شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

25 - كتاب الحج
(بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ).

1 - باب وُجُوبِ الْحَجِّ وَفَضْلِهِ. وقول الله [آل عمران: 97]: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}
(باب وجوب الحج وفضله). ولأبي ذر: تقديم البسملة على كتاب، وسقط لغيره البسملة وباب. نعم ثبت لفظ باب لابن عساكر في اليونينية، وفي نسخة تقديم البسملة، وللأصيلي فيما حكاه في فتح الباري كتاب المناسك.
والحج: بفتح الحاء وكسرها وبهما قرئ بالفتح لغة أهل العالية والكسر لغة نجد، وفرق سيبويه بينهما فجعل المكسور مصدرًا واسمًا للفعل والمفتوح مصدرًا فقط. وقال ابن السكيت بالفتح القصد وبالكسر القوم الحجاج، وقال الجوهري: والحجة بالكسر المرة الواحدة وهو من الشواذ لأن القياس بالفتح وهو مبني على اختياره أنه بالفتح الاسم ومعنى الحج في اللغة القصد وفي الشرع عبادة يلزمها وقوف بعرفة ليلة عاشر ذي الحجة وطواف ذي طهر اختص بالبيت عن يساره سبعًا.
والمناسك: جمع منسك بفتح السين وكسرها والنسك العبادة والناسك العابد واختص بأعمال الحج، والمناسك مواقف النسك وأعمالها والنسيكة مختصة بالذبيحة. (وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على سابقه، وسقط ذلك لغير أبي ذر: ({ولله}) فرض واجب ({على الناس حج البيت}) قصده للزيارة على الوجه المخصوص الآتي بيانه إن شاء الله تعالى ({من استطاع إليه سبيلاً}) [آل عمران: 97] بدل من الناس مخصص له، والضمير في إليه للبيت أو للحج وكل مأتي إلى الشيء فهو سبيله وحذف الرابط لفهمه أي من استطاع منهم كذا أعربه جمهور المعربين، لكن قال البدر الدماميني: يلزم عليه فصل البدل والمبدل منه بالمبتدأ وفيه نظر انتهى.

وقال ابن هشام: زعم ابن

(3/91)


السيد أن فاعل بالمصدر، ويردّه أن المعنى حينئذ ولله على الناس أن يحج المستطيع فيلزم إثم جميع الناس إذا تخلف المستطيع، وتعقبه في المصابيح بأنه بناه على الألف واللام لاستغراق الجنس وهو ممنوع لجواز كونها للعهد الذكري، والمراد حينئذ بالناس من جرى ذكره وهم المستطيعون وذلك لأن حج البيت مبتدأ والخبر قوله: لله على الناس والمبتدأ مقدم على الخبر رتبة وإن تأخر لفظًا، فإذا قدّمت المبتدأ وما هو من متعلقاته كان التقدير يرجح البيت المستطيعون حق ثابت لله على الناس أي هؤلاء المذكورين، ويدل عليه أنك لو أتيت بالضمير سد مسد أل ومصحوبها وهو علامة الأداة التي للعهد الذكري بل جعلها كذلك مقدم على جعلها للعموم، فقد صرح كثيرون بأنه إذا احتمل كون أل للعهد وكونها لغيره كالجنس أو العموم فإنا نحملها على العهد للقرينة المرشدة إليه. ووجوب الحج معلوم من الدين بالضرورة ولهذه الآية وهو أحد أركان الإسلام الخمس ولا يتكرر وجوبه إلا لعارض نذر أو قضاء عارض.
روى مسلم حديث أبي هريرة خطبنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "يا أيها الناس قد فرض الله عليكم الحج فحجوا" فقال رجل: يا رسول الله أكل عام؟ فسكت حتى قالها ثلاثًا. فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم) أي أتأمرنا أن نحج كل عام؟ وهذا يدل على أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار ولا المرة وإلاّ لما صح الاستفهام، وإنما سكت -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى قالها ثلاثًا زجرًا له عن السؤال فإن التقدم بين يدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منهي عنه لقوله تعالى: {لا تقدموا بين يدي الله ورسوله} [الحجرات: 1] لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبعوث لبيان الشرائع وتبليغ الأحكام، فلو وجب الحج كل سنة لبينه عليه الصلاة والسلام لهم لا محالة ولا يقتصر على الأمر مطلقًا سواء سئل عنه أو لم يسأل عنه فيكون استعجالاً ضائعًا، ثم لما رأى أنه لا يزجر به ولا يقنع إلا بالجواب الصريح أجاب عنه بقوله: لو قلت نعم لوجبت كل عام حجة فأفاد به أنه لا يجيب في كل عام لما في لو من الدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره وأنه لم يتكرر لما فيه من الحرج والكلف الشاقة قاله البيضاوي.
وتعقبه الطيبي بأن الاستدلال بسؤال الرجل على أن الأمر لا يفيد التكرار ولا المرة ضعيف لأن الإنكار وارد على السؤال الذي لم يقع موقعه ولهذا زجره وقال: ذروني ما تركتكم يعم الخطاب يعني اقتصروا على ما أمرتكم به على قدر استطاعتكم، فقد علم أن الرجل لو لم يسأل لم يفد غير المرة وأن التكرار يفتقر إلى دليل خارجي انتهى.
ثم إن الحج مطلقًا إما فرض عين أو فرض كفاية أو تطوع واستشكل تصويره. وأجيب: بأنه يتصور في العبيد والصبيان لأن الفرضين لا يتوجهان إليهما وبأن في حج من ليس عليه فرض عين جهتين جهة تطوع من حيث أنه ليس عليه فرض عين وجهة فرض كفاية من حيث إحياء الكعبة.
قال الزركشي: وفيه التزام السؤال إذ لم يخلص لنا حج تطوع على حدته وفي الأول التزامه بالنسبة للمكلفين ثم إنه لا يبعد وقوعه من غيرهم فرضًا ويسقط به فرض الكفاية عن المكلفين كما في الجهاد وصلاة الجنازة انتهى.

