفظ قال لأبي ذر والأصيلي وابن عساكر: (قال: إذا شرب الكلب) أي إذا ولغ الكلب ولو مأذونًا في اتخاذه بطرف لسانه (في) وفي رواية من (إناء أحدكم فليغسله سبعًا) أي سبع مرات لنجاسته المغلظة واستدلال بعضهم بقوله في إناء أحدكم على عدم تنجس الماء المستنقع إذا

(1/255)


ولغ فيه ولو كان قليلاً شاذ فإن ذلك إنما خرج مخرج الغالب لا للقيد وخرج بقوله: ولغ. وكذا شرب ما إذا كان جامدًا لأن الواجب حينئذ إلقاء ما أصابه الكلب بفمه ولا يجب غسل

الإناء حينئذ إلا إذا أصابه فم الكلب مع الرطوبة فيجب غسل ما أصابه فقط سبعًا، لأنه إذا كان ما فيه جامدًا لا يسمى أخذ الكلب منه شربًا ولا ولوغًا كما لا يخفى ولم يقع في رواية مالك الترتيب، ولا ثبت في شيء من الروايات عن أبي هريرة إلا عن ابن سيرين، والإضافة التي في إناء أحدكم ملغى اعتبارها لأن الطهارة لا تتوقف على ملكه، ومفهوم الشرط في قوله: إذا ولغ يقتضي قصر الحكم على ذلك، لكن إذا قلنا إن الأمر بالغسل يتعدى الحكم إلى ما إذا لحس أو لعق مثلاً ويكون ذكر الولوغ للمغالب، وأما إلحاق باقي أعضائه كيده ورِجله فالمذهب المنصوص أنه كذلك لأنه فمه أشرفها فيكون غيره من باب أولى.
وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى. وفي رواية ابن عساكر كما في الفرع كأصله قبل هذا الحديث باب إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعًا. حدّثنا عبد الله بن يوسف، وهو الذي شرح عليه الحافظ ابن حجر، لكن يليه عنده حديث إسحاق بن منصور الكوسج أن رجلاً.
وفي رواية بهامش اليونينية بعد حديث عبد الله بن يوسف إذا شرب الكلب، وسقطت الترجمة والباب في بعض النسخ لأبي ذر والأصيلي.
173 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ سَمِعْتُ أَبِي عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَنَّ رَجُلاً رَأَى كَلْبًا يَأْكُلُ الثَّرَى مِنَ الْعَطَشِ، فَأَخَذَ الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَلَ يَغْرِفُ لَهُ بِهِ حَتَّى أَرْوَاهُ، فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ، فَأَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ». [الحديث 173 - أطرافه في: 2363، 2466، 6009].
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) بن منصور بن بهرام الكوسج أبو يعقوب المروزي الثقة الثبت، المتوفى سنه إحدى وخمسين ومائتين وليس هو إسحاق بن إبراهيم الحمصي كما جزم به أبو نعيم في المستخرج (قال: أخبرنا عبد الصمد) بن عبد الوارث (قال: حدّثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن دينار) المدني العدوي وتكلم فيه لكنه صدوق ولم ينفرد بهذا (قال):

(سمعت أبي) عبد الله بن دينار التابعي مولى ابن عمر رضي الله عنهما (عن أبي صالح) ذكوان الزيات (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن رجلاً) من بني إسرائيل (رأى) أي أبصر (كلبًا يأكل الثرى) بالمثلثة المفتوحة وبالراء المقصورة التراب الندي أي يلعقه (من العطش) أي بسببه (فأخذ الرجل خفه فجعل يغرف له به حتى أرواه) أي جعله ريان، وفي رواية: بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه الحرّ فوجد بئرًا فنزل فيها فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان نزل بي فنزل البئر فملأ خفّه ماء ثم أمسكه بفيه ثم رقي فسقى الكلب (فشكر الله له) أي أثنى عليه أو جازاه (فادخله الجنة) من باب عطف الخاص على العام أو الفاء تفسيرية على حدّ قوله تعالى: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ}

[البقرة: 54] على ما فسر أن القتل كان نفس توبتهم، وفي الرواية الأخرى فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله إن لنا في البهائم أجْرًا؟ فقال: "إن في كل كبد رطبة أجْرًا". وقد استدل بعض المالكية للقول بطهارة الكلب بإيراد المؤلف هذا الحديث في هذه الترجمة من كون الرجل سقى الكلب في خفّه، واستباح لبسه في الصلاة دون غسله إذ لم يذكر الغسل في الحديث، وأجيب باحتمال أن يكون صب في شيء فسقاه أو لم يلبسه، ولئن سلمنا سقيه فيه فلا يلزمنا لأنه وإن كان شرع غيرنا فهو منسوخ في شرعنا.
وهذا الحديث من السداسيات، ورواته ما بين مروزي وبصري ومدني وفيه تابعيان وهما: عبد الله بن دينار وأبو صالح والتحديث والإخبار والسماع والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الشرب والمظالم والأدب وذكر بني إسرائيل، ومسلم في الحيوان، وأبو داود في الجهاد.
174 - وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ شَبِيبٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَتِ الْكِلاَبُ تَبُولُ وَتُقْبِلُ وَتُدْبِرُ فِي الْمَسْجِدِ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ.
(وقال أحمد بن شبيب) بفتح المعجمة وكسر الموحدة ابن سعيد أبو عبد الله التيمي الحنظلي البصري، المتوفى بعد المائتين وهو من شيوخ المؤلف (حدّثنا أبي) شبيب (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال: حدّثي) بالإفراد (حمزة) بالحاء المهملة والزاي (ابن عبد الله) بن عمر بن الخطاب أبو عمارة القرشي العدوي المدني التابعي الثقة الجليل (عن أبيه) عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه (قال):
(كانت الكلاب تقبل وتدبر) حال كونها (في المسجد) النبوي المدني، وفي غير رواية الأربعة تبول وتقبل وتدبر في السجد (في زمان رسول الله

(1/256)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلم يرشون) وفي رواية ابن عساكر فلم يكن، وفي رواية أبي ذر وابن عساكر في نسخة فلم يكونوا يرشون (شيئًا من ذلك) بالماء وفي ذكر الكون مبالغة ليست في حذفه كما في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُم} [الأنفال: 33] حيث لم يقل وما يعذبهم، وكذا في لفظ الرش حيث اختاره على لفظ الغسل لأن الرش ليس فيه جريان الماء بخلاف الغسل فإنه يشترط فيه الجريان، فنفي الرش أبلغ من نفي الغسل، ولفظ شيئًا أيضًا عامّ لأنه نكرة في سياق النفي، وهذا كله للمبالغة في طهارة سؤره إذ في مثل هذه الصورة الغالب أن لعابه يصل إلى بعض أجزاء المسجد. وأجيب: بأن طهارة المسجد متيقنة وما ذكره مشكوك فيه واليقين لا يرتفع بالشك. ثم إن دلالته لا تعارض دلالة منطوق الحديث الوارد بالغسل من ولوغه، وقد زاد أبو نعيم والبيهقي في روايتهما لهذا الحديث من طريق أحمد بن شبيب الذكور موصولاً بصريح التحديث قبل قوله: تقبل تبول وبعدها واو العطف وذلك ثابت في فرع اليونينية، لكنه علم عليه علامة

سقوط ذلك في رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر، وذكره الأصيلي في رواية عبد الله بن وهب عن يونس بن يزيد شيخ شبيب بن سعيد المذكور، وحينئذ فلا حجة فيه لمن استدل به على طهارة الكلاب للاتفاق على نجاسة بولها قاله ابن المنير، لكن يقدح في نقل الاتفاق القول بأنها تؤكل حيث صح عمن نقل عنه وأن بول ما يؤكل لحمه طاهر.

وقال ابن المنذر: كانت تبول خارج المسجد في مواطنها ثم تقبل وتدبر في المسجد، ويبعد أن تترك الكلاب تنتاب في المسجد حتى تمتهنه بالبول فيه، والأقرب أن يكون ذلك في ابتداء الحال على أصل الإباحة، ثم ورد الأمر بتكريم المساجد وتطهيرها وجعل الأبواب عليها، وبهذا الحديث استدل الحنفية على طهارة الأرض إذا أصابتها نجاسة وجفّت بالشمس أو الهواء وذهب أثرها، وعليه بوّب أبو داود حيث قال: باب طهور الأرض إذا يبست، ورجاله الستّ ما بين بصري وأيلي ومدني وفيه تابعي عن تابعي والقول والتحديث والعنعنة، وأخرجه أبو داود والإسماعيلي وأبو نعيم.
175 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ ابْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «إِذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَكَ الْمُعَلَّمَ فَقَتَلَ فَكُلْ، وَإِذَا أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَإِنَّمَا أَمْسَكَهُ عَلَى نَفْسِهِ». قُلْتُ: أُرْسِلُ كَلْبِي فَأَجِدُ مَعَهُ كَلْبًا آخَرَ3 قَالَ: «فَلاَ تَأْكُلْ، فَإِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى كَلْبِكَ وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ». [الحديث 175 - أطرافه في: 2054، 5475، 5476، 5477، 5483، 5484، 5485، 5486، 5487، 7397].
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحرث بن سخبرة بفتح المهملة وسكون المعجمة وفتح الموحدة النمري الأزدي البصري أبو عمر الحوضي ثقة ثبت عيب بأخذ الأجرة على الحديث من كبار العاشرة، توفي سنة خمس وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن ابن أبي السفر) بفتح السين والفاء عبد الله سعيد بن محمد أو أحمد الهمذاني الكوفي (عن الشعبي) بفتح الشين المعجمة واسمه عامر (عن عدي بن حاتم) أي ابن عبد الله بن سعيد بن الحشرج بفتح المهملة وسكون المعجمة آخره جيم الصحابي الشهير الطائي، المتوفى بالكوفة زمن المختار سنة ثمان وستين، وقيل: إنه عاش مائة وثمانين سنة له في البخاري سبعة أحاديث (قال):
(سألت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عن حكم صيد الكلاب كما صرّح به المؤلف في كتاب الصيد (فقال) وفي رواية الأربعة قال: (إذا أرسلت كلبك المعلم) بفتح اللام المشدّدة وهو الذي يسترسل بإرسال صاحبه أي يهيج بإغرائه وينزجر بانزجاره في ابتداء الأمر وبعد شدة العدو ويمسك الصيد ليأخذه الصائد ولا يأكل منه. (فقتل) الصيد (فكل وإذا أكل) الكلب الصيد (فلا تأكل) منه وعلل بقوله (فإنما
أمسكه على نفسه) قال عدي بن حاتم (قلت) لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أرسل كلبي) المعلم (فأجد معه كلبًا آخر قال) عليه الصلاة والسلام (فلا تأكل) منه (فإنما سميت) أي ذكرت اسم الله (على كلبك) عند إرساله (ولم تسمّ على كلب آخر) ظاهره وجوب التسمية حتى لو تركها سهوًا أو عمدًا لا يحل وهو قول أهل الظاهر، وقال الحنفية والمالكية: يجوز تركها سهوًا لا عمدًا، واحتجوا مع أحديث بقوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] وقال الشافعية: سُنّة فلو تركها عمدًا أو سهوًا يحل. قيل: وهذا الحديث حجة عليهم. وأجيب بحديث عائشة رضي الله عنها عند المصنف رحمه الله. قلت: يا رسول الله إن قومًا حديثو عهد بجاهلية أتونا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لم يذكروا

(1/257)


أنأكل منه أم لا؟ فقال: "اذكروا اسم الله عليه وكلوا". فلو كان واجبًا لما جاز الأكل مع الشك، وأما الآية ففسر الفسق فيها بما أهلّ لغير الله تعالى وتوجيهه: أن قوله. {وإنه لفسق} ليس معطوفًا لأن الجملة الأولى فعلية إنشائية، والثانية خبرية. ولا يجوز أن تكون جوابًا لمكان الواو فتعين كونها حالية فتقيد النهي بحال كون الذبح فسقًا، والفسق مفسر في القرآن بما أهلّ به لغير الله تعالى فيكون دليلاً لنا علينا وهذا نوع من القلب. وقال تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] وهم لا يسمون وقد قام الإجماع على أن من أكل متروك التسمية ليس بفاسق.
ومطابقة هذا الحديث للترجمة من قوله فيها وسؤر الكلاب لأن في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام أذن في أكل ما صاده الكلاب ولم يقيد ذلك بغسل موضع فمه، ولذا قال مالك: كيف يؤكل صيده ولكون لعابه نجسًا؟ وأجيب بأن الشارع وكله إلى ما تقرر عنده من غسل ما يماسه فمه.
وهذا الحديث من الخماسيات، ررواته كلهم أئمة أجلاّء ما بين بصري وكوفي، وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في البيوع والصيد والذبائح ومسلم وابن ماجة كلاهما فيه أيضًا.

34 - باب مَنْ لَمْ يَرَ الْوُضُوءَ إِلاَّ مِنَ الْمَخْرَجَيْنِ مِنَ الْقُبُلِ وَالدُّبُرِ لقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ أَوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ الْقَمْلَةِ: يُعِيدُ الْوُضُوءَ.
وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: إِذَا ضَحِكَ فِي الصَّلاَةِ أَعَادَ الصَّلاَةَ وَلَمْ يُعِدِ الْوُضُوءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنْ أَخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وَأَظْفَارِهِ أَوْ خَلَعَ خُفَّيْهِ فَلاَ وُضُوءَ عَلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: لاَ وُضُوءَ إِلاَّ مِنْ حَدَثٍ. وَيُذْكَرُ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقَاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وَسَجَدَ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا زَالَ الْمُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي جِرَاحَاتِهِمْ. وَقَالَ طَاوُسٌ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَطَاءٌ وَأَهْلُ الْحِجَازِ: لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ. وَعَصَرَ ابْنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

وَبَزَعقَ ابْنُ أَبِي أَوْفَى دَمًا فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْحَسَنُ فِيمَنْ يَحْتَجِمُ: لَيْسَ عَلَيْهِ إِلاَّ غَسْلُ مَحَاجِمِهِ.
هذا (باب من لم ير الوضوء) واجبًا من مخرج من مخارج البدن (إلا من المخرجين القبل والدبر) بالجر فيهما عطف بيان أو بدل أي لا من مخرج آخر كالفصد والحجامة والقيء وغيرها، والقبل يتناول ذكر الرجل وفرج المرأة وزاد في رواية من قبل القبل والدبر (لقوله تعالى) وفي رواية غير الهروي والأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت، وقول الله تعالى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِط} [المائدة: 6] أي فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين القبل والدبر، وأصل الغائط المطمئن من الأرض تقضى فيه الحاجة سمي باسم الخارج للمجاورة، لكن ليس في هذه الآية ما يدل على الحصر الذي ذكره المؤلف غاية ما فيها أن الله تعالى أخبر أن الوضوء أو التيمم عند فقد الماء يجب بالخارج من السبيلين وبملامسة النساء المفسرة بجسّ اليد كما فسّرها به ابن عمر رضي الله عنهما، واستدل بذلك الإمام الشافعي رضي الله عنه على نقض الوضوء به، والمعنى في النقض به أنه مظنة الالتذاذ المثير للشهوة. وقال الحنفية: الملامسة كناية عن الجماع فيكون دليلاً للغسل لا للوضوء، وأجيب: بأن اللفظ لا يختص بالجماع قال تعالى: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] وقال عليه الصلاة والسلام لماعز: "لعلك لمست". (وقال عطاء) أي ابن أبي رباح مما وصله ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد صحيح (فيمن يخرج من دبره الدود أو من ذكره نحو القملة) وغير ذلك من النادر. قال: (يعيد الوضوء) وهذا مذهب الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور وسفيان الثوري والأوزاعي، وقال قتادة ومالك: لا وضوء فيه، وفي نسخة باليونينية يعيد الصلاة بدل الوضوء. (وقال جابر بن عبد الله) رضي الله عنه مما وصله سعيد بن منصور والدارقطني: (إذا ضحك) فظهر منه حرفان أو حرف مفهم (في الصلاة أعاد الصلاة لا الوضوء) والذي في اليونينية ولم يعد الوضوء. وقال أبو حنيفة: إذا قهقه في الصلاة ذات الركوع والسجود بصوت يسمعه جيرانه بطلت الصلاة وانتقض الوضوء وإن لم يسمعه جيرانه فلا لحديث "من ضحك في الصلاة قهقهة فليعد الوضوء والصلاة". أخرجه ابن عديّ في كامله سواء كان بصوت يسمع أو تبسم، والخلاف إنما هو في نقض الوضوء لا في إبطال الصلاة. (وقال الحسن) البصري مما أخرجه سعيد بن منصور، وابن المنذر بإسناد صحيح موصولاً (إن أخذ من شعره) أي شعر رأسه أو شاربه (أو) من (أظفاره) ولابن عساكر وأظفاره فلا وضوء عليه خلافًا لمجاهد والحكم بن عتيبة وحماد (أو خلع) وفي رواية ابن عساكر وخلع (خفّيه) أو أحدهما بعد المسح عليهما (فلا وضوء عليه) وهذا مما وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن هشيم عن يونس عن الحسن البصري، وإليه ذهب قتادة وعطاء وطاوس وإبراهيم النخعي وسلمان وداود، واختاره النووي في شرح المهذب كابن المنذر وفي قول يتوضأ لبطلان كل الطهارة ببطلان بعضها كالصلاة، والأظهر أنه يغسل قدميه فقط لبطلان طهرهما بالخلع أو

(1/258)


الانتهاء.

(وقال أبو هريرة) رضي الله عنه مما وصله القاضي إسماعيل في الأحكام بإسناد صحيح من طريق مجاهد عنه: (لا وضوء إلا من حَدَث) هو في اللغة الشيء الحادث ثم نقل إلى الأسباب الناقضة للطهارة وإلى المنع المترتب عليها مجازًا من باب قصر العام على الخاص والأول هو المراد هنا، (ويذكر) بضم الياء (عن جابر) رضي الله عنه مما وصله ابن إسحاق في المغازي، وأخرجه أحمد وأبو داود والدارقطني وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم كلهم من طريق ابن إسحاق (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في غزوة ذات الرقاع فرمي رجل) وهو عباد بن بشر (بسهم فنزفه الدم) بفتح الزاي والفاء أي خرج منه دم كثير (فركع وسجد ومضى في صلاته) فلم يقطعها لاشتغاله بحلاوتها عن مرارة ألم الجرح وفيه رد على الحنفية حيث قالوا: ينتقض الوضوء إذ سال الدم، لكن يشكل عليه الصلاة مع وجود الدم في بدنه أو ثوبه المستلزم لبطلان الصلاة للنجاسة، وأجيب باحتمال عدم إصابة الدم لهما أو إصابة الثوب فقط ونزعه عنه في الحال ولم يسل على جسده إلا مقدار ما يعفى عنه كذا قرره الحافظ ابن حجر والبرماوي والعيني وغيرهم وهو مبني على عدم العفو عن كثير دم نفسه فيكون كدم الأجنبي فلا يعفى إلا عن قليله فقط، وهو الذي صححه النووي في المجموع والتحقيق، وصحح في المنهاج والروضة أنه كدم البثرة وقضيته العفو عن قليله وكثيره، وقد صح أن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه ينزف دمًا.
(وقال الحسن) البصري: (ما زال المسلمون يصلون في جراحاتهم) بكسر الجيم. قال العيني: منتصرًا لمذهبه: أي يصلون في جراحاتهم من غير سيلان الدم والدليل عليه ما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن هشيم عن يونس عن الحسن أنه كان لا يرى الوضوء من الدم إلا ما كان سائلاً. هذا الذي روي عن الحسن بإسناد صحيح وهو مذهل الحنفية وحجة لهم على الخصم انتهى، وليس كما قال لأن الأثر الذي رواه البخاري ليس هو الذي ذكره هو، فإن الأول هو روايته عن الصحابة وغيرهم، والثاني مذهب للحسن فافهم.
(وقال طاوس) اسمه ذكوان بن كيسان اليماني الحميري من أحد الأعلام فيما وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح عن عبيد الله بن موسى بن حنظلة عنه، (و) قال (محمد بن علي) أي ابن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي المدني التابعي أبو جعفر المعروف بالباقر لأنه بقر العلم أي شقّه بحيث علم حقائقه مما وصله أبو بشر سمويه في فوائده من طريق الأعمش رضي الله عنهم أجمعين، (و) قال (عطاء) أي ابن أبي رباح مما وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه، (و) قال (أهل الحجاز) كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والفقهاء السبعة ومالك والشافعي وغيرهم: وهو من باب عطف العام على الخاص لأن الثلاثة السابقة طاوس ومحمد بن علي وعطاء حجازيون (ليس في الدم وضوء) سواء سأل أو يسل خلافًا لأبي حنيفة حيث أوجبه مع الإسالة مستدلاً بحديث الدارقطني إلا أن يكون دمًا سائلاً وأجيب:

(وعصر ابن عمر) رضي الله عنهما (بثرة) بسكون المثلثة وقد تفتح خراجًا صغيرًا في وجهه (فخرج منها الدم) فحكه بين أصبعيه وصلى (ولم يتوضأ) وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي فخرج منها دم، وفي أخرى لهم الدم فلم، وفي أخرى لابن عساكر دم ولم، وهذا الأثر وصله ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، (وبزق) بالزاي ويجوز بالسين كالصاد (ابن أبي أوفى) عبد الله الصحابي ابن الصحابي وهو آخر من مات من الصحابة بالكوفة سنة سبع وثمانين وقد كفّ بصره قبل، وقد رآه أبو حنيفة رضي الله عنه وعمره سبع سنين (دمًا) وهو يصلي (فمضى في صلاته) وهذا وصله سفيان الثوري في جامعه عن عطاء بن السائب بإسناد صحيح لأن سفيان سمع من عطاء قبل اختلاطه.
(وقال ابن عمر) رضي الله عنهما (والحسن) البصري (فيمن يحتجم) وفي رواية الأربعة فيمن احتجم (ليس عليه إلاّ غسل محاجمه) لا الوضوء. والمحاجم جمع محجمة بفتح الميم موضع الحجامة، وقد وصل أثر ابن عمر الشافعي وابن أبي شيبة بلفظ: كان إذا احتجم غسل محاجمه، وأما أثر الحسن فوصله ابن أبي شيبة أيضًا بلفظ: إنه سئل عن الرجل يحتجم ماذا عليه؟

(1/259)


قال: يغسل أثر محاجمه. وفي رواية الكشميهني ليس عليه غسل محاجمه بإسقاط إلا وهو الذي ذكره الإسماعيلي. وقال ابن بطال: ثبتت في رواية المستملي دون رفيقيه انتهى. وكذا هي ثابتة في فرع اليونينية عنه وعن الهروي، وقال ابن حجر وهي في نسختي ثابتة من رواية أبي ذر عن الثلاثة.

176 - حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قال: عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلاَةٍ مَا كَانَ فِي الْمَسْجِدِ يَنْتَظِرُ الصَّلاَةَ مَا لَمْ يُحْدِثْ». فَقَالَ رَجُلٌ أَعْجَمِيٌّ: مَا الْحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الصَّوْتُ (يَعْنِي الضَّرْطَةَ). [الحديث 176 - أطرافه في: 445، 477، 647، 648، 659، 2119، 3229، 4717].
وبالسند قال: (حدّثنا آدم بن أبي إياس) بكسر الهمزة (قال: حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحرث بن أبي ذئب واسمه هشام (قال: حدّثنا سعيد المقبري) ولغير أبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر عن سعيد المقبري (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال):
(قال النبي) وفي رواية أبي ذر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا يزال العبد في) ثواب (صلاة) لا حقيقتها وإلاّ لامتنع عليه الكلام ونحوه (ما كان) وللكشميهني ما دام (في المسجد ينتظر الصلاة ما لم يحدث) أي ما لم يأت بالحدث وما مصدرية ظرفية أي مدة دوام عدم الحدث وهو يعمّ ما خرج من السبيلين وغيره، ونكر الصلاة في قوله في صلاة ليشمل انتظار كل واحدة منها (فقال رجل أعجمي) لا يفصح كلامه ولا يعينه وإن كان عربيًا: (ما الحدث يا أبا هريرة؟ قال: الصوت يعني الضرطة) ونحوها وفي رواية أبي داود وغيره لا وضوء إلا من صوت أو ريح فكأنه قال: لا وضوء إلا من ضراط أو فساء، وإنما خصّهما بالذكر دون ما هو أشد منهما لكونهما لا يخرج من المرء غالبًا في المسجد غيرهما، فالظاهر أن السؤال وقع عن الحدث الخاص وهو المعهود وقوعه غالبًا في الصلاة.

وهذا الحديث من الرباعيات ورجاله كلهم مدنيون إلا آدم مع أنه دخل المدينة وفيه التحديث والعنعنة.
177 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبَّادِ بْنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا».
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي (قال: حدّثنا ابن عيينة) وفي رواية ابن عساكر سفيان بن عيينة (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عباد بن تميم) بتشديد الموحدة بعد العين المفتوحة الأنصاري (عن عمه) عبد الله بن زيد المازني رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا ينصرف) أي المصلي عن صلاته (حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا) وفي رواية: لا ينفتل وهي بمعنى لا ينصرف أورده هنا مختصرًا اقتصر منه على الجواب وسبق تامًّا في باب لا يتوضأ من الشك حتى يستيقن من طريق علي بن المديني، حدّثنا سفيان قال: حدّثنا الزهري عن سعيد بن المسيب، وعن عباد بن تميم ولفظه عن عمه: أنه شكى إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الرجل الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: "لا ينفتل أو لا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا". وهذا الحديث من الخماسيات ورواته أئمة أجلاء ما بين بصري وكوفي ومدني وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف في الطهارة أيضًا وفي البيوع، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي كلهم في الطهارة.
178 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ مُنْذِرٍ أَبِي يَعْلَى الثَّوْرِيِّ عَنْ مُحَمَّدٍ ابْنِ الْحَنَفِيَّةِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ كُنْتُ رَجُلاً مَذَّاءً فَاسْتَحْيَيْتُ أَنْ أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرْتُ الْمِقْدَادَ بْنَ الأَسْوَدِ فَسَأَلَهُ فَقَالَ: «فِيهِ الْوُضُوءُ». وَرَوَاهُ شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ.
وبه قال (حدّثنا قتيبة) بن سعيد (قال: حدّثنا جرير) أي ابن عبد الحميد (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن منذر أبي يعلى الثوري) بالمثلثة (عن محمد ابن الحنفية) أنه (قال):
(قال علي) أي ابن أبي طالب أبوه رضي الله عنه (كنت رجلاً مذّاء) بالمعجمة والهمزة والنصب خبر كان وهو على وزن فعال بالتشديد أي كثيره (فاستحييت أن أسأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عن حكمه (فأمرت المقداد بن الأسود) مجازًا إذ أبوه في الحقيقة ثعلبة البهراني نسب إلى الأسود لأنه تبناه أو حالفه أو لغير ذلك أن يسأله عليه الصلاة والسلام عن ذلك (فسأله فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يجب (فيه الوضوء) لا الغسل.
(ورواه) وفي رواية ابن عساكر رواه بإسقاط الواو (شعبة) بن الحجاج (عن الأعمش) سليمان بن مهران عن منذر الخ، والحديث سبق في آخر كتاب العلم، ويأتي إن شاء الله تعالى في

باب غسل المذي من كتاب الغسل، وأورده هنا لدلالته على إيجاب الوضوء من المذي وهو خارج من أحد المخرجين.
179 - حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ حَفْصٍ قال: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ أَنَّ عَطَاءَ بْنَ يَسَارٍ أَخْبَرَهُ أَنْ زَيْدَ بْنَ خَالِدٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ -رضي الله عنه- قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ فَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ. قَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ -رضي الله عنهم- فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ. [الحديث 179 - طرفه في: 292].
وبه قال: (حدّثنا سعد بن حفص) بسكون العين أبو محمد الطلحي بالمهملتين الكوفي (قال: حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن النحوي أبو معاوية (عن يحيى) بن أبي كثير البصري التابعي (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بفتح اللام عبد الله بن

(1/260)


عبد الرحمن بن عوف التابعي.
(أن عطاء بن يسار) بفتح المثناة التحتية والسين المهملة المدني (أخبره أن زيد بن خالد) المدني الصحابي (أخبره أنه سأل عثمان بن عفان) رضي الله عنه (قلت) بتاء التكلم على سبيل الالتفات من الغيبة للتكلم لقصد حكاية لفظه بعينه إلاّ فكان أسلوب الكلام أن يقول قال: (أرأيت إذا جامع) الرجل امرأته أو أمته (فلم) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر وأبي الوقت ولم (يمن) بضم الياء وسكون الميم وقد يفتح الأوّل وقد يضم مع فتح الميم وشد النون يتوضأ. (قال عثمان) رضي الله عنه (يتوضأ كما يتوضأ للصلاة) أي الوضوء الشرعي لا الوضوء اللغوي، وإنما أمره بالوضوء احتياطًا لأن الغالب خروج المذي من المجامع وإن لم يشعر به (ويغسل ذكره) لتنجسه بالمذي وهل يغسل جميعه أو بعضه المتنجس؟ قال الإمام الشافعي بالثاني ومالك بالأوّل.
ْفإن قلت: غسل الذكر متقدم على الوضوء فلم أخره؟ أجيب: بأن الواو لا تدل على الترتيب بل هو على مطلق الجمع فلا فرق بين أن يغسل الذكر قبل الوضوء أو بعده على وجه لا ينتقض الوضوء معه.
(قال عثمان) رضي الله عنه: (سمعته) أي ما ذكر جميعه (من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال زيد: (فسألت عن ذلك عليًّا) أي ابن أبي طالب رضي الله عنه (والزبير) بن العوام (وطلحة) بن عبيد الله و (أُبي بن كعب) رضي الله عنهم (فأمروه) أي المجامع (بذلك) أي بأن يتوضأ والضمير المرفوع للصحابة والمنصوب للمجامع كما هو مأخوذ من دلالة التضمن في قوله: إذا جامع.
وفي هذا الحديث وجوب الوضوء على من جامع ولم ينزل لا الغسل لكنه منسوخ كما سيأتي إن شاء الله قريبًا، وقد انعقد الإجماع على وجوب الغسل بعد أن كان في الصحابة من لا يوجب الغسل إلا بالإنزال كعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، والزبير بن العوّام، وطلحة بن

عبيد الله، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، ورافع بن خديج، وأبي سعيد الخدري، وأُبيّ بن كعب، وابن عباس، وزيد بن ثابت، وعطاء بن أبي رباح، وهشام بن عروة، والأعمش، وبعض أصحاب الظاهر.
فإن قلت: إذا كان الحديث منسوخًا فكيف يصح استدلال المصنف به؟ أجيب: بأن المنسوخ منه عدم وجوب الغسل لا عدم الوضوء، فحكمه باقٍ والحكمة في الأمر به قبل أن يجب الغسل إما لكون الجماع مظنة خروج الذي أو لملامسة الموطوءة فدلالته على الترجمة من هذه الجزئية وهي وجوب الوضوء من الخارج المعتاد لا على الجزء الأخير وهو عدم الوجوب في غير المنسوخ، ولا يلزم أن يدل كل حديث في الباب على كل الترجمة، بل تكفي دلالة البعض على البعض. ورجال هذا الحديث أحد عشر رجلاً ما بين كوفي وبصري ومدني، وفيهم ثلاثة من التابعين وصحابيان يروي أحدهما عن الآخر، والتحديث والعنعنة والإخبار والسؤال والقول، وأخرجه المؤلف أيضًا في الطهارة وكذا مسلم.
180 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ هو ابن منصورٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا النَّضْرُ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ ذَكْوَانَ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَجَاءَ وَرَأْسُهُ يَقْطُرُ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَعَلَّنَا أَعْجَلْنَاكَ»؟ فَقَالَ: نَعَمْ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أُعْجِلْتَ -أَوْ قُحِطْتَ- فَعَلَيْكَ الْوُضُوءُ».
تَابَعَهُ وَهْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَلَمْ يَقُلْ غُنْدَرٌ وَيَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ "الْوُضُوءُ".

وبه قال: (حدّثنا) وفي رواية بالإفراد (إسحاق هو ابن منصور) وفي رواية كريمة بإسقاط قوله هو ابن منصور، وفي رواية أبي ذر إسحاق بن منصور أي ابن بهرام بفتح الموحدة الكوسج كما عند أبي نعيم (قال: أخبرنا النضر) بفتح النون وسكون العجمة ابن شميل بضم المعجمة أبو الحسن المازني البصري (قال: أخبرنا شعبة) بن الحجاج (عن الحكم) بفتح المهملة والكاف ابن عتيبة مصغر عتبة الباب (عن ذكوان أبي صالح) الزيات المدني (عن أبي سعيد الخدري) بالدال المهملة سعد بن مالك الأنصاري:
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل إلى رجل من الأنصار) هو عتبان بكسر العين المهملة وسكون التاء المثناة الفوقية وموحدة ثم نون بينهما ألف ابن مالك الأنصاري كما في مسلم، أو صالح الأنصاري فيما ذكره عبد الغني بن سعيد، أو رافع بن خديج كما حكاه ابن بشكوال، ورجح في الفتح الأول، ولمسلم مرّ على رجل فيحمل على أنه مرّ به فأرسل إليه (فجاء ورأسه يقطر) جملة وقعت حالاً من ضمير جاء أي ينزل منه الماء قطرة قطرة من أثر الاغتسال، وإسناد القطر إلى الرأس مجاز كسال الوادي (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) له: (لعلنا) قد (أعجلناك) عن فراغ حاجتك من الجماع (فقال)

الرجل، وفي رواية ابن عساكر قال

(1/261)


مقررًا له (نعم) أعجلتني (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إذا أعجلت) بضم الهمزة وكسر الجيم، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني عجلت بضم العين وكسر الجيم الخفيفة من غير همز، وفي رواية عجلت كذلك مع التشديد (أو قحطت) بضم الكاف وكسر الحاء من غير همزة، وفي رواية الأصيلي أو أقحطت بفتح الهمزة والحاء وكذا لمسلم، وفي رواية أقحطت بضم الهمزة وكسر الحاء أي لم تنزل استعارة من قحوط المطر وهو انحباسه (فعليك الوضوء) بالرفع مبتدأ خبره الجار والمجرور وبالنصب على الإغراء أو المفعولية لأنه اسم فعل، وأو في قوله أو قحطت للشك من الراوي أو لتنويع الحكم من الرسول عليه الصلاة والسلام أي سواء كان عدم الإنزال بأمر خارج عن ذات الشخص أو من ذاته لا فرق بينهما في إيجاب الوضوء لا الغسل لكنه منسوخ، وقد أجمعت الأمة الآن على وجوب الغسل بالجماع وإن لم يكن معه إنزال وهو مروي عن عائشة أم المؤمنين، وأبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وابن عمر، وعلي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس والمهاجرين، وبه قال الشافعي ومالك وأبو حنيفة وأحمد وأصحابهم وبعض أصحاب الظاهر والنخعي والثوري. وهذا الحديث من السداسيات ورواته ما بين مروزي وبصري وواسطي وكوفي ومدني وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه مسلم في الطهارة وكذا ابن ماجة.
(تابعه) أي تابع النضر بن شميل (وهب) أي ابن جرير بن حازم فيما وصله أبو العباس السراج في مسنده عن زياد بن أيوب عنه (قال) أي وهب (حدّثنا شعبة) وفي رواية ابن عساكر عن شعبة (قال أبو عبد الله) أي البخاري (ولم يقل) كذا لكريمة وابن عساكر ولغيرهما بإسقاط قال أبو عبد الله: إنما قال ولم يقل (غندر) واسمه محمد بن جعفر (ويحيى) بن سعيد القطان في روايتهما لهذا الحديث (عن شعبة) بهذا الإسناد والمتن (الوضوء) قال البرماوي كالكرماني: أي لم يقولا لفظ الوضوء بل قالا فعليك فقط بحذف المبتدأ للقرينة المسوّغة للحذف والمقدر عند القرينة كالملفوظ.
وقال ابن حجر: فأما يحيى فهو كما قاله قد أخرجه أحمد بن حنبل في مسنده عنه ولفظه فليس عليك غسل، وأما غندر فقد أخرجه أحمد أيضًا عنه ولفظه: فلا غسل عليك، عليك الوضوء، وهكذا أخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة والإسماعيلي وأبو نعيم من طرق عنه، وكذا ذكره أصحاب شعبة كأبي داود الطيالسي وغيره عنه فكأن بعض مشايخ البخاري حدّثه به عن يحيى وغندر معًا فساقه له على لفظ يحيى اهـ.

35 - باب الرَّجُلِ يُوَضِّئُ صَاحِبَهُ
(باب) حكم (الرجل يوضئ صاحبه).
181 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ يَحْيَى عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ عَدَلَ إِلَى

الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ. قَالَ أُسَامَةُ: فَجَعَلْتُ أَصُبُّ عَلَيْهِ وَيَتَوَضَّأُ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ: «الْمُصَلَّى أَمَامَكَ».

وبالسند قال: (حدّثنا) وفي رواية الأربعة حدّثني (محمد بن سلام) بالتخفيف على الصحيح ولكريمة حدّثنا ابن سلام (قال: أخبرنا يزيد بن هارون) بن زاذان السلمي مولاهم أبو خالد الواسطي أحد الأعلام (عن يحيى) بن سعيد الأنصاري التابعي (عن موسى بن عقبة) بضم العين وسكون القاف الأسدي المدني التابعي (عن كريب مولى ابن عباس) التابعي (عن أسامة بن زيد) رضي الله عنه:
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أفاض) أي رجع أو دفع (من) موقف (عرفة عدل) أي توجه (إلى الشعب) بكسر الشين الطريق في الجبل (فقضى حاجته. قال أسامة) أي ابن زيد كما صرح به في رواية أبي الوقت (فجعلت أصب عليه) الوضوء (و) هو (يتوضأ) مبتدأ وخبر أو نصب على الحال أي: والحال أنه يتوضأ. ويجوز وقوع الفعل المضارع المثبت حالاً (فقلت: يا رسول الله أتصلي؟ فقال) بفاء العطف وفي رواية الأربعة. قال-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (المصلى) بفتح اللام أي مكان المصلى (أمامك) بفتح الهمزة والميمين ظرف بمعنى قدامك.
وفي الحديث جواز الاستعانة في الوضوء بالصب، وبه استدل المؤلف للترجمة ولم يذكر جوازًا ولا غيره، ويقاس على الاستعانة بالصب الاستعانة بالغسل والإحضار للماء بجامع الإعانة، فأما الصب فهو خلاف الأولى لأنه ترفه لا يليق بالمتعبد وعورض بأنه إذا فعله الشارع لا يكون خلاف الأولى.
وأجيب: بأنه قد يفعله لبيان الجواز فلا يكون في حقه خلاف الأولى بخلافنا، وقيل مكروه

(1/262)


وأما الاستعانة في غسل الأعضاء فمكروهة قطعًا إلا لحاجة، وأما في إحضار الماء فلا كراهة فيها أصلاً. قال ابن حجر: لكن الأفضل خلافه، وقال الجلال المحلي: ولا يقال إنها خلاف الأولى، وأما الحديث المرفوع: أنا لا أستعين في وضوئي بأحد، وأنه قاله عليه الصلاة والسلام لعمر وقد بادر لصب الماء عليه، فقال النووي في شرح المهذب: إنه حديث باطل لا أصل له.
وهذا الحديث من سداسياته، ورواته ما بين بيكندي وواسطي ومدني، وفيهم ثلاثة من التابعين والتحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الطهارة والحج ومسلم فيه أيضًا.
182 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ قَالَ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعْدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ أَنَّ نَافِعَ بْنَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ سَمِعَ عُرْوَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ وَأَنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ وَأَنَّ مُغِيرَةَ جَعَلَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَيْهِ وَهُوَ يَتَوَضَّأُ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ. [الحديث 182 - أطرافه في: 203، 206، 363، 388، 2918، 4421، 5798، 5799].

