شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
12 - كتاب الخوف
1 - باب صَلاَةِ الْخَوْفِ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي
الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا
مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ
الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ
عَدُوًّا مُبِينًا * وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ
لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا
فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ
أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ
وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ
وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً
وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ
أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا
أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ
لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء: 101 - 102].
بسم الله الرحمن الرحيم (باب صلاة الخوف) أي كيفيتها من
حيث أنه يحتمل في الصلاة عنده، ما لا يحتمل فيها عند غيره.
وقد جاءت في كيفيتها سبعة عشر نوعًا، لكن يمكن تداخلها.
ومن ثم قال في زاد المعاد: أصولها ست صفات، وبلغها بعضهم
أكثر، وهؤلاء كلما رأوا اختلاف الرواة في قصة جعلوا ذلك
وجهًا من فعله، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وإنما هو من اختلاف الرواة. قال في فتح الباري: وهذا هو
المعتمد. اهـ.
والإفراد في باب للأصيلي وكريمة.
وفي رواية أبي ذر، عن المستملي، وأبي الوقت: أبواب،
بالجمع. وسقط للباقين: (وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على
سابقه، ولأبوي ذر، والوقت: قال الله تعالى ({وإذا ضربتم في
الأرض}) سافرتم ({فليس عليكم جناح}) إثم ({أن تقصروا من
الصلاة}) بتنصيف ركعاتها.
ونفي الحرج فيه يدل على جوازه لا على وجوبه، أنه عليه
الصلاة والسلام: أتم في السفر.
وأوجبه أبو حنيفة، لقول عمر المروي في النسائي، وابن ماجة،
وابن حبان: صلاة السفر ركعتان تام غير قصر، على لسان نبيكم
ولقول عائشة، رضي الله عنها، المروي عند الشيخين: أوّل ما
فرض الصلاة فرضت ركعتين، فأقرت في السفر وزيدت في الحضر.
وأجيب: بأن الأول: مؤول بأنه كالتام في الصحة والإجزاء،
والثاني: لا ينفي جواز الزيادة.
لكن أكثر السلف على وجوبه. وقال كثير منهم هذه الآية في
صلاة الخوف.
فالمراد أن تقصروا من جميع الصلوات، بأن تجعلوها ركعة
واحدة، أو من كيفيتها، إلا من كميتها، والآية الآتية فيها
تبيين وتفصيل لها، كما سيجيء.
وسئل ابن عمر، رضي الله عنهما، إنّا نجد في كتاب الله قصر
صلاة الخوف، ولا نجد قصر صلاة المسافر فقال ابن عمر: إنّا
وجدنا نبينا يعمل فعملنا به.
وعلى هذا فقوله ({إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا}) بالقتال
بالتعرض لما يكره، شرط له باعتبار الغالب في ذلك الوقت.
وإذا لم يعتبر مفهومه، فإن الإجماع على جواز القصر في
السفر من غير خوف ({وإن الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا
وإذا كنت فيهم}) أيها الرسول، علمه طريق صلاة الخوف ليقتدي
الأئمة بعده به، عليه الصلاة والسلام ({فأقمت لهم الصلاة})
وتمسك بمفهومه من خص صلاة الخوف بحضرته، عليه الصلاة
والسلام، وهو أبو يوسف، والحسن بن زياد اللؤلؤي من أصحابه،
وإبراهيم بن علية. وقالوا: ليس هذا لغيره، لأنها إنما شرعت
بخلاف القياس لإحراز فضيلة، الصلاة معه، عليه الصلاة
والسلام، وهذا المعنى انعدم بعده.
وأجيب: بأن عامة الفقهاء على أن الله تعالى علم الرسول
كيفيتها ليؤتم به، كما مر. أي: بيّن لهم بفعلك، لكونه أوضح
من القول. وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على فعله بعده،
عليه الصلاة والسلام، وبقوله عليه الصلاة
(2/195)
والسلام: "صلوا كما رأيتموني أصلي" فعموم
منطوقه مقدم على ذلك المفهوم.
وادعى المزني نسخها، لتركه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لها يوم الخندق.
وأجيب: بتأخر نزولها عنه، لأنها نزلت سنة ست، والخندق كان
سنة أربع أو خمس.
({فلتقم طائفة منهم معك}) فاجعلهم طائفتين، فلتقم إحداهما
معك يصلون، وتقوم الطائفة الأخرى في وجه العدو ({وليأخذوا
أسلحتهم}) أي: المصلون، حزمًا. وقيل: الضمير للطائفة
الأخرى، وذكر الطائفة الأولى يدل عليهم ({فإذا سجدوا})
يعني: المصلين ({فليكونوا}) أي: غير المصلين ({من ورائكم})
يحرسونكم، يعني: النبي ومن يصلّي معه، فغلب المخاطب على
الغائب، ({ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا}) لاشتغالهم بالحراسة
({فليصلوا معك}) ظاهره أن الإمام يصلّي مرتين، بكل طائفة
مرة كما فعله عليه الصلاة والسلام ببطن نخل ({وليأخذوا
حذرهم وأسلحتهم})
جعل الحذر، وهو التحرز والتيقظ، آلة يستعملها المغازي،
فجمع بينه وبين الأسلحة في الأخذ ({ودّ الذين كفروا لو
تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة})
بالقتال فلا تغفلوا ({ولا جناح}): لا وزر ({عليكم إن كان
بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم}) رخصة لهم
في وضعها إذا ثقل عليهم أخذها بسبب مطر أو مرض، وهذا يؤيد
أن الأمر للوجوب دون الاستحباب ({خذوا حذركم}) أمرهم مع
ذلك بأخذ الحذر كي لا يهجم عليهم العدو ({إن الله أعدّ
للكافرين عذابًا مهينًا}) [النساء: 101 - 102] وعد
للمؤمنين بالنصر، وإشارة إلى أن الأمر بالحزم ليس لضعفهم
وغلبة عدوهم، بل لأن الواجب في الأمور التيقظ.