واختلف هل هو على الفور أو على التراخي؟ فعند الشافعية على التراخي لأن الحج فرض سنة خمس كما جزم به الرافعي في كتاب الحج أو سنة ست كما صححه في السير، وتبعه عليه في الروضة ونقله في شرح المهذّب عن الأصحاب وعليه الجمهور لأنه نزل فيها قوله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] وهذا ينبني على أن المراد بالإتمام ابتداء الفرض، ويؤيده ما أخرجه الطبري بأسانيد صحيحة عن علقمة ومسروق وإبراهيم النخعي أنهم قرؤوا وأقيموا الحج، وقيل المراد بالإتمام الإكمال بعد الشروع وهو يقتضي تقدم فرضه قبل ذلك وقد أخره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى سنة عشر من غير مانع فدلّ على التراخي، وإليه ذهب اللخمي وصاحب المقدمات والتلمساني من المالكية، وحكى ابن القصار عن مالك أنه على الفور، وتابعه العراقيون، وشهره صاحب الذخيرة وصاحب العدة وابن بزيزة، لكن القول بالتراخي مقيد بعدم

(3/92)


خوف الفوات.
والاستطاعة الزاد والراحلة كما فسره، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يؤيد قول الشافعي: إنها بالمال ولذلك أوجب الاستنابة على الزمن إذا وجد أجرة من ينوب عنه. وقال مالك: بالبدن فيجب على من قدر على المشي والكسب في الطريق، وقال أبو حنيفة: بمجموع الأمرين ثم إن اليهود حين أمروا بالحج قالوا: ما وجب علينا؟ فنزل قوله تعالى: ({ومن كفر}) أي جحد فريضة الحج ({فإن الله غني عن العالمين}) [آل عمران: 97] فلا يضره كفرهم ولا ينفعه إيمانهم.
قال البيضاوي: وضع كفر موضع من لم يحج تأكيد الوجوب به وتغليطًا على تاركه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: "من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديًا أو نصرانيّا" وقد أكد أمر الحج في هذه الآية من وجوه الدلالة على وجوبه بصيغة الخبر وإبرازه في الصورة الاسمية وإيراده على وجه يفيد أنه حق واجب لله في رقاب الناس وتعميم الحكم أولاً وتخصيصه ثانيًا فإنه كإيضاح بعد إبهام وتثنية وتكرير للمراد، وتسمية ترك الحج كفرًا من حيث أنه فعل الكفرة وذكر الاستغناء عنه بالبرهان والأشعار بعظم السخط لأنه تكليف شاق جامع بين كسر النفس وأتعاب البدن وصرف المال والتجرد عن الشهوات والإقبال على الله انتهى.
وهذا أخذه من قول الزمخشري لكن عبارته: جعل ومن كفر عوضًا عن ومن لم يحج تغليطًا إلى آخر الحديث، واستشكله ابن المنير بأن تاركه لا يكفر بمجرد تركه فتعين حمله على تاركه جاحدًا لوجوبه فالكفر يرجع إلى الاعتقاد قال: والزمخشري سهل عليه ذلك لأنة يعتقد أن تارك الحج يخرج عن الإيمان ويخلد في النار، ويحتمل أن يكون قوله: ومن كفر استئناف وعيد للكافرين.
1513 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "كَانَ الْفَضْلُ رَدِيفَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَثْعَمَ، فَجَعَلَ الْفَضْلُ يَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصْرِفُ وَجْهَ الْفَضْلِ إِلَى الشِّقِّ الآخَرِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ فَرِيضَةَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ فِي الْحَجِّ أَدْرَكَتْ أَبِي شَيْخًا كَبِيرًا لاَ يَثْبُتُ

