شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

11 - كتاب الجمعة
بضم الميم إتباعًا لضمة الجيم، كعسر في عسر، اسم من الاجتماع أضيف إليه اليوم والصلاة، ثم كثر الاستعمال حتى حذف منه الصلاة. وجوز إسكانها على الأصل للمفعول كهزأة، وهي لغة تميم؛ وقرأ بها المطوعي عن الأعمش، وفتحها بمعنى فاعل، أي: اليوم الجامع، فهو كهمزة، ولم يقرأ بها، واستشكل

(2/154)


كونه أنّث، وهو صفة اليوم.
وأجيب: بأن التاء ليست للتأنيث بل للمبالغة، كما في رجل علاّمة، أو هو صفة للساعة
وحكي الكسر أيضًا.

(بسم الله الرحمن الرحم).
كذا ثبتت البسملة هنا في رواية الأكثرين، وقدمت في رواية، وسقطت لكريمة ولأبي ذر،
عن الحموي.

1 - باب فَرْضِ الْجُمُعَةِ
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [سورة الجمعة: 9].
(باب فرض الجمعة).
(لقول الله تعالى: {إذا نُودي للصلاة}) أذن لها عند قعود الإمام على المنبر (من يوم الجمعة) بيان وتفسير لإذا، وقيل بمعنى في ({فاسعوا إلى ذكر الله}) موعظة الإمام أو الخطبة أو الصلاة، أو هما معًا، والأمر بالسعي لها يدل على وجوبها إذ لا يدل السعي إلا على واجب، أو هو مأخوذ من مشروعية النداء لها، إذ الأذان من خواص الفرائض، واستدلال المصنف بهذه الآية على الفرضية،

كالشافعي رضي الله عنه في الأم، ({وذروا الببع}) المعاملة، فإنها حرام حينئذ، وتحريم المباح لا يكون إلاّ لواجب ({ذلكم}) أي: السعي إلى ذكر الله ({خير لكم}) [الجمعة: 9]. من المعاملة، فإن نفع الآخرة خير وأبقى ({إن كنتم تعلمون}) إن كنتم من أهل العلم.
ولفظ رواية ابن عساكر: فاسعوا إلى قوله: تعلمون، وزاد أبو ذر عن الحموي تفسير: فاسعوا، قال: فامضوا. وبها قرأ عمر، رضي الله عنه، كما سيأتي في التفسير، إن شاء الله تعالى.
وعن الحسن: ليس المراد السعي على الأقدام، ولقد نهوا أن يأتوا المسجد إلا وعليهم السكينة والوقار، ولكن بالقلوب والنيّة والخشوع.
وعن الشافعي رحمه الله: السعي، في هذا الموضع: العمل، ومذهب الشافعية والمالكية والحنابلة وزفر: أن الجمعة فرض الوقت، والظهر بدل عنها. وبه قال محمد في رواية عنه، وفي القديم للشافعي.
وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف الفرض الظهر. وقال محمد في رواية: الفرض أحدهما.
876 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ هُرْمُزَ الأَعْرَجَ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا، ثُمَّ هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فُرِضَ عَلَيْهِمْ فَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَهَدَانَا اللَّهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ: الْيَهُودُ غَدًا، وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ».
وبالسند السابق إلى المؤلّف قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (قال: حدّثنا أبو الزناد) بكسر الزاي، عبد الله بن ذكوان (أن عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، مولى ربيعة بن الحارث، حدّثه أنه سمع أبا هريرة، رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يقول):
(نحن الآخرون) زمانًا في الدنيا (السابقون) أهل الكتاب وغيرهم منزلة وكرامة (يوم القيامة) في الحشر والحساب والقضاء لهم قبل الخلائق، وفي دخول الجنة.
ورواه مسلم بلفظ: "نحن الآخرون من أهل الدنيا، والسابقون يوم القيامة المقضي لهم قبل الخلائق".
(بيد أنهم) بفتح الموحدة وسكون المثناة التحتية وفتح الدال المهملة، بمعنى غير الاستثنائية، أي: نحن السابقون للفضل، غير أن اليهود والنصارى، (أوتوا الكتاب) التوراة والإنجيل (من قبلنا).
زاد في رواية أبي زرعة الدمشقي، عن أبي اليمان، شيخ المؤلّف، فيما رواه الطبراني في مسند الشاميين عنه: "وأوتيناه. أي: القرآن، من بعدهم". وذكره المؤلّف من وجه آخر عن أبي هريرة تامًّا

بعد أبواب. (ثم هذا) أي: يوم الجمعة (يومهم الذي فرض عليهم) وعلينا تعظيمه بعينه، أو الاجتماع فيه.
وروى ابن أبي حاتم عن السدي: "أن الله فرض على اليهود الجمعة، فقالوا: يا موسى، إن الله لم يخلق يوم السبت شيئًا فاجعله لنا؛ فجعل عليهم".
وفي بعض الآثار مما نقله أبو عبد الله الأبي: أن موسى عليه الصلاة والسلام عيّن لهم يوم الجمعة، وأخبرهم بفضيلته، فناظروه بأن السبت أفضل، فأوحى الله تعالى إليه: دعهم وما اختاروا".
والظاهر أنه عينّه لهم، لأن السياق دلّ على ذمّهم في العدول عنه. فيجب أن يكون قد عيّنه لهم. لأنه لو لم يعيّنه لهم ووكّل التعيين إلى اجتهادهم، لكان الواجب عليهم تعظيم يوم لا بعينه.
فإذا أدّى الاجتهاد إلى أنه السبت أو الأحد، لزم المجتهد ما أدى الاجتهاد إليه، ولا يأثم ويشهد له قوله: "هذا يومهم الذي فرض عليهم فاختلفوا فيه". فإنه ظاهر. أو نص في التعيين وليس ذلك بعجيب من مخالفتهم، وكيف لا، وهم القائلون: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة: 93، والنساء: 46].
ولأبي ذر وابن عساكر، عن الحموي: هذا يومهم الذي فرض الله عليهم (فاختلفوا فيه) هل يلزم بعينه، أم يسوغ لهم إبداله بغيره من الأيام، فاجتهدوا في ذلك فأخطأوا (فهدانا الله له) بأن نص لنا عليه ولم يكلنا إلى اجتهادنا لاحتمال أن يكون، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، علمه بالوحي، وهو بمكة، فلم يتمكن من إقامتها بها.
وفيه حديث عن ابن عباس عند الدارقطني:

(2/155)


ولذلك جمع بهم أول ما قدم المدينة، كما ذكره ابن إسحاق وغيره، أو: هدانا الله له بالاجتهاد.
كما يدل عليه مرسل ابن سيرين عند عبد الرزاق بإسناد صحيح، ولفظه: جمع أهل المدينة قبل أن يقدمها النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقبل أن ينزل الجمعة، قالت الأنصار: إن لليهود يومًا يجتمعون فيه كل سبعة أيام، وللنصارى مثل ذلك، فهلمّ فلنجعل يومًا نجتمع فيه، فنذكر الله تعالى ونصلي ونشكره، فجعلوه يوم العروبة، واجتمعوا فيه إلى أسعد بن زرارة، فصلّى بهم. الحديث.
وله شاهد بإسناد حسن عند أبي داود، وصححه ابن خزيمة وغيره من حديث كعب بن مالك. قال: كان أول مَن صلّى بنا الجمعة قبل مقدم رسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المدينة أسعد بن زرارة.
(فالناس لنا فيه تبع) ولأبي ذر: فالناس لنا تبع (اليهود) أي: تعييد اليهود (غدًا) يوم السبت (و) تعييد (النصارى بعد غد) يوم الأحد كذا قدّره ابن مالك ليسلم من الأخبار بظرف الزمان عن الجنة.
ووجه اختيار اليهود يوم السبت لزعمهم أنه يوم فرغ الله فيه من خلق الخلق، قالوا: فنحن نستريح فيه من العمل، ونشتغل بالعبادة والشكر.

والنصارى: الأحد، لأنه أول يوم بدأ فيه بخلق الخلق، فاستحق التعظيم.
وقد هدانا الله تعالى للجمعة لأنه خلق فيه آدم عليه الصلاة والسلام، والإنسان إنما خلق للعبادة. وهو اليوم الذي فرضه الله تعالى عليهم، فلم يهدهم له، وادّخره لنا.
واستدلّ به النووي رحمه الله تعالى على فرضية الجمعة لقوله: فرض عليهم، فهدانا الله له. فإن التقدير فرض عليهم وعلينا، فضلوا وهدينا.
ويؤيده رواية مسلم عن سفيان عن أبي الزناد: كتب علينا.
ورواة هذا الحديث الخمسة ما بين حمصي ومدني، وفيه التحديث والسماع والقول، وأخرجه مسلم والنسائي.

2 - باب فَضْلِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهَلْ عَلَى الصَّبِيِّ شُهُودُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، أَوْ عَلَى النِّسَاءِ؟
(باب فضل الغسل يوم الجمعة، وهل على الصبي شهود يوم الجمعة أو على النساء)؟
877 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ» [الحديث 877 - طرفاه في: 894، 919].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب، ولابن عساكر: عن ابن عمر (رضي الله عنهما: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا جاء) أي: إذا أراد (أحدكم الجمعة، فليغتسل) بإضافة أحد إلى ضمير الجمع، ليعمّ الرجال والنساء والصبيان.
واستشكل دلالة الحديث على ما ترجم له من شهود الصبي والمرأة للجمعة، فإن القضية الشرطية لا تدل على وقوع المجيء.
وأجيب بأنه استفيد من: إذا، فإنها لا تدخل إلا في مجزوم بوقوعه.
وتعقب بأنه خرج بقوله، في ثالث حديث الباب: على كل محتلم: الصبي، وبعموم النهي في منع النساء من المساجد إلا بالليل حضورهنّ الجمعة.

وفي بعض طرق حديث نافع عند أبي داود بإسناد صحيح، لكنه ليس على شرط المصنف، عن طارق بن شهاب مرفوعًا: لا جمعة على امرأة ولا صبي. نعم، لا بأس بحضور العجائز بإذن الأزواج، وليحترزن من الطيب والزينة.
وظاهر قوله: إذا جاء فليغتسل. أن الغسل يعقب المجيء، وليس كذلك. وإنما التقدير: إذا أراد أحدكم ... كما مرّ.
وقد وقع ذلك صريحًا عند مسلم في رواية الليث، عن نافع، ولفظه: إذا أراد أحدكم أن يأتي الجمعة ... فهو كآية الاستعاذة.
وفي حديث أبي هريرة: من اغتسل يوم الجمعة ثم راح ... ، وهو صريح في تأخر الرواح عن الغسل.
وقد علم من تقييد الغسل بالمجيء أن الغسل للصلاة لا لليوم، وهو مذهب الشافعي، ومالك، وأبي حنيفة، رحمهم الله، فلو اغتسل بعد الصلاة لم يكن للجمعة، ولو اغتسل بعد الفجر أجزأه عند الشافعية والحنفية، خلافًا للمالكية والأوزاعي.
وفي حديث إسماعيل بن أمية، عن نافع، عند أبي عوانة وغيره: كان الناس يغدون في أعمالهم، فإذا كانت الجمعة جاؤوا وعليهم ثياب متغيرة، فشكوا ذلك إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال: "من جاء منكم الجمعة فليغتسل". فأفاد سبب الحديث.
واستدلّ به المالكية في أنه يعتبر أن يكون الغسل متصلاً بالذهاب، لئلا يفوت الغرض. وهو رعاية الحاضرين من التأذّي بالروائح حال الاجتماع، وهو غير مختص بمن تلزمه قالوا: ومن اغتسل ثم اشتغل عن الرواح إلى أن بعد ما بينهما عرفًا، فإنه يعيد الغسل لتنزيل البعد منزلة الترك.
وكذا إذا نام اختيارًا بخلاف من غلبه

(2/156)


النوم أو أكل أكلاً كثيرًا بخلاف القليل. اهـ.
ومقتضى النظر: أنه إذا عرف أن الحكمة في الأمر بالغسل يوم الجمعة التنظيف رعاية للحاضرين، كما مر، فمَن خشي أن يصيبه في أثناء النهار ما يزيل تنظيفه استحب له أن يؤخر الغسل لوقت ذهابه، كما مر عن المالكية، وبه صرّح في الروضة وغيرهما.
ومفهوم الحديث: أن الغسل لا يشرع لمن لا يحضرها، كالمسافر والعبد، وقد صرح به في رواية عثمان بن واقد عند أبي عوانة، وابني خزيمة وحبان في صحاحهم، ولفظه: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل". وهو الأصح عند الشافعية. وبه قال الجمهور، خلافًا لأكثر الحنفية.
وذكر المجيء في قوله: إذا جاء أحدكم الجمعة للغالب، وإلاّ فالحكم شامل لمجاور الجامع ومن هو مقيم به.

878 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ قَالَ: أَخْبَرَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ مَالِكٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ قَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ. فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ". [الحديث 878 - طرفه في: 882].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد بن أسماء) الضبعي، بضم المعجمة وفتح الموحدة، البصري. وسقط: ابن أسماء، وفي رواية الأصيلي (قال: حدّثنا) ولغير ابن عساكر: أخبرنا (جويرية) بضم الجيم وفتح الواو ولأبي ذر: جويرية بن أسماء الضبعي البصري، عمّ محمد الراوي عنه، (عن مالك) الإمام (عن) ابن شهاب (الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر) العمري، (عن ابن عمر) رضي الله عنهما (أن) أباه (عمر بن الخطاب، بينما) بالميم (هو قائم) على المنبر (في الخطبة يوم الجمعة، إذ دخل رجل) هو جواب: بينما، والأفصح أن لا يكون فيه، إذ، أو: إذا. ولأبوي ذر والوقت في رواية الحموي والكشميهني: إذ جاء رجل (من المهاجرين الأولين) ممّن شهد بدرًا أو أدرك بيعة الرضوان، أو صلّى للقبلتين (من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) هو: عثمان بن عفان، (فناداه عمر) رضي الله عنهما، أي قال له: يا فلان (أية ساعة هذه)؟ استفهام إنكار لينبّه على ساعة التبكير التي رغب فيها، وليرتدع من هو دونه، أي: لم تأخرت إلى هذه الساعة؟ (قال) عثمان معتذرًا عن التأخر: (إني شغلت) بضم الشين وكسر الغين المعجتين، مبنيًّا للمفعول (فلم أنقلب) أي: فلم أرجع (إلى أهلي حتى سمعت التأذين) بين يدي الخطيب (فلم أزد أن توضأت) أي: لم أشتغل بشيء بعد أن سمعت النداء إلاّ بالوضوء، وأن صلة زيدت لتأكيد النفي. وللأصيلي: فلم أزد على أن توضأت. (فقال) عمر إنكارًا آخر على ترك السُّنّة المؤكدة وهي الغسل (والوضوء أيضًا) بنصب الوضوء.
قال الحافظ ابن حجر: كذا في روايتنا، وعليه اقتصر النووي رحمه الله تعالى في شرح مسلم، وبالواو عطفًا على الإنكار الأول، أي: والوضوء اقتصرت عليه واخترته دون الغسل؟ أي: ما اكتفيت بتأخير الوقت، وتفويت الفضيلة، حتى تركت الغسل، واقتصرت على الوضوء.
وقال القرطبي: الواو عوض عن همزة الاستفهام، كقراءة قنبل، عن ابن كثير {قَالَ فِرْعَوْنُ وآَمَنْتُمْ بِهِ} [الأعراف: 123]. وكذا قاله البرماوي والزركشي.
وتعقبه في المصابيح: بأن تخفيف الهمزة بإبدالها واوًا صحيح في الآية لوقوعها مفتوحة بعد ضمة، وأما في الحديث فليس كذلك. لوقوعها مفتوحة بعد فتحة، فلا وجه لإبدالها فيه واوًا. ولو

جعله على حذف الهمزة أي: أو تخص الوضوء أيضًا؟ لجرى على مذهب الأخفش في جواز حذفها قياسًا عند أمن اللبس، والقرينة الحالية المقتضية للإنكار شاهدة بذلك فلا لبس. اهـ.
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي، قال: الوضوء، وهو بالنصب أيضًا، أي: أتتوضأ الوضوء فقط؟ وجوز الرفع. وهو الذي في اليونينية على أنه مبتدأ خبره محذوف. أي: والوضوء تقتصر عليه؟ ويجوز أن يكون خبرًا حذف مبتدؤه، أي: كفايتك الوضوء أيضًا.
ونقل البرماوي والزركشي وغيرهما عن ابن السيد: أنه يروى بالرفع على لفظ الخبر، والصواب أن الوضوء بالمد على لفظ الاستفهام، كقوله تعالى: {آلله أذن لكم}.
وتعقبه البدر بن الدماميني بأن نقل كلام ابن السيد بقصد توجيه ما في البخاري به غلط، فإن كلام ابن السيد في حديث الموطأ وليس فيه واو إنما هو: "فقال له عمر: الوضوء أيضًا"؟ وهذا يمكن فيه المد بجعل همزة الاستفهام داخلة على همزة الوصل، وأما في حديث البخاري فالواو داخلة على همزة الوصل، فلا يمكن الإتيان بعدها بهمزة الاستفهام. اهـ.
قلت: والظاهر أن البدر لم يطلع على رواية

(2/157)


الحموي، والمستملي، قال: الوضوء، بحذف الواو كما ذكرته، وحينئذ فلا اعتراض. والله أعلم.
وقوله: أيضًا منصوب على أنه مصدر من: آض يئيض، أي عاد ورجع، والمعنى: ألم يكفك أن فاتك فضل التبكير حتى أضفت إليه ترك الغسل المرغب فيه؟ (و) الحال أن (قد علمت أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يأمر) في رواية جويرية: كنّا نؤمر (بالغسل)؟ لمن يريد المجيء إلى الجمعة.
وفي حديث أبي هريرة في هذه القصة في الصحيحين: أن عمر قال: "ألم تسمع أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا راح أحدكم إلى الجمعة فليغتسل".
ورواة حديث الباب ما بين بصري ومدني، وفيه رواية الابن عن الأب، وتابعي عن تابعي عن صحابي، والتحديث والعنعنة، وأخرجه الترمذي: في الصلاة.

879 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) هو: ابن أنس (عن صفوان بن سليم) بضم السين، الزهري المدني (عن عطاء بن يسار) بالمثناة التحتية والمهملة المخففة، مولى ميمونة رضي الله عنها (عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(غسل يوم الجمعة) تمسك به من قال: الغسل لليوم، للإضافة إليه ومذهب الشافعية والمالكية وأبي يوسف: للصلاة لزيادة فضيلتها على الوقت، واختصاص الطهارة بها، كما مرّ، دليلاً وتعليلاً

(واجب) أي: كالواجب في تأكيد الندبية، أو واجب في الاختيار وكرم الأخلاق والنظافة، أو في الكيفية لا في الحكم، (على كل محتلم) أي بالغ، فخرج الصبي، وذكر الاحتلام لكونه الغالب.
وقد تمسك به من قال بالوجوب، وهو مذهب الظاهرية. وحكي عن جماعة من السلف منهم أبو هريرة وعمار بن ياسر، وحكي عن أحمد في إحدى الروايتين عنه لنا قوله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". رواه الترمذي وحسنه، وهو صارف للوجوب المذكور، وقوله: فبها، أي: فبالسنة أخذ، أي: بما جوّزته من الاقتصار على الوضوء، ونعمت الخصلة. أي: الفعلة، والغسل معها أفضل.
واستدلّ الشافعي رحمه الله في الرسالة لعدم الوجوب بقصة عثمان وعمر السابقة، وعبارته: فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولم يأمره عمر بالخروج للغسل، دلّ ذلك على أنهم قد علما أن الأمر بالغسل للاختيار. اهـ.
وقيل: الوجوب منسوخ، وعورض بأن النسخ لا يصار إليه إلاّ بدليل.
ومجموع الأحاديث يدل على استمرار الحكم، فإن في حديث عائشة: إن ذلك كان في أوّل الحال حيث كانوا مجهودين: وكان أبو هريرة وابن عباس إنما صحبا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد أن حصل التوسع بالنسبة إلى ما كانوا فيه أولاً، ومع ذلك، فقد سمع كلٌّ منهما منه عليه الصلاة والسلام الأمر بالغسل، والحثّ عليه، والترغيب فيه. فكيف يدّعي النسخ مع ذلك.
وأما تأويل القدوري، من الحنفية، قوله: واجب، بمعنى ساقط. و: على، بمعنى: عن، فلا يخفى ما فيه من التكلّف.
وأما قول بعضهم: إنه ليس بشرط بل واجب مستقل تصح الصلاة بدونه، وكان أصله قصد التنظيف وإزالة الروائح التي تتأذى منها الملائكة والناس، فيلزم منه تأثيم سيدنا عثمان رضي الله عنه.
وأجيب: بأنه كان معذورًا لأنه إنما تركه ذاهلاً عن الوقت.

3 - باب الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ
(باب الطيب للجمعة).
880 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ سُلَيْمٍ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: أَشْهَدُ عَلَى أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: الْغُسْلُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ، وَأَنْ يَسْتَنَّ، وَأَنْ يَمَسَّ طِيبًا إِنْ وَجَدَ". قَالَ عَمْرٌو: أَمَّا الْغُسْلُ فَأَشْهَدُ أَنَّهُ وَاجِبٌ، وَأَمَّا الاِسْتِنَانُ وَالطِّيبُ فَاللَّهُ أَعْلَمُ أَوَاجِبٌ هُوَ أَمْ لاَ،

وَلَكِنْ هَكَذَا فِي الْحَدِيثِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: هُوَ أَخُو مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ، وَلَمْ يُسَمَّ أَبُو بَكْرٍ هَذَا. رَوَاهُ عَنْهُ بُكَيْرُ بْنُ الأَشَجِّ وَسَعِيدُ بْنُ أَبِي هِلاَلٍ وَعِدَّةٌ. وَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ يُكْنَى بِأَبِي بَكْرٍ وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ".
وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن المديني، ولابن عساكر: عليّ بن عبد الله بن جعفر (قال: حدّثنا) ولأبوي ذر والوقت: أخبرنا (حرمي بن عمارة) بفتح الحاء والراء المهملتين وكسر الميم في الأول، وبضم العين وتخفيف الميم في الآخر (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي بكر بن المنكدر) بضم الميم وسكون النون وفتح الكاف، ابن عبد الله بن ربيعة التابعي (قال: حدّثني) بالإفراد (عمرو بن سليم) بفتح العين وسكون الميم في الأول، وضم المهملة وفتح اللام في الثاني (الأنصاري) التابعي (قال: أشهد على أبي سعيد) الخدري، رضي الله عنه، (قال: أشهد على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عبر بلفظ أشهد، للتأكيد أنه (قال):
(الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) أي بالغ. وهو مجاز لأن الاحتلام يستلزم البلوغ، والقرينة المانعة عن الحمل على الحقيقة أن الاحتلام إذا كان معه الإنزال موجب للغسل، سواء كان يوم الجمعة أو لا

(2/158)


(وأن يستن) عطف على معنى الجملة السابقة، و: أن مصدرية، أي: والاستنان. والمراد بذلك الاستنان بالسواك و (وأن يمس طيبًا إن وجد) الطيب، أو السواك والطيب، وقوله: يمس، بفتح الميم.
(قال عمرو) المذكور بالإسناد السابق إليه (أما الغسل فأشهد أنه واجب) أي كالواجب في التأكيد (وأما الاستنان والطيب، فالله أعلم أواجب هو أم لا؟ ولكن هكذا في الحديث) أشار به إلى العطف لا يقتضي التشريك من جميع الوجوه، فكان القدر المشترك تأكيدًا لطلب للثلاثة، وجزم بوجوب الغسل دون غيره للتصريح به في الحديث، وتوقف فيما عداه لوقوع الاحتمال فيه.
وقوله: واجب، أي مؤكد كالواجب، كما مر ... كذا حمله الأكثرون على ذلك بدليل عطف الاستنان والطيب عليه، المتفق على عدم وجوبهما، فالمعطوف عليه كذلك.
ورواة هذا الحديث ما بين بصري وواسطي ومدني، وفيه التحديث والقول، ولفظ: أشهد، وأخرجه مسلم وأبو داود في الطهارة.
(قال أبو عبد الله) البخاري: (هو) أي: أبو بكر بن المنكدر السابق في السند (أخو محمد بن المنكدر) لكنه أصغر منه (ولم يسم) بالبناء للمفعول (أبو بكر هذا) الراوي هنا بغير أبي بكر، بخلاف أخيه محمد، فإنه، وإن كان يكنّى أبا بكر، لكن كان مشهورًا باسمه دون كنيته (رواه) أي الحديث المذكور، ولأبي ذر في غير اليونينية: روى (عنه) أي عن أبي بكر بن المنكدر (بكير بن الأشج) بضم الموحدة وفتح الكاف مصغرًا وفتح الشين المعجمة بعد الهمزة المفتوحة آخره جيم، (وسعيد بن أبي هلال، وعدة) أي عدد كثير من الناس.

قال الحافظ ابن حجر: وكأن المراد أن شعبة لم ينفرد برواية هذا الحديث عنه، لكن بين رواية بكير وسعيد مخالفة في موضع من الإسناد فرواية بكير موافقة لرواية شعبة، ورواية سعيد أدخل فيها بين عمرو بن سليم وأبي سعيد واسطة، كما أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي من طريق عمرو بن الحرث: أن سعيد بن أبي هلال، وبكير بن الأشج حدّثناه عن أبي بكر بن المنكدر، عن عمرو بن سليم، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد الخدري عن أبيه: وقال في آخره: إلا أن بكيرًا لم يذكر عبد الرحمن. فانفرد سعيد بن أبي هلال بزيادة عبد الرحمن. اهـ.
(وكان محمد بن المنكدر يكنى بأبي بكر، وأبي عبد الله) وقد سقط من قول: قال أبو عبد الله إلخ. في رواية ابن عساكر.