وقد ثبت سياق الآيتين بلفظهما إلى آخر قوله: ({مهينًا})
كما ترى في رواية كريمة، ولفظ رواية أبي ذر ({فلتقم طائفة
منهم معك}) إلى قوله: ({عذابًا مهينًا}) وله أيضًا، ولابن
عساكر، وأبي الوقت: ({وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم
جناح}) إلى قوله: ({عذابًا مهينًا}) ولابن عساكر: ({إن
الله أعدّ للكافرين عذابًا مهينًا}) وزاد الأصيلي: ({أن
تقصروا من الصلاة}) إلى قوله: ({عذابًا مهينًا}).
942 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ قَالَ: أَخْبَرَنَا
شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: سَأَلْتُهُ هَلْ صَلَّى
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-يَعْنِي
صَلاَةَ الْخَوْفِ- قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ
عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ:
"غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قِبَلَ نَجْدٍ، فَوَازَيْنَا الْعَدُوَّ
فَصَافَفْنَا لَهُمْ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي لَنَا، فَقَامَتْ
طَائِفَةٌ مَعَهُ تُصَلِّي، وَأَقْبَلَتْ طَائِفَةٌ عَلَى
الْعَدُوِّ وَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَنْ مَعَهُ وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ،
ثُمَّ انْصَرَفُوا مَكَانَ الطَّائِفَةِ الَّتِي لَمْ
تُصَلِّ، فَجَاءُوا فَرَكَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِمْ رَكْعَةً وَسَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ
مِنْهُمْ فَرَكَعَ لِنَفْسِهِ رَكْعَةً وَسَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ". [الحديث 942 - أطرافه في: 943، 4132، 4133،
4535].
وبالسند إلى المؤلّف قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن
نافع (قال: أخبرنا شعيب) هو: ابن أبي حمزة (عن) ابن شهاب
(الزهري قال): شعيب: (سألته) أي: الزهري. كذا بإثبات: قال،
ملحقة بين الأسطر في فرع اليونينية، وكذا رأيته فيها
ملحقًا بين سطورها، مصححًا عليه.
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: ووقع بخط بعض من نسخ
الحديث، عن الزهري، قال: سألته. فأثبت: قال، ظنًّا منه
أنها حذفت خطأ على العادة، وهو محتمل. ويكون حذف فاعل قال،
لا أن الزهري هو الذي قال، والمتجه حذفها. وتكون الجملة
حالية، أي: أخبرني الزهري حال سؤالي إياه (هل صلّى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ يعني صلاة الخوف
-قال) أي: الزهري ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي وابن عساكر
فقال:
(أخبرني سالم) هو: ابن عبد الله بن عمر (أن) أباه (عبد
الله بن عمر) بن الخطاب، (رضي الله عنهما، قال: غزوت مع
رسول الله) ولأبي ذر: مع النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة، أي: جهة (نجد)
بأرض غطفان، وهو كل ما ارتفع من بلاد العرب، من تهامة إلى
العراق، وكانت الغزوة ذات الرقاع، وأول ما صلّيت صلاة
الخوف فيها سنة أربع أو خمس أو ست أو سبع، وقول الغزالي،
رحمه الله في الوسيط، وتبعه الرافعي: إنها آخر الغزوات،
ليس بصحيح، وقد أنكر عليه ابن الصلاح في: مشكل الوسيط.
(فوازينا العدو) بالزاي، أي: قابلناهم (فصاففنا لهم)
باللام، ولأبي ذر، عن الكشميهني: فصاففناهم، (فقام رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلّي لنا) أي:
لأجلنا، أو: بنا، بالموحدة (فقامت طائفة معه) زاد في غير
رواية أبي ذر: تصلي، أي: إلى حيث لا تبلغهم سهام العدو
(وأقبلت طائفة على العدو، وركع) بالواو، ولأبي ذر عن
المستملي، فركع (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بمن معه، وسجد سجدتين) ثم ثبت قائمًا (ثم
انصرفوا) بالنيّة، وهم في حكم الصلاة عند قيامه، عليه
الصلاة والسلام، إلى الثانية
(2/196)
منتصبًا، أو عقب رفعه من السجود (مكان
الطائفة التي لم تصل) أي: فقاموا في مكانهم في وجه العدو
(فجاؤوا) أي: الطائفة الأخرى التي كانت تحرس، وهو عليه
الصلاة والسلام قائم في الثانية، وهو عليه الصلاة والسلام
قارئ منتظر لها، (فرع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بهم ركعة، وسجد سجدتين، ثم سلم) عليه الصلاة
والسلام (فقام كل واحد منهم، فركع لنفسه ركعة، وسجد
سجدتين) ويأتي في المغازي، إن شاء الله تعالى، ما يدل على
أنها كانت العصر.
وظاهر قوله: فقام كل واحد منهم ... إلخ. أنهم أتموا في
حالة واحدة. ويحتمل أنهم أتموا على التعاقب، وهو الراجح من
حيث المعنى، والاً فيستلزم تضييع الحراسة المطلوبة وهذه
الصورة اختارها الحنفية.
واختار الشافعية في كيفيتها: أن الإمام ينتظر الطائفة
الثانية ليسلم بها، كما في حديث صالح بن خوّات، المروي في
مسلم، عمن شهد مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- صلاة الخوف يوم ذات الرقاع: أن طائفة صفت معه،
وطائفة وجاه العدو فصلّى بالتي معه ركعة، ثم ثبت قائمًا
وأتموا لأنفسهم، ثم انصرفوا، فصلّوا وجاه العدو، وجاءت
الطائفة الأخرى فصلّى بهم الركعة التي بقيت من صلاته، ثم
ثبت جالسًا فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم: بالطائفة الثانية
بعد التشهد.
قال مالك: هذا أحسن ما سمعت في صلاة الخوف، وهو دليل
المالكية، غير قوله: ثم ثبت جالسًا.
وإنما اختار الشافعية هذه الكيفية لسلامتها من كثرة
المخالفة، ولأنها أحوط لأمر الحرب، فإنها أخف على
الفريقين.
ويكره كون الفرقة المصلية معه، والتي في وجه العدو أقل من
ثلاثة، لقوله تعالى: {وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا
فليكونوا من ورائهم} مع قوله: {ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا
فليصلوا معك
وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم} فذكروهم بلفظ الجمع. وأقله
ثلاثة: فأقل الطائفة هنا ثلاثة، وهذا النوع بكيفيتيه حيث
يكون العدوّ في غير القبلة، أو فيها لكن حال دونهم حائل
يمنع رؤيتهم لو هجموا.