عَلَى الرَّاحِلَةِ، أَفَأَحُجُّ عَنْهُ؟ قَالَ: نَعَمْ. وَذَلِكَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ". [الحديث 1513 - أطرافه في: 1854، 1855، 4399، 6228].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن سليمان بن يسار) ضد اليمين (عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-، قال: كان الفضل) اختلف على الزهري في هذا الإسناد، فرواه ابن جريج كما في باب الحج عمن لا يستطيع الثبوت على الراحلة عنه عن سليمان بن يسار عن ابن عباس عن الفضل بن عباس، وروى ابن ماجة من طريق محمد بن كريب عن أبيه عن ابن عباس أخبرني حصين بن عوف عن الخثعمي قال: قلت: يا رسول الله إن أبي، وسأل الترمذي البخاري عنه فقال: أصح شيء فيه ما روى ابن عباس عن الفضل. قال فيحتمل أن يكون ابن عباس سمعه من الفضل ومن غيره ثم رواه بغير واسطة انتهى.
قال في الفتح وإنما رجح البخاري الرواية عن الفضل لأنه كان ردف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينئذ، وكان ابن عباس قد تقدم من مزدلفة إلى منى مع الضعفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى، والفضل هو شقيق عبد الله أمهما أم الفضل لبابة الكبرى (رديف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، راكبًا خلفه على الدابة "فجاءت امرأة من خثعم" بفتح الخاء المعجمة وسكون المثلثة وفتح العين المهملة غير منصرف. قال البرماي كالزركشي للعملية ووزن الفعل حي من بجيلة من قبائل اليمن، وتعقبه في المصابيح فقال: إن لم يحمل هذا على سبق قلم من المصنف أو الغلط من الناسخ فهو عجيب إذ ليس فيه وزن الفعل المعتبر عندهم، ولو قيل بأنه على وزن دحرج للزم منع صرف جعفر وهو باطل بالإجماع انتهى.
(فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه) وفي رواية شعيب الآتية في الاستئذان إن شاء الله تعالى، وكان الفضل رجلاً وضيئًا أي جميلاً وأقبلت امرأة من خثعم وضيئة وطفق الفضل ينظر إليها وأعجبه حسنها (وجعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر) بكسر الشين وفتح الخاء (فقالت:) أي المرأة (يا رسول الله وإن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي) حال كونه (شيخًا كبيرًا لا يثبت على الراحلة) صفة لشيخًا أو حال متداخلة للتي قبلها أي وجب عليه الحج بأن أسلم وهو شيخ كبير أو حصل له المال في هذه الحالة والأول أوجه كما قاله الطيبي. واختلفت طرق الأحاديث في السائل عن ذلك هل هو امرأة أو رجل وفي المسؤول عنه أيضًا أن يحج عنه هل هو أب أو أم أو أخ؟ فأكثر طرق الأحاديث الصحيحة دالة على أن السائل امرأة سألت عن

(3/93)


أبيها كما هو في أكثر طرق حديث الفضل وحديث عبد الله أخيه وحديث علي وفي النسائي من حديث الفضل أن السائل رجل سأل عن أمه، وفي صحيح ابن حبان من حديث ابن عباس أن السائل رجل يسأل عن أبيه، وعند النسائي أيضًا أن امرأة سألته عن أبيها، وفي حديث بريدة عند الترمذي في أن امرأة سألته عن أمها، وفي حديث حصين بن عوف عند ابن ماجة أن السائل رجل سأل عن أبيه، وفي حديث سنان بن عبد الله أن عمته قالت يا رسول الله توفيت أمي وهذا محمول على التعدد. (أفأحج

عنه؟) أي أيجوز لي أن أنوب فأحج عنه فالفاء بعد همزة الاستفهام عاطفة على مقدر لأن الاستفهام له الصدر (قال:) عليه الصلاة والسلام:
(نعم) حجي عنه (وذلك) أي ما ذكر وقع (في حجة الوداع) وفيه جواز الحج عن الغير، وتمسك الحنفية بعمومه على صحة حج من لم يحج نيابة عن غيره وخالف الجمهور فخصوه بمن حج عن نفسه لحديث السنن، وصحيح ابن خزيمة عن ابن عباس أنه رأى رجلاً يلبي عن شبرمة فقال: أفحججت عن نفسك؟ قال: لا. قال: هذه عن نفسك ثم احجج عن شبرمة، ومنع مالك الحج عن المعضوب مع أنه راوي الحديث، وقال الشافعي: لا يستنيب الصحيح لا في فرض ولا نفل، وجوزه أبو حنيفة وأحمد في النفل.
وأما المطابقة بين الحديث والترجمة فقالوا: تدرك بدقة النظر من دلالة الحديث على تأكيد الأوامر بالحج حتى أن المكلف لا يعذر بتركه عند عجزه عن المباشرة بنفسه بل يلزم أن يستنيب غيره، وهو يدل على أن في مباشرته فضلاً عظيمًا ويأتي إن شاء الله تعالى إفراد فضل الحج بباب.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي والاستئذان، ومسلم في الحج، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة.