وبه قال: (حدّثنا عمرو بن عليّ) بفتح عين عمرو وسكون ميمه الفلاس البصري (قال: حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي البصري (قال: سمعت يحيى بن سعيد) بكسر العين الأنصاري التابعي (قال: أخبرني) بالإفراد (سعد) بسكون العين (ابن إبراهيم) بن عبد الرحمن بن عوف القرشي التابعي (أن نافع بن جبير بن مطعم) القرشي النوفلي المدني التابعي (أخبره أنه سمع عروة بن المغيرة بن شعبة يحدث عن المغيرة) بضم الميم أبيه (ابن شعبة) بن مسعود الثقفي الصحابي الكوفي أسلم قبل الحديبية وولي إمرة الكوفة، توفي سنة خمسين على الصحيح، له في البخاري أحد عشر حديثًا.
(أنه) أي المغيرة (كان مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر وأنه) عليه الصلاة والسلام (ذهب لحاجة له) وأدى عروة معنى كلام أبيه بعبارة نفسه وإلا فكان السياق يقتضي أن يقول قال أبي كنت وكذا قوله: (وأن مغيرة) وفي رواية الأصيلي وابن عساكر: وأن المغيرة (جعل) أي طفق (يصب الماء عليه)، وفي رواية الإصيلي وابن عساكر جعل يصب عليه بلفظ المضارع لحكاية الحال الماضية (وهو يتوضأ) جملة اسمية وقعت حالاً (فغسل وجهه ويديه) أتى بغسل ماضيًا على الأصل، (ومسح برأسه) بباء الإلصاق (ومسح على الخفّين) أعاد لفظ مسح دون غسل لبيان تأسيس قاعدة المسح بخلاف الغسل فإنه تكرير لسابق. وهذا الحديث من سباعياته، ورواته ما بين بصري وكوفي ومدني، وفيه أربعة من التابعين يروي بعضهم عن بعض والتحديث والإخبار والسماع والعنعنة.

36 - باب قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ بَعْدَ الْحَدَثِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: لاَ بَأْسَ بِالْقِرَاءَةِ فِي الْحَمَّامِ، وَبِكَتْبِ الرِّسَالَةِ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ. وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ، وَإِلاَّ فَلاَ تُسَلِّمْ.
(باب قراءة القرآن) العظيم (بعد الحدث) الأصغر (وغيره) أي غير قراءة القرآن ككتابة القرآن، هذا شامل للقولي والفعلي، وتمثيل الكرماني بالذكر والسلام ونحوهما لا وجه له لأنه إذا جاز للمحدث قراءة القرآن فالسلام والذكر ونحوهما بطريق الأولى. وقول الحافظ ابن حجر قوله وغيره من مظان الحدث، تعقبه العيني بأن الضمير لا يعود إلا على مذكور لفظًا أو تقديرًا بدلالة القرينة اللفظية أو الحالية، وبأن مظنة الحدث على نوعين مثل الحدث والآخر ليس مثله، فإن أراد الأوّل فهو داخل في قوله بعد الحدث، أو الثاني فهو خارج عنه وحينئذ فلا وجه لما قاله على ما لا يخفى اهـ.
(وقال منصور) هو ابن المعتمر السلمي الكوفي (عن إبراهيم) بن يزيد النخعي الكوفي الفقيه مما وصله سعيد بن منصور عن أبي عوانة (لا بأس بالقراءة) للقرآن (في الحمام) خصّه بالذكر لأن القارئ فيه يكون محدثًا في الغالب، ونقل النووي في الأذكار عدم الكراهة عن الأصحاب، ورجحه السبكي نعم في شرح الكفاية للصيمري لا ينبغي أن يقرأ، وسوّى الحليمي بينة وبين القرآن حال قضاء الحاجة، وعن أبي حنيفة الكراهة لأن حكمه حكم بيت الخلاء والماء المستعمل في الحمام

نجس، وعن محمد بن الحسن عدم الكراهة لطهارة الماء عنده (و) لا بأس (بكتب الرسالة) بموحدة مكسورة وكاف مفتوحة عطفًا على قوله بالقراءة (على غير وضوء) مع كون الغالب تصدير الرسائل بالبسملة، وقد يكون فيها ذكر أو قرآن والجار والمجرور متعلق بكتب لا بالقراءة في الحمام كذا قال البرماوي والحافظ ابن حجر، وتعقبه العيني فقال: لا نسلم ذلك فإن قوله: وبكتب الرسالة على الوجهين متعلق بالقراءة وقوله على غير وضوء متعلق بالمعطوف والمعطوف عليه لأنهما كشيء واحد، وهذا الأثر رواه عبد الرزاق موصولاً عن الثوري عن منصور ولفظه: قال سألت إبراهيم أأكتب الرسالة على غير وضوء؟ قال: نعم.

(1/263)


وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي ويكتب بلفظ مضارع كتب وهي رواية الأكثر، والأولى وهي رواية كريمة. قال العيني: أوجه. (وقال حمّاد) أي ابن سليمان شيخ أبي حنيفة وفقيه الكوفة (عن إبراهيم) النخعي مما وصله الثوري في جامعه عنه (إن كان عليهم) أي على الذين داخل الحمام للتطهير (إزار) اسم لا يلبس في النصف الأسفل (فسلم) زاد في رواية الأصيلي عليهم وتفسير ابن حجر قوله: إن كان عليهم بمن في الحمام. تعقبه العيني بأنه عامّ يشمل القاعد بثيابه في المسلخ وهو لا خلاف فيه، وأجيب: بأن المسلخ وإن أطلق عليه اسم الحمام فمجاز، والحمام في الحقيقة ما فيه الماء الحميم والأصل استعمال الحقيقة دون المجاز (وإلا) بأن لم يكن عليهم إزار (فلا تسلم) عليهم إهانة لهم لكونهم على بدعة أو لكون السلام عليهم يستدعي تلفظهم برد السلام الذي هو من أسمائه تعالى مع أن لفظ: سلام عليكم من التنزيل والمتعري عن الإزار يشبه من في الخلاء، وبهذا التقرير يتوجه ذكر هذا الأثر في هذه الترجمة، وقد روى مسلم من حديث ابن عمر كراهة ذكر الله بعد الحدث لكنه ليس على شرط المؤلف.
183 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مَخْرَمَةَ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَهِيَ خَالَتُهُ- فَاضْطَجَعْتُ فِي عَرْضِ الْوِسَادَةِ، وَاضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَهْلُهُ فِي طُولِهَا، فَنَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى إِذَا انْتَصَفَ اللَّيْلُ -أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ، أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ- اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ وَجْهِهِ بِيَدِهِ. ثُمَّ قَرَأَ الْعَشْرَ الآيَاتِ الْخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. ثُمَّ قَامَ إِلَى شَنٍّ مُعَلَّقَةٍ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ قَامَ يُصَلِّي. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَقُمْتُ فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صَنَعَ، ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ، فَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى رَأْسِي وَأَخَذَ بِأُذُنِي الْيُمْنَى يَفْتِلُهَا. فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَوْتَرَ، ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أَتَاهُ الْمُؤَذِّنُ فَقَامَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ. ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى الصُّبْحَ.

وبالسند قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أُويس الأصبحي (قال: حدّثني) بالإفراد إمام دار الهجرة (مالك) وهو خال إسماعيل هذا (عن مخرمة بن سليمان) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء الوالبي المدني (عن كريب) بضم الكاف وفتح الراء آخره موحدة (مولى ابن عباس).
(أن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما (أخبره أنه بات ليلة عند ميمونة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي خالته) رضي الله عنها (فاضطجعت) أي وضعت جنبي بالأرض وكان أسلوب الكلام أن يقول اضطجع مناسبة لقوله بات، أو يقول بت مناسبة لقوله اضطجعت لكنه سلك مسلك التفنن الذي هو نوع من الالتفات أو يقدر قال: فاضطجعت (في عرض الوسادة) بفتح العين كما في الفرع وهو المشهور، وقال النووي هو الصحيح وبالضم كما حكاه البرماوي والعيني وابن حجر وأنكره أبو الوليد الباجي نقلاً ومعنى لأن العرض بالضم الجانب وهو لفظ مشترك. وأجيب: بأنه لما قال في طولها تعين المراد وقد صحت به الرواية عن جماعة منهم الداودي والأصيلي فلا وجه لإنكاره، (واضطجع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأهله) زوجته أم المؤمنين ميمونة (في طولها) أي الوسادة (فنام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى انتصف) كذا للأصيلي ولغيره حتى إذا انتصف (الليل أو قبله) أي قبل انتصافه (بقليل أو بعده) بعد انتصافه (بقليل استيقظ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إن جعلت إذا ظرفية فقبله ظرف لاستيقظ أي استيقظ وقت الانتصاف أو قبله، وإن جعلت شرطية فمتعلق بفعل مقدّر واستيقظ جواب الشرط أي حتى إذا انتصف الليل أو كان قبل الانتصاف استيقظ (فجلس) حال كونه (يمسح النوم عن وجهه) الشريف (بيده) بالإفراد أي يمسح بيده عينيه من باب إطلاق اسم الحال على المحل، لأن المسح لا يقع إلا على العين والنوم لا يمسح أو المراد مسح أثر النوم من باب إطلاق اسم السبب على المسبب قاله ابن حجر؛ وتعقبه العيني بأن أثر النوم من النوم لأنه نفسه، وأجيب بأن الأثر غير المؤثر فالمراد هنا ارتخاء الجفون من النوم ونحوه (ثم قرأ) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (العشر الآيات) من إضافة الصفة للموصوف واللام تدخل في العدد المضاف نحو الثلاثة الأثواب (الخواتيم من سورة آل عمران) التي أوّلها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [آل عمران: 190] إلى آخر السورة والخواتيم نصب صفة لعشر المنصوب بقرأ (ثم قام إلى شنّ معلقة) بفتح الشين المعجمة وتشديد النون القربة الخلقة من أدم وجمعه شنان بكسر أوّله وذكره باعتبار لفظه أو الأدم أو الجلد وأنث الوصف باعتبار القربة، (فتوضأ) عليه الصلاة والسلام (منها فأحسن وضوءه) أي أتمه بأن أتى بمندوباته، ولا يعارض هذا قوله في باب تخفيف الوضوء وضوءًا خفيفًا لأنه يحتمل أن يكون أتى بجميع مندوباته مع التخفيف أو كان كلٍّ منهما في وقت، (ثم قام) عليه الصلاة والسلام (يصلي قال

(1/264)


ابن عباس) رضي إلله عنه: (فقمت فصنعت مثل ما صنع) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ثم ذهبت فقمت إلى جنبه) الأيسر (فوضع) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يده اليمنى على رأسي) أي فأدارني على يمينه (وأخذ بأُذني اليمنى) بضم الهمزة والمعجمة حال كونه (يفتلها) أي يدلكها تنبيهًا عن الغفلة عن أدب الائتمام وهو القيام على يمين الإمام إذا كان الإمام وحده أو تأنيسًا له لكون ذلك كان ليلاً (فصلَّى) عليه الصلاة والسلام (ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين) المجموع اثنتا عشرة وهو يقيد المطلق في قوله في باب التخفيف فصلى ما شاء الله (ثم أوتر) بواحدة أو بثلاث وفيه بحث يأتي إن شاء الله تعالى (ثم اضطجع) عليه الصلاة والسلام (حتى أتاه المؤذن فقام فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج) من الحجرة إلى المسجد (فصلىَّ الصبح) بأصحابه رضي

الله عنهم. قيل: ويؤخذ من قراءته عليه الصلاة والسلام العشر الآيات المذكورة بعد قيامه من النوم قبل أن يتوضأ جواز قراءة القرآن للمحدث.
وعورض بأنه عليه الصلاة والسلام تنام عينه ولا ينام قلبه فلا ينتقض وضوءه به وأما وضوءه فللتجديد أو لحدث آخر. وأجيب: بأن الأصل عدم التجديد وغيره، وعورض بأن هذا عند قيام الدليل على ذلك، وههنا قام الدليل بأن وضوءه لم يكن لأجل الحدث وهو قوله: "تنام عيناي ولا ينام قلبي" وحينئذ يكون تجديد وضوئه لأجل طلبه زيادة النور حيث قال: "الوضوء نور على نور".
فإن قلت: ما وجه المناسبة بين الترجمة والحديث؟ أجيب: من جهة أن مضاجعة الأهل في الفراش لا تخلو من الملامسة غالبًا.

وعورض بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يقبِّل بعض أزواجه ثم يصلي ولا يتوضأ. رواه أبو داود والنسائي، وأجيب: بأن المذهب الجزم بانتقاضه به كما قاله الأستاذ النووي رحمه الله، ولم يرد المؤلف أن مجرد نومه ينقض لأن في آخر هذا الحديث عنده في باب التخفيف في الوضوء، ثم اضطجع فنام حتى نفخ ثم صلىّ، ويحتمل أن يكون المؤلف احتج بفعل ابن عباس المعبّر عنه بقوله: فصنعت مثل ما صنع بحضرته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
واستنبط من هذا الحديث استحباب التهجّد وقراءة العشر الآيات عند الانتباه من النوم وأن صلاة الليل مثنى، وهو من خماسياته ورجاله مدنيون، وفيه التحديث بصيغة الإفراد والجمع والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة وفي الوتر والتفسير ومسلم في الصلاة وأبو داود، وأخرجه ابن ماجة في الطهارة.

37 - باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ إِلاَّ مِنَ الْغَشْيِ الْمُثْقِلِ
هذا (باب من لم يتوضأ إلا من الغشي المثقل) لا من الغشي غير المثقل وليس المراد من توضأ من الغشي المثقل لا من سبب آخر من أسباب الحدث، والغشي: بفتح الغين وسكون الشين المعجمتين ضرب من الإغماء إلا أنه أخف منه والثقل بضم الميم وكسر القاف صفة للغشي.
184 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنِ امْرَأَتِهِ فَاطِمَةَ عَنْ جَدَّتِهَا أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ أَنَّهَا قَالَتْ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَإِذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ، وَإِذَا هِيَ قَائِمَةٌ تُصَلِّي. فَقُلْتُ: مَا لِلنَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ. فَقُلْتُ: آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ أَىْ نَعَمْ. فَقُمْتُ حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ، وَجَعَلْتُ أَصُبُّ فَوْقَ رَأْسِي مَاءً. فَلَمَّا انْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: «مَا مِنْ شَىْءٍ كُنْتُ لَمْ أَرَهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ ". وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ -مِثْلَ أَوْ قَرِيبًا مِنْ-

فِتْنَةِ الدَّجَّالِ (لاَ أَدْرِي أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ) يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ له: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ (أَوِ الْمُوقِنُ، لاَ أَدْرِي أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ: أَسْمَاءُ) فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى، فَأَجَبْنَا وَآمَنَّا وَاتَّبَعْنَا. فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا، فَقَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ (أَوِ الْمُرْتَابُ، لاَ أَدْرِي أَىَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ) فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ.
وبالسند قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أُويس (قال: حدّثني) بالإفراد وفي رواية ابن عساكر حدّثنا (مالك) هو ابن أنس الإمام (عن هشام بن عروة) بن الزبير بن العوّام القرشي (عن امرأته فاطمة) بنت المنذر بن الزبير بن العوّام (عن جدّتها أسماء بنت أبي بكر) الصدّيق وهي زوجة الزبير بن العوّام، وفي بعض النسخ عن جدّته بتذكير الضمير وهو صحيح لأن أسماء جدّة لهشام ولفاطمة كليهما لأنها أم أبيه عروة كما أنها أم المنذر أبي فاطمة (أنها قالت):
(أتيت عائشة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين خسفت الشمس) بفتح الخاء والسين أي ذهب ضوءها كله

أو بعضه (فإذا الناس قيام يصلون، وإذا هي) أي عائشة رضي الله عنها (قائمة تصلي فقلت: ما للناس؟ فأشارت) عائشة (بيدها نحو السماء وقالت) وفي رواية أبي ذر فقالت: (سبحان الله! فقلت آية) هي أي علامة لعذاب الناس: (فأشارت) عائشة برأسها (آن) ولكريمة أي (نعم) وهي الرواية المتقدمة في باب من أجاب الفتيا بإشارة اليد والرأس وهما حرفا تفسير قالت أسماء: (فقمت حتى تجلاني) بالجيم أي غطاني (الغشي) من طول تعب الوقوف (وجعلت أصب فوق رأسي ماء) مدافعة للغشي، وهذا يدل على أن حواسها كانت مدركة وإلاّ فالإغماء الشديد المستغرق ينقض الوضوء بالإجماع، (فلما انصرف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ

(1/265)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من الصلاة أو من المسجد (حمد الله) تعالى (وأثنى عليه) من باب عطف العام على الخاص (ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (ما من شيء) من الأشياء (كنت لم أره إلاّ قد رأيته) رؤية عين حقيقة حال كوني (في مقامي هذا) بفتح الميم (حتى الجنة والنار) برفعهما ونصبهما وجرّهما وتقدم توجيهها مع استشكال البدر الدماميني وجه الجر فليراجع (ولقد أُوحي إليّ أنكم تفتنون في القبور) وفي رواية الأصيلي في قبوركم (مثل) فتنة المسيح الدجال (أو قريبًا) وفي رواية الأربعة قريب (من فتنة) المسيح (الدجال لا أدري أي ذلك قالت أسماء) رضي الله عنها: (يؤتى أحدكم فيقال له ما علمك بهذا الرجل) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فأما المؤمن أو الموقن) بنبوّته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت فاطمة بن المنذر: (لا أدري أي ذلك) المؤمن أو الموقن (قالت أسماء: فيقول: هو محمد رسول الله جاءنا بالبينات) الدالّة
على نبوّته (والهدى) الموصل للمراد (فأجبنا وآمنا واتبعنا) بحذف ضمير المفعول في الثلاثة، (فيقال نم) وفي رواية الحموي والأصيلي فيقال له نم حال كونك (صالحًا فقد علمنا أن كنت لموقنًا) به وفي همزة إن الكسر والفتح ورجحه البدر الدماميني، بل قال إنه المتعين كما سبق تقريره في باب من أجاب الفتيا بإشارة: اليد والرأس من كتاب العلم (وأما المنافق) غير المصدّق بقلبه بنبوّته عليه الصلاة والسلام (أو المرتاب) الشاك قالت فاطمة (لا أدري أي ذلك قالت أسماء) رضي الله عنها (فيقول: لا أدري سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته) ومحل استدلال المؤلف للترجمة من هذا الحديث فعل أسماء

من جهة أنها كانت تصلي خلف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكان يرى الدين خلفه وهو في الصلاة ولم ينقل أنه أنكر عليها، وقد تقدم شيء من مباحث هذا الحديث في باب العلم ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في كتاب صلاة الخسوف.
ورواة هذا الحديث كلهم مدنيون، وفيه رواية الأقران هشام وزوجته فاطمة، وفيه التحديث بالإفراد والجمع والعنعنة والقول، وأخرجه المؤلف في العلم والطهارة والكسوف والاعتصام والاجتهاد والسهو ومسلم في الصلاة.

38 - باب مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ، لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}
وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: الْمَرْأَةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ تَمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا.
وَسُئِلَ مَالِكٌ: أَيُجْزِئُ أَنْ يَمْسَحَ بَعْضَ الرَّأْسِ؟ فَاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْد.
(باب مسح الرأس كله) في الوضوء، وفي رواية المستملي الاقتصار على مسح الرأس وإسقاط لفظ كله (لقول الله تعالى) وفي رواية ابن عساكر سبحانه وتعالى، وفي رواية الأصيلي عز وجل: ({وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}) [المائدة: 6] أي امسحوا رؤوسكم كلها فالباء زائدة عند المؤلف كمالك (وقال ابن المسيب) سعيد: (المرأة بمنزلة الرجل تمسح على رأسها) وهذا وصله ابن أبي شيبة ولفظه: المرأة والرجل في المسح سواء، وعن أحمد يكفي المرأة مسح مقدم رأسها.
(وسئل مالك) الإمام الأعظم والسائل له إسحاق بن عيسى بن الطباع (أيجزئ) بضم المثناة التحتية من الإجزاء وهو الأداء الكافي لسقوط التعبد به وبفتح الياء من جزى ويجزي أي كفى والهمزة فيه للاستفهام (أن يمسح بعض) وفي رواية ابن عساكر ببعض (الرأس) وفي رواية أبوي ذر والوقت والأصيلي رأسه؟ (فاحتج) أي مالك على أنه لا يجزي (بحديث عبد الله بن زيد) هذا الآتي إن شاء الله تعالى.

185 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ -وَهُوَ جَدُّ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى- أَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُرِيَنِي كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ: نَعَمْ. فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ يَدَهُ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ: بَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ رَدَّهُمَا إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ. [الحديث 185 - أطرافه في: 186، 191، 192، 197، 199].

وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا) وفي رواية الأصيلي حدّثنا (مالك) إمام الأئمة (عن عمرو بن يحيى) بن عمارة بضم العين وتخفيف الميم (المازني عن أبيه) يحيى بن عمارة بن أبي حسن.
(أن رجلاً) هو عمرو بن أبي حسن كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث الآتي من طريق وهيب (قال لعبد الله بن زيد) الأنصاري (وهو) أي الرجل المفسر بعمرو بن أبي حسن (جد عمرو بن يحيى) المازني المذكور مجازًا لا حقيقة لأنه عمّ أبيه، وإنما أطلق عليه الجدودة لكونه في منزلته: (أتستطيع أن تريني) أي هل تستطيع الإراءة إياي (كيف كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوضأ) كأنه أراد أن يريه بالفعل ليكون أبلغ في التعليم (فقال عبد الله بن زيد) أي الأنصاري (نعم) أستطيع أن أريك (فدعا بماء) عقب قوله ذلك (فأفرغ) أي صبّ من الماء (على

(1/266)


يديه) بالتثنية، وفي رواية الأربعة على يده بالإفراد على إرادة الجنس (فغسل مرتين) وفي رواية الأربعة فغسل يديه مرتين كذا في رواية مالك وعند غيره من الحفاظ ثلاثًا فهي مقدمة على رواية الحافظ الواحد لا يقال أنهما واقعتان لاتحاد مخرجهما، والأصل عدم التعدد، لأن في رواية مسلم من طريق حبّان بن واسع عن عبد الله بن زيد أنه رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ وفيه وغسل يده اليمنى ثلاثًا ثم الأخرى ثلاثًا، فيحمل على أنه وضوء آخر لكون مخرج الحديثين غير متحد، (ثم مضمض واستنثر ثلاثًا) أي بثلاث غرفات كما في رواية وهيب، وللكشميهني واستنشق ثلاثًا. والرواية الأولى تستلزم الثانية من غير عكس قاله ابن حجر، وعورض بأن ابن الأعرابي وابن قتيبة جعلاهما واحدًا وقد مرّ في المضمضة والاستنشاق. (ثم غسل وجهه ثلاثًا ثم غسل يديه مرتين مرتين) بالتكرار (إلى) أي مع (المرفقين) بالتثنية مع فتح الميم وكسر الفاء، وفي رواية الأصيلي بكسر الميم وفتح الفاء، وفي رواية المستملي والحموي إلى الرفق بالإفراد على إرادة الجنس وهو مفصل الذراع والعضد وسمي به لأنه يرتفق به في الاتكاء ويدخل في غسل اليدين خلافًا لزفر لأن إلى في قوله تعالى: {إلى المرفقين} بمعنى مع كالحديث كقوله تعالى: {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52] أو متعلقة بمحذوف تقديره مضافة إلى المرافق. قال البيضاوي: ولو كان كذلك لم يبق معنى للتحديد ولا لذكره مزيد فائدة لأن مطلق اليد يشتمل عليها. وقيل: (إلى) تفيد الغاية مطلقًا وأما بدخولها في الحكم أو خروجها منه فلا دلالة لها عليه وإنما يعلم من خارج، ولم يكن في الآية وكأن الأيدي متناولة لها فحكم بدخولها احتياطًا. وقيل: (إلى) من حيث أنها تفيد الغاية تقتضي خروجها وإلا لم تكن غاية كقوله: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] لكن لما لم تتميز الغاية هاهنا من ذي الغاية وجب دخولها احتياطًا اهـ.
ووقف زفر مع المتيقن. وقال إسحاق بن راهويه: يحتمل أن تكون بمعنى الغاية وبمعنى مع فبينت السُنّة أنها بمعنى مع. وقال الإمام الشافعي في الأُم: لا أعلم مخالفًا في إيجاب دخول المرفقين في الوضوء، قال ابن حجر: فعلى هذا فزفر محجوج بالإجماع.

(ثم مسح رأسه) زاد ابن الطباع في روايته كله كما في حديثه الروي عند ابن خزيمة في صحيحه (بيديه) بالتثنية (فأقبل بهما وأدبر) بهما ولمسلم مسح رأسه كله وما أقبل وما أدبر وصدغيه (بدأ بمقدم رأسه) بفتح الدال المشددة من بمقدم بأن وضع يديه عليه وألصق مسبحته بالأخرى وإبهاميه على صدغيه (حتى ذهب بهما إلى قفاه ثم ردّهما إلى المكان الذي بدأ منه) ليستوعب جهتي الشعر بالمسح، وعلى هذا يختص ذلك بمن له شعر ينقلب وإلاّ فلا حاجة إلى الرد، فلو ردّ لم يحسب ثانية لأن الماء صار مستعملاً. وهذا التعليل يقتضي أنه لو ردّ ماء المرة الثانية حسب ثالثة بناء على الأصح من أن المستعمل في النفل طهور إلا أن يقال السنّة كون كل مرة بماء جديد، والجملة من قوله بدأ عطف بيان لقوله فأقبل بهما وأدبر، ومن ثم لم تدخل الواو على قوله بدأ، والظاهر أنه ليس مدرجًا من كلام مالك بل هو من الحديث، ولا يقال هو بيان للمسح الواجب كما قال به مالك وابن علية وأحمد في رواية وأصحاب مالك غير أشهب فبيانه واجب لأنه يلزم منه وجوب الرد إلى المكان الذي بدأ منه، ولا قائل بوجوبه. ويلزم أن يكون تثليث الغسل وتثنيته واجبين لأنهما بيان أيضًا، فالحديث ورد في الكمال ولا نزاع فيه بدليل أن الإقبال والإدبار لم يذكرا في غير هذا الحديث، وقد وقع في رواية خالد بن عبد الله الآتية قريبًا في باب من تمضمض واستنشق من غرفة واحدة ومسح برأسه ما أقبل وما أدبر كآية المائدة بالباء، واختلف فيها فقيل: زائدة للتعدية وتمسك به من أوجب الاستيعاب، وقيل للتبعيض. وعورض بأن بعض أهل العربية أنكر كونها للتبعيض. قال ابن برهان: من زعم أن الباء تفيد التبعيض فقد جاء عن أهل اللغة بما لا يعرفونه. وأجيب: بأن ابن هشام نقل التبعيض عن الأصمعي والفارسي والقتيبي وابن مالك والكوفيين وجعلوا منه {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] انتهى.
وقال

(1/267)


بعضهم: الحكم في الآية مجمل في حق المقدار فقط لأن الباء للإلصاق باعتبار أصل الوضع، فإذا قرنت بآلة المسح يتعدى الفعل بها إلى محل المسح فيتناول جميعه كما تقول: مسحت الحائط بيدي ومسحت رأس اليتيم بيدي فيتناول مسح الحائط كله، وإذا قرنت بمحل المسح يتعدى الفعل بها إلى الآلة فلا تقتضي الاستيعاب، وإنما تقتضي التصاق الآلة بالمحل وذلك لا يستوعب الكل عادة فمعنى التبعيض إنما ثبت بهذا الطريق. وقال الشافعي احتمل قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} جميع الرأس أو بعضه، فدلّت السُّنّة أن بعضه يجزئ. وروى الشافعي أيضًا من حديث عطاء أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ فحسر العمامة عن رأسه قال ابن حجر: وهو مرسل لكنه اعتضد من وجه آخر موصولاً أخرجه أبو داود من حديث أنس، وفي إسناده أبو معقل لا يعرف حاله فقد اعتضد كلٌّ من المرسل والموصول بالآخر وحصلت القوة من الصورة المجموعة، وهذا مثال لا ذكره الشافعي من أن الرسل يعتضد بمرسل آخر أو مسند، وصح عن ابن عمر الاكتفاء بمسح بعض الرأس قاله ابن المنذر وغيره ولم يصح من أحد من الصحابة إنكار ذلك قاله ابن جزم، وهذا كله مما يقوى به المرسل انتهى.

وقد روى مسلم من حديث المغيرة بن شعبة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ فمسح بناصيته وعلى العمامة، فلو
وجب الكل لما اقتصر علي الناصية، وأما استدلال الحنفية على إيجاب مسح الربع بمسحه عليه الصلاة والسلام بالناصية وأنه بيان للإجمال في الآية لأن الناصية ربع الرأس. فأجيب عنه بأنه لا يكون بيانًا إلا إذا كان أوّل مسحه كذلك بعد الآية، وبأن قوله بناصيته يحتمل بعضها كما سبق نظيره في برؤوسكم، وقد ثبت وجوب أصل المسح فجاحده كافر لأنه قطعي واختلف في مقداره فجاحده لا يكفّر لأنه ظني.
(ثم غسل رجليه) أطلق الغسل فيهما ولم يذكر فيه تثليثًا ولا تثنية كما سبق في بعض الأعضاء إشعارًا بأن الوضوء الواحد يكون بعضه بمرة وبعضه بمرتين وبعضه بثلاث، وإن كان الأكمل التثليث في الكل ففعله بيانًا للجواز والبيان بالفعل أوقع في النفوس منه بالقول وأبعد من التأويل. ورواة هذا الحديث الستة كلهم مدنيون إلا شيخ البخاري وقد دخلها، وفيه رواية الابن عن الأب والتحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف في الطهارة ومسلم فيها والترمذي مختصرًا والنسائي وابن ماجة.

39 - باب غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ
(باب غسل الرجلين إلى الكعبين) في الوضوء.

186 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَأَكْفَأَ عَلَى يَدِهِ مِنَ التَّوْرِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثَ غَرَفَاتٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ مَرَّةً وَاحِدَةً، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي (قال: حدّثنا وهيب) بالتصغير ابن خالد الباهلي (عن عمرو) بفتح العين ابن يحيى بن عمارة المازني شيخ مالك (عن أبيه) يحيى بن عمارة بن أبي حسن بفتح الحاء (قال):
(شهدت) أي حضرت (عمرو بن أبي حسن) أخا عمارة وعمّ يحيى بن عمارة وسماه في الرواية السابقة في باب مسح الرأس كله جدًّا مجازًا وليس جدّه لأمه خلافًا لمن زعم ذلك لأن أم عمرو بن يحيى ليست بنتًا لعمرو بن أبي حسن (سأل عبد الله بن زيد) الأنصاري (عن وضوء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدعا بتور) بفتح المثناة الفوقية وسكون الواو آخره راء إناء يشرب فيه أو طست أو قدح أو مثل القدر من صفر أو حجارة (من ماء فتوضأ لهم) أي لأجل السائل وأصحابه (وضوء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أي مثل وضوئه وأطلق وضوءه عليه مبالغة (فأكفأ) بهمزتين أي أفرغ الماء (على يده من التور) المذكور (فغسل يديه) بالتثنية قبل أن يدخلهما في التور، وفي رواية فغسل يده بالإفراد على إرادة الجنس (ثلاثًا) أي ثلاث مرات (ثم أدخل يده في التور) أيضًا (فمضمض واستنشق واستنثر ثلاث) وفي رواية الأصيلي بثلاث (غرفات) بفتح الغين والراء ويجوز ضمهما وضم الغين مع إسكان الراء وفتحها يمضمض من كل واحدة من الثلاث ثم يستنشق وصححه النووي، أو بثلاث غرفات يتمضمض بها وثلاث يستنشق بها وهي أضعف الصور الخمسة المتقدمة التي ذكروها، والثالثة بغرفة بلا خلط، والرابعة بغرفة مع الخلط، والخامسة الفصل بغرفتين، والسُّنة تحصل بالوصل والفصل قاله في المجموع. وعطف استنثر على سابقه يدل على تغايرهما كما قاله البرماوي كالكرماني،

(1/268)


وتعقب بأن ابن الأعرابي وابن قتيبة جعلاهما واحدًا فلا تغاير، وحينئذ فيكون عطف تفسير. (ثم أدخل يده) بالإفراد في التور (فغسل وجهه ثلاثًا) وليس فيه ذكر اشتراط نية الاغتراف من الماء القليل (ثم غسل يديه) كل واحدة (مرتين إلى المرفقين) بكسر الميم وفتح الفاء العظم الناتئ في الذراع "وإلى" بمعنى "مع" أي مع المرفقين (ثم أدخل يده) بالإفراد في الإناء (فمسح رأسه) كله ندبًا بيديه (فأقبل بهما وأدبر مرة واحدة ثم غسل رجليه إلى الكعبين) أي معهما وهما العظمان الناتئان عند ملتقى الساق والقدم، وقال مالك الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب.

40 - باب اسْتِعْمَالِ فَضْلِ وَضُوءِ النَّاسِ
وَأَمَرَ جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَهْلَهُ أَنْ يَتَوَضَّئُوا بِفَضْلِ سِوَاكِه.
(باب استعمال فضل وضوء الناس) أي استعمال فضل الماء الذي يبقى في الإناء بعد الفراغ من الوضوء في التطهير وغيره كالشرب والعجين والطبخ، أو المراد ما استعمل في فرض الطهارة عن الحدث وهو ما لا بدّ منه أثم بتركه أولاً كالغسلة الأولى فيه من المكلف أو من الصبي لأنه لا بدّ لصحة صلاته من وضوئه، فذهب الشافعي في الجديد إلى أنه طاهر غير طهور لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا المستعمل في أسفارهم القليلة الماء ليتطهروا به بل عدلوا عنه إلى التيمم، وفي القديم وهو مذهب مالك أنه طاهر طهور وهو قول النخعي والحسن والبصري والزهري والثوري لوصف الماء في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] المقتضي تكرار الطهارة به كضروب لمن يتكرر منه الضرب. وأجيب: بتكرر الطهارة به فيما يتردّد على المحل دون المنفصل جمعًا بين الدليلين، وعن أبي حنيفة في رواية أبي يوسف أنه نجس مخفف، وفي رواية الحسن بزيادة عنه نجس مغلظ، وفي رواية محمد بن الحسن وزفر طاهر غير طهور وهو الذي عليه الفتوى عند الحنفية، واختاره المحققون من مشايخ ما وراء النهر، وقال في المفيد: إنه الصحيح والأصح أن المستعمل في نفل الطهارة طهور على الجديد.

(وأمر جرير بن عبد الله) فيما وصله ابن أبي شيبة والدارقطني وغيرهما من طريق قيس بن أبي حازم عنه (أهله أن يتوضؤوا بفضل سواكه) وفي بعض طرقه كان جرير يستاك ويغمس رأس سواكه في الماء ثم يقول لأهله: توضؤوا بفضله لا نرى به بأسًا، وتعقب العيني المؤلف بأنه لا مطابقة بين الترجمة وهذا الأثر لأن الترجمة في استعمال فضل الماء الذي يفضل من المتوضئ، وهذا الأثر هو الوضوء بفضل السواك. وأجيب بأنه ثبت أن السواك مطهرة للفم فإذا خالط الماء ثم حصل الوضوء بذلك الماء كان فيه استعمال للمستعمل في الطهارة، أو يقال: إن المراد من فضل السواك هو الماء الذي في الظرف والمتوضئ يتوضأ منه وبعد فراغه من تسوّكه عقب فراغه من المضمضة يرمي السواك الملوّث بالماء المستعمل فيه.
187 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا الْحَكَمُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْهَاجِرَةِ، فَأُتِيَ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَأْخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، فَصَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ. [الحديث 187 - أطرافه في: 376، 495، 499، 501، 633، 634، 3553، 3566، 5786، 5859].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: حدّثنا الحكم) بفتح الحاء المهملة والكاف ابن عتيبة بضم العين وفتح المثناة الفوقية وسكون التحتية وفتح الموحدة التابعي الصغير الكوفي (قال: سمعت أبا جحيفة) بضم الجيم وفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وبالفاء وهب بن عبد الله السوائي بضم المهملة والمدّ الثقفي الكوفي رضي الله عنه، توفي سنة أربع وسبعين، له في البخاري سبعة أحاديث حال كونه (يقول):
(خرج علينا رسول الله) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالهاجرة) أي في وسط النهار عند شدة الحر في سفر، وفي رواية أن خروجه كان من قبة حمراء من أدم بالأبطح بمكة (فأتي) بضم الهمزة وكسر التاء (بوضوء) بفتح الواو أي بماء يتوضأ به (فتوضأ) منه (فجعل الناس يأخذون) في محل نصب خبر جعل الذي هو من أفعال المقاربة (من فضل وضوئه) عليه الصلاة والسلام بفتح الواو والماء الذي بقي بعد فراغه من الوضوء وكأنهم اقتسموه أو كانوا يتناولون ما سال من أعضاء وضوئه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فيتمسحون به) تبركًا به لكونه مسّ جسده الشريف المقدس، وفي ذلك دلالة بيِّنة على طهارة الماء الستعمل، وعلى القول بأن الماء المأخوذ ما فضل في الإناء بعد فراغه عليه الصلاة والسلام فالماء طاهر مع ما حصل له من

(1/269)


التشريف والبركة بوضع يده المباركة فيه، والتمسح تفعل كأن كل واحد منهم مسح به وجهه ويديه مرة بعد أخرى نحو: تجرعه أي شربه جرعة بعد جرعة، أو هو من باب التكلف لأن كل واحد منهم لشدة الازدحام على فضل وضوئه عليه الصلاة والسلام كان يتعنى لتحصيله كتشجع وتصبر. (فصلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظهر ركعتين والعصر ركعتين) قصرًا للسفر
(وبين يديه عنزة) بفتحات أقصر من الرمح وأطول من العصا فيها زج كزج الرمح، وإنما صلى إليها لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان في الصحراء. ورواة هذا الحديث الأربعة ما بين عسقلاني وكوفي وواسطي، وفيه التحديث والسماع، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة وكذا مسلم والنسائي فيها أيضًا.
188 - وَقَالَ أَبُو مُوسَى: دَعَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ، وَمَجَّ فِيهِ، ثُمَّ قَالَ لَهُمَا: "اشْرَبَا مِنْهُ، وَأَفْرِغَا عَلَى وُجُوهِكُمَا وَنُحُورِكُمَا ". [الحديث 188 - طرفاه في: 196، 4328].
(وقال أبو موسى) عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه مما أخرجه المؤلف في المغازي بلفظ: كنت عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالجعرانة ومعه بلال فأتاه أعرابي فقال: ألا تنجز لي ما وعدتني؟ قال: أبشر. الحديث واقتصر منه هنا على قوله:

(دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقدح فيه ماء فغسل يديه ووجهه فيه ومج فيه) أي صب ما تناوله من الماء بفيه في الإناء (ثم قال لهما) أي لبلال وأبي موسى (اشربا منه وأفرغا على وجوهكما ونحوركما) جمع نحر وهو موضع القلادة من الصدر، وهمزة اشربا همزة وصل من شرب، وهمزة أفرغا همزة قطع مفتوحة من الرباعي، واستدل به ابن بطال على أن لعاب الآدمي ليس بنجس كبقية شربه، وحينئذ فنهيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن النفخ في الطعام والشراب إنما هو لئلا يتقذر بما يتطاير من اللعاب في المأكول والمشروب لا لنجاسته. ومطابقة الترجمة للحديث من حيث استعماله عليه الصلاة والسلام الماء في غسل يديه ووجهه وأمره لهما بشربه وإفراغه على وجوههما ونحورهما فلو لم يكن طاهرًا لا أمرهما به.
189 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَحْمُودُ بْنُ الرَّبِيعِ قَالَ: وَهُوَ الَّذِي مَجَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي وَجْهِهِ وَهْوَ غُلاَمٌ مِنْ بِئْرِهِمْ. وَقَالَ عُرْوَةُ عَنِ الْمِسْوَرِ وَغَيْرِهِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وَضُوئِهِ.
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني أحد الأئمة (قال: حدّثنا يعقوب بن إبراهيم بن سعد) بسكون العين وسبق ذكره في باب ذهاب موسى في البحر إلى الخضر (قال: حدّثنا أبي) إبراهيم (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال: أخبرني) وفي رواية حدّثني بالإفراد فيهما (محمود بن الربيع) بفتح الراء (قال) أي ابن شهاب:
(وهو) أي محمود (الذي مج) أي رمى (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من فيه ماء (في وجهه) يمازحه (وهو غلام) جملة اسمية وقعت حالاً (من بئرهم) أي بئر محمود وقومه، والذي أخبر به محمود هو قوله: عقلت من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو (وقال عروة) بن الزبير بن العوام مما وصله المؤلف في كتاب الشروط (عن المسور) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو
ابن مخرمة بفتح الميم وسكون المعجمة وفتح الراء الزهري ابن بنت عبد الرحمن بن عوف، المتوفى في زمن محاصرة الحجاج مكة بحجر أصابه من المنجنيق وهو يصلي في الحجر سنة أربع وستين بعد خمسة أيام من الإصابة المذكور (و) عن (غيره) هو مروان بن الحكم (يصدق كل واحد منهما) أي من المسور ومروان (صاحبه) أي حديث صاحبه الحديث إلى أن قال، قال عروة بن مسعود الثقفي حاكيًا لمشركي مكة زمن الحديبية شدة تعظيم الصحابة للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وإذا توضأ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كادوا) ولأبي ذر في غير اليونينية كانوا بالنون (يقتتلون على وضوئه) بفتح الواو ومبالغة منهم في التنافس عليه، وصوّب الحافظ ابن حجر رواية الدال قال: لأنه لم يقع منهم قتال، وإنما حكى ذلك عروة بن مسعود لما رجع إلى قريش.