ويجوز للإمام أن يصلّي مرتين، كل مرة بفرقة، فتكون الثانية
نافلة. وهذه صلاة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ببطن نخل، رواها الشيخان، لكن الأولى أفضل من
هذه لأنها أعدل بين الطائفتين، ولسلامتها عمّا في هذه من
اقتداء المفترض بالمتنفل المختلف فيه.
وتتأتى في تلك الصلاة الجمعة، بشرط أن يخطب بجميعهم، ثم
يفرقهم فرقتين، أو يخطب ثم يجعل منها مع كل من الفرقتين
أربعين: فلو خطب بفرقة وصلّى بأخرى لم يجز، وكذا لو نقصت
الثانية فطريقان، أصحهما: ألا يضرّ للحاجة والمسامحة في
صلاة الخوف. ذكره في المجموع وغيره.
وأما إن كانوا في جهة القبلة، فيأتي قريبًا في باب: يحرس
بعضهم بعضًا، إن شاء الله تعالى.
فإن كانت الصلاة رباعية، وهم في الحضر، أو في السفر وأتموا
صلّى بكل من الفرقتين ركعتين، وتشهد بهما. وانتظر الثانية
في جلوس التشهد، أو قيام الثالثة، وهو أفضل. لأنه محل
التطويل، بخلاف جلوس التشهد الأول.
وإن كانت مغربًا، فيصلّي بفرقة ركعتين، وبالثانية ركعة،
وهو أفضل من عكسه، لسلامته من التطويل في عكسه بزيادة تشهد
في أول الثانية، وينتظر الثانية في الركعة الثالثة، أي: في
القيام لها.
وهذا كله إذا لم يشتد الخوف. أما إذا اشتد فيأتي حكمه في
الباب التالي إن شاء الله تعالى.
ورواة هذا الحديث الأربعة: حمصيان ومدنيان، وفيه التحديث
والإخبار والعنعنة والسؤال والقول، وأخرجه المؤلّف أيضًا
في المغازي، ومسلم وأبو داود والنسائي والترمذي.
2 - باب صَلاَةِ الْخَوْفِ رِجَالاً وَرُكْبَانًا.
رَاجِلٌ: قَائِمٌ
(باب صلاة الخوف) حال كون المصلين (رجالاً وركبانًا) عند
الاختلاط وشدّة الخوف، فلا تسقط الصلاة عند العجز عن نزول
الدابة، بل يصلون ركبانًا فرادى يومؤون بالركوع والسجود
إلى أي جهة شاؤوا.
(راجل: قائم) يريد أن قوله في الترجمة: رجالاً، جمع: راجل،
لا جمع: رجل، والمراد به هنا القائم. وسقط: راجل: قائم.
عند أبي ذر، وثبت ذلك في رواية أبي الهيثم، والحموي، وأبي
الوقت.
943 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنَا
ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِ مُجَاهِدٍ إِذَا
اخْتَلَطُوا قِيَامًا. وَزَادَ ابْنُ عُمَرَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَإِنْ
كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلْيُصَلُّوا قِيَامًا
وَرُكْبَانًا».
وبالسند قال: (حدّثنا سعيد بن يحيى بن سعيد القرشي)
البغدادي (قال: حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (أبي)
يحيى المذكور (قال: حدّثنا ابن جريج) عبد الملك بن
(2/197)
عبد العزيز (عن موسى بن عقبة) بن أبي عياش،
مولى الزبير بن العوام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن
عمر) بن الخطاب (نحوًا من قول مجاهد) الموقوف عليه، مما
صدر منه عن رأيه عن روايته عن ابن عمر، مما رواه الطبري عن
سعيد بن يحيى، شيخ البخاري فيه بإسناده المذكور إلى ابن
عمر، قال (إذا اختلطوا) أي: اختلط المسلمون بالكفار، يصلون
حال كونهم (قيامًا) أي قائمين.
وكذا أخرجه الإسماعيلي، عن الهيثم بن خلف، عن سعيد، وزاد،
كالطبري في روايته السابقة، بعد قوله: اختلطوا، فإنما هو
الذكر، وإشارة بالرأس. وتبين من هذا أن قوله هنا: قيامًا،
تصحيف من قوله: فإنما.
(وزاد ابن عمر) بن الحظاب، حال كونه مرفوعًا (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فليس صادرًا عن
رأيه.
(وإن) وللكشميهني: وإذا (كانوا) أي: العدو (أكثر) عند
اشتداد الخوف (من ذلك) أي: من الخوف الذي لا يمكن معه
القيام في موضع ولا إقامة صف (فليصلوا) حينئذ، حال كونهم
(قيامًا) على أقدامهم (وركبانًا) على دوابهم، لأن فرض
النزول سقط.
ولمسلم في آخر هذا الحديث، قال ابن عمر: فإذا كان خوف أكثر
من ذلك، فليصل راكبًا أو قائمًا، يومئ إيماء.
وزاد مالك في الموطأ في آخره، أيضًا: مستقبل القبلة أو غير
مستقبلها.
والمراد: أنه إذا اشتد الخوف والتحم القتال، واشتد الخوف
ولم يأمنوا أن يدركوهم لو ولوا أو انقسموا، فليس لهم تأخير
الصلاة عن وقتها، بل يصلون ركبانًا ومشاةً، ولهم ترك
الاستقبال إذا كان بسبب القتال، والإيماء عن الركوع
والسجود عند العجز للضرورة، ويكون السجود أخفض من الركوع
ليتميزا، فلو انحرف عن القبلة لجماح الدابة، وطال الزمان،
بطلت صلاته، ويجوز اقتداء بعضهم ببعض مع اختلاف الجهة
كالمصلين حول الكعبة، ويعذر في العمل الكثير لا في الصياح
لعدم الحاجة إليه.
وحكم الخوف على نفس، أو منفعة من سبع أو حيّة أو عرق أو
على مال ولو لغيره، كما في المجموع، فكالخوف في القتال،
ولا إعادة في الجميع.
ورواة الحديث ما بين: بغدادي وكوفي ومكّي ومدني، وفيه
التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه مسلم والنسائي، واللهُ
أعلم.