2 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [الحج: 27]: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}. فِجَاجًا: الطُّرُقُ الْوَاسِعَةُ.
(باب قول الله تعالى (يأتوك رجالاً) نصب على الحال من الضمير الذي في يأتوك وهو مجزوم جواب قوله وأذن أي يأتوك مشاة ({و}) ركبانًا ({على كل}) بعير ({ضامر}) مهزول أتعبه بعد السفر فهزله والضامر يستعمل بغيرها للمذكر والمؤنث ({يأتين}) صفة لكل ضامر لأنه في معنى الجمع ({من كل فج}) طريق ({عميق}) بعيد ({ليشهدوا}) ليحضروا ({منافع لهم}) [الحج: 27] دينية ودنيوية ونكرها لأن المراد بها نوع من المنافع مخصوصة بهذه العبادة، وسبب نزول هذه الآية كما ذكره الطبري عن طريق عمر بن ذر قال: قال مجاهد: كانوا لا يركبون فأنزل الله تعالى: ({يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر}) فأمرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب والمتجر، ومن ثم ذكر المؤلّف هذه الآية هنا مترجمًا مع القدرة إلى الراحلة وعدم القدرة لأن الآية اشتملت على المشاة والركبان قال المؤلّف مفسرًا لقوله تعالى في سورة نوح ({فجاجًا}) [نوح: 20] جمع فج أي (الطرق الواسعة) وهو الموافق لقول الفراء وأبي عبيد والأزهري، وهو الذي ذكره البيضاوي وغيره من أئمة التفسير. وقال ثعلب: ما انخفض من الطرق.

1514 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرْكَبُ رَاحِلَتَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قَائِمَةً".
وبالسند قال: (حدّثنا أحمد بن عيسى) التستري المصري الأصل قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (أن سالم بن عبد الله) ولأبي ذر زيادة: ابن عمر (أخبره أن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال):
"رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يركب راحلته بذي الحليفة" بضم الحاء المهملة وفتح اللام وسكون التحتية وفتح الفاء آخره هاء وهي أبعد المواقيت من مكة "ثم يهل" بضم أوله وكسر ثانيه من الإهلال وهو رفع الصوت بالتلبية أي مع الإِحرام "حتى يستوي" أي الراحلة ولأبي ذر حين تستوي "به" حال كونها (قائمة) وهذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي.
1515 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بنُ موسى أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ سَمِعَ عَطَاءً يُحَدِّثُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- "أَنَّ إِهْلاَلَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ".
رَوَاهُ أَنَسٌ وَابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهم.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم) ولأبي ذر إبراهيم بن موسى التميمي الحافظ المعروف بالفراء الصغير قال: (أخبرنا الوليد) بن مسلم القرشي الأموي قال: (حدّثنا الأوزاعي) عبد الرحمن أنه (سمع عطاء) هو ابن أبي رباح (يحدّث عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما-).
"أن إهلال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من ذي الحليفة حين استوت به راحلته" قال ابن المنير أراد المؤلّف أن يرد على من زعم أن الحج ماشيًا أفضل لأن الله تعالى قدم الرجال على

(3/94)


الركبان فبين أنه لو كان أفضل لفعله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإنما حج عليه الصلاة والسلام قاصدًا لذلك ولذا لم يحرم حتى استوت به راحلته.
وفي هذا الحديث والتحديث والأخبار والسماع والعنعنة (رواه) أي إهلاله حين استوت به راحلته (أنس) فيما وصله في باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح (وابن عباس -رضي الله عنهم-) في باب ما يلبس المحرم من الثياب كما سيأتي إن شاء الله تعالى.

3 - باب الْحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ
(باب الحج على الرحل) للتواضع والرجل بفتح الراء وسكون الحاء المهملة وهو للبعير كالسرج للفرس.

1516 - وَقَالَ أَبَانُ حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ مَعَهَا أَخَاهَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ فَأَعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ، وَحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ".
وَقَالَ عُمَرُ -رضي الله عنه- شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الْحَجِّ، فَإِنَّهُ أَحَدُ الْجِهَادَيْنِ.
(وقال أبان) بن يزيد العطار البصري مما وصفه أبو نعيم في مستخرجه وأبان بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة آخره نون مصروف وغير مصروف وفي المصابيح قال القرافي: المحدثون والنحاة على عدم صرفه. قال: ونقله ابن يعيش في شرح المفضل عن الجمهور وقال: إن وزنه أفعل وأصله أبين صيغة مبالغة في البيان الذي هو الظهور فتقول هذا أبين من هذا أظهر منه وأوضح فلوحظ أصله مع العلمية التي فيه فلم يصرف هكذا في شرح انتهاج الأصلي للسبكي في فصل الخصوص.
قال الدمياني: صرح ابن مالك في التوضيح بأنه منقول من أبان ماضي يبين ولو لم يكن منقولاً لوجب أن يقال فيه أبين بالتصحيح وهو كلام متجه يتقرر به الرد على ما نقله القرافي، وأقره عليه السبكي من كونه أفعل تفضيل فتأمله قال: (حدّثنا مالك بن دينار عن القاسم بن محمد) هو ابن أبي بكر الصديق (عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعث معها أخاها) شقيقها (عبد الرحمن فأعمرها) حملها على العمرة حتى اعتمرت (من التنعيم)، بفتح الفوقية وسكون النون وكسر العين المهملة موضع عند طرف حرم مكة من جهة المدينة على ثلاثة أميال من مكة (وحملها على) مؤخر (قتب) أي أردفها وكان هو على قتب لأنه قال في الرواية الموصولة آخر الباب: فأحقبها أي أردفها على الحقيبة وهي الزيادة التي تجعل في مؤخر القتب فإن القصة واحدة، والقتب: بفتح المثناة الفوقية آخره موحدة هو خشب الرحل، وقيل القتب للجمل بمنزلة الإكاف للحمار.
(وقال عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه-:) فيما وصله عبد الرزاق وسعيد بن منصور (شدّوا الرحال في الحج، فإنه أحد الجهادين) أما على جهة التغليب أو الحقيقة لأنه يجاهد نفسه بالصبر على مشقة السفر وترك الملاذ.
1517 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ عَنْ ثُمَامَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ "حَجَّ أَنَسٌ عَلَى رَحْلٍ، وَلَمْ يَكُنْ شَحِيحًا، وَحَدَّثَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وَكَانَتْ زَامِلَتَهُ".
(وقال محمد بن أبي بكر المقدمي) بفتح الدال المهملة المشددة مما وصله الإسماعيلي، ولأبوي ذر والوقت: بدل قوله قال حدّثنا محمد بن أبي بكر قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) بالتصغير ويزيد من الزيادة قال: (حدّثنا عزرة بن ثابت) بفتح العين والراء بينهما زاي معجمة ساكنة ابن ثابت بالمثلثة والموحدة (عن ثمامة بن عبد الله بن أنس) بضم المثلثة وتخفيف الميم ابن مالك الأنصاري البصري قاضيها (قال: حج أنس على رحل، ولم) ولابن عساكر: فلم (يكن شحيحًا) أي لم يؤثر الرحل على