باب
(باب) بالتنوين بغير ترجمة كما في رواية المستملي وهو ساقط في رواية الأكثرين من غير فصل بين آخر الحديث السابق واللاحق.
190 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنِ الْجَعْدِ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقِعٌ، فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ. ثُمَّ تَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلِ زِرِّ الْحَجَلَةِ. [الحديث 190 - أطرافه في: 3540، 3541، 5670، 6352].
وبه قال: (حدّثنا عبد الرحمن بن يونس) البغدادي المستملي لسفيان بن عيينة وغيره وهو أحد الحفاظ، المتوفى فجأة سنة أربع وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا حاتم بن إسماعيل) بالحاء المهملة والمثناة الفوقية الكوفي نزيل المدينة، المتوفى بها سنة ست وثمانين ومائة في خلافة هارون (عن الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة، وللأكثرين الجعيد بالتصغير وهو المشهور ابن عبد الرحمن

(1/270)


بن أوس المدني الكندي (قال):

(سمعت السائب بن يزيد) بالسين المهملة والمثناة التحتية آخره موحدة والثاني من الزيادة الكندي من صغار الصحاية كان مع أبيه في حجة الوداع وهو ابن سبع سنين، وولد في السنة الثانية من الهجرة، وخرج مع الصبيان إلى ثنية الوداع لتلقي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مقدمه من تبوك، وتوفي بالمدينة سنة إحدى وتسعين له في البخاري ستة أحاديث رضي الله عنه. (يقول: ذهبت) أي مضت (بي خالتي) لم تسم (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله إن ابن أختي) علبة بالعين المهملة المضمومة واللام الساكنة والموحدة بنت شريح (وقع) بفتح الواو وكسر القاف والتنوين أي أصابه وجع في قدميه أو يشتكي لحم رجليه من الحفاء لغلظ الأرض والحجارة، وللكشميهني وقع بفتح القاف بلفظ الماضي أي وقع

في المرض، وفي الفرع لأبي ذر وكريمة وأبي الوقت وجع بفتح الواو وكسر الجيم والتنوين وعليه الأكثرون، والعرب تسمي كل مرض وجعًا. قال السائب (فمسح) عليه الصلاة والسلام (رأسي) بيده الشريفة (ودعا ليس بالبركة ثم توضأ فشربت من وضوئه) بفتح الواو أي من الماء المتقاطر من أعضائه الشريفة، وبهذا التفسير تقع المطابقة بين الترجمة والحديث إذ فيه دلالة على طهارة الماء المستعمل (ثم قمت خلف ظهره) عليه الصلاة والسلام (فنظرت إلى خاتم النبوّة بين كتفيه) بكسر تاء خاتم أي فاعل الختم وهو الإتمام والبلوغ إلى الآخر وبفتحها بمعنى الطابع ومعناه الشيء الذي هو دليل على أنه لا نبي بعده، وفيه صيانة لنبوّته عليه الصلاة والسلام عن تطرق القدح إليها صيانة الشيء المستوثق بالختم، وفي رواية أحمد من حديث عبد الله بن سرجس في نغض كتفه اليسرى بضم النون وفتحها وسكون الغين المعجمة آخره ضاد معجمة أعلى الكتف أو العظم الدقيق الذي على طوفه (مثل) بكسر الميم وفتح اللام مفعول نظرت وللأصيلي مثل بكسرها بدل من المجرور (زرّ الحجلة) بكسر الزاي وتشديد الراء واحد الأزرار والحجلة بفتح المهملة والجيم واحدة الحجال، وهي بيوت تزين بالثيات والستور والأسرة لها عرى وأزرار، وفي رواية أحمد من حديث أبي رميمة التيمي قال: خرجت مع أبي حتى أتيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرأيت على كتفه مثل التفاحة فقال أبي: إني طبيب ألا أطبها لك؟ قال طبيبها الذي خلقها.
فإن قلت: هل وضع الخاتم بعد مولده عليه الصلاة والسلام أو ولد وهو به؟ أجيب: بأن في الدلائل لأبي نعيم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما ولد ذكرت أمه أنّ الملك غمسه في الماء الذي أنبعه ثلاث غمسات، ثم أخرج صرة من حرير أبيض فإذا فيها خاتم فضرب به على كتفه كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة، فهذا صريح في وضعه بعد مولده، وقيل: ولد به والله أعلم وفي كتابي المواهب مزيد لذلك، ويأتي إن شاء الله تعالى في صفته عليه الصلاة والسلام مزيد بحث لذلك.
ورواة هذا الحديث الأربعة ما بين بغدادي وكوفي ومدني، وفيه التحديث والعنعنة والسماع، وأخرجه المؤلف في صفته عليه الصلاة والسلام وفي الطب والدعوات، ومسلم في صفته عليه الصلاة والسلام، والترمذي في المناقب وقال حسن غريب من هذا الوجه، والنسائي في الطب.

41 - باب مَنْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ
(باب من مضمض) وفي رواية تمضمض (واستنشق من غرفة واحدة).
191 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ أَنَّهُ أَفْرَغَ مِنَ الإِنَاءِ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، ثُمَّ غَسَلَ أَوْ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلاَثًا. فغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ مَا أَقْبَلَ وَمَا أَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا وُضُوءُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) بالسين وفتح الدال المشددة المهملتين (قال: حدّثنا خالد بن عبد الله) بن عبد الرحمن الواسطي أبو الهيثم الطحان المتصدق بزنة بدنه فضة ثلاث مرات فيما حكي، المتوفى سنة سبع وسبعين ومائة (قال: حدّثنا عمرو بن يحيى) بفتح العين المازني الأنصاري (عن أبيه) يحيى بن عمارة (عن عبد الله بن زيد) الأنصاري.

(أنه) أي عبد الله بن زيد (أفرغ) أي صب الماء (من الإناء على يديه فغسلهما ثم غسل) أي فيه (أو مضمض) شك من الراوي. قال في الفتح: والظاهر أنه من شيخ البخاري، وأخرجه مسلم بغير شك (واستنشق من كفة) بفتح الكاف وضمها آخره هاء تأنيث كغرفة وغرفة أي من حفنة (واحدة) فاشتق ذلك من اسم الكف عبارة عن ذلك المعنى، ولا يعرف في كلام العرب إلحاق

(1/271)


هاء التأنيث في الكف قاله ابن بطال وهي رواية أبي ذر. وقال ابن التين: اشتق ذلك من اسم الكف سمي الشيء باسم ما كان فيه، وعن الأصيلي فيما رأيته بهامش فرع اليونينية صوابه من كف واحد، وفي رواية ابن عساكر من كف واحدة، لكن كتب بإزائه صواب من كف واحد بتذكيرهما، وفي رواية أبي ذر غرفة كما في الفرع، وقال ابن حجر وفي نسخة أي من مروي أبي ذر غرفة واحدة (ففعل ذلك) أي المضمضة والاستنشاق (ثلاثًا) من غرفة واحدة وهذه إحدى الكيفيات الخمسة السابقة وتحصل السُّنَّة كما مرّ بفعل أيّها حصل نعم الأظهر تفضيل الجمع بثلاث غرف يتمضمض من كل ثم يستنشق كما سبق (فغسل وجهه ثلاثًا ثم غسل يديه الى) أي مع (المرفقين مرتين مرتين ومسح برأسه ما أقبل) أي منها (وما أدبر) منها مرة واحدة (وغسل رجليه إلى) أي مع (الكعبين) وسقط هنا ذكر غسل الوجه، وقد أخرج هذا الحديث المذكور مسلم والإسماعيلي وفيه بعد ذكر المضمضة والاستنشاق ثم غسل وجهه ثلاثًا، فدل على أن الاختصار من مسدد كما تقدم أن الشك منه. (ثم قال) عبد الله بن زيد بعد أن فرغ من وضوئه. (هكذا وضوء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين بصري وواسطي ومدني وفيه فعل الصحابي، ثم إسناده إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والتحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف كما مرَّ في خمسة مواضع ومسلم.

42 - باب مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً
(باب مسح الرأس مرة) وللأصيلي مسحة وله في أخرى مرة واحدة بزيادة اللاحقة.
192 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: شَهِدْتُ عَمْرَو بْنَ أَبِي حَسَنٍ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ، فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثًا بِثَلاَثِ غَرَفَاتٍ مِنْ مَاءٍ ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ

فَغَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِيَدَيْهِ وَأَدْبَرَ بِهِمَا، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي الإِنَاءِ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ.
وَحَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: مَسَحَ رَأْسَهُ مَرَّة.
وبالسند قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) بفتح الحاء المهملة وسكون الراء (قال: حدّثنا وهيب) هو ابن خالد (قال: حدّثنا عمرو بن يحيى) بفتح العين (عن أبيه) يحيى (قال):
(شهدت) بكسر الهاء (عمرو بن أبي حسن) بفح العين (سأل عبد الله بن زيد) الأنصاري (عن وضوء النبي) وفي رواية أبي ذر والأصيلي عن وضوء رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فدعا بتور) بالمثناة الفوقية أي إناء (من ماء) لم يذكر التور في رواية الكشميهني بل قال فدعا بماء (فتوضأ لهم فكفأ) أيّ الإناء أي أماله، وفي نسخة فكفأه بالهاء وللأصيلي فأكفأ بهمزة أوّله (على يديه فغسلهما ثلاثًا) أي ثلاث مرات (ثم أدخل يده في الإناء فمضمض واستنشق واستنثر ثلاثًا بثلاث غرفات من ماء) هذه إحدى الكيفيات الخمس، (ثم أدخل يده فغسل) وفي رواية الأصيلي ثم أدخل يده في الإناء فغسل (وجهه ثلاثًا ثم أدخل يده في الإناء فغسل يديه إلى) أي مع (المرفقين مرتين مرتين) بالتكرار (ثم أدخل يده في الإناء فمسح برأسه فأقبل بيده) بالتوحيد على إرادة الجنس (وأدبر بها) وفي رواية الكشميهني فأقبل بيديه وأدبر بهما أي كلاهما مسحة واحدة (ثم أدخل يده فغسل) وفي رواية الكشميهني يده في الإناء فغسل (رجليه).

وبه قال (حدّثنا) وفي رواية وحدّثنا (موسى) بن إسماعيل التبوذكي (قال: حدّثنا وهيب) بالتصغير ابن خالد الباهلي وتمام هذا الإسناد كما سبق في باب غسل الرجلين عن عمرو بن يحيى عن أبيه قال شهدت عمرو بن أبي حسن سأل عبد الله بن زيد عن وضوء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحديث إلى أن قال (قال) وفي رواية أبي ذر وابن عساكر والأصيلي وقال: (مسح رأسه) وفي رواية أبي ذر برأسه (مرة) واحدة، وأحاديث الصحيحين ليس فيها ذكر عدد المسح، وبه قال أكثر العلماء. نعم روى أبو داود وابن ماجة من وجهين صحح أحدهما ابن خزيمة وغيره من حديث عثمان تثليث مسح الرأس والزيادة من الثقة مقبولة وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة، كما صرح به صاحب الهداية لكنه بماء واحد، وعبارته، والذي يروى من التثليث محمول على أنه بماء واحد وهو مشروع على ما يروى عن أبي حنيفة، وحينئذ فليس في رواية مسح مرة حجة على منع التعدد، لكن المفتى به عند الحنفية عدم التثليث أيضًا، ويحتج للتعدد أيضًا بظاهر رواية مسلم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توضأ ثلاثًا ثلاثًا، وبالقياس على المغسول لأن الوضوء طهارة حكمية، ولا فرق في الطهارة الحكمية بين الغسل والمسح. وأجيب: بأن قوله: توضأ ثلاثًا ثلاثًا مجمل قد بين في الروايات الصحيحة أن المسح

(1/272)


لا يتكرر فيحمل على الغالب ويختص بالمغسول وبأن المسح مبني على التخفيف فلا يقاس على الغسل الذي المراد منه المبالغة في الإسباغ. وأجيب: بأن الخفة تقتضي عدم الاستيعاب وهو مشروع بالاتفاق فليكن العدد كذلك.

43 - باب وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِهِ، وَفَضْلِ وَضُوءِ الْمَرْأَةِ وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالْحَمِيمِ مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّة
هذا (باب) حكم (وضوء الرجل مع امرأته) في إناء واحد وواو وضوء مضمومة على المشهور، لأن المراد منه الفعل، وفي بعض النسخ مع المرأة وهو أعم من أن تكون امرأته أو غيرها (وفضل وضوء المرأة) بفتح الواو أي الماء الفاضل في الإناء بعد فراغها من الوضوء وفضل مجرور عطفًا على المجرور السابق. (وتوضأ عمر) بن الخطاب رضي الله عنه (بالحميم) بفتح الحاء المهملة أي الماء المسخن فعيل بمعنى مفعول، وهذا الأثر وصله سعيد بن منصور وعبد الرزاق وغيرهما بإسناد صحيح بلفظ: إن عمر كان يتوضأ بالحميم ويغتسل منه واتفق على جوازه إلا ما نقل عن مجاهد. نعم يكره شديد السخونة لمنعه الإسباغ. (و) توضأ عمر أيضًا (من بيت نصرانية) فلما وصله الشافعي رضي الله عنه وعبد الرزاق وغيرهما عن سفيان بن عيينة عن زيد بن أسلم عن أبيه أن عمر رضي الله عنه توضأ من ماء في جرة نصرانية، لكن ابن عيينة لم يسمع من زيد بن أسلم. فقد رواه البيهقي من طريق سعد بن نصر عنه. قال: وحدّثونا عن زيد بن أسلم فذكره مطوّلاً. وفي رواية كريمة بالحميم من بيت نصرانية بحذف واو العطف، وفي ذلك نظر لأنهما أثران مستقلان كما مرّ، ولم يظهر ليس مناسبتهما للترجمة. أما توضؤ عمر بالحميم فلا يخفى عدم مناسبته، وأما توضؤه من بيت نصرانية فلا يدل على أنه كان من فضل ما استعملته، بل الذي يدل عليه جواز استعمال مياههم، ولا خلاف في استعمال سؤر النصرانية لأنه طاهر خلافًا لأحمد وإسحاق رضي الله عنهما وأهل الظاهر، واختلف قول مالك رحمه الله ففي المدوّنة لا يتوضأ بسؤر النصراني ولا بما أدخل يده فيه. وفي العتبية أجازه مرة وكرهه أخرى، وفي رواية ابن عساكر حذف الأثرين وهو أولى لعدم المطابقة بينهما وبين الترجمة.
193 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَتَوَضَّئُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَمِيعًا.
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، وفي رواية أبوي ذر والوقت وابن عساكر عن ابن عمر (أنه قال):
(كان الرجال والنساء) أي الجنس منهما (يتوضؤون في زمان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جميعًا) أي حال كونهم مجتمعين لا متفرقين. زاد ابن ماجة عن هشام بن عروة عن مالك في هذا الحديث من إناء واحد، وزاد داود من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر ندلي فيه أيدينا. وفي صحيح ابن خزيمة من طريق معمر عن عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أنه أبصر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه يتطهرون والنساء معهم من إناء واحد كلهم يتطهر منه وهو محمول على ما قبل نزول الحجاب، وأما

بعده فيختص بالزوجات والمحارم، وفي قوله: زمان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حجة للجواز فإن الصحابي إذا قال: كنا نفعل أو كانوا يفعلون في زمنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يكون حكمه الرفع كما هو الصحيح، وهذا الحديث يدل على الجزء الأوّل من الترجمة فقط، وأما فضل وضوء المرأة فيجوز عند الشافعية الوضوء منه للرجل سواء خلت به أم لا من غير كراهة، وبذلك قال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما وجمهور العلماء. وقال أحمد وداود: لا يجوز إذا خلت به وعن الحسن وابن المسيب كراهة فضلها مطلقًا.
ورواة هذا الحديث الأربعة ما بين تنيسي ومدني وفيه الإخبار والتحديث والعنعنة والقول، وهو من سلسلة الذهب وهو عند المؤلف رحمه الله أصح الأسانيد.

44 - باب صَبِّ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضُوءَهُ عَلَى الْمُغْمَى عَلَيْهِ
هذا (باب صبّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وضوءه) بفتح الواو أي الماء الذي توضأ به (على المغمى عليه) بضم الميم وإسكان المعجمة من أصابه الإغماء ويكون العقل فيه مغلوبًا وفي المجنون مسلوبًا وفي النائم مستورًا.
194 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرًا يَقُولُ: جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعُودُنِي وَأَنَا مَرِيضٌ لاَ أَعْقِلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ عَلَىَّ مِنْ وَضُوئِهِ، فَعَقَلْتُ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَنِ الْمِيرَاثُ، إِنَّمَا يَرِثُنِي كَلاَلَةٌ؟ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْفَرَائِضِ. [الحديث 194 - أطرافه في: 4577، 5651، 5664، 5676، 6723، 6743، 7309].
وبالسند قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي (قال: حدّثنا شعبة) ابن الحجاج (عن محمد بن المنكدر) التيمي القرشي الزاهد المشهور المتوفى سنة إحدى وثلاثين ومائة (قال: سمعت جابرًا) أي ابن عبد الله حال كونه (يقول):
(جاء رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (يعودني وأنا)

(1/273)


أي في حال أني (مريض لا أعقل) أي لا أفهم شيئًا فحذف مفعوله ليعم (فتوضأ) عليه الصلاة والسلام (وصبّ عليّ من وضوئه) بفتح الواو أي من الماء الذي توضأ به أو مما بقي منه (فعقلت) بفتح القاف (فقلت: يا رسول الله لمن الميراث) أي لمن ميراثي فأل عوض عن ياء المتكلم وعند المؤلف في الاعتصام كيف أصنع في مالي وهو يؤيد ذلك (إنما يرثني كلالة) غير ولد ولا والد، (فنزلت آية الفرائض): {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَة} [النساء: 176] إلى آخر السورة، أو المراد: {يوصيكم الله} أي يأمركم الله ويعهد إليكم {في أولادكم} في شأن ميراثكم وهو إجمال تفصيله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] إلى آخرها. واستنبط من هذا الحديث فضيلة عيادة الأكابر الأصاغر، ورواته الأربعة ما بين بصري وكوفي ومدني وفيه التحديث والعنعنة والسماع، وأخرجه المؤلف أيضًا في الطب والفرائض، وكذا مسلم فيها والنسائي وابن ماجة كذلك وفي التفسير والطب.

45 - باب الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فِي الْمِخْضَبِ وَالْقَدَحِ وَالْخَشَبِ وَالْحِجَارَةِ
(باب الغسل والوضوء في المخضب) بكسر الميم وسكون الخاء وفتح الضاد المعجمتين آخره موحدة إجانة لغسل الثياب أو المركن أو إناء يغسل فيه (و) في (القدح) الذي يؤكل فيه ويكون من الخشب غالبًا مع ضيق فيه، (و) في الإناء من (الخشب) بفتح الخاء والشين المعجمتين وبضمتين وسكون الشين، (و) في الإناء من (الحجارة) النفيسة وغيرها وعطف الخشب والحجارة على سابقهما من باب العطف التفسيري، لأن المخضب والقدح قد يكونان من الخشب والحجارة، كما وقع في التصريح به من حديث الباب بمخضب من حجارة.
195 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ بَكْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حَضَرَتِ الصَّلاَةُ، فَقَامَ مَنْ كَانَ قَرِيبَ الدَّارِ إِلَى أَهْلِهِ وَبَقِيَ قَوْمٌ، فَأُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ مَاءٌ، فَصَغُرَ الْمِخْضَبُ أَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ، فَتَوَضَّأَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ. قُلْنَا: كَمْ كُنْتُمْ؟ قَالَ: ثَمَانِينَ وَزِيَادَةً.
وبالسند السابق إلى المؤلف قال: (حدّثنا عبد الله بن منير) بضم الميم وكسر النون وسكون المثناة التحتية آخره راء، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر ابن المنير بزيادة أل السهمي المروزي المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائتين أنه (سمع عبد الله بن بكر) بفتح الموحدة وسكون الكاف أبا وهب المصري، المتوفى ببغداد في خلافة المأمون سنة ثمان ومائتين (قال: حدّثنا حميد) بالتصغير ابن أبي حميد الطويل المتوفى وهو قائم يصلي سنة ثلاث وأربعين ومائة (عن أنس) هو ابن مالك رضي الله عنه (قال):
(حضرت الصلاة) أي صلاة العصر (فقام من كان قريب الدار إلى أهله) لأجل تحصيل الماء والتوضؤ به (وبقي قوم) عند رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يكونوا على وضوء (فأُتي) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول ونائب الفاعل قوله (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمخضب) متخذ (من حجارة فيه ماء) قليل (فصغر المخضب أن يبسط فيه كفه) لصغره أي لأن يبسط وأن مصدرية أي لبسط كفه فيه (فتوضأ القوم) الذين بقوا عنده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (كلهم) من ذلك المخضب الصغير (قلنا) وفي رواية ابن عساكر وكريمة فقلنا وفي أخرى وهو من كلام حميد الطويل الراوي عن أنس رضي الله عنه (كم) نفسًا (كنتم؟ قال): كنا (ثمانين) نفسًا (وزيادة) على الثمانين، وهذا الحديث رواته الأربعة ما بين مروزي ومصري وفيه التحديث والسماع والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في علامات النبوّة ومسلم ولفظهما مختلف.
196 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلاَءِ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ بُرَيْدٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا بِقَدَحٍ فِيهِ مَاءٌ فَغَسَلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ.

وبه قال (حدّثنا محمد بن العلاء) بالمهملة مع المد (قال حدّثنا أبو أسامة) بضم الهمزة حماد بن أسامة (عن بريد) بضم الموحدة وفتح الراء وسكون المثناة التحتية (عن أبي بردة) الحرث بن أبي موسى (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه.
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا بقدح) أي طلب قدحًا (فيه ماء) جملة اسمية في موضع جر صفة لقدح ثم عطف على دعا قوله (فغسل يديه ووجهه فيه ومج) أي صب (فيه) ولا دلالة فيه على الوضوء منه ولا الغسل بضم الغين. ورواة هذا الحديث الخمسة كوفيون وفيهم ثلاثة مكيون وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف معلقًا فيما سبق فى باب استعمال فضل وضوء الناس.
197 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ قَالَ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخْرَجْنَا لَهُ مَاءً فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ، فَتَوَضَّأَ، فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثًا، وَيَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ فَأَقْبَلَ بِهِ وَأَدْبَرَ، وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي سلمة) بفتح اللام الماجشون بفتح الجيم ونسبه كسابقه لجده لشهرة كلّ منهما به، وأبو كلّ منهما اسمه عبد الله (قال: حدّثنا عمرو بن يحيى) بفتح العين بن عمارة (عن أبيه) يحيى (عن

(1/274)


عبد الله بن زيد) الأنصاري (قال) (أتى) وفي رواية الكشميهني وأبي الوقت أتانا (رسول الله) وفي رواية النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فأخرجنا له ماء في تور) بالمثناة الفوقية (من صفر) بضم الصاد (فتوضأ فغسل وجهه ثلاثًا) تفسير لقوله فتوضأ، وفيه حذف تقديره فمضمض واستنشق، (و) غسل (يديه مرتين مرتين ومسح برأسه فأقبل به وأدبر) به (وغسل رجليه) ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين كوفي ومدني وفيه اثنان نسبًا إلى جدّهما واسم أبيهما عبد الله والتحديث والعنعنة.

198 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أَزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي، فَأَذِنَّ لَهُ. فَخَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الأَرْضِ: بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَأَخْبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: أَتَدْرِي مَنِ الرَّجُلُ الآخَرُ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: هُوَ عَلِيٌّ -وَكَانَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- تُحَدِّثُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهُ وَاشْتَدَّ وَجَعُهُ: «هَرِيقُوا عَلَىَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ، لَعَلِّي أَعْهَدُ إِلَى النَّاسِ». وَأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لِحَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ تِلْكَ القِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إِلَيْنَا أَنْ قَدْ فَعَلْتُنَّ. ثُمَّ خَرَجَ إِلَى النَّاسِ. [الحديث 198 - أطرافه في: 664، 665، 679، 683، 687، 712، 713، 716، 2588، 3099، 3384، 4442، 4445، 5714، 7303].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة الحمصي (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بتصغير العبد (ابن عبد الله بن عتبة) بضم العين وسكون المثناة الفوقية زاد في رواية الأصيلي ابن مسعود (أن عائشة) رضي الله عنها (قالت):
(لما ثقل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم قاف ثقل أي أثقله المرض (واشتد به وجعه استأذن) عليه الصلاة والسلام (أزواجه) رضي الله عنهن (في أن يمرض) بضم المثناة التحتية وفتح الراء المشددة أي يخدم في مرضه (في بيتي فأذن له) بكسر المعجمة وتشديد النون أي أن يمرض في بيت عائشة (فخرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من بيت ميمونة أو زينب بنت جحش أو ريحانة والأوّل هو المعتمد (بين رجلين تخط) بضم الخاء المعجمة (رجلاه في الأرض بين عباس) عمه رضي الله عنه (ورجل آخر قال عبيد الله) الراوي عن عائشة وهذا مدرج من كلام الزهري الراوي عنه، (فأخبرت عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما بقول عائشة رضي الله عنها (فقال: أتدري من الرجل الآخر) الذي لم تسم عائشة؟ (قلت: لا) أدري (قال) عبد الله (هو علي) وفي رواية ابن أبي طالب، وفي رواية مسلم بين الفضل بن عباس، وفي أخرى بين رجلين أحدهما أسامة، وحينئذ فكان أي العباس أدومهم لأخذ يده الكريمة إكرامًا له واختصاصًا به، والثلاثة يتناوبون الآخذ بيده الأخرى، ومن ثم صرّحت عائشة بالعباس وأبهمت الآخر، أو المراد به علي بن أبي طالب ولم تسمه لما كان عندها منه مما يحصل للبشر مما يكون سببًا في الإعراض عن ذكر اسمه. (وكانت عائشة رضي الله عنها) بالعطف على الإسناد المذكور (تحدّث أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال بعد ما دخل بيته) ولابن عساكر بيتها أي عائشة وأضيف إليها مجازًا لملابسة السكنى فيه (واشتد وجعه) وللأصيلي واشتد به وجعه: (هريقوا) من هراق الماء يهريقه هراقة، وللأصيلي وأبوي ذر والوقت وابن عساكر أهريقوا بفتح الهمزة من أهراق الماء يريقه إهراقًا أي صبوا (عليّ من سبع قرب) بكسر القاف وفتح الراء جمع قربة وهي ما يستقى به (لم تحلل أوكيتهن) جمع وكاء وهو ما يربط به فم القربة (لعليّ أعهد) بفتح الهمزة أي أوصي (الى الناس. وأجلس) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي رواية فأجلس بالفاء وكلاهما بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (في مخضب) بكسر الميم من نحاس كما في رواية ابن خزيمة {لحفصة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم طفقنا) بكسر الفاء وقد تفتح أي جعلنا (نصب عليه من تلك القرب) السبع (حتى طفق) أي جعل -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يشير إلينا أن قد فعلتنّ) ما أمرتكن به من إهراق الماء من القرب المذكورة، وإنما فعل ذلك لأن الماء البارد في بعض الأمراض تردّ به القوّة والحكمة في عدم حلّ الأوكية لكونه أبلغ في طهارة الماء وصفائه لعدم مخالطة الأيدي، (ثم خرج) عليه الصلاة والسلام من بيت عائشة (إلى الناس) الذين في المسجد فصلَّى بهم وخطبهم كما يأتي إن شاء الله تعالى مع ما في الحديث من المباحث في الوفاة النبوية بحول الله وقوّته.
واستنبط من الحديث وجوب القسم عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإراقة الماء على المريض لقصد الاستشفاء به. ورواته الخمسة ما بين حمصي ومدني، وفيه التحديث والإخبار بصيغة الجمع والإفراد والقول،

وأخرجه المؤلف في ستة مواضع غير هذا في الصلاة في موضعين، وفي الهبة والخمس والمغازي وفي مرضه وفي الطب، ومسلم في الصلاة، والنسائي في عشرة النساء وفي الوفاة

(1/275)


والترمذي في الجنائز.

46 - باب الْوُضُوءِ مِنَ التَّوْرِ
(باب الوضوء من التور) بالمثناة الفوقية إناء من صفر أو حجارة.
199 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ عَمِّي يُكْثِرُ مِنَ الْوُضُوءِ، قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: أَخْبِرْنِي كَيْفَ رَأَيْتَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ؟ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ مَاءٍ فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاَثَ مِرَارٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَاغْتَرَفَ بِهَا فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَأَدْبَرَ بِيَدَيْهِ وَأَقْبَلَ، ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فَقَالَ هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ.
وبالسند قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون الخاء وفتح اللام القطواني البجلي (قال حدّثنا سليمان) أي ابن بلال كما في رواية ابن عساكر (قال: حدّثني) بالإفراد (عمرو بن يحيى) بفتح العين (عن أبيه) يحيى (قال):
(كان عمي) عمرو بن أبي حسن (يكثر من الوضوء. قال) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر فقال (لعبد الله بن زيد: أخبرني كيف رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوضأ. فدعا بتور) بالمثناة إناء فيه شيء (من ماء فكفأ على يديه فغسلهما ثلاث مرار) وفي رواية أبي ذر والأصيلي مرات. (ثم أدخل يده في التور) ثم أخرجها (فمضمض واستنثر) بعد الاستنشاق (ثلاث مرات) حال كونه (من غرفة واحدة) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي مرار، وهذه إحدى الكيفيات الخمس السابقة، (ثم أدخل يده) بالإفراد (فاغترف بها) ثلاثًا، ولأبي ذر وابن عساكر: ثم أدخل يديه فاغترف بهما (فغسل وجهه ثلاث مرات) وللأصيلي والحموي والمستملي مرار (ثم غسل يديه إلى المرفقين مرتين مرتين ثم أخذ بيده) بالإفراد، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر بيديه (ماء فمسح به رأسه فأدبر) وللأصيلي وأدبر (به) أي بالماء، وللأصيلي وأبوي ذر والوقت وابن عساكر بيديه (وأقبل) وفي الرواية السابقة بتقديم الإقبال ففعل عليه السلام كلاًّ من المختلفين لبيان الجواز والتيسير، (ثم غسل رجليه) مع كعبيه (فقال) أي عبد الله بن زيد وللأصيلي وقال: (هكذا رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوضأ) وهذا الحديث من الخماسيات.

200 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا بِإِنَاءٍ مِنْ مَاءٍ، فَأُتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَىْءٌ مِنْ مَاءٍ، فَوَضَعَ أَصَابِعَهُ فِيهِ، قَالَ أَنَسٌ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ إِلَى الْمَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. قَالَ أَنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوَضَّأَ مَا بَيْنَ السَّبْعِينَ إِلَى الثَّمَانِينَ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا حماد) أي ابن زيد لا حماد بن سلمة لأنه لم يسمع منه مسدد (عن ثابت) البناني بضم الموحدة وبالنونين (عن أنس) هو ابن مالك رضي الله عنه.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعا بإناء من ماء فأُتي) بضم الهمزة (بقدح رحراح) بمهملات الأولى مفتوحة بعدها ساكنة أي متسع الفم أو الواسع الصحن القريب القعر (فيه شيء) قليل (من ماء).

وعند ابن خزيمة عن أحمد بن عبدة عن حماد بن زيد قدح من زجاج بزاي مضمومة وجيمين بدل قوله رحراح المتفق عليها عند أصحاب حماد بن زيد ما عدا أحمد بن عبدة، فإن ثبتت روايته فيكون ذكر الجنس والجماعة وصفوا الهيئة، ويؤيده ما في مسند أحمد من حديث ابن عباس أن المقوقس أهدى للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قدحًا من زجاج، لكن في إسناده مقال كما نبّه عليه في الفتح (فوضع) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أصابعه فيه) أي في الماء (قال أنس) رضي الله عنه؛ (فجعلت أنظر إلى الماء ينبع) بتثليث الموحدة واقتصر في الفرع على الضم (من بين أصابعه) عليه الصلاة والسلام (قال أنس) رضي الله عنه: (فحزرت) بتقديم الزاي على الراء من الحزر أي قدرت (من توضأ منه ما بين السبعين إلى الثمانين) وفي رواية حميد السابقة أنهم كانوا ثمانين وزيادة، وفي حديث جابر كنا خمس عشرة ومائة، ولغيره زهاء ثلاثمائة فهي وقائع متعددة في أماكن مختلفة وأحوال متغايرة، وتأتي مباحث ذلك إن شاء الله تعالى في باب علامات النبوّة. ورواة هذا الحديث الأربعة كلهم أجلاّء بصريون وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم في الفضائل النبوية ووجه مطابقته لما ترجم له المؤلف من جهة إطلاق اسم التور على القدح فاعلمه.

47 - باب الْوُضُوءِ بِالْمُدِّ
(باب الوضوء بالمد) بضم الميم وتشديد الدال.
201 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جَبْرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَغْسِلُ -أَوْ كَانَ يَغْتَسِلُ- بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ، وَيَتَوَضَّأُ بِالْمُدّ.
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم) بضم النون الفضل بن دكين (قال: حدّثنا مسعر) بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين ابن كدام بكسر الكاف وبالدال المهملة، المتوفى سنة خمس وخمسين ومائة (قال: حدّثني) بالإفراد (ابن جبر) بفتى الجيم وسكون الموحدة أي عبد الله بن

عبد الله بن جبر بن عتيك الأنصاري ونسبه إلى جدّه لشهرته به وليس هو ابن جبير سعيدًا بالتصغير لأنه لا رواية له عن أنس في هذا الصحيح (قال: سمعت أنسًا) بالتنوين حال كونه (يقول):
(كان النبي) وللأصيلي رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يغسل) جسده المقدس (أو كان يغتسل) كيفتعل

(1/276)


(بالصاع) إناء يسع خمسة أرطال وثلث رطل بالبغدادي، وربما زاد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ما ذكر (إلى خمسة أمداد و) كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يتوضأ بالمد) الذي هو ربع الصاع، وعلى هذا فالسُّنّة أن لا ينقص ماء الوضوء عن مدّ والغسل عن صاع. نعم يختلف باختلاف الأشخاص فضئيل الخلقة يستحب له أن يستعمل من الماء قدرًا يكون نسبته إلى جسده كنسبة المد والصاع إلى جسد الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومتفاحشها في الطول والعرض وعظم البطن وغيرها يستحب أن لا ينقص عن مقدار يكون بالنسبة إلى بدنه كنسبة المد والصاع إلى بدن الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي حديث أم عمارة عند أبي داود: أنه عليه الصلاة والسلام توضأ فأُتي بإناء فيه قدر ثلثي المد، وعنده أيضًا من حديث أنس رضي الله عنه: وكان عليه الصلاة والسلام يتوضأ بإناء يسع رطلين ويغتسل بالصاع، ولابني خزيمة وحبان في صحيحيهما والحاكم في مستدركه من حديث عبد الله بن زيد رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام أُتي بثلثي مدّ من ماء فتوضأ فجعل يدلك ذراعيه، ولمسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغتسل هي والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من إناء واحد يسع ثلاثة أمداد، وفي أخرى كان يغتسل بخمس مكاكيك ويتوضأ بمكوك وهو إناء يسع المدّ وفي لفظ للبخاري من قدح يقال له الفرق بفتح الفاء والراء يسع ستة عشر رطلاً: وهي ثلاثة أصوع وبسكون الراء مائة وعشرون رطلاً قاله ابن الأثير، والجمع بين هذه الروايات كما نقله النووي عن الشافعي رحمهما الله ورضي عنهما أنها كانت اغتسالات في أحوال وجد فيها أكثر ما استعمله وأقله، وهو يدل على أنه لا حدّ في قدر ماء الطهارة يجب استيفاؤه بل القلة والكثرة باعتبار الأشخاص والأحوال كما مرّ، ثم إن الصاع أربعة أمداد كما أشير إليه والمد رطل وثلث بالبغدادي وهو مائة وثمانية وعشرون درهما وأربعة أسباع درهم، وحينئذ فيكون الصاع ستمائة درهم وخمسة وثمانين وخسة أسباع درهم كما صححه النووي رحمه الله ورضي عنه، والشك في قوله: أو كان يغتسل من الراوي وهل هو من البخاري، أو من أبي نعيم، أو من ابن جبر، أو من مسعر احتمالات. ورواة هذا الحديث الأربعة ما بين بصري وكوفي وفيه التحديث والسماع.