4 - باب فَضْلِ الْجُمُعَةِ
(باب فضل الجمعة) شامل لليوم والصلاة.
881 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ سُمَىٍّ مَوْلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي صَالِحٍ السَّمَّانِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُسْلَ الْجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) الإمام (عن سميّ) بضم المهملة وفتح الميم (مولى أبي بكر بن عبد الرحمن، عن أبي صالح) ذكوان (السمان) نسبة إلى بيعه، (عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(من اغتسل يوم الجمعة) من ذكر أو أنثى، حرّ أو عبد (غسل الجنابة) بنصب اللام، صفة لمصدر محذوف، أي: غسلاً كغسل الجنابة. وعند عبد الرزاق من رواية ابن جريج، عن سميّ: "فاغتسل أحدكم كما يغتسل من الجنابة" فالتشبيه للكيفية لا للحكم، أو أشار به إلى الجماع يوم الجمعة، ليغتسل فيه من الجنابة، ليكون أغضّ لبصره، وأسكن لنفسه في الرواح إلى الجمعة. ولا تمتد عينه إلى شيء يراه (ثم راح) أي ذهب، زاد في الموطأ: في الساعة الأولى. وصحح النووي، رحمه الله وغيره، إنها من طلوع الفجر، لأنه أول اليوم شرعًا: لكن يلزم منه أن يكون التأهب قبل طلوع الفجر. وقد قال الشافعي، رحمه الله: يجزئ الغسل إذا كان بعد الفجر، فأشعر بأن الأولى أن يقع بعد ذلك. (فكأنما قرّب بدنة) من الإبل، ذكرًا أم أُنثى، والتاء للوحدة لا للتأنيث، أي: تصدق بها متقربًا إلى الله تعالى. وفي رواية ابن جريج عند عبد الرزاق: فله من الأجر مثل الجزور،

وظاهره: أن الثواب لو تجسد لكان قدر الجزور. (ومن راح في الساعة الثانية، فكأنما قرّب بقرة) ذكرًا أو أُنثى، والتاء للوحدة، (ومن راح في الساعة الثالثة، فكأنما قرب كبشًا) ذكرًا (أقرن) وصفه به لأنه أكمل وأحسن صورة، ولأن قرنه ينتفع به. وفي رواية النسائي: ثم كالمهدي شاة. (ومن راح في الساعة الرابعة، فكأنما

(2/159)


قرب دجاجة) بتثليث الدال والفتح هو الفصيح (ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة).
استشكل التعبير: بالدجاجة والبيضة بقوله، في رواية الزهري: كالذي يهدي، لأن الهدي لا يكون منهما.
وأجيب: بأنه من باب المشاكلة، أي من تسمية الشيء، باسم قرينه، والمراد بالهدي هنا التصدق، كما دلّ عليه لفظ: قرب وهو يجوز بهما.
والمراد بالساعات عند الجمهور من أوّل النهار، وهو قول الشافعي رحمه الله، وابن حبيب من المالكية، وليس المراد من الساعات الفلكية الأربعة والعشرين التي قسم عليها الليل والنهار، بل ترتيب درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، لئلا يستوي فيه رجلان جاءا في طرفي ساعة، ولأنه لو أريد ذلك لاختلف الأمر في اليوم الشاتي والصائف.
وقال في شرح المهذّب، وشرح مسلم: بل المراد الفلكية، لكن بدنة الأوّل أكمل من بدنة الأخير، وبدنة المتوسط متوسطة، فمراتبهم متفاوتة، وإن اشتركوا في البدنة مثلاً، كما في درجات صلاة الجماعة الكثيرة والقليلة، وحينئذٍ فمراده بساعات النهار الفلكية اثنتا عشرة زمانية صيفًا أو شتاءً.
وقد روى النسائي مرفوعًا: يوم الجمعة اثنتا عشرة ساعة. وقال الماوردي: إنه من طلوع الشمس موافقة لأهل الميقات، ليكون ما قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب.
واستشكل بأن الساعات ست لا خمس، والجمعة لا تصح في السادسة بل في السابعة.
نعم، عند النسائي بإسناد صحيح بعد الكبش: بطة، ثم دجاجة ثم بيضة. وفي أخرى: دجاجة ثم عصفورًا، ثم بيضة.
ومعلوم أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يخرج إلى الجمعة متصلاً بالزوال، وهو بعد انقضاء الساعة السادسة.
وفي حديث واثلة عند الطبراني في الكبير مرفوعًا: "إن الله تعالى يبعث الملائكة يوم الجمعة على أبواب المسجد يكتبون القوم: الأول والثاني والثالث والرابع والخامس والسادس، فإذا بلغوا السابع كانوا بمنزلة من قرب العصافير".
وقال مالك، رحمه الله، وإمام الحرمين، والقاضي حسين: إنها لحظات لطيفة بعد الزوال، لأن الرواح لغة لا يكون إلا من الزوال، والساعة في اللغة الجزء من الزمان، وحملها على الزمانية التي

يقسم النهار فيها إلى اثني عشر جزءًا يبعد إحالة الشرع عليه لاحتياجه إلى حساب ومراجعة آلات تدل عليه، ولأنه عليه الصلاة والسلام قال: إذا كان يوم الجمعة قام على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس الأول فالأول، فالمتهجر إلى الجمعة كالمهدي بدنة، الحديث.
فإن قالوا: قد تستعمل الهاجرة في غير موضعها فيجب الحمل عليه جمعًا.
قلنا: ليس إخراجها عن ظاهرها بأولى من إخراج الساعة الأولى عن ظاهرها، فإذا تساويا على ما زعمت فما أرجح؟
قلت: عمل الناس جيلاً بعد جيل، لم يعرف أن أحدًا من الصحابة رضي الله عنهم كان يأتي المسجد لصلاة الجمعة عند طلوع الشمس، ولا يمكن حمل حالهم على ترك هذه الفضيلة العظيمة. اهـ.
وأجيب: بأن الرواح، كما قاله الأزهري، يطلق لغة على الذهاب، سواء كان أول النهار أو آخره أو الليل، وهذا هو الصواب الذي يقتضيه الحديث، والمعنى: فدلّ على أنه لا فضيلة لمن أتى بعد الزوال، لأن التخلّف بعد النداء حرام، ولأن ذكر الساعات إنما هو للحثّ على التبكير إليها والترغيب في فضيلة السبق، وتحصيل الصف الأول، وانتظارها والاشتغال بالتنفل والذكر ونحوه، وهذا كله لا يحصل بالذهاب بعد الزوال. وحكى الصيدلاني: أنه من ارتفاع النهار وهو وقت الهجير.
(فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة) الذين وظيفتهم كتابة حاضري الجمعة، وما تشتمل عليه من ذكر وغيره، وهم غير الحفظة (يستمعون الذكر) أي الخطبة.
وزاد في رواية الزهري الآتية طووا صحفهم. ولمسلم من طريقه: فإذا جلس الإمام طووا الصحف وجاؤوا يستمعون الذكر. فكان ابتداؤه خروج الإمام، وانتهاؤه بجلوسه على المنبر وهو أول سماعهم للذكر.
وفي حديث ابن عمر عند أبي نعيم في الحلية مرفوعًا "إذا كان يوم اجمعة بعث الله ملائكة بصحف من نور"، الحديث. ففيه صفة الصحف، وأن الملائكة المذكورين غير الحفظة.
والمراد بطيّ الصحف الفضائل المتعلقة بالمبادرة إلى الجمعة دون

(2/160)


غيرها من سماع الخطبة وإدراك الصلاة والذكر والدعاء ونحو ذلك، فإنه يكتبه الحافظان قطعًا.
وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، عن ابن خزيمة: "فيقول بعض الملائكة لبعض: ما حبس فلانًا؟ فيقول: اللهم إن كان ضالاًّ فاهده، وإن كان فقيرًا فأغنه وإن كان مريضًا فعافه".

وفي هذا الحديث من الفوائد غير ما ذكر فضل الاغتسال يوم الجمعة، وفضل التبكير إليها.
وإن الفضل المذكور إنما يحصل لمن جمعهما، وعليه يحمل ما أطلق في باقي الروايات من ترتب الفضل على التبكير من غير تقييد بالغسل، ولو تعارض الغسل والتبكير فمراعاة الغسل، كما قال الزركشي أولى، لأنه مختلف في وجوبه، ولأن نفعه متعدٍّ إلى غيره بخلاف التبكير.
تنبيه:
السُّنَّة في التبكير إنما هي لغير الإمام، أما الإمام فيندب له التأخير إلى وقت الخطبة لاتباعه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وخلفائه. قاله الماوردي، ونقله في المجموع، وأقرّه. والله أعلم.

5 - باب
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة، وهو كالفصل من الباب السابق.
882 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: "أَنَّ عُمَرَ -رضي الله عنه- بَيْنَمَا هُوَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ. فَقَالَ عُمَرُ: لِمَ تَحْتَبِسُونَ عَنِ الصَّلاَةِ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا هُوَ إِلاَّ سَمِعْتُ النِّدَاءَ فَتَوَضَّأْتُ فَقَالَ: أَلَمْ تَسْمَعُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِذَا رَاحَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ".
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين (قال: حدّثنا شيبان) بفتح المعجمة والموحدة، ابن عبد الرحمن التميمي النحوي، نسبة إلى بطن من الأزد، لا إلى علم النحو، البصري، نزيل الكوفة (عن يحيى) زاد أبو ذر: هو ابن أبي كثير (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني، قيل: اسمه عبد الله، وقيل: إسماعيل (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه، بينما) بالميم (هو يخطب يوم الجمعة) أي: على المنبر، وجواب بينما، قوله، (إذ دخل رجل) هو عثمان بن عفان رضي الله عنه (فقال) له (عمر) وللأصيلي: عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: (لم تحتبسون عن) الحضور إلى (الصلاة) في أول وقتها؟ (فقال الرجل) عثمان: (ما هو) أي الاحتباس (إلا أن سمعت النداء) الأذان، ولغير أبي ذر والأصيلي وابن عساكر: إلاّ سمعت النداء (فتوضأت فقال): عمر له ولمن حضر من الصحابة: (ألم تسمعوا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) كذا لأبي ذر والأصيلي، ولغيرهما: قال:
(إذا راح أحدكم) أي: أراد أحدكم الرواح (إلى) صلاة (الجمعة فليغتسل) ندبًا، كما مرّ.
ووجه مطابقته للترجمة السابقة من حيث إنكار عمر على عثمان احتباسه عن التبكير بمحضر من الصحابة، وكبار التابعين، مع عظم جلالته، فلولا عظم فضل ذلك لما أنكر عليه، وإذا ثبت الفضل في التبكير إلى الجمعة ثبت الفضل لها.

ورواة الحديث الخمسة ما بين كوفي ويماني ومدني، وفيه التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه مسلم في الصلاة، وأبو داود في الطهارة، والله أعلم.

6 - باب الدُّهْنِ لِلْجُمُعَةِ
(باب) استعمال (الدهن للجمعة) بضم الدال، ويجوز فتحها مصدر: دهنت دهنًا، وحينئذٍ فلا يحتاج إلى تقدير.
883 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي عَنِ ابْنِ وَدِيعَةَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلاَ يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ، إِلاَّ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى». [الحديث 883 - طرفه في: 910].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدّثنا ابن أبي ذئب) هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحرث بن أبي ذئب، واسمه هشام القرشي العامري المدني (عن سعيد المقبري) بضم الموحدة، نسبة إلى مقبرة بالمدينه، كان مجاورًا بها، التابعي (قال: أخبرني) بالإفراد (أبي) أبو سعيد، كيسان المقبري التابعي (عن ابن وديعة) عبد الله الأنصاري المدني التابعي، أو هو صحابي (عن سلمان الفارسي) رضي الله عنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا يغتسل رجل يوم الجمعة) غسلاً شرعيًا (ويتطهر ما استطاع من طهر) بالتنكير للمبالغة في التنظيف، أو المراد به التنظيف: بأخذ الشارب والظفر والعانة، أو المراد بالغسل: غسل الجسد، وبالتطهير: غسل الرأس وتنظيف الثياب، ولأبي ذر وابن عساكر عن الحموي والمستملي: من الطهر (وبدهن من دهنه) بتشديد الدال بعد المثناة التحتية، من باب: الافتعال أي: يطلي بالدهن ليزيل شعث رأسه ولحيته به، (أو يمس) بفتح المثناة التحتية والميم (من طيب بيته) إن لم يجد دهنًا أو: أو، بمعنى الواو، فلا ينافي الجمع بينهما، وأضاف الطيب إلى البيت إشارة إلى أن السُّنَّة اتخاذ الطيب في البيت، ويجعل استعماله له عادة.
وفي حديث أبي داود عن ابن عمر: "أو يمس من طيب امرأته" أي: إن لم يتخذ

(2/161)


لنفسه طيبًا فليستعمل من طيب امرأته، وزاد فيه: "ويلبس من صالح ثيابة"، ولابن عساكر: ويمسّ من طيب بيته (ثم يخرج) زاد ابن خزيمة، عن أبي أيوب: إلى المسجد، ولأحمد من حديث أبي الدرداء: ثم يمشي وعليه السكينة (فلا يفرق بين اثنين) في حديث ابن عمر عند أبي داود، ثم لم يتخطّ رقاب الناس، وهو كناية عن التبكير، أي: عليه أن يبكر فلا يتخطى رقاب الناس، أو المعنى، لا يزاحم رجلين فيدخل بينهما، لأنه ربما ضيق عليهما، خصوصًا في شدة الحرّ واجتماع الأنفاس، (ثم يصلّي

ما كتب له) أي فرض من صلاة الجمعة، أو قدر فرضًا أو نفلاً. وفي حديث أبي الدرداء: "ثم يرجع ما قضى له، وفي حديث أبي أيوب: "فيركع إن بدا له". وفيه مشروعية النافلة قبل صلاة الجمعة.
(ثم ينصت) بضم أوله من: أنصت، وفتحه من: نصت، أي سكت (إذا تكلم الإمام) أي: شرع في الخطبة، زاد في رواية قرثع، بقاف مفتوحة وراء ساكنة ثم مثلثة، الضبي، بالمعجمة والموحدة، عند ابن خزيمة: حتى يقضي صلاته (إلا غفر له ما بينه) أي ما بين الجمعة الحاضرة (وبين الجمعة الأخرى) الماضية. أو المستقبلة. لأنها تأنيث الآخر بفتح الخاء لا بكسرها والمغفرة تكون للمستقبل كما للماضي قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
لكن في رواية الليث، عن ابن عجلان، عند ابن خزيمة ما بينه وبين الجمعة التي قبلها.
وزاد في رواية أبي هريرة عند ابن حبان، وزيادة ثلاثة أيام من التي بعدها.
والمراد: غفران الصغائر لما زاده في حديث أبي هريرة عند ابن ماجة: ما لم تغش الكبائر، أي فإنها إذا غشيت لا تكفر، وليس المراد أن تكفير الصغائر مشروط باجتناب الكبائر، إذ اجتناب الكبائر بمجرده يكفر الصغائر، كما نطق به القرآن العزيز في قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] أي: كل ذنب فيه وعيد شديد {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] أي نمح عنكم صغائركم.
ولا يلزم من ذلك أن لا يكفر الصغائر إلا اجتناب الكبائر، فإذا لم يكن له صغائر تكفر، رجي له أن يكفر عنه بمقدار ذلك من الكبائر، وإلا أعطي من الثواب بمقدار ذلك.
وقد تبين بمجموع ما ذكر: من الغسل والتطيب إلى آخره أن تكفير الذنوب من الجمعة إلى الجمعة مشروط بوجود جميعها.
ورواة هذا الحديث كلهم مدنيون، وفيه ثلاثة من التابعين، إن لم يكن ابن وديعة صحابيًّا، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة.
884 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ طَاوُسٌ: "قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: ذَكَرُوا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "اغْتَسِلُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْسِلُوا رُءُوسَكُمْ وَإِنْ لَمْ تَكُونُوا جُنُبًا وَأَصِيبُوا مِنَ الطِّيبِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا الْغُسْلُ فَنَعَمْ، وَأَمَّا الطِّيبُ فَلاَ أَدْرِي". [الحديث 884 - طرفه في: 885].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو: ابن حمزة (عن) ابن شهاب (الزهري، قال طاوس) هو: ابن كيسان الحميري الفارسي اليماني، قيل: اسمه ذكوان.
وطاوس لقبه: (قلت لابن عباس) رضي الله عنهما (ذكروا) يحتمل أن يكون المبهم في: أبا هريرة
لرواية ابني خزيمة وحبان والطحاوي، من طريق عمرو بن دينار عن طاوس، عن أبي هريرة، نحوه (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(اغتسلوا يوم الجمعة) إن كنتم جنبًا (واغسلوا رؤوسكم) تأكيد: لاغتسلوا، من عطف الخاص على العامّ، لينبّه على أن المطلوب الغسل التام، لئلا يتوهم أن إفاضة الماء دون حل الشعر مثلاً تجزئ في غسل الجمعة، أو المراد بالثاني: التنظيف من الأذى. واستعمال الدهن ونحوه. (وإن لم تكونوا جنبًا) فاغتسلوا للجمعة، ولفظ الجنب يستوي فيه المذكر والمؤنث، والمفرد والمثنى والجمع، قال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] (وأصيبوا من الطيب) من للتبعيض قائم مقام المفعول، أي: استعملوا بعض الطيب.
وليس في هذه الرواية ذكر الدهن المترجم له، ويحتمل أن المؤلّف أراد أن حديث طاوس عن ابن عباس واحد، وقد ذكر فيه إبراهيم بن ميسرة: الدهن، ولم يذكره الزهري، وزيادة الثقة الحافظ مقبولة.
(قال ابن عباس) مجيبًا لطاوس عن قوله: ذكروا ... إلخ (أما الغسل المذكورة فنعم) قاله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وأما الطيب فلا أدري) أي: فلا أعلم. قاله عليه الصلاة والسلام أم لا، لكن رواية صالح بن أبي الأخضر عن الزهري، عن عبيد بن السباق عند ابن ماجة مرفوعًا: "من جاء إلى الجمعة فليغتسل وإن كان له طيب فليمس منه". تخالف ذلك، لكن صالح ضعيف، وقد خالفه مالك، فرواه عن الزهري عن عبيد بن السباق، مرسلاً.
885 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى قَالَ: أَخْبَرَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ مَيْسَرَةَ عَنْ طَاوُسٍ: "عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ ذَكَرَ قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَقُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ: أَيَمَسُّ طِيبًا أَوْ دُهْنًا إِنْ كَانَ عِنْدَ أَهْلِهِ؟ فَقَالَ: لاَ أَعْلَمُهُ".
وبه قال: (حدّثنا

(2/162)


إبراهيم بن موسى) بن يزيد التميمي الفراء الرازي الحافظ (قال: أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني، قاضي صنعاء، المتوفى سنة تسع وتسعين ومائة باليمن، رحمه الله تعالى (أن ابن جريج) عبد الملك (أخبرهم، قال: أخبرني) بالإفراد (إبراهيم بن ميسرة) بفتح الميم وسكون المثناة التحتية وفتح السين والراء المهملتين، الطائفي المكي التابعي (عن طاوس) اليماني (عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أنه ذكر قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الغسل يوم الجمعة).
قال طاوس: (فقلت لابن عباس: أيمس طيبًا) نصب: بيمس، والهمزة للاستفهام (أو) يمس (دهنًا وإن كان) أي الطيب أو الدهن (عند أهله؟ فقال) ابن عباس: (لا أعلمه) من قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا من كونه مندوبًا.

ورواة هذا الحديث ما بين رازي وصنعاني ومكّي وطائفي ويماني، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن صحابي، والتحديث والإخبار والعنعنة والقول، وأخرجه مسلم في الصلاة والله أعلم.

7 - باب يَلْبَسُ أَحْسَنَ مَا يَجِدُ
هذا (باب) بالتنوين (يلبس) من أراد المجيء إلى صلاة الجمعة (أحسن ما يجد) من الثياب الجائز لبسها.
886 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَأَى حُلَّةَ سِيَرَاءَ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوِ اشْتَرَيْتَ هَذِهِ فَلَبِسْتَهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلِلْوَفْدِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لاَ خَلاَقَ لَهُ فِي الآخِرَةِ. ثُمَّ جَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا حُلَلٌ، فَأَعْطَى عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- مِنْهَا حُلَّةً، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَسَوْتَنِيهَا وَقَدْ قُلْتَ فِي حُلَّةِ عُطَارِدٍ مَا قُلْتَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إِنِّي لَمْ أَكْسُكَهَا لِتَلْبَسَهَا. فَكَسَاهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- أَخًا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا". [الحديث 886 - أطرافه في: 948، 2104، 2612، 2619، 3054، 5841، 5981، 6081].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) ولأبي ذر في نسخة: عن مالك (عن نافع عن عبد الله بن عمر، أن) أباه (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه (رأى حلة سيراء عند باب المسجد) بكسر السين المهملة وفتح المثناة التحتية ثم راء ممدودة، أي: حرير بحت، وأهل العربية على إضافة حلة لتاليه، كثوب خز.
وذكر ابن قرقول ضبطه كذلك عن المتقنين، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: حلة سيراء، بالتنوين على الصفة، أو البدل، وعليه أكثر المحدثين.
لكن قال سيبويه: لم يأت فعلاء وصفًا، والحلة لا تكون إلا من ثوبين، وسميت: سيراء لما فيها من الخطوط التي تشبه السيور، كما يقال: ناقة عشراء إذا كمل لحملها عشرة أشهر.
(فقال) عمر: (يا رسول الله، لو اشتريت هذه) الحلة (فلبستها يوم الجمعة، وللوفد إذا قدموا عليك) لكان حسنًا، أو: لو: للتمني لا للشرط، فلا تحتاج للجزاء. وفي رواية البخاري أيضًا: فلبستها للعيد وللوفد، (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إنما يلبس هذه) أي: الحلة الحرير (من لا خلاق له) أي: من لا حظ له ولا نصيب له من الخير (في الآخرة). كلمة من تدل على العموم، فيشمل الذكور والإناث. لكن الحديث مخصوص بالرجال لقيام دلائل أُخر على إباحة الحرير للنساء.

(ثم جاءت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها) أي من جنس الحلة السيراء (حلل، فأعطى عمر بن الخطاب
رضي الله عنه منها) أي من الحلل (حلة) ولأبي ذر: فأعطى منها عمر بن الخطاب رضي الله عنه حلة، (فقال عمر: يا رسول الله) وللأصيلي: فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله، (كسوتنيها) أي الحلة (وقد قلت في حلة عطارد) بضم المهملة وكسر الراء، وهو ابن حاجب بن زرارة التميمي، قدم في وفد بني تميم على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأسلم له صحبة (ما قلت) من أنه: "إنما يلبسها من لا خلاق له "؟ (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) له:
(إني لم أكسكها لتلبسها) بل لتنتفع بها في غير ذلك. وفيه دليل على أنه يقال: كساه إذا أعطاه كسوة لبسها أم لا، ولمسلم: أعطيتكها تبيعها وتصيب بها حاجتك، ولأحمد: أعطيتكه تبيعه، فباعه بألفي درهم.
لكنه يشكل بما هنا من قوله: (فكساها عمر بن الخطاب رضي الله عنه أخًا له) من أمه: عثمان بن حكيم، قاله المنذري، أو هو أخو أخيه زيد بن الخطاب لأمه أسماء بنت وهب، قاله الدمياطي، أو كان أخاه من الرضاعة.
وانتصاب أخًا على أنه مفعول ثان لكسا، يقال: كسوته جبة، فيتعدى إلى مفعولين وقوله: له في محل نصب صفة لقوله: أخًا تقديره أخًا كائنًا له. وكذا قوله: (بمكة مشوكًا) نصب صفة بعد صفة. واختلف في إسلامه، فإن قلت: الصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، ومقتضى تحريم لبس الحرير عليهم، فكيف كساها عمر أخاه المشرك؟
أجيب: بأنه يقال كساه إذا أعطاه كسوة لبسها أم لا، كما مر. فهو إنما أهداها له لينتفع بها، ولا يلزم لبسها.
ومطابقة الحديث للترجمة من

(2/163)


جهة دلالته على استحباب التجمل يوم الجمعة، والتجمل يكون بأحسن الثياب، وإنكاره عليه الصلاة والسلام على عمر، لم يكن لأجل التجمل، بل لكون تلك الحلة كانت حريرًا.
تنبيه:
أفضل ألوان الثياب البياض، لحديث: "البسوا من ثيابكم البياض، فإنها خير ثيابكم، وكفّنوا فيها موتاكم" ... رواه الترمذي وغيره، وصححوه. ثم ما صبغ غزله قبل نسجه: كالبرد، لا ما صبغ منسوجًا، بل يكره لبسه كما صرح به البندنيجي وغيره، ولم يلبسه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولبس البرود.
ففي البيهقي عن جابر أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان له برد يلبسه في العيدين والجمعة، وهذا في غير المزعفر والمعصفر.

والسُّنّة أن يزيد الإمام في حُسْن الهيئة والعمّة والارتداء للاتباع، ويترك السواد لأنه أولى. إلاَّ إن خشي مفسدة تترتب على تركه من سلطان أو غيره.
وقد أخرج المؤلّف الحديث في الهبة، ومسلم في اللباس وأبو داود والنسائي في الصلاة.

8 - باب السِّوَاكِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَسْتَنُّ.
(باب) استعمال (السواك يوم الجمعة) السواك مذكر على الصحيح، وفي المحكم: تأنيثه، وأنكره اللأزهري.
(وقال أبو سعيد) الخدري، رضي الله عنه، في حديثه المذكور في باب الطيب للجمعة (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يستن) من الاستنان، أي: يدلك أسنانه بالسواك.
887 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَوْلاَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي -أَوْ عَلَى النَّاسِ- لأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ مَعَ كُلِّ صَلاَةٍ». [الحديث 887 - طرفه في: 7240].
وبالسند إلى البخاري قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) هو ابن أنس (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة، رضي إلته عنه، أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لولا) مخافة (أن أشق على أمتي -أو على الناس-) شك من الراوي، ولأبي ذر "أو لولا أن أشق على الناس". بإعادة: لولا أن أشق.
وقد أخرجه الدارقطني في الموطآت من طريق الموطأ لعبد الله بن يوسف، شيخ البخاري، فيه بهذا الإسناد، فلم يعد: لولا أن أشق ... ، وكذا رواه كثير من رواة الموطأ، ورواه أكثرهم بلفظ: المؤمنين، بدل: أمتي.
وأن في قوله: لولا أن أشق، مصدرية في محل رفع على الابتداء، والخبر محذوف وجوبًا.
أي: لولا المشقّة موجودة (لأمرتهم) أمر إيجاب (بـ) استعمال (السواك مع كل صلاة) فرضًا أو نفلاً.
فهو عام يندرج في الجمعة، بل هي أول لما اختصت به من طلب تحسين الظاهر من الغسل والتنظيف والتطيب، خصوصًا تطييب الفم الذي هو محل الذكر والمناجاة، وإزالة ما يضرّ بالملائكة وبني آدم من تغير الفم.
وفي حديث علي عند البزار، "أن الملك لا يزال يدنو من المصلي يستمع القرآن حتى يضع فاه على فيه ... " الحديث.

ولأحمد وابن حبان: "السواك مطهرة للفم مرضاة للرب"، وله وابن خزيمة: "فضل الصلاة التي يستاك لها، على الصلاة التي لا يستاك لها سبعون ضعفًا".
فإن قلت: قوله: "لولا أن أشق على أمتي". في ظاهره إشكال، لأن: لولا، كلمة لربط امتناع الثاني لوجود الأولى، نحو: لولا زيد لأكرمتك، أي: لولا زيد موجود. وهاهنا العكس، فإن الممتنع المشقّة، والموجود الأمر، إذ قد ثبت أمره بالسواك، كحديث ابن ماجة عن أبي أمامة مرفوعًا: (تسوّكوا)، ونحوه لأحمد عن العباس، وحديث الموطأ: "عليكم بالسواك ... ".
أجيب بأن التقدير: لولا مخافة أن أشق لأمرتكم ... أمر إيجاب، كما مر تقديره، ففيه نفي الفرضية.
وفي غير من الأحاديث إثبات الندبية، كحديث مسلم، عن عائشة رضي تعالى عنها: عشر من الفطرة ... فذكر منها: السواك.
وقال إمامنا الشافعي، رحمه الله، في حديث الباب: فيه دليل على أن السواك ليس بواجب لأنه لو كان واجبًا لأمرهم به، شق أو لم يشق. اهـ.
وقال الشيخ أبو إسحاق، في اللمع: فيه دليل على أن الاستدعاء على جهة الندب ليس بأمر حقيقة، لأن السواك عند كل صلاة مندوب، وقد أخبر الشارع أنه لم يأمر به. اهـ.
والمرجح في الأصول أن المندوب مأمور به.
888 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ الْحَبْحَابِ حَدَّثَنَا أَنَسٌ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَكْثَرْتُ عَلَيْكُمْ فِي السِّوَاكِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة، عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج، واسمه ميسرة التميمي البصري (قال: حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد (قال: حدّثنا شعيب بن الحبحاب) بفتح الحاءين المهملتين بينهما موحدة ساكنة وبعد الألف أخرى، البصري، وسقط لفظ: ابن الحبحاب في رواية ابن عساكر (قال: حدّثنا أنس) هو ابن مالك رضي الله عنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أكثرت عليكم في) استعمال

(2/164)


(السواك) أي: بالغت في تكرير طلبه منكم، أو في إيراد الترغيب فيه.
ومطابقة الترجمة من جهة أن الإكثار في السواك، والحثّ عليه يتناول الفعل عند كل الصلوات، والجمعة أولاها، لأنه يوم ازدحام، فشرع فيه تنظيف الفم تطيبًا للنكهة الذي هو أقوى من الغسل على ما لا يخفى.

889 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ وَحُصَيْنٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ حُذَيْفَةَ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فَاهُ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة (قال: أخبرنا سفيان) الثوري (عن منصور) هو ابن المعمر (وحصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين، ابن عبد الرحمن، كلاهما (عن أبي وائل) بالهمزة، شقيق بن سلمة الكوفي (عن حذيفة) بن اليمان رضي الله عنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا قام من الليل) للتهجد (يشوص فاه) بفتح أوّله وضم الشين المعجمة آخره صاد مهملة، أي: يدلك أسنانه، أو يغسلها.
وإذا كان السواك شرع ليلاً لتجمّل الباطن، فللجمعة أحرى وأولى، لشروعية التجمّل ظاهرًا وباطنًا.
ورواة الحديث كوفيون إلا شيخ المؤلّف فبصري، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة، ورواية واحد عن اثنين، وسبقت مباحثه في باب السواك من كتاب الوضوء.

9 - باب مَنْ تَسَوَّكَ بِسِوَاكِ غَيْرِهِ
(باب من تسوّك بسواك غيره) ولابن عساكر: من يتسوك بسواك غيره.
890 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ قَالَ: قَالَ هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "دَخَلَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَمَعَهُ سِوَاكٌ يَسْتَنُّ بِهِ، فَنَظَرَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقُلْتُ لَهُ: أَعْطِنِي هَذَا السِّوَاكَ يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، فَأَعْطَانِيهِ، فَقَصَمْتُهُ ثُمَّ مَضَغْتُهُ، فَأَعْطَيْتُهُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَنَّ بِهِ وَهْوَ مُسْتَنِدٌ إِلَى صَدْرِي". [الحديث 890 - أطرافه في: 1389، 3100، 3774، 4438، 4446، 4449، 4450، 4451، 5217، 6510].
وبالسند قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني) بالإفراد (سليمان بن بلال.
قال: قال هشام بن عروة: أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير بن العوام (عن عائشة، رضي الله عنها، قالت: دخل) أخي (عبد الرحمن بن أبي بكر) الصديق، رضي الله عنه، حجرتي في مرضه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، (و) الحال أنه (معه سواك) حال كونه (يستن) أي: يستاك (به فنظر، إليه) أي: إلى عبد الرحمن (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قالت عائشة: (فقلت له) أي: لعبد الرحمن (أعطني هذا السواك يا عبد الرحمن، فأعطانيه) فأخذته (فقصمته) بفتح القاف والصاد المهملة عند الأكثرين، أي كسرته، فأبنت منه الموضع الذي كان عبد الرحمن يستن منه، وللأصيلي وابن عساكر، كما في فرع اليونينية، وعزاها العيني، كالحافظ ابن حجر، لكريمة وابن السكن، زاد العيني والحموي والمستملي: فقضمته، بالضاد المعجمة المكسورة، من القضم. وهو الأكل بأطراف الأسنان. وقال في المطالع: أي مضعته

بأسناني ولينته، وفي رواية: فقضمته، بالفاء بدل القاف، وبالصاد المهملة أي: كسرته من غير إبانة (ثم مضغته) بالضاد والغين المعجمتين (فأعطيته رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فاستنّ به وهو مستند إلى صدري) بسينين مهملتين بينهما مثناة فوقية وبعد الثانية نون من باب الاستفعال، والجملة اسمية وقعت حالاً، وفي رواية مستند بسين واحدة.
ورواته مدنيون، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة والقول، وأخرجه أيضًا في الجنائز، والفضائل، والخمس، والمغازي، ومرضه عليه الصلاة والسلام، وفضل عائشة، وكذا أخرجه مسلم في فضلها أيضًا.