المحمل لبخل (و) إنما (حدث أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حج على رحل وكانت) أي الراحلة التي ركبها (زاملته) بالزاي أي حاملته وحاملة متاعه لأن الزاملة البعير الذي يستظهر به الرجل لحمل متاعه وطعامه فاقتدى به عليه الصلاة والسلام أنس، وقد روى حج الأبرار على الرحال وفيه ترك الترفه حيث جعل متاعه تحته وركب فوقه. وروى سعيد بن منصور من طريق هشام بن عروة قال: كان الناس يحجون وتحتهم أزودتهم، وكان أوّل من حج على رحل وليس تحته شيء عثمان بن عفان -رضي الله عنه-.
1518 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ حَدَّثَنَا أَيْمَنُ بْنُ نَابِلٍ حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرْتُمْ وَلَمْ أَعْتَمِرْ. فَقَالَ: يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ، اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فَأَعْمِرْهَا مِنَ التَّنْعِيمِ. فَأَحْقَبَهَا عَلَى نَاقَةٍ، فَاعْتَمَرَتْ".
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بفتح العين وسكون الميم الفلاس قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل شيخ المؤلّف روي عنه هنا بواسطة قال: (حدّثنا أيمن بن بابل) بنون وموحدة بينهما ألف آخره لام، وأيمن بفتح الهمزة وسكون التحتية وفتح الميم آخره نون غير منصرف قال: (حدّثنا القاسم بن محمد) هو ابن أبي بكر الصديق (عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت يا رسول الله اعتمرتم ولم أعتمر، فقال:) عليه الصلاة والسلام.
(يا عبد الرحمن، اذهب بأختك فأعمرها) بقطع الهمزة وكسر الميم أمر من الإعمار

(3/95)


(من التنعيم فأحقبها) عبد الرحمن بهمزة مفتوحة وسكون الحاء المهملة وفتح القاف والموحدة أي حملها على حقيبة الرحل وأردفها خلفه، ولغير أبي ذر عن الكشميهني: فأحقبها بكسر القاف وسكون الموحدة (على ناقة) ولأبي ذر عن الكشميهني: على ناقته (فاعتمرت).

4 - باب فَضْلِ الْحَجِّ الْمَبْرُورِ
(باب فضل الحج المبرور) اسم مفعول من بر المتعدي يقال بر الله حجك فهو متعد بنفسه ويبنى للمفعول فيقال بر حجك فهو مبرور.
1519 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ "سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ الأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إِيمَانٌ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: جِهَادٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. قِيلَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: حَجٌّ مَبْرُورٌ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) بن يحيى الأويسي المدني الأعرج قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سعيد بن المسيب) بفتح الياء على المشهور وقيل بكسرها وكان يكره فتحها

(عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) السائل أبو ذر (أي الأعمال أفضل)؟ أي أكثر ثوابًا. وفي حديث ابن مسعود عند الشيخين: أي الأعمال أحب إلى الله؟ قال: "الصلاة لوقتها". وفي حديث أبي سعيد سئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي الناس أفضل؟ قال: "رجل يجاهد في سبيل الله" إلى غير ذلك من الأحاديث الواردة في هذا المعنى، واستشكلت للمعارضة الظاهرة. وأجيب: بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجاب كلاًّ بما يوافق غرضه وما يرغبه فيه أو على حسب ما عرف من حاله وبما يليق به وأصلح له توقيفًا له على ما خفي عليه، وقد يقول القائل: خير الأشياء كذا ولا يريد تفضيله في نفسه على جميع الأشياء، ولكن يريد أنه خيرها في حال دون حال ولواحد دون آخر. (قال:) عليه الصلاة والسلام أفضل الأعمال.
(إيمان بالله ورسوله) نكر الإيمان ليشعر بالتعظيم والتفخيم أي التصديق المقارن بالإخلاص المستتبع للأعمال الصالحة (قيل: ثم ماذا؟) أي أي شيء أفضل بعده (قال:) (جهاد في سبيل الله) أي قتال الكفار لإعلاء كلمة الله. (قيل: ثم ماذا؟) أفضل (قال) (حج مبرور) مقبول أو لم يخالطه إثم أو لا رياء فيه أو لا تقع فيه معصية. وفي حديث جابر عند أحمد بإسناد فيه ضعف قالوا: يا رسول الله ما بر الحج؟ قال: "إطعام الطعام وإفشاء السلام" وقوله: إيمان بالله الخ. أخبار مبتدآت محذوفة لا مبتدآت محذوفة الأخبار، لأن المقدر في الكل أفضل الأعمال وهو أعرف من إيمان بالله ولاحقيه. وقوله: مبرور قال المازري: هو من البر.
1520 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْمُبَارَكِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ أَخْبَرَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ "عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نَرَى الْجِهَادَ أَفْضَلَ الْعَمَلِ، أَفَلاَ نُجَاهِدُ؟ قَالَ: لاَ، لَكِنَّ أَفْضَلَ الْجِهَادِ حَجٌّ مَبْرُورٌ". [الحديث 1250 - أطرافه في: 1861، 2784، 2875، 2876].
وبه قال (حدّثنا عبد الرحمن بن المبارك) العيشي بفتح العين المهملة وكسر الشين المعجمة بينهما مثناة تحتية ساكنة وليس أخًا لعبد الله بن المبارك الفقيه المشهور قال: (حدّثنا خالد) هو ابن عبد الله الطحان قال (أخبرنا حبيب بن أبي عمرة) بفتح العين وسكون الميم وفتح الراء آخره هاء تأنيث القصاب (عن عائشة بنت طلحة) التميمية القرشية أجل نساء قريش أصدقها مصعب بن الزبير ألف درهم (عن عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله نرى) بفتح النون نعتقد (الجهاد أفضل العمل) لكثرة ما نسمع من فضائله في الكتاب والسنة، وعند النسائي من رواية جرير عن حبيب فإني لا أرى في القرآن أفضل من الجهاد (أفلا نجاهد؟ قال:).
(لا) تجاهدون وسقط لفظ لا عند أبي ذر (لكن) بضم الكاف وتشديد النون واللام حرف جر دخل على جماعة المخاطبات خبر قوله (أفضل الجهاد) كذا لأبي ذر عن الكشميهني وللحموي كما في الفتح وغيره لكن بكسر الكاف وزيادة ألف بعد اللام مع تشديد النون بلفظ الاستدراك، وحينئذ

فأفضل منصوب على أنه اسمها. وفي رواية لكن بسكون النون مخففة فأفضل مرفوع بالابتداء خبره (حج مبرور) وعلى هذين يكون الاستدراك مستفادًا من السياق أي ليس لكن الجهاد لكن أفضل منه في حقكن حج مبرور، وقول الزركشي: لكن بضم الكاف وتشديد النون والوجه حينئذ رفع أفضل على أنه مبتدأ خبره حج مبرور. تعقبه البدر الدماميني: بأنه ظن أن لكن ظرف لغو متعلق بأفضل أي أفضل الجهاد لكن حج مبرور، والمانع من ذلك قائم فالصواب أن الخبر قوله: لكن وأما حج مبرور فخبر لمبتدأ محذوف أي هو حج مبرور.
ورواة هذا الحديث ما بين مروزي وبصري وواسطيّ وكوفي ومدني وفيه المرأة عن خالتها

(3/96)


فإن عائشة أم المؤمنين خالة عائشة بنت طلحة لأن أمها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق، وأخرجه أيضًا في الحج والجهاد، والنسائي في الحج وكذا ابن ماجة.
1521 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا سَيَّارٌ أَبُو الْحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ «مَنْ حَجَّ لِلَّهِ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ». [الحديث 1521 - طرفاه في: 1819، 1820].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي أياس (قال: حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا سيار) بفتح السين المهملة وتشديد المثناة التحتية (أبو الحكم) العنزي بنون وزاي وأبوه يكنى أبا سيار واسمه وردان (قال: سمعت أبا حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمان بفتح السين وسكون اللام الأشجعي وليس هو أبا حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد لأنه لم يسمع من أبي هريرة (قال: سمعت أبا هريرة -رضي الله عنه- قال:) بلفظ الماضي كاللذين قبله (سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(من حج لله) وللمؤدف فيما يأتي من حج هذا البيت، ولمسلم: من أتى هذا البيت وهو يشمل الإتيان للحج والعمرة، وللدارقطني من طريق الأعمش عن أبي حازم بسند فيه ضعف إلى الأعمش من حج أو اعتمر (فلم يرفث) بتثليث الفاء في المضارع والماضي لكن الأفصح الضم في المضارع والفتح في الماضي أي الجماع أو الفحش في القول أو خطاب الرجل المرأة فيما يتعلق بالجماع. وقال الأزهري: كلمة جامعا لكل ما يريده الرجل من المرأة (ولم يفسق) لم يأت بسيئة ولا معصية. وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] الرفث: إتيان النساء والفسوق السباب والجدال المراء يعني مع الرفقاء والمكارين ولم يذكر في الحديث الجدال في الحج اعتمادًا على الآية ويحتمل أن يكون ترك الجدال قصدًا لأن وجوده لا يؤثر في ترك مغفرة ذنوب الحاج إذا كان المراد به المجادلة في أحكام الحج لما يظهر من الأدلة أو المجادلة بطريق التعميم
لا تؤثر أيضًا، لأن الفاحش منها دخل في عموم الرفث، والحسن منها ظاهر في عدم التأثير والمستوي الطرفين لا يؤثر أيضًا قاله في فتح الباري، والفاء في قوله: فلم يرفث عطف على الشرط وجوابه (رجع) أي من ذنوبه (كيوم ولدته أمه) بجر يوم على الأعراب وبفتحه على البناء وهو المختار