3 - باب يَحْرُسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي صَلاَةِ
الْخَوْفِ
هذا (باب) بالتنوين (يحرس) المصلون (بعضهم بعضًا في صلاة
الخوف).
944 - حَدَّثَنَا حَيْوَةُ بْنُ جُرَيْجٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ عَنِ الزُّبَيْدِيِّ
عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- قَالَ: "قَامَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ فَكَبَّرَ وَكَبَّرُوا
مَعَهُ، وَرَكَعَ وَرَكَعَ نَاسٌ مِنْهُمْ، ثُمَّ سَجَدَ
وَسَجَدُوا مَعَهُ. ثُمَّ قَامَ لِلثَّانِيَةِ فَقَامَ
الَّذِينَ سَجَدُوا وَحَرَسُوا إِخْوَانَهُمْ، وَأَتَتِ
الطَّائِفَةُ الأُخْرَى فَرَكَعُوا وَسَجَدُوا مَعَهُ،
وَالنَّاسُ كُلُّهُمْ فِي صَلاَةٍ وَلَكِنْ يَحْرُسُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا".
وبالسند قال: (حدّثنا حيوة بن شريح) بفتح الحاء المهملة
وسكون المثناة التحتية وفتح الواو في الأوّل، وضم الشين
المعجمة وفتح الراء وسكون المثناة التحتية ثم حاء مهملة في
الآخر، الحمصي الحضرمي، وهو حيوة الأصغر، المتوفى سنة أربع
وعشرين ومائتين (قال: حدّثنا محمد بن حرب) بفتح الحاء
المهملة وسكون الراء ثم موحدة، الخولاني الحمصي الأبرش (عن
الزبيدي) بضم الزاي وفتح الموحدة، محمد بن الوليد، الشامي
الحمصي، وللإسماعيلي: حدّثنا الزبيدي (عن) ابن شهاب
(الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة) بسكون المثناة
الفوقية وضم عين الأوّل، والثالث: ابن مسعود المدني، أحد
الفقهاء السبعة (عن ابن عباس، رضي الله عنهما)، أنه (قال:
قام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقام)
بالواو، ولأبي ذر في نسخة: فقام (الناس معه) طائفتين،
طائفة خلفه وأخرى خلفها (فكبر وكبروا) كلهم (معه، وركع
وركع ناس منهم) صادق بالطائفة التي تليه عليه الصلاة
والسلام، وبالأخرى، وزاد الكشميهني: معه (ثم سجد) عليه
الصلاة والسلام (وسجدوا) أي: الذين ركعوا (معه) والطائفة
الأخرى قائمة تحرس (ثم قام) عليه الصلاة والسلام (للثانية)
أي: للركعة الثانية، ولابن عساكر: ثم قام الثانية (فقام
الذين سجدوا) معه، عليه الصلاة والسلام، (وحرسوا إخوانهم،
وأتت الطائفة الأخرى) الذين لم يركعوا ولم يسجدوا معه في
الركعة الأولى، وتأخرت الطائفة الأخرى إلى مقام الأخرى
يحرسونهم (فركعوا وسجدوا معه) عليه الصلاة والسلام، وهذا
فيما إذا كانوا في جهة القبلة، ولا حائل يمنع رؤيتهم، وفي
القوم كثرة بحيث يحرس بعضهم بعضًا كما قال: (والناس كلهم
فى صلاة) ولأبي الوقت: في الصلاة، بالتعريف (ولكن يحرس
بعضهم بعضًا) هذا موضع الترجمة.
(2/198)
وظاهر هذا السياق صادق بأن تسجد الطائفة
الأولى معه في الركعة الأولى، والثانية في الثانية، وعكسه
بأن تسجد الثانية معه في الأولى، والأولى في الثانية، مع
تحول كل منهما إلى مكان الأخرى كما مرّ، فتكون صفتين.
والذي في مسلم، وأبي داود: هو الصفة الأولى مع التحوّل
أيضًا، ولفظ رواية أبي داود، عن أبي عياش الزرقيّ، قال:
صلينا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العصر
بعسفان، فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، والمشركون أمامه، واصطفوا صفًّا خلفه، وخلف
الصف صف آخر، فركع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وركعوا جميعًا ثم سجد الصف الذي يليه وقام
الآخر يحرسونهم، فلما قضى بهم السجدتين وقاموا، سجد
الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى
مقام الآخرين، وتقدّم الآخرون إلى مقام الأوّلين، ثم ركع
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وركعوا
جميعًا، ثم سجد فسجد الصف الذي يليه. وقام الآخرون
يحرسونهم، فلما جلس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- سجد الآخرون وجلسوا جميعًا، فسلم بهم. ولمسلم
نحوه.
وهذا السياق مغاير لحديث الباب، فإن فيه: أن الصفين ركعوا
معه، عليه الصلاة والسلام، وسجدت معه الأولى وقامت الأخرى
من الركوع تحرس، ثم سجدت الحارسة بعد فراغ أولئك.
وفي حديث الباب أنه ركع طائفة منهم وسجدوا معه، ثم جاءت
الطائفة الأخرى كذلك، ولم يقع في رواية الزهري هذه: هل
أكملوا الركعة الثانية أم لا.
نعم، زاد النسائي في رواية له، من طريق أبي بكر بن أبي
الجهم، عن شيخه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، فزاد في
آخره: ولم يقضوا. وهذا كالصريح في اقتصارهم على ركعة ركعة.
ولمسلم، وأبي داود، والنسائي، من طريق مجاهد عن ابن عباس،
قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيّكم، في الحضر أربعًا،
وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. لكن الجمهور على أن قصر
الخوف قصر هيئة لا قصر عدد، وتأوّلوا رواية مجاهد هذه على
أن المراد ركعة مع الإمام، وليس فيه نفي الثانية.
ورواة حديث الباب ثلاثة حمصيون، واثنان مدنيان. وفيه
التحديث والعنعنة والقول، وأخرجه النسائي في الصلاة.