10 - باب مَا يُقْرَأُ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
(باب ما يقرأ بضم المثناة التحتية، مبنيًّا للمفعول، وفي رواية: يقرأ، بفتحها مبنيًّا للفاعل، أي: الذي يقرؤه الرجل (في صلاة الفجر يوم الجمعة)، سقط في أكثر النسخ قوله: يوم الجمعة وهو مراد، وثبت في الفرع.
891 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ -هُوَ ابْنُ هُرْمُزَ- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ فِي الْجُمُعَةِ فِي صَلاَةِ الْفَجْرِ {الم * تَنْزِيلُ} السَّجْدَةَ وَ {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ} ". [الحديث 891 - طرفه في: 1068].
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين، وبهامش الفرع وأصله، وضبب عليه: حدّثنا محمد بن يوسف، أي الفريابي، وعزاه في الفتح وغيره لنسخة من رواية كريمة، وذكر في بعض النسخ جميعًا (قال: حدّثنا سفيان) الثوري (عن سعيد بن إبراهيم) بسكون العين، ابن عبد الرحمن بن عوف التابعي الصغير، وللأصيلي: هو ابن إبراهيم، (عن عبد الرحمن، هو ابن هرمز الأعرج) التابعي الكبير، وسقط لفظ: هو من رواية الأربعة والأعرج، من غير رواية أبي ذر (عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ في الفجر، يوم الجمعة) كذا لأبي ذر وابن عساكر، وفي رواية كريمة والأصيلي: في الجمعة في صلاة الفجر: ({ألم تنزيل}) في الركعة الأولى، ولام: تنزيل، بالضم على الحكاية. وزاد في رواية كريمة: السجدة بالنصب عطف بيان، و {هل أتى على الإنسان} [الإنسان:1]، في الركعة الثانية بكمالهما، ويسجد كما في المعجم

(2/165)


الصغير للطبراني، من حديث علي: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سجد في صلاة الصبح في {تنزيل} السجدة، لكن في إسناد ضعف. وزاد الأصيلي {حين من الدهر}.
والحكمة في قراءتهما، الإشارة إلى ما فيهما من ذكر خلق آدم وأحوال يوم القيامة، لأن ذلك كان ويكون في يوم الجمعة، والتعبير: بكان يُشعِر بمواظبته عليه الصلاة والسلام على القراءة بهما

فيها، وعورض بأنه ليس في الحديث ما يقتضي فعل ذلك دائمًا اقتضاء قومًا، وأكثر العلماء على أن: كان لا تقتضي الداومة.
وأجيب: بأنه ورد في حديث ابن مسعود التصريح بمداومته عليه الصلاة والسلام على ذلك؛ أخرجه الطبراني بلفظ: -"يديم ذلك"، وأصله في ابن ماجة بدون هذه الزيادة، ورجاله ثقات، لكن صوّب أبو حاتم إرساله.
وبالجملة فالزيادة نص في ذلك، فدلّ على السنية، وبه أخذ الكوفيون، والشافعي، وأحمد وإسحاق، وقال به أكثر أهل العلم من الصحابة والتابعين.
وكره مالك رحمه الله في المدوّنة للإمام أن يقرأ بسورة فيها سجدة خوف التخليط على المصلين، ومن ثم فرق بعضهم بين الجهرية والسرية، لأن الجهرية يؤمن معها التخليط.
وأجيب: بأنه صح من حديث ابن عمر عند أبي داود أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قرأ بسورة فيها سجدة في صلاة الظهر، فسجد بهم، فبطلت التفرقة. وعلله بعض أصحابه بأن سجدات الصلاة محصورة، فزيادة سجدة خلاف التحديد.
قال القرطبي: وهو تعليل فاسد بشهادة هذا الحديث. وقيل: تجوز قراءتها في صلاة الجهر لهذا الحديث، ورواه ابن وهب.
وقال أشهب: إذا قلت الجماعة قرأها وإلا فلا، وقيل: العلة خشية اعتقاد العامي وجوبها، وحينئذٍ فتترك أحيانًا لتندفع الشبهة، وبمثله قال صاحب المحيط من الحنفية.
وهل يقرأ سورة فيها سجدة غير {الم} منع منه ابن عبد السلام، وقال: إنه مبطل للصلاة.
وقال النووي رحمه الله في زيادات الروضة: لم أر فيه كلامًا لأصحابنا، وقياس مذهبنا أنه يكره في الصلاة إذا قصده. اهـ.
ومقتضاه عدم البطلان. وفي المهمات، مقتضى كلام القاضي الحسين: الجواز، وفي فوائد المهذّب للفارقيّ: لا تستحب قراءة سجدة غير {تنزيل} فإن ضاق الوقت عن قراءتها قرأ بما أمكن منها، ولو بآية السجدة منها، ووافقه ابن أبي عصرون في كتاب الانتصار. اهـ.
وعند ابن أبي شيبة، بإسناد قوي عن إبراهيم النخعي، أنه قال: يستحب أن يقرأ في صبح الجمعة بسورة فيها سجدة. قال: وسألت محمد بن سيرين عنه فقال: لا أعلم به بأسًا.
ورواة حديث الباب ما بين كوفي ومدني، وفيه رواية التابعي عن التابعي، والتحديث، والعنعنة، وأخرجه مسلم والنسائي وابن ماجة في الصلاة.

11 - باب الْجُمُعَةِ فِي الْقُرَى وَالْمُدْنِ
(باب) حكم الصلاة (الجمعة في القرى) والقرية: واحدة القرى، كل مكان اتصلت فيه الأبنية واتخذ قرارًا، ويقع ذلك على المدن وغيرها، والأمصار المدن الكبار، واحدها مصر، والكفور القرى الخارجة عن المصر، وأحدها كفر. بفتح الكاف (والمدن) بضم الميم وسكون الدال، جمع مدينة. وقد تضم الدال. وللأصيلي: والمدائن، بفتح الميم والدال، جمع مدينة أيضًا، قال أبو علي الفسوي: بالهمزة إن كان من: مدن، وبتركه إن كان من: دين أي ملك.
892 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ أَبِي جَمْرَةَ الضُّبَعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِّعَتْ -بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ". [الحديث 892 - طرفه في: 4371].
وبالسند قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبي الوقت ونسخة لأبي ذر: حدّثني (محمد بن المثنى) العنزي البصري (قال: حدّثنا أبو عامر) عبد الملك بن عمر (العقدي) بفتح العين المهملة والقاف، نسبة إلى العقد، قوم من قيس (قال: حدّثنا إبراهيم بن طهمان) بفتح المهلة وسكون الهاء، الخراساني (عن أبي جمرة) بالجيم والراء، نصر بن عبد الرحمن بن عصام (الضبعي) بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة وبالعين المهملة، نسبة إلى ضبيعة، أبي حي من بكر بن وائل (عن ابن عباس) رضي الله عنهما (أنه قال: إن أول جمعة جمعت) بضم الجيم وتشديد الميم المكسورة، وزاد في رواية أبي داود، عن وكيع، عن ابن طهمان في الإسلام (بعد جمعة) زاد المصنف في أواخر المغازي: جمعت (في
مسجد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي: في المدينة، ما في رواية وكيع (في مسجد عبد القيس) قبيلة كانوا
ينزلون البحرين، موضع قريب من عمان، بقرب القطيف والأحشاء (بجؤاثى من البحرين) بضم الجيم وتخفيف الواو، وقد تهمز ثم مثلثة خفيفة،

(2/166)


وهي قرية من قرى عبد القيس، أو مدينة أو حصن، وفي رواية وكيع: قرية من قرى البحرين.
واستدلّ به إمامنا الأعظم الشافعي، وأحمد على: أن الجمعة تقام في القرية إذا كان فيها أربعون رجلاً أحرارًا بالغين، مقيمين، ولا يظعنون عنها صيفًا ولا شتاء إلا لحاجة، سواء كانت أبنيتها من حجر أو طين، أو خشب أو قصب، أو نحوها، فلو انهدمت أبنيتها فأقام أهلها على العمارة لزمتهم الجمعة فيها، لأنها وطنهم، سواء كانوا في مظال أم لا، وسواء فيها المسجد والدار والفضاء، بخلاف الصحراء.
وخصه المالكية بالجامع المبني، وبالعتيق: في كل قرية فيها مسجد وسوق.

واشترط الحنفية لإقامتها المصر أو فناءه، لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا جمعة ولا تشريق إلاّ في مصر جامع". رواه عبد الرزاق.
وأجابوا عن قوله جؤاثى: إنها مدينة، كما قاله البكري، وقول امرئ القيس:
ورحنا كأنا من جؤاثى عشية ... نعالي النعاج بين عدل ومحقب
يريد: كأنا من تجار جؤاثى لكثرة ما معهم من الصيد، وأراد: كثرة أمتعة تجار جؤاثى، وكثرة الأمتعة تدل غالبًا على كثرة التجار، وكثرة التجار تدل على أن جؤاثى مدينة قطعًا، لأن القرية لا يكون فيها تجار غالبًا عادة، ولئن سلمنا أنها قرية، فليس في الحديث أنه عليه الصلاة والسلام اطّلع على ذلك وأقرّهم عليه. اهـ.
وقد سبق في نفس الحديث من رواية وكيع: أنها قرية من قرى البحرين، وفي أخرى عنه: من قرى عبد القيس. وكذا للإسماعيلي من رواية محمد بن أبي حفصة، عن ابن طهمان، وهو نص في موضع النزاع، فالمصير إليه أولى من قول البكري وغيره، على أنه يحتمل أنها كانت في الأول قرية، ثم صارت مدينة.
والظاهر أن عبد القيس لم يجمعوا إلا بأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لما عرف من عادة الصحابة من عدم الاستبداد بالأمور الشرعية في زمن الوحي، ولأنه لو كان ذلك لا يجوز لنزل فيه القرآن، كما استدل جابر وأبو سعيد على جواز العزل، بأنهم فعلوه والقرآن ينزل، فلم ينهوا عنه.
والمصر عند أبي حنيفة، رحمه الله: كل بلدة فيها ملك وأسواق ولها رساتيق ووالٍ لدفع الظلم، وعالم يرجع إليه في الحوادث.
وعند أبي يوسف، رحمه الله: كل موضع له أمير وقاضٍ ينفذ الأحكام، وهو مختار الكرخي، وعنه أيضًا أن: يبلغ سكانه عشرة آلاف، وأما فناؤه فهو ما أعدّ لحوائج المصر، من: ركض الخيل، والخروج للرمي، وغيرهما.
وفي الخانية: لا بدّ أن يكون متصلاً بالمصر، حتى لو كان بينه وبين المصر فرجة، من المزارع والمراعي لا يكون فناء له، ومقدار التباعد أربعمائة ذراع، وعند أبي يوسف ميلان. اهـ.
ورواة هذا الحديث ما بين بصري وهروي، وفيه التحديث والعنعنة والقول.
893 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنَا سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ». وَزَادَ اللَّيْثُ قَالَ: يُونُسُ كَتَبَ رُزَيْقُ بْنُ حُكَيْمٍ إِلَى ابْنِ شِهَابٍ -وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَئِذٍ بِوَادِي الْقُرَى-: هَلْ تَرَى أَنْ أُجَمِّعَ؟ وَرُزَيْقٌ عَامِلٌ عَلَى أَرْضٍ يَعْمَلُهَا وَفِيهَا جَمَاعَةٌ مِنَ السُّودَانِ وَغَيْرِهِمْ، وَرُزَيْقٌ يَوْمَئِذٍ عَلَى أَيْلَةَ، فَكَتَبَ ابْنُ شِهَابٍ -وَأَنَا أَسْمَعُ- يَأْمُرُهُ أَنْ يُجَمِّعَ، يُخْبِرُهُ أَنَّ سَالِمًا حَدَّثَهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ

عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ: الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالْخَادِمُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ -قَالَ: وَحَسِبْتُ أَنْ قَدْ قَالَ: وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي مَالِ أَبِيهِ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». [الحديث 893 - أطرافه في: 2409، 2554، 2558، 2751، 5188، 5200، 7138].
وبه قال: (حدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة وسكون المعجمة (المروزي) السجستاني، وسقط: المروزي، عند ابن عساكر (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك (قال: أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن) ابن شهاب (الزهري) أنه (قال: أخبرنا) بالجمع، ولأبي ذر وابن عساكر: أخبرني (سالم بن عبد الله) بن عمر، وسقط: ابن عبد الله للأربعة (عن ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما) أنه (قال: سمعت) ولكريمة: قال إن (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(كلكم راعٍ) أي: حافظ ملتزم صلاح ما قام عليه، وما هو تحت نظره، فكل مَن كان تحت نظره شيء فهو مطلوب بالعدل فيه، والقيام بمصالحه في دينه ومتعلقاته، فإن وفى ما عليه من الرعاية، حصل له الحظ الأوفر، والجزاء الأكبر، وإلاَّ طالبه كل واحد من رعيته في الآخرة بحقه.
(وزاد الليث) بن سعد، إمام المصريين، رحمه الله، في روايته على رواية عبد الله بن المبارك، مما وصله الذهلي عن أبي صالح، كاتب الليث، عنه (قال يونس) بن يزيد: (كتب رزيق بن حكيم) بتقديم الراء المضمومة على الزاي المفتوحة في الأوّل، وضم الحاء المهملة وفتح الكاف على صيغة تصغير الثلاثي في الثاني، الفزاري، مولى بني فزارة، ولابن عساكر: وكتب (إلى ابن شهاب) الزهري (وأنا معه يومئذ بوادي القرى) من أعمال المدينة، فتحه عليه الصلاة والسلام في جمادى الآخرة سنة سبع من الهجرة، لما انصرف من خيبر.
(هل ترى أن أجمع) أي: أن أصلي بمن معي

(2/167)


الجمعة بضم الهمزة وتشديد الميم المكسورة، (ورزيق) يومئذ (عامل على أرض يعملها) أي يزرعها (وفيها جماعة من السودان وغيرهم، ورزيق يومئذ) أمير من قبل عمر بن عبد العزيز (على أيلة) بفتح الهمزة وسكون المثناة التحتية وفتح اللام، كانت مدينة ذات قلعة، وهي الآن خراب ينزل بها حجاج مصر وغزة، وبعض آثارها ظاهر.
والذي يظهر أنه سأله عن إقامة الجمعة في الأرض التي كان يزرعها من أعمال أيلة، لا عن أيلة نفسها، لأنها كانت بلدًا لا يسأل عنها.
قال يونس: (فكتب) إليه (ابن شهاب) بخطه وقرأه (وأنا أسمع) حال كونه (يأمره) أي: ابن شهاب يأمر رزيق بن حكيم في كتابه إليه: (أن يجمع) أي: بأن يصلّي بالناس الجمعة، أو أملاه ابن شهاب على كاتبه، فسمعه يونس منه، فالمكتوب الحديث، والمسموع المأمور به. كذا قرره البرماوي كالكرماني.

وقال في الفتح: والذي يظهر أن المكتوب عين المسموع، وهو الأمر والحديث معًا.
ثم استدل ابن شهاب على أمره رزيق بن حكيم بالجمعة، حال كونه (يخبره) أي: رزيقًا في كتابه إليه، والجملة حالية من الضمير المرفوع فهي متداخلة والحالان السابقان، أعني: وأنا أسمع، ويأمره، مترادفان (أن سالمًا حدّثه أن) أباه (عبد الله بن عمر) بن الخطاب (يقول) ولأبي ذر وابن عساكر عن الكشميهني: قال: (سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حال كونه يقول):
(كلكم راعٍ وكلكم) في الآخرة (مسؤول عن رعيته) ولأبى الوقت: وابن عساكر، والأصيلي: كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته: (الإمام راعٍ) فيمن ولي عليهم، يقيبم فيهم الحدود والأحكام على سنن الشرع.
وهذا موضع الترجمة، لأنه لما كان رزيق عاملاً من جهة الإمام على الطائفة التي ذكرها، فكان عليه أن يراعي حقوقهم، ومن جملتها إقامة الجمعة، فيجب عليه إقامتها وإن كانت في قرية.
فهو راع عليهم (ومسؤول عن رعيته، والرجل راع في أهله) يوفّيهم حقهم من النفقة والكسوة والعشرة (وهو مسؤول عن رعيته) سقط لفظ: وهو عند الأربعة في رواية الكشميهني (والمرأة راعية في بيت زوجها) بحسن تدبيرها في المعيشة والنصح له، والأمانة في ماله، وحفظ عياله، وأضيافه ونفسها، (ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده) يحفظه ويقوم بما يستحق من خدمته (ومسؤول عن رعيته).
(قال) ابن عمر، أبو سالم، أو يونس (وحسبت أن قد قال) كلمة: أن، مخففة من الثقيلة، ولأبي ذر والأصيلي عن الكشميهني: أنه قال، أي: النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(والرجل راعٍ في مال أبيه) يحفظه ويدبر مصلحته (ومسؤول) وفي رواية أبي ذر والأصيلي: وهو مسؤول (عن رعيته، وكلكم راعٍ) أي: مؤتمن حافظ ملتزم إصلاح ما قام عليه (ومسؤول عن رعيته) ولابن عساكر: "فكلكم راعٍ مسؤول عن رعيته، بالفاء بدل الواو، وإسقاط الواو من: ومسؤول، ولأبي ذر في نسخة: "فكلكم راعٍ". بالفاء، "وكلكم مسؤول"، وكذا للأصيلي، لكنه قال: "بالواو" بدل الفاء.
وفي هذا الحديث من النكت أنه: عمم أوّلاً، ثم خصص ثانيًا. وقسم الخصوصية إلى أقسام: من جهة الرجل، ومن جهة المرأة، ومن جهة الخادم، ومن جهة النسب. ثم عمم ثالثًا وهو قوله: "وكلكم راعٍ" ... إلخ ... تأكيدًا، وردًّا للعجز إلى الصدر بيانًا لعموم الحكم أوّلاً وآخرًا.
قيل: وفي الحديث: أن الجمعة تقام بغير إذن من السلطان إذا كان في القوم من يقوم بمصالحهم، وهذا مذهب الشافعية إذ إذن السلطان عندهم ليس شرطًا لصحتها، اعتبارًا بسائر الصلوات.

وبه قال المالكية وأحمد في رواية عنه.
وقال الحنفية وهو رواية عن أحمد أيضًا: إنه شرط، لقوله عليه الصلاة والسلام: "مَن ترك الجمعة وله إمام، جائر أو عادل، لا جمع الله شمله". رواه ابن ماجة والبزار وغيرهما، فشرط فيه أن يكون له إمام ويقوم مقامه نائبه وهو الأمير، أو القاضي، وحينئذ فلا دلالة فيه للشافعية، لأن رزيقًا كان نائب الإمام.
ورواة الحديث ما بين مدني ومروزي وأيلي، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة والقول والسماع والكتابة، وشيخ المؤلّف من أفراده، وأخرجه أيضًا في: الوصايا والنكاح، ومسلم في: المغازي، وكذا الترمذي.

(2/168)


12 - باب هَلْ عَلَى مَنْ لَمْ يَشْهَدِ الْجُمُعَةَ غُسْلٌ مِنَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ وَغَيْرِهِمْ؟
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: إِنَّمَا الْغُسْلُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ.
هذا (باب) بالتنوين (هل) ولابن عساكر: وهل (على من لم) ولأبو ذر والوقت: من لا (يشهد الجمعة غسل من النساء والصبيان وغيرهم)؟ كالعبد والمسافر والمسجون، ممن لا تجب عليهم، والمريض والأعمى.
(وقال ابن عمر) بن الخطاب، مما وصله البيهقي بإسناد صحيح، عنه: (إنما الغسل على من تجب عليه الجمعة) ممن اجتمع فيه شروط وجوبها، فمن لم تجب عليه لا يجب عليه الغسل. نعم، يندب له إن حضر.
894 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنْ جَاءَ مِنْكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ».
وبالسند قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: أخبرنا)، وللأصيلي: حدّثنا (شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن) ابن شهاب (الزهري، قال: حدّثني) بالإفراد (سالم بن عبد الله أنه سمع) أباه (عبد الله بن عمر) بن الخطاب، رضي الله عنهما، حال كونه (يقول: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):

(من جاء منكم الجمعة) أي أراد المجيء إليها، وإن لم تلزمه: كالمرأة، والخنثى، والصبي، والعبد، والسافر. (فليغتسل). ندبًا مؤكدًا فيكره تركه لقوله: فليغتسل، وغيره من التعبير بالوجوب المحمول عندهم على تأكيد الندبية، والتقييد. بمن جاء، مخرج لمن لم يجيء.
فمفهوم الشرط معمول به لأن الغسل للصلاة لا لليوم، وفيه التنبيه على أن مراده بالاستفهام في الترجمة الحكم بعدم الوجوب على من لم يحضرها.
وفي البيهقي بسند صحيح: "من أتى الجمعة من الرجال والنساء فليغتسل، ومن لم يأتها فليس عليه غسل".
وسبق مباحث الحديث.
895 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي، (عن مالك) الإمام (عن صفوان بن سليم) بضم المهملة وفتح اللام، الزهري المدني (عن عطاء بن يسار) بالمثناة التحتية والمهملة المخففة، الهلالي المدني، مولى ميمونة (عن أبي سعيد الخدري، رضي الله عنه) وسقط: الخدري، لابن عساكر (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(غسل يوم الجمعة) لصلاتها (واجب) أي: كالواجب (على كل محتلم).
مفهومه: عدم وجوب الغسل على مَن لم يحتلم، ومن لم يحتلم لا يشهد الجمعة، والحديث سبقت مباحثه.
896 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا وَأُوتِينَاهُ مِنْ بَعْدِهِمْ، فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ، فَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ لِلنَّصَارَى» فَسَكَتَ.
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الأزدي البصري (قال: حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني (وهيب) بضم الواو وفتح الهاء، ابن خالد البصري (قال: حدّثنا) بالجمع، ولأبي ذر: حدّثني (ابن طاوس) عبد الله، ولابن عساكر: عن ابن طاوس (عن أبيه) طاوس بن كيسان (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):

(نحن) يعني نفسه الشريفة عليه الصلاة والسلام وأمته أو نفسه الكريمة فقط، أو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام (الآخرون) في الزمان (السابقون) في الفضل والفضيلة (يوم القيامة، أوتوا) أهل الكتاب (الكتاب): التوراة والإنجيل (من قبلنا، وأُوتيناه) بضمير المفعول، أي: القرآن العزيز، ولأبي ذر في نسخة عن الحموي، والمستملي: وأوتينا (من بعدهم، فهذا اليوم) أي يوم الجمعة (الذي اختلفوا فيه) بعد أن عين لهم، وأمروا بتعظيمه، فتركوه وغلبوا القياس، فعظمت اليهود السبت للفراغ من الخلق، وظنت ذلك فضيلة توجب عظم اليوم، وعظمت النصارى الأحد لما كان ابتداء الخلق فيه، (فهدانا الله) إليه بالوحي الوارد في تعظيمه، أو بالاجتهاد الموافق للمراد. والإشارة في قوله: فهدانا إلى سبقنا، لأن الهداية سبب للسبق يوم المعاد، وللأصيلي: وهدانا الله، بالواو، بدل الفاء (فغدا) مجتمع (لليهود، وبعد غد) مجتمع (للنصارى) والتقدير: بنحو، مجتمع لا بدّ منه، لأن الظروف لا تكون أخبارًا عن الجثث كما مر. وروي فغد، بالرفع مبتدأ في حكم المضاف، فلا يضر كونه في الصورة نكرة، تقديره: فغد الجمعة لليهود وغد بعد غد للنصارى (فسكت) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
897 - ثُمَّ قَالَ: «حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ». [الحديث 897 - طرفاه في: 898، 3487].
ثم قال:
(حق) وفي بعض النسخ: فحق، بالفاء. ويجوز أن تكون جواب شرط محذوف أي: إذا كان الأمر كذلك، (على كل مسلم) محتلم حضر الجمعة (أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا) زاد النسائي: هو يوم الجمعة، (يغسل فيه) أي في اليوم (رأسه و) يغسل (جسده).
ذكر الرأس وإن كان الجسد يشمله للاهتمام به، لأنهم كانوا يجعلون فيه الدهن والخطمى ونحوهما، وكانوا يغسلونه أوّلاً، ثم تغتسلون.
وقد أورد المؤلّف، كما

(2/169)


أفاده في الفتح هذا الحديث، في ذكر بني إسرائيل من وجه آخر، عن وهيب بهذا الإسناد دون قوله: فسكت إلخ ....
ثم قال ويؤكد كونه مرفوعًا رواية مجاهد عن طاوس المقتصرة على الحديث الثاني، وهذه النكتة أورده بعده فقال.
898 - رَوَاهُ أَبَانُ بْنُ صَالِحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا».
(رواه) أي الحديث المذكور (أبان بن صالح) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة، مما وصله البيهقي، من طريق سعيد بن أبي هلال، عن أبان، (عن مجاهد، عن طاوس، عن أبي هريرة قال: قال النبي) وللأصيلي: قال رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):

(لله تعالى على كل مسلم) محتلم (حق أن يغتسل في كل سبعة أيام يومًا) هو يوم الجمعة إذا حضرها.
والصارف لذلك عن الوجوب حديث مسلم: "من توضأ فأحسن الوضوء، ثم أتى الجمعة فدانا" ... (1).
وحديث الترمذي: "من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت"، كما مر.
ورواة الحديث الأوّل ما بين بصري ويماني، وفيه رواية الابن عن الأب، وفيه التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه المؤلّف أيضًا في ذكر بني إسرائيل، ومسلم في الجمعة، وكذا النسائي.

13 - باب
899 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «ائْذَنُوا لِلنِّسَاءِ بِاللَّيْلِ إِلَى الْمَسَاجِدِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا شبابة) بفتح الشين المعجمة وموحدتين مخففتين بينهما ألف، الفزاري المدايني قال: (حدّثنا ورقاء) بفتح الواو وسكون الراء وبالقاف ممدودًا، ابن عمرو المدايني (عن عمرو بن دينار، عن مجاهد) هو ابن جبر (عن ابن عمر) بن الخطاب رضي الله عنهما، (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(ائذنوا للنساء بالليل إلى المساجد) قيّد الإذن بالليل لكون الفساق في شغل بفسقهم أو نومهم، بخلاف النهار، فإنهم ينتشرون فيه، فلا يخرجن فيه، والجمعة نهارية.
فمفهومه: يخرج الجمعة في حق النساء، فلا يخرجن إليها، ومن لم يشهدها فليس عليه غسل.
وقال الإسماعيلي: أورد حديث مجاهد عن ابن عمرو، وأراد بذلك أن الإذن إنما وقع لهنّ بالخروج إلى المساجد بالليل، فلا تدخل الجمعة. اهـ.
وقرره البرماوي، كالكرماني: بأنه إذا أذن لهنّ بالخروج إلى المساجد بالليل، فالنهار أولى أن يخرجن فيه، لأن الليل مظنة الريبة، تقديمًا لمفهوم الموافقة على المخالفة، بل هو مفهوم لا يعمل به أصلاً على الراجح. أي: فلهن شهودها.
900 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "كَانَتِ امْرَأَةٌ لِعُمَرَ تَشْهَدُ صَلاَةَ الصُّبْحِ وَالْعِشَاءِ فِي الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسْجِدِ. فَقِيلَ لَهَا: لِمَ تَخْرُجِينَ وَقَدْ تَعْلَمِينَ أَنَّ عُمَرَ يَكْرَهُ ذَلِكَ وَيَغَارُ؟ قَالَتْ: وَمَا يَمْنَعُهُ أَنْ يَنْهَانِي؟ قَالَ: يَمْنَعُهُ قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ".
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن موسى) بن راشد بن بلاد، القطان الكوفي، المتوفى ببغداد سنة اثنتين وخمسين ومائتين، قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة الليثي، قال: (حدّثنا) ولابن عساكر: أخبرنا (عبيد الله بن عمر) بتصغير العبد، ابن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب المدني (عن نافع)، ولابن عساكر: أخبرنا نافع (عن ابن عمر) بن الخطاب (قال: كانت امرأة لعمر) هي: عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل، أخت سعد، أحد العشرة المبشّرة، وكانت تخرج إلى المسجد. فلما خطبها عمر شرطت عليه أن لا يمنعها من المسجد، فأجابها على كره منه، فكانت (تشهد) أي تحضر (صلاة الصبح، و) صلاة (العشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها) أي: لامرأة عمر: (لم تخرجين، و) الحال أن (قد تعلمين أن عمر يكره ذلك) الخروج، وكاف، ذلك مكسورة، لأن الخطاب لمؤنثة (ويغار)؟ كيخاف: من الغيرة.
والقائل لها ذلك كله عمر نفسه، كما عند عبد الرزاق وأحمد، ولا مانع أن يعبر عن نفسه بقوله: إن عمر إلخ ... فهو من باب التجريد، وحينئذٍ فيكون الحديث من مسند عمر؟ وذكره المزي في الأطراف في مسند ابن عمر.
(قالت: وما) بالواو، وللأربعة: فما (يمنعه أن ينهاني)؟ أن مصدرية في محل رفع على الفاعلية، والتقدير: فما يمنعه أن ينهاني، أي بنهيه إياي؟.
(قال: يمنعه قول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) أي بالليل، حملاً لهذا المطلق على المقيد السابق به، والجمعة تخرج عنه لأنها نهارية، فحينئذٍ لا يشهدنها، ومن لم يشهدها لا غسل عليه.
وقرره البرماوي كالكرماني بأن قوله: "لا تمنعوا"، يشمل الليل والنهار، فما سبق في الحديث من ذكر الليل، من ذكر فرد من العام، فلا يخصص على الأصح في الأصول كحديث: "دباغها طهورها"، في شاة ميمونة، مع حديث: "أيما إهاب دبغ فقد طهر".
قال: وأما مطابقة الحديث للترجمة فلما فيه من أن النساء لهن شهود الجمعة، قال: وأيضًا قد تقرر أن شاهد الجمعة يغتسل، فشملها طلب غسل الجمعة، فدخلت في الترجمة.
_________
(1) هكذا في الأصل.