48 - باب الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ
(باب) حكم (المسح على الخفين) في الوضوء بدلاً عن غسل الرجلين.
202 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ الْمِصْرِيُّ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرٌو قال: حَدَّثَنِي أَبُو النَّضْرِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ مَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ سَأَلَ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: نَعَمْ، إِذَا حَدَّثَكَ شَيْئًا سَعْدٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلاَ تَسْأَلْ عَنْهُ غَيْرَهُ.

وَقَالَ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ: أَخْبَرَنِي أَبُو النَّضْرِ أَنَّ أَبَا سَلَمَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ سَعْدًا ... فَقَالَ عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ.
وبالسند قال: (حدّثنا أصبغ) بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الموحدة آخره معجمة أبو عبد الله (بن الفرج) بالجيم القرشي الفقيه (المصري) المتوفى سنة ست وعشرين ومائتين (عن ابن وهب) القرشي المصري وكان أصبغ وراقًا أنه (قال: حدّثني) وفي رواية أخبرني بالإفراد فيهما (عمرو) بفتح العين ابن الحرث كما في رواية ابن عساكر أبو أمية المؤدب الأنصاري المصري الفقيه، المتوفى بمصر سنة ثمان وأربعين ومائة (قال: حدّثني) بالتوحيد (أبو النضر) بالضاد المعجمة الساكنة سالم بن أبي أمية القرشي المدني مولى عمر بن عبيد الله المتوفى سنة تسع وعشرين ومائة (عن أبي سلمة) بفتح اللام عبد الله (بن عبد الرحمن) بن عوف القرشي الفقيه المدني (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما (عن سعد بن أبي وقاص) رضي الله عنه: (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه مسح على الخفين) القويين الطاهرين الملبوسين بعد كمال الطهر الساترين لمحل الفرض وهو القدم بكعبيه من كل الجوانب غير الأعلى، فلو كان واسعًا ترى منه لم يضر (وأن عبد الله بن عمر) هو عطف على قوله عن عبد الله بن عمر فيكون موصولاً إن حملناه على أن أبا سلمة سمع ذلك من عبد الله، وإلا فأبو سلمة لم يدرك القضية (سأل) أباه (عمر) أي ابن الخطاب كما للأصيلي (عن ذلك) أي عن مسح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الخفين (فقال) عمر رضي الله عنه: (نعم) مسح عليه الصلاة والسلام على الخفين (إذا حدّثك شيئًا سعد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا تسأل عنه غيره) لثقته بنقله وقد أخرج الحديث الإمام أحمد من طريق أخرى عن أبي النضر عن أبي سلمة عن ابن عمر قال: رأيت سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه

(1/277)


يمسح على خفّيه بالعراق حين توضأ فأنكرت ذلك عليه، فلما اجتمعنا عند عمر رضي الله عنه قال لي سعد سل أباك وذكر القصة. ورواه ابن خزيمة من طريق أيوب عن نافع عن ابن عمر نحوه، وفيه أن عمر رضي الله عنه قال: كنا ونحن مع نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
نمسح على خفافنا لا نرى بذلك بأسًا، وإنما أنكر ابن عمر المسح على الخفين مع قدم صحبته وكثرة روايته لأنه خفي عليه ما اطّلع عليه غيره أو أنكر عليه مسحه في الحضر كما هو ظاهر رواية الموطأ من حديث نافع وعبد الله بن دينار أنهما أخبراه أن ابن عمر قدم الكوفة على سعد وهو أميرها فرآه يمسح على الخفين فأنكر ذلك عليه فقال له سعد: سل أباك فذكر القصة. وأما في السفر فقد كان ابن عمر يعلمه.
ورواه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما رواه ابن أبي خيثمة في تاريخه الكبير، وابن أبي شيبة في مصنفه من رواية عاصم عن سالم عنه رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسح على الخفّين بالماء في السفر، وقد تكاثرت الروايات بالطرق المتعددة عن الصحابة رضي الله عنهم الذين كانوا لا يفارقونه عليه الصلاة والسلام سفرًا ولا حضرًا، وقد صرح جمع من الحفاظ بتواتره وجمع بعضهم رواته فجاوزوا الثمانين منهم العشرة المبشرة

وعن ابن أبي شيبة وغيره عن الحسن البصري، حدّثني سبعون من الصحابة بالمسح على الخفين.
واتفق العلماء على جوازه خلافًا للخوارج كبتهم الله لأن القرآن لم يرد به، وللشيعة -قاتلهم الله تعالى- لأن عليًّا رضي الله عنه امتنع منه ويرد عليهم صحته عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتواتره على قول بعضهم. كما تقدم.
وأما ما ورد عن علي رضي الله عنه فلم يرد عنه بإسناد موصول يثبت بمثله كما قاله البيهقي، وقد قال الكرخي: أخاف الكفر على من لا يرى المسح على الخفين، وليس بمنسوخ لحديث المغيرة في غزوة تبوك وهي آخر غزواته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، والمائدة نزلت قبلها في غزوة المريسيع فأمن النسخ للمسح.
ويؤيده حديث جرير رضي الله عنه أنه رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد المائدة.

ورواة الحديث السبعة ما بين مصري ومدني وفيه تابعي عن تابعي وصحابي عن صحابي، والتحديث بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة، ولم يخرجه المؤلف في غير هذا الموضع، ولم يخرج مسلم في المسح إلا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، فهذا الحديث من أفراد المؤلف، وأخرجه النسائي في الطهارة أيضًا.
(وقال موسى بن عقبة) بضم العين وسكون القاف وفتح الموحدة التابعي صاحب المغازي، المتوفى سنة إحدى وأربعين ومائة مما وصله الإسماعيلي وغيره بهذا الإسناد. (أخبرني) بالإفراد (أبو النضر) التابعي (أن أبا سلمة) التابعي أيضًا (أخبره أن سعدًا) هو ابن أبي وقاص رضي الله عنه (حدّثه) أي حديث أبا سلمة أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مسح على الخفّين (فقال عمر) ابن الخطاب رضي الله عنه (لعبد الله) ولده (نحوه) بالنصب لأنه مقول القول أي نحو قوله في الرواية السابقة: إذا حدّثك شيئًا سعد عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلا تسأل عنه غيره، فقول عمر رضي الله عنه في هذه الرواية المعلقة بمعنى الموصولة السابقة لا بلفظها، والفاء في فقال عطف على قوله حدث المحذوف عند المصنف كما قدّرناه الخ، وإنما حذفه لدلالة السياق عليه.
203 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ الْحَرَّانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فَاتَّبَعَهُ الْمُغِيرَةُ بِإِدَاوَةٍ فِيهَا مَاءٌ فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ.
وبالسند قال: (حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين ابن فروخ بالفاء المفتوحة وضم الراء المشددة وفي آخره معجمة (الحراني) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء وبعد الألف نون نسبة إلى حران مدينة قديمة بين دجلة والفرات (قال: حدّثنا الليث) بن سعد الإمام المصري (عن يحيى بن سعيد) بالمثناة التحتية الأنصاري (عن سعد بن إبراهيم) بسكون العين ابن عبد الرحمن بن عوف (عن نافع بن جبير) أي ابن مطعم (عن عروة بن المغيرة) بن شعبة (عن أبيه المغيرة بن شعبة رضي الله عنه).

(عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه خرج لحاجته) في غزوة تبوك عند صلاة الفجر كما في الموطأ ومسند الإمام أحمد وسنن أبي داود من طريق عباد بن زياد عن عروة بن المغيرة (فاتبعه المغيرة) بتشديد المثناة الفوقية (بإداوة) بكسر الهمزة أي مطهرة (فيها ماء فصبَّ) المغيرة (عليه) زاده الله شرفًا لديه (حين فرغ من حاجته

(1/278)


فتوضأ) فغسل وجهه ويديه كذا عند المؤلف في باب الرجل يوضئ صاحبه، وله في الجهاد أنه تمضمض واستنشق وغسل وجهه. زاد الإمام أحمد ثلاث مرات فذهب يخرج يديه من كميه فكانا ضيقين فأخرجهما من تحت الجبة، ولمسلم من وجه آخر: وألقى الجبة على منكبيه، وللإمام أحمد فغسل يده اليمنى ثلاث مرات ويده اليسرى ثلاث مرات، وللمصنف ومسح برأسه، (ومسح على الخفين). والسُّنَّة أن يمسح على أعلاهما الساتر لمشط الرجل وأسفلهما خطوطًا، وكيفية ذلك أن يضع يده اليسرى تحت العقب واليمنى على ظهر الأصابع ثم يمر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف الأصابع من تحت مفرجًا بين الأصابع يده، ولا يسنّ استيعابه بالمسح ويكره تكراره، وكذا غسل الخف، ولو وضع يده المبتلّة عليه ولم يمرها أو قطر عليه أجرأه ويكفي مسمى مسح يحاذي الفرض من ظاهر الخف دون باطنه الملاقي للبشرة فلا يكفي كما قال في شرح المهذب اتفاقًا، ولا يكفي مسح أسفل الرجل وعقبها على المذهب لأنه لم يرد الاقتصار على ذلك كما ورد الاقتصار على الأعلى فيقتصر عليه وقوفًا على محل الرخصة وحرفه كأسفله فلا يكفي الاقتصار عليه لقربه منه، وهل المسح على الخف أفضل أم غسل الرجل أفضل؟ قال في آخر صلاة السافر من الروضة بالثاني، ولا يجوز المسح عليه في الغسل واجبًا كان أو مندوبًا كما نقله في شرح المهذب لما في حديث صفوان عند الترمذي وصححه قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفرًا أن لا ننزع خفافنا ثلاث أيام ولياليهن إلا من جنابة، فدلّ الأمر بالنزع على عدم جواز المسح في الغسل والوضوء لأجل الجنابة فهي مانعة من المسح.
ورواة هذا الحديث السبعة ما بين حراني ومصري ومدني وفيه أربعة من التابعين على الولاء يحيى وسعد وعروة والتحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف في مواضع من الطهارة وفي المغازي وفي اللباس، ومسلم في الطهارة والصلاة، وأبو داود والنسائي وابن ماجة في الطهارة.

204 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ. وَتَابَعَهُ حَرْبُ بْنُ شَدَّادٍ وَأَبَانُ عَنْ يَحْيَى.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين (قال: حدّثنا شيبان) بن عبد الرحمن النحوي (عن يحيي) بن أبي كثير التابعي (عن أبي سلمة) بفتح اللام عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف (عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري) بالضاد المعجمة المفتوحة وعمرو بفتح العين التابعي الكبير، المتوفى سنة خمس وتسعين.

(أن أباه) عمرو بن أمية المتوفى بالمدينة سنة ستين (أخبره أنه رأى النبي) وفي رواية رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسح على الخفين). ورواة هذا الحديث الستة ما بين بصري وكوفي ومدني وفيه ثلاثة من التابعين يحيى وأبو سلمة وجعفر والتحديث والعنعنة والإخبار، وأخرجه النسائي وابن ماجة في الطهارة.
(وتابعه) وفي رواية ابن عساكر قال أبو عبد الله أي البخاري وفي رواية الأصيلي تابعه بغير واو أي تابع شيبان المذكور (حرب) أي ابن شداد كما في رواية غير أبي ذر والأصيلي وهذا وصله النسائي والطبراني، (و) تابعه أيضًا (أبان) بفتح الهمزة والموحدة بالصرف على أن ألفه أصلية ووزنه فعال وبعدمه على أن الهمزة زائدة والألف بدل من الياء، وأصله بين وهو ابن يزيد العطار وهذا وصله الإمام أحمد والطبراني في الكبير كلاهما (عن يحيى) بن أبي كثير عن أبي سلمة.
205 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ أَبِيهِ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِهِ وَخُفَّيْهِ. وَتَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَمْرٍو قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) بفتح العين المهملة وسكون الموحدة لقب عبد الله بن عثمان العتكي الحافظ (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي (قال: أخبرنا الأوزاعي عن يحيى) بن أبي كثير (عن أبي سلمة) بفتح اللام ابن عبد الرحمن بن عوف (عن جعفر بن عمرو) بفتح العين زاد الأصيلي وأبوا الوقت وذر وابن عساكر ابن أمية (عن أبيه) عمرو المذكور رضي الله عنه، وأسقط بعض الرواة عنه جعفرًا من الإسناد. قال أبو حاتم الرازي: وهو خطأ (قال) عمرو بن أمية:
(رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمسح على عمامته) بعد مسح الناصية كما في رواية مسلم السابقة أو بعضها أو على عمامته فقط مقتصرًا عليها. (و) كذا رأيته يمسح على (خفّيه) أي في الوضوء، والاقتصار على المسح على العمامة هو مذهب الإمام أحمد

(1/279)


لكن بشرط أن يعتم بعد كمال الطهارة ومشقة نزعها بأن تكون محنكة كعمائم العرب، لأنه عضو يسقط فرضه في التيمم، فجاز المسح على حائله كالقدمين، ووافق الإمام أحمد على ذلك الأوزاعي والثوري وأبو ثور وابن خزيمة.
وقال ابن المنذر: إنه ثبت عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: "إن يطع الناس أبا بكر وعمر يرشدوا" واحتج المانعون بقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُم} [المائدة: 6]. ومن مسح على العمامة لم يمسح على رأسه، وأجمعوا على أنه لا يجوز مسح الوجه في التيمم على حائل دونه فكذلك الرأس. وقال الخطابي: فرض الله مسح الرأس، والحديث في مسح العمامة محتمل للتأويل فلا يترك المتيقن للمحتمل. قال: وقياسه على مسح الخف بعيد لأنه يشق نزعه بخلافها اهـ.

وأجيب بأن الآية لا تنفي الاقتصار على المسح عليها لا سيما عند من يحمل الشترك على حقيقته ومجازه لأن من قال: قبّلت رأس فلان يصدق ولو كان على حائل، وبأن الذين أجازوا الاقتصار على مسحها شرطوا فيه المشقة في نزعها كما في الخف، وقد مرَّ، والتقييد بالعمامة مخرج للقلنسوة ونحوها فلا يجوز الاقتصار في المسح عليها. نعم روي عن أنس رضي الله عنه أنه مسح على القلنسوة وتحصل سُنَّة مسح جميع الرأس عندنا بتكميله على العمامة عند عسر رفعها أو عند عدم إرادة نزعها. وقال الأصيلي فيما حكاه عنه ابن بطال: ذكر العمامة في هذا الحديث من خطأ الأوزاعي لأن شيبان وغيره رووه عن يحيى بدونها، فوجب تغليب رواية الجماعة على الواحد اهـ.
وأجيب بأن تفرّد الأوزاعي بذكر العمامة على تقدير تسليمه لا يستلزم تخطئته لأنه زيادة من ثقة غير منافية لغيره فتقبل. ورواة هذا الحديث السبعة ما بين مروزي وشامي ومدني وفيه التحديث والإخبار والعنعنة.

(وتابعه) بواو العطف وللأصيلي وابن عساكر تابعه بإسقاطها أي تابع الأوزاعي على رواية هذا المتن (معمر) أي ابن راشد (عن يحيى) ابن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف (عن عمرو) بالواو بإسقاط جعفر الثابت في السابقة وهذا هو السبب في سياق المؤلف الإسناد ثانيًا ليبيّن أنه ليس في رواية معمر ذكر جعفر بين أبي سلمة وعمرو (قال: رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لم يذكر المتن في هذه الرواية، وهذه المتابعة رواها عبد الرزاق في مصنفه عن معمر بدون ذكر العمامة وهي مرسلة، لكن أخرجها ابن منده في كتاب الطهارة له من طريق عمر بإثباتها وأبو سلمة لم يسمع من عمرو بل من ابنه جعفر فالمتابعة مرسلة.

49 - باب إِذَا أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ وَهُمَا طَاهِرَتَان
هذا (باب) بالتنوين (إذا أدخل رجليه) في الخفين (وهما طاهرتان) من الحدث.
206 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَفَرٍ، فَأَهْوَيْتُ لأَنْزِعَ خُفَّيْهِ فَقَالَ: «دَعْهُمَا، فَإِنِّي أَدْخَلْتُهُمَا طَاهِرَتَيْنِ». فَمَسَحَ عَلَيْهِمَا.
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين (قال: حدّثنا زكريا) ابن أبي زائدة الكوفي (عن عامر) هو ابن شراحيل الشعبي التابعي. قال الحافظ ابن حجر: وزكريا مدلس ولم أره من حديثه إلا بالعنعنة، لكن أخرجه الإمام أحمد عن يحيى القطان عن زكريا والقطان لا يحمل عن شيوخه المدلسين إلا ما كان مسموعًا لهم صرّح بذلك الإسماعيلي انتهى.
(عن عروة بن المغيرة عن أبيه) المغيرة بن شعبة رضي الله عنهم (قال):

(كنت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سفر) في رجب سنة تسع في غزوة تبوك (فأهويت) أي مددت يدي
أو قصدت أو أشرت أو أومأت (لأنزع خفّيه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال: دعهما) أي الخفين (فإني أدخلتهما) أي الرجلين حال كونهما (طاهرتين) من الحدثين، وللكشميهني وهما طاهرتان جملة اسمية حالية، ولأبي داود فإني أدخلت القدمين الخفّين وهما طاهرتان الحديث. ثم أحدث عليه الصلاة والسلام (فمسح عليهما) ولابني خزيمة وحبّان أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرخص للمسافر ثلاثة أيام ولياليهن، وللمقيم يومًا وليلة إذا تطهر فلبس خفّيه أن يمسح عليهما أي من الحدث بعد اللبس لأن وقت المسح يدخل بابتداء الحدث على الراجح، فاعتبرت مدته منه، واختار في المجموع قول أبي ثور وابن المنذر أن ابتداء المدة من المسح لأن قوة الأحاديث تعطيه، وحديث ابني خزيمة وحبان هذا موافق لحديث الباب في الدلالة على اشتراط الطهارة

(1/280)


الكاملة عند اللبس، فلو لبس قبل غسل رجليه وغسلهما فيه لم يجز المسح إلا أن ينزعهما من مقرهما ثم يدخلهما فيه، ولو أدخل إحداهما بعد غسلها ثم غسل الأخرى وأدخلها لم
يجز المسح إلا أن ينزع الأولى من مقرها ثم يدخلها فيه، لأن الحكم المترتب على التثنية غير الحكم المترتب على الموحدة. واستضعفه ابن دقيق العيد لأن الاحتمال باقٍ قال: ولكن إن ضم إليه دليل يدل على أن الطهارة لا تتبعض اتجه ولو ابتدأ اللبس بعد غسلهما ثم أحدث قبل وصولهما إلى موضع القدم لم يجز المسح، ولو غسلهما بنيّة الوضوء ثم لبسهما ثم أكمل باقي أعضاء الوضوء لم يجز له المسح عند الشافعي ومن وافقه على إيجاب الترتيب، وهذا الوضوء يجوز عند أبي حنيفة رضي الله عنه ومن وافقه على عدم وجوب الترتيب بناء على أن الطهارة لا تتبعض، ولم يخرج المصنف في هذا الكتاب ما يدل على توقيت المسح، وقد قال به الجمهور للحديث الذي قدمته وحديث مسلم وغيره، وخالف المالكية في المشهور عندهم فلم يجعلوا للمسح تأقيتًا بأيام مطلقًا بل يمسح عليه ما لم يخلعه أو يجب على الماسح غسل. نعم روى أشهب أن المسافر يمسح ثلاثة أيام ولم يذكر للمقيم وقتًا، وروى ابن نافع أن المقيم يمسح من الجمعة إلى الجمعة قال القاضي أبو محمد: هذا يحتمل الاستحباب، ثم قال: بل هو مقصود ووجهه أنه يغتسل للجمعة، وعزي إلى مالك في الرسالة المنسوبة إليه أنه حدّ للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يومًا وليلة، وأنكرت الرسالة المنسوبة لمالك. ورواة هذا الحديث كلهم كوفيون وفيه رواية التابعي الكبير عن التابعي والعنعنة والتحديث.

50 - باب مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ وَالسَّوِيق
وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ -رضي الله عنهم- لَحْمًا فَلَمْ يَتَوَضَّئُوا.

هذا (باب من لم يتوضأ من) أكل (لحم الشاة) ونحوها مما هو مثلها وما دونها (و) من أكل (السويق) وهو ما اتخذ من شعير أو قمح مقلو يدق فيكون كالدقيق إذا احتيج إلى أكله خلط بماء أو لبن أو ربّ ونحوه. (وأكل أبو بكر) الصديق (وعمر) الفاروق (وعثمان) ذو النورين (رضي الله عنهم فلم يتوضؤوا) كذا في رواية أبي ذر إلا عن الكشميهني بحذف المفعول وهو يعم كل ما مسّت

النار وغيره، وفي رواية أبي ذر عن الكشميهني والحموي والأصيلي، وأكل أبو بكر وعمر وعثمان لحمًا بإثباته، وعند ابن أبي شيبة عن محمد بن المنكدر قال: أكلت مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومع أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم خبرًا ولحمًا فصلّوا ولم يتوضؤوا، وكذا رواه الترمذي، وفي الطبراني في مسند الشاميين بإسناد حسن من طريق سليم بن عامر قال: رأيت أبا بكر وعمر وعثمان أكلوا مما مست النار ولم يتوضؤوا.
207 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكَلَ كَتِفَ شَاةٍ ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. [الحديث 207 - طرفاه في: 5404، 5405].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) إمام دار الهجرة (عن زيد بن أسلم) العدوي مولى عمر المدني (عن عطاء بن يسار) بمثناة تحتية فمهملة مخففة (عن عبد الله بن عباس) رضي الله عنهما.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكل كتف شاة) أي أكل لحمه في بيت ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب
وهي بنت عمّه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو في بيت ميمونة رضي الله عنها (ثم صلّى) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (ولم يتوضأ) وهذا مذهب الأستاذ الثوري رحمه الله والأوزاعي وأبي حنيفة ومالك والشافعي والليث وإسحاق وأبي ثور رضي الله عنهم، وأما حديث زيد بن ثابت عند الطحاوي والطبراني في الكبير أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "توضؤوا مما غيّرت النار" وهو مذهب عائشة وأبي هريرة وأنس والحسن البصري وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، وحديث جابر بن سمرة عند مسلم أن رجلاً سأل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أأتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: "إن شئت فتوضأ وإن شئت فلا تتوضأ" قال: أتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: "نعم توضأ من لحوم الإبل" وحديث البراء المصحح في المجموع قال: سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الوضوء من لحم الإبل
فمر به، وبه استدل الإمام أحمد على وجوب الوضوء من لحم الجزور، فأجيب عن ذلك بحمل الوضوء على غسل اليد والمضمضة لزيادة دسومة اللحم وزهومة لحم الإبل، وقد نهى أن يبيت وفي يده أو فمه دسم خوفًا من عقرب ونحوها، وبأنهما منسوخان بخبر أبي داود والنسائي وغيرهما، وصححه ابنا خزيمة وحبان عن جابر قال: كان آخر الأمرين من رسول الله

(1/281)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك الوضوء مما مسّت النار، ولكن ضعف الجوابين في المجموع بأن الحمل على الوضوء الشرعي مقدم على اللغوي كما هو معروف في محله وترك الوضوء مما مسّت النار عامّ، وخبر الوضوء من لحم الإبل خاص والخاص مقدم على العام سواء وقع قبله أو بعده، لكن حكى البيهقي عن عثمان الدارمي أنه قال: لما اختلفت أحاديث الباب ولم يتبين الراجح منها نظرنا إلى ما عمل به الخلفاء الراشدون رضي الله عنهم أجمعين بعد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فرجحنا به أحد الجانبين، وارتضى الأستاذ النووي هذا في شرح المهذب وعبارته: وأقرب ما يستروح إليه قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة رضي الله عنهم وما دل

عليه الخبران هو القول القديم وهو وإن كان شاذًّا في المذهب فهو قوي في الدليل، وقد اختاره جماعة من محققي أصحابنا المحدثين وأنا ممّن اعتقد رجحانه اهـ.
وقد فرّق الإمام أحمد بين لحم الجزور وغيره. وهذا الحديث من الخماسيات، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الأطعمة ومسلم وأبو داود في الطهارة.
208 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرِو بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْتَزُّ مِنْ كَتِفِ شَاةٍ، فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فَأَلْقَى السِّكِّينَ فَصَلَّى، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. [الحديث 208 - أطرافه في: 675، 2923، 5408، 5422، 5462].

وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (يحيى بن بكير) المصري نسبة إلى جدّه لشهرته به وأبوه عبد الله (قال: حدّثنا الليث) بن سعد المصري (عن عقيل) بضم العين ابن خالد الأيلي المصري (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال: أخبرني) بالتوحيد (جعفر بن عمرو بن أمية) بفتح العين (أنّ أباه) عمرًا (أخبره):
أن (أنه رأى رسول الله) وفي رواية أبوي ذر والوقت النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحتز) بالحاء المهملة وبالزاي المشددة أي يقطع (من كتف شاة) بفتح الكاف وكسر التاء وبكسر الكاف وسكون التاء زاد المؤلف في الأطعمة من طريق معمر عن الزهري يأكل منها (فدعي) بضم الدال (إلى الصلاة) وفي حديث النسائي عن أُم سلمة رضي الله عنها أن الذي دعاه إلى الصلاة بلال رضي الله عنه (فألقى) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (السكين) زاد في الأطعمة عن أبي اليمان عن شعيب عن الزهري فألقاها والسكين (فصلى) ولابن عساكر وصلى (ولم يتوضأ) زاد البيهقي من طريق عبد الكريم بن الهيثم عن أبي اليمان في آخر الحديث. قال الزهري: فذهبت تلك أي القصة في الناس، ثم أخبر رجال من أصحابه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونساء من أزواجه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "توضؤوا مما مسّت النار" قال: فكان الزهري يرى أن الأمر بالوضوء مما مسّت النار ناسخ لأحاديث الإباحة لأن الإباحة سابقة، واعترض عليه بحديث جابر السابق قريبًا قال: كان آخر الأمرين من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك الوضوء مما مسّت النار، لكن قال أبو داود وغيره: أن المراد بالأمر هنا الشأن والقصة لا ما قابل النهي، وأن هذا اللفظ مختصر من حديث جابر المشهور في قصة المرأة التي صنعت للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شاة فأكل منها ثم توضأ وصلى الظهر ثم أكل منها وصلى العصر ولم يتوضأ، فيحتمل أن تكون هذه القصة وقعت قبل الأمر بالوضوء مما مسّت النار، وأن وضوءه لصلاة الظهر كان عن حدث لا بسبب الأكل من الشاة. قال الأستاذ النووي: كان الخلاف فيه معروفًا بين الصحابة والتابعين، ثم استقر الإجماع على أنه لا وضوء مما مسّت النار إلا ما ذكر من لحم الإبل قاله في الفتح. وقال المهلب: كانوا في الجاهلية قد ألِفوا قلة التنظيف فأمروا بالوضوء مما مسّت النار، فلما تقررت النظافة في الإسلام وشاعت نسخ الوضوء تيسيرًا على المسلمين، واستنبط

من هذا الحديث جواز قطع اللحم بالسكين، ورواته الستة ثلاثة مصريون وثلاثة مدنيون وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وليس لعمرو بن أميّة رواية في هذا الكتاب إلا هذا، والحديث السابق في المسح، وأخرج المؤلف الحديث أيضًا في الصلاة والجهاد والأطعمة والنسائي في الوليمة وابن ماجة في الطهارة.

51 - باب مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ وَلَمْ يَتَوَضَّأْ
(باب من مضمض من السويق) بعد أكله (ولم يتوضأ).
209 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ مَوْلَى بَنِي حَارِثَةَ أَنَّ سُوَيْدَ بْنَ النُّعْمَانِ أَخْبَرَهُ أَنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ خَيْبَرَ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِالصَّهْبَاءِ
-وَهِيَ أَدْنَى خَيْبَرَ- فَصَلَّى الْعَصْرَ ثُمَّ دَعَا بِالأَزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَمَرَ بِهِ فَثُرِّيَ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَكَلْنَا، ثُمَّ قَامَ إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ وَمَضْمَضْنَا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ. [الحديث 209 - أطرافه في: 215، 2981، 4175، 4195، 5384، 5390، 5454، 5455].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن بشير بن يسار) بضم الموحدة وفتح المعجمة في السابق وبفتح المثناة التحتية والسين المهملة في اللاحق (مولى بني

(1/282)


حارثة أن سويد بن النعمان) بضم السين المهملة وفتح الواو وضم نون النعمان الأوسي المدني صحابي شهد أُحُدًا وما بعدها وليس له في البخاري سوى هذا الحديث ولم يروِ عنه سوى بشير بن يسار (أخبره).

(أنه خرج مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام خيبر) غير منصرف للعلمية والتأنيث وسميت باسم رجل من العماليق اسمه خيبر نزلها (حتى إذا كانوا) الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه رضي الله عنهم (بالصهباء) بالمد (وهي أدنى) أي أسفل (خيبر) وطرفها مما يلي المدينة وعند المؤلف في الأطعمة وهي على روحة من خيبر (فصلى) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وللحموي نزل فصلى (العصر ثم دعا بالأزواد) جمع زاد وهو ما يؤكل في السفر (فلم يؤت إلا بالسويق فأمر) عليه الصلاة والسلام (به) أي بالسويق (فثري) بضم المثلثة مبنيًّا للمفعول ويجوز تخفيف الراء أي بلّ بالماء لما لحقه من اليبس (فأكل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) منه (وأكلنا) منه زاد في رواية سليمان الآتية إن شاء الله وشربنا. وفي الجهاد من رواية عبد الوهاب فلكنا وأكلنا وشربنا أي من الماء أو من مائع السويق (ثم قام إلى) صلاة (المغرب فمضمض) قبل الدخول في الصلاة (ومضمضنا) كذلك (ثم صلى ولم يتوضأ) بسبب أكل السويق وفائدة المضمضة منه وإن كان لا دسم له لأنه تحتبس بقاياه بين الأسنان ونواحي الفم فيشتغل ببلعه عن أمر الصلاة، وهذا يدل على استحباب المضمضة بعد الطعام، ورواة هذا الحديث الخمسة كلهم أجلاّء فقهاء كبار مدنيون إلا شيخ

المؤلف وفيه رواية تابعي عن تابعي والتحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف في موضعين من كتاب الطهارة وموضعين في الأطعمة وفي المغازي والجهاد، وأخرجه النسائي في الطهارة والوليمة وابن ماجة.
210 - وَحَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكَلَ عِنْدَهَا كَتِفًا، ثُمَّ صَلَّى وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر وحدّثنا (أصبغ) بالغين المعجمة ابن الفرج (قال: أخبرنا ابن وهب) عبد الله (قال: أخبرني) بالتوحيد (عمرو) بفتح العين أي ابن الحرث كما في رواية ابن عساكر (عن بكير) بضم الموحدة مصغرًا وهو ابن عبد الله بن الأشج (عن كريب) بضم الكاف مصغرًا أيضًا ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني أبي رشدين مولى ابن عباس رضي الله عنهما (عن) أم المؤمنين (ميمونة) رضي الله عنها.
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أكل عندها كتفًا) أي لحم كتف (ثم صلى ولم يتوضأ) أي لم يجعله ناقضًا للوضوء، وليس بين هذا الحديث وبين الترجمة مطابقة وقد قالوا: إن وضعه من قلم الناسخين وأن نسخة الفربري التي بخطه تقديمه إلى الباب السابق ولم يذكر فيه المضمضة المترجم بها إشارة إلى بيان جواز تركها وإن كان المأكول دسمًا يحتاج إلى المضمضة منه، والحديث من السداسيات وفيه اسمان مصغران وهما تابعيان وفي رجاله ثلاثة مصريون وثلاثة مدنيون، وفيه الإخبار بالجمع والإفراد والتحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم في الطهارة.

52 - باب هَلْ يُمَضْمِضُ مِنَ اللَّبَن
هذا (باب) بالتنوين (هل يمضمض) بضم الياء وفتح الميم الأولى وكسر الثانية وللأصيلي يتمضمض بزيادة مثناة فوقية بعد التحتية وفتح الميمين (من اللبن) إذا شربه.
211 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ وَقُتَيْبَةُ قَالاَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ: «إِنَّ لَهُ دَسَمًا».
تَابَعَهُ يُونُسُ وَصَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ. [الحديث 211 - طرفه في: 5609].
وبالسند قال: (حدثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة (وقتيبة) بضم القاف وفتح المثناة الفوقية والموحدة ابن سعيد أبو رجاء الثقفي (قالا: حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين ابن خالد (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عبيد الله بن عبد الله) بضم أوّل السابق وفتحه في اللاحق (ابن عتبة) بضم العين وسكون تاليه (عن ابن عباس) رضي الله عنهما.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شرب لبنًا) زاد مسلم ثم دعا بماء (فمضمض وقال: إن له) أي اللبن (دسمًا) بفتحتين منصوبًا اسم إن وهو بيان لعلة المضمضة من اللبن والدسم ما يظهر على اللبن من الدهن ويقاس عليه استحباب المضمضة من كل ما له دسم. ورواة هذا الحديث السبعة ما بين مصري بالميم وهم: يحيى بن عبد الله بن بكير، والليث، وعقيل، وبلخي وهو قتيبة، ومدني وهما ابن شهاب وعبيد الله، وهو أحد الأحاديث التي

(1/283)


اتفق الشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي على إخراجها عن شيخ واحد وهو قتيبة وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم والترمذي والنسائي في الطهارة وكذا ابن ماجة.
(تابعه) أي تابع عقيلاً (يونس) بن يزيد وحديثه موصول عند مسلم، (و) كذا تابع عقيلاً (صالح بن كيسان) وحديثه موصول عند أبي العباس السراج في مسنده كلاهما (عن) ابن شهاب (الزهري) وكذا تابعه الأوزاعي كما أخرجه المؤلف في الأطعمة عن أبي عاصم بلفظ حديث الباب، لكن رواه ابن ماجة من طريق الوليد بن مسلم بلفظ: مضمضوا من اللبن فذكره بصيغة الأمر وهو محمول على الاستحباب لما رواه الشافعي رحمه الله عن ابن عباس راوي الحديث أنه شرب لبنًا فمضمض ثم قال: لو لم أتمضمض ما باليت، وحديث أبي داود أنه عليه الصلاة والسلام شرب لبنًا فلم يتمضمض ولم يتوضأ وإسناده حسن.

53 - باب الْوُضُوءِ مِنَ النَّوْمِ، وَمَنْ لَمْ يَرَ مِنَ النَّعْسَةِ وَالنَّعْسَتَيْنِ أَوِ الْخَفْقَةِ وُضُوءًا
هذا (باب) حكم (الوضوء من النوم) الكثير والقليل (و) باب (من لم ير من النعسة والنعستين) تثنية نعسة على وزن فعلة مرة من النعس من نعس بفتح العين ينعس من باب نصر ينصر، (أو الخفقة وضوءًا) من خفق بفتح الفاء يخفق خفقة إذا حرّك رأسه وهو ناعس، أو الخفقة النعسة، فلو زادت الخفقة على الواحدة أو النعسة على الاثنتين يجب الوضوء لأنه حينئذٍ يكون نائمًا مستغرفًا، وآية النوم الرؤيا، وآية النعاس سماع كلام الحاضرين وإن لم يفهمه.
212 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ لاَ يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) الإمام (عن هشام) أي ابن عروة كما للأصيلي (عن أبيه) عروة (عن عائشة) رضي الله عنها:
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: إذا نعس أحدكم وهو يصلي) جملة اسمية في موضع الحال (فليرقد) أي فلينم احتياطًا لأنه علّل بأمر محتمل كما سيأتي إن شاء الله تعالى، وللنسائي من طريق أيوب عن

هشام فلينصرف أي بعد أن يتم صلاته لا أنه يقطع الصلاة بمجرد النعاس خلافًا للمهلب حيث حمله على ظاهره (حتى يذهب عنه النوم) فالنعاس سبب للنوم أو سبب للأمر بالنوم (فإن أحدكم إذا صلى وهو ناعس لا يدري لعله يستغفر) أو يريد أن يستغفر (فيسب نفسه) أي يدعو عليها والفاء عاطفة على يستغفر، وفي بعض الأصول يسب بدونها جملة حالية ويسب بالنصب جوابًا للعل والرفع عطفًا على يستغفر وجعل ابن أبي جمرة علة النهي خشية أن يوافق ساعة إجابة، والترجّي في لعل عائد إلى المصلي لا إلى المتكلم به أي لا يدري أمستغفر أم سابّ مترجيًا للاستغفار، وهو الواقع بضد ذلك.
وغاير بين لفظي النعاس فقال في الأوّل: نعس بلفظ الماضي وهنا بلفظ اسم الفاعل تنبيهًا على أنه لا يكفي تجدد أدنى نعاس وتقضيه في الحال بل لا بدّ من ثبوته بحيث يفضي إلى عدم درايته بما يقول وعدم علمه بما يقرأ.
فإن قلت: هل بين قوله نعس وهو يصلي وصلى وهو ناعس فرق؟ أجيب: بأن الحال قيد وفضلة والقصد في الكلام ما له القيد، ففي الأول لا شك أن النعاس هو علّة الأمر بالرقاد لا الصلاة فهو المقصود الأصلي في التركيب، وفي الثاني الصلاة علة الاستغفار إذ تقدير الكلام فإن أحدهم إذا صلى وهو ناعس يستغفر والفرق بين التركيبين هو الفرق بين ضرب قائمًا وقام ضاربًا، فإن الأوّل يحتمل قيامًا بلا ضرب، والثاني ضربًا بلا قيام.