4 - باب الصَّلاَةِ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ الْحُصُونِ
وَلِقَاءِ الْعَدُوِّ
وَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: إِنْ كَانَ تَهَيَّأَ الْفَتْحُ
وَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الصَّلاَةِ صَلَّوْا إِيمَاءً
كُلُّ امْرِئٍ لِنَفْسِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَى
الإِيمَاءِ أَخَّرُوا الصَّلاَةَ حَتَّى يَنْكَشِفَ
الْقِتَالُ أَوْ يَأْمَنُوا فَيُصَلُّوا رَكْعَتَيْنِ،
فَإِنْ لَمْ يَقْدِرُوا صَلَّوْا رَكْعَةً وَسَجْدَتَيْنِ
لاَ يُجْزِئُهُمُ التَّكْبِيرُ وَيُؤَخِّرُوهَا حَتَّى
يَأْمَنُوا وَبِهِ قَالَ مَكْحُولٌ. وَقَالَ أَنَسٌ:
حَضَرْتُ عِنْدَ مُنَاهَضَةِ حِصْنِ تُسْتَرَ عِنْدَ
إِضَاءَةِ الْفَجْرِ -وَاشْتَدَّ اشْتِعَالُ الْقِتَالِ-
فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى
الصَّلاَةِ، فَلَمْ نُصَلِّ إِلاَّ بَعْدَ ارْتِفَاعِ
النَّهَارِ، فَصَلَّيْنَاهَا وَنَحْنُ مَعَ أَبِي مُوسَى،
فَفُتِحَ لَنَا. وَقَالَ أَنَسٌ: وَمَا يَسُرُّنِي
بِتِلْكَ الصَّلاَةِ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا (باب الصلاة
عند مناهضة الحصون) أي إمكان فتحها وغلبة الظن على القدرة
عليها (و) الصلاة عند (لقاء العدوّ).
(وقال) عبد الرحمن (الأوزاعي)، فيما ذكره الوليد بن مسلم
في كتاب السير: (إذ كان تهيأ الفتح) بمثناة فوقية فهاء
فمثناة تحتية مشدّدة فهمزة مفتوحات، أي: اتفق وتمكن.
وللقابسي، فيما حكاه في الفتح وغيره: إن كان بها الفتح،
بموحدة. وهاء: بضمير، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: وهو
تصحيف، (و) الحال أنهم (لم يقدروا على) إتمام (الصلاة)
أركانًا وأفعالاً (صلوا إيماءً) أي مومئين (كل امرئ) شخص
يصلّي (لنفسه) بالإيماء منفردًا، (فإن لم يقدروا على
الإيماء) بسبب اشتغال الجوارح، لأن الحرب إذا بلغ الغاية
في الشدة تعذر الإيماء على القاتل لاشتغال قلبه وجوارحه
عند القتال (أخروا الصلاة خى ينكشف القتال، أو يأمنوا،
فيصلوا ركعتين).
استشكل كونه جعل الإيماء مشروطًا بتعذر القدرة، والتأخير
مشروطًا بتعذر الإيماء، وجعل غاية التأخير انكشاف القتال
ثم قال: أو يأمنوا فيصلوا ركعتين ... فجعل الأمن قسيم
الانكشاف، وبالانكشاف يحصل الأمن، فكيف يكون قسيمه؟.
وأجيب: بأن الانكشاف قد يحصل، ولا يحصل الأمن لخوف
المعاودة، كما أن الأمن قد يحصل بزيادة القوّة واتصال
المدد بغير انكشاف، فعلى هذا فالأمن قسيم الانكشاف أيهما
حصل اقتضى صلاة ركعتين.
(فإن لم يقدروا) على صلاة ركعتين، بالفعل أو بالإيماء
(صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا) أي على صلاة وسجدتين
(لا يجزيهم)، ولغير الأربعة: وسجدتين لا يجزيهم، ولأبي ذر:
فلا يجزيهم (التكبير) خلافًا لمن قال: إذا التقى الزحفان
وحضرت الصلاة يجزيهم التكبير عن الصلاة بلا إعادة.
(ويؤخرونها) أي: الصلاة، ولغير أبي ذر: يؤخروها (حتى
يأمنوا) أي: حتى يحصل لهم الأمن التام.
واحتج الأوزاعي، كما قال ابن
(2/199)
بطال على ذلك، بكونه عليه الصلاة والسلام
أخّرها في الخندق حتى صلاها كاملة، لما كان فيه من شغل
الحرب. فكذا الحال التي هي أشد.
وأجيب: بأن صلاة الخوف، إنما شرعت بعد الخندق.
(وبه) أي: وبقول الأوزاعي (قال مكحول) الدمشقي التابعي،
مما وصله عبد بن حميد في تفسيره عنه من طريق الأوزاعي
بلفظ: إذا لم يقدر القوم على أن يصلوا على الأرض صلوا على
ظهر الدواب ركعتين، فإن لم يقدروا فركعة وسجدتين، فإن لم
يقدروا أخّروا الصلاة حتى يأمنوا فيصلوا بالأرض. (وقال
أنس) ولأبي ذر، وقال أنس بن مالك، مما وصله ابن سعد وعمر
بن شبة من طريق
قتادة: (حضرت عند مناهضة) ولابن عساكر: حضرت مناهضة (حصن
تستر) بمثناتين فوقيتين، أولاهما مضمومة والثانية مفتوحة،
بينهما سين مهملة ساكنة آخره راء، مدينة مشهورة من كور
الأهواز، فتحت سنة عشرين في خلافة عمر (عند إضاءة الفجر
-واشتد اشتعال القتال-) بالعين المهملة، وتشبيه القتال
بالنار: استعارة بالكناية، (فلم يقدروا على الصلاة) لعجزهم
عن النزول، أو عن الإيماء، فيوافق السابق عن الأوزاعي، أو
أنهم لم يجدوا إلى الوضوء سبيلاً من شدّة القتال، وبه جزم
الأصيلي، (فلم نصلّ إلا بعد ارتفاع النهار) في رواية عمر
بن شبة: حتى انتصف النهار (فصليناها، ونحن مع أبي موسى)
الأشعري (ففتح لنا) الحصن.
(وقال) وللأصيلي: فقال، ولأبوي ذر والوقت، وابن عساكر: قال
(أنس) هو ابن مالك: (وما يسرّني بتلك الصلاة) أي بدل تلك
الصلاة ومقابلها، فالباء للبدلية، كقوله:
فليت لي بهم قومًا إذا ركبوا.
وللكشميهني: من تلك الصلاة (الدنيا وما فيها).