(2/170)


اهـ.
ورواة هذا الحديث ما بين كوفي ومدني، وفيه التحديث والعنعنة والقول، وشيخ المؤلّف من أفراده.

14 - باب الرُّخْصَةِ إِنْ لَمْ يَحْضُرِ الْجُمُعَةَ فِي الْمَطَرِ
(باب الرخصة إن لم يحضر) المصلي صلاة (الجمعة)، بفتح المثناة وضم الضاد، من: يحضر، وكسر همزة إن الشرطية، وللأصيلي: لمن لم يحضر الجمعة (في المطر).

901 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادِيِّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ ابْنُ عَمِّ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: "ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَلاَ تَقُلْ حَىَّ عَلَى الصَّلاَةِ، قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا، قَالَ: فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي، إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُخْرِجَكُمْ فَتَمْشُونَ فِي الطِّينِ وَالدَّحْضِ".
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا إسماعيل) بن علية (قال: أخبرني) يالإفراد (عبد الحميد) بن دينار (صاحب الزيادي، قال: حدّثنا عبد الله بن الحرث، ابن عمّ محمد بن سبرين).
قال الدمياطي: ليس ابن عمه، وإنما كان زوج بنت سيرين، فهو صهره.
قال في الفتح: لا مانع أن يكون بينهما أخوة من الرضاع، ونحوه. فلا ينبغي تغليط الرواية الصحيحة مع وجود الاحتمال المقبول.
(قال ابن عباس لمؤذنه في يوم مطير: إذا قلت أشهد أن محمدًا رسول الله، فلا تقل حيّ على الصلاة) بل (قل: صلوا في بيوتكم) بدل الحيعلة، منع إتمام الأذان.

(فكأن الناس استنكروا) قوله: فلا تقل: حيّ على الصلاة، قل صلوا في بيوتكم، (قال) ابن عباس ولأبي ذر وابن عساكر: فقال (فعله) أي الذي قلته للمؤذن، (من له خير مني) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إن الجمعة عزمة) بفتح العين وسكون الزاي، أي واجبة، فلو تركت المؤذن يقول: حيّ على الصلاة لبادر من سمعه إلى المجيء في المطر، فيشق عليه، فأمرته أن يقول: صلوا في بيوتكم، ليعلموا أن المطر من الأعذار التي تصير العزيمة رخصة. وهذا مذهب الجمهور.
لكن عند الشافعية والحنابلة مقيد بما يؤذن ببل الثوب، فإن كان خفيفًا، أو وجد كنًّا يمشي فيه، فلا عذر.
وعن مالك رحمه الله: لا يرخص في تركها بالمطر، والحديث حجة عليه.
(إني كرهت أن أحرجكم) بضم الهمزة وسكون الحاء المهملة، من الحرج، ويؤيده الرواية السابقة: أؤثمكم، أي أن أكون سببًا في إكسابكم الإثم عند حرج صدوركم: فربما يقع تسخط أو كلام غير مرضي، وفي بعض النسخ: أخرجكم، بالخاء المعجمة من الخروج (فتمشون في الطين والدحض) بفتح الدال المهملة وسكون الحاء المهملة، وقد تفتح آخره معجمة، أي الزلق.
وسبق الحديث بمباحثه في الأذان.

15 - باب مِنْ أَيْنَ تُؤْتَى الْجُمُعَةُ، وَعَلَى مَنْ تَجِبُ؟ لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9]
وَقَالَ عَطَاءٌ إِذَا كُنْتَ فِي قَرْيَةٍ جَامِعَةٍ فَنُودِيَ بِالصَّلاَةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَحَقٌّ عَلَيْكَ أَنْ تَشْهَدَهَا، سَمِعْتَ النِّدَاءَ أَوْ لَمْ تَسْمَعْهُ. وَكَانَ أَنَسٌ -رضي الله عنه- فِي قَصْرِهِ أَحْيَانًا يُجَمِّعُ، وَأَحْيَانًا لاَ يُجَمِّعُ، وَهْوَ بِالزَّاوِيَةِ عَلَى فَرْسَخَيْنِ.
هذا (باب) بالتنوين (من أين تؤتى الجمعة) بضم المثناة الأولى وفتح الثانية، مبنيًّا للمفعول من الإتيان وأين استفهام عن المكان (وعلى من تجب) الجمعة.
(لقول الله تعالى {إذا نودي}) أذن ({للصلاة من يوم الجمعة}) والإمام على المنبر، ({فاسعوا
إلى ذكر الله}) [الجمعة: 9].
أوردها استدلالاً للوجوب، كالشافعي في الأم، لأن الأمر بالسعي لها يدل عليه، أو هو من
مشروعية النداء لها، لأنه من خواص الفرائض، وسقط في غير رواية أبي ذر والأصيلي: {فاسعوا
إلى ذكر الله}.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح، مما وصله عبد الرزاق، عن ابن جريج، عنه: (إذا كنت في قرية جامعة فنودي) بالفاء، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: نودي، أي: أذن (بالصلاة من يوم الجمعة، فحق عليك أن تشهدها، سمعت النداء أو لم تسمعه) أي: إذا كنت داخلها، كما صرح به أحمد.
ونقل النووي أنه لا خلاف فيه، وزاد عبد الرزاق فيه، عن ابن جريح، قلت لعطاء: ما القرية الجامعة؟ قال: ذات الجماعة، والأمير، والقاضي، والدور المجتمعة الآخذ بعضها ببعض، مثل جدّة.
(وكان أنس) هو ابن مالك (رضي الله عنه) مما وصله مسدد في مسنده الكبير، (في قصره أحيانًا) نصب على الظرفية، أي في بعض الأوقات (يجمع) أي يصلّي بمن معه الجمعة، أو يشهد الجمعة بجامع البصرة (وأحيانًا لا يجمع، وهو) أي القصر (بالزاوية) بالزاي، موضع بظاهر البصرة معروف (على فرسخين) من البصرة، وهو ستة أميال، فكان أنس يرى أن التجميع ليس بحتم لبعد المسافة.
902 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ حَدَّثَهُ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ

النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: "كَانَ النَّاسُ يَنْتَابُونَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ مَنَازِلِهِمْ وَالْعَوَالِي فَيَأْتُونَ فِي الْغُبَارِ يُصِيبُهُمُ الْغُبَارُ وَالْعَرَقُ، فَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْعَرَقُ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنْسَانٌ مِنْهُمْ -وَهْوَ عِنْدِي- فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَوْ أَنَّكُمْ تَطَهَّرْتُمْ لِيَوْمِكُمْ هَذَا".
وبالسند قال: (حدّثنا أحمد) غير منسوب، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي، ووافقهما ابن السكن: أحمد بن صالح، أي المصري وليس هو ابن عيسى، وإن جزم به أبو نعيم في مستخرجه، (قال: حدّثنا عبد الله بن وهب) المصري (قال: أخبرني) بالإفراد، ولابن عساكر: أخبرنا (عمرو بن الحرث، عن

(2/171)


عبيد الله) بالتصغير (ابن أبي جعفر) القرشي الأموي المصري (أن محمد بن جعفر بن الزبير) بن العوّام القرشي (حدّثه، عن عروة بن الزبير) بن العوام (عن عائشة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قالت: كان الناس ينتابون الجمعة) بفتح المثناة التحتية وسكون النون وفتح المثناة الفوقية، يفتعلون من النوبة، أي يحضرونها نوبًا. وفي رواية: يتناوبون، بمثناة تحتية فأخرى فوقية، فنون بفتحات. ولغير أبي ذر وابن عساكر: يوم الجمعة (من منازلهم) القريبة من المدينة (و) من (العوالي) جمع عالية، مواضع وقرى شرقي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال أو ثلاثة، وأبعدها ثمانية. (فيأتون في الغبار)، كذا في الفرع، وهو رواية الأكثرين، وعند القابسي: فيأتون في العباء، بفتح العين المهملة والمد، جمع عباءة (يصبيهم الغبار والعرق، فيخرج منهم العرق، فأتى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنسان منهم) وللإسماعيلي: أناس منهم (-وهو عندي-) جملة حالية (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (لو أنكم تطهرتم)، لو: تختص بالدخول على الفعل، فالتقدير: لو ثبت تطهركم (ليومكم) أي: في يومكم (هذا) لكان حسنًا.
أو: لو، للتمني فلا تحتاج إلى تقدير جواب الشرط المقدّر هنا.
وهذا الحديث كان سببًا لغسل الجمعة، كما في رواية ابن عباس عند أو داود. واستدلّ به على أن الجمعة تجب على من كان خارج المصر، وهو يرد على الكوفيين حيث قالوا بعدم الوجوب.
وأجيب: بأنه لو كان واجبًا على أهل العوالي ما تناوبوا، ولكانوا يحضرون جميعًا. وقال الشافعية: إنما تجب على من يبلغه النداء. وحكاه الترمذي عن أحمد، لحديث: الجمعة على من سمع النداء. رواه أبو داود بإسناد ضعيف، لكن ذكر له البيهقي شاهدًا بإسناد جيد، والمراد به: من سمع نداء بلد الجمعة، فمن كان في قرية لا يلزم أهلها إقامة الجمعة لزمته إن كان بحيث يسمع النداء من صيت على الأرض، من طرف قريته الذي يلي بلد الجمعة مع اعتدال السمع، وهدوّ الأصوات، وسكون الرياح، وليس المراد من الحديث أن الوجوب متعلق بنفس السماع، وإلاّ لسقطت عن الأصم، وإنما هو متعلق بمحل السماع.
وقال المالكية على من بينه وبين النار ثلاثة أميال، أما من هو في البلد، فتجب عليه، ولو كان من المنار على ستة أميال. رواه عليّ عن مالك.

وقال آخرون: تجب على من آواه الليل إلى أهله لحديث أبي هريرة مرفوعًا: الجمعة على من آواه الليل إلى أهله. رواه الترمذي والبيهقي وضعفاه، أي: أنه إذا جمع مع الإمام أمكنه العود إلى أهله آخر النهار، قبل دخول الليل.
ورواة الحديث ما بين مصري ومدني، وفيه رواية الرجل عن عمه، والتحديث والإخبار والعنعنة والقول، وأخرجه مسلم وأبو داود في الصلاة.

16 - باب وَقْتُ الْجُمُعَةِ إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ
وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ وَالنُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ وَعَمْرِو بْنِ حُرَيْثٍ رضي الله عنهم.
هذا (باب) بالتنوين (وقت الجمعة) أوّله (إذا زالت الشمس) عن كبد السماء.
(وكذلك يروى) بضم أوّله وفتح الواو، ويروى في نسخة عن الأربعة: يذكر (عن فضلاء الصحابة): (عمر) بن الخطاب، فيما وصله ابن أبي شيبة، وشيخ المؤلّف: أبو نعيم في كتاب الصلاة له، من رواية عبد الله بن سيدان بكسر المهملة وسكون المثناة التحتية وغيره (وعلي) هو: ابن أبي طالب، مما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح، (والنعمان بن بشير) مما رواه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح أيضًا، عم سماك بن حرب (وعمر بن حريث) بفتح العين وسكون الميم في الأوّل، وبالتصغير في الثاني، مما وصله ابن أبي شيبة أيضًا، من طريق الوليد بن العيزار (رضي الله عنهم)، وهو مذهب عامّة العلماء.
وذهب أحمد إلى صحة وقوعها قبل الزوال، متمسكًّا بما روي عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، رضي الله عنهم: أنهم كانوا يصلون الجمعة قبل الزوال، من طريق لا تثبت. وما روي أيضًا، من طريق عبد الله بن سلمة، بكسر اللام: أن عبد الله بن مسعود صلّى بهم الجمعة ضحى، وقال: خشيت عليكم الحر.
وأجيب: بأن عبد الله، وإن كان كبيرًا، لكنه تغير لا كبر. قاله شعبة.
وقول بعض الحنابلة، محتجًّا بقوله عليه الصلاة والسلام: "إن هذا يوم جعله الله عيدًا للمسلمين"، فلما سماه عيدًا جازت الصلاة فيه في وقت العيد: كالفطر والأضحى، معارض بأنه لا يلزم من تسمية يوم الجمعة عيدًا أن يشتمل على جميع أحكام العيد، بدليل أن يوم العيد يحرم صومه مطلقًا، سواء صام قبله أو بعده، بخلاف يوم

(2/172)


الجمعة باتفاقهم. اهـ.
903 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ أَنَّهُ سَأَلَ عَمْرَةَ عَنِ الْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَتْ: قَالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها: "كَانَ النَّاسُ مَهَنَةَ أَنْفُسِهِمْ، وَكَانُوا إِذَا

راحوا إلى الجُمعةِ راحوا في هَيْئتِهم، فقيلَ لهم: لَوِ اغتسَلْتم". [الحديث 903 - طرفه في: 2071].
وبالسند قال: (حدّثنا عبدان) بفتح المهملة وسكون الموحدة وتخفيف الدال المهملة، هو عبد الله بن عثمان بن جبلة الأزدي المروزي، المتوفى سنة إحدى وعشرين ومائتين، (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك (قال: أخبرنا) ولابن عساكر: حدّثنا (يحيى بن سعيد) الأنصاري (أنه سأل عمرة) بفتح العين المهملة وسكون الميم، بنت عبد الرحمن الأنصارية المدنية. (عن الغسل يوم الجمعة، فقالت: قالت عائشة، رضي الله عنها: كان الناس مهنة) بفتحات جمع: ماهن، ككتبة وكاتب، أي: خدمة (أنفسهم) وفي نسخة لأبي ذر، عن الحموي والمستملي، وعزاها العيني كالحافظ ابن حجر لحكاية ابن التين: مهنة، بكسر الميم وسكون الهاء، مصدر. أي: ذوي مهنة أنفسهم (وكانوا إذا راحوا) أي: ذهبوا بعد الزوال (إلى) صلاة (الجمعة، راحوا في هيئتهم) من العرق المتغير الحاصل بسبب جهد أنفسهم في المهنة (فقيل لهم: لو اغتسلتم) لكان مستحبًّا لنزول تلك الرائحة الكريهة التي يتأذى بها الناس والملائكة.
وتفسير الرواح هنا بالذهاب بعد الزوال هو على الأصل مع تخصيص القرينة له به؛ وفي قوله: "من اغتسل يوم الجمعة ثم راح في الساعة الأولى"، القرينة قائمة في إرادة مطلق الذهاب، كما مر عن الأزهري، فلا تعارض.
ورواة هذا الحديث ما بين مروزي ومدني، وفيه التحديث والإخبار والسؤال والقول، وأخرجه مسلم في الصلاة، وأبو داود فى الطهارة.
904 - حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عُثْمَانَ التَّيْمِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ حِينَ تَمِيلُ الشَّمْسُ".
وبه قال: (حدّثنا سريج بن النعمان) بالسين المهملة المضمومة آخره جيم مصغر، وضم نون: النعمان، وسكون عينه، البغدادي، المتوفى سنة سبع عشرة ومائتين (قال: حدّثنا فليح بن سليمان) بضم الفاء وفتح اللام آخره مهملة في الأول، وضم المهملة في الثاني مصغرين (عن عثمان بن عبد الرحمن بن عثمان التيمي، عن أنس بن مالك، رضي الله عنه)، صرّح الإسماعيلي من طريق زيد بن الحباب، عن فليح، بسماع عثمان له من أنس: (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كان يصلّي الجمعة حين تميل الشمس) أي: تزول عن كبد السماء.
وأشعر التعبير، بكان بمواظبته عليه الصلاة والسلام على صلاة الجمعة بعد الزوال.

905 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ، وَنَقِيلُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ". [الحديث 905 - طرفه في: 940].
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك (قال: أخبرنا حميد، عن أنس قال) ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي: عن أنس بن مالك قال: (كنّا نبكر بالجمعة) أي: نبادر بصلاتها قبل القيلولة.
وقد تمسك بظاهره الحنابلة في صحة وقوعها باكر النهار.
وأجيب: بأن التبكير يطلق على فعل الشيء في أول وقته، وتقديمه على غيره. فمن بادر إلى شيء فقد بكر إليه، أي: وقت. كأن يقال: بكر بصلاة الغرب، إذا أوقعها في أول وقتها. وطريق الجمع أولى من دعوى التعارض.
وأيضًا فالتبكير شامل لما قبل طلوع الشمس، والإمام أحمد لا يقول به، بل يجوزها قبل الزوال.
فالمنع في أول النهار اتفاق فإذا تعذر أن يكون بكرة، دل على أن يكون المراد به المبادرة من الزوال. كذا قرره البرماوي، كغيره.
(ونقيل) بفتح أوله، مضارع. قال قيلولة، أي: ننام (بعد) صلاة (الجمعة) عوضًا عن القيلولة عقب الزوال الذي صليت فيه الجمعة، لأنه كان من عادتهن في الحر يقيلون ثم يصلون الظهر لمشروعية الإبراد.
وفيه: أن الجمعة لا تصلّى ولا يفعل شيء منها ولا من خطبتها في غير وقت ظهر يومها، ولو جاز تقديم الخطبة لقدمها، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لتقع الصلاة أول الوقت.
وما رواه الشيخان عن سلمة بن الأكوع من قوله: كنا نصلي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجمعة، ثم ننصرف وليس للحيطان ظل نستظل به، محمول على شدة التعجيل بعد الزوال جمعًا بين الأدلة على أن هذا الحديث إنما ينفي ظلاُّ يستظل به، لا أصل الظل.

17 - باب إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا اشتد الحر يوم الجمعة) أبرد المصلي بصلاتها كالظهر.
906 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَرَمِيُّ بْنُ عُمَارَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ -هُوَ خَالِدُ بْنُ دِينَارٍ- قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا اشْتَدَّ الْبَرْدُ بَكَّرَ بِالصَّلاَةِ. وَإِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ أَبْرَدَ بِالصَّلاَةِ" يَعْنِي الْجُمُعَةَ.

قَالَ يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ: أَخْبَرَنَا أَبُو خَلْدَةَ فَقَالَ: "بِالصَّلاَةِ" وَلَمْ يَذْكُرِ الْجُمُعَةَ. وَقَالَ بِشْرُ بْنُ ثَابِتٍ: حَدَّثَنَا أَبُو خَلْدَةَ قَالَ: "صَلَّى بِنَا أَمِيرٌ الْجُمُعَةَ، ثُمَّ قَالَ لأَنَسٍ -رضي الله عنه-: كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي الظُّهْرَ"؟
وبه قال: (حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي) بضم الميم وفتح القاف وتشديد الدال المفتوحة (قال: حدّثني حرمي بن عمارة) بفتح الحاء والراء المهملتين، وكسر الميم في الأولى، وضم العين المهملة وتخفيف الميم في الثاني (قال: حدّثنا أبو خلدة) بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام وفتحها (هو) وفي نسخة لأبي ذر، وأبي الوقت، وهو (خالد بن

(2/173)


دينار) التميمي السعدي البصري، الخياط (قال: سمعت أنس بن مالك) رضي الله عنه، حال كونه (يقول: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا اشتد البرد بكر بالصلاة) صلاها في أول وقتها على الأصل، (وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة) قال الراوي: (يعني الجمعة) قياسًا على الظهر، لا بالنص. لأن أكثر الأحاديث يدل على التفرقة في الظهر، وعلى التبكير في الجمعة مطلقًا من غير تفصيل.
والذي نحا إليه المؤلّف مشروعية الإبراد بالجمعة، ولم يثبت الحكم بذلك، لأن قوله: يعني الجمعة، يحتمل أن يكون قول التابعي مما فهمه، وأن يكون من نقله، فرجح عنده إلحاقها بالظهر لأنها إما ظهر وزيادة، أو بدل عن الظهر، قاله ابن المنير.
ورواة حديث الباب كلهم بصريون، وفيه التحديث والسماع والقول.
(قال) ولأبي ذر: وقال: (يونس بن بكير) بالتصغير فيما وصله المؤلّف في: الأدب المفرد (أخبرنا أبو خلدة، وقال) بالواو، ولكريمة: فقال: (بالصلاة) أي: بلفظها فقط، (ولم يذكر الجمعة).
ولفظه في: الأدب المفرد: "كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد بكر بالصلاة". وكذا أخرجه الإسماعيلي من وجه آخر، عن يونس، وزاد: يعني الظهر.
وهذا موافق لقول الفقهاء: يندب الإبراد بالظهر، في شدّة الحر بقطر حار، لا بالجمعة لشدة الخطر في فواتها المؤدي إليه تأخيرها بالتكاسل، ولأن الناس مأمورون بالتبكير إليها، فلا يتأذّون بالحر.
وما في الصحيحين من: أنه، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كان يبرد بها، بيان للجواز فيها جمعًا بين الأدلة.
(وقال بشر بن ثابت) مما وصله الإسماعيلي والبيهقي: (حدّثنا أبو خلدة، قال: صلّى بنا أمير الجمعة) هو: الحكم بن أبي عقيل الثقفي، نائب ابن عمه الحجاج بن يوسف، وكان على طريقة ابن عمه في تطويل الخطبة يوم الجمعة، حتى يكاد الوقت أن يخرج (ثم قال لأنس، رضي الله عنه، كيف

كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلّي الظهر)؟ في رواية الإسماعيلي والبيهقي: كان إذا كان الشتاء بكَّر بالظهر، وإن كان الصيف أبرد بها.

18 - باب الْمَشْيِ إِلَى الْجُمُعَةِ، وَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}
وَمَنْ قَالَ السَّعْيُ الْعَمَلُ وَالذَّهَابُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا}.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَحْرُمُ الْبَيْعُ حِينَئِذٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ: تَحْرُمُ الصِّنَاعَاتُ كُلُّهَا.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ: إِذَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهْوَ مُسَافِرٌ فَعَلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ.
(باب المشي إلى) صلاة (الجمعة، وقول الله جل ذكره) بجر لام قول، عطفًا على المشي المجرور بالإضافة، وبالضم على الاستئناف ({فاسعوا إلى ذكر الله}) [الجمعة: 9] أي: فامضوا، لأن السعي على المضي وعلى العدو، فبينت السنة المراد به، كما في الحديث الآتي في هذا الباب: "فلا تأتوها تسعون وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة".
نعم، إذا ضاق الوقت فالأولى الإسراع. وقال المحب الطبري: يجب إذا لم تدرك الجمعة إلا به.
(ومن قال) في تفسيره (السعي: العمل) لها (والذهاب) إليها القوله تعالى ({وسعى لها}) أي للآخرة ({سعيها}) [الإسراء: 19] المفسر: يعمل لها حقها من السعي، وهو الإتيان بالأوامر، والانتهاء عن النواهي.
(وقال ابن عباس رضي الله عنهما) مما وصله ابن حزم، من طريق عكرمة عنه، لكن بمعناه (يحرم البيع) أي: ونحوه من سائر العقود، مما فيه تشاغل عن السعي إليها: كإجارة وتولية، ولا تبطل الصلاة (حينئذٍ). أي: إذا نودي بها بعد جلوس الخطيب على المنبر لآية {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وقيس على البيع نحوه.
وإنما لم تبطل الصلاة لأن النهي لا يختص به، فلم يمنع صحته، كالصلاة في أرض مغصوبة.
ويصح البيع عند الجمهور، لأن النهي ليس لمعنى في العقد داخل ولا لازم، بل خارج عنه.
وقال المالكية: يفسخ ما عدا: النكاح، والهبة، والصدقة، وحيث فسخ تردّ السلعة إن كانت قائمة، ويلزم قيمتها يوم القبض إن كانت فائتة. والفرق بين الهبة والصدقة، وبين غيرهما، أن غير الهبة والصدقة يردّ على كل واحد ما له، فلا يلحقه كبير مضرة، ولا كذلك الهبة والصدقة، لأنه ملك الشيء بغير عوض فيبطل عليه، فتلحقه المضرة. وأما عدم فسخ النكاح فللاحتياط في الفروج. اهـ.

وتقييد الأذان بكونه بعد جلوس الخطيب لأنه الذي كان في عهده -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كما سيأتي إن شاء الله
تعالى، فانصرف النداء في الآية إليه. أما الأذان الذي عند الزوال، فيجوز البيع عنده مع الكراهة لدخول وقت الوجوب.
لكن، قال الأسنوي: ينبغي أن لا يكره في بلد

(2/174)


يؤخرون فيها تأخيرًا كثيرًا، كمكة، لما فيه من الضرر، فلو تبايع مقيم ومسافر أثما جميعًا لارتكاب الأول النهي وإعانة الثاني له عليه.
نعم، يستثنى من تحريم البيع ما لو احتاج إلى ماء طهارته، أو إلى ما يواري به عورته، أو يقوته عند اضطراره، ولو باع وهو سائر إليها، وأو في الجامع جاز، لأن المقصود أن لا يتأخر عن السعي إلى الجمعة. لكن يكره البيع ونحوه في المسجد، لأنه ينزّه عن ذلك.
وعند الحنفية يكره البيع مطلقًا ولا يحرم.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح، مما وصله عبد بن حميد في تفسيره: (تحرم الصناعات كلها) لأنها بمنزلة البيع في الشاغل عن الجمعة.
(وقال إبراهيم بن سعد) بسكون العين، ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف المدني، (عن) ابن شهاب (الزهري: إذا أذن المؤذن يوم الجمعة، وهو مسافر، فعليه) أي: على طريق الاستحباب، (أن يشهد) أي الجمعة.
لكن اختلف على الزهري فيه، فروي عنه هذا، وروي عنه: لا جمعة على مسافر على طريق الوجوب.
قال ابن المنذر: وهو كالإجماع، ويحتمل أن يكون مراده بقوله: فعليه أن يشهد، ما إذا اتفق حضور المسافر في موضع تقام فيها الجمعة فسمع: النداء لها، إلا أنه يلزمه حضورها مطلقًا، حتى يحرم عليه السفر قبل الزوال من البلد الذي يدخله مجتازًا.
وقال المالكية: تجب عليه، إذا أدركه صوت المؤذن قبل مجاوزة الفرسخ.
907 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبَايَةُ بْنُ رِفَاعَةَ قَالَ: أَدْرَكَنِي أَبُو عَبْسٍ وَأَنَا أَذْهَبُ إِلَى الْجُمُعَةِ فَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ». [الحديث 907 - طرفه في: 2811].
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني (قال: حدّثنا الوليد بن مسلم، قال: حدّثنا يزيد ابن أبي مريم) الدمشقي إمام جامعها، قال الزركشي: ووقع في أصل كريمة: بريد، بضم الموحدة وبالراء، وهو: غلط، وللأصيلي ابن أبي مريم الأنصاري: (قال: حدّثنا عباية بن رفاعة) بفتح العين المهملة وتخفيف الموحدة وكسر راء، رفاعة بن خديج الأنصاري (قال: أدركني أبو عبس) بفتح العين

المهملة وسكون الموحدة آخره مهملة، عبد الرحمن بن جبر، بالجيم المفتوحة والموحدة الساكنة والراء، الأنصاري (وأنا أذهب إلى الجمعة)، جملة اسمية حالية (فقال: سمعت النبي) ولأبي ذر: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، يقول):
(من أغبرت قدماه) أي: أصابهما غبار (في سبيل الله) اسم جنس مضاف يفيد العموم، فيشمل الجمعة، (حرمه الله) كله (على النار).
وجه المطابقة من قوله: أدركني أبو عبس ... ، لأنه لو كان يعدو لما احتمل الوقت المحادثة لتعذرها مع العدو.
ورواة الحديث ما بين مديني ودمشقي، وليس لأبي عبس في البخاري إلا هذا الحديث، ويزيد أفراده، وفيه رواية تابعي عن تابعي عن صحابي والتحديث والسماع والقول، وأخرجه المؤلّف في الجهاد، وكذا الترمذي والنسائي.
908 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ قَالَ الزُّهْرِيُّ عَنْ سَعِيدٍ وَأَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَحَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَلاَ تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَأْتُوهَا تَمْشُونَ عَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدّثنا ابن أبي ذئب) عبد الرحمن (قال: حدّثنا) ابن شهاب (الزهري، عن سعيد) بكسر العين، ابن المسيب (و) عن (أبي سلمة) ابن عبد الرحمن (عن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
ثم ساق لهذا سندًا آخر فقال: (وحدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو: اين أبي حمزة: (عن) ابن شهاب (الزهري قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) رضي الله تعالى عنه (أن أبا هريرة قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها) حال كونكم (تسعون)، لما يلحق الساعي من التعب وضيق النفس المنافي للخشوع المطلوب، (و) لكن (ائتوها تمشون، عليكم) ولأبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر: وعليكم (السكينة) بالرفع، مبتدأ أخبر عنه بسابقه. والجملة حال من ضمير: وأتوها تمشون وبالنصب لغير أبي ذر على الإغراء، أي: الزموا السكينة أي: الهينة والتأني.
والنهي متوجه إلى السعي، لا إلى الإتيان، واستشكل النهي بما في قوله تعالى: {فاسعوا} [الجمعة: 9].
وأجيب: بأن المراد به في الآية: القصد، أو الذهاب، أو العمل، كما مر.