واختلف هل النوم في ذاته حدث أو هو مظنة الحدث، فنقل ابن المنذر وغيره عن بعض الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين وبه قال إسحاق والحسن والمزني وغيرهم: أنه في ذاته ينقض الوضوء مطلقًا وعلى كل حال وهيئة لعموم حديث صفوان بن عسال رضي الله عنه المروي في صحيح ابن خزيمة إذ فيه: إلا من غائط أو بول أو نوم فسوَّى بينها في الحكم، وقال آخرون بالثاني لحديث أبي داود وغيره: العينان وكاء السه فمن نام فليتوضأ، واختلف هؤلاء فمنهم من قال: لا ينقض القليل وهو قول الزهري ومالك وأحمد رحمهم الله تعالى في إحدى الروايتين عنه، ومنهم من قال: ينقض مطلقًا إلا نوم ممكن مقعدته من مقرّه فلا ينقض لحديث أنس رضي الله عنه المروي
عند مسلم أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا ينامون ثم

(1/284)


يصلون ولا يتوضؤون، وحمل على نوم الممكن جمعًا بين الأحاديث ولا تمكين لمن نام على قفاه ملصقًا مقعدته بمقره ولا لمن نام محتبيًا وهو هزيل بحيث لا تنطبق أليتاه على مقره على ما نقله في الشرح الصغير عن الروياني، وقال الأذرعي: إنه الحق لكن نقل في المجموع عن الماوردي خلافًا واختار أنه متمكّن، وصحّحه في الروضة والتحقيق نظرًا إلى أنه متمكن بحسب قدرته ولو نام جالسًا فزالت أليتاه أو إحداهما عن الأرض، فإن زالت قبل الانتباه انتقض وضوءه أو بعده أو معه أو لم يدر أيهما أسبق فلا، لأن الأصل بقاء الطهارة وسواء وقعت يده أم لا. وهذا مذهب الأستاذ الشافعي وأبي حنيفة رحمهما الله ورضي عنهما. وقال مالك رحمه الله ورضي عنه: إن طال نقض وإلاّ فلا. وقال آخرون: لا ينقض النوم الوضوء بحال وهو محكي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وابن عمرو ومكحول رضي الله عنهم، ويقاس

على النوم الغلبة على العقل بجنون أو إغماء أو سكر، لأن ذلك أبلغ في الذهول من النوم الذي هو مظنة الحدث على ما لا يخفى. ورواة هذا الحديث الخمسة مدنيون إلا شيخ المؤلف، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه مسلم وأبو داود في الصلاة.
213 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا يَقْرَأُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بفتح الميمين عبد الله بن عمرو المقعد (قال: حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد بن ذكوان (قال: حدّثنا أيوب) السختياني (عن أبي قلابة) بكسر القاف وتخفيف اللام عبد الله بن زيد الجرمي (عن أنس) أي ابن مالك رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إذا نعس في الصلاة) بحذف الفاعل للعلم به، وفي رواية الأصيلي وابن عساكر إذا نعس أحدكم في الصلاة (فلينم) أي فليتجوز في الصلاة ويتمها وينم (حتى يعلم ما يقرأ) أي الذين يقرؤه ولا يقال إنما هذا في صلاة الليل لأن الفريضة ليست في أوقات النوم ولا فيها من التطويل ما يوجب ذلك لأنّا نقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فيعمل به أيضًا في الفرائض إن وقع ما أمن بقاء الوقت، ورواة هذا الحديث الخمسة بصريون وفيه رواية تابعي عن تابعي، والتحديث والعنعنة، وأخرجه النسائي في الطهارة.

54 - باب الْوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ
(باب) حكم (الوضوء من غير حدث).
214 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا. ح.
قَالَ وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ عَامِرٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ صَلاَةٍ. قُلْتُ: كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قَالَ: يُجْزِئُ أَحَدَنَا الْوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي (قال حدّثنا) ولابن عساكر أخبرنا (سفيان) الثوري (عن عمرو بن عامر) بالواو الأنصاري رضي الله عنه (قال سمعت أنسًا) وللأصيلي أنس بن مالك (ح) إشارة إلى التحويل أو الحائل أو إلى صح أو إلى الحديث كما مرّ البحث فيه. (قال) أي المؤلف رحمه الله تعالى: (وحدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن

سفيان) الثوري (قال: حدّثني) بالإفراد (عمرو بن عامر) الأنصاري (عن أنس) وللأصيلي أنس بن مالك رضي الله عنه (قال):

(كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتوضأ عند كل صلاة) مفروضة من الأوقات الخمسة ولفظة كان تدل على المداومة فيكون ذلك له عادة لكن حديث سويد المذكور في الباب يدل على أن المراد الغالب، وفعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك كان على جهة الاستحباب وإلاّ لما كان وسعه ولا لغيره أن يخالفه، ولأن الأصل عدم الوجوب، وقال الطحاوي: يحتمل أنه كان واجبًا عليه خاصة، ثم نسخ يوم الفتح لحديث بريدة أي المروي في صحيح مسلم أنه عليه الصلاة والسلام صلى يوم الفتح الصلوات الخمس بوضوء واحد، وأن عمر رضي الله عنه سأله فقال عمدًا فعلته، وتعقب بأنه على تقدير القول بالنسخ كان قبل الفتح بدليل حديث سويد بن النعمان فإنه كان في خيبر وهي قبل الفتح بزمان اهـ.
(قلت: كيف كنتم تصنعون) القائل قلت عمرو بن عامر والخطاب للصحابة رضي الله عنهم: (قال) أنس رضي الله عنه: (يجزئ) بضم أوّله من أجزأ أي يكفي (أحدنا الوضوء) بالرفع فاعل وأحدنا منصوب مفعول يجزئ (ما لم يحدث). وعند ابن ماجة: وكنا نحن نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد، ومذهب الجمهور أن الوضوء لا يجب إلاّ من حدث، وذهب طائفة إلى وجوبه لكل صلاة مطلقًا من غير حدث وهو مقتضى الآية، لأن الأمر فيها معلق بالقيام إلى الصلاة وهو يدل على تكرار الوضوء وإن لم يحدث، لكن

(1/285)


أجاب جار الله في كشافه بأنه يحتمل أن يكون الخطاب للمحدثين أو أن الأمر للندب، ومنع أن يحمل عليهما معًا على قاعدتهم في عدم حمل المشترك على معنييه، لكن مذهبنا أنه يحمل عليهما، وخصّ بعض الظاهرية والشيعة وجوبه لكل صلاة بالمقيمين دون المسافرين. وذهب إبراهيم النخعي إلى أنه يصلي بوضوء واحد أكثر من خمس صلوات.
وهذا الحديث من السداسيات، ورواته ما بين فريابي، وكوفي وبصري، وللمؤلف فيه سندان.
ففي الأوّل التحديث بالجمع والعنعنة، وفي الثاني بصيغة الجمع والإفراد والعنعنة وفائدة إتيانه بالسندين مع أن الأوّل عالٍ لأن بين المؤلف وبين سفيان فيه رجل والثاني نازل لأن بينهما فيه اثنان أن سفيان مدلس وعنعنة المدلس لا يحتج بها إلا أن يثبت سماعه بطريق آخر، ففي السند الثاني أن سفيان قال: حدّثني عمرو وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة.
215 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي بُشَيْرُ بْنُ يَسَارٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُوَيْدُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ خَيْبَرَ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالصَّهْبَاءِ صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْعَصْرَ، فَلَمَّا صَلَّى دَعَا بِالأَطْعِمَةِ فَلَمْ يُؤْتَ إِلاَّ بِالسَّوِيقِ، فَأَكَلْنَا وَشَرِبْنَا، ثُمَّ قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْمَغْرِبِ فَمَضْمَضَ ثُمَّ صَلَّى لَنَا الْمَغْرِبَ، وَلَمْ يَتَوَضَّأْ.

وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون الخاء (قال: حدّثنا) ولابن عساكر أخبرنا
(سليمان) يعني ابن بلال كما في رواية عطاء (قال: حدّثني) ولابن عساكر حدّثنا (يحيى بن سعيد) الأنصاري (قال: أخبرني) بالإفراد (بشير بن يسار) بضم الموحدة وفتح المعجمة في السابق وبفتح المثناة التحتية والسين المهملة في اللاحق (قال: أخبرني) بالإفراد (سويد بن النعمان) بضم السين وفتح الواو الأوسي المدني (قال خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام خيبر حتى إذا كنا بالصهباء) وهي أدنى خيبر (صلى لنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العصر فلما صلى دعا بالأطعمة فلم يؤت إلا بالسويق فأكلنا وشربنا) من الماء أو من مائع السويق، (ثم قام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى) صلاة (المغرب فمضمض) من السويق (ثم صلى لنا) ولأبى ذر عن المستملي وصلى لنا (المغرب ولم يتوضأ) والجمع بين حديثي الباب أن فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الأوّل كان غالب أحواله لكونه الأفضل، وفعله الثاني لبيان الجواز. وهذا حديث من الخماسيات، وفيه التحديث بالجمع والإفراد وليس للمؤلف حديث لسويد بن النعمان إلا هذا، وقد أخرجه في مواضع كما مرّ التنبيه عليه في باب من مضمض من السويق.

55 - باب مِنَ الْكَبَائِرِ أَنْ لاَ يَسْتَتِرَ مِنْ بَوْلِهِ
هذا (باب) بالتنوين كما في الفرع (من الكبائر) التي وعد من اجتنبها بالمغفرة (أن لا يستتر من بوله) والكبائر جمع كبيرة وهي الفعلة القبيحة من الذنوب المنهي عنها شرعًا العظيم أمرها كالقتل والزنا والفرار من الزحف ويأتي تمام مباحثها إن شاء الله تعالى.

216 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِحَائِطٍ مِنْ حِيطَانِ الْمَدِينَةِ -أَوْ مَكَّةَ- فَسَمِعَ صَوْتَ إِنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهِمَا، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ -ثُمَّ قَالَ- بَلَى، كَانَ أَحَدُهُمَا لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ، وَكَانَ الآخَرُ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ». ثُمَّ دَعَا بِجَرِيدَةٍ فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ، فَوَضَعَ عَلَى كُلِّ قَبْرٍ مِنْهُمَا كِسْرَةً، فَقِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ هَذَا؟ قَالَ: «لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ تَيْبَسَا». [الحديث 216 - أطرافه في: 218، 1361، 1378، 6052، 6055].
وبه قال: (حدّثنا عثمان) بن أبي شيبة الكوفي (قال: حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن مجاهد) أي ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة (عن ابن عباس) رضي الله عنهما أنه (قال):
(مرّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بحائط) أي بستان من النخل عليه جدار (من حيطان المدينة أو مكة) شك جرير، وعند المؤلف في الأدب المفرد من حيطان المدينة بالجزم من غير شك ويؤيده رواية الدارقطني في أفراده من حديث جابر أن الحائط كان لأم مبشر الأنصارية رضي الله عنها لأن حائطها كان بالمدينة وفي رواية الأعمش مرّ بقبرين (فسمع صوت إنسانين) حال كونهما (يعذبان) حال كونهما

(في قبورهما) عبر بالجمع في موضع التثنية لأن استعمالها في مثل هذا قليل وإن كانت هي الأصل، لأن المضاف إلى المثنى إذا كان جزء ما أضيف إليه يسوغ فيه الإفراد نحو: أكلت رأس شاتين والجمع أجود بنحو {فقد صغت قلوبكما} وإن كان غير جزئه، فالأكثر مجيئه بلفظ التثنية نحو: سلّ الزيدان سيفيهما وإن أمن اللبس جاز جعل المضاف بلفظ الجمع كما في قوله في قبورهما، وقد تجتمع التثنية والجمع في نحو: ظهراهما مثل ظهور الترسين. قاله ابن مالك ولم يعرف اسم القبورين ولا أحدهما، فيحتمل أن يكون عليه الصلاة والسلام لم يسمهما قصد الستر عليهما وخوفًا من الافتضاح على عادة ستره وشفقته على أمته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو سماهما ليحترز غيرهما عن مباشرة ما باشراه وأبهمهما الراوي عمدًا لما مرّ (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يعذبان) أي صاحبا القبرين

(1/286)


(وما يعذبان في كبير) تركه عليهما (ثم قال): (بلى) إنه كبير من جهة المعصية، ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام ظن أن ذلك غير كبير، فأوحي إليه في الحال بأنه كبير فاستدرك، وقال البغوي وغيره، ورجحه ابن دقيق العيد وغيره: إنه ليس بكبير في مشقة الاحتراز أي كان لا يشق عليهما الاحتراز عن ذلك، والكبيرة هي الموجبة للحدّ أو ما فيه وعيد شديد. وعند ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه يعذبان عذابًا شديدًا في ذنب هين. (كان أحدهما لا يستتر من بوله) بمثناتين فوقيتين الأولى مفتوحة والثانية مكسورة من الاستتار، أي لا يجعل بينه وبين بوله سترة أي لا يتحفظ منه وهي بمعنى رواية مسلم وأبي داود من حديث الأعمش يستنزه بنون ساكنة بعدها زاي ثم هاء من التنزّه وهو الإبعاد، ولا يقال إن معنى لا يستتر يكشف عورته لأنه يلزم منه أن مجرد كشف العورة سبب للعذاب المذكور لا اعتبار البول فيترتب العذاب على مجرد الكشف وليس كذلك، بل الأقرب حمله على المجاز، ويكون المراد بالاستتار التنزه عن البول والتوقي منه، إما بعدم ملابسته وإما بالاحتراز عن مفسدة تتعلق به كانتقاض الطهارة، وعبر عن التوقّي بالاستتار مجازًا، ووجه العلاقة بينهما أن الستتر عن شيء فيه بُعد عنه واحتجاب، وذلك شبيه بالبعد عن ملابسة البول، وإنما رجح المجاز وإن كان الأصل الحقيقة لأن الحديث يدل على أن للبول بالنسبة إلى عذاب القبر خصوصية، فالحمل على ما يقتضيه الحديث المصرّح بهذه الخصوصية أولى وأيضًا فإن لفظة من لما أضيفت إلى البول وهي لابتداء الغاية حقيقة أو ما يرجع إلى معنى ابتداء الغاية مجازًا تقتضي نسبة الاستتار الذي عدمه سبب العذاب إلى البول بمعنى أن ابتداء سبب عذابه من البول، وإذا حمل على كشف العورة زال هذا المعنى، وفي رواية ابن عساكر لا يستبرئ بموحدة ساكنة من الاستبراء أي لا يستفرغ جهده بعد فراغه منه، وهو يدل على وجوب الاستنجاء لأنه لما عذب على استخفافه بغسله وعدم التحرّز منه دلّ على أن من ترك البول في مخرجه ولم يستنج منه حقيق بالعذاب. (وكان الآخر يمشي بالنميمة) فعيلة من ثمَّ الحديث ينمه إذا نقله عن المتكلم به إلى غيره وهي حرام بالإجماع إذا قصد بها الإفساد بين المسلمين وسبب كونهما كبيرتين أن عدم التنزه من البول يلزم منه بطلان الصلاة وتركها كبيرة بلا شك، والمشي بالنميمة من السعي بالفساد وهو من أقبح القبائح، ويجاب عن استشكال كون النميمة من الصغائر بأن الإصرار عليها المفهوم هنا من التعبير بكان المقتضية له يصير حكمها الكبيرة لا سيما على تفسيرها بما فيه وعيد

شديد، ووقع في حديث أبي بكرة عند الإمام أحمد والطبراني بإسناد صحيح يعذبان وما يعذبان في كبير وبلى وما يعذبان إلا في الغيبة، والبول بأداة الحصر وهي تنفي كونهما كافرين لأن الكافر وإن عذب على ترك أحكام المسلمين فإنه يعذب مع ذلك على الكفر بلا خلاف، وبذلك جزم العلاء بن العطار وقال: لا يجوز أن يقال إنهما كانا كافرين لأنهما لو كانا كافرين لم يدع لهما بتخفيف العذاب عنهما ولا ترجاه لهما، وقد ذكر بعضهم السرّ في تخصيص البول والنميمة بعذاب القبر، وهو أن القبر أوّل منازل الآخرة وفيه نموذج ما يقع في القيامة من العقاب والثواب والمعاصي التي يعاقب عليها يوم القيامة نوعان: حق لله وحق لعباده، وأوّل ما يقضى فيه من حقوق الله تعالى عز وجل الصلاة، ومن حقوق العباد الدماء، وأما البرزخ فيقضي فيه مقدمات هذين الحقين ووسائلهما، فمقدمة الصلاة الطهارة من الحدث والخبث ومقدمة الدماء النميمة فيبدأ في البرزخ بالعقاب عليهما.
(ثم دعا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بجريدة) من جريد النخل وهي التي ليس عليها ورق فأُتي بها (فكسرها كسرتين) بكسر الكاف تثنية كسرة وهي القطعة من الشيء المكسور، وقد تبين من رواية الأعمش الآتية إن شاء الله تعالى أنها كانت نصفًا، وفي رواية جرير عنه باثنتين (فوضع) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (على كل قبر منهما كسرة) وفي الرواية الآتية: فغرز وهو يستلزم الوضع دون

(1/287)


العكس (فقيل له يا رسول الله) ولابن عساكر فقيل يا رسول الله (لِمَ فعلت هذا) لم يعين السائل من الصحابة (قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعله أن يخفف) بضم أوّله وفتح الفاء أي العذاب وهاء لعله ضمير الشأن، وجاز تفسيره بأن وصلتها في حكم جملة لاشتمالها على مسند ومسند إليه، ويحتمل أن تكون زائدة مع كونها ناصبة كزيادة الباء مع كونها جارّة قاله ابن مالك، ويقوّي الاحتمال الثاني حذف أن في الرواية الآتية حيث قال: لعله يخفف (عنهما) أي المعذبين (ما لم تيبسا) بالمثناة الفوقية بالتأنيث باعتبار عود الضمير فيه إلى الكسرتين وفتح الموحدة من باب علم يعلم وقد تكسر وفي لغة شاذة. وفي رواية الكشميهني إلا أن تيبسا بحرف للاستثناء وللمستملي إلى أن ييبسا بإلى التي للغاية والمثناة التحتية بالتذكير باعتبار عود الضمير إلى العودين لأن الكسرتين هما العودان، وما مصدرية زمانية أي مدة دوامهما إلى زمن اليبس المحتمل تأقيته بالوحي كما قاله المازري، لكن تعقبه القرطبي بأنه لو كان بالوحي لما أتى بحرف الترجي.
وأجيب: بأن لعل هنا للتعليل أو أنه يشفع لهما في التخفيف هذه المدة كما صرّح به في حديث جابر على أن القصة واحدة كما رجحه النووي وفيه نظر لما في حديث أبي بكرة عند الإمام أحمد والطبراني أنه الذي أتى بالجريدة إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأنه الذي قطع الغصنين فدلّ ذلك على المغايرة، ويؤيد ذلك أن قصة الباب كانت بالمدينة وكان معه عليه الصلاة والسلام جماعة. وقصة جابر كانت في السفر وكان خرج لحاجته فتبعه جابر وحده فظهر التغاير بين حديث ابن عباس وحديث جابر، بل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه المروي في صحيح ابن حبّان ما يدل على الثالثة، ولفظه: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّ بقبر فوقف فقال: ائتوني بجريدتين فجعل إحداهما عند رأسه والأخرى عند رجليه ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في باب وضع الجريدة على القبر من كتاب الجنائز.

ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين كوفي ودارمي ومكّي وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف هنا عن جرير عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما وفي الآتية عن الأعمش كمسلم عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس. فأسقط المؤلف طاوسًا الثابت في الثانية من الأولى، فانتقد عليه الدارقطني ذلك كما سيأتي مع الجواب عنه في الباب اللاحق إن شاء الله تعالى، وقد أخرج المؤلف الحديث أيضًا في الطهارة في موضعين وفي الجنائز والأدب والحج ومسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجة في الطهارة، وكذا النسائي فيها أيضًا وفي التفسير والجنائز.

56 - باب مَا جَاءَ فِي غَسْلِ الْبَوْلِ
وَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِصَاحِبِ الْقَبْرِ: كَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ. وَلَمْ يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ.
(باب ما جاء) في الحديث (في غسل البول) من الإنسان قال فيه للعهد الخارجي (وقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الحديث السابق (لصاحب القبر كان لا يستتر) بالمثناتين ولابن عساكر لا يستبرئ بالموحدة بعد المثناة (من بوله ولم يذكر سوى بول الناس) أخذ المؤلف هذا من إضافة البول إليه، وحينئذ فتكون رواية لا يستتر من البول محمولة على ذلك من باب حمل المطلق على المقيد، وعلى هذا فالقول بنجاسة البول خاص ببول الناس وليس عامًّا في بول جميع الحيوان. نعم للقائلين بعموم النجاسة فيه دلائل أُخر كالقائلين بطهارة بول المأكول، واللام في قوله لصاحب للتعليل أو بمعنى عن كما ذكره ابن الحاجب في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا} [الأحقاف: 11] الآية.
217 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي رَوْحُ بْنُ الْقَاسِمِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَطَاءُ بْنُ أَبِي مَيْمُونَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا تَبَرَّزَ لِحَاجَتِهِ أَتَيْتُهُ بِمَاءٍ فَيَغْسِلُ بِهِ.
وبه قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) الدورقي (قال: حدّثنا) ولأبوي ذر والوقت أخبرنا (إسماعيل بن إبراهيم) هو ابن علية وليس هو أخا يعقوب (قال: حدّثني) بالإفراد (روح بن القاسم) بفتح الراء على المشهور وعن القابسي ضمها وهو شاذ مردود التميمي العنبري من ثقات البصريين (قال: حدّثني) بالإفراد أيضًا (عطاء بن أبي ميمونة) أبو معاذ البصري مولى أنس (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه أنه (قال كان النبي) ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا تبرز) بتشديد الراء أي خرج إلى البراز بفتح الموحدة وهو اسم للفضاء الواسع فكنّوا به عن قضاء الحاجة كما كنّوا عنه بالخلاء لأنهم كانوا يتبرزون في الأمكنة

(1/288)


الخالية من الناس (لحاجته) أي لأجلها (أتيته بماء يغسل به) ذكره المقدّس بفتح المثناة التحتية وسكون الغين المعجمة وكسر السين وحذف المفعول لظهوره أو للاستحياء عن ذكره، ولأبي ذر فيغتسل بمثناة فوقية بين الغين والسين، ولابن عساكر فتغسل بفتح المثناة الفوقية وفتح الغين وتشديد السين المفتوحة يقال: تغسل يتغسل تغسلاً من

التكلف والتشديد في الأمر، وقد استدل المؤلف بهذا الحديث هنا على غسل البول وهو أعمّ من الاستدلال به على الاستنجاء وغيره فلا تكرار فيه، وقد ثبتت الرخصة في حق المستجمر فيستدل به على وجوب غسل ما انتشر على المحل. ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين بغدادي وبصري وفيه التحديث بصيغة الإفراد والجمع والإخبار والعنعنة وأخرجه المؤلف أيضًا في الطهارة والصلاة ومسلم وأبو داود والنسائي في الطهارة والله أعلم.

باب
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة.
218 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَازِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَبْرَيْنِ فَقَالَ: «إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ» ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، فَغَرَزَ فِي كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ: «لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا».
قَالَ ابْنُ الْمُثَنَّى: وَحَدَّثَنَا وَكِيعٌ قَالَ: حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ مُجَاهِدًا مِثْلَهُ.
وبالسند قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني (محمد بن المثنى) بضم الميم وفتح المثلثة وتشديد النون البصري (قال: حدّثنا محمد بن خازم) بالخاء المعجمة والزاي أبو معاوية الضرير الكوفي أحفظ الناس لحديث الأعمش، المتوفى سنة خمس وتسعين ومائة (قال: حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي الأسدي (عن مجاهد) هو ابن جبر (عن طاوس) هو ابن كيسان (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (قال):
(مرّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقبرين فقال: إنهما ليعذبان) أسند العذاب إلى المقبرين من باب ذكر المحل وإرادة الحال (وما يعذبان في كبير) يشق الاحتراز عنه وإن كان كبيرًا في المعصية (أما أحدهما فكان لا يستتر من البول) من الاستتار وهو بمعنى التنزّه منه المروي في مسلم وسنن أبي داود، ولابن عساكر لا يستبرئ بالموحدة من الاستبراء، (وأما الآخر) من المقبورين (فكان يمشي بالنميمة) بقصد الإضرار، فأما ما اقتضى فعل مصلحة أو ترك مفسدة فهو مطلوب، وقيل ليس ذلك بكبير بمجرده، وإنما صار كبيرًا بالمواظبة عليه ويرشد إلى ذلك السياق فإنه وقع التعبير عن كل منهما بما يدل على تجدد ذلك منه واستمراره عليه للإتيان بصيغة المضارعة بعد كان كما أشير إليه فيما سبق، (ثم أخذ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (جريدة رطبة فشقّها نصفين فغرز) وفي رواية وكيع في الأدب المفرد فغرسِ بالسين وهما بمعنى واحد (في كل قبر واحدة، قالوا) أي الصحابة رضي الله عنهم: (يا رسول الله لم فعلت) زاد أبو الوقت والأصيلي وابن عساكر هذا. وهي ساقطة عند المستملي والسرخسي (قال) عليه الصلاة

والسلام: (لعله يخفف) بفتح الفاء الأولى المشددة (عنهما) العذاب (ما لم ييبسا) بالتذكير والتأنيث كما مرّ.

ورواة هذا الحديث الستة ما بين بصري وكوفي ومكي ومدني وفيه التحديث والعنعنة، ووقع بينه وبين السابق اختلاف لأنه هناك عن منصور عن مجاهد عن ابن عباس، وهنا عن الأعمش عن مجاهد عن طاوس عن ابن عباس، ومن الوجه الثاني أخرجه مسلم وباقي الأئمة الستة كالمؤلف من طريق أخرى، وأخرجه أبو داود والنسائي من الوجه الأوّل، وانتقد الدارقطني على المؤلف إسقاط طاوس من السند الأول، وقال الترمذي بعد أن أخرجه رواه منصور عن مجاهد عن ابن عباس، وحديث الأعمش أصح يعني المتضمن للزيادة اهـ.
وأجيب بأن مجاهدًا غير مدلس وسماعه عن ابن عباس صحيح في جملة الأحاديث ومنصور عندهم أتقن من الأعمش مع أن الأعمش أيضًا من الحفاظ، فالحديث كيفما دار على ثقة، والإسناد كيفما دار كان متصلاً، فالحاصل أن إخراج المؤلف له من هذين الطريقين صحيح لأنه يحتمل أن مجاهدًا سمعه تارة عن ابن عباس وتارة عن طاوس.
(قال ابن المثنى) وللأصيلي وابن عساكر، وقال محمد بن المثنى (وحدّثنا) بواو العطف على قوله: حدّثنا محمد بن خازم (وكيع قال: حدّثنا الأعمش، قال: سمعت مجاهدًا مثله) صرّح بسماع الأعمش عن مجاهد ومن ثم ذكر المؤلف هذا الإسناد لأن الأوّل معنعن والأعمش مدلس وعنعنة المدلس غير معتبرة إلا إن علم سماعه، وقد وصل أبو نعيم هذا في مستخرجه من طريق محمد بن المثنى عن

(1/289)


وكيع وأبي معاوية جميعًا عن الأعمش وعبر هنا بقال رعاية للفرق بينه وبين حدّثني، فإن قال أحطّ رتبة.

57 - باب تَرْكِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنَّاسِ الأَعْرَابِيَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِهِ فِي الْمَسْجِدِ
(باب ترك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والناس) بالجر عطفًا على المضاف إليه أي وترك الناس (الأعراب) الذي
قدم المدينة ودخل المسجد النبوي وبال فيه فلم يتعرّض له أحد بإشارته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى فرغ من بوله في المسجد) النبوي واللام في الأعراب للعهد الذهني والأعرابيّ واحد الأعراب وهم من سكن البادية عربًا كانوا أو عجمًا.
219 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: حَدَّثَنَا هَمَّامٌ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى أَعْرَابِيًّا يَبُولُ فِي الْمَسْجِدِ فَقَالَ: دَعُوهُ. حَتَّى إِذَا فَرَغَ دَعَا بِمَاءٍ فَصَبَّهُ عَلَيْهِ. [الحديث 219 - أطرافه في: 221، 6025].

وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي البصري ولابن عساكر بإسقاط لفظ ابن إسماعيل (قال حدّثنا همام) هو ابن يحيى بن دينار العوذي بفتح العين المهملة وسكون الواو وبالذال المعجمة المتوفى سنة ثلاث وستين ومائة (قال: أخبرنا) ولابن عساكر والأصيلي حدّثنا (إسحاق) بن عبد الله بن أبي طلحة الأنصاري (عن أنس) هو ابن مالك رضي الله عنه.

(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى) أي أبصر (أعرابيًا يبول) أي بائلاً (في المسجد) فزجره الناس (فقال) عليه الصلاة والسلام: (دعوه) أي اتركوا الأعرابيّ وهو الأقرع بن حابس فيما حكاه أبو بكر التاريخي أو ذو الخويصرة اليماني فيما نقل عن أبي الحسن بن فارس فتركوه خوفًا من مفسدة تنجيس بدنه أو ثوبه أو مواضع أخرى من المسجد أو يقطعه فيتضرر به (حتى إذا فرغ) أي من بوله كما للأصيلي وهذا كلام أنس وحتى للغاية أي فتركوه إلى أن فرغ منه فلما فرغ (دعا) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بماء) أي طلبه (فصبّه عليه) أي أمر بصبه عليه، وللأصيلي فصبّ بحذف ضمير المفعول، واستدل به على أن الأرض إذا تنجست تطهر بصب الماء عليها أي قدر ما يغمرها حتى تستهلك فيه، وقيل إن كانت صلبة بضم الصاد وإسكان اللام يصب عليها من الماء سبعة أمثاله. ونقل ذلك عن الشافعي رضي الله عنه من غير تقييد بصلابة، قيل: ولعله أخذ من نسبة بول الأعرابيّ في الحديث الآتي قريبًا إن شاء الله تعالى إلى الذنوب المصبوب عليه، وإن كانت الأرض رخوة تحفر إلى ما وصلت إليه النداوة وينقل التراب بناء على أن الغسالة نجسة لحديث أبي داود عن عبد الله بن معقل رضي الله عنه خذوا ما بال عليه من التراب فألقوه وأهريقوا على مكانه ماء، وهذا قوله أصحاب أبي حنيفة رضي الله عنهم وعن أبي حنيفة رضي الله عنه لا تطهر الأرض حتى تحفر إلى الموضع الذي وصلت إليه النداوة وينقل التراب، وقيل يشترط في تطهير الأرض أن يصب علي بول الواحد ذنوب وعلى بول الاثنين ذنوبان وهكذا، والأظهر هو الأوّل لحديث الباب ولاحقه إذ لم يأمر عليه الصلاة والسلام فيهما بقلع التراب. وأما الحديث السابق الدال على قلعه فضعيف لأن إسناده غير متصل لأن ابن معقل لم يدرك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي الحديث أيضًا من الفقه الرفق بالجاهل وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف إذا لم يكن ذلك منه عنادًا، ولا سيما إن كان ممن يحتاج إلى استئلافه وبقية ما يستفاد من الحديث تأتي قريبًا إن شاء الله سبحانه وتعالى، ورواته الأربعة ما بين بصري ومدني وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الباب التالي، وفي الأدب ومسلم في الطهارة والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة، والله أعلم.

58 - باب صَبِّ الْمَاءِ عَلَى الْبَوْلِ فِي الْمَسْجِد
(باب) حكم (صب الماء على البول فى المسجد) النبوي وغيره من سائر المساجد.
220 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ، فَقَالَ

لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «دَعُوهُ، وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلاً مِنْ مَاءٍ -أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ- فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ، وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ». [الحديث 220 - طرفه في: 6128].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) بن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال أخبرني) بالإفراد (عبيد الله بن عبد الله) بتصغير الابن وتكبير الأب (ابن عتبة) بضم العين وسكون المثناة الفوقية (ابن مسعود) رضي الله عنه (أن أبا هريرة) رضي الله عنه (قال):
(قام أعراب فبال) أي شرع في البول (في المسجد) النبوي ولأبي ذر في السجد فبال (فتناوله الناس) بألسنتهم لا بأيديهم، وفي رواية أنس الآتية فزجره الناس، ولمسلم فقال الصحابة: مه مه، وللبيهقي من طريق عبدان شيخ المؤلف فصاح الناس به، وكذا للنسائي من طريق ابن المبارك (فقال لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دعوه) يبول زاد الدارقطني في رواية له عسى أن يكون من أهل الجنة، (وهريقوا) وعنده

(1/290)


في الأدب وأهريقوا (على بوله سجلاً من ماء) بفتح المهملة وسكون الجيم الدلو الملأى ماء لا فارغة أو الدلو الواسعة، (أو ذنوبًا من ماء) بفتح الذال المعجمة الدلو الملأى لا فارغة أو العظيمة وحينئذ فعلى الترادف أو الشك من الراوي، وإلا فهي للتخيير (فإنما بعثتم) حال كونكم (ميسرين ولم تبعثوا) حال كونكم (معسرين) أكد السابق بنفي ضده تنبيهًا على المبالغة في اليسر، وأسند البعث إلى الصحابة رضي الله عنهم على طريق المجاز لأنه عليه الصلاة والسلام هو المبعوث حقيقة، لكنهم لما كانوا في مقام التبليغ عنه في حضوره وغيبته أطلق عليهم ذلك، وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا بعث بعثًا إلى جهة من الجهات يقول: "يسروا ولا تعسروا" في قوله "إنما بعثتم ميسرين" إشارة إلى تضعيف وجوب حفر الأرض إذ لو وجب لزال معنى التيسير وصاروا معسرين.

ورواته الخمسة ما بين حمصي ومدني وبصري وفيه التحديث بالجمع والإخبار به بالتوحيد والعنعنة، وأما قوله: أخبرني عبيد الله فرواه كذلك أكثر الرواة عن الزهري، ورواه سفيان بن عيينة عنه عن سعيد بن المسيب بدل عبيد الله، وتابعه سفيان بن حسين قال في الفتح فالظاهر أن الروايتين صحيحتان.

221 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.

وبه قال: (حدّثنا عبدان) بفتح المهملة وسكون الموحدة هو عبد الله العتكي (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك (قال: أخبرنا يحيى بن سعيد) الأنصاري (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أخرج البيهقي هذا الحديث من طريق عبدان هذا بلفظ: جاء أعرابي إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلما قضى حاجته قام إلى ناحية المسجد فبال فصاح به الناس فكفّهم عنه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم قال: صبّوا عليه دلوًا من ماء، وفي بعض الأصول هنا ح علامة التحويل من سند إلى سند آخر وفي فرع اليونينية بدلها.

58 م - باب يُهَرِيقُ الْمَاءَ عَلَى الْبَوْل
221 م - وحَدَّثَنَا خَالِدٌ. قَالَ: وحَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي طَائِفَةِ الْمَسْجِدِ، فَزَجَرَهُ النَّاسُ، فَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَلَمَّا قَضَى بَوْلَهُ أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَنُوبٍ مِنْ مَاءٍ فَأُهْرِيقَ عَلَيْه.

(باب) بالتنوين (يهريق الماء على البول) بفتح الهاء وسقط الباب والترجمة في رواية الأصيلي والهروي وابن عساكر (وحدّثنا) بواو العطف على قوله: حدّثنا عبدان قال في الفتح وسقطت من رواية كريمة، وفي الفرع ثبوتها للأصيلي وابن عساكر (خالد) هو ابن مخلد كما للأصيلي وأبي الوقت وابن عساكر وهو بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة وفتح اللام (قال: وحدّثنا) وللأصلي وأبي الوقت قال: حدّثنا (سليمان) بن بلال (عن يحيى بن سعيد) الأنصاري أنه (قال):
(سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه (قال: جاء أعرابي فبال في طائفة المسجد) أي في قطعة من أرضه (فزجره الناس) على ذلك وهذا يدل على أن الاحتراز من النجاسة كان مقررًّا عندهم (فنهاهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عن زجره للمصلحة الراجحة وهي دفع أعظم المفسدتين باحتمال أيسرهما وتحصيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، (فلما قضى) الأعرابي (بوله أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذنوب من ماء) بفتح الذال المعجمة الدلو المملوءة ماء أو العظيمة (فأهريق) بزيادة همزة مضمومة وسكون الهاء وضمها كذا في اليونينية ولأبي ذر فهريق بضم الهاء (عليه) أي على البول، وهذا يدل على أن الأرض المتنجسة لا يطهرها إلا الماء لا الجفاف بالريح أو الشمس، لأنه لو كان يكفي ذلك لما حصل التكليف بطلب الدلو، ولأنه لم يوجد المُزيل، ولهذا لا يجوز التيمم بها.
وقال الحنفية غير زفر منهم: إذا أصابت الأرض نجاسة فجفت بالشمس وذهب أثرها جازت الصلاة على مكانها لقوله عليه الصلاة والسلام "زكاة الأرض يبسها" ولا دلالة هنا على نفي غير الماء لأن الواجب هو الإزالة والماء مزيل بطبعه فيقاس عليه كل ما كان مزيلاً لوجود الجامع. قالوا: وإنما لا يجوز التيمم به لأن طهارة الصعيد ثبتت شرطًا بنص الكتاب فلا تتأدّى بما ثبت بالحديث اهـ.
وفي الحديث أن غسالة النجاسة الواقعة على الأرض طاهرة لأن الماء المصبوب لا بدّ أن يتدافع عند وقوعه على الأرض ويصل إلى محل لم يصبه البول مما يجاوره، فلولا أن الغسالة طاهرة لكان الصب ناشرًا للنجاسة وذلك خلاف مقصود التطهير، وسواء كانت النجاسة على الأرض أو غيرها لكن الحنابلة فرّقوا بين الأرض وغيرها، والله أعلم.

59 - باب بَوْلِ الصِّبْيَانِ
(باب) حكم (بول الصبيان)

(1/291)


بكسر الصاد ويجوز ضمها جمع صبي قال البرماوي والحافظ ابن

حجر، وتعقبه العيني فقال: لا يقال في الضم إلا صبوان بالواو، وقد وهم هذا القائل حيث لم يعلم الفرق بين المادّة الواوية والمادّة اليائية قال: وأصل صبيان بالكسر صبوان لأن المادّة واوية فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها اهـ.
قلت: وفيما قاله نظر، فإن الذي قاله ابن حجر موافق لما قاله إمام عصره في لسان العرب المجد الشيرازي في قاموسه، وعبارته الصبي من لم يفطم وجمعه أصبية وأصب وصبوة وصبية وصبوان وصبيان وتضم هذه الثلاثة اهـ وهو يردّ على العيني كما ترى.