في مثله لأن صدر الجملة المضاف إليها مبني أي رجع مشابهًا لنفسه في أنه يخرج بلا ذنب كما خرج بالولادة وهو يشمل الصغائر والكبائر والتبعات. قال الحافظ ابن حجر: وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرادس المصرح بذلك وله شاهد من حديث ابن عمر في تفسير الطبري انتهى. لكن قال الطبري أنه محمول بالنسبة إلى المظالم على من تاب وعجز عن وفائها. وقال الترمذي: هو مخصوص بالمعاصي المتعلقة بحقوق الله خاصة دون العباد ولا تسقط الحقوق أنفسها فمن كان عليه صلاة أو كفارة ونحوها من حقوق الله تعالى لا تسقط عنه لأنها حقوق لا ذنوب إنما الذنوب تأخيرها فنفس التأخير يسقط بالحج لا هي أنفسها فلو أخّرها بعده تجددًا ثم آخر فالحج المبرور يسقط إثم المخالفة لا الحقوق.

5 - باب فَرْضِ مَوَاقِيتِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
(باب فرض مواقيت الحج والعمرة) المكانية جمع ميقات مفعال من الوقت الحدود واستعير هنا للمكان اتساعًا وقد لزم شرعًا تقديم الإحرام للآفاقي على وصوله إلى البيت تعظيمًا للبيت وإجلالاً كما تراه في الشاهد من ترجل الراكب القاصد إلى عظيم من الخلق إذا قرب من ساحته خضوعًا له، فلذا لزم القاصد إلى بيت الله تعالى أن يحرم قبل الحلول بحضرته إجلالاً فإن الإحرام تشبه بالأموات وفي ضمن جعل نفسه كالميت سلب اختياره. وإلقاء قياده متخليًا عن نفسه فارعًا عن اعتبارها شيئًا من الأشياء.
1522 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ قَالَ "حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ جُبَيْرٍ أَنَّهُ أَتَى عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فِي مَنْزِلِهِ وَلَهُ فُسْطَاطٌ وَسُرَادِقٌ -فَسَأَلْتُهُ: مِنْ أَيْنَ يَجُوزُ أَنْ أَعْتَمِرَ؟ قَالَ فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، وَلأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ".
وبالسند قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) بن زياد بن درهم النهدي قال: (حدّثنا زهير) هو ابن معاوية الجعفي (قال: أخبرني) بالإفراد (زيد بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة الجشمي (أنه أتى عبد الله بن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- في منزله -وله فسطاط) ببيت من شعر ونحوه (وسرادق) حول الفسطاط وهو بضم السين وكسر الدال كل ما أحاط بشيء، ومنه: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] أو هو الخيمة أو لا يقال لها ذلك إلا إذا كانت من قطن أو ما يغطى به صحن الدار من الشمس وغيرها. قال في عمدة القاري: والظاهر أن ابن عمر كان معه وأراد سترهم بذلك لا التفاخر. (فسألته) مقتضى السياق أن يقول فسأله لكنه وقع على سبيل الالتفات، وللإسماعيلي: فدخلت

(3/97)


عليه فسألته (من أين يجوز أن أعتمر: قال).
(فرضها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي قدرها وبينها أو أوجبها والضمير المنصوب للمواقيت للقرينة