وفي الحديث: الإسراع، لأنه قابله بالمشي حيث قال: وأتوها تمشون. قال الحسن: ليس السعي الذي في الآية على الأقدام بل على القلوب.
(فما أدركتم) مع الإمام من الصلاة (فصلوا، وما فاتكم فأتموا). فيه أن ما يدرك المرء من باقي صلاة

(2/175)


الإمام هو أوّل صلاته، لأن الإتمام إنما يكون بناء على ما سبق له.
وقد سبق الحديث بمباحثه في باب: لا يسعى إلى الصلاة، وليأتها بالسكينة والوقار، آخر كتاب الأذان.
909 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو قُتَيْبَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ لاَ أَعْلَمُهُ إِلاَّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَقُومُوا حَتَّى تَرَوْنِي وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ».
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم، الفلاَّس، (قال: حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر والأصيلي: حدّثنا (أبو قتيبة) بضم القاف وفتح المثناة الفوقية، سلم: بفتح المهملة وسكون اللام، ابن قتيبة الشعيري: بفتح المعجمة، الخراساني، سكن البصرة (قال: حدّثنا علي بن المبارك) الهنائي، بضم الهاء وتخفيف النون ممدودًا، (عن يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة، (عن عبد الله بن أبي قتادة) الأنصاري المدني (لا أعلمه إلاّ عن أبيه).
زاد أبو ذر، في روايته عن المستملي: قال أبو عبد الله، أي: البخاري: لا أعلمه، أي: لا أعلم رواية عبد الله هذا الحديث إلا عن أبيه، أبي قتادة الحرث، ويقال: عمرو، أو النعمان بن ربعي، بكسر الراء وسكون الموحدة بعدها مهملة، ابن بلدمة، بضم الموحدة والمهملة بينهما لام ساكنة، السلمي، بفتحتين، المدني. قال الحافظ ابن حجر: كأنه وقع عنده، يعني المؤلّف، توقف في وصله لكونه كتبه من حفظه أو لغير ذلك، وهو في الأصل موصول لا ريب فيه، أخرجه الإسماعيلي عن ابن ناجية، عن أبي حفص، وهو عمرو بن علي شيخ المؤلّف، فقال: عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه، ولم يشك. اهـ.
قلت: وكذا في الفرع وأصله في رواية ابن عساكر: عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا تقوموا حتى تروني، وعليكم السكينة) بالرفع والنصب كما مر قريبًا.
وسبق الحديث في آخر كتاب الأذان، في باب: متى يقوم الناس إذا رأوا الإمام عند الإقامة، مع مباحثه.

19 - باب لاَ يُفَرَّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
هذا (باب) بالتنوين (لاّ يفرّق) الداخل المسجد (بين اثنين يوم الجمعة) لا: ناهية، والفعل من التفريق مبني للفاعل أو المفعول.
والتفرقة تتناول، أمرين أحدهما: التخطي، والثاني: أن يزحزح رجلين عن مكانهما ويجلس بينهما.
فأما الأوّل: فهو مكروه لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس فقال له: "اجلس، فقد آذيت وآنيت". أي تأخرت. رواه ابن ماجة، والحاكم وصححاه.
وفي الطبراني أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل: "رأيتك تتخطى رقاب الناس وتؤذيهم، من آذى مسلمًا فقد آذاني، ومن آذاني فقد آذى الله".
وللترمذي: "من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة اتخذ جسرًا إلى جهنم". قال العراقي: المشهور: اتخذ مبنيًّا للمفعول، أي: يجعل جسرًا على طريق جهنم ليوطأ، ويتخطى كما تخطى رقاب الناس، فإن الجزاء من جنس العمل، ويحتمل أن يكون على بناء الفاعل، أي: اتخذ لنفسه جسرًا يمشي عليه إلى جهنم بسبب ذلك.
ولأبي داود، من طريق عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه رفعه: "ومن تخطى رقاب الناس كانت له ظهرًا"، أي: لا تكون له كفّارة لما بينهما.
نعم: لا يكره للإمام إذا لم يبلغ المحراب إلاّ بالتخطي لاضطراره إليه، ومن لم يجد فرجة بأن لم يبلغها إلاّ بتخطي صف أو صفين، فلا يكره، وإن وجد غيرها لتقصير القوم بإخلاء الفرجة، لكن يستحب له إن وجد غيرها أن لا يتخطى.
وهل الكراهة المذكورة للتنزيه أم للتحريم؟ صرّح بالأول في المجموع، ونقل الشيخ أبو حامد الثاني عن نص الشافعي رحمه الله، واختاره في الروضة في: الشهادات، وقيد المالكية والأوزاعي الكراهة بما إذا كان الإمام على المنبر لحديث أحمد الآتي:
وأما الثاني: وهو، أن يزحزح رجلين عن مكانهما ويجلس بيهما، فيأتي إن شاء الله تعالى في الباب التالي.
910 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ وَدِيعَةَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَتَطَهَّرَ بِمَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، ثُمَّ ادَّهَنَ أَوْ مَسَّ مِنْ طِيبٍ، ثُمَّ رَاحَ فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَلَّى مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ إِذَا خَرَجَ الإِمَامُ أَنْصَتَ، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى».

وبالسند قال: (حدّثنا عبدان) هو ابن عبد الله بن عثمان المروزي (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك (قال: أخبرنا) ولابن عساكر: حدّثنا (ابن أبي ذئب) هو محمد بن عبد الرحمن (عن سعيد المقبري) بضم الموحدة (عن أبيه) أبي سعيد، كيسان (عن ابن وديعة) بفتح الواو، عبد الله (عن سلمان الفارسي) رضي الله عنه، ولابن عساكر: حدّثنا سلمان الفارسي (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من اغتسل يوم الجمعة، وتطهر بما استطاع من طهر) كقص الشارب، وقلم الظفر، وحلق العانة، وتنظيف الثياب (ثم ادّهن) بتشديد الدال: طلى جسده به (أو مسَّ من طيب) بأو التي للتفصيل (ثم راح) ذهب

(2/176)


إلى صلاة الجمعة (فلم) بالفاء، وللأصيلي: ولم (يفرق) في المسجد (بين اثنين) بالتخطي أو بالجلوس بينهما، وهو كناية عن التبكير، كما مرّ، لأنه إذا بكر لا يتخطى ولا يفرق (فصلّى ما كتب له) أي فرض من صلاة الجمعة، أو ما قدره فرضًا أو نفلاً (ثم إذا خرج الإمام أنصت) لسماع الخطبة، (غفر له ما بينه) أي بين يوم الجمعة الماضية (وبين) يوم (الجمعة الأخرى) المستقبلة.
والحديث سبق في باب الدهن للجمعة مع شرحه.

20 - باب لاَ يُقِيمُ الرَّجُلُ أَخَاهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَقْعُدُ فِي مَكَانِهِ
هذا (باب) بالتنوين (لا يقيم الرجل أخاه يوم الجمعة ويقعد في مكانه) لا: نافية، والفعل مرفوع، والخبر في معنى النهي، ويقعد بالرفع عطفًا على يقيم، أو على أن الجملة حالية، أي: وهو يقعد، أو بالنصب، بتقدير: أن، فعلى الأول كلٌّ من الإقامة والقعود منهي عنه، وعلى الثاني والثالث: النهي عن الجمع بينهما، حتى: لو أقامه ولم يقعد لم يرتكب النهي.
ولم يذكر المؤلّف حديث مسلم عن جابر من طريق أبي الزبير المقيد، كالترجمة، بيوم الجمعة ليطابقها، ولفظه: "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة، ثم يخالف إلى مقعده فيقعد فيه، ولكن يقول: تفسحوا". لأنه ليس على شرطه، لكنه أشار إليه بالقيد المذكور في الترجمة كعادته، رحمه الله.
911 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَخْلَدُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: سَمِعْتُ نَافِعًا يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: "نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُقِيمَ الرَّجُلُ أَخَاهُ مِنْ مَقْعَدِهِ وَيَجْلِسَ فِيهِ". قُلْتُ لِنَافِعٍ: الْجُمُعَةَ؟ قَالَ الْجُمُعَةَ وَغَيْرَهَا. [الحديث 911 - طرفاه في: 6269، 6270].
وبالسند إليه قال: (حدّثنا محمد) زاد أبو ذر: هو ابن سلام، أي: بتشديد اللام كما في الفرع، وضبطها العيني بالتخفيف، وهو البيكندي (قال: أخبرنا مخلد بن يزيد) بفتح الميم وسكون المعجمة، ويزيد من الزيادة (قال: أخبرنا ابن جريج) عبد الملك (قال: سمعت نافعًا) مولى ابن عمر،

حال كونه (يقول: سمعت ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما) حال كونه (يقول: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقيم الرجل أخاه) أي: نهى عن إقامة الرجل أخاه، فأن مصدرية. ولأبوي ذر والوقت في نسخة، والأصيلي وابن عساكر: أن يقيم الرجل الرجل (من مقعده) بفتح الميم، موضع قعوده (ويجلس فيه) بالنصب عطفًا على أن يقيم، أي: وأن يجلس.
والمعنى: أن كل واحد منهي عنه وظاهر النهي التحريم، فلا يصرف إلا بدليل، فلا يجوز أن يقيم أحدًا من مكانه ويجلس فيه، لأن من سبق إلى مباح فهو أحق به.
ولأحمد حديث: "إن الذي يتخطى رقاب الناس أو يفرق بين اثنين بعد خروج الإمام كالجار قصبه في النار". وهو بضم القاف، أي: أمعاءه. والتفرقة صادقة بأن يزحزح رجلين عن مكانهما، ويجلس بينهما.
نعم، لو قام الجالس باختياره، وأجلس غيره فلا كراهة في جلوس غيره، ولو بعث من يقعد له في مكان ليقوم عنه إذا جاء هو، جاز أيضًا من غير كراهة، ولو فرش له نحو سجادة، فلغيره تنحيتها والصلاة مكانها، لأن السبق بالأجسام لا بما يفرش، ولا يجوز له الجلوس عليها بغير رضاه. نعم، لا يرفعها بيده أو غيرها، لئلا تدخل في ضمانه.
واستنبط من قوله في حديث مسلم السابق: ولكن يقول تفسحوا، إن الذي يتخطى بعد الاستئذان لا كراهة في حقه.
قال ابن جريج: (قلت لنافع: الجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها) بالنصب في الثلاثة على نزع الخافض، أي في الجمعة وغيرها.
ولأبي ذر: والجمعة؟ قال: الجمعة وغيرها. بالرفع في الثلاثة على الابتداء، وغيرها عطف عليه، والخبر محذوف، أي: الجمعة وغيرها متساويان في النهي عن التخطي في مواضع الصلوات.
ورواة الحديث ما بين: بخاري، وحراني، ومكّي، ومدني، وفيه التحديث والإخبار، والسماع والقول، وشيخ المؤلّف رحمه الله من أفراده، وأخرجه مسلم في الاستئذان.

21 - باب الأَذَانِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
(باب) وقت مشروعية (الأذان يوم الجمعة).
912 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: "كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضي الله عنهما-. فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ -رضي الله عنه-. وَكَثُرَ النَّاسُ -زَادَ النِّدَاءَ الثَّالِثَ عَلَى الزَّوْرَاءِ". [الحديث 912 - أطرافه في: 913، 915، 916].
وبه قال: (حدثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن (عن) ابن شهاب (الزهري عن السائب بن يزيد) الكندي (قال: كان النداء) أي: الذي ذكره الله في القرآن (يوم الجمعة، أوّله) بالرفع، بدل، من اسم كان، وخبرها، قوله (إذا جلس الإمام على المنبر على عهد النبيّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، و) خلافة (أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فلما كان عثمان رضي الله عنه) خليفة، (وكثر الناس) أي المسلمون بمدينة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، (زاد) بعد مضي مدّة من خلافته (النداء الثالث) عند دخول الوقت (على الزوراء) بفتح الزاي وسكون الواو وفتح الراء ممدودًا، أو سماه ثالثًا باعتبار كونه مزيدًا على الأذان بين يدي الإمام، والإقامة للصلاة.
وزاد ابن

(2/177)


خزيمة، في رواية وكيع، عن ابن أبي ذئب: فأمر عثمان بالأذان الأول. ولا منافاة بينهما، لأنه أول باعتبار الوجود، ثالث باعتبار مشروعية عثمان له باجتهاده، وموافقة سائر الصحابة له بالسكوت وعدم الإنكار، فصار إجماعًا سكوتيًّا.
وأطلق الأذان على الإقامة، تغليبًا بجامع الإعلام فيهما ومنه قوله عليه الصلاة والسلام "بين كل أذانين صلاة لمن شاء".
وزاد أبو ذر في روايته: (قال أبو عبد الله) أي البخاري: (الزوار موضع بالسوق بالمدينة) قيل إنه مرتفع كالمنارة، وقيل حجر كبير عند باب المسجد.
ورواة هذا الحديث أربعة، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة والقول، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الجمعة، وأبو داود في الصلاة، وكذا الترمذي وابن ماجة.

22 - باب الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
(باب المؤذن الواحد يوم الجمعة).
913 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ الْمَاجِشُونُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ: "أَنَّ الَّذِي زَادَ التَّأْذِينَ الثَّالِثَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رضي الله عنه-حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ- وَلَمْ يَكُنْ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُؤَذِّنٌ غَيْرَ وَاحِدٍ، وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ" يَعْنِي عَلَى الْمِنْبَرِ.
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين (قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي سلمة) بفتح اللام، هو ابن عبد الله بن أبي سلمة (الماجشون) بكسر الجيم وفتحها، بعدها معجمة مضمومة، المدني، نزيل بغداد، (عن) ابن شهاب (الزهري عن السائب بن يزيد) الكندي: (أن الذي زاد التأذين الثالث) الذي هو الأول وجودًا كما مر قريبًا (يوم الجمعة: عثمان بن عفان، رضي الله عنه) أثناء

خلافته (حين كثر أهل المدينة -ولم يكن للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مؤذن غير واحد) أي: يؤذن يوم الجمعة وإلا فله بلال، وابن أم مكتوم، وسعد القرظ.
وغير: بالنصب: خبر كان، ولأبي ذر: غير واحد، بالرفع، وهو الظاهر في إرادة نفي تأذين اثنين معًا. أو المراد: أن الذي كان يؤذن هو الذي كان يقيم. وقد نص الشافعي رحمه الله على كراهة التأذين جماعة.
(وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام، يعني على المنبر) قبل الخطبة، وفي نسخة لأبوي ذر والوقت: حين يجلس الإمام على المنبر، فأسقط لفظ: يعني.

23 - باب يُجِيبُ الإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ
هذا (باب) بالتنوين (يجيب الإمام) المؤذن هو (على المنبر إذا سمع النداء) أي الأذان، ولكريمة: يؤذن الإمام، بدل: يجيب، وكأنه سماه: أذانًا لكونه بلفظه.
914 - حَدَّثَنَا ابْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ بْنِ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَهُوَ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ، قَالَ مُعَاوِيَةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا. فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: وَأَنَا. فَلَمَّا أَنْ قَضَى التَّأْذِينَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، "إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى هَذَا الْمَجْلِسِ -حِينَ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ- يَقُولُ مَا سَمِعْتُمْ مِنِّي مِنْ مَقَالَتِي".
وبالسند قال: (حدّثنا ابن مقاتل) المروزي، ولابن عساكر: أخبرنا محمد بن مقاتل (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك، المروزي (قال: أخبرنا أبو بكر بن عثمان بن سهل بن حنيف) بفتح السين وسكون الهاء وضم الحاء المهملة، من حنيف مصغرًا (عن) عمه (أبي أمامة) بضم الهمزة، أسعد (بن سهل بن حنيف، قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب بن أمية، (وهو جالس على المنبر) جملة اسمية حالية (أذن المؤذن. قال): ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: فقال: (الله أكبر الله أكبر، قال) وللثلاثة: فقال (معاوية: الله أكبر الله أكبر، قال) المؤذن، ولأبي ذر: فقال (أشهد أن لا إله إلاّ الله. فقال) وفي نسخة لأبي ذر: قال: (معاوية: وأنا) أي: أشهد به، وأقول مثله، (فلما قال) أي: المؤذن، ولكريمهّ: فقال (أشهد أن محمدًا رسول الله. فقال) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي: قال (معاوية: وأنا) أي: أشهد، وأقول مثله، (فلما أن قضى) المؤذن (التأذين) أي: فرغ منه، وللأصيلي وابن عساكر: فلما قضى، فأسقطا كلمة: أن، الزائدة ولأبي ذر عن الكشميهني: فلما أن انقضى التأذين. بالرفع على أنه فاعل، أي: انتهى (قال) معاوية:

(يا أيها الناس إني سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، على هذا المجلس، -حين أذن المؤذن- يقول ما سمعتم مني من مقالتي) أي التي أوجبت بها المؤذن.
وفيه: أن قول المجيب: وأنا كذلك، أو نحوه، يكون إجابة للمؤذن.
ورواته ما بين: مروزي ومدني وفيه: التحديث والإخبار والعنعنة والقول، وشيخ المؤلّف من أفراده، ورواية الرجل عن عمه، والصحابي عن الصحابي، وأخرجه النسائي في الصلاة، وفي اليوم والليلة.

24 - باب الْجُلُوسِ عَلَى الْمِنْبَرِ عِنْدَ التَّأْذِينِ
(باب) سنة (الجلوس) للخطيب (على المنبر) قبل الخطبة (عند التأذين) بقدر الأذان.
915 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ التَّأْذِينَ الثَّانِيَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَمَرَ بِهِ عُثْمَانُ -حِينَ كَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ- وَكَانَ التَّأْذِينُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ".
وبالسند: قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة (قال: حدّثنا الليث) بن سعد، إمام المصريين، رحمه الله (عن عقيل) بضم العين، ابن خالد (عن ابن شهاب) الزهري (أن السائب بن يزيد) بن سعيد الكندي حج به في حجة الوداع، وهو ابن سبع سنين، وهو آخر من مات بالمدينة من الصحابة، وكان في سنة إحدى وتسعين أو قبلها: (أخبره

(2/178)


أن التأذين الثاني) هو ثان بالنظر إلى الأذان الحقيقي، ثالث بالنظر إليه والإقامة (يوم الجمعة أمر به عثمان -حين) ولأبي ذر والأصيلي: أمر به عثمان بن عفان حين (كثر أهل المسجد-) النبوي، في أثناء خلافته (وكان التأذين يوم الجمعة حين يجلس الإمام) على المنبر.
وهو يردّ على الكوفيين حيث قالوا: الجلوس على المنبر عند التأذين غير مشروع، والحكمة للجمهور في سنيته سكون اللغط، والتهيؤ للإنصات لسماع الخطبة، وإحضار الذهن للذكر والموعظة.

25 - باب التَّأْذِينِ عِنْدَ الْخُطْبَةِ
(باب التأذين عند) إرادة (الخطبة).
916 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَمِعْتُ السَّائِبَ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: "إِنَّ الأَذَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ أَوَّلُهُ حِينَ يَجْلِسُ الإِمَامُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ -رضي الله عنهما- فَلَمَّا كَانَ فِي خِلاَفَةِ عُثْمَانَ

-رضي الله عنه-وَكَثُرُوا- أَمَرَ عُثْمَانُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِالأَذَانِ الثَّالِثِ، فَأُذِّنَ بِهِ عَلَى الزَّوْرَاءِ، فَثَبَتَ الأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك (قال: أخبرنا يونس) بن يزيد (عن) ابن شهاب (الزهري، قال: سمعت السائب بن يزيد) الكندي (يقول: إن الأذان يوم الجمعة) قبل أمر عثمان بالأذان (كان أوله حين يجلس الإمام يوم الجمعة على المنبر) قبل الخطبة (في عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وأبي بكر، وعمر رضي الله عنهما، فلما كان في خلافة عثمان، رضي الله عنه)، وللأصيلي زيادة: ابن عفان (وكثروا) أي: الناس (أمر عثمان يوم الجمعة بالأذان الثالث) أول الوقت عند الزوال، فهو ثالث بالنسبة لإحداثه، وإلاّ فهو الأوّل وجودًا. كما مر.
(فأذن به) بضم الهمزة، مبنيًّا للمفعول (على الزوراء، فثبت الأمر) في الأذان (على ذلك) أي: على أذانين وإقامة في جميع الأمصار، ولله الحمد.

26 - باب الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ
وَقَالَ أَنَسٌ -رضي الله عنه-: خَطَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْمِنْبَرِ.
(باب) مشروعية (الخطبة) للجمعة وغيرها (على المنبر) بكسر الميم.
(وقال أنس) هو ابن مالك، مما وصله المؤلّف في: الاعتصام والفتن مطوّلاً: (خطب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على المنبر) فيستحب فعلها عليه.
فإن لم يكن منبر فعلى مرتفع، لأنه أبلغ في الإعلام، فإن تعذر، استند إلى خشبة أو نحوها، لما سيأتي إن شاء الله تعالى، أنه عليه الصلاة والسلام المكان يخطب، إلى جذع قبل أن يتخذ المنبر، وأن يكون المنبر على يمين المحراب، والمراد به يمين مصلّى الإمام قال الرافعي، رحمه الله: هكذا وضع منبره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
917 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدٍ الْقَارِيُّ الْقُرَشِيُّ الإِسْكَنْدَرَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حَازِمِ بْنُ دِينَارٍ: "أَنَّ رِجَالاً أَتَوْا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، وَقَدِ امْتَرَوْا فِي الْمِنْبَرِ مِمَّ عُودُهُ؟ فَسَأَلُوهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْرِفُ مِمَّا هُوَ، وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ أَوَّلَ يَوْمٍ وُضِعَ، وَأَوَّلَ يَوْمٍ جَلَسَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى فُلاَنَةَ -امْرَأَةٍ قَدْ سَمَّاهَا سَهْلٌ- مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ، فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الْغَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ هَا هُنَا. ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى عَلَيْهَا، وَكَبَّرَ وَهْوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَكَعَ وَهْوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَزَلَ

الْقَهْقَرَى فَسَجَدَ فِي أَصْلِ الْمِنْبَرِ. ثُمَّ عَادَ. فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا، وَلِتَعَلَّمُوا صَلاَتِي».
وبالسند قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) سقط: ابن سعيد، عند أبي ذر وابن عساكر (قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن عبد القاري) بالقاف والمثناة المشددة من غير همز، نسبة إلى القارة، قبيلة (القرشي) الحلف في بني زهرة من قريش، قال عياض: كذا لبعض رواة البخاري: القرشي، وسقط للأصيلي، وكلاهما صحيح، (الإسكندراني) السكن والوفاة، وكانت سنة إحدى وثمانين ومائة، (قال: حدّثنا أبو حازم بن دينار) بالحاء المهملة والزاي، واسمه سلمة الأعرج (أن رجالاً)، قال الحافظ ابن حجر، لم أقف على أسمائهم، (أتوا سهل بن سعد الساعدي) بإسكان الهاء والعين (وقد امتروا) جملة حالية، أي: تجادلوا أو شكوا، من المماراة، وهي: المجادلة.
قال الراغب: الامتراء والماراة، ومنه {فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22].
وفي رواية عبد العزيز بن أبي حازم، عن أبيه، عند مسلم: أن نفرًا تماروا، أي تجادلوا. قاله ابن حجر، وجعله البرماوي كالكرماني من: الامتراء. قال: هو: الشك. قال العيني متعقبًا للحافظ ابن حجر: وهو الأصوب، ولم يبين لذلك دليلاً.
(في المنبر) النبوي (مِمَّ عوده)؟ أي: من أي شيء هو؟ (فسألوه) أي: سهل بن سعد (عن لك) الممترى فيه (فقال: والله إني لأعرف مما هو) بثبوت ألف ما الاستفهامية المجرورة على الأصل، وهو قليل. وهي قراءة عبد الله وأُبيّ في {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] والجمهور بالحذف، وهو المشهور، وإنما أتى بالقسم مؤكدًا بالجملة الاسمية، وبأن، التي للتحقيق، و: بلام التأكيد في الخبر، لإرادة التأكيد فيما قاله للسامع (ولقد رأيته) أي المنبر (أوّل) أي: في أوّل (يوم وضع) موضعه، هو زيادة على السؤال، كقوله: (وأوّل يوم) أي: في أول يوم (جلس عليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
وفائدة هذه الزيادة المؤكدة: باللام، وقد، إعلامهم بقوة معرفته بما سألوه عنه.
ثم شرح الجواب بقوله: (أرسل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى فلانة امرأة) بعدم الصرف في فلانة، للتأنيث والعلمية.
ولا يعرف اسم المرأة، وقيل: هي فكيهة بنت عبيد بن دليم، أو: علاثة، بالعين المهملة وبالمثلثة، وقيل: إنه تصحيف فلانة، أو: هي

(2/179)


عائشة، قيل: وهو تصحيف الصحف السابق.
وزاد الأصيلي من الأنصار، (قد سماها سهل) فقال لها:
(مري) أصله: أومري، على وزن: افعلي، فاجتمعت همزتان فثقلتا، فحذفت الثانية، واستغني عن همزة الوصل، فصار: مري على وزن: علي لأن المحذوف فاء الفعل (غلامك النجار) بالنصب،

صفة لغلام (أن يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن إذا كلمت الناس) أجلسُ بالرفع في اليونينية، أي: أنا أجلس وفي غيرها أجلس بالجزم جواب للأمر.
والغلام: اسمه ميمون، كما عند قاسم بن أصبغ، أو: إبراهيم، كما في الأوسط للطبراني، أو: باقول بالموحدة والقاف المضمومة واللام، كما عند عبد الرزاق، وباقوم، بالميم بدل اللام، كما عند ابن نعيم في المعرفة، أو: وصباح، بضم الصاد المهملة بعدها موحدة خفيفة آخره حاء مهملة، كما عند ابن بشكوال، أو: قبيصة المخزومي، مولاهم، كما ذكره عمر بن شبة في الصحابة، أو: كلاب، مولى ابن عباس، أو: تميم الداري، كما عند أبي داود والبيهقي، أو ثمينًا، كما ذكره ابن بشكوال، أو: رومي، كما عند الترمذي وابن خزيمة وصححاه.
ويحتمل أن يكون المراد به: تميمًا الداري لأنه كان كثير السفر إلى أرض الروم.
وأشبه الأقوال بالصواب أنه: ميمون. ولا اعتداد بالأخرى لوهاها.
وحمله بعضهم على أن الجميع اشتركوا في عمله، وعورض بقوله في كثير من الروايات السابقة، ولم يكن بالمدينة إلا نجار واحد.
وأجيب: باحتمال أن المراد بالواحد، الماهر في صناعته والبقية. أعوان له.
(فأمرته) أي: أمرت المرأة غلامها أن يعمل، (فعملها) أي: الأعواد (من طرفاء الغابة) بفتح الطاء وسكون الراء المهملتين وبعد الراء فاء ممدودة، شجر من شجر البادية، والغابة: بالغين المعجمة بالموحدة، موضع من عوالي المدينة من جهة الشام، (ثم جاء) الغلام (بها) بعد أن عملها، (فأرسلت) أي: المرأة (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) تعلمه بأنه فرغ منها.
(فأمر بها)، عليه الصلاة والسلام، (فوضعت هاهنا. ثم رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليها) أي: على
الأعواد المعمولة منبرًا ليراه من قد تخفى عليه رؤيته إذا صلّى على الأرض (وكبّر وهو عليها) جملة حالية، زاد في رواية سفيان، عن أبي حازم: فقرأ (ثم ركع، وهو عليها) جملة حالية أيضًا، كذلك، زاد سفيان أيضًا: ثم رفع رأسه (ثم نزل القهقرى) أي رجع إلى خلفه محافظة على استقبال القبلة.
(فسجد في أصل المنبر) أي على الأرض إلى جنب الدرجة السفلى منه، (ثم عاد) إلى المنبر.
وفي رواية هشام بن سعد، عن أبي حازم، عند الطبراني: فخطب الناس عليه، ثم أقيمت الصلاة، فكبر وهو على المنبر، فأفادت هذه الرواية تقدم الخطبة على الصلاة.
(فلما فرغ) من الصلاة (أقبل على الناس) بوجهه الشريف (فقال) عليه الصلاة والسلام، مبينًّا لأصحابه رضي الله عنهم حكمة ذلك.
(أيها الناس، إنما صنعت هذا لتأتموا بي، ولتعلموا صلاتي) بكسر اللام وفتح المثناة الفوقية والعين، أي: لتتعلموا فحذفت إحدى التاءين تخفيفًا.