222 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهَا قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِصَبِيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَأَتْبَعَهُ إِيَّاهُ. [الحديث 222 - أطرافه في: 5468، 6002، 6355].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس إمام دار الهجرة (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام رضي الله عنهما (عن عائشة أم المؤمنين) رضي الله عنها (أنها قالت أُتي) بضم الهمزة وكسر المثناة الفوقية ولابن عساكر عن عائشة أم المؤمنين قالت:
أُتي (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بصبي) وهو الذي لم يأكل ولم يشرب غير اللبن للتغذي وهو ابن أم قيس المذكورة بعد أو الحسن بن علي رضي الله عنهما أو أخوه الحسين رضي الله عنه كما في الأوسط للطبراني (فبال على ثوبه) أي ثوب رسول الله -صى الله عليه وسلم- (فدعا بماء فأتبعه إياه) بفتح همزة أتبعه وإسكان المثناة وفتح الموحدة أي أتبع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البول الذي على الثوب الماء بصبه عليه حتى غمره من غير سيلان كما يدل عليه قوله الآتي قريبًا إن شاء الله تعالى ولم يغسله، واكتفى بذلك لأن النجاسة مخففة وشمل قولي كأئمتنا لم يأكل غير اللبن لبن الآدمي وغيره وهو متجه كما في المهمات، وظاهره أنه لا فرق بين النجس وغيره، وأما قول الزركشي: لو شرب لبنًا نجسًا أو متنجسًا فينبغي وجوب غسل بوله كما لو شربت السخلة لبنًا نجسًا يحكم بنجاسة أنفحتها، وكذا الجلالة فإنه مردود بأن استحالة ما في الجوف تغير حكمه الذي كان بدليل قول الجمهور بطهارة لحم جدي ارتضع كلبة أو نحوها، فنبت لحمه على لبنها وبعدم تسبيغ المخرج فيما لو أكل لحم كلب، وإن وجب تسبيع الفم وما قاس عليه لم يذكره الأئمة كما اعترف هو به في أثناء كلامه وهو ممنوع لأن الأنفحة لبن جامد لم يخرج من الجوف كما ذكره الإمام والروياني وغيرهما فهي مستحيلة في الجوف، وقد عرف أن الحكم يتغير بالاستحالة والجلالة لحمها ولبنها طاهران كما صححه النووي كالجمهور، ونقله الرافعي عنهم، وإن صحح في المحرر خلافه قاله في شرح التنقيح.
وهذا الحديث من الخماسيات وفيه التحديث والإخبار والعنعنة وأخرجه النسائي في الطهارة.

223 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ أُمِّ قَيْسٍ بِنْتِ مِحْصَنٍ أَنَّهَا أَتَتْ بِابْنٍ لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَجْلَسَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حِجْرِهِ، فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ، فَدَعَا بِمَاءٍ فَنَضَحَهُ وَلَمْ يَغْسِلْهُ. [الحديث 223 - طرفه في: 5693].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) إمام الأئمة (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبيد الله بن عبد الله) بتصغير الأول (ابن عتبة) بن مسعود رضي الله عنه (عن أُم قيس) بفتح القاف وسكون المثناة التحتية، وذكرها الذهبي في تجريده في الكنى ولم يذكر لها اسمًا وعند ابن عبد البر اسمها جذامة بالجيم وبالذال المعجمة، وعند السهيلي آمنة (بنت) ولأبي الوقت والأصيلي ابنة (محصن) بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين آخره نون وهي أخت عكاشة بن محصن وهي من السابقات المعمرات، ولها في البخاري حديثان.
(أنها أتت بابن لها) ذكر (صغير) بالجر صفة ابن كقوله (لم يكل الطعام) لعدم قدرته على مضغه ودفعه لمعدته (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأجلسه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجره) بكسر الحاء وفتحها وسكون الجيم (فبال على ثوبه) أي ثوب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فدعا بماء فنضحه) أي رشه بماء عمه وغلبه من غير سيلان كما يدل عليه قوله (ولم يغسله) لأنه لم يبلغ الإسالة، وقد ادّعى الأصيلي أن قوله ولم يغسله من كلام ابن شهاب ليس من المرفوع والفاءات الأربعة في قوله فأجلسه فبال فدعا بماء فنضحه للعطف بين الكلام بمعنى التعقيب، ومراده بالصغير هنا الرضيع بدليل قوله: لم يأكل. وعبّر بالابن دون الولد لأن الابن لا يطلق إلا على الذكر بخلاف الولد فإنه يطلق عليهما، والحكم المذكور إنما هو للذكر لا لها، ولا بدّ في بولها من الغسل على الأصل. وقد

(1/292)


روى ابن خزيمة والحاكم وصحّحاه يغسل من بول الجارية ويرش من بول الغلام، وفرّق بينهما بأن الائتلاف بحمل الصبي أكثر فخفف في بوله، وبأنه أرق من بولها فلا يلصق بالمحل كلصوق بولها، ولأن بولها بسبب استيلاء الرطوبة والبرودة على مزاجها أغلظ وأنتن ومثلها الخنثى كما جزم به في المجموع ونقله في الروضة عن البغوي وأفهم قوله لم يأكل الطعام أنه لا يمنع النضح تحنيكه بتمر ونحوه ولا تناوله السفوف ونحوه للإصلاح، وممن قال بالفرق عليّ بن أبي طالب، وعطاء بن أبي رياح، والحسن وأحمد بن حنبل وابن راهويه وابن وهب من المالكية، وذهب أبو حنيفة ومالك رحمهما الله إلى عدم الفرق بين الذكر والأنثى بل قالا بالغسل فيهما مطلقًا سواء أكلا الطعام أم لا، واستدل لهما بأنه عليه الصلاة والسلام نضح والنضح هو الغسل لقوله عليه الصلاة والسلام في المذي فلينضح فرجه. رواه أبو داود وغيره من حديث المقداد، والمراد به الغسل كما وقع التصريح به في مسلم والقصة واحدة كالراوي.
ولحديث أسماء في غسل الدم وانضحيه، وقد ورد الرش وأريد به الغسل كما في حديث ابن عباس في الصحيح لما حكى الوضوء النبوي أخذ غرفة من ماء ورش على رجله اليمنى حتى غسلها وأراد بالرش هنا الصب قليلاً قليلاً، وتأوّلوا قوله ولم يغسله أي غسلاً مبالغًا فيه بالعرك كما تغسل

الثياب إذا أصابتها النجاسة وأجيب بأن النضح ليس هو الغسل كما دل عليه كلام أهل اللغة ففي الصحاح والجمل لابن فارس وديوان الأدب للفارابي والمنتخب لكراع والأفعال لابن طريف والقاموس للفيروزاباذي النضح الرش ولا نسلم أنه في حديث المقداد وأسماء بمعنى الغسل ولئن سلمناه فبدليل خارجي واستدل بعضهم بقوله ولم يغسله على طهارة بول الصبي وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وحكي عن مالك والأوزاعي وأما حكايته عن الشافعي فجزم النووي بأنها باطلة قطعًا.
ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين تنيسي ومدني وفيه التحديث والإخبار والعنعنة.

60 - باب الْبَوْلِ قَائِمًا وَقَاعِدًا
(باب) بيان حكم (البول) حال كون البائل (قائمًا و) حال كونه (قاعدًا).
224 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: أَتَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ، فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ. [الحديث 224 - أطرافه في: 225، 226، 2471].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي وائل) شقيق الكوفي (عن حذيفة) بن اليمان واسم اليمان حسيل بمهملتين مصغر أو يقال حسل بكسر ثم سكون العبسي بالموحدة حليف الأنصار صحابي جليل من السابقين صح في مسلم عنه أو رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أعلمه بما كان وما يكون إلى أن تقوم الساعة أبوه صحابي أيضًا استشهد بأُحُد، ومات حذيفة في أوّل خلافة عليّ سنة ست وثلاثين له في البخاري اثنان وعشرون حديثًا (قال):

(أتى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سباطة) بضم المهملة وتخفيف الموحدة مرمى تراب كناسة (قوم) من الأنصار تكون بفناء الدور مرتفقًا لأهلها أو السباطة الكناسة نفسها، وتكون في الغالب سهلة لا يرتد منها البول على البائل وإضافتها إلى القوم إضافة اختصاص لا ملك لأنها لا تخلو عن النجاسة، وفي رواية أحمد أتى سباطة قوم فتباعدت منه فأدناني حتى صرت قريبًا من عقبيه (فبال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الكناسة لدمثها حال كونه (قائمًا) بيانًا للجواز أو لأنه لم يجد للقعود مكانًا فاضطر للقيام أو كان بمأبضه بالهمزة الساكنة والموحدة المكسورة والضاد المعجمة وهو باطن ركبته الشريفة جرح أو استشفاء من وجع صلبه على عادة العرب في ذلك، أو أن البول قائمًا أحصن للفرج، فلعله خشي من البول قاعدًا مع قربه من الناس خروج صوت منه.
فإن قلت: لِمَ بال عليه الصلاة والسلام في السباطة من غير أن يبعد عن الناس أو يبعدهم عنه؟ أجيب بأنه لعله كان مشغولاً بأمور المسلمين والنظر في مصالحهم، وطال عليه المجلس حتى لم

يمكنه التباعد خشية الضرر، وقد أباح البول قائمًا جماعة كعمر وابنه وزيد بن ثابت، وسعيد بن المسيب، وابن سيرين والنخعي والشعبي وأحمد، وقال مالك: إن كان في مكان لا يتطاير عليه منه شيء فلا بأس به وإلاَّ فمكروه وكرهه للتنزيه عامّة العلماء.
فإن قلت: في الترجمة البول قائمًا وقاعدًا وليس في الحديث إلا القيام أجيب: بأن وجه أخذه من الحديث أنه إذا جاز قائمًا

(1/293)


فقاعدًاً أجوز لأنه أمكن.
(ثم دعا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بماء فجئته بماء فتوضأ) به وزاد عيسى بن يونس فيه عن الأعمش ما أخرجه ابن عبد البر في التمهيد بسند صحيح أن ذلك كان بالمدينة واستنبط من الحديث جواز البول بالقرب من الديار وأن مدافعة البول مكروهة.
ورواته الخمسة ما بين خراساني وكوفي وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الطهارة وكذا مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

61 - باب الْبَوْلِ عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَالتَّسَتُّرِ بِالْحَائِطِ
(باب البول) أي حكم بول الرجل (عند صاحبه والتستر) أي وبيان حكم تستره (بالحائط) فأل في البول بدل من المضاف إليه وهو كما قدرنا والضمير في صاحبه يرجع إلى المضاف إليه المقدّر وهو الرجل البائل.
225 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: رَأَيْتُنِي أَنَا وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَتَمَاشَى، فَأَتَى سُبَاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حَائِطٍ، فَقَامَ كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ، فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ، فَأَشَارَ إِلَىَّ فَجِئْتُهُ، فَقُمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى فَرَغ.
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) نسبه لجده الأعلى لشهرته به وإلاّ فاسم أبيه محمد بن إبراهيم الكوفي المتوفى سنة تسع وثلاثين ومائتين (قال: حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق الكوفي (عن حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه (قال):
(رأيتني) بضم المثناة الفوقية فعل وفاعل ومفعول وجاز كون الفاعل والمفعول واحدًا لأن أفعال القلوب يجوز فيها ذلك (أنا والنبي) بالنصب عطفًا على الضمير المنصوب على المفعولية أي رأيت نفسي، ورأيت النبي وأنا للتأكيد ولصحة عطف لفظ النبي على الضمير المذكور ويجوز رفع النبي عطفًا على أنا وكلاهما بفرع اليونينية (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كوننا (نتماشى فأتى سباطة قوم خلف حائط) أي جدار (فقام) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (كما يقوم أحدكم فبال فانتبذت) بنون فمثناة فوقية فموحدة فمعجمة أي ذهبت ناحية (منه فاشار إليّ) عليه الصلاة والسلام بيده أو برأسه (فجئته) فقال: يا حذيفة استرني كما عند الطبراني من حديث عصمة بن مالك (فقمت عند عقبه) بالإفراد وللأصيلي عقبيه (حتى فرغ) وفي

إشارته عليه الصلاة والسلام لحذيفة دليل على أنه لم يبعد منه بحيث لا يراه، والمعنى في إدنائه إياه مع استحباب الإبعاد في الحاجة أن يكون سترًا بينه وبين الناس إذ السباطة إنما تكون في الأفنية المسكونة أو قريبًا منها ولا تكاد تخلو عن مارّ وإنما انتبذ حذيفة لئلا يسمع شيئًا مما يقع في الحدث، فلما بال عليه الصلاة والسلام قائمًا وأمن منه ذلك أمره بالقرب منه.
ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين كوفي ورازي.

62 - باب الْبَوْلِ عِنْدَ سُبَاطَةِ قَوْمٍ
(باب) حكم (البول عند سباطة قوم).

226 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ يُشَدِّدُ فِي الْبَوْلِ وَيَقُولُ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ إِذَا أَصَابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ قَرَضَهُ. فَقَالَ حُذَيْفَةُ: لَيْتَهُ أَمْسَكَ، أَتَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُبَاطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قَائِمًا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن عرعرة) بعينين وراءين مهملات (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي وائل) شقيق (قال):
(كان أبو موسى) عبد الله بن قيس (الأشعري) رضي الله عنه (يشدد في) الاحتراز من (البول) حتى كان يبول في قارورة خوفًا من أن يصيبه شيء من رشاشه (ويقول إن بني إسرائيل) بني يعقوب، وإسرائيل لقبه لأنه لما فاز بدعوة أبيه إسحاق دون أخيه عيصو توعده بالقتل فلحق بخاله ببابل أو بحران فكان يسير بالليل ويكمن بالنهار فسمي لذلك إسرائيل (كان) شأنهم (إذا أصاب) البول (ثوب أحدهم قرضه) أي قطعه، وللإسماعيلي قرضه بالمقراض، ولمسلم إذا أصاب جلد أحدهم أي الذي يلبسه أو جلد نفسه على ظاهره، ويؤيده رواية أبي داود إذا أصاب جسد أحدهم لكن رواية المؤلف صريحة في الثياب، فيحتمل أن بعضهم رواه بالمعنى (فقال حذيفة) بن اليمان (ليته) أي أبا
موسى الأشعري (أمسك) نفسه عن هذا التشديد فإنه خلاف السُّنّة، فقد (أتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سباطة قوم فبال قائمًا) فلم يتكلف البول في القارورة، واستدل به مالك على الرخصة في مثل رؤوس الإبر من البول. نعم يقول بغسلها استحبابًا، وأبو حنيفة يسهل فيها كيسير كل النجاسات، وعند الشافعي يغسلها وجوبًا، وفي الاستدلال على الرخصة المذكورة ببوله عليه السلام قائمًا نظر لأنه عليه الصلاة والسلام في تلك الحالة لم يصل إليه منه شيء. قال ابن حبان: إنما بال قائمًا لأنه لم يجد مكانًا يصلح للقعود فقام لكون الطرف الذي يليه من السباطة عاليًا فأمن من أن يرتد عليه شيء من بوله أو كانت

(1/294)


السباطة رخوة لا يرتد إلى البائل شيء من بوله.
ورواة هذا الحديث الستة ما بين شامي ومصري وكوفي وفيه التحديث والعنعنة.

63 - باب غَسْلِ الدَّمِ
(باب) حكم (غسل الدم) بفتح الغين أي دم الحيض.
227 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ هِشَامٍ قَالَ: حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ عَنْ أَسْمَاءَ قَالَتْ: جَاءَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا تَحِيضُ فِي الثَّوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ؟ قَالَ: «تَحُتُّهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ بِالْمَاءِ وَتَنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ». [الحديث 227 - طرفه في: 307].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) بفتح النون المعروف بالزمن (قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن هشام) هو ابن عروة بن الزبير (قال: حدّثتني فاطمة) أي زوجته بنت المنذر بن الزبير (عن) ذات النطاقين (أسماء) بنت أبي بكر الصديق أم عبد الله بن الزبير من المهاجرات، وكانت تسمى ذات النطاقين لما ذكر في حديث الهجرة أسلمت بعد سبعة عشر إنسانًا كما قاله ابن إسحاق وهاجرت بابنها عبد الله، وكانت عارفة بتعبير الرؤيا حتى قيل: أخذ ابن سيرين التعبير عن ابن المسيب، وأخذه ابن المسيب عن أسماء، وأخذته أسماء عن أبيها وهي آخر المهاجرات وفاة، توفيت في جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين بمكة بعد ابنها عبد الله بأيام بلغت مائة سنة لم يسقط لها سنّ ولم ينكر لها عقل لها في البخاري ستة عشر حديثًا رضي الله عنها (قالت):
(جاءت امرأة النبي) وللأربعة إلى النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) والمرأة هي أسماء كما وقع في رواية الإمام

الشافعي بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن سفيان بن عيينة عن هشام ولا يبعد أن يبهم الراوي اسم نفسه (فقالت: أرأيت) يا رسول الله (إحدانا تحيض) حال كونها (في الثوب) ومن ضرورة ذلك غالبًا وصول الدم إليه، وللمؤلف من طريق مالك عن هشام إذا أصاب ثوبها الدم من الحيضة، وأطلقت الرؤية وأرادت الإخبار لأنها سببه أي أخبرني والاستفهام بمعنى الأمر بجامع الطلب (كيف تصنع) به: (قال) عليه الصلاة والسلام وللأصيلي فقال: (تحته) بضم الحاء أي تفركه (ثم تقرصه بالماء) بفتى المثناة الفوقية وإسكان القاف وضم الراء والصاد المهملتين أي تفرك الثوب وتقلعه بدلكه بأطراف أصابعها أو بظفرها مع صب الماء عليه، وفي رواية تقرصه بتشديد الراء المكسورة، قال أبو عبيد: معنى التشديد تقطعه، (وتنضحه) بفتح الأوّل والثالث لا بكسره أي تغسله بأن تصب عليه الماء قليلاً قليلاً قال الخطابي: تحت المتجسد من دم لتزول عينه ثم تقرصه بأن تقبض عليه بإصبعها ثم تغمره غمرًا جيدًا وتدلكه حتى ينحل ما تشرّبه من الدم ثم تنضحه أي تصب عليه، والنضح هنا الغسل حتى يزول الأثر وفي نسخة: ثم تنضحه (وتصلي فيه) ولابن عساكر ثم تصلي فيه وفي الحديث تعيين الماء لإزالة جميع النجاسات دون غيره من المائعات، إذ لا فرق بين الدم وغيره، وهذا قول الجمهور خلافًا لأبي حنيفة وصاحبه أبي يوسف حيث قالا بجواز تطهير النجاسة بكل مائع طاهر لحديث عائشة: ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه فإذا أصابه شيء من دم الحيض قالت بريقها فمصعته بظفرها فلو كان الريق لا يطهر لزادت النجاسة وأجيب: بأنها أرادت بذلك تحليل أثره

ثم غسلته بعد ذلك، وفيه أن قليل دم الحيض لا يعفى عنه كسائر النجاسات بخلاف سائر الدماء، وعن مالك يعفى عن قليل الدم ويغسل قليل غيره من النجاسات وعن الحنفية يعفى عن قدر الدرهم.
ورواة هذا الحديث ما بين مكي ومدني وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة والبيوع وأبو داود والترمذي وابن ماجة في الطهارة.
228 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: جَاءَتْ فَاطِمَةُ ابْنَةُ أَبِي حُبَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي امْرَأَةٌ أُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاَةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ. إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَيْسَ بِحَيْضٍ. فَإِذَا أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فَدَعِي الصَّلاَةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ فَاغْسِلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي» قَالَ: وَقَالَ أَبِي: «ثُمَّ تَوَضَّئِي لِكُلِّ صَلاَةٍ حَتَّى يَجِيءَ ذَلِكَ الْوَقْتُ».
وبه قال: (حدثنا محمد) غير منسوب ولأبي الوقت وابن عساكر يعني ابن سلام، وللأصيلي حدثنا محمد بن سلام، ولأبي ذر محمد هو ابن سلام وهو بتخفيف اللام البيكندي (قال: حدثنا) ولابن عساكر أخبرنا (أبو معاوية) محمد بن خازم بمعجمتين الضرير (قال: حدثنا هشام بن عروة) بن الزبير (عن أبيه) عروة (عن عائشة) رضي الله عنها (قالت):
(جاءت فاطمة ابنة) ولأبوي والوقت والأصيلي وابن عساكر بنت (أبي حبيش) بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية آخره شين معجمة قيس بن المطلب وهي قرشية أسدية (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: يا رسول الله إني امرأة استحاض) بضم الهمزة وفتح المثناة أي يستمر بي الدم بعد أيامي المعتادة إذ الاستحاضة جريان الدم من فرج المرأة في غير أوانه (فلا أطهر) لدوامه والسين

(1/295)


في استحاض للتحول لأن دم الحيض تحوّل إلى غير دمه وهو دم الاستحاضة كما في استحجر الطين، وبني الفعل فيه للمفعول فقيل استحيضت المرأة بخلاف الحيض فيقال فيه حاضت المرأة لأن دم الحيض لما كان معتادًا معروف الوقت نسب إليها والآخر لما لكان نادرًا مجهول الوقت وكان منسوبًا إلى الشيطان كما في الحديث أنها ركضة الشيطان بني للمفعول وتأكيدها بأن لتحقيق القضية لندور وقوعها لا لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- متردد أو منكر (أفأدع) أي أترك والعطف على مقدر بعد الهمزة لأن لها صدر الكلام أي أيكون لي حكم الحائض فأترك (الصلاة) أو أن الاستفهام ليس باقيًا بل للتقرير فزالت صدريتها (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا) تدعي الصلاة (إنما ذلك) بكسر الكاف (عرق) أي دم يخرج من قعر الرحم (فإذا أقبلت حيضتك) بفتح الحاء المرة وبالكسر اسم للدم والخرقة التي تستثفر بها المرأة والحالة أو الفتح خطأ والصواب الكسر لأن المراد بها الحالة قاله الخطابي، ورده القاضي بها عياض وغيره بل قالوا: الأظهر الفتح لأن المراد إذا أقبل الحيض وهو الذي في فرع اليونينية (فدعي

الصلاة) أي اتركيها (وإذا أدبرت) أي انقطعت (فاغسلي عنك الدم) أي واغتسلي لانقطاع الحيض، وهذا مستفاد من أدلة أخرى تأتي إن شاء الله تعالى ومفهومه أنها كانت تميز بين الحيض والاستحاضة، فلذلك وكّل الأمر إليها في معرفة ذلك (ثم صلي) أول صلاة تدركينها. وقال مالك في رواية تستظهر بالإمساك عن الصلاة ونحوها ثلاثة أيام على عادتها.
(قال) هشام بالإسناد المذكور، عن محمد عن أبي معاوية عن هشام. (وقال أبي) عروة بن الزبير (ثم توضئي) بصيغة الأمر (لكل صلاة حتى يجيء ذلك الوقت) أي وقت إقبال الحيض وكاف ذلك مكسورة كما في فرع اليونينية وصحح عليه.
وبقية مباحث الحديث تأتي في كتاب الحيض إن شاء الله تعالى، وتفاصيل حكمه مستوفاة في كتب الفقه أشير لشيء منها في محله إن شاء الله تعالى بعون الله. ورواة هذا الحديث ستة وفيه الإخبار والتحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم في الطهارة وكذا الترمذي والنسائي وأبو داود.

64 - باب غَسْلِ الْمَنِيِّ وَفَرْكِهِ، وَغَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنَ الْمَرْأَةِ
(باب غسل المني وفركه) من الثوب حتى يذهب أثره (وغسل ما يصيب) الثوب وغيره من الرطوبة الحاصلة - من فرج (المرأة) عند مخالطته إياها.
229 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ الْجَزَرِيُّ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: "كُنْتُ أَغْسِلُ الْجَنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَإِنَّ بُقَعَ الْمَاءِ فِي ثَوْبِهِ". [الحديث 229 - أطرافه في: 230، 231، 232].
وبالسند قال: (حدّثنا عبدان) بفتح العين وسكون الموحدة المروزي (قال: أخبرنا عبد الله) أي ابن المبارك كما لأبوي الوقت وذر (قال: أخبرنا عمرو بن ميمون) بفتح العين وفي نسخة ابن مهران بدل ابن ميمون (الجزري) بالزاي المنقوطة والراء نسبة إلى الجزيرة (عن سليمان بن يسار) بفتح المثناة التحتية والسين المهملة المخففة مولى ميمونة أم المؤمنين فقيه المدينة، المتوفى سنة سبع ومائة (عن عائشة) رضي الله عنها (قالت):
(كنت أغسل الجنابة) أي أثرها لأن الجنابة معنى فلا تغسل أو عبرت بها عن ذلك مجازًا أو المراد المنيّ من باب تسمية الشيء باسم سببه، فإن وجوده سبب لبعده عن الصلاة ونحوها، أو أطلقت على المني اسم الجنابة، وحينئذ فلا حاجة إلى التقدير بالحذف أو بالمجاز (من ثوب النبيّ) ولابن عساكر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيخرج) من الحجرة (إلى) المسجد لأجل (الصلاة وإن بقع) بضم الموحدة وفتح القاف وآخره عين مهملة جمع بقعة أي موضع يخالف لونه ما يليه أي أثر (الماء في ثوبه) الشريف عليه الصلاة والسلام لأنه خرج مبادرًا للوقت، ولم يكن له ثياب يتداولها، ولابن ماجة وأنا أرى أثر الغسل عليه أي لم يجف، ولمسلم من حديث عائشة: كنت أفرك المني من ثوب رسول

الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولابني خزيمة وحبان بسند صحيح كانت تحكه وهو يصلي ويجمع بينهما، وبين حديث الباب على القول بطهارته كما هو مذهب الإمام الشافعي وأحمد والمحدثين بحمل الغسل على الندب أو غسله لنجاسة الممر أو لاختلاطه برطوبة الفرج على القول بنجاسته، وحمل الحنفية الغسل على الرطب والفرك على اليابس.
لنا ما في

(1/296)


رواية ابن خزيمة من طريق أخرى عن عائشة كانت تسلت الني من ثوبه بعرق الإذخر ثم تصلي فيه، وتحته ثوبه يابسًا ثم يصلي فيه، فإنه يتضمن ترك الغسل في الحالين، وأيضًا لو كان نجسًا لكان القياس وجوب غسله دون الاكتفاء بفركه، والحنفية لا يكتفون فيما لا يعفى عنه من الدم بالفرك وأجيب: بأنه لم يأت نص بجواز الفرك في الدم ونحوه، وإنما جاز في يابس المني على خلاف القياس، فيقتصر مورد النص، وحاصل ما في هذه المسألة أن مذهب الشافعي وأحمد طهارة المني. وقال أبو حنيفة ومالك رضي الله عنهما: نجس إلا أن أبا حنيفة يكتفي في تطهير اليابس منه بالفرك ومالك يوجب غسله رطبًا ويابسًا، وصحح النووي طهارة مني غير الكلب والخنزير وفرع أحدهما، ولمْ يذكر المؤلف حديثًا للفرك المذكور في الترجمة اكتفاء بالإشارة إليه فيها كعادته أو كان غرضه سوق حديث يتعلق به فلم يتفق له ذلك أو لم يجده على شرطه. وأما حكم ما يصيب من رطوبة فرج المرأة فلأن المني يختلط بها عند الجماع أو اكتفى بما سيجيء إن شاء الله تعالى في أواخر كتاب الغسل من حديث عثمان.
ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين مروزي ورقي ومدني وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي وقال حسن صحيح، والنسائي وابن ماجة كلهم في الطهارة.
230 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو عَنْ سُلَيْمَانَ قَالَ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ ح.

وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ عَنِ الْمَنِيِّ يُصِيبُ الثَّوْبَ فَقَالَتْ: "كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ الْمَاءِ".
وبه قال (حدّثنا قتيبة) بن سعيد (قال: حدّثنا يزيد) بفتح المثناة التحتية وكسر الزاي المعجمة يعني ابن زريع كما في رواية ابن السكن أحد الرواة عن الفربري كما نقله الغساني في كتاب تقييد المهمل، وكذا أشار إليه الكلاباذي، وصححه المزي أو هو ابن هارون كما رواه الإسماعيلي من طريق الدورقي وأحمد بن منيع، ورجحه القطب الحلبي والعيني وليس هذا الاختلاف مؤثرًا في الحديث لأن كلاًّ من ابن هارون وابن زريع ثقة على شرط المؤلف (قال: حدّثنا عمرو) بفتح العين يعني ابن ميمون كما في رواية أبي ذر عن المستملي ابن مهران (عن سليمان) هو ابن يسار كما لأبوي ذر والوقت والأصيلي (قال: سمعت عائشة) رضي الله عنها (ح) إشارة إلى التحويل.

(وحدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا عبد الواحد) بن زياد بكسر الزاي ومثناة تحتية البصري (قال: حدّثنا عمرو بن ميمون) بفتح العين أي ابن مهران السابق (عن سليمان بن يسار) السابق (قال):
(سألت عائشة) رضي الله عنها، وفي السابق سمعت، وكذا هو في مسلم والسماع لا يستلزم السؤال ولا السؤال السماع، ومن ثم ذكرهما ليدل على صحتهما وتصريحه بالسماع هنا يردّ على البزار حيث قال: سليمان بن يسار لم يسمع من عائشة (عن) الحكم في (المني يصيب الثوب) هل يشرع غسله أو فركه (فقالت) عائشة رضي الله عنها: (كنت أغسله من ثوب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيخرج) من الحجرة (إلى الصلاة وأثر الغسل في ثوبه) هو (بقع الماء) بالرفع خبر مبتدأ محذوف كأنه قيل: ما الأثر الذي في ثوبه؟ فقلت: هو بقع الماء، ويجوز النصب على الاختصاص، والوجه الأوّل هو الذي في فرع اليونينية. ولفظة: كنت وإن اقتضت تكرار الغسل هنا فلا دلالة فيها على الوجوب لحديث الفرك المروي في مسلم، فالغسل محمول على الندب جميعًا بين الحديثين كما سبق.
ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين بصري وواسطي ومدني وفيه التحديث والعنعنة والسماع والسؤال.

65 - باب إِذَا غَسَلَ الْجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَهَا فَلَمْ يَذْهَبْ أَثَرُهُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا غسل الجنابة أو غيرها) نحو دم الحيض وغيره من النجاسة العينية (فلم يذهب أثره) أي أثر ذلك الشيء المغسول يضر إذا كان سهل الزوال، أما إذا عسر إزالة لون أو ريح فيطهر كما صححه في الروضة، والأظهر أنه يضر اجتماعهما لقوّة دلالتهما على بقاء عين النجاسة، ولا خلاف كما في المجموع أن بقاء الطعم وحده يضرّ لسهولة إزالته غالبًا، ولأن بقاءه يدل على بقاء العين والفاء في فلم يذهب للعطف.
231 - حَدَّثَنَا مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ قَالَ: سَأَلْتُ سُلَيْمَانَ بْنَ يَسَارٍ فِي الثَّوْبِ تُصِيبُهُ الْجَنَابَةُ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: "كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى الصَّلاَةِ وَأَثَرُ الْغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ الْمَاءِ".
وبه قال: (حدّثنا موسى) لأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر ابن إسماعيل، ولأبي ذر المنقري أي بكسر الميم وسكون النون وفتح القاف نسبة إلى بني منقر بطن من تميم التبوذكي. (قال: حدّثنا عبد الواحد) بن زياد (قال: حدّثنا

(1/297)


عمرو بن ميمون) بفتح العين (قال):
(سألت سليمان بن يسار) بالمثناة والمهملة الخفيقة أي قلت له ما تقول (في الثوب) الذي (تصيبه الجنابة) أو في بمعنى عن أي سألته عن الثوب، وللكشميهني وابن عساكر سمعت
سليمان بن يسار أي يقول حكم الثوب الذي تصيبه الجنابة (قال: قالت عائشة) رضي الله عنها: (كنت أغسله) أي أثر الجنابة أو المني (من ثوب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فتذكير الضمير على التفسير بالمني أو أثر الجنابة (ثم يخرج) عليه الصلاة والسلام من الحجرة (إلى الصلاة) في المسجد (وأثر الغسل فيه) أي في ثوبه (بقع الماء) بدل من قوله أثر الغسل ولم يذكر في الباب حديثًا يدل على غير الجنابة، ويحتمل أن يكون قاس ذلك على سابقه.

232 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا كَانَتْ تَغْسِلُ الْمَنِيَّ مِنْ ثَوْبِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعَةً أَوْ بُقَعًا.
وبه قال:
(حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين (قال: حدّثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي (قال: حدّثنا عمرو بن ميمون بن مهران) بفتح العين وكسر ميم مهران مع عدم صرفه (عن سليمان بن يسار) السابق (عن عائشة) رضي الله عنها (أنها كانت تغسل المني من ثوب النبي) ولابن عساكر من ثوب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قالت عائشة (ثم أراه) بفتح الهمزة أي أبصر الثوب (فيه) أي الأثر الدال عليه قوله تغسل المني أي أرى أثر الغسل في الثوب (بقعة أو بقعًا) وفي بعض النسخ: ثم أرى بدون الضمير المنصوب، فعلى هذا يكون الضمير المجرور في قوله فيه للثوب أي أرى في الثوب بقعة، فالنصب على المفعولية. وقوله بقعة أو بقعًا من قول عائشة أو شك من سليمان أو غيره من رواته.

66 - باب أَبْوَالِ الإِبِلِ وَالدَّوَابِّ وَالْغَنَمِ وَمَرَابِضِهَا
وَصَلَّى أَبُو مُوسَى فِي دَارِ الْبَرِيدِ وَالسِّرْقِينِ، وَالْبَرِّيَّةُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: هَا هُنَا وَثَمَّ سَوَاءٌ.
(باب) حكم (أبوال الإبل والدواب) جمع دابة وهي لغة اسم لما يدب على الأرض وعرفًا لذي الأربع فقط (و) حكم أبوال (الغنم و) حكم (مرابضها) بفتح الميم وكسر الموحدة وبالضاد المعجمة من ربض بالمكان يربض من باب ضرب يضرب إذا أقام به وهي للغنم كالمعاطن للإبل، وربوض الغنم كبروك الإبل، وعطف الدواب على الإبل من عطف العام على الخاص، والغنم على الدواب من عطف الخاص على العام.
(وصلى أبو موسى) عبد الله بن قيس الأشعري مما وصله أبو نعيم شيخ المؤلف في كتاب الصلاة له (في دار البريد) بفتح الموحدة منزل بالكوفة تنزله الرسل إذا حضروا من الخلفاء إلى الأمراء، وكان أبو موسى أميرًا على الكوفة من قبل عمر وعثمان، ويطلق البريد على الرسول وعلى مسافة اثنتي عشر ميلاً، (والسرقين) معطوف على المجرور السابق وهو بكسر المهملة وفتحها وسكون الراء وبالقاف. ويقال: السرجين بالجيم روث الدواب معرب لأنه ليس في الكلام فعليل بالفتح (والبرية) بفتح الموحدة وتشديد الراء أي الصحراء (إلى جنبه) الضمير لأبي موسى والجملة حالية

(فقال) أبو موسى (هاهنا وثم) بفتح المثلثة أي ذلك والبرية (سواء) في جواز الصلاة فيه لأن ما فيها من الأرواث والبول طاهر فلا فرق بينها وبين البرية، ولفظ رواية أبي نعيم الموصولة صلّى بنا أبو موسى في دار البريد وهناك سرقين الدواب والبرية على الباب، فقالوا: لو صليت على الباب فذكره.
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه بلفظ: فصلى بنا على روث وتبن، فقلنا: تصلي هاهنا والبرية إلى جنبك. فقال: البرية وهاهنا سواء. وأراد المؤلف من هذا التعليق الاستدلال على طهارة بول ما يؤكل لحمه، لكنه لا حجة فيه لاحتمال أنه صلّى على حائل بينه وبين ذلك. وأجيب بأن الأصل عدمه، فالأولى أن يقال: إن هذا من فعل أبي موسى، وقد خالفه غيره من الصحابة كابن عمرو وغيره فلا يكون حجة.
233 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ -أَوْ عُرَيْنَةَ- فَاجْتَوَوُا الْمَدِينَةَ، فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلِقَاحٍ، وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا، فَانْطَلَقُوا. فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ، فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ. فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ، فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ يُسْقَوْنَ.
قَالَ أَبُو قِلاَبَةَ: فَهَؤُلاَءِ سَرَقُوا، وَقَتَلُوا، وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ، وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ.
[الحديث 233 - أطرافه في: 1501، 3018، 4192، 4193، 4610، 5685، 5686، 5727، 6802، 6803، 6804، 6805، 6899].
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الأزدي الواشحي بمعجمة ثم مهملة البصري قاضي مكة المتوفى في سنة أربع وعشرين ومائتين وله ثمانون سنة. (قال: حدّثنا حماد بن زيد) هو ابن درهم الأزدي الجهضمي البصري (عن أيوب) السختياني البصري (عن أبي قلابة) بكسر القاف عبد الله (عن أنس) وللأصيلي ابن مالك (قال):
(قدم أناس) بهمزة مضمومة وللكشميهني والسرخسي، والأصيلي ناس بغير همزة على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (من عكل) بضم العين وسكون الكاف قبيلة من تيم الرباب (أو) من (عرينة) بالعين والراء المهملتين مصغرًا حيّ من بجيلة لا من قضاعة، وليس عرينة عكلاً لأنهما قبيلتان متغايرتان

(1/298)


لأن عكلاً من عدنان وعرينة من قحطان، والشك من حماد. وقال الكرماني: ترديد من أنس، وقال الداودي شك من الراوي، وللمؤلف في الجهاد عن وهب عن أيوب أن رهطًا من عكل ولم يشك، وله في الزكاة عن شعبة عن قتادة عن أنس أن أناسًا من عرينة ولم يشك أيضًا، وكذا لمسلم، وفي المغازي عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة أن ناسًا من عكل وعرينة بالواو العاطفة. قال الحافظ ابن حجر: وهو الصواب. ويؤيده ما رواه أبو عوانة والطبري من طريق سعيد بن بشير عن قتادة عن أنس قال: كانوا أربعة من عرينة وثلاثة من عكل.