945 - حَدَّثَنَا يَحْيَى قَالَ: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ
عَلِيِّ بْنِ مُبَارَكٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: "جَاءَ عُمَرُ يَوْمَ الْخَنْدَقِ فَجَعَلَ يَسُبُّ
كُفَّارَ قُرَيْشٍ وَيَقُولُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا
صَلَّيْتُ الْعَصْرَ حَتَّى كَادَتِ الشَّمْسُ أَنْ
تَغِيبَ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: وَأَنَا وَاللَّهِ مَا صَلَّيْتُهَا بَعْدُ.
قَالَ فَنَزَلَ إِلَى بُطْحَانَ فَتَوَضَّأَ، وَصَلَّى
الْعَصْرَ بَعْدَ مَا غَابَتِ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى
الْمَغْرِبَ بَعْدَهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا يحيى) ولأبي ذر: عن المستملي، كما في
فرع اليونينية: يحيى بن جعفر البخاري البيكندي، وهو من
أفراد البخاري (قال: حدّثنا وكيع) بفتح الواو وكسر الكاف
(عن عليّ بن المبارك) ولابن عساكر: ابن المبارك (عن يحيى
بن أبي كثير) بالمثلثة (عن أبي سلمة) بفتح اللام، ابن عبد
الرحمن (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري، رضي الله عنه
(قال: جاء عمر) بن الخطاب، رضي الله عنه (يوم) حفر
(الخندق) لا تحزبت الأحزاب سنة أربع (فجعل يسب كفّار قريش)
لتسببهم في اشتغال المؤمنين بالحفر عن الصلاة حتى فاتت
(ويقول: يا رسول الله. ما صليت العصر حتى كادت الشمس أن
تغيب).
فيه دخول: أن، على خبر كاد، والأكثر تجريده منها، كما في
رواية أبي ذر: حتى كادت الشمس تغيب.
وظاهره: أنه صلّى قبل الغروب، لكن قد يمنع ذلك بأنه إنما
يقتضي أن كيدودته كانت عند كيدودتها، ولا يلزم منه وقوع
الصلاة فيها، بل يلزم أن لا تقع الصلاة فيها إذ حاصله
عرفًا: ما صليت حتى غربت الشمس.
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) تطييبًا
لقلب عمر لما شق عليه تأخيرها:
(وأنا والله ما صليتها) أي العصر (بعد). (قال) جابر:
(فنزل) عليه الصلاة والسلام (إلى بطحان) بضم الموحدة وسكون
المهملة غير منصرف، كذا يرويه المحدّثون، وعند اللغويين
بفتح الموحدة وكسر الطاء، (فتوضأ وصلّى العصر بعدما غابت
الشمس).
وهذا التأخير كان قبل صلاة الخوف، ثم نسخ أو كان نسيانًا
أو عمدًا لتعذر الطهارة، أو للشغل بالقتال، وإليه ذهب
البخاري هنا. ونزل عليه الآثار التي ترجم لها بالشروط
المذكورة، وهو موضع الجزء الثاني من الترجمة، وهو لقاء
العدوّ ومن جملة أحكامه المذكورة: تأخير الصلاة إلى وقت
الأمن، وكذا في الحديث: أخر عليه الصلاة والسلام الصلاة
حتى نزل بطحان، (ثم صلّى) عليه الصلاة والسلام (المغرب
بعدها) أي بعد العصر.
وسبق الحديث بمباحثه في باب: من صلّى بالناس جماعة بعد
ذهاب الوقت.
5 - باب صَلاَةِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ رَاكِبًا
وَإِيمَاءً
وَقَالَ الْوَلِيدُ: ذَكَرْتُ لِلأَوْزَاعِيِّ صَلاَةَ
شُرَحْبِيلَ بْنِ السِّمْطِ وَأَصْحَابِهِ عَلَى ظَهْرِ
الدَّابَّةِ فَقَالَ: كَذَلِكَ الأَمْرُ عِنْدَنَا إِذَا
تُخُوِّفَ الْفَوْتُ. وَاحْتَجَّ الْوَلِيدُ بِقَوْلِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ
يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ فِي بَنِي
قُرَيْظَةَ».
(باب صلاة الطالب و) صلاة (المطلوب) حال كونه (راكبًا
وإيماءً) مصدر: أومأ.
كذا لأبي ذر الكشميهني، والمستملي: إيماء، ولأبوي ذر
والوقت عن الحموي: وقائمًا بالقاف من القيام، وفي رواية
قائمًا.
وقد اتفقوا على صلاة المطلوب راكبًا، واختلفوا في الطالب،
فمنعه الشافعي وأحمد، رحمهما الله، وقال مالك: يصلّي
راكبًا حيث توجه إذا خاف فوت العدوّ إن نزل.
(وقال الوليد) بن مسلم القرشي الأموي (ذكرت للأوزاعي)
(2/200)
عبد الرحمن بن عمرو (صلاة شرحبيل بن السمط)
بضم الشين المعجمة وفتح الراء وسكون الحاء المهملة وكسر
الموحدة في الأوّل، وكسر السين المهملة وسكون الميم في
الثاني، كذا في الفرع، وضبطه ابن الأثير: بفتح ثم كسر،
ككتف، الكندي المختلف في صحبته، وليس له في البخاري غير
هذا الموضع، (و) صلاة (أصحابه على ظهر الدابة. فقال) أي
الأوزاعي، ولابن عساكر: قال: (كذلك الأمر) أي: أداء الصلاة
على ظهر الدابة بالإيماء هو الشأن والحكم (عندنا إذا
تخوّف) الرجل (الفوت) بفتح أوّل تخوّف مبنيًّا للفاعل.
والفوت نصب على المفعولية، ويجوز كما في الفرع وأصله ضبطه
بالبناء للمفعول، ورفع الفوت نائبًا عن الفاعل.
زاد المستملي فيما ذكره في الفتح في الوقت: (واحتج الوليد)
لمذهب الأوزاعي في مسألة الطالب (بقول النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الآتي:
(لا يصلّين أحد العصر إلا في بني قريظة) لأنه عليه الصلاة
والسلام لم يعنف على تأخيرها عن وقتها المفترض، وحينئذٍ
فصلاة من لا يفوّت الوقت بالإيماء أو بما يمكن أولى من
تأخيرها حتى يخرج وقتها.