وفيه جواز العمل اليسير في الصلاة. وكذا الكثير إن تفرق، وجواز قصد تعليم المأمومين أفعال الصلاة بالفعل، وارتفاع الإمام على المأمومين، وشروع الخطبة على المنبر لكل خطيب، واتخاذ المنبر لكونه أبلغ في مشاهدة الخطيب والسماع منه.
ورواة الحديث: واحد منهم بلخي، وهو شيخ المؤلّف، والاثنان بعده مدنيان، وفيه التحديث والقول، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي.
918 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي ابْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كَانَ جِذْعٌ يَقُومُ إِلَيْهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا وُضِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ سَمِعْنَا لِلْجِذْعِ مِثْلَ أَصْوَاتِ الْعِشَارِ، حَتَّى نَزَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ".
قَالَ سُلَيْمَانُ عَنْ يَحْيَى أَخْبَرَنِي حَفْصُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا.
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) وهو سعيد بن الحكم بن سالم بن أبي مريم، الجمحي بالولاء، المصري، المتوفى سنة أربع وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا محمد بن جعفر) هو ابن كثير الأنصاري (قال: أخبرني) بالإفراد (يحيى بن سعيد) الأنصاري (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن أنس) هو: حفص بن عبيد الله بن أنس (أنه سمع جابر بن عبد الله) الأنصاري، رضي الله عنه (قال: كان جذع) بكسر الجيم وسكون المعجمة، واحد جذوع النخل (يقوم إليه) ولأبوي ذر والوقت، عن الحموي، والمستملي: يقوم عليه (النبي) وللأصيلي: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إذا خطب الناس (فلما وضع له

(2/180)


المنبر) أي لأجل الخطبة، وهو موضع الترجمة (سمعنا للجذع) المذكور صوتًا (مثل أصوات العشار) بكسر العين المهملة ثم سين معجمة، جمع عشراء، بضم العين وفتح الشين، الناقة الحامل التي مضت لها عشرة أشهر، أو التي معها أولادها (حتى نزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من المنبر (فوضع يده) الشريفة (عليه) فسكن.
وفي حديث أبي الزبير عن جابر عن النسائي في الكبرى: اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج، وهي بفتح الخاء المعجمة وضم اللام الخفيفة آخره جيم، الناقة التي انتزع منها ولدها، والحنين: هو صوت المتألم المشتاق عند الفراق.
(قال) ولابن عساكر: وقال (سليمان) هو ابن بلال، مما وصله المصنف في: علامات النبوّة، (عن يحيى) هو: ابن سعيد قال: (أخبرني) بالإفراد (حفص بن عبيد الله بن أنس أنه سمع جابرًا) ولأبي ذر والأصيلي: جابر بن عبد الله.
919 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: مَنْ جَاءَ إِلَى الْجُمُعَةِ فَلْيَغْتَسِلْ".

وبه قال: (حدّثنا آدم بن أبي أياس) سقط: ابن أبي أياس، لغير أبي ذر والأصيلي (قال: حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن (عن) ابن شهاب (الزهري، عن سالم) هو: ابن عبد الله القرشي العدوي المدني (عن أبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما (قال سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يخطب على المنبر) هو موضع الترجمة (فقال) في خطبته:
(من جاء إلى) صلاة (الجمعة فليغتسل).

27 - باب الْخُطْبَةِ قَائِمًا
وَقَالَ أَنَسٌ: بَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ قَائِمًا.
(باب الخطبة) يكون الخطيب فيها (قائمًا).
(وقال أنس) هو: ابن مالك، مما وصله المؤلّف مطوّلاً في الاستسقاء: (بينا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب)
حال كونه (قائمًا). استفيد منه القيام للخطبة المترجم له، وبينا، بغير ميم، ظرف زمان مضاف إلى الجملة من مبتدأ وخبر، وجوابها في حديث الاستسقاء المذكور.
920 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ قَائِمًا، ثُمَّ يَقْعُدُ، ثُمَّ يَقُومُ، كَمَا تَفْعَلُونَ الآنَ". [الحديث 920 - طرفه في: 928].
ْوبالسند قال: (حدّثنا عبيد الله بن عمر) بضم العين فيهما، ابن ميسرة (القواريري) نسبة لعملها أو بيعها، البصري (قال: حدّثنا خالد بن الحارث) بن سليم الهجيمي البصري، (قال: حدّثنا عبيد الله بن عمر) بضم العين فيهما، وسقط لغير أبوي ذر والوقت والأصيلي: ابن عمر، (عن نافع، عن ابن عمر) بن الخطاب (رضي الله عنهما، قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب) زاد أحمد والبزار في روايتيهما: يوم الجمعة، حال كونه (قائمًا).
استدلّ به علماء الأمصار على مشروعية القيام في الخطبة، وهو من شروطها التسعة عند الشافعية، لقوله تعالى: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11].
ولهذا الحديث، وحديث مسلم: أن كعب بن عجرة دخل المسجد، وعبد الرحمن بن أبي الحكم يخطب قاعدًا، فأنكر عليه، وتلا الآية، ولمواظبته عليه الصلاة والسلام على القيام.
نعم، تصح خطبة العاجز عنه قاعدًا، ثم مضطجعًا، كالصلاة. ولفعل معاوية المحمول على العذر، بل صرح به في رواية ابن أبي شيبة، ولفظه: إنما خطب قاعدًا لما كثر شحم بطنه، ويجوز الاقتداء بمن خطب من غير قيام، سواء قال: لا أستطيع، أم سكت، لأن الظاهر أنه إنما قعد، أو اضطجع لعجزه، فإن ظهر أنه كان قادرًا، فكإمام ظهر أنه كان جنبًا.

وقال شيخ المالكية، خليل، رحمه الله: وفي وجوب قيامه لهما تردّد. وقال القاضي عبد الوهاب منهم: إذا خطب جالسًا أساء ولا شيء عليه. وقال القاضي عياض: المذهب وجوبه من غير اشتراط. وظاهر عبارة المازري أنه شرط، قال: ويشترط القيام لها. اهـ.
وهذا مذهب الجمهور، خلافًا للحنفية حيث لم يشترطوه لها، محتجين بحديث سهل: "مري غلامك النجار يعمل لي أعوادًا أجلس عليهن".
وأجابوا عن آية {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] بأنه إخبار عن حالته التي كان عليها عند انفضاضهم، وبأن حديث الباب لا دلالة فيه على الاشتراط، وأن إنكار كعب على عبد الوحمن إنما هو لتركه السُّنّة. ولو كان شرطًا لا وصلوا معه مع تركه له.
وأجيب: بأنه إنما صلّى خلفه مع تركه القيام الذي هو شرط خوف الفتنة، أو أن الذي قعد، إن لم يكن معذورًا فقد يكون قعوده نشأ عن اجتهاد منه، كما قالوا في إتمام عثمان الصلاة في السفر، وقد أنكر ذلك ابن مسعود، ثم إنه صلّى خلفه، فأتم معه واعتذر بأن الخلاف شر.
(ثم) كان عليه الصلاة والسلام (يقعد) بعد الخطبة الأولى، (ثم يقوم) للخطبة الثانية، (كما تفعلون الآن) من القيام، وكذا القعود المترجم له بعد بابين، الآتي ذكر حكمه إن شاء الله

(2/181)


تعالى ثم.
ورواة هذا الحديث ما بين بصري ومدني، وفيه التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه مسلم والترمذي في الصلاة.

28 - باب يَسْتَقْبِلُ الإِمَامُ الْقَوْمَ، وَاسْتِقْبَالِ النَّاسِ الإِمَامَ إِذَا خَطَبَ وَاسْتَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ وَأَنَسٌ رضي الله عنهم الإِمَامَ
(باب يستقبل الإمام القوم) بوجه، ويستدبر القبلة. رواه الضياء المقدسي في المختارة.
(واستقبال الناس الإمام إذا خطب) ليتفرغوا لسماع موعظته ويتدبروا كلامه، ولا يشتغلوا بغيره ليكون أدعى إلى انتفاعهم، ليعملوا بما أعلموا.
وثبت قوله: واستقبال الناس، إلى قوله: إذا خطب. وقوله: يستقبل الإمام القوم، هو كذا في رواية كريمة، ولغيرها باب: استقبال الناس ... إلخ ... فقط.
(واستقبل ابن عمر) بن الخطاب (وأنس) هو ابن مالك (رضي الله عنهم الإمام) وصله البيهقي عن الأوّل، وأبو نعيم في نسخته بإسناد صحيح عن الثاني.

921 - حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ هِلاَلِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قَالَ: "إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَلَسَ ذَاتَ يَوْمٍ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ". [الحديث 921 - أطرافه في: 1465، 2842، 6427].
وبالسند قال: (حدّثنا معاذ بن فضالة) بفتح الفاء، الزهراني، أو: الطفاوي البصري (قال: حدّثنا هشام) الدستوائي (عن يحيى) بن أبي كثير (عن هلال بن أبي ميمونة)، هو: ابن علي بن أسامة العامري المدني، وقد ينسب إلى جده، قال: (حدّثنا عطاء بن يسار) بالمثناة والمهملة المخففة (أنه سمع أبا سعيد الخدري)، رضي الله عنه، (قال: إن النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، جلس ذات يوم على المنبر) أي مستدبر القبلة، (وجلسنا حوله) أي: ينظرون إليه وهو عين الاستقبال.
وهو مستحب عند الشافعية كالجمهور.
ومن لازم استقبال الإمام، استدباره هو القبلة، واغتفر لئلا يصير مستدبر القوم الذين يعظهم، وهو قبيح، خارج عن عرف المخاطبات. ولو استقبل الخطيب، أو استدبر الحاضرون القبلة، أجزأ، كما في الأذان، وكره.
وهذا الحديث طرف من حديث طويل يأتي إن شاء الله تعالى بمباحثه في الزكاة، في باب: الصدقة على اليتامى، وكتاب الرقاق أيضًا.
ورواة هذا الحديث ما بين بصري ويماني ومدني، وفيه التحديث والعنعنة والسماع والقول، وشيخه من أفراده، وأخرجه أيضًا في الزكاة، والجهاد، والرقاق. كما مر، ومسلم في الزكاة، وكذا النسائي والترمذي.

29 - باب مَنْ قَالَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ الثَّنَاءِ: أَمَّا بَعْدُ رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(باب من قال في الخطبة بعد الثناء) على الله تعالى: (أما بعد) فقد أصاب السُّنَّة، أو: من، موصول. والمراد منه: النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(رواه) أي: أما بعد، في الخطبة (عكرمة)، مولى ابن عباس، مما وصله في آخر الباب (عن ابن عباس)، رضي الله عنهما، (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
922 - وَقَالَ مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ الْمُنْذِرِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها- وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ، قُلْتُ: مَا شَأْنُ النَّاسِ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا إِلَى السَّمَاءِ، فَقُلْتُ آيَةٌ؟ فَأَشَارَتْ بِرَأْسِهَا -أَىْ نَعَمْ- قَالَتْ: فَأَطَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جِدًّا حَتَّى تَجَلاَّنِي الْغَشْيُ وَإِلَى جَنْبِي قِرْبَةٌ فِيهَا مَاءٌ فَفَتَحْتُهَا، فَجَعَلْتُ أَصُبُّ مِنْهَا

عَلَى رَأْسِي، فَانْصَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ تَجَلَّتِ الشَّمْسُ، فَخَطَبَ النَّاسَ وَحَمِدَ اللَّهَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ. قَالَتْ: وَلَغِطَ نِسْوَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْكَفَأْتُ إِلَيْهِنَّ لأُسَكِّتَهُنَّ. فَقُلْتُ لِعَائِشَةَ: مَا قَالَ؟ قَالَتْ قَالَ: مَا مِنْ شَىْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي هَذَا حَتَّى الْجَنَّةَ وَالنَّارَ. وَإِنَّهُ قَدْ أُوحِيَ إِلَىَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ مِثْلَ -أَوْ قَرِيبَ مِنْ- فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُؤْتَى أَحَدُكُمْ فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ -أَوْ قَالَ الْمُوقِنُ، شَكَّ هِشَامٌ- فَيَقُولُ هُوَ رَسُولُ اللَّهِ، هُوَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى فَآمَنَّا وَأَجَبْنَا، وَاتَّبَعْنَا وَصَدَّقْنَا، فَيُقَالُ لَهُ: نَمْ صَالِحًا، قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ إِنْ كُنْتَ لَتُؤْمِنُ بِهِ. وَأَمَّا الْمُنَافِقُ -أَوْ قَالَ الْمُرْتَابُ، شَكَّ هِشَامٌ- فَيُقَالُ لَهُ: مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا، فَقُلْتُ". قَالَ هِشَامٌ: فَلَقَدْ قَالَتْ لِي فَاطِمَةُ فَأَوْعَيْتُهُ، غَيْرَ أَنَّهَا ذَكَرَتْ مَا يُغَلِّظُ عَلَيْهِ.
(وقال محمود) هو ابن غيلان شيخ المؤلّف، وكلام أبي نعيم في: المستخرج، يشعر بأنه قال: حدّثنا محمود، وحينئذ فلم تكن: قال، هنا للمذاكرة والحاورة: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة الليثي (قال: حدّثنا هشام بن عروة) بن الزبير بن العوام (قال: أخبرتني) بالإفراد (فاطمة بنت المنذر) بن الزبير العوّام، امرأة هشام بن عروة (عن أسماء بنت أبي بكر) ولأبي ذر والأصيلي زيادة: الصديق (قالت: دخلت على) أختي (عائشة) رضي الله عنه، (والناس يصلون) جملة حالية، (قلت) ولابن عساكر: فقلت، أي مستفهمة.
(ما شأن الناس) قائمين قزعين؟ (فأشارت) عائشة (برأسها إلى) أن الشمس في (السماء) انكسفت والناس يصلون لذلك، قالت أسماء: (فقلت) أهذه (آية)؟ علامة لعذاب الناس كأنها مقدّمة له، (فأشارت) عائشة (برأسها -أي: نعم-) هي آية: (قالت) أسماء (فأطال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الصلاة (جدًّا حتى تجلاني) بفتح المثناة الفوقية والجيم وتشديد اللام، أي: علاني (الغشي) بفتح الغين وسكون الشين المعجمتين آخره مثناة تحتية مخففة (وإلى جنبي قربة فيها ماء، ففتحتها، فجعلت أصب منها على رأسي، فانصرف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد تجلت الشمس) بالجيم وتشديد اللام، أي انكشفت، والجملة حالية.
(فخطب الناس) عليه الصلاة والسلام (وحمد الله) بالواو، ولأبي الوقت وابن عساكر وأبي ذر والأصيلي، عن الكشميهني: فحمد الله (بما هو أهله ثم قال):
(أما بعد) ليفصل بين الثناء على الله، وبين الخبر الذي يريد إعلام الناس به حتى في الخطبة.
وبعد: مبني على الضم، كسائر الظروف المقطوعة عن الإضافة. واختلف في أوّل من قالها، فقيل:

(2/182)


داود، وإنها فصل الخطاب الذي أُوتيه، أو: يعرب بن قحطان، أو: كعب بن لؤي، أو: سحبان بن وائل، أو قس بن ساعدة، أو: يعقوب، عليه الصلاة والسلام أو غيرهم.

(قالت) أسماء: (ولغط نسوة من الأنصار) بفتح اللام والغين المعجمة والمهملة، ويجوز كسر الغين، وهو الأصوات المختلفة والجلبة (فانكفأت) أي: ملت بوجهي ورجعت (إليهنّ لأسكتهنّ، فقلت لعائشة: ما قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ (قالت: قال):
(ما من شيء) يصح أن يرى، لأن شيئًا: أعم العام، وقع في نفي، وبعض الأشياء لا تصح رؤيته لأنه قد خصّ، إذ ما من عام إلا وخص، إلا في نحو قوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282، النساء: 176، النور: 35 و64، الحجرات: 16، والتغابن: 11].
والتخصيص يكون عقليًّا وعرفيًّا، فهنا خصصه العقل بما يصح، أو الحس كما في قوله تعالى: {وأُوتيت من كل شيء} أو العرف بما يليق إبصارها به مما يتعلق بأمر الدين والجزاء ونحو ذلك. نعم، يدخل في العموم أنه رأى الله.
و: ما نافية، و: من زائدة لتأكيد النفي، و: شيء اسم ما. والتالي، صفة لشيء، وهو قوله:
(لم كن أريته) بهمزة مضمومة قبل الراء (إلا قد) استثناء مفرغ. وكل مفرغ متصل، والتفريغ من الحال. أي: لم أكن أريته كائنًا في حالة من الحالات إلا حال رؤيتي إياه. ولأبي ذر: إلا وقد (رأيته). والرؤية هنا يحتمل أن تكون رؤية عين، بأن كشف الله تعالى له عن ذلك، ولا حاجب يمنع: كرؤيته المسجد الأقصى حتى وصفه لقريش، أو رؤية علم ووحي بإطلاعه وتعريفه من أمورها تفصيلاً بما لم يكن يعرفه قبل ذلك، (في مقامي هذا، حتى الجنة) مرئية، أو نصب على أن: حتى، عاطفة على الضمير المنصوب في رأيته، أو جرّ على أن: حتى، جارّة (والنار) عطف على الجنة (وإنّه قد أُوحي إليّ) بكسر همزة إن وضمها في: أوحي مبنيًّا لما لم يسم فاعله. (أنكم) بفتح الهمزة (تفتنون) أي تمتحنون (في القبور مثل -أو قريب) بغير ألف ولا تنوين، ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي: قريبًا، بالتنوين (من فتنة المسيح الدجال. يؤتى أحدكم) بضم المثناة التحتية وفتح الفوقية من: يؤتى، مبنيًا لما لم يسم فاعله، وهو بيان: لتفتنون، ولذا لم يعطف (فيقال له: ما علمك بهذا الرجل) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ والخطاب للمفتون، وأفرده بعد أن قال: في قبوركم، بالجمع، لأن السؤال عن العلم يكون لكل أحد، وكذا الجواب:
(فأما المؤمن أو قال الموقن) أي المصدق بنبوّته عليه الصلاة والسلام، (شك هشام) أي ابن عروة (فيقول: هو رسول الله، هو محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، جاءنا بالبينات) المعجزات (والهدى) الموصل (فآمنا) به (وأجبنا) هـ (واتبعنا) هـ (وصدقنا) هـ (فيقال له: نم) نومًا (صالحًا) أي منتفعًا بأعمالك (قد كنا نعلم أن كنت لتؤمن به). أن مخففة من الثقيلة.
أي: أن الشأن كنت، وهي مكسورة، ودخلت اللام في: لتؤمن، للفرق بينها وبين أن النافية، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي، وابن عساكر في نسخة: لمؤمنا به.

(وأما المنافق)، المظهر خلاف ما يبطن (أو قال المرتاب) وهو الشاك (شك هشام-) (فيقال له: ما علمك بهذا الرجل؟ فيقول: لا أدري! سمعت الناس يقولون شيئًا فقلت) ولأبي ذر عن الكشميهني: فقلته، بضمير النصب.
(قال هشام: فلقد قالت لي فاطمة) بنت المنذر (فأوعيته) أي أدخلته وعاء قلبي، ولأبي الوقت: وعيته، بغير همز على الأصل، يقال: وعيت العلم، أي: حفظته، وأوعيت المتاع. وللكشميهني، في اليونينية: وما وعيته (غير أنها ذكرت ما يغلظ عليه).
ورواة هذا الحديث ما بين: مروزي وكوفي ومدني، وفيه: التحديث والإخبار والعنعنة والقول، ورواية التابعية عن الصحابية، والصحابية عن التابعية.
923 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَعْمَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَقُولُ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ بِمَالٍ -أَوْ سَبْيٍ- فَقَسَمَهُ، فَأَعْطَى رِجَالاً وَتَرَكَ رِجَالاً. فَبَلَغَهُ أَنَّ الَّذِينَ تَرَكَ عَتَبُوا، فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَوَاللَّهِ إِنِّي لأُعْطِي الرَّجُلَ وَأَدَعُ الرَّجُلَ وَالَّذِي أَدَعُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنَ الَّذِي أُعْطِي، وَلَكِنْ أُعْطِي أَقْوَامًا لِمَا أَرَى فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْجَزَعِ وَالْهَلَعِ، وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِنَى وَالْخَيْرِ، فِيهِمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ" فَوَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حُمْرَ النَّعَمِ. تَابَعَهُ يُونُسُ. [الحديث 923 - طرفاه في: 3145، 7535].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن معمر) بفتح الميمين وبينهما عين مهملة ساكنة، البصري القيسي، المعروف بالبحراني (قال: حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل (عن جرير بن حازم) بفتح الجيم وبالراءين في الأوّل، والحاء المهملة والزاي في الثاني (قال: سمعت الحسن) البصري (يقول: حدّثنا عمرو بن تغلب) بفتح العين وسكون الميم في الأوّل، وبفتح المثناة الفوقية ثم غين معجمة ساكنة غلام مكسورة فموحدة، غير مصروف، العبدي التميمي البصري، رضي الله عنه،

(2/183)


(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتي بمال) بضم الهمزة (أو سبي) بسين مهملة مع حذف الموحدة في أوّله، وللكشميهني: بسبي، بإثباتها، ولأبي الوقت: شيء، بشين معجمة آخره همزة مع حذف الموحدة، ولأبي ذر وابن عساكر، عن الحموي والمستملي: بشيء، بالموحدة والمعجمة والهمزة (فقسمه) عليه الصلاة والسلام (فأعطى رجالاً، وترك رجالاً، فبلغه أن الذين ترك) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عتبوا) على ترك (فحمد الله) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما بلغه ذلك (ثم أثنى) ولأبي ذر في نسخة: وأثنى (عليه) تعالى بما هو أهله (ثم قال):
(أما بعد) أي: بعد حمد الله والثناء عليه.
(فوالله إني لأعطي) بلام بعدها همزة مضمومة ثم عين ساكنة ثم طاء مكسورة، بلفظ المتكلم، لا بلفظ المجهول من الماضي، ولابن عساكر: إني أعطي (الرجل، وأدع الرجل) الآخر فلا أعطيه،

(والذي أدع أحبّ إليّ من الذي أعطي)، عائد الموصول محذوف، (ولكن)، ولأبي الوقت، والأصيلي، وابن عساكر، وأبي ذر، عن الكشميهني: ولكني (أعطي أقوامًا لما أرى) من نظر القلب، لا من نظر العين، (في قلوبهم من الجزع)، بالتحريك، ضدّ: الصبر (والهلع) بالتحريك أيضًا: أفحش الفزع (وأكِل أقوامًا إلى ما جعل الله في قلوبهم من الغنى) النفسي (والخير) الجبلي الداعي إلى الصبر والتعفّف عن المسألة والشره (فيهم: عمرو بن تغلب).
قال عمرو: (فوالله، ما أحب أن لي بكلمة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، الباء في: بكلمة، للبدل، وتسمى: باء المقابلة. أي: ما أحب أن لي بدل كلمته عليه الصلاة والسلام (حمر النعم) بضم الحاء المهملة وتسكين الميم، وكيف لا {وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17].
ورواة هذا الحديث كلهم بصريون، وفيه التحديث والعنعنة والسماع والقول، وهو من أفراده، وأخرجه أيضًا في الخمس، وفي: التوحيد.
ووقع في بعض الأصول هنا زيادة ساقطة في رواية أبوي ذر والوقت، والأصيلي وابن عساكر، وهي: (تابعه يونس) أي ابن عبيد بن دينار العبدي البصري، فيما وصله أبو نعيم، في مسند يونس بن عبيد له، بإسناده عن الحسن، عن عمرو بن تغلب.
924 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ ذَاتَ لَيْلَةٍ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ فَصَلَّى فِي الْمَسْجِدِ، فَصَلَّى رِجَالٌ بِصَلاَتِهِ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَاجْتَمَعَ أَكْثَرُ مِنْهُمْ فَصَلَّوْا مَعَهُ، فَأَصْبَحَ النَّاسُ فَتَحَدَّثُوا، فَكَثُرَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَصَلَّوْا بِصَلاَتِهِ. فَلَمَّا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الرَّابِعَةُ عَجَزَ الْمَسْجِدُ عَنْ أَهْلِهِ حَتَّى خَرَجَ لِصَلاَةِ الصُّبْحِ. فَلَمَّا قَضَى الْفَجْرَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَتَشَهَّدَ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْفَ عَلَىَّ مَكَانُكُمْ، لَكِنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ فَتَعْجِزُوا عَنْهَا». تَابَعَهُ يُونُسُ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة (قال: حدّثنا الليث) بن سعد (عن عقيل) بضم العين، هو ابن خالد (عن ابن شهاب) الزهري (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة) بن الزبير (أن عائشة) رضي الله تعالى عنها (أخبرته أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خرج ذات ليلة) ولأبي ذر وابن عساكر: خرج ليلة، فأسقط لفظ ذات (من جوف الليل، فصلّى في المسجد، فصلّى رجال بصلاته) مقتدين بها.
(فأصبح الناس) أي دخلوا في الصباح فأصبح تامة غير محتاجة لخبر (فتحدثوا) بذلك، ولأحمد من رواية ابن جريج عن ابن شهاب: فلما أصبح تحدثوا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلّى في المسجد من جوف الليل، (فاجتمع) في الليلة الثانية (أكثر منهم) برفع أكثر فاعل اجتمع وقول الكرماني بالنصب،

وفاعل اجتمع ضمير الناس، تعقبه البرماوى بأن ضمير الجمع يجب بروزه، (فصلوا معه) عليه الصلاة والسلام.
(فأصبح الناس فتحدثوا) بذلك (فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إليهم وصلّى (فصلوا بصلاته) مقتدين بها (فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله) فلم يأتهم، (حتى خرج) عليه الصلاة والسلام (لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر، أقبل على الناس) بوجهه الكريم، (فتشهد) في صدر الخطبة (ثم قال):
(أما بعد فإنه لم يخف عليّ مكأنكم، لكني خشيت أن تفرض عليكم) صلاة الليل (فتعجزوا عنها) بجيم مكسورة مضارع عجز بفتحها، أي فتتركوها مع القدرة.
وليس المراد العجز الكلي، فإنه يسقط التكليف من أصله.
وزاد ابن عساكر هنا: قال أبو عبد الله، أي البخاري: (تابعه) أي عقيلاً (يونس) بن يزيد الأيلي، فرواه عن ابن شهاب مما وصله مسلم.
925 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: "أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَامَ عَشِيَّةً بَعْدَ الصَّلاَةِ فَتَشَهَّدَ وَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ". تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ وَأَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "أَمَّا بَعْدُ". تَابَعَهُ الْعَدَنِيُّ عَنْ سُفْيَانَ فِي "أَمَّا بَعْدُ". [الحديث 925 - أطرافه في: 1500، 2597، 6636، 6979، 7174، 7197].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان)، الحكم بن نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن) ابن شهاب (الزهري، قال: أخبرني) بالإفراد (عروة) بن الزبير (عن أبي حميد) عبد الرحمن (الساعدي أنه أخبره أن رسول الله

(2/184)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قام عشية بعد الصلاة، فتشهد وأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال):
(أما بعد) ...
كذا ساقه هنا مختصرًا، وفي الإيمان والنذور مطوّلاً، وفيه قصة ابن اللتبية لما استعمله عليه الصلاة والسلام على الصدقة، فقال: هذا لي، وهذا لكم. فقام عليه الصلاة والسلام على المنبر، فقال: "أما بعد ... " إلخ.
وأخرجه مسلم في المغازي، وأبو داود في الخراج.
(تابعه) أي: الزهري (أبو معاوية) محمد بن خازم، بالخاء والزاي المعجمة، الضرير الكوفي، مما وصله مسلم في المغازي، (وأبو أسامة) حماد بن أسامة، مما وصله مسلم أيضًا، والمؤلّف باختصار

في الزكاة، (عن هشام) هو ابن عروة (عن أبيه) عروة، (عن أبي حميد) ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي زيادة: الساعدي (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال): (أما بعد).
(تابعه العدني) محمد بن يحيى (عن سفيان) بن عيينة (في) قوله:
(أما بعد). فقط، لا في تمام الحديث.
وسقط: في أما بعد، عند أبي ذر والأصيلي.
926 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُسَيْنٍ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ قَالَ: "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَمِعْتُهُ حِينَ تَشَهَّدَ يَقُولُ: أَمَّا بَعْدُ". تَابَعَهُ الزُّبَيْدِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. [الحديث 926 - أطرافه في: 3110، 3714، 3729، 3767، 5230، 5278].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان قال: أخبرنا شعيب، عن الزهري، قال: حدّثني) بالإفراد (علي بن حسين) بضم الحاء، ولأبي ذر: ابن الحسين، أي: ابن علي بن أبي طالب، الملقب: بزين العابدين، المتوفى سنة أربع وتسعين، (عن المسور بن مخرمة) بكسر الميم ثم مهملة في الأول، وفتحها ثم معجمة ساكنة فراء مفتوحة في الثاني، (قال: قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فسمعته حين تشهد يقول):
(أما بعد) ...
هو طرف من حديث المسور، في قصة خطبة علي بن أبي طالب بنت أبي جهل، الآتي إن شاء الله تعالى؛ في: المناقب، مع مباحثه.
(تابعه الزبيدي) بضم الزاي مصغرًا، محمد بن الوليد (عن) ابن شهاب (الزهري)، فيما وصله الطبراني في مسند الشاميين.
927 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ الْغَسِيلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "صَعِدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمِنْبَرَ وَكَانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَهُ مُتَعَطِّفًا مِلْحَفَةً عَلَى مَنْكِبَيْهِ قَدْ عَصَبَ رَأْسَهُ بِعِصَابَةٍ دَسِمَةٍ، فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إِلَىَّ. فَثَابُوا إِلَيْهِ. ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ هَذَا الْحَىَّ مِنَ الأَنْصَارِ يَقِلُّونَ وَيَكْثُرُ النَّاسُ. فَمَنْ وَلِيَ شَيْئًا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاسْتَطَاعَ أَنْ يَضُرَّ فِيهِ أَحَدًا أَوْ يَنْفَعَ فِيهِ أَحَدًا فَلْيَقْبَلْ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيَتَجَاوَزْ عَنْ مُسِيئهِمْ". [الحديث 927 - طرفاه في: 3628، 3800].
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن أبان) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة وبعد الألف نون، الوراق الأزدي الكوفي (قال: حدّثنا ابن الغسيل) بفتح المعجمة، عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة، غسيل الملائكة، لما استشهد بأحد جنبًا، (قال: حدّثنا عكرمة) مولى ابن عباس، (عن ابن عباس رضي الله عنهما قال): (صعد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- المنبر، وكان) ذلك (آخر مجلس جلسه، متعطفًا)

مرتديًا (ملحفة) بكسر الميم وسكون اللام وفتح الحاء، إزارًا كبيرًا (على منكبيه) بفتح الميم وكسر الكاف مع التثنية، وللأصيلي، وأبوي ذر والوقت: منكبه بالإفراد، (قد عصب رأسه) بتخفيف الصاد، أي: ربطها (بعصابة) أي: بعمامة (دسمة) بفتح أوله وكسر السين المهملة، سوداء أو كلون الدسم، كالزيت من غير أن يخالطها دسم، أو متغيرة اللون من الطيب والغالية، (فحمد الله) تعالى (وأثنى عليه، ثم قال):
(أيها الناس)، تقربوا (إلي) (فثابوا) بالمثلثة بعد الفاء وبموحدة بعد الألف، أي اجتمعوا (إليه، ثم قال):
(أما بعد، فإن هذا الحي من الأنصار) الذين نصروه عليه الصلاة والسلام من أهل المدينة (يقلون) بفتح أوله وكسر ثانيه (ويكثر الناس) هو من إخباره عليه الصلاة والسلام بالمغيبات، فإن الأنصار قلّوا، وكثر الناس كما قال: (فمن ولي شيئًا من أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فاستطاع أن يضرَّ فيه) أي: في الذي وليه (أحدًا أو ينفع فيه أحدًا فليقبل من محسنهم) الحسنة (ويتجاوز) بالجزم، عطفًا على السابق. أي: يعف (عن مسيئهم) أي: السيئة، أي: في غير الحدود. ومسيئهم بالهمز، وقد تبدل ياء مشددة.
وشيخ المؤلّف من أفراده، وهو كوفي، وبقية الرواة مدنيون، وفيه التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه أيضًا في: علامات النبوة، وفضائل الأنصار.