فإن قلت: هذا مخالف لا عند المؤلف في الجهاد والدّيات أن رهطًا من عكل ثمانية. أجيب: باحتمال أن يكون الثامن من غير القبيلتين، وإنما كان من أتباعهم، وقد كان قدومهم على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما قاله ابن إسحاق بعد قرد، وكانت في جمادى الأولى سنة ست، وذكرها المؤلف بعد الحديبية وكانت في ذي القعدة منها. وذكر الواقدي أنها كانت في شوّال منها، وتبعه ابن حبان وابن سعد وغيرهما، وللمؤلف في المحاربين أنهم كانوا في الصفة قبل أن يطلبوا الخروج إلى الإبل.
(فاجتووا المدينة) بالجيم وواوين أي أصابهم الجوى وهو داء الجوف إذا تطاول أو كرهوا الإقامة بها لما فيها من الوخم، أو لم يوافقهم طعامها. وللمؤلف من رواية سعيد عن قتادة في هذه القصة فقالوا: يا نبي الله إنّا كنّا أهل ضرع ولم نكن أهل ريف، وله في الطب من رواية ثابت عن أنس أن ناسًا كان بهم سقم قالوا يا رسول الله آوِنا وأطعمنا، فلما صحوا قالوا: إن المدينة وخمة والظاهر أنهم قدموا سقامًا من الهزال الشديد والجهد من الجوع مصفرة ألوانهم، فلما صحوا من السقم أصابهم من حمى المدينة فكرهوا الإقامة بها. ولمسلم عن أنس وقع بالمدينة الموم بضم الميم وسكون الواو وهو ورم الصدر فعظمت بطونهم، فقالوا: يا رسول الله إن المدينة وخمة (فأمرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلقاح) بلام مكسورة جمع لقوح وهي الناقة الحلوب كقلوص وقلاص أي أمرهم أن يلقحوا بها. وعند المصنف في رواية همام عن قتادة فأمرهم أن يلحقوا براعيه، وعند أبي عوانة أنهم بدؤوا بطلب الخروج إلى اللقاح فقالوا: يا رسول الله قد وقع هذا الوجع فلو أذنت لنا فخرجنا إلى الإبل.
وللمؤلف من رواية وهيب أنهم قالوا: يا رسول الله أبغنا رسلاً أي اطلب لنا لبنًا. قال: "ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود" وعند ابن سعد أن عدد لقاحه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان خمس عشرة، وعند أبي عوانة كانت ترعى بذي الجدر بالجيم وسكون الدال المهملة ناحية قباء قريبًا من عين على ستة أميال من المدينة.
(و) أمرهم عليه الصلاة والسلام (أن يشربوا) أي بالشرب (من أبوالها وألبانها فانطلقوا) فشربوا منهما (فلما صحوا) من ذلك الداء وسمنوا ورجعت إليهم ألوانهم (قتلوا راعي النبي) وللأصيلي وابن عساكر راعي رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يسارًا النوبي، وذلك أنهم لما عدوا على اللقاح أدركهم ومعه نفر فقاتلهم فقطعوا يده ورجله وغرزوا الشوك في لسانه وعينيه حتى مات، كذا في طبقات ابن سعد. (واستاقوا) من الاستياق أي ساقوا سوقًا عنيفًا (النعم) بفتح النون والعين واحد الأنعام وهي الأموال الراعية وأكثر ما يقع على الإبل، وفي بعض النسخ واستاقوا إبلهم (فجاء الخبر) عنهم (في أول النهار فبعث) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في آثارهم) أي وراءهم الطلب وهم سرية وكانوا عشرين وأميرهم كرز بن جابر، وعند ابن عقبة سعيد بن زيد فأدركوا في ذلك اليوم فأخذوا (فلما ارتفع النهار جيء بهم) إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهم أسارى (فقطع) عليه الصلاة والسلام (أيديهم) جمع يد فأما أن يراد بها أقل الجمع وهو اثنان كما هو عند بعضهم لأن لكلٍّ منهم يدين، وأما أن يراد التوزيع عليهم بأن ينقطع من كل واحد منهم يدًا واحدة والجمع في مقابلة الجمع يفيد التوزيع، وإسناد الفعل فيه
إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مجاز، ويشهد له ما ثبت في رواية الاصيلي وأبي الوقت والحموي والمستملي والسرخسي، فأمر بقطع، وفي فرع اليونينية فأمر فقطع أي أمر

(1/299)


بالقطع فقطع أيديهم (وأرجلهم) أي من خلاف كما في آية المائدة المنزلة في القضية كما رواه ابنا جرير وحاتم وغيرهما (وسمرت أعينهم) بضم السين. قال المنذري: وتخفيف الميم أي كحلت بالمسامير المحماة، قال: وشددها بعضهم والأول أشهر وأوجه، وقيل: سمرت أي فقئت أي كرواية مسلم سملت باللام مبنيًّا للمفعول أي فقئت أعينهم فيكونان بمعنى لقرب مخرج الراء واللام. وعند المؤلف من رواية وهيب عن أيوب، ومن رواية الأوزاعي عن يحيى كلاهما عن أبي قلابة ثم أمر بمسامير فأحميت فكحلهم بها، وإنما فعل ذلك بهم قصاصًا لأنهم سملوا عيني الراعي وليس من المثلة المنهي عنها. (وألقوا) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (في الحرّة) بفتح الحاء المهملة وتشديد الراء في أرض ذات حجارة سود بظاهر المدينة النبوية كأنها أحرقت بالنار، وكان بها الواقعة المشهورة أيام يزيد بن معاوية (يستسقون) بفتح أوله أي يطلبون السقي (فلا يسقون) بضم المثناة وفتح القاف. زاد وهيب والاوزاعي حتى ماتوا. وفي الطب من رواية أنس: فرأيت رجلاً منهم يكدم الأرض بلسانه حتى يموت، ولأبي عوانة يكدم الأرض ليجد بردها مما يجد من الحر والشدة، والمنع من السقي مع كون الإجماع على سقي من وجب قتله إذا استسقى إما لأنه ليس بأمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإما لأنه نهى عن سقيهم لارتدادهم، ففي مسلم والترمذي أنهم ارتدوا عن الإسلام، وحينئذ فلا حرمة لهم كالكلب العقور، واحتجّ بشربهم البول من قال بطهارته نصًّا في بول الإبل وقياسًا في سائر مأكول اللحم وهو قول مالك وأحمد ومحمد بن الحسن من الحنفية وابن خزيمة وابن المنذر وابن حبّان والإصطخري والروياني من الشافعية، وهو قول الشعبي وعطاء
والنخعي والزهري وابن سيرين والثوري. واحتجّ ابن المنذر بأن ترك أهل العلم بيع الناس أبعار الغنم في أسواقهم، واستعمال أبوال الإبل في أدويتهم قديمًا وحديثًا من غير نكير دليل على طهارهما.
وأجيب بأن المختلف فيه لا يجب إنكاره فلا يدل ترك إنكاره على جوازه فضلاً عن طهارته، وذهب الشافعي وأبو حنيفة والجمهور إلى أن الأبوال كلها نجسة إلا ما عفي عنه، وحملوا ما في الحديث على التداوي فليس فيه دليل على الإباحة في غير حال الضرورة، وحديث أم سليم المروي عند أبي داود أن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها محمول على حالة الاختيار، وأما حالة الاضطرار فلا حرمة كالميتة للمضطر، لا يقال يرد عليه قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الخمر أنها ليست بدواء إنها داء في جواب من سأل عن التداوي بها كما رواه مسلم، لأنّا نقول ذلك خاص بالخمر، ويلتحق به غيره من المسكر، والفرق بين الخمر وغيره من النجاسات أن الحدّ ثبت باستعماله في حالة الاختيار دون غيره، ولأن شربه يجر إلى مفاسد كثيرة، وأما أبوال الإبل فقد روى ابن المنذر عن ابن عباس مرفوعًا: "إن في أبوال الإبل شفاء للذربة بطونهم" والذرب فساد المعدة فلا يقاس ما ثبت أن فيه دواء على ما ثبت نفي الدواء عنه، وظاهر قول المؤلف في الترجمة أبوال الإبل والدواب جعل الحديث حجة لطهارة الأرواث والأبوال مطلقًا كالظاهرية إلا أنهم استثنوا بول الآدمي وروثه. وتعقب بأن

القصة في أبوال المأكول ولا يسوغ قياس غير المأكول لظهور الفرق. وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى.
ورواته الخمسة بصريون وفيه رواية تابعي عن تابعي والتحديث والعنعنة وأخرجه المؤلف هنا وفي المحاربين والجهاد والتفسير والمغازي والدّيات، ومسلم في الحدود وأبو داود في الطهارة والنسائي في المحاربة.
(قال أبو قلابة) عبد الله (فهؤلاء) العرنيون والعكليون (سرقوا) لأنهم أخذوا اللقاح من حزر مثلها ولفظ السرقة قاله أبو قلابة استنباطًا، (وقتلوا) الراعي (وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله). أطلق عليهم محاربين لما ثبت عند أحمد من رواية حميد عن أنس في أصل الحديث. وهربوا محاربين. وقوله: وكفروا هو من روايته عن قتادة عن أنس في المغازي وكذا في رواية وهيب عن أيوب في الجهاد في أصل الحديث فليس

(1/300)


قوله: وكفروا وحاربوا موقوفًا على أبي قلابة ثم إن قول قتادة هذا إن كان من مقول أيوب فهو مسند، وإن كان من مقول المؤلف فهو من تعاليقه.
234 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو التَّيَّاحِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي -قَبْلَ أَنْ يُبْنَى الْمَسْجِدُ- فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ. [الحديث 234 - أطرافه في: 428، 429، 1868، 2106، 2771، 2774، 2779، 3932].

وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال: أخبرنا) وللأصيلي حدّثنا (أبو التياح) بفتح المثناة الفوقية وتشديد التحتية آخره مهملة يزيد بن حميد كما في رواية الأصيلي وأبي ذر (عن أنس) رضي الله عنه (قال):
(كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلي قبل أن يبنى المسجد) المدني (في مرابض الغنم) واستدل به على طهارة
أبوالها وأبعارها، لأن المرابض لا تخلو عنهما، فدلّ على أنهم كانوا يباشرونها في صلاتهم فلا تكون نجسة. وأجيب باحتمال الصلاة على حائل دون الأرض، وعورض بأنها شهادة نفي، لكن قد يقال: إنها مستندة إلى الأصل أي الصلاة من غير حائل. وأجيب: بأنه عليه الصلاة والسلام صلى في دار أنس على حصير كما في الصحيحين، ولحديث عائشة الصحيح أنه كان يصلي على الخمرة.
ورواة الحديث الأربعة ما بين خراساني وكوفي وبصري وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة وكذا مسلم والترمذي والنسائي في العلم.

67 - باب مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسَاتِ فِي السَّمْنِ وَالْمَاءِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ بَأْسَ بِالْمَاءِ مَا لَمْ يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أَوْ رِيحٌ أَوْ لَوْنٌ. وَقَالَ حَمَّادٌ: لاَ بَأْسَ بِرِيشِ الْمَيْتَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي عِظَامِ الْمَوْتَى -نَحْوَ الْفِيلِ وَغَيْرِهِ- أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ الْعُلَمَاءِ

يَمْتَشِطُونَ بِهَا وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا لاَ يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَإِبْرَاهِيمُ: وَلاَ بَأْسَ بِتِجَارَةِ الْعَاجِ.
(باب) حكم (ما يقع من النجاسات) أي وقوع النجاسات (في السمن والماء. وقال الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب مما وصله ابن وهب في جامعه عن يونس عنه (لا بأس بالماء) أي لا حرج في استعماله في كل حالة فهو محكوم بطهارته (ما لم يغيره) بكسر الياء فعل ومفعول والفاعل قوله (طعم) أي من شيء نجس، (أو ريح أو لون) منه.
فإن قلت: كيف ساغ جعل أحد الأوصاف الثلاثة مغيرًا على صيغة الفاعل، والمغير إنما هو الشيء النجس المخالط للماء. أجيب: بأن المغير في الحقيقة هو الماء، ولكن تغييره لما كان لم يعلم إلا من جهة أحد أوصافه الثلاثة صار هو المغير فهو من باب ذكر السبب وإرادة المسبب، ومقتضى قول الزهري أنه لا فرق بين القليل والكثير، وإليه ذهب جماعة من العلماء، وتعقبه أبو عبيد في كتاب الطهور له بأنه يلزم منه أن من بال في إبريق ولم يغير للماء وصفًا أنه يجوز له التطهير به وهو مستبشع، ومذهب الشافعي وأحمد التفريق بالقلّتين فما كان دونهما تنجس بملاقاة النجاسة، وإن لم يظهر فيه تغير لمفهوم حديث القلّتين إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث صححه ابن حبان وغيره، وفي رواية لأبي داود وغيره بإسناد صحيح فإنه لا ينجس، وهو المراد بقوله لم يحمل الخبث أي يدفع النجس ولا يقبله وهو مخصص لمنطوق حديث الماء لا ينجسه شيء، وإنما لم يخرج المؤلف حديث القلتين للاختلاف الواقع في إسناده، لكن رواته ثقات وصححه جماعة من الأئمة إلا أن مقدار القلتين من الحديث لم يثبت، وحينئذ فيكون مجملاً، لكن الظاهر أن الشارع وإنما ترك تحديدهما توسعًا وإلا فليس بخاف أنه عليه الصلاة والسلام ما خاطب أصحابه إلا بما يفهمون، وحينئذ فينتفي الإجمال لكن لعدم التحديد وقع بين السلف في مقدارهما خلف، واعتبره الشافعي بخمس قرب من قرب الحجاز احتياطًا، وقالت الحنفية: إذا اختلطت النجاسة بالماء تنجس إلا أن يكون كثيرًا وهو الذي إذا حرك أحد جانبيه لم يتحرك الآخر، وقال المالكية: ليس للماء الذي تحلّه النجاسة قدر معلوم، ولكنه متى تغير أحد أوصافه الثلاثة تنجس قليلاً كان أو كثيرًا فلو تغير الماء كثيرًا بحيث يسلبه الاسم بطاهر يستغنى عنه ضرّ وإلا فلا.
(وقال حماد) بتشديد الميم ابن أبي سليمان شيخ أبي حنيفة مما وصله عبد الرزاق في مصنفه (لا بأس) أي لا حرج (بريش الميتة) من مأكول وغيره إذا لاقى الماء لأنه لا يغيره أو أنه طاهر مطلقًا وهو مذهب الحنفية والمالكية، وقال الشافعية: نجس. (وقال الزهري) محمد بن مسلم (في عظام الموتى نحو الفيل وغيره) مما لم يؤكل (أدركت ناسًا) كثيرين (من سلف العلماء يمتشطون بها) أي بعظام الموتى بأن يصنعوا منها مشطًا ويستعملوها (ويدهنون) بتشديد الدال (فيها) أي في عظام الموتى بأن يصفعوا منها آنية يجعلون فيها الدهن (لا يرون به بأسًا) أي حرجًا فلو كان عندهم نجسًا ما استعملوه امتشاطًا وادّهانًا، وحينئذ فإذا وقع عظم الفيل في الماء لا ينجسه

(1/301)


بناء على عدم القول بنجاسته، وهو مذهب أبي حنيفة لأنه لا تحله الحياة عنده، ومذهب الشافعي أنه نجس لأنه تحلّه الحياة

قال تعالى: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّة} [يس: 78، 79]. وعند مالك أنه يطهر إذا ذكي كغيره مما لم يؤكل إذا ذكي فإنه يطهر. (وقال) محمد (بن سيرين وإبراهيم) النخعي (لا بأس بتجارة العاج) ناب الفيل أو عظمه مطلقًا، وأسقط السرخسي ذكر إبراهيم النخعي كأكثر الرواة عن الفربري، ثم إن أثر ابن سيرين هذا وصله عبد الرزاق بلفظ: أنه كان لا يرى بالتجارة في العاج بأسًا، وهو يدل على أنه كان يراه طاهرًا، لأنه كان لا يجيز بيع النجس ولا المتنجس الذي لا يمكن تطهيره كما يدل له قصته المشهورة في الزيت، وإيراد المؤلف لهذا كله يدل على أن عنده أن الماء قليلاً كان أو كثيرًا لا ينجس إلا بالتغير كما هو مذهب مالك.
235 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ، فَقَالَ: «أَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ، وَكُلُوا سَمْنَكُمْ». [الحديث 235 - أطرافه في: 236، 5538، 5539، 5540].
وبالسند إلى المؤلف قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال حدّثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس إمام دار الهجرة (عن ابن شهاب) زاد الأصيلي الزهري (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله) زاد ابن عساكر ابن عتبة بن مسعود (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (عن ميمونة) أم المؤمنين رضي الله عنها:
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل) بضم السين مبنيًّا للمفعول، ويحتمل أن يكون السائل ميمونة (عن فأرة) بهمزة ساكنة (سقطت في سمن) أي جامد كما عند عبد الرحمن بن مهدي وأبي داود الطيالسي والنسائي فماتت كما عند المؤلف في الذبائح (فقال) عليه الصلاة والسلام: (ألقوها) أي ارموا الفأرة (وما حولها) من السمن (فاطرحوه) الجميع (وكلوا سمنكم) الباقي ويقاس عليه نحو العسل والدبس الجامدين وسقط للأربعة قوله: فاطرحوه وخرج بالجامد الذائب فإنه ينجس كله بملاقاة النجاسة ويتعذر تطهيره ويحرم أكله ولا يصح بيعه. نعم يجوز الاستصباح به والانتفاع به في غير الأكل والبيع، وهذا مذهب الشافعية والمالكية لقوله في الرواية الأخرى فإن كان مائعًا فاستصبحوا به، وحرم الحنفية أكله فقط لقوله: انتفعوا به، والبيع من باب الانتفاع ومنع الحنابلة من الانتفاع به مطلقًا لقوله في حديث عبد الرزاق وإن كان مائعًا فلا تقربوه.
ورواة هذا الحديث الستة مدنيون وفيه التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، ورواية صحابي عن صحابية، وأخرجه المؤلف أيضًا في الذبائح وهو من إفراده عن مسلم، وأخرجه أبو داود والترمذي وقال: حسن صحيح والنسائي.
236 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا مَعْنٌ قَالَ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ

سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ: «خُذُوهَا وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ». قَالَ مَعْنٌ: حَدَّثَنَا مَالِكٌ مَا لاَ أُحْصِيهِ يَقُولُ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني (قال: حدّثنا معن) بفتح الميم وسكون العين آخره نون ابن عيسى أبو يحيى القزاز بالقاف والزايين المعجمتين أولاهما مشددة نسبة لشراء القز المدني، المتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة (قال: حدّثنا مالك) الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبيد الله) بالتصغير (ابن عبد الله بن عتبة) بضم العين وسكون المثناة الفوقية (ابن مسعود عن ابن عباس) رضي الله عنهما (عن ميمونة) رضي الله عنها:
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل) يحتمل أن السائل هي ميمونة كما يدل عليه رواية يحيى القطان وجويرية
عن مالك في هذا الحديث عند الدارقطني (عن فأرة) بالهمزة الساكنة (سقطت في سمن فقال) عليه الصلاة والسلام: (خذوها) أي الفأرة (وما حولها) من السمن (فاطرحوه) أي المأخوذ وهو الفأرة وما حولها أي وكلوا الباقي كما صرح به في الرواية السابقة فهو من إطلاق اللازم وإرادة الملزوم وفيه أنه ينجس، وإن لم يتغير بخلاف الماء، والمراد بطرحه أن لا يأكلوه أما الاستصباح فلا بأس به كما مرَّ.
وفي هذا الحديث التحديث والعنعنة.

(قال معن) القزاز فيما قاله علِي بن المديني بإسناده السابق (حدّثنا مالك ما لا أحصيه) بضم الهمزة أي ما لا أضبطه (يقول عن ابن عباس عن ميمونة) أي فهو من مسانيد ميمونة برواية ابن عباس كما في الموطأ من رواية يحيى بن يحيى وهو الصحيح، وقال الذهلي في الزهريات: إنه أشهر وليس هو من مسانيد ابن عباس، وإن رواه القعنبي وغيره في الموطأ وأسقط أشهب ابن عباس وأسقطه وميمونة يحيى بن بكير وأبو مصعب، ولهذا الاختلاف على مالك في

(1/302)


إسناده ذكر المؤلف معنا هذا بعد إسناده وسياق حديثه بنزول بالنسبة للإسناد السابق مع موافقته له في السياق.
237 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كُلُّ كَلْمٍ يُكْلَمُهُ الْمُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَهَيْئَتِهَا إِذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَمًا: اللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ، وَالْعَرْفُ عَرْفُ الْمِسْكِ». [الحديث 237 - طرفاه في: 2803، 5533].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) أي ابن موسى المروزي المعروف بمردويه بفتح الميم وسكون الراء وضم المهملة وسكون الواو وفتح المثناة التحتية (قال: أخبرنا) ولابن عساكر حدّثنا (عبد الله) بن المبارك (قال: أخبرنا معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين ساكنة ابن راشد (عن همام بن منبه) بكسر الموحدة المشددة (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(كل كلم) بفتح الكاف وسكون اللام (يكلمه المسلم) بضم أوله وسكون ثانيه وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول ويجوز بناؤه للفاعل أي كل جرح يجرحه وأصله يكلم به فحذف الجار وأضيف إلى الفعل

توسعًا، وابن عساكر في نسخة كل كلمة يكلمها أي كل جراحة يجرحها المسلم (في سببل الله) قيد يخرج به ما إذا وقع الكلم في غير سبيل الله، زاد المؤلف في الجهاد والله أعلم بمن يكلم في سبيله (يكون) أي الكلم (يوم القيامة) وفي رواية الأصيلي وأبي ذر تكون بالمثناة الفوقية (كهيئتها) قال الحافظ ابن حجر: أعاد الضمير مؤنثًا لإرادة الجراحة اهـ.
وتعقبه العيني فقال: ليس كذلك بل باعتبار الكلمة لأن الكلم والكلمة مصدران، والجراحة اسم لا يعبر به عن المصدر (إذ) بسكون الذال أي حين (طعنت) قال الكرماني: المطعون هو المسلم وهو مذكر لكن لما أريد طعن بها حذف الجار ثم أوصل الضمير المجرور بالفعل وصار المنفصل متصلاً، وتعقبه البرماوي بأن التاء علامة لا ضمير، فإن أراد الضمير المستتر فتسميته متصلاً طريقة، والأجود أن الاتصال والانفصال وصف للبارز، وفي بعض أصول البخاري كمسلم إذا طعنت بالألف بعد الذال وهي هاهنا لمجرد الظرفية أو هي بمعنى إذ وقد يتقارضان، أو لاستحضار صورة الطعن لأن الاستحضار كما يكون بصريح لفظ المضارع نحو: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا} [فاطر: 9]. يكون بما في معنى المضارع كما فيما نحن فيه (تفجر دمًا) بفتح الجيم المشدّدة. وقال البرماوي كالكرماني هو بضم الجيم من الثلاثي وبفتحها مشددة من التفعل. قال العيني: أشار بهذا إلى جواز الوجهين لكنه مبني علي مجيء الرواية بهما وأصله تتفجر فحذف التاء الأولى تخفيفًا (اللون) ولأبي ذر واللون (لون الدم) يشهد لصاحبه بفضله على بذل نفسه وعلى ظالمه بفعله (والعرف عرف) بفتح العين وسكون الراء أي الريح ريح (المسك) لينتشر في أهل الموقف إظهارًا لفضله، ومن ثم لا يغسل دم الشهيد في المعركة ولا يغسل.
فإن قلت: ما وجه إدخال هذا الحديث في هذه الترجمة؟ أجيب: بأن المسك طاهر وأصله نجس، فلما تغير خرج عن حكمه، وكذا الماء إذا تغير خرج عن حكمه أو أن دم الشهيد لما انتقل بطيب الرائحة من النجاسة حتى حكم له في الآخرة بحكم المسك الطاهر وجب أن ينتقل الماء الطاهر بخبث الرائحة إذا حلّت فيه نجاسة من حكم الطهارة إلى النجاسة، وتعقب بأن الحكم المذكور في دم الشهيد من أمور الآخرة والحكم في الماء بالطهارة والنجاسة من أمور الدنيا فكيف يقاس عليه اهـ.
أو أن مراد المؤلف تأكيد مذهبه أن الماء لا ينجس بمجرد الملاقاة ما لم يتغير، فاستدل بهذا الحديث على أن تبدل الصفة يؤثر في الموصوف، فكما أن تغير صفة الدم بالرائحة الطيبة أخرجه من الذم إلى المدح، فكذلك تغير صفة الماء إذا تغير بالنجاسة يخرجه عن صفة الطهارة إلى النجاسة، وتعقب بأن الغرض إثبات انحصار التنجس بالتغير، وما ذكر يدل على أن التنجس يحصل بالتغير وهو وفاق لا أنه لا يحصل إلا به وهو موضع النزاع، وبالجملة فقد وقع للناس أجوبة عن هذا الاستشكال وأكثرها بل كلها متعقب والله أعلم. وسيأتي مزيد البحث في هذا الحديث إن شاء الله تعالى في باب الجهاد.

ورواته الخمسة ما بين مروزي وبصري ويماني وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الجهاد وكذا مسلم.

68 - باب الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ
(باب الماء الدائم) بالجر صفة للمضاف إليه أي الراكد ولفظ الباب ساقط عند

(1/303)


الأصيلي ولابن عساكر باب البول في الماء الدائم، وللأصيلي: لا تبولوا في الماء الدائم.
238 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ». [الحديث 238 - أطرافه في: 876، 896، 2956، 3486، 6624، 6887، 7036، 7495].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) بتخفيف الميم الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (قال: أخبرنا) ولابن عساكر حدّثنا (أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج حدّثه أنه سمع أبا هريرة) رضي الله عنه (أنه سمع) وللأصيلي قال: سمعت ولابن عساكر يقول: سمعت (رسول الله) ولابن عساكر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(نحن الآخرون) بكسر الخاء أي المتأخرون في الدنيا (السابقون) أي المتقدمون في الآخرة.
239 - وَبِإِسْنَادِهِ قَالَ: «لاَ يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لاَ يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ».
(وبإسناده) أي إسناد هذا الحديث السابق (قال):
(لا يبولن أحدكم في الماء الدائم) القليل الغير القلتين فإنه يتنجس وإن لم يتغير وهذا مذهب الشافعية. وقال المالكية: لا ينجس إلا بالتغير قليلاً كان أو كثيرًا جاريًا كان الماء أو راكدًا حديث: "خلق الله الماء طهورًا لا ينجسه شيء" الحديث. وعند الحنفية: ينجس إذا بلغ الغدير العظيم الذي لا يتحرك أحد أطرافه بتحرك أحدها، وعن أحمد رواية صحّحوها في غير بول الآدمي وعذرته المائعة فأما هما فينجسان الماء وإن كان قلّتين فأكثر على المشهور ما لم يكثر أي بحيث لا يمكن نزحه، وقوله: (الذي لا يجري) قيل: هو تفسير للدائم وإيضاح لمعناه. وقيل: احترز به عن الماء الدائر لأنه جارٍ من حيث الصورة ساكن من حيث المعنى. وقال ابن الأنباري: الدائم من حروف الأضداد يقال
للساكن والدائر، ويطلق على البحار والأنهار الكبار التي لا ينقطع ماؤها أنها دائمة بمعنى أن ماءها غير منقطع، وقد اتفق على أنها غير مرادة هنا وعلى هذين القولين فقوله الذي لا يجري صفة مخصصة لأحد معنيي المشترك، وهذا أولى من حمله على التوكيد الذي الأصل عدمه، ولا يخفى أنه لو لم يقل

الذي لا يجري مجملاً بحكم الاشتراك الدائر بين الدائر والدائم، وحينئذ فلا يصح الحمل على التأكيد أو احترز به عن راكد يجري بعضه كالبرك.
(ثم) هو (يغتسل فيه) أو يتوضأ وهو بضم اللام على المشهور في الرواية، وجوز ابن مالك في توضيحه صحة الجزم عطفًا على يبولن المجزوم موضعًا بلا الناهية، ولكنه فتح بناء لتأكيده بالنون والنصب على إضمار أن إعطاء لثم حكم واو الجمع.
وتعقبه القرطبي في المفهم والنووي في شرح مسلم بأنه يقتضي أن النهي للجمع بينهما، ولم يقله أحد بل البول منهي عنه أراد الغسل منه أو لا. وأجاب ابن دقيق العيد بأنه لا يلزم أن يدل على الأحكام المتعددة لفظ واحد، فيؤخذ النهي عن الجمع بينهما من هذا الحديث إن ثبتت رواية النصب، ويؤخذ النهي عن الإفراد من حديث آخر انتهى. يعني كحديث مسلم عن جابر مرفوعًا: نهى عن البول في الماء الراكد. وقال القرطبي أبو العباس: لا يحسن النصب لأنه لا ينصب بإضمار أن بعد ثم، وقال أيضًا: إن الجزم ليس بشيء إذ لو أراد ذلك لقال ثم لا يغتسلن لأنه إذ ذاك يكون عطف فعل على فعل لا عطف جملة على جملة، وحينئذ يكون الأصل مشاركة الفعلين في المنهي عنه وتأكيدهما بالنون المشددة، فإن المحل الذي توارد عليه شيء واحد وهو الماء، فعدوله عن ثم لا يغتسلن إلى ثم يغتسل دليل على أنه لم يرد العطف، وإنما جاء يغتسل على التنبيه على مآل الحال، ومعناه: أنه إذا بال فيه قد يحتاج إليه فيمتنع عليه استعماله لما وقع فيه من البول.

وتعقبه الزين العراقي بأنه لا يلزم من عطف النهي على النهي ورود التأكيد فيهما معًا كما هو معروف في العربية، قال: وفي رواية أبي داود لا يغتسل فيه من الجنابة فأتى بأداة النهي ولم يؤكده، وهذا كله محمول على القليل عند أهل العلم على اختلافهم في حدّ القليل، وقد تقدم قول من لا يعتبر إلا التغير وعدمه وهو قوي، لكن التفصيل بالقلتين أقوى لصحة الحديث فيه، وقد نقل عن مالك أنه حمل النهي على التنزيه فيما لا يتغير وهو قول الباقين في الكثير، وقد وقع في رواية ابن عيينة عن أبي الزناد: ثم يغتسل منه بالميم بدل فيه وكلٌّ منهما يفيد حكمًا بالنص وحكمًا بالاستنباط، فلفظة فيه بالفاء تدل على منع الانغماس بالنص وعلى منع التناول بالاستنباط ولفظه منه بالميم

(1/304)


بعكس ذلك وكل ذلك مبني على أن الماء ينجس بملاقاة النجاسة.
فإن قلت: ما وجه دخول نحن الآخرون في الترجمة، وما المناسبة بين أوّل الحديث وآخره؟ أجيب باحتمال أن يكون أبو هريرة سمعه من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع ما بعده في نسق واحد فحدّث بهما جميعًا، وتبعه المؤلف ويحتمل أن يكون همام فعل ذلك وأنه سمعهما من أبي هريرة وإلاَّ فليس في الحديث مناسبة للترجمة. وتعقب بأن البخاري إنما ساق الحديث من طريق الأعرج عن أبي هريرة لا من طريق همام، فالاحتمال الثاني ساقط. وقال في فتح الباري والصواب أن البخاري في الغالب يذكر الشيء كما سمعه جملة لتضمنه موضع الدلالة المطلوبة منه وإن لم يكن باقيه مقصودًا.

ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين حمصي ومدني، وفيه التحديث بالإفراد والجمع والإخبار والسماع، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

69 - باب إِذَا أُلْقِيَ عَلَى ظَهْرِ الْمُصَلِّي قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلاَتُهُ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا رَأَى فِي ثَوْبِهِ دَمًا وَهُوَ يُصَلِّي وَضَعَهُ وَمَضَى فِي صَلاَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَالشَّعْبِيُّ: إِذَا صَلَّى وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ أَوْ لِغَيْرِ الْقِبْلَةِ أَوْ تَيَمَّمَ فَصَلَّى ثُمَّ أَدْرَكَ الْمَاءَ فِي وَقْتِهِ لاَ يُعِيدُ.
هذا (باب) بالتنوين (إذا ألقي) بضم الهمزة مبنيًّا لما لم يسم فاعله (على ظهر المصلي قذر) بالذال المعجمة المفتوحة مرفوع لكونه نائبًا عن الفاعل أي شيء نجس (أو جيفة) بالرفع عطفًا على السابق وهي جثة الميتة المريحة (لم تفسد عليه صلاته) جواب إذا (وكان) ولأبوي ذر والوقت قال وكان ابن (ابن عمر) رضي الله عنهما مما وصله ابن أبي شيبة في مصنفه بإسناد صحيح (إذا رأى في ثوبه دمًا وهو يصلي وضعه) أي ألقاه عنه (ومضى في صلاته) ولم يذكر فيه إعادة الصلاة، ومذهب الشافعي وأحمد يعيدها، وقيدها مالك بالوقت فإن خرج فلا قضاء.
(وقال ابن المسيب) بفتح المثناة المشددة واسمه سعيد (والشعبي) بفتح الشين عامر مما وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة بأسانيد متفرقة (إذا صلّى) المرء (وفي ثوبه دم) لم يعلمه، وللمستملي والسرخسي كان ابن المسيب والشعبي إذا صلّى أي كل واحد منهما، وفي ثوبه دم (أو جنابة) أي أثرها وهو المني وهو مقيد عند القائل بنجاسته بعدم العلم كالدم (أو لغير القبلة) إذا كان باجتهاد ثم أخطأ (أو تيمم) عند عدم الماء (وصلى) وللهروي والأصيلي وابن عساكر فصلى (ثم أدرك الماء في وقته) أي بعد أن فرغ (لا يعيد) الصلاة أما الدم فيعفى عنه إذا كان قليلاً من أجنبيّ ومطلقًا من نفسه وهو مذهب الشافعي. وأما القبلة، فعند الثلاثة والشافعي في القديم لا يعيد، وقال في الجديد: تجب الإعادة، وأما التيمم فعدم وجوب الإعادة بعد الفراغ من الصلاة قول الأئمة الأربعة وأكثر السلف.
240 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاجِدٌ ح. قَالَ وَحَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ عُثْمَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُرَيْحُ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي عِنْدَ الْبَيْتِ وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيُّكُمْ يَجِيءُ بِسَلَى جَزُورِ بَنِي فُلاَنٍ فَيَضَعُهُ عَلَى ظَهْرِ مُحَمَّدٍ إِذَا سَجَدَ. فَانْبَعَثَ

أَشْقَى الْقَوْمِ فَجَاءَ بِهِ، فَنَظَرَ حَتَّى إِذَا سَجَدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَضَعَهُ عَلَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وَأَنَا أَنْظُرُ لاَ أُغْنِي شَيْئًا، لَوْ كَانَ لِي مَنْعَةٌ. قَالَ: فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ وَيُحِيلُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاجِدٌ لاَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، حَتَّى جَاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عَنْ ظَهْرِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَك «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشٍ» ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إِذْ دَعَا عَلَيْهِمْ. قَالَ: وَكَانُوا يُرَوْنَ أَنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ الْبَلَدِ مُسْتَجَابَةٌ. ثُمَّ سَمَّى: «اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ، وَعَلَيْكَ بِعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ» وَعَدَّ السَّابِعَ فَلَمْ نَحْفَظْهُ. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَرْعَى فِي الْقَلِيبِ، قَلِيبِ بَدْرٍ. [الحديث 240 - أطرافه في: 520، 2934، 3185، 3854، 3960].
وبه قال: (حدّثنا عبدان) بن عثمان (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) عثمان بن جبلة بفتح الجيم والموحدة (عن شعبة) بن الحجاج (عن أبي اسحق) عمرو بن عبد الله السبيعي بفتح المهملة وكسر الموحدة الكوفي التابعي (عن عمرو بن ميمون) بفتح العين الكوفي الأودي بفتح الهمزة وبالدال المهملة أدرك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يره وحج مائة حجة وعمرة، وتوفي سنة خمس وسبعين (عن عبد الله) بن مسعود، وفي رواية قال عبد الله: (قال بينا) بغير ميم وأصله بين أشبعت فتحة النون فصارت ألفًا وعامله قال في قوله بعد ذلك إذ قال بعضهم لبعض (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ساجد) بقيته من رواية عبدان المذكورة وحوله ناس من قريش من المشركين ثم ساق الحديث مختصرًا (ح) مهملة لتحويل الإسناد كما مرّ، ولابن عساكر قال أي البخاري.
(وحدّثني) بالإفراد، وللأصيلي، وحدّثنا (أحمد بن عثمان) بن حكيم بفتح الحاء وكسر الكاف الأودي الكوفي المتوفى سنة ستين ومائتين (قال: حدّثنا شريح بن مسلمة) بضم الشين وفتح الراء وسكون المثناة التحتية آخره مهملة وابن مسلمة بفتح الميم واللام وسكون المهملة التنوخي بالمثناة الفوقية والنون المشددة والخاء المعجمة، كذا ضبطه الكرماني فالله أعلم المتوفى سنة اثنتين وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا إبراهيم بن يوسف) السبيعي، المتوفى سنة ثمان وتسعين ومائة (عن أبيه) يوسف بن إسحاق (عن أبي اسحق) عمرو بن عبد الله السابق قريبًا (قال حدّثني) بالإفراد (عمرو بن ميمون أن عبد الله بن مسعود) وللكشميهني عن عبد الله بن مسعود أنه (حدّثه

(1/305)


أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يصلي عند البيت) العتيق (وأبو جهل) عمرو بن هشام المخزومي عدوّ الله (وأصحاب) كائنون (له) أي لأبي جهل وهم السبعة المدعو عليهم بعد كما بينه البزار (جلوس) خبر المبتدأ الذي هو وأبو جهل وما عطف عليه، والجملة موضع نصب على الحال (إذ قال) ولابن عساكر جلوس قال (بعضهم) أي أبو جهل كما في مسلم (لبعض) زاد مسلم في روايته وقد نحرت جزور بالأمس: (أيكم يجيء بسلى جزور بني فلان) بفتح السين المهملة مقصورًا وهو الجلدة التي يكون فيها ولد البهائم كالمشيمة للآدميات، أو يقال فيهن أيضًا. وجزور بفتح الجيم وضم الزاي يقع على الذكر
والأُنثى وجمعه جزر وهو بمعنى المجزور من الإبل أي المنحور، وزاد في رواية إسرائيل هنا فيعمد إلى فرثها ودمها وسلاها (فيضعه على ظهر محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم) عقبة بن أبي معيط بمهملتين مصغرًا أي بعثته نفسه الخبيثة من دونهم فأسرع السير، وإنما كان أشقاهم مع أن فيهم أبا جهل وهو أشد كفرًا منه وإيذاء للرسول عليه الصلاة والسلام لأنهم اشتركوا في الكفر والرضا، وانفرد عقبة بالمباشرة فكان أشقاهم، ولذا قتلوا في الحرب وقتل هو صبرًا، وللكشميهني والسرخسي فانبعث أشقى قوم بالتنكير وفيه مبالغة يعني أشقى كل قوم من أقوام الدنيا ففيه مبالغة ليست في المعرفة، لكن المقام يقتضي التعريف لأن الشقاء هنا بالنسبة إلى أولئك القوم فقط قاله ابن حجر، وتعقبه العيني بأن التنكير أولى لما فيه من المبالغة لأنه يدخل هنا دخولاً ثانيًا بعد الأوّل. قال: وهذا القائل يعني ابن حجر ما أدرك هذه النكتة (فجاء به فنظر حتى إذا سجد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وضعه على ظهره) المقدس (بين كتفيه) قال عبد الله بن مسعود (وأنا أنظر) أي أشاهد تلك الحالة (لا أغني) في كف شرهم، وللكشميهني والمستملي: لا أغير أي لا أغير من فعلهم (شيئًا لو كان) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر لو كانت (لي منعة) بفتح النون وسكونها أي لو كانت لي قوة أو جمع مانع لطرحته عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإنما قال ذلك لأنه لم يكن له بمكة عشيرة لكونه هذليًّا حليفًا وكان حلفاؤه إذ ذاك كفارًا (قال: فجعلوا يضحكون) استهزاء قاتلهم الله (ويحيل) بالحاء المهملة (بعضهم على بعض) أي ينسب بعضهم فعل ذلك إلى بعض بالإشارة تهكّمًا، ولمسلم ويميل بعضهم على بعض فالميم أي من كثرة الضحك (ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ساجد لا يرفع رأسه حتى جاءته) عليه الصلاة والسلام، ولأبي ذر جاءت (فاطمة) ابنته عليه الصلاة والسلام رضي الله عنها سيدة نساء هذه الأمة ومناقبها جمة، وتوفيت فيما حكاه ابن عبد البر بعده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بستة أشهر إلا ليلتين وذلك يوم الثلاثاء لثلاث ليالٍ خلت من شهر رمضان، وغسلها عليّ على الصحيح ودفنها ليلاً بوصيتها له في ذلك لها في البخاري حديث واحد زاد إسرائيل وهي جويرية فأقبلت تسعى وثبت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ساجدًا (فطرحت) ما وضعه أشقى القوم (عن ظهره) المقدس، ولغير الكشميهني فطرحته بالضمير المنصوب، زاد إسرائيل فأقبلت عليهم تسبّهم، وزاد البزار فلم يردّوا عليها شيئًا، (فرفع) عليه الصلاة والسلام (رأسه) من السجود، واستدل به على أن من حدث له في صلاته ما يمنع انعقادها ابتداء لا تبطل صلاته ولو تمادى، وعلى هذا ينزل كلام المؤلف: فلو كانت نجاسة وأزالها في الحال ولا أثر لها صحّت اتفاقًا، وأجاب الخطابي بأنه لم يكن إذ ذاك حكم بنجاسة ما ألقي عليه كالخمر فإنهم كانوا يلاقون بثيابهم وأبدانهم الخمر قبل نزول التحريم انتهى. ودلالته على طهارة فرث ما أكل لحمه ضعيفة لأنه لا ينفك عن دم بل صرّح به في رواية إسرائيل ولأنه ذبيحة عبدة الأوثان.
وأجاب النووي بأنه عليه الصلاة والسلام لم يعلم ما وضع على ظهره فاستمر مستصحبًا للطهارة، وما ندري هل كانت الصلاة واجبة حتى تعاد على الصحيح أو لا فلا تعاد، ولو وجبت