وقد أخرج أبو داود في: صلاة الطالب، حديث عبد الله بن
أنيس، إذا بعثه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
إلى سفيان الهذلي، قال: فرأيته، وحضرت العصر، فخشيت فوتها،
فانطلقت أمشي وأنا أصلي أومئ إيماءً. وإسناده حسن.
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة، كذا في الفرع وأصله،
ولأبي ذر إسقاطه.
946 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَسْمَاءَ قَالَ: حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ
عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَنَا لَمَّا رَجَعَ مِنَ
الأَحْزَابِ: لاَ يُصَلِّيَنَّ أَحَدٌ الْعَصْرَ إِلاَّ
فِي بَنِي قُرَيْظَةَ. فَأَدْرَكَ بَعْضُهُمُ الْعَصْرَ
فِي الطَّرِيقِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ نُصَلِّي حَتَّى
نَأْتِيَهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نُصَلِّي، لَمْ
يُرَدْ مِنَّا ذَلِكَ. فَذُكِرَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمْ يُعَنِّفْ وَاحِدًا
مِنْهُمْ. [الحديث 946 - طرفه في: 4119].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد بن أسماء) بالفتح
غير منصرف، ابن عبيد بن مخراق الضبعي البصري (قال: حدّثنا
جويرية) تصغير جارية بن أسماء، وهو عمّ عبد الله الراوي
عنه (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر) بن الخطاب، رضي
الله عنهما، (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لنا، لما رجع من الأحزاب).
غزوة الخندق سنة أربع إلى المدينة، ووضع المسلمون السلاح،
وقال له جبريل، عليه الصلاة والسلام، ما وضعت الملائكة
السلاح بعد، وإن الله يأمرك أن تسير إلى بني قريظة فإني
عائد إليهم.
فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه:
(لا يصلّين) بنون التوكيد الثقيلة (أحد) منكم (العصر إلا
في بني قريظة) بضم القاف وفتح الراء والظاء المعجمة، فرقة
من اليهود. (فأدرك بعضهم العصر في الطريق) بنصب بعضهم ورفع
تاليه، مفعول وفاعل، مثل قوله: {وإن يدركني يومك} والضمير
في بعضهم: لأحد.
(فقال) وللأربعة: وقال (بعضهم)، الضمير فيه كالآتي لنفس
بعض الأوّل: (لا نصلي حتى نأتيها) عملاً بظاهر قوله: "لا
يصلّين أحد"، لأن النزول معصية للأمر الخاص بالإسراع،
فخصّوا عموم الأمر بالصلاة أوّل وقتها بما إذا لم يكن عذر،
بدليل أمرهم بذلك.
(وقال بعضهم: بل نصلي) نظرًا إلى المعنى لا إلى ظاهر
اللفظ، (لم يرد منا ذلك) ببناء يرد للمفعول، كما ضبطه
العيني والبرماوي، والبناء للفاعل كما ضبطه في المصابيح،
والخفضة مكشوطة في الفرع، فعريت الراء فيه عن الضبط، ولم
يضبطها في اليونينية.
والمعنى: أن المراد من قوله: "لا يصلين أحد" لازمه وهو
الاستعجال في الذهاب لبني قريظة، لا حقيقة ترك الصلاة،
كأنه قال: صلوا في بني قريظة، إلاّ أن يدرككم وقتها قبل أن
تصلوا إليها.
فجمعوا بين دليلي وجوب الصلاة، ووجوب الإسراع. فصلوا
ركبانًا لأنهم لو نزلوا للصلاة لكان فيه مضادة للأمر
بالإسراع، وصلاة الراكب مقتضية للإيماء، فطابق الحديث
الترجمة.
لكن عورض بأنهم: لو تركوا الركوع والسجود لخالفوا قوله
تعالى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وأجيب: بأنه
عامّ خصّ بدليل، كما أن الأمر بتأخير الصلاة إلى إتيان بني
قريظة خصّ بما إذا لم يخش الفوات.
والقول: بأنهم صلوا ركبانًا لابن المنير، قال في الفتح:
وفيه نظر، لأنه لم يصرّح لهم بترك النزول، فلعلهم فهموا أن
المراد بأمرهم: أن لا يصلوا العصر إلا فى بني قريظة،
المبالغة في الأمر بالإسراع، فبادروا إلى امتثال أمره،
وخصّوا وقت الصلاة من ذلك لماّ تقرّر عندهم من تأكيد
أمرها، فلا يمتنع أن ينزلوا فيصلوا، ولا يكون في ذلك
مضادّة لما أمروا به ودعوى أنهم: صلوا ركبانًا، تحتاج إلى
دليل، ولم أره صريحًا في شيء من طرق هذه القصة.
(فذكر ذلك للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلم
يعنف واحدًا) ولأبوي ذر، والوقت
(2/201)
عن الحموي والكشميهني والمستملي: أحدًا
(منهم)، لا التاركين لأول الوقت عملاً بظاهر النهي، ولا
الذين فهموا أنه كناية عن العجلة.
قال النووي، رحمه الله: لا احتجاج به على إصابة كل مجتهد،
لأنه لم يصرّح بإصابتهما، بل ترك التعنيف، ولا خلاف أن
المجتهد لا يعنف ولو أخطأ إذا بذل وسعه، قال: وأما
اختلافهم فسببه تعارض الأدلة عندهم، فالصلاة مأمور بها في
الوقت، والمفهوم من: "لا يصلّين" المبادرة، فأخذ بذلك من
صلّى لخوف فوات الوقت، والآخرون أخّروها عملاً بالأمر
بالمبادرة لبني قريظة. اهـ.
واستشكل قوله هنا: العصر، مع ما في مسلم: الظهر.
وأجيب: بأن ذلك كان بعد دخول وقت الظهر، فقيل لمن صلاّها
بالمدينة: لا تصلّ العصر إلاّ في بني قريظة، ولمن لم
يصلها: لا تصلِّ الظهر إلا فيهم.
ويأتي مزيد لذلك، إن شاء الله تعالى في المغازي، بعون الله
تعالى.
ورواة هذا الحديث ما بين بصري ومدني، وفيه التحديث
والعنعنة والقول، وأخرجه مسلم، كالبخاري في المغازي.