30 - باب الْقَعْدَةِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
928 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ خُطْبَتَيْنِ يَقْعُدُ بَيْنَهُمَا".
(باب) حكم (القعدة) الكائنة (بين الخطبتين يوم الجمعة). وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدثنا بشر بن المفضل) الرقاشي البصري (قال: حدّثنا عبيد الله بن عمر) بضم العين فيهما، وسقط في غير رواية الأصيلي وأبي ذر: ابن عمر، (عن نافع، عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب، رضي الله عنهما، وسقط لغير الأصيلي وأبي ذر، وابن عساكر: ابن عمر رضي الله عنهما، (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب خطبتين يقعد بينهما).
استدلّ به الشافعية على

(2/185)


وجوب الجلوس بين الخطبتين لمواظبته عليه الصلاة والسلام على ذلك، مع قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي".
وتعقبه ابن دقيق العيد بأن ذلك يتوقف على ثبوت أن إقامة الخطبتين داخلة تحت كيفية الصلاة، وإلا فهو استدلال بمجرد الفعل. انتهى. فهو أصل لا يتناول الخطبة، لأنها ليست بصلاة حقيقة.

وعورض أيضًا الاستدلال للوجوب بمواظبته عليه، بأنه عليه الصلاة والسلام قد واظب على الجلوس قبل الخطبة الأولى، فإن كانت مواظبته دليلاً على شرطية الجلسة بينهما، فلتكن دليلاً على شرطية الجلسة الأولى.
وأجيب: بأن كل الروايات عن ابن عمر ليس فيها هذه الجلسة الأولى. وهي من رواية عبد الله بن عمر المضعف، فلم تثبت المواظبة عليها بخلاف التي بين الخطبتين.
ولم يشترط الحنفية والمالكية والحنابلة هذه القعدة، إنما قالوا بسنيتها للفصل بين الخطبتين.
نعم، نقل الحافظ العراقي في شرح الترمذي اشتراطها عن مشهور مذهب أحمد، وقال المازري، من المالكية: يشترط القيام لهما والجلوس بينهما. وقال القاضي أبو بكر: القيام والجلوس واجبان، وهو يرد على الطحاوي حيث زعم أن الشافعي تفرّد بالاشتراط.
لكن الذي شهره الشيخ خليل السنيّة، وكذا مشهر مذهب الحنابلة علاي الدين المرداوي في تنقيح المقنع، والله أعلم.
ويستحب أن يكون جلوسه بينهما قدر سورة الإخلاص تقريبًا، لاتباع السلف والخلف، وأن يقرأ فيه شيئًا من كتاب الله للاتباع، رواه ابن حبّان.

31 - باب الاِسْتِمَاعِ إِلَى الْخُطْبَةِ
(باب الاستماع) أي، الإصغاء (إلى الخطبة) يوم الجمعة.
929 - حَدَّثَنَا آدَمُ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الأَغَرِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَقَفَتِ الْمَلاَئِكَةُ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَكْتُبُونَ الأَوَّلَ فَالأَوَّلَ. وَمَثَلُ الْمُهَجِّرِ كَمَثَلِ الَّذِي يُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ كَالَّذِي يُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ كَبْشًا، ثُمَّ دَجَاجَةً، ثُمَّ بَيْضَةً. فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ طَوَوْا صُحُفَهُمْ وَيَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ». [الحديث 929 - طرفه في: 3211].
وبالسند، قال: (حدّثنا آدم) بن أبي أياس (قال: حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن (عن) ابن شهاب (الزهري، عن أبي عبد الله) سلمان الجهني، مولاهم، (الأغرّ) لقبًا، الأصبهاني أصلاً، المدني (عن أبي هريرة، رضي الله عنه، قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا كان يوم الجمعة وقفت الملائكة على باب المسجد يكتبون الأوّل فالأوّل) قال في المصابيح: نصب على الحال، وجاءت معرفة وهو قليل (ومثل المهجر) بضم الميم وتشديد الجيم المكسورة أي، وصفة المبكر، أو المراد: الذي يأتي في الهاجرة، فيكون دليلاً للمالكية، وسبق البحث فيه، (كمثل الذي يهدي) بضم أوله وكسر ثالثه أي: يقرّب، وللأصيلي: كالذي يهدي (بدنة) من الإبل، خبر عن

قوله مثل الهجر، والكاف لتشبيه صفة بصفة أخرى (ثم) الثاني (كالذي يهدي بقرة، ثم) الثالث كالذي يهدي (كبشًا، ثم) الرابع كالذي يهدي (دجاجة، ثم) الخامس كالذي يهدي (بيضة).
إنما قدرنا بالثاني لأنه كما قال في المصابيح: لا يصح العطف على الخبر لئلا يقعا معًا خبرًا عن واحد، وهو مستحيل، وحينئذ فهو خبر مبتدأ محذوف مقدّر بما مر، وكذا قوله: ثم كبشًا، لا يكون معطوفًا على بقرة، لأن المعنى يأباه، بل هو معمول فعل محذوف دلّ عليه التقدم، والتقدير كما مر، ثم الثالث: كالذي يهدي كبشًا، وكذا ما بعده.
(فإذا خرج الإمام طوَوْا) أي الملائكة، (صحفهم) التي كتبوا فيها درجات السابقين على من يليهم في الفضيلة، (ويستمعون الذكر) أي الخطبة.
وأتى بصيغة المضارع لاستحضار صورة الحال اعتناءً بهذه المرتبة، وحملاً على الاقتداء بالملائكة. وهذا موضع الاستشهاد على الترجمة.
قال التيمي: في استماع الملائكة حضّ على استماعها والإنصات إليها. وقد ذكر كثير من المفسرين أن قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] ورد في الخطبة، وسميت قرآنًا لاشتمالها عليه، والإنصات: السكوت، والاستماع: شغل السمع بالسماع، فبينهما عموم وخصوص من وجه.
واختلف العلماء في هذه المسألة، فعند الشافعية، يكره الكلام حال الخطبة من ابتدائها لظاهر الآية، وحديث مسلم عن أبي هريرة: "إذا قلت لصاحبك أنصت يوم الجمعة، والإمام يخطب، فقد لغوت".
ولا يحرم، للأحاديث الدالّة على ذلك، كحديث أنس المروي في في الصحيحين: بينما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يخطب يوم الجمعة، قام أعرابي، فقال: يا رسول الله، هلك المال، وجاع العيال، فادعُ الله لنا، فرفع يديه ودعا. وحديث أنس أيضًا، المروي بسند صحيح عند البيهقي: أن رجلاً دخل والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب يوم الجمعة، فقال: متى الساعة؟ فأومأ

(2/186)


الناس إليه بالسكوت فلم يقبل، وأعاد الكلام، فقال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، في الثالثة: "ما أعددت لها"؟ قال: حبّ الله وحب رسوله. قال: "إنك مع مَن أحببت". وجه الدلالة منه أنه لم ينكر عليه الكلام، ولم يبين له وجه السكوت.
والأمر في الآية للندب، ومعنى: لغوت، تركت الأدب، جمعًا بين الأدلة.
وقال أبو حنيفة: وخروج الإمام قاطع للصلاة والكلام، وأجاز صاحباه إلى كلام الإمام له، قوله عليه الصلاة والسلام: "إذا خرج الإمام لا صلاة ولا كلام". ولهما، قوله عليه الصلاة والسلام: "خروج الإمام يقطع الصلاة، وكلامه يقطع الكلام".

وقال المالكية والحنابلة أيضًا بالمنع، لحديث: إذا قلت لصاحبك أنصت. وأجابوا عن حديث أنس السابق، وما في معناه، بأنه غير محل النزاع، لأن محل النزاع الإنصات والإمام يخطب، وأما سؤال الإمام وجوابه فهو قاطع لكلامه، فيخرج عن ذلك.
وقد بنى بعضهم القولين على الخلاف في أن الخطبتين بدل عن الركعتين، وبه صرّح الحنابلة، وعزوه لنص إمامهم، أو هي صلاة على خيالها، لقول عمر رضي الله عنه: الجمعة ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقد خاب من افترى. رواه الإمام أحمد وغيره، وهو: حديث حسن كما قاله في المجموع. فعلى الأول يحرم لا على الثاني.
ومن ثم، أطلق من أطلق منهم إباحة الكلام ولو كان به صمم، أو بعد عن الإمام بحيث لا يسمع.
قال المالكية: يحرم عليه أيضًا لعموم وجوب الإنصات، ولما روي عن عثمان، رضي الله عنه، من كان قريبًا استمع وأنصت، ومن كان بعيدًا افترى.
وقال الحنفية، الأحوط السكوت.
وأما الكلام قبل الخطبة وبعدها، وفي جلوسه بينهما، وللداخل في أثنائها ما لم يجلس، فعند الشافعية والحنابلة وأبي يوسف: يجوز من غير كراهة.
وقال المالكية: يحرم في جلوسه بينهما، لا في جلوسه قبل الشروع فيها، ولو سلم داخل على مستمع الخطبة وجب الرد عليه، بناء على أن الإنصات سُنّة، كما سبق. وصرّح في المجموع وغيره مع ذلك بكراهة السلام، ونقلها عن النص وغيره.
لكن إذا قلنا: لا يشرع السلام فكيف يجب الرد؟
وفي المدوّنة: لا يسلم الداخل، وإن سلم فلا يردّ عليه لأنه سكوت واجب، فلا يقطع بسلام ولا رده كالسكوت في الصلاة، وكذا قال الحنفية.

32 - باب إِذَا رَأَى الإِمَامُ رَجُلاً جَاءَ وَهْوَ يَخْطُبُ أَمَرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ
هذا (باب) بالتنوين (إذا رأى الإمام رجلاً جاء) في محل نصب صفة، لرجلاً، (وهو يخطب) جملة اسمية حالية وجواب، إذا، (أمره أن يصلّي) أي بأن يصلّي، وأن مصدرية، أي أمره بصلاة (ركعتين).

930 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ النَّاسَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ يَا فُلاَنُ؟ قَالَ لاَ. قَالَ: قُمْ فَارْكَعْ". [الحديث 930 - طرفاه في: 931، 1166].
وبالسند قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي (قال: حدّثنا حماد بن زيد، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله) الأنصاري، وسقط في رواية ابن عساكر: ابن عبد الله، (قال: جاء رجل) هو: سليك، بضم السين المهملة وفتح اللام وسكون المثناة التحتية وبالكاف الغطفاني، بفتحات (والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب الناس يوم الجمعة) سقط لفظ الناس، عند أبي ذر، وثبت عنده: لأبي الهيثم، في نسخة، وزاد مسلم، عن الليث، عن أبي الزبير عن جابر، فقعد سليك قبل أن يصلّي (فقال) له عليه الصلاة والسلام.
(أصليت) بهمزة الاستفهام، ولأبي ذر والأصيلي، وابن عساكر. فقال: صليت (يا فلان)؟
(قال) ولأبي ذر فقال: (لا. قال):
(قم فاركع). زاد المستملي والأصيلي ركعتين.
وزاد في رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر عند مسلم، وتجوز فيهما. ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوّز فيهما".
واستدلّ به الشافعية والحنابلة على أن الداخل للمسجد والخطيب يخطب على المنبر، يندب له صلاة تحية المسجد، لا في آخر الخطبة، ويخففها وجوبًا ليسمع الخطبة.
قال الزركشي: والمراد بالتخفيف، فيما ذكر، الاقتصار على الواجبات، لا الإسراع. قال: ويدل له ما ذكروه من أنه إذا ضاق الوقت، وأراد الوضوء اقتصر على الواجبات. اهـ.
ومنع منهما المالكية والحنفية لحديث ابن ماجة أنه عليه الصلاة والسلام قال للذي دخل المسجد يتخطى رقاب الناس: "أجلس فقد آذيت".
وأجابوا عن قصة سليك: بأنها واقعة عين لا عموم لها، فتختص بسليك؛ ويؤيد ذلك حديث أبي سعيد، المروي في السنن، أنه عليه الصلاة والسلام قال له: "صل ركعتين". وحض على

(2/187)


الصدقة، الحديث، فأمره أن يصلّي ليراه بعض الناس وهو قائم، فيتصدق عليه.
ولأحمد: إن هذا الرجل دخل المسجد، في هيئة بزة، فأمرته أن يصلّي ركعتين، وأنا أرجو أن يتفطن له رجل فيتصدق عليه، وبأن تحية المسجد تفوت بالجلوس.
وأجيب، بأن الأصل عدم الخصوصية، والتعليل بقصد التصدق عليه لا يمنع القول بجواز التحية. وقد ورد ما يدل لعدم الانحصار في قصد التصدّق، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أمره

بالصلاة في الجمعة الثانية بعد أن حصل له في الأولى ثوبين، فدخل في الثاني، فتصدّق بأحدهما، فنهاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك، بل عند أحمد وابن حبان أنه كرّر أمره بالصلاة ثلاث جمع، وبأن التحية لا تفوت بالجلوس في حق الجاهل أو الناسي، فحال هذا الرجل الداخل محمولة في الأولى على أحدهما، وفي الأخرى على النسيان.
وبأن قوله للذي يتخطى رقاب الناس. "أجلس" أي: لا تتخطّ. أو ترك أمره بالتحية لبيان الجواز، فإنها ليست واجبة، أو لكون دخوله وقع في آخر الخطبة بحيث ضاق الوقت عن التحية، أو كان قد صلّى التحية في مؤخر المسجد، ثم تقدم ليقرب من سماع الخطبة، فوقع منه التخطّي، فأنكر عليه.

33 - باب مَنْ جَاءَ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ
(باب مَن جاء والإمام يخطب) جملة حالية، و: مَنْ. في موضع رفع مبتدأ، وخبره قوله: (صلى ركعتين خفيفتين).
931 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ جَابِرًا قَالَ: "دَخَلَ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ فَقَالَ: أَصَلَّيْتَ؟ قَالَ: لاَ. قَالَ: فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ".
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني (قال: حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو: ابن دينار، أنه (سمع جابرًا) هو ابن عبد الله الأنصاري (قال دخل رجل يوم الجمعة والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب، فقال) له: (أصليت)؟ بهمزة الاستفهام ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر، عن الحموي والكشميهني، فقال: صليت؟ (قال: لا. قال):
(فصلِّ). ولأبي ذر: ثم فصلِّ (ركعتين).
مطابقته للترجمة ظاهرة، لكن ليس فيه التقييد بكونهما خفيفتين.
نعم، جرى البخاري على عادته في الإشارة إلى بعض طرق الحديث فقد أخرجه في السُّنن من طريق أبي قرة، عن الثوري، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، بلفظ: "قم فاركع ركعتين خفيفتين". وعند مسلف "فيتجوّز فيهما"، كما مر.
تنبيه:
لو جاء في آخر الخطبة فلا يصلّي لئلا يفوته أوّل الجمعة مع الإمام.
قال في المجموع: وهذا محمول على تفصيل ذكره المحققون من أنه إن غلب على ظنه أنه إن صلاها فاتته تكبيرة الإحرام مع الإمام، لم يصلِّ التحية، بل يقف حتى تُقام الصلاة، ولا يقعد لئلا يكون جالسًا في المسجد قبل التحية.

قال ابن الرفعة: ولو صلاّها في هذه الحالة استحب للإمام أن يزيد في كلام الخطبة بقدر ما يكملها، فإن لم يفعل الإمام ذلك، قال في الأم: كرهته له، فإن صلاها وقد أقيمت الصلاة، كرهت ذلك له. اهـ.

34 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الْخُطْبَةِ.
(باب رفع اليدين في الخطبة).
932 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ عَنْ أَنَسٍ، وَعَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: "بَيْنَمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ قَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلَكَ الْكُرَاعُ وَهَلَكَ الشَّاءُ، فَادْعُ اللَّهَ أَنْ يَسْقِيَنَا. فَمَدَّ يَدَيْهِ وَدَعَا". [الحديث 932 - أطرافه في: 933، 1013، 1014، 1015، 1016، 1017، 1018، 1019، 1021، 1029، 1033، 3582، 6093، 6342].
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) أي ابن مسرهد (قال: حدّثنا حماد بن زيد) بن درهم البصري (عن عبد العزيز) ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي زيادة: ابن صهيب (عن أنس، وعن يونس) بن عبيد، عطف على الإسناد المذكور، أي:
وحدّثنا مسدّد أيضًا عن حماد بن زيد، عن يونس، وقد أخرجه أبو داود عن مسدّد أيضًا بالإسنادين معًا (عن ثابت، عن أنس) هو ابن مالك، (قال: بينما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب يوم الجمعة) ولأبوي ذر والوقت، والأصيلي، يوم جمعة (إذ قام رجل، فقال: يا رسول الله! هلك الكراع) بضم الكاف اسم لما يجمع من الخيل، (وهلك الشاء) بالواو في أوّله، أي: الغنم، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر، هلك الشاء (فادع الله) لنا (أن يسقينا).
(فمدَّ) عليه الصلاة والسلام (يديه) بالتثنية، ولأبي ذر، فمدّ يده (ودعا) في الحديث الذي بعده، فرفع يديه، وهو موافق للترجمة، والظاهر أنه أراد أن يبين أن المراد بالرفع هنا المدّ، لا كالرفع الذي في الصلاة.

35 - باب الاِسْتِسْقَاءِ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ
(باب الاستسقاء) وهو طلب السقيا، بضم السين، أي: المطر (في الخطبة يوم الجمعة).
933 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ: حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو قَالَ حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: "أَصَابَتِ النَّاسَ سَنَةٌ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَبَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلَكَ الْمَالُ، وَجَاعَ الْعِيَالُ،

فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ -وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ قَزَعَةً- فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا وَضَعَهَا حَتَّى ثَارَ السَّحَابُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ، ثُمَّ لَمْ يَنْزِلْ عَنْ مِنْبَرِهِ حَتَّى رَأَيْتُ الْمَطَرَ يَتَحَادَرُ عَلَى لِحْيَتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَمُطِرْنَا يَوْمَنَا ذَلِكَ، وَمِنَ الْغَدِ، وَبَعْدَ الْغَدِ، وَالَّذِي يَلِيهِ حَتَّى الْجُمُعَةِ الأُخْرَى. وَقَامَ ذَلِكَ الأَعْرَابِيُّ -أَوْ قَالَ غَيْرُهُ- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تَهَدَّمَ الْبِنَاءُ، وَغَرِقَ الْمَالُ، فَادْعُ اللَّهَ لَنَا. فَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلاَ عَلَيْنَا. فَمَا يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى نَاحِيَةٍ مِنَ السَّحَابِ إِلاَّ انْفَرَجَتْ، وَصَارَتِ الْمَدِينَةُ مِثْلَ الْجَوْبَةِ. وَسَالَ الْوَادِي قَنَاةُ شَهْرًا، وَلَمْ يَجِئْ أَحَدٌ مِنْ نَاحِيَةٍ إِلاَّ حَدَّثَ بِالْجَوْدِ".
وبالسند قال (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) بن عبد الله بن المنذر الحزامي، بالزاي، الأسدي (قال: حدّثنا أبو الوليد) ولأبي ذر، والأصيلي، الوليد بن مسلم، أي، القرشي الدمشقي (قال: حدّثنا أبو عمرو) بفتح العين، عبد الرحمن، ولأبي ذر، والأصيلي: أبو عمرو الأوزاعي، نسبة إلى الأوزاع، قبائل شتى، أو بطن من ذي الكلاع من اليمن، أو الأوزاع

(2/188)


قرية بدمشق (قال: حدّثني) بالإفراد (إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة) الأنصاري المدني (عن أنس بن مالك) رضي الله عنه (قال: أصابت الناس سنة) بفتح السين المهملة، أي: شدة وجهد من الجدوبة، (على عهد النبي) أي: زمنه، ولابن عساكر: على عهد رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فبينما النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب في يوم جمعة، قام أعرابي) من سكان البادية، لا يعرف اسمه (فقال: يا رسول الله! هلك المال) الحيوانات، لفقد ما ترعاه (وجاع العيال) لعدم وجود ما يعيشون به من الأقوات المفقودة بحبس المطر (فادع الله لنا) أن يسقينا.
(فرفع) عليه الصلاة والسلام (يديه -وما نرى في السماء قزعة-) بالقاف والزاي والعين المهملة المفتوحات، قطعة من سحاب، أو رقيقه الذي إذا مرّ تحت السحاب الكثيرة كان كأنه ظل.
قال أنس: (فوالذي نفسي بيده، ما وضعها) أي: يده، ولأبي ذر، والأصيلي، عن الكشميهني: ما وضعهما، أي: يديه (حتى ثار السحاب) بالمثلثة، أي: هاج وانتشر (أمثال الجبال) من كثرته، (ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر) ينحدر، أي: ينزل ويقطر (على لحيته) الشريفة (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فمطرنا) بضم الميم وكسر الطاء، أي: حصل لنا المطر (يومنا) نصب على الظرفية، أي: في يومنا (ذلك، ومن الغد) حرف الجر إما بمعنى في، أو للتبعيض، (وبعد الغد) ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي، وابن عساكر: ومن بعد الغد (والذي يليه، حتى الجمعة الأخرى) بالجر في الفرع وأصله، على أن حتى: جارة، ويجوز النصب، عطفًا على سابقه المنصوب، والرفع، على أن مدخولها مبتدأ خبره محذوف.
(وقام) بالواو، ولأبي ذر، والأصيلي، وابن عساكر: فقام (ذلك الأعرابي -أو قال) قام (غيره- فقال: يا رسول الله! تهدم البناء، وغرق المال، فادع الله لنا).
(فرفع) عليه الصلاة والسلام (يده فقال):

(اللهمَّ) ولأبي ذر، وابن عساكر: فرفع يديه: اللهم (حوالينا) بفتح اللام أي: أنزل أو أمطر حوالينا (ولا) تنزله (علينا) أراد به الأبنية.
(فما يشير) عليه الصلاة والسلام (بيده) الشريفة (إلى ناحية من السحاب إلا انفرجت) إلا انكشفت، أو تدوّرت كما يدوّر جيب القميص.
(وصارت المدينة مثل الجوبة) بفتح الجيم وسكون الواو وفتح الموحدة، الفرجة المستديرة في السحاب أي: خرجنا والغيم والسحاب محيطان بأكناف المدينة.
(وسال الوادي قناة) بقاف مفتوحة فنون مخففة فألف فهاء تأنيث، مرفوع على البدل، من الوادي غير منصرف للتأنيث والعلمية، إذ هو اسم لوادٍ معين من أودية المدينة، أي: جرى فيه المطر (شهرًا. ولم يجيء أحد من ناحية إلا حدث بالجود) بفتح الجيم، أي: بالمطر الغزير.
ورواة الحديث ما بين: مدني ودمشقي، وفيه التحديث والعنعنة والقول، وشيخه من أفراده، وأخرجه أيضًا في الاستسقاء والاستئذان، ومسلم والنسائي في الصلاة.

36 - باب الإِنْصَاتِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالإِمَامُ يَخْطُبُ
وَإِذَا قَالَ لِصَاحِبِهِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَا. وَقَالَ سَلْمَانُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الإِمَامُ.
(باب الإنصات يوم الجمعة والإمام يخطب).
(وإذا قال) الرجل (لصاحبه) إذا سمعه يتكلم (أنصت) أمر من أنصت ينصت إنصاتًا، أي: اسكت (فقد لغا).
قال: اللغو، وهو الكلام الذي لا أصل له، من الأباطيل أو غير ذلك، مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقوله: إذا قال ... إلخ، من بقية الترجمة، وهو لفظ حديث الباب في بعض طرقه عند النسائي.
(وقال سلمان) مما وصله مطوّلاً في باب الدهن للجمعة، فيما سبق (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ينصت)
بضم أوّله على الأفصح، مضارع: أنصت، للأصيلي: وينصت، بالواو، أي: يسكت (إذا تكلم الامام).
934 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: أَنْصِتْ -وَالإِمَامُ يَخْطُبُ- فَقَدْ لَغَوْتَ».

وبالسند قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة (قال: حدّثنا الليث) بن سعد (عن عقيل) بضم العين، هو ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (قال: أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب، أن أبا هريرة) رضي الله عنه (أخبره أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إذا قلت لصاحبك) الذي تخاطبه إذا ذاك، أو جليسك (يوم الجمعة أنصت -والإمام يخطب-) جملة حالية مُشعِرة بأن ابتداء الإنصات من الشروع في الخطبة: خلافًا لمن قال بخروج الإمام، كما مر. نعم، الأحسن الإنصات كما مر. (فقد لغوت).

(2/189)


أي تركت الأدب جميعًا بين الأدلة، أو صارت جمعتك ظهرًا لحديث عبد الله بن عمرو، مرفوعًا، "ومن تخطى رقاب الناس كانت له ظهرا"، رواه أبو داود، وابن خزيمة.
ولأحمد من حديث علّي مرفوعًا: "ومن قال: صه! فقد تكلم، ومن تكلم فلا جمعة له". والنفي للكمال، وإلا فالإجماع على سقوط فرض الوقت عنه، وزاد أحمد من رواية الأعرج، عن أبي هريرة، في آخر حديث الباب بعد قوله: "فقد لغوت" "عليك بنفسك". واستدلّ به على منع جميع أنواع الكلام حال الخطبة، وبه قال الجمهور.
نعم، لغير السامع عند الشافعية أن يشتغل بالتلاوة والذكر، وكلام المجموع يقتضي أن الاشتغال بهما أولى، وهو ظاهر خلافًا لمن منع، كما مر، ولو عرض مهم ناجز: كتعليم خير، ونهي عن منكر، وتحذير إنسان عقربًا، أو أعمى بئرًا، لم يمنع من الكلام، بل قد يجب عليه. لكن يستحب أن يقتصر على الإشارة إن أغنت.
نعم، منع المالكية نهي اللاغي بالكلام، أو رميه بالحصى: أو الإشارة إليه بما يفهم النهي حسمًا للمادة، وقد استثني من الإنصات ما إذا انتهى الخطيب إلى كل ما لم يشرع في الخطبة، كالدعاء للسلطان مثلاً.
وبقية مباحث ذلك سبقت قريبًا في باب: الاستماع إلى الخطبة.