الإعادة فالوقت موسع، وتعقب بأنه عليه الصلاة والسلام أحس

(1/306)


بما ألقي على ظهره من كون فاطمة ذهبت به قبل أن يرفع رأسه.
وأجيب: بأنه لا يلزم من إزالة فاطمة إياه عن ظهره إحساسه عليه الصلاة والسلام به لأنه كان إذا دخل في الصلاة استغرق باشتغاله بالله، ولئن سلمنا إحساسه به فقد يحتمل أنه لم يتحقق نجاسته لأن شأنه أعظم من أن يمضي في صلاته وبه نجاسة انتهى.
ولابن عساكر فرفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأسه (ثم قال) ولابن عساكر وقال: ووقع عند البزار من
حديث الأجلح فرفع رأسه كما كان يرفعه عند تمام سجوده فلما قضى صلاته قال: (اللهم عليك بقريش) أي بإهلاك كفّارهم أو من سمى منهم بعد فهو عامّ أريد به الخصوص (ثلاث مرات) كرره إسرائيل في روايته لفظًا لا عددًا، وزاد مسلم في رواية زكريا وكان إذا دعا دعا ثلاثًا وإذا سأل سأل ثلاثًا (فشق عليهم إذ دعا عليهم) في مسلم فلما سمعوا صوته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذهب عنهم الضحك وخافوا دعوته. (قال) ابن مسعود. (وكانوا يرون) بضم أوّله على المشهور وبفتحه قاله البرماوي، وقال الحافظ ابن حجر بالفتح في روايتنا من الرأي أي يعتقدون وفي غيرها بالضم أي يظنون (أن الدعوة) ولابن عساكر يرون الدعوة (في ذلك البلد) الحرام (مستجابة) أي مجابة، يقال: استجاب وأجاب بمعنى واحد، وما كان اعتقادهم إجابة الدعوة إلا من جهة المكان لا من خصوص دعوة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولعل ذلك يكون مما بقي عندهم من شريعة الخليل عليه الصلاة والسلام (ثم سمى) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي عين في دعائه وفصل ما أجمل قبل (فقال: اللهمّ عليك بأبي جهل) اسمه عمرو بن هشام ويعرف بابن الحنظلية فرعون هذه الأمة وكان أحول مأبونًا، (وعليك بعتبة بن ربيعة) بفتح الراء في الثاني وضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية في الأول (وشيبة بن ربيعة) أخي عتبة، (والوليد بن عتبة) بفتح الواو وكسر اللام وعتبة بالمثناة الفوقية وفي مسلم بالقاف، واتفقوا على أنه وهم من ابن سفيان راوي مسلم، (وأمية بن خلف) في رواية شعبة أو أُبيّ بن خلف شك شعبة، (وعقبة) بالقاف (ابن أبي معيط) بضم الميم وفتح المهملة وسكون المثناة التحتية (وعد) النبي -صلى لله عليه وسلم- أو عبد الله بن مسعود أو عمرو بن ميمون (السابع فلم نحفظه) بنون أي نحن أو بياء فاعله ابن مسعود أو عمرو بن ميمون، نعم ذكره المؤلف في موضع آخر عمارة بن الوليد بن الغيرة وذكره البرقاني وغيره، ووقع في رواية الطيالسي عن شعبة في هذا الحديث أن ابن مسعود قال: ولم أره دعا عليهم إلا يومئذ، وإنما استحقوا الدعاء حينئذ لما قدموا عليه من التهكم حال عبادته لربه وإلاّ فحلمه عمن آذاه لا يخفى.
(قال) ابن مسعود: (فوالذي نفسي بيده) ولابن عساكر في يده أي قدرته (لقد رأيت الذين) ولأبي ذر وابن عساكر الذي (عدّ) بحذف المفعول أي عدّهم (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صرعى) جمع صريع بمعنى مصروع مفعول ثان لرأيت (في القليب) بفتح القاف وكسر اللام البشر قبل أن تطوى أو العادية القديمة (قليب بدر) بالجر بدل من قوله في القليب، ويجوز الرفع بتقدير هو والنصب بأعني، لكن الرواية بالجر وإنما ألقوا في القليب تحقيرًا لشأنهم ولئلاّ يتأذى الناس برائحتهم لا أنه دفن لأن الحربي

لا يجب دفنه. وكان القاتل لأبي جهل معاذ بن عمرو بن الجموح ومعاذ بن عفراء كما في الصحيحين، ومرّ عليه ابن مسعود وهو صريع فاحتزّ رأسه وأتى به رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأما عتبة بن ربيعة فقتله حمزة أو علي، وأما شيبة بن ربيعة فقتله حمزة أيضًا، وأما الوليد بن عتبة بالتاء فقتله عبيدة بضم العين ابن الحرث أو علي أو حمزة أو اشتركًا، وأما أمية بن خلف فعند ابن عقبة قتله رجل من الأنصار من بني مازن، وعند ابن إسحاق معاذ بن عفراء وخارجة بن زيد وخبيب بن أساف اشتركوا في قتله. وفي السير من حديث عبد الرحمن بن عوف أن بلالاً خرج إليه ومعه نفرن من الأنصار فقتلوه وكان بدينًا فانتفخ فألقوا عليه التراب حتى غيّبه، وأما عقبة بن أبي معيط فقتله علي أو عاصم بن ثابت، والصحيح أن رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قتله بعرق الظبية، وأما عمارة بن الوليد فتعرض لامرأة النجاشي فأمر ساحرًا فنفخ في

(1/307)


إحليله عقوبة له فتوحش وصار مع ابهائم إلى أن مات في خلافة عمر بأرض الحبشة.
ورواة هذا الحديث العشرة كوفيون سوى عبدان وأبيه فإنهما مروزيان وفيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالإفراد والعنعنة، وقرن رواية عبدان برواية أحمد بن عثمان مع أن اللفظ لرواية أحمد تقوية لروايته برواية عبدان، لأن في رواية إبراهيم بن يوسف مقالاً، وفي رواية أحمد التصريح بالحديث لأبي إسحاق من عمرو بن ميمون ولعمرو من عبد الله بن مسعود، وأخرجه المؤلف في الجزية أيضًا وفي الشعب وفي الصلاة والجهاد والمغازي. وأخرجه مسلم في المغازي والنسائي في الطهارة والسير.

70 - باب الْبُزَاقِ وَالْمُخَاطِ وَنَحْوِهِ فِي الثَّوْبِ
قَالَ عُرْوَةُ عَنِ الْمِسْوَرِ وَمَرْوَانَ: خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ: وَمَا تَنَخَّمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُخَامَةً إِلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ.
(باب البزاق) بالزاي للأكثر وبالصاد. قال ابن حجر: وهي روايتنا وبالسين وضعفت والباء مضمومة في الثلاث وهو ما يسيل من الفم، (والمخاط) بضم الميم والجر عطفًا على المضاف إليه وهو ما يسيل من الأنف (ونحوه) بالجر أيضًا عطفًا على سابقه أي ونحو كلٍّ منهما كالعرق الكائن (في الثوب) أي والبدن ونحوه هل يضر أم لا. (وقال عروة) ابن الزبير التابعي فقيه المدينة مما وصله المؤلف في قصة الحديبية في الحديث الآتي إن شاء الله تعالى في الشروط (عن المسور) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو وآخره راء ابن مخرمة بفتح الميم وسكون المعجمة الصحابي (ومروان) بن الحكم بفتح الحاء والكاف الأموي، ولد في حياته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يسمع منه لأنه خرج طفلاً مع أبيه الحكم إلى الطائف لما نفاه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليها لأنه كان يفشي سره، فكان فيه حتى استخلف عثمان فردّه إلى المدينة وكان إسلام الحكم يوم الفتح، وحينئذ فيكون حديث مروان مرسل صحابي وهو حجة لا سيما وهو مع رواية المسور تقوية لها وتأكيد (خرج النبي) ولأبوي ذر والوقت رسول

الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زمن) وللأصيلي في زمن (حديبية) وللهروي والأصيلي وابن عساكر الحديبية وهي بتخفيف المثناة التحتية الثانية عند الشافعي مشددة عند أكثر المحدثين قرية على مرحلة من مكة سميت ببئر هناك أو شجرة حدباء كانت تحتها بيعة الرضوان (فذكر) حذيفة (الحديث) الآتي إن شاء الله تعالى مسندًا في قصة الحديبية وفيه، (وما تنخم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نخامة) أي ما رمى بنخامة زمن الحديبية أو مطلقًا (إلا وقعت في كف رجل منهم) أي ما تنخم في حال من الأحوال إلا حال وقوعها في كف رجل منهم، والنخامة بضم النون النخاعة كما في المجمل والصحاح أو ما يخرج من الخيشوم وقال النووي ما يخرج من الفم بخلاف النخاعة فإنها تخرج من الحلق وقيل بالميم من الصدر والبلغم من الدماغ (فدلك بها) أي بالنخامة (وجهه وجلده) تبركًا به عليه الصلاة والسلام وتعظيمًا وتوقيرًا، واستدل به على طهارة الريق ونحوه من فم طاهر غير متنجس، وحينئذ فإذا وقع ذلك في الماء لا ينجسه ويتوضأ به.
241 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: بَزَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ثَوْبِهِ طَوَّلَهُ ابْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [الحديث 241 - أطرافه في: 405، 412، 413، 417، 531، 532، 822، 1214].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي بكسر الفاء وسكون الراء (قال: حدّثنا سفيان) أي الثوري كما قاله الدارقطني (عن حميد) بضم الحاء أي الطويل (عن أنس) رضي الله عنه زاد الأصيلي ابن مالك (قال):
(بزق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالزاي (في ثوبه) عليه الصلاة والسلام ولأبي نعيم وهو في الصلاة (طوّله)
أي هذا الحديث أي ذكره مطوّلاً في باب حك البزاق باليد من المسجد ولأبوي ذر والوقت والأصيلي. قال أبو عبد الله طوّله (ابن أبي مريم) شيخ المؤلف سعيد بن الحكم المصري، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين (قال: أخبرنا يحيى بن أيوب) الغافقي المصري مولى عمر بن مروان، المتوفى سنة ثمان وستين ومائة (قال: حدّثني) بالإفراد (حميد) الطويل (قال: سمعت أنسًا عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يعني مثل الحديث المذكور وهو مفعول سمعت الثاني حذف للعلم به وصرح بسماع حميد من أنس، فظهر أنه لم يدلس فيه خلافًا لمن زعمه.
ورواة هذا الحديث ما بين مصري وبصري ومكي، وفيه التحديث بالجمع والإفراد والإخبار والعنعنة والسماع.

71 - باب لاَ يَجُوزُ الْوُضُوءُ بِالنَّبِيذِ وَلاَ الْمُسْكِرِ
وَكَرِهَهُ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ وَقَالَ عَطَاءٌ: التَّيَمُّمُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ الْوُضُوءِ بِالنَّبِيذِ وَاللَّبَنِ.

هذا (باب) بالتنوين (لا يجوز الوضوء بالنبيذ) بالمعجمة وهو الماء الذي ينبذ فيه نحو التمر لتخرج حلاوته إلى الماء فعيل بمعنى مفعول أي مطروح (ولا المسكر) عطف على

(1/308)


السابق وإنما أفرد النبيذ لأنه محل الخلاف في التوضؤ، والمراد بالنبيذ ما لم يبلغ إلى حدّ الإسكار ولابن عساكر وأبي الوقت ولا بالمسكر (وكرهه) أي التوضؤ بالنبيذ (الحسن) البصري فيما رواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق من طريقين عنه قال: لا يتوضأ بنبيذ. وروى أبو عبيدة من طريق أخرى عنه أنه لا بأس به، وحينئذ فكراهته عنده للتنزيه (و) كذا كرهه (أبو العالية) رفيع بن مهران الرياحي بكسر الراء ثم المثناة التحتية فيما رواه أبو داود في سننه بسند جيد عن أبي خلدة فقال: قلت لأبي العالية رجل ليس عنده ماء وعنده نبيذ أيغتسل به من الجنابة، قال: لا وهو عند ابن أبي شيبة بلفظ أنه كره أن يغتسل بالنبيذ.
(وقال عطاء) أي ابن أبي رباح (التيمم أحب إليّ من الوضوء بالنبيذ) بالمعجمة (واللبن) روى أبو داود من طريق ابن جرير عن عطاء أنه كره الوضوء بالنبيذ واللبن. وقال: إن التيمم أعجب إليّ منه، وجوّز الأوزاعي الوضوء بسائر الأنبذة، وأبو حنيفة بنبيذ التمر خاصة خارج المصر والقرية عند فقد الماء بشرط أن يكون حلوًا رقيقًا سائلاً على الأعضاء كالماء. وقال محمد: يجمع بينه وبين التيمم، وقال أبو يوسف كالجمهور لا يتوضأ به بحال، وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإليه رجع أبو حنيفة كما قاله قاضي خان، لكن في المفيد من كتبهم إذا ألقي في الماء تمرات فحلا ولم يزل عنه اسم الماء جاز التوضؤ به بلا خلاف يعني عندهم، واحتجوا بحديث ابن مسعود ليلة الجنّ إذ قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أمعك ماء"؟ فقال: نبيذ. فقال: "أصبت شراب وطهور" أو قال: "ثمرة طيبة وماء طهور" ورواه أبو داود والترمذي فتوضأ به. وأجيب بأن علماء السلف أطبقوا على تضعيف هذا الحديث. ولئن سلمنا
صحته فهو منسوخ لأن ذلك كان بمكة ونزول قوله تعالى: {فتيمموا} كان بالمدينة بلا خلاف عند فقد عائشة رضي الله تعالى عنها العقد. وأجيب: بأن الطبراني في الكبير والدارقطني رويا أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بأعلى مكة فهمز له بعقبه فأنبع الماء وعلمه الوضوء. وقال السهيلي الوضوء مكي ولكنه مدني التلاوة، وإنما قالت عائشة آية التيمم ولم تقل آية الوضوء لأن الوضوء كان مفروضًا قبل غير أنه لم يكن قرآنًا يُتلى حتى أنزلت آية التيمم، وحكى عياض عن أبي الجهم أن الوضوء كان سُنّة حتى نزل القرآن بالمدينة انتهى. أو هو محمول على ما ألقيت فيه تمرات يابسة لم تغير له وصفًا، وأما اللبن الخالص فلا يجوز التوضؤ به إجماعًا فإن خال ماء فيجوز عند الحنفية.
242 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ». [الحديث 242 - طرفاه في: 5585، 5586].

وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني بكسر الدال (قال: حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: حدّثنا الزهري) محمد بن مسلم وللأصيلي عن الزهري (عن أبي سلمة) بفتح اللام عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف (عن عائشة) رضي الله عنها (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال كل شراب أسكر) كثيره (فهو حرام) قليله وكثيره وحدّ شاربه المكلف قليلاً كان أو كثيرًا من عنب أو تمر أو حنطة أو لبن أو غيرها نيئًا كان أو مطبوخًا وقال أبو حنيفة. نقيع التمر والزبيب إذا اشتد كان حرامًا قليله وكثيره ويسمى نقيعًا لا خميرًا، فإن أسكر ففي شربه الحد وهو نجس فإن طبخا أدنى طبخ حلّ منهما ما غلب على ظن الشارب منه أنه لا يسكر من غير لهو ولا طرب، فإن اشتدّ حرم الشرب منهما ولم يتغير في طبخهما أن يذهب ثلثاهما، وأما نبيذ الحنطة والذرة والشعير والأرز والعسل فإنه حلال عنده نقيعًا أو مطبوخًا، وإنما يحرم المسكر ويحدّ فيه، واستدل بحديث ابن عباس مرفوعًا وموقوفًا وإنما حرّمت الخمر لعينها والمسكر من كل شراب، فهذا يدل على أن الخمر قليلها وكثيرها أسكرت أم لا حرام، وعلى أن غيرها من الأشربة إنما يحرم عند الإسكار، ويأتي إن شاء الله تعالى مزيدًا لهذا في بابه بحول الله وقوّته. فإن قلت: ما وجه إدخال هذا الحديث في هذا الباب؟ أجيب: بأن المسكر حرام شربه وما لا يحل شربه لا يحل التوضؤ به اتفاقًا، وبأن النبيذ خرج عن اسم الماء لغة وشرعًا، وحينئذ فلا يتوضأ يه.
ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين مدني ومديني وكوفي وفيه رواية تابعي عن تابعي والتحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الأشربة، وكذا مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

(1/309)


72 - باب غَسْلِ الْمَرْأَةِ أَبَاهَا الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: امْسَحُوا عَلَى رِجْلِي فَإِنَّهَا مَرِيضَةٌ.
(باب غسل المرأة أباهما الدم) المنصوب الأوّل وهو أباها مفعول بالمصدر المضاف لفاعله والدم بدل اشتمال من أباها أو بتقدير أعني (عن وجهه) وللكشميهني من وجهه ومن وعن بمعنى قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] أو يكون في رواية عن ضمن الغسل معنى الإزالة، قال في الفتح: ولابن عساكر غسل المرأة الدم عن وجه أبيها.
(وقال أبو العالية) رفيع بضم الراء وفتح الفاء وسكون المثناة التحتية بعدما وضؤوه وبقيت إحدى رجليه وهو وجع مما وصله عبد الرزاق (امسحوا على رجلي فإنها مريضة) من جمرة.
فإن قلت: ما المطابقة بين هذا وبين الترجمة؟ أجيب: من حيث جواز الاستعانة في الوضوء كهي في إزالة النجاسة.
243 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ سَمِعَ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَسَأَلَهُ النَّاسُ -وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَحَدٌ- بِأَىِّ شَىْءٍ دُووِيَ جُرْحُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي: كَانَ عَلِيٌّ يَجِيءُ بِتُرْسِهِ فِيهِ مَاءٌ، وَفَاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْهِهِ الدَّمَ. فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأُحْرِقَ، فَحُشِيَ بِهِ جُرْحُهُ. [الحديث 243 - أطرافه في: 2903، 2911، 3037، 4075، 5248، 5722].
وبه قال: (حدّثنا محمد) يعني ابن سلام كما لابن عساكر، وفي رواية البيكندي كما في بعض الأصول (قال: أخبرنا) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي حدّثنا (سفيان بن عيينة عن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي المكسورة سلمة بن دينار الأعرج المخزومي المدني الزاهد، المتوفى سنة خمس وثلاثين ومائة أنه (سمع سهل بن سعد الساعدي) الأنصاري المدني رضي الله عنه، المتوفى سنة إحدى وتسعين وهو ابن مائة سنة له في البخاري أحد وأربعون حديثًا (وسأله الناس) جملة من فعل ومفعول وفاعل محلها النصب على الحال (وما بيني وبينه أحد) يعني عند السؤال ليكون أدل على صحة سماعه منه لقربه منه والجملة حالية أيضًا إما من مفعول سأل فهما متداخلتان واما من مفعول سمع فهما مترادفتان أو الجملة معترضة لا محل لها.
(بأي شيء) الجار متعلق بسأل والمجرور للاستفهام (دووي) بواوين الأولى ساكنة والثانية مكسورة مبني للمفعول من المداواة وربما حذف في بعض الأصول إحدى الواوين كداود في الخط (جرح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الذي أصابه في غزوة أُحُد لما شجّ رأسه وجرح وجهه؟ (فقال) سهل (ما بقي أحد) من الناس (أعلم به منّي) برفع أعلم صفة لأحد وبالنصب على الحال: وإنما قال سهل ذلك لأنه كان آخر من بقي من الصحابة بالمدينة كما وقع عند المؤلف في النكاح (كان علي) أي ابن أبي طالب (يجيء بترسه فيه ماء وفاطمة) رضي الله عنها (تغسل عن وجهه) الشريف (الدم فأخذ حصير فأحرق فحشي به) بضم الهمزة والحاء فيهما على البناء للمفعول والضمير لما أحرق (جرحه) بالرفع نائب عن الفاعل، وللمؤلف في الطب: فلما رأت فاطمة الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصرها فأحرقتها وألصقتها على الجرح فرقأ الدم، وإنما فعلت ذلك لأن في رماد الحصير استمساك الدم.
وفيه إباحة التداوي وأنه لا ينافي التوكل والاستعانة في المداواة وجواز وقوع الابتلاء بالأنبياء ليعظم أجرهم، وليتحقق الناس أنهم مخلوقون له فلا يفتتنون بما ظهر على أيديهم من المعجزات كما افتتن النصارى بعيسى.
ورواة هذا الحديث الأربعة ما بين مكيّ ومدني وفيه التحديث والعنعنة والسماع، وفي رواية الأخبار في موضع التحديث، وأخرجه المؤلف في الجهاد والنكاح، ومسلم في المغازي، والترمذي وابن ماجة في الطب، وقال الترمذي: حسن صحيح.

73 - باب السِّوَاكِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِتُّ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَنَّ.
(باب السواك) بكسر السين وهو يطلق على الفعل والآلة وهو مذكر، وقيل: مؤنث وجمع السواك سوك ككتاب وكتب، ويجوز بالهمزة كما هو القياس في كل واو مضمومة ضمة لازمة كوقتت وأقتت وهو مشتق من ساك إذا دلك أو من جاءت الإبل تتساوك أي تتمايل هزالاً وهو من سنن الوضوء، فلذا ذكره المؤلف في بابه أو أن باب الطهارة يشمل الإزالة والسواك مطهرة للفم مرضاة لرب.

(وقال ابن عباس) رضي الله عنهما مما وصله المؤلف في تفسير آل عمران مطوّلاً (بتّ عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاستن) من الاستنان وهو دلك الأسنان وحكمها بما يجلوها مأخوذ من السنّ بفتح السين وهو إمرار ما فيه خشونة على آخر ليذهبها، وهذا التعليق ساقط من رواية المستملي.
244 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ غَيْلاَنَ بْنِ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَجَدْتُهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ يَقُولُ: «أُعْ، أُعْ»، وَالسِّوَاكُ فِي فِيهِ كَأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ.
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) بضم النون محمد بن الفضل ويشهر بعارم (قال: حدّثنا حماد بن زيد) بن درهم (عن غيلان) بفتح المعجمة (ابن جرير) بفتح الجيم وبالراء المكسورة المكررة المعولي بكسر

(1/310)


الميم وبفتحها وسكون العين المهملة وفتح الواو، المتوفى سنة تسع وعشرين ومائة (عن أبي بردة) بضم الموحدة عامر بن أبي موسى (عن أبيه) أبي موسى عبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنه (قال):
(أتيت النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوجدته يستن بسواك) كان (بيده) جملة في موضع نصب مفعول ثانٍ لوجدته
حال كونه (يقول) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مجازًا (أع أع) بضم الهمزة والعين مهملة موضعه نصب على أنه مقول القول، وذكر ابن التين أن في رواية غير أبي ذر بفتح الهمزة، وفي هامش فرع اليونينية ما نصه عند الحافظ أبي القاسم أي ابن عساكر في أصله: أغ أغ بغين معجمة قال وفي نسخة العين المهملة اهـ.
ورواه ابن خزيمة والنسائي عن أحمد بن عبدة عن حماد بتقديم العين المهملة على الهمزة، وكذا أخرجه البيهقي من طريق إسماعيل القاضي عن عارم شيخ المؤلف فيه، وفي صحيح الجوزقي إخ إخ بكسر الهمزة وبالخاء المعجمة، وإنما اختلف الرواة الثقات لتقارب مخارج هذه الأحرف وكلها ترجع إلى حكاية صوته عليه الصلاة والسلام إذ جعل السواك على طرف لسانه كما عند مسلم، والمراد طرفه الداخل كما عند أحمد ليستن إلى فوق، ولذا قال هنا: (والسواك في فيه كأنه يتهوع) أي يتقيأ يقال هاع يهوع إذا قاء بلا تكلف يعني أن له صوتًا كصوت المتقيئ على سبيل البالغة، ويفهم منه السواك

على اللسان طولاً، أما الأسنان فالأحب أن يكون عرضًا لحديث "إذا استكتم فاستاكوا عرضًا" رواه أبو داود في مراسيله، والمراد عرض الأسنان قال في الروضة: كره جماعات من أصحابنا الاستياك طولاً أي لأنه يجرح اللثة وهو كما مرّ من سنن الوضوء لحديث "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء" أي أمر إيجاب. رواه ابن خزيمة وغيره، وكذا من سنن الصلاة لحديث الشيخين "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة" أي أمر إيجاب ويستحب عند قراءة القرآن والاستيقاظ من النوم وتغير الفم، وفي كل حال إلا للصائم بعد الزوال فيكره، وقال ابن عباس: فيه عشر خصال يذهب الحفر ويجلو البصر ويشد اللثة ويطيب الفم وينقي البلغم وتفرح له الملائكة ويرضي الرب تعالى ويوافق السُّنّة ويزيد في حسنات الصلاة ويصح الجسم، وزاد الترمذي الحكيم: ويزيد الحافظ حفظًا وينبت الشعر ويصفي اللون وليبلع ريقه في أول استياكه فإنه ينفع من الجذام والبرص وكل داء سوى الموت ولا يبلغ بعده شيئًا فإنه يورث النسيان. ورواة الحديث ما بين بصري وكوفي وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في الطهارة.
245 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ بِالسِّوَاكِ. [الحديث 245 - طرفاه في: 889، 1136].
وبه قال: (حدّثنا عثمان) زاد الأصيلي وابن عساكر وأبو الوقت ابن أبي شيبة وهو أخو أبي بكر بن أبي شيبة (قال: حدّثنا جرير) أي ابن عبد الحميد (عن منصور) أي ابن المعتمر (عن أبي وائل) بالهمزة شقيق الحضرمي (عن حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه (قال):
(كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قام من الليل يشوص) بالشين المعجمة والصاد المهملة أي يدلك أو يغسل أو يحك (فاه بالسواك) لأن النوم يقتضي تغيير الفم لما يتصاعد إليه من أبخرة المعدة، والسواك آلة تنظيفه فيستحب عند مقتضاه. وقوله: إذا قام ظاهره يقتضي تعليق الحكم بمجرد القيام ولفظة كان تدل على المداومة والاستمرار.
ورواة هذا الحديث الخمسة كوفيون إلا حذيفة فعراقي، وفيه التحديث والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الصلاة وفي فضل قيام الليل، ومسلم وأبو داود وابن ماجة في الطهارة والنسائي فيها وفي الطهارة.

74 - باب دَفْعِ السِّوَاكِ إِلَى الأَكْبَرِ
(باب دفع السواك إلى الأكبر) سنًا.
246 - وَقَالَ عَفَّانُ: حَدَّثَنَا صَخْرُ بْنُ جُوَيْرِيَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَرَانِي أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكٍ، فَجَاءَنِي رَجُلاَنِ أَحَدُهُمَا أَكْبَرُ مِنَ الآخَرِ، فَنَاوَلْتُ السِّوَاكَ الأَصْغَرَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ لِي:

كَبِّرْ. فَدَفَعْتُهُ إِلَى الأَكْبَرِ مِنْهُمَا». قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: اخْتَصَرَهُ نُعَيْمٌ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ عَنْ أُسَامَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
(وقال عفان) بن مسلم الصفارَ البصري الأنصاري، المتوفى ببغداد سنة عشرين ومائتين مما وصله أبو عوانة وأبو نعيم والبيهقي (حدّثنا صخر بن جويرية) بالجيم المضمومة تصغير جارية البصري التميمي (عن نافع) مولى ابن عمر القرشي العدوي (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أنّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(أراني أتسوّك بسواك) بفتح همزة أراني للأصيلي أي أرى نفسي فالفاعل والمفعول المتكلم، وهذا من خصائص أفعال القلوب وبضمها لغيره أي أظن نفسي كذا ضبطها البرماوي كالكرماني ووهمه

(1/311)


ابن حجر، وقال العيني: ليس بوهم والعبارتان مستعملتان وللمستملي رآني بتقديم الراء. قالوا: وهو خطأ لأنه إنما أخبر عما رآه في النوم (فجاءني رجلان، أحدهما أكبر من الآخر فناولت) أي أعطيت (السواك الأصغر منهما فقيل لي) القائل له جبريل (كبر) أي قدم الأكبر في السن (فدفعته إلى الأكبر منهما قال أبو عبد الله) أي المؤلف: (اختصره) أي المتن (نعيم) هو ابن حماد (عن ابن المبارك) عبد الله (عن أسامة) بن زيد الليثي المدني (عن نافع عن ابن عمر) وصله الطبراني في الأوسط عن بكير بن سهل عنه بلفظ: أمرني جبريل عليه الصلاة والسلام أن أكبر، ويستفاد منه تقديم ذي السن في السواك والطعام والشراب والمشي والركوب والكلام، نعم إذا ترتب القوم في الجلوس فالسُّنّة تقديم الأيمن فالأيمن كما نبّه عليه المهلب.

75 - باب فَضْلِ مَنْ بَاتَ عَلَى الْوُضُوءِ
(باب فضل من بات على الوضوء) بالألف واللام، ولأبوَي ذر والوقت والأصيلي وضوء بالتنكير.
247 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الأَيْمَنِ، ثُمَّ قُلِ: اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لاَ مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إِلاَّ إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ. فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ. وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ». قَالَ: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا بَلَغْتُ «اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ». قُلْتُ: وَرَسُولِكَ. قَالَ «لاَ. وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ». [الحديث 247 - أطرافه في: 6311، 6313، 6315، 7488].

وبه قال (حدّثنا محمد بن مقاتل) بضم الميم المروزي (قال: أخبرنا) وللأصيلي وابن عساكر حدّثنا (عبد الله) بن المبارك (قال: أخبرنا سفيان) الثوري (عن منصور) هو ابن المعتمر، وقيل سفيان هو ابن عيينة لأن ابن المبارك يروي عنهما وهما عن منصور، ولكن الثوري أثبت الناس في منصور فترجح إرادته (عن سعد بن عبيدة) بضم العين في الثاني وسكونها في الأوّل أبي حمزة بالزاي الكوفي، المتوفى في ولاية ابن هبيرة على الكوفة (عن البراء بن عازب) رضي الله عنه (قال): (قال لي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا أتيت) أي إذا أردت أن تأتي (مضجعك) بفتح الجيم من باب منع يمنع. وفي الفرع بكسرها (فتوضأ وضوءك للصلاة) أي إن كنت على غير وضوء والفاء جواب الشرط، وإنما ندب الوضوء عند النوم لأنه قد تقبض روحه في نومه فيكون قد ختم عمله بالوضوء، وليكون أصدق لرؤياه وأبعد عن تلاعب الشيطان به في منامه، وليس ذكر الوضوء في هذا الحديث عند الشيخين إلا في هذه الرواية، (ثم اضطجع على شقك الأيمن) لأنه يمنع الاستغراق في النوم لقلق القلب فيسرع الإفاقة ليتهجد أو ليذكر الله تعالى بخلاف الاضطجاع على الشق الأيسر، (ثم قل: اللهم أسلمت وجهي) ذاتي (إليك) طائعة لحكمك فأنا منقاد لك في أوامرك ونواهيك، وفي رواية أسلمت نفسي ومعنى أسلمت استسلمت أي سلمتها لك إذ لا قدرة لي ولا تدبير على جلب نفع ولا دفع ضر، فأمرها مفوّض إليك تفعل بها ما تريد واستسلمت لما تفعل فلا اعتراض عليك فيه أو معنى الوجه القصد والعمل الصالح، ولذا جاء في رواية أسلمت نفسي إليك ووجّهت وجهي إليك فجمع بينهما فدلّ على تغايرهما، (وفوّضت) من التفويض أي رددت (أمري إليك) وبرئت من الحول والقوّة إلا بك فاكفني همه (وألجأت) أي أسندت (ظهري إليك) أي اعتمدت عليك كما يعتمد الإنسان بظهره إلى ما يسنده إليه (رغبة) أي طمعًا في ثوابك (ورهبة إليك) الجار والمجرور متعلق برغبة ورهبة، وإن تعدى الثاني بمن لكنه أجري مجرى رغب تغليبًا كقوله:
ورأيت بعلك في الوغى ... متقلدًا سيفًا ورمحا
والرمح لا يتقلد، ونحوه:
علفتها تبنًا وماءً باردا
أي خوفًا من عقابك، وهما منصوبان على المفعول له على طريق اللف والنشر أي فوّضت أمري إليك رغبة وألجأت ظهري إليك رهبة من المكاره والشدائد لأنه (لا ملجأ ولا منجا منك إلاّ إليك) بالهمزة في الأوّل، وربما خفّف وتركه في الثاني كعصا، ويجوز هنا تنوينه إن قدر منصوبًا لأن هذا التركيب مثل لا حول ولا قوّة إلا بالله، فتجري فيه الأوجه الخمسة المشهورة وهي فتح الأوّل والثاني، وفتح الأوّل ونصب الثاني، وفتح الأوْل ورفع الثاني، ورفع الأوّل وفتح الثاني، ورفع الأوّل والثاني، ومع التنوين تسقط الألف. وقوله: منك إن قدر ملجأ ومنجا مصدرين فيتنازعان فيه وإن كانا مكانين فلا، والتقدير لا ملجأ منك إلى أحد إلا إليك ولا منجا إلا إليك. (اللهم آمنت) أي

صدقت (بكتابك) القرآن (الذي أنزلت) أي أنزلته

(1/312)


على رسولك -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والإيمان بالقرآن يتضمن الإيمان بجميع كتب الله المنزلة، ويحتمل أن يعم الكل لإضافته إلى الضمير لأن المعرّف باللام في احتماله الجنس والاستغراق والعهد بل جميع العارف كذلك. قال البيضاوي كالزمخشري في الكشاف في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] وتعريف الموصول إما للعهد، فالمراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب وأبي جهل والوليد بن المغيرة وأحبار اليهود أو والجنس متناولاً من صمم على الكفر وغيرهم فخصّ منهم غير المصرين بما أسند إليه (و) آمنت (بنبيك الذي أرسلت) بحذف ضمير المفعول أي أرسلته، (فإن متّ من ليلتك فأنت على الفطرة) الإسلامية أو الدين القويم ملّة إبراهيم (واجعلهنّ) أي هذه الكلمات (آخر ما تتكلم به) ولابن عساكر تكلم به بحذف إحدى التاءين وللكشميهني من آخر ما تتكلم به، ولا يمتنع أن يقول بعدهنّ شيئًا مما شرع من الذكر عند النوم والفقهاء لا يعدّون الذكر كلامًا في باب الإيمان وإن كان هو كلامًا في اللغة.
(قال) البراء: (فردّدتها) بتشديد الأولى وتسكين الثانية أي الكلمات (على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لأحفظهنّ، (فلما بلغت اللهمّ آمنت بكتابك الذي أنزلت قلت ورسولك) زاد الأصيلي الذي أرسلت (قال) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لا) أي لا تقل ورسولك بل قل (ونبيك الذي أرسلت) وجه المنع لأنه لو قال ورسولك لكان تكرارًا مع قوله أرسلت، فلما كان نبيًّا قبل أن يرسل صرّح بالنبوّة للجمع بينها وبين الرسالة، وإن كان وصف الرسالة مستلزمًا وصف النبوّة مع ما فيه من تعديد النعم وتعظيم المنّة في الحالين، أو احترز به ممن أرسل من غير نبوّة كجبريل وغيره من الملائكة لأنهم رسل لا أنبياء، فلعله أراد تخليص الكلام من اللبس، أو لأن لفظ النبي أمدح من لفظ الرسول لأنه مشترك في الإطلاق على كل من أرسل بخلاف لفظ النبي فإنه لا اشتراك فيه عرفًا، وعلى هذا فقول من قال كل رسول نبي من غير عكس لا يصح إطلاقه قاله الحافظ ابن حجر، يعني فيقيد بالرسول البشري، وتعقبه العيني فقال: كيف يكون أمدح وهو لا يستلزم الرسالة بل لفظ الرسول أمدح لأنه يستلزم النبوّة اهـ. وهو مردود فإن المعنى يختلف فإنه لا يلزم من الرسالة النبوّة ولا عكسه ولا خلاف في المنع إذا اختلف المعنى، وهنا كذلك أو أن الأذكار توقيفية في تعيين اللفظ وتقدير الثواب، فربما كان في اللفظ سر ليس في الآخر، ولو كان يرادفه في الظاهر أو لعله أوحي إليه بهذا اللفظ، فرأى أن يقف عنده، وقال المهلب: إنما لم تبدل ألفاظه عليه الصلاة والسلام لأنها ينابيع الحكم وجوامع الكلم، فلو غيرت سقطت فائدة النهاية في البلاغة التي أعطيها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اهـ.
وقد تعلق بهذا من منع الرواية بالمعنى كابن سيرين، وكذا أبو العباس النحوي قال: إذ ما من كلمتين متناظرتين إلا وبينهما فرق. وإن دقّ ولطف نحو: بلى ونعم، ولا حجة فيه لمن استدل به على عدم جواز إبدال لفظ النبي في الرواية بالرسول وعكسه، لأن الذات المخبر عنها في الرواية واحدة وبأي وصف وصفت به تلك الذات من أوصافها اللائقة بها علم القصد بالمخبر عنه ولو تباينت معاني الصفات كما لو أبدل اسمًا بكنية أو كنية باسم، فلا فرق بين أن يقول الراوي مثلاً عن

أبي عبد الله البخاري أو عن محمد بن إسماعيل البخاري، وهذا بخلاف ما في حديث الباب لأن ألفاظ الأذكار توقيفية فلا يدخلها القياس، ويستفاد من هذا الحديث أن الدعاء عند النوم مرغوب فيه لأنه قد تقبض روحه في نومه، فيكون قد ختم عمله بالدعاء الذي هو من أفضل الأعمال كما ختمه بالوضوء. والنكتة في ختم المؤلف كتاب الوضوء بهذا الحديث من جهة أنه آخر وضوء أمر به المكلف في اليقظة، ولقوله في الحديث: واجعلهنّ آخر ما تتكلم به وأشعر ذلك بختم الكتاب.
ورواته الستة ما بين مروزي وكوفي، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، وأخرجه المؤلف أيضًا في الدعوات، ومسلم في الدعاء، وأبو داود في الأدب والترمذي في الدعوات، والنسائي في اليوم والليلة.

(1/313)