6 - باب التَّبْكِيرِ وَالْغَلَسِ بِالصُّبْحِ،
وَالصَّلاَةِ عِنْدَ الإِغَارَةِ وَالْحَرْبِ
(باب التبكير). بالموحدة قبل الكاف وبعد المثناة. كذا في
رواية أبي ذر، عن الكشميهني، من: بكر، إذا أسرع وبادر،
ولأبي ذر أيضًا، والأصيلي وأبي الوقت، عن الحموي،
والمستملي: التكبير، بالموحدة بعد الكاف، أي قول: الله
أكبر (والغلس) بفتح الغين المعجمة واللام، الظلمة آخر
الليل، أي: التغليس (بالصبح والصلاة) والتكبير (عند
الإغارة) بكسر الهمزة، أي الهجوم على العدوّ غفلة (و) عند
(الحرب).
947 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ وَثَابِتٍ
الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: "أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى
الصُّبْحَ بِغَلَسٍ، ثُمَّ رَكِبَ فَقَالَ: اللَّهُ
أَكْبَرُ، خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا
بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ.
فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ وَيَقُولُونَ:
مُحَمَّدٌ وَالْخَمِيسُ -قَالَ: وَالْخَمِيسُ الْجَيْشُ-
فَظَهَرَ عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَتَلَ الْمُقَاتِلَةَ وَسَبَى
الذَّرَارِيَّ، فَصَارَتْ صَفِيَّةُ لِدِحْيَةَ
الْكَلْبِيِّ، وَصَارَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ تَزَوَّجَهَا،
وَجَعَلَ صَدَاقَهَا عِتْقَهَا". فَقَالَ عَبْدُ
الْعَزِيزِ لِثَابِتٍ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، أَنْتَ
سَأَلْتَ أَنَسًا مَا أَمْهَرَهَا؟ قَالَ أَمْهَرَهَا
نَفْسَهَا. فَتَبَسَّمَ.
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (قال: حدّثنا
حماد) ولأبي ذر: حماد بن زيد (عن عبد العزيز بن صهيب،
وثابت البناني) بموحدة مضمومة ونونين بينهما ألف وآخره ياء
النسب، كلاهما (عن أنس بن مالك) سقط من رواية ابن عساكر:
ابن مالك (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، صلّى الصبح) عند خيبر (بغلس) أي: في أوّل
وقتها، على عادته الشريفة، أو لأجل مبادرته إلى الركوب،
(ثم ركب فقال) لما أشرف على خيبر:
(الله أكبر: خربت خيبر) ثقة بوعد الله تعالى، حيث يقول:
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا
الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ
(172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:
171 - 173] {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ
الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177]. فلما نزل جند الله بخيبر
مع الصباح لزم الإيمان بالنصر وفاء بالعهد، ويبين هذا
قوله: (إنّا إذا نزلنا بساحة قوم) أي: بفنائهم (فساء صباح
المنذرين) أي: فبئس صباح المنذرين صباحهم، فكأن ذلك
تنبيهًا على مصداق الوعد بمجموع الأوصاف.
(فخرجوا) أي: أهل خيبر، حال كونهم (يسعون في السكك) بكسر
السين، جمع سكة، أي: في أزقة خيبر (ويقولون): جاء أو: هذا
(محمد والخميس) برفع الخميس، عطفًا على سابقه، ونصبه على
المفعول معه.
(قال: والخميس) هو: (الجيش) لانقسامه إلى خمسة: ميمنة
وميسرة وقلب ومقدمة وساقة.
(فظهر عليهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-، فقتل) النفوس (المقاتلة) بكسر المثناة
الفوقية، أي: وهي الرجال
(وسبى الذراري) بالذال المعجمة وتشديد الياء وتخفيفها،
كالعواري، جمع: ذرية، وهي: الولد.
والمراد بالذراري: غير المقاتلة (فصارت صفية) بنت حيي، سيد
بني قريظة والنضير (لدحية الكلبي) أعطاها له عليه الصلاة
والسلام قبل القسمة، لأن له صفيّ المغنم يعطيه لمن يشاء
(وصارت) أي: فصارت، أو: ثم صارت بعده (لرسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) استرجعها منه برضاه، أو
اشتراها منه، لما جاء: أنه أعطاه عنها سبعة أرؤس، أو: أنه
إنما كان أذن له في جارية من حشوا السبي، لا من أفضلهن،
فلما رآه أخذ أنفسهن نسبًا وشرفًا وجمالاً استرجعها، لأنه
لم يأذن له فيها، ورآى أن في إبقائها مفسدة لتميّزه بها
على سائر الجيش، ولما فيه من انتهاكها مع مرتبتها، وربما
ترتب على ذلك شقاق، فكان أخذها لنفسه -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاطعًا لهذه المفاسد، (ثم تزوّجها)
عليه الصلاة والسلام (وجعل صداقها عتقها) لأن عتقها كان
عندها أعز من الأموال الكثيرة، ولأبي ذر: عتقتها، بزيادة
مثناة فوقية بعد القاف.
(فقال عبد العزيز) بن صهيب المذكور (الثابت) البناني: (يا
أبا محمد! أنت) بحذف همزة الاستفهام
(2/202)
في الفرع واصله، وفي بعض الأصول: أنت، بإثباتها (سألت
أنا)، ولأبي ذر: أنس بن مالك: (وما أمهرها)؟ أي: ما
أصدقها؟ ولأبوي ذر، والوقت، والأصيلي: ما مهرها؟ بحذف
الألف. وصوّبه القطب الحلبي، وهما لغتان.
(قال أمهرها نفسها) بالنصب، أي أعتقها وتزوجها بلا مهر،
وهو من خصائصه، (فتبسم).
وموضع الترجمة قوله: صلّى الصبح بغلس، ثم ركب فقال: الله
أكبر. وفيه أن التكبير يشرع عند كل أمر مهول، وعندما يسرّ
به من ذلك إظهارًا لدين الله تعالى، وظهور أمره، وتنزيهًا
له تعالى عن كل ما نسبه إليه أعداؤه، ولا سيما اليهود،
قبّحهم الله تعالى.
وقد تقدم هذا الحديث في باب: ما يذكر في الفخذ، وتأتي بقية
مباحثه إن شاء الله تعالى في: المغازي، والنكاح. |