37 - باب السَّاعَةِ الَّتِي فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ
(باب الساعة التي) يستجاب فيها الدعاء (في يوم الجمعة).
935 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذَكَرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَقَالَ: «فِيهِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهْوَ قَائِمٌ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى شَيْئًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ». وَأَشَارَ بِيَدِهِ يُقَلِّلُهَا. [الحديث 935 - طرفاه 5294، 6400].

وبالسند قال. (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) رضي الله عنه (أن رسول الله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ذكر يوم الجمعة فقال):
(فيه ساعة) أبهمها هنا كليلة القدر، والاسم الأعظم، والرجل الصالح، حتى تتوفر الدواعي على مراقبة ذلك اليوم.
وقد روي: "إن لربكم في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها"، ويوم الجمعة من جملة تلك الأيام، فينبغي أن يكون العبد في جميع نهاره متعرضًا لها بإحضار القلب، وملازمة الذكر والدعاء، والنزوع عن وساوس الدنيا، فعساه يحظى بشيء من تلك النفحات.
وهل هذه الساعة باقية أو رفعت؟
وإذا قلنا بأنها باقية، وهو الصحيح، فهل هي في جمعة واحدة من السنة؟ أو في كل جمعة منها؟
قال بالأول كعب الأحبار لأبي هريرة، وردّه عليه فرجع لما راجع التوراة إليه. والجمهور على وجودها في كل جمعة.
ووقع تعيينها في أحاديث كثيرة: أرجحها حديث مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه، مرفوعًا: "أنها ما بين أن يجلس الإمام على المنبر إلى أن تقضى الصلاة". رواه مسلم وأبو داود.
وقول عبد الله بن سلام، المروي عند مالك، وأبي داود والترمذي والنسائي، وابن خزيمة، وابن حبان، من حديث أبي هريرة أنه قال لعبد الله بن سلام: أخبرني ولا تضنّ. فقال عبد الله بن سلام: هي آخر ساعة في يوم الجمعة. قال أبو هريرة: فقلت: كيف تكون آخر ساعة في يوم الجمعة وقد قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لا يصادفها عبد مسلم وهو يصلّي ... " وتلك الساعة لا يصلّى فيها؟ فقال عبد الله بن سلام: ألم يقل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من جلس مجلسًا ينتظر الصلاة فهو في صلاة حتى يصلّي ... " الحديث.
واختلف أيّ الحديثين أرجح؟ فرجح مسلم، فيما ذكره البيهقي، حديث أبي موسى، وبه قال جماعة منهم ابن العربي، والقرطبي، وقال: هو نص في موضع الخلاف فلا يلتفت إلى غيره، وجزم في الروضة بأنه الصواب. ورجحه بعضهم أيضًا بكونه مرفوعًا صريحًا، وبأنه في أحد الصحيحين.
وتعقب بأن الرجيح بما فيهما، أو في أحدهما، إنما هو حيث لم يكن مما انتقده الحفاظ، وهذا قد انتقد لأنه أعلّ بالانقطاع والاضطراب، لأن مخرمة بن بكير لم يسمع من أبيه، قاله أحمد، عن حماد بن خالد، عن مخرمة نفسه.

وقد رواه أبو إسحاق، وواصل الأحدب، ومعاوية بن قرة، وغيرهم عن أبي بردة من قوله، وهؤلاء من الكوفة، وأبو بردة منها أيضًا، فهو أعلم بحديثه من بكير المدني، وهم عدد وهو واحد.
ورجح آخرون: كأحمد وإسحاق، قول ابن سلام، واختاره ابن الزملكاني، وحكاه عن نص الشافعي ميلاً إلى: أن هذه رحمة من الله تعالى للقائمين بحق هذا اليوم، فأوان إرسالها عند الفراغ من تمام العمل.
وقيل في تعيينها غير ذلك مما يبلغ نحو الأربعين، أضربت

(2/190)


عنها خوف الإطالة، لا سيما وليست كلها متغايرة، بل كثير منها يمكن اتحاده مع غيره.
وما عدا القولين المذكورين موافق لهما. أو لأحدهما، أو ضعيف الإسناد، أو موقوف استند قائله إلى اجتهاد دون توقيف.
وحقيقة الساعة المذكورة: جزء من الزمان مخصوص، وتطلق على جزء من اثني عشر من مجموع النهار، أو على جزء مقدّر من الزمان فلا يتحقق، أو على الوقت الحاضر.
ووقع في حديث جابر، المروي عند أبي داود وغيره مرفوعًا بإسناد حسن، ما يدل للأوّل، ولفظه: "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، فيه ساعة ... إلخ".
(لا يوافقها) أي لا يصادفها (عبد مسلم) قصدها أو اتفق له وقوع الدعاء فيها (وهو قائم) جملة اسمية حالية، (يصلّي) جملة فعلية حالية.
والجملة الأولى خرجت مخرج الغالب، لأن الغالب في المصلي أن يكون قائمًا، فلا يعمل بمفهومها. وهو أنه لم يكن قائمًا لا يكون له هذا الحكم:
أو المراد بالصلاة: انتظارها، أو الدعاء. وبالقيام: الملازمة والمواظبة، لا حقيقة القيام، لأن منتظر الصلاة في حكم الصلاة، كما مر من قول عبد الله بن سلام لأبي هريرة، جمعًا بينه وبين قوله: إنها من العصر إلى الغروب.
ومن ثم، سقط عند أبي مصعب وابن أبي أويس، ومطرف، والتنيسي وقتيبة قوله:
قائم يصلّي (يسأل الله تعالى) فها (شيئًا) مما يليق أن يدعو به المسلم، ويسأل فيه ربه تعالى.
ولمسلم من رواية محمد بن زياد، عن أبي هريرة، كالمصنف في الطلاق من رواية ابن علقمة، عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة: "يسأل الله خيرًا".
ولابن ماجة. من حديث أبي أمامة: "ما لم يسأل حرامًا".
ولأحمد من حديث سعد بن عبادة: "ما لم يسأل إثمًا أو قطيعة رحم". وقطيعة رحم من جملة الإثم، فهو من عطف الخاص على العام للاهتمام به.
(إلاّ أعطاه إياه) (وأشار) في رواية أبي مصعب عن مالك: وأشار رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بيده) الشريفة حال كونه (يقللها) من التقليل، خلاف الكثير.
وللمصنف من رواية سلمة بن علقمة المذكورة: ووضع أنملته على بطن الوسطى، أو الخنصر، قلنا: يزهدها. وبيّن أبو مسلم الكجي أن الذي وضع هو: بشر بن الفضل، راوية عن سلمة بن علقمة، وكأنه فسر الإشارة بذلك:
وأنها ساعة لطيفة، تنتقل ما بين وسط النهار إلى قرب آخره، وبهذا يحصل الجمع بينه وبين قوله: يزهدها، أي: يقللها.
ولمسلم: وهي ساعة خفيفة.
فإن قلت: قد سبق حديث "يوم الجمعة ثنتا عشرة ساعة، فيه ساعة ... إلخ "، ومقتضاه أنها غير خفيفة.
أجيب: بأنه ليس المراد أنها مستغرقة للوقت المذكور، بل المراد أنها لا تخرج عنه، لأنها لحظة خفيفة، كما مر. وفائدة ذكر الوقت أنها تنتقل فيه، فيكون ابتداء مظنتها ابتداء الخطبة مثلاً، وانتهاؤها وانتهاء الصلاة.
واستشكل حصول الإجابة لكل داع بشرطه، مع اختلاف الزمان باختلاف البلاد والمصلي، فيتقدم بعض على بعض، وساعة الإجابة متعلقة بالوقت، فكيف يتفق مع الاختلاف؟
وأجيب: باحتمال أن تكون ساعة الإجابة متعلقة بفعل كل مصلٍّ، كما قيل نظيره في ساعة الكراهة. ولعل هذه فائدة جعل الوقت الممتد مظنة لها، وإن كانت هي خفيفة. قاله في فتح الباري.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي في الجمعة.

38 - باب إِذَا نَفَرَ النَّاسُ عَنِ الإِمَامِ فِي صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَصَلاَةُ الإِمَامِ وَمَنْ بَقِيَ جَائِزَةٌ
(باب) بالتنوين (إذا نفر الناس عن الإمام) أي: خرجوا عن مجلسه، وذهبوا (في صلاة الجمعة، فصلاة الإمام و) صلاة (من بقي) معه (جائزة) بالرفع، خبر المبتدأ الذي هو: فصلاة الإمام، وللأصيلي: تامّة.
وظاهر الترجمة أنه يشترط استدامة من تنعقد بهم الجمعة من ابتدائها إلى انتهائها، بل يشترط بقاء بقية ما منهم، ولم يذكر المؤلّف رحمه الله حديثًا يستدل به على عدد مَن تنعقد بهم الجمعة، لأنه لم يجد فيه شيئًا على شرطه.

ومذهب الشافعية والحنابلة اشتراط أربعين، منهم الإمام، وأن يكونوا مسلمين أحرارًا متوطنين ببلد الجمعة، لا يظعنون شتاءً ولا صيفًا إلاّ لحاجة، لحديث كعب بن مالك، قال: "أوّل من جمع بنا في المدينة أسعد بن زرارة، قبل مقدمه عليه الصلاة والسلام المدينة، في نقيع الخضمات، وكنا أربعين رجلاً". رواه البيهقي وغيره، وصححوه.
وروى البيهقي أيضًا: أنه، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، جمع بالمدينة وكانوا أربعين رجلاً.
وعورض بأنه لا يدل على شرطيته.
وأجيب بما قاله في المجموع،

(2/191)


وهو: أن الأصحاب قالوا: وجه الدلالة منه، أي من حديث كعب، أن الأمة أجمعوا على اشتراط العدد، والأصل الظهر، فلا تصح الجمعة إلا بعدد ثبت فيه توقيف، وقد ثبت جوازها بأربعين، وثبت: "صلوا كما رأيتموني أصلي". ولم تثبت صلاته لها بأقل من ذلك، فلا تجوز بأقل منه.
وقال المالكية: اثني عشر. لحديث الباب.
وقال أبو حنيفة ومحمد: أربعة بالإمام، لأن الجمع الصحيح إنما هو الثلاث، لأنه جمع تسمية ومعنى، والجماعة شرط على حدة، وكذا الإمام فلا يعتبر منهم.
وقال أبو يوسف: ثلاثة به، لأن في الاثنين معنى الاجتماع وهي منبئة عنه. اهـ.
936 - حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ: حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذْ أَقْبَلَتْ عِيرٌ تَحْمِلُ طَعَامًا، فَالْتَفَتُوا إِلَيْهَا حَتَّى مَا بَقِيَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ اثْنَا عَشَرَ رَجُلاً. فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا}. [الحديث 936 - أطرافه في: 2058، 2064، 4899].
وبالسند قال: (حدّثنا معاوية بن عمرو) بفتح العين، ابن المهلب، الأزدي البغدادي الكوفي الأصل، المتوفّى ببغداد سنة أربع عشرة ومائتين، (قال: حدّثنا زائدة) بن قدامة الكوفي (عن حصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين، ابن عبد الرحمن الواسطي، (عن سالم بن أبي الجعد) بفتح الجيم وسكون العين، رافع الكوفي (قال: حدّثنا جابر بن عبد الله) الأنصاري (قال: بينما) بالميم، وفي نسخة لأبي ذر: بينا (نحن نصلي) أي الجمعة (مع النبي، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
المراد بالصلاة هنا: انتظارها، جمعًا بينه وبين رواية عبد الله بن إدريس، عن حصين عند مسلم: ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب، فهو من باب: تسمية الشيء باسم ما قاربه، وهذا أليف بالصحابة تحسينًا للظن بهم.

سلمنا أنه كان في الصلاة، لكن يحتمل أنه وقع قبل النهي. نعم، في المراسيل لأبي داود، عن مقاتل بن حيان: أن الصلاة حينئذ كانت قبل الخطبة، فإذا ثبت زال الإشكال. لكنه مع شذوذه معضل.
وجواب بينما قوله: (إذ أقبلت عير) بكسر العين، إبل (تحمل طعامًا) من الشام لدحية الكلبي، أو لعبد الرحمن بن عوف: روى الأوّل الطبراني، والثاني ابن مردويه، وجمع بينهما باحتمال أن تكون لعبد الرحمن، ودحية سفير، أو كانا مشتركين (فالتفتوا إليها) أي انصرفوا إلى العير، وفي رواية ابن فضيل في البيوع: فانفضّ الناس، أي فتفرقوا، وهو موافق للفظ الآية، (حتى ما بقي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا اثنا عشر رجلاً) في رواية علي بن عاصم. عن حصين: حتى لم يبق معه إلا أربعون رجلاً. رواه الدارقطني.
ولو سلم من ضعف حفظ علي بن عاصم وتفرده، فإنه خالفه أصحاب حصين كلهم، لكان من أقوى الأدلة للشافعية.
وردّ المالكية على الشافعية والحنابلة، حيث اشترطوا لصحة الجمعة أربعين رجلاً، بقوله في حديث الباب: حتى ما بقي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا اثنا عشر رجلاً:
وأجيب: بأنه ليس فيه أنه ابتدأها باثني عشر، بل يحتمل عودهم قبل طول الزمان، أو عود غيرهم مع سماعهم أركان الخطبة.
وقد اختلف فيما إذا انفضوا، فقال الشافعية والحنابلة: لو انفض الأربعون أو بعضهم في أثناء الخطبة، أو بينها وبين الصلاة، أو في الركعة الأولى ولم يعودوا، أو عادوا بعد طول الفصل، استأنف الإمام الخطبة والصلاة.
ولو انفض السامعون للخطبة بعد إحرام تسعة وثلاثين لم يسمعوا الخطبة، أتم بهم الجمعة، لأنهم إذا لحقوا والعدد تام، صار حكمهم واحدًا، فسقط عنهم سماع الخطبة، أو انفضوا قبل إحرامهم استأنف الخطبة بهم، لأنه لا تصح الجمعة بدونها، وإن قصر الفضل لانتفاء سماعهم ولحوقهم.
وقال أبو حنيفة: إذا نفر الناس قبل أن يركع الإمام ويسجد إلا النساء، استقبل الظهر.
وقال صاحباه: إذا نفروا عنه بعدما افتتح الصلاة، صلّى الجمعة. وإن نفروا عنه بعدما ركع وسجد سجدة، بنى على الجمعة في قولهم جميعًا، خلافًا لزفر.
وقال المالكية: إن انفضوا بحيث لا يبقى مع الإمام أحد، فلا تصح الجمعة، وإن بقي معه اثنا عشر صحت، ويتم بهم جمعة إذا بقوا إلى السلام، فلو انفض منهم شيء قبل السلام بطلت.

(فنزلت هذه الآية {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا} هو الطبل الذي كان يضرب لقدوم التجارة فرحًا بقدومها وإعلامًا ({انفضوا إليها وتركوك قائمًا}).
لم يقل: إليهما، لأن اللهو لم يكن مقصودًا لذاته، وإنما كان تبعًا للتجارة، أو حذف لدلالة أحدها على الآخر. أي: وإذا رأوا تجارة انفضوا إليها وإذا رأوا لهوًا انفضوا إليه. أو أُعيد الضمير إلى مصدر الفعل المتقدم وهو الرؤية، أي: انفضوا إلى

(2/192)


الرؤية الواقعة على التجارة أو اللهو.
والترديد للدلالة على أن منهم من انفض لمجرد سماع الطبل ورؤيته.
وقد استشكل الأصيلي حديث الباب، مع وصفه تعالى الصحابة بأنهم {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] وأجاب باحتمال أن يكون هذا الحديث قبل نزول الآية.
قال في فتح الباري: وهذا الذي يتعين المسير إليه مع أنه ليس في آية النور، التصريح بنزولها في الصحابة، وعلى تقدير ذلك، فلم يكن تقدّم لهم نهي عن ذلك، فلما نزلت آية الجمعة وفهموا منها ذمّ ذلك اجتنبوه، فوصفوا بما في آية النور. اهـ.
ورواة الحديث ما بين: بغدادي وكوفي وواسطي، وفيه التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه المؤلّف أيضًا في البيوع، والتفسير، ومسلم في الصلاة، والترمذي في التفسير، وكذا النسائي فيه وفي الصلاة.

39 - باب الصَّلاَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ وَقَبْلَهَا
(باب الصلاة بعد الجمعة وقبلها) قدم البعد على القبل خلافًا لعادته لورود الحديث في البعد صريحًا دون القبل.
937 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ. وَكَانَ لاَ يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ". [الحديث 937 - أطرافه في: 1165، 1172، 1180].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب، رضي الله عنهما، ولابن عساكر: عن ابن عمر (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كان يصلّي قبل الظهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العشاء ركعتين، وكان لا يصلّي بعد الجمعة حتى ينصرف) من المسجد إلى بيته (فيصلّي) فيه (ركعتين) لأنه لو صلاهما في المسجد ربما يتوهم أنهما اللتان حذفتا.

وصلاة النفل في الخلوة أفضل، ولم يذكر شيئًا في الصلاة قبلها، والظاهر أنه قاسها على الظهر.
وأقوى ما يستدل به في مشروعيتها، عموم ما صححه ابن حبان من حديث عبد الله بن الزبير، مرفوعًا: "ما من صلاة مفروضة إلا وبين يديها ركعتان".
وأما احتجاج النووي في الخلاصة على إثباتها بما في بعض طرق حديث الباب، عند أبي داود وابن حبّان، من طريق أيوب، عن نافع، قال: كان ابن عمر يطيل الصلاة قبل الجمعة، ويصلّي بعدها ركعتين في بيته، ويحدث: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفعل ذلك. فتعقب بأن قوله: كان يفعل ذلك، عائد على قوله: ويصلّي بعد الجمعة ركعتين في بيته.
ويدل له رواية الليث، عن نافع، عن عبد الله: أنه كان إذا صلّى الجمعة انصرف فسجد سجدتين في بيته. ثم قال: كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصنع ذلك. رواه مسلم.
وأما قوله: كان يطيل الصلاة قبل الجمعة، فإن كان المراد بعد دخول الوقت فلا يصح أن يكون مرفوعًا، لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: كان يخرج إذا زالت الشمس، فيشتغل بالخطبة، ثم بصلاة الجمعة، وإن كان المراد قبل دخول الوقت، فذاك مطلق نافلة، لا صلاة راتبة، فلا حجة فيه لسُنّة الجمعة التي قبلها، بل هو تنفل مطلق، قاله في الفتح.
وينبغي أن يفصل بين الصلاة التي بعد الجمعة وبينها، ولو بنحو كلام أو تحول، لأن معاوية أنكر على من صلّى سُنّة الجمعة في مقامها، وقال له: إذا صليت الجمعة فلا تصلّها بصلاة حتى تخرج؛ أو تتكلم، فإن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمرنا بذلك، أن لا نوصل صلاة بصلاة حتى نخرج أو نتكلم، رواه مسلم.
وقال أبو يوسف: يصلّي بعدها ستًّا، وقال أبو حنيفة ومحمد: أربعًا كالتي قبلها، له: أنه عليه الصلاة والسلام، كان يصلّي بعد الجمعة أربعًا، ثم يصلّي ركعتين إذا أراد الانصراف، ولهما، قوله عليه الصلاة والسلام، من شهد منكم الجمعة فليصل أربعًا قبلها، وبعدها أربعًا. رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن عبد الرحمن السهمي، وهو ضعيف عند البخاري وغيره.
وقال المالكية: لا يصلّي بعدها في المسجد، لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، كان ينصرف بعد الجمعة، ولم يركع في المسجد.
وقال صاحب تنقيح المقنع، من الحنابلة: ولا سُنّة لجمعة قبلها نصًّا، وما بعدها في كلامه.
وحديث الباب أخرجه مسلم، وأبو داود، والترمذي، وابن ماجة.

40 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}
(باب قول الله تعالى: {فإذا قضيت الصلاة} أي: فرغتم من صلاة الجمعة ({فانتشروا في الأرض}) للتكسب والتصرف في حوائجكم ({وابتغوا من فضل الله}) [لجمعة: 10]. أي: رزقه، أو تعليم العلم.
والأمر في الموضعين للإباحة بعد الحظر، وقول: إنه للوجوب في حق من يقدر على الكسب قول شاذ، ووهم من زعم أن الصارف للأمر عن الوجوب، هنا، كونه

(2/193)


ورد بعد الحظر، لأن ذلك لا يستلزم عدم الوجوب، بل الإجماع هو الدال على أن الأمر المذكور للإباحة.
والذي يترجح أن في قوله: انتشروا، وابتغوا، إشارة إلى استدراك ما فاتكم من الذي انفضضتم إليه، فلينحل إلى أنها قضية شرطية، أي: من وقع له في حال خطبة الجمعة وصلاتها، زمان يحصل فيه ما يحتاج إليه في أمر دنياه ومعاشه، فلا يقطع العبادة لأجله، بل يفرغ منها، ويذهب حينئذ ليحصل حاجته.
وقيل: هو في حق من لا شيء عنده ذلك اليوم، فأمره بالطلب، بأي صورة اتفقت، ليفرح عياله ذلك اليوم لأنه يوم عيد.
وعن بعض السلف: من باع أو اشترى بعد الجمعة بارك الله له سبعين مرة. وفي حديث أنس مرفوعًا: {وابتغوا من فضل الله} ليس لطلب دنياكم، وإنما هو عيادة مريض، وحضور جنازة، وزيارة أخ في الله.
938 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍ قَالَ: "كَانَتْ فِينَا امْرَأَةٌ تَجْعَلُ عَلَى أَرْبِعَاءَ فِي مَزْرَعَةٍ لَهَا سِلْقًا، فَكَانَتْ إِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ تَنْزِعُ أُصُولَ السِّلْقِ فَتَجْعَلُهُ فِي قِدْرٍ ثُمَّ تَجْعَلُ عَلَيْهِ قَبْضَةً مِنْ شَعِيرٍ تَطْحَنُهَا فَتَكُونُ أُصُولُ السِّلْقِ عَرْقَهُ. وَكُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلاَةِ الْجُمُعَةِ فَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا، فَتُقَرِّبُ ذَلِكَ الطَّعَامَ إِلَيْنَا فَنَلْعَقُهُ، وَكُنَّا نَتَمَنَّى يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِطَعَامِهَا ذَلِكَ". [الحديث 938 - أطرافه في: 939، 941، 2349، 5403، 6248، 6279].
وبالسند قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبوي ذر، والوقت: حدّثني، (سعيد بن أبي مريم) هو سعيد بن محمد بن الحكم بن أبي مريم الجمحي، مولاهم، البصري (قال: حدّثنا أبو غسان) بفتح الغين المعجمة والسين المهملة المثقلة، محمد بن مطر المدني، (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو حازم) بالحاء والزاي، سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) هو ابن مالك الأنصاري الساعدي، وسقط في رواية

غير أبي ذر: ابن سعد (قال: كانت فينا امرأة) لم يعرف اسمها (تجعل) بالجيم والعين، ولأبي ذر، والأصيلي، عن الكشميهني: تحقل، بالحاء المهملة والقاف المكسورة، وزاد في اليونينية: وبالفاء، أي: تزرع (على أربعاء) بكسر الموحدة، جدول أو ساقية صغيرة تجري إلى النخل، أو النهر الصغير لسقي الزرع (في مزرعة لها) بفتح الراء، وحكي تثليثها (سلقًا) بكسر المهملة وسكون اللام، منصوب على المفعولية، لتجعل أو تحقل، على الروايتين، ولأبي ذر، وعزاها القاضي عياض للأصيلي، كما في اليونينية: سلق بالرفع.
وهو يرد على العيني وغيره، حيث زعم أن الرواية لم تجيء بالرفع بل بالخصب قطعًا، ووجهها عياض كما في الفرع، بأن يكون مفعولاً لم يسم فاعله لتجعل أو تحقل، بضم الأول مبنيًّا للمفعول، أو أن الكلام تم بقوله: في مزرعة، ثم استأنف لها فيكون: سلق، مبتدأ خبره لها مقدم.
(فكانت) أي المرأة (إذا كان يوم الجمعة تنزع أصول السلق، فتجعله في قدر، ثم تجعل عليه قبضة من شعير) حال كونها (تطحنها) بفتح الحاء المهملة، من الطحن، والأبي ذر، عن المستملي: تطبخها بالموحدة والخاء المعجمة، من الطبخ.
والقبضة، بفتح القاف والضاد المعجمة، بينهما موحدة ساكنة، كما في الفرع، ويجوز الضم أو هو الراجح، قال الجوهري: بالضم، ما قبضت عليه من شيء، يقال: أعطاه قبضة من سويق أو تمر، أو كفًا منه. وربما جاء بالفتح.
(فتكون أصول السلق عرفه) بفتح العين وسكون الراء المهملتين بعدها قاف ثم هاء ضمير اللحم الذي على العظم، أي: أصول السلق عوض اللحم، وللكشميهني، كما في الفتح: غرفة بفتح الغين المعجمة وكسر الراء وبعد القاف هاء تأنيث، يعني: أن السلق يغرق في المرق لشدة نضجه، ولأبي الوقت، والأصيلي: غرفه بالغين المعجمة المفتوحة والراء الساكنة وبالفاء، أي: مرقه الذي يغرف. قال الزركشي: وليس بشيء.
(وكنا ننصرف من صلاة الجمعة، فنسلم عليها فتقرب ذلك الطعام إلينا، فنلعقه) بفتح العين المهملة (وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك).
مطابقة الحديث للترجمة من حيث أنهم: كانوا بعد انصرافهم من الجمعة يبتغون ما كانت تلك المرأة تهيئه من أصول السلق، وهو يدل على قناعة الصحابة وعدم حرصهم على الدنيا، رضي الله عنهم.
ورواة هذا الحديث مدنيون، ما عدا شيخ المؤلّف البصري، وفيه التحديث والعنعنة والقول.
939 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَهْلٍ بِهَذَا وَقَالَ: "مَا كُنَّا نَقِيلُ وَلاَ نَتَغَدَّى إِلاَّ بَعْدَ الْجُمُعَةِ".

وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بفتح الميمين القعنبي (قال: حدّثنا ابن أبي حازم) هو عبد العزيز بن أبي حازم، بالحاء المهملة والزاي المعجمة، سلمة بن دينار المدني، (عن أبيه عن سهل) هو ابن سعد الأنصاري (بهذا) أي: بهذا الحديث السابق، فأبو غسان وابن أبي حازم عن أبي حازم.
(وقال) عبد العزيز، زيادة على رواية أبي غسان: (ما كنا نقيل) بفتح النون، أي: نستريح نصف النهار (ولا نتغدى) بالغين المعجمة والدال المهملة، أي: نأكل أوّل النهار (إلا بعد) صلاة (الجمعة).
وتمسك به الإمام أحمد، لجواز صلاة

(2/194)


الجمعة قبل الزوال.
وأجيب: بأن المراد بأن قائلتهم وغداءهم عوض عما فاتهم، فالغداء عما فات من أول النهار، والقيلولة عما فات وقت المبادرة بالجمعة عقب الزوال، بل ادعى الزين بن المنير أنه: يؤخذ منه أن الجمعة تكون بعد الزوال، لأن العادة في القائلة أن تكون قبل الزوال، فأخبر الصحابي: أنهم كانوا يشتغلون بالتهيؤ للجمعة عوض القائلة، ويؤخرون القائلة حتى تكون بعد صلاة الجمعة. اهـ.

41 - باب الْقَائِلَةِ بَعْدَ الْجُمُعَةِ
(باب القائلة بعد) صلاة (الجمعة) أي القيلولة، وهي الاستراحة في الظهيرة، سواء كان معها نوم أم لا.
940 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُقْبَةَ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا يَقُولُ: "كُنَّا نُبَكِّرُ إِلَى الْجُمُعَةِ ثُمَّ نَقِيلُ".
وبالسند (قال): (حدّثنا محمد بن عقبة) بضم العين وسكون القاف، ابن عبد الله (الشيباني) ولابن عساكر: الكوفي، (قال: حدّثنا أبو إسحاق) إبراهيم بن محمد (الفزاري) بتخفيف الزاي المعجمة (عن حميد) بضم الحاء، ابن أبي حميد الطويل البصري (قال: سمعت أنسًا يقول) ولأبي ذر: عن أنس قال: (كنا نبكر) من التبكير، وهو الإسراع (إلى الجمعة) وللأصيلي، وابن عساكر، وأبي الوقت، وأبي ذر في نسخة: يوم الجمعة (ثم نقيل) بعد الصلاة.
ورواته ما بين كوفي ومصيصي وبصري، وشيخه من أفراده، وفيه: التحديث والعنعنة والقول.
941 - حدثنا سعيدُ بنُ أبي مريمَ قال: حدّثنا أبو غَسّانَ قال: حدَّثني أبو حازم عن سَهلٍ
قال: "كنا نُصلِّي معَ النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجُمعةَ، ثم تكونُ القائلة".

وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم، قال: حدّثنا أبو غسان. قال: حدّثني) بالإفراد (أبو حازم، عن سهل) ولأبي ذر: عن سهل بن سعد (قال: كنا نصلي مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الجمعة، ثم تكون القائلة) أي: القيلولة.
وهذا الحديث مرّ قريبًا.