الحالية "لأهل نجد" ساكنيها ومن سلك طريق سفرهم فمر على ميقاتهم، ونجد: بفتح النون وسكون الجيم آخره دال مهملة ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق قاله في الصحاح، وقال في المشارق: ما بين جرش إلى سواد الكوفة وحده مما يلي المغرب الحجاز وعن يسار الكعبة اليمن قال: ونجد كلها من عمل اليمامة. وقال في النهاية: ما ارتفع من الأرض وهو اسم خاص لما دون الحجاز مما يلي العراق. قال في القاموس: النجد ما أشرف من الأرض وما خالف الغور أي تهامة وتضم جيمه مذكر أعلاه تهامة واليمن وأسفله العراق والشام وأوله من جهة الحجاز ذات عرق (قرنًا)، قال النووي على نحو مرحلتين من مكة. قال: في القاموس: قرية عند الطائف أو اسم الوادي كله، وغلط الجوهري في تحريكه وفي نسبة أويس القرني إليه لأنه منسوب إلى قرر بن ردمان بن ناحية بن مراد أحد أجداده انتهى، وثبت في مسلم نحوه، لكن قال القابسي: من سكن أراد الجبل، ومن فتح أراد الطريق الذي يقرب منه. ولأبي ذر: من قرن.
(ولأهل المدينة) يثرب سكانها ومن سلك طريقهم فمر على ميقاتهم "ذا الحليفة" بضم الحاء المهملة وفتح اللام مصغرًا موضع بعده من المدينة ميل كما عند الرافعي، لكن في البسيط: إنها على ستة أميال وصححه في المجموع وهو الذي قاله في القاموس. وقيل سبعة وفي المهمات الصواب المعروف بالمشاهدة أنها على ثلاثة أميال أو تزيد قليلاً.
(ولأهل الشام) من العريش إلى بالس وقيل إلى الفرات قاله النووي ومن سلك طريقهم (الجحفة) بضم الجيم وإسكان الحاء المهملة وفتح الفاء قرية على ستة أميال من البحر وثمان مراحل من المدينة ومن مكة خمس مراحل أو ستة أو ثلاثة. قال ابن الكلبي: كان العماليق يسكنون يثرب فوقع بينهم وبين بني عبيل بفتح المهملة وكسر الموحدة وهم أخوة عاد حرب فأخرجوهم من يثرب فنزلوا مهيعة فجاء سيل فاجتحفهم أي استأصلهم فسميت الجحفة وهي الآن خربة لا يصل إليها أحد لوخمها، وإنما يحرم الناس الآن من رابغ لكونها محاذية لها. وفي حديث عائشة عند النسائي مرفوعًا: "ولأهل الشام ومصر الجحفة". قال الولي ابن العراقي: وهذه زيادة يجب الأخذ بها وعليها العمل وزاد نافع في الباب الآتي بعد بابين إن شاء الله تعالى. قال عبد الله: وبلغني أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "ويهل أهل اليمن من يلملم" وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى في محالها.

6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [البقرة: 197]: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
(باب قول الله تعالى: {وتزودوا}) أي ما يكف وجوهكم عن الناس ولما أمرهم بزاد الدنيا أرشدني إلى الآخرة فقال: ({فإن خير الزاد التقوى}) [البقرة: 197].
1523 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بِشْرٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ عَنْ وَرْقَاءَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ

عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَحُجُّونَ وَلاَ يَتَزَوَّدُونَ، وَيَقُولُونَ: نَحْنُ الْمُتَوَكِّلُونَ، فَإِذَا قَدِمُوا مَكَّةَ سَأَلُوا النَّاسَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} رَوَاهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو عَنْ عِكْرِمَةَ مُرْسَلاً.
وبالسند قال: (حدّثنا يحيى بن بشر) بكسر الموحدة وسكون الشين المعجمة. قال ابن خلفون: هو الحريري بفتح الحاء المهملة البلخي الزاهد روى عنه البخاري في: الحج وهجرة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وروى عنه مسلم مات لخمس خلون من المحرم سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. قال: وقد فرق بعض ْالناس بين يحيى بن بشر البلخي وبين يحيى بن بشر الحريري فجعلهما رجلين يروي البخاري عن البلخي ويروي مسلم عن الحريري انتهى. وكذا جعلهما ابن طاهر وأبو علي الجياني واحدًا والصواب التفرقة قال: (حدثنا شبابة) بفتح الشين المعجمة وتخفيف الموحدة الأولى ابن سوار (عن ورقاء) بفتح الواو وسكون الراء ممدودًا ابن عمرو بن كليب اليشكري (عن عمرو بن دينار) بفتح العين وسكون الميم (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال):
(كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون) زاد ابن أبي حاتم عن ابن عباس من وجه آخر يقولون نحج بيت الله أفلا يطعمنا (ويقولون نحن المتوكلون) على الله تعالى (فإذا قدموا مكة) ولغير الكشميهني: المدينة والأول أصوب لكنه ضبب في اليونينية عليه (سألوا الناس) الزاد فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197] وليس فيه ذم التوكل لأن ما فعلوه تأكل لأن التوكل قطع النظر عن الأسباب مع تهيئتها لا ترك

(3/98)


الأسباب بالكلية فدفع الضرر المتوقع أو الواقع لا ينافي التوكل بل هو واجب كالهرب من الجدار الهاوي وإساغة اللقمة بالماء والتداوي، وأما ما روي عن جماعة من الصحابة والتابعين من ترك التداوي فيحتمل أن يكون المريض قد كوشف بأنه لا يبرأ وعليه يحمل ترك الصديق التداوي أو يكون مشغولاً بخوف العاقبة، وعليه يحمل ما روي أن أبا الدرداء قيل له: ما تشتكي؟ فقال: ذنوبي. فقيل له: ألا ندعو لك طبيبَا؟ قال: الطبيب أمرضني، وقيل غير ذلك.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في الحج والنسائي في التفسير.
(رواه) في الحديث المذكور (ابن عيينة) سفيان (عن عمرو) يعني ابن دينار (عن عكرمة مرسلاً) لم يذكر فيه ابن عباس، وكذا رواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة، وأخرجه الطبري عن عمرو بن علي وابن حاتم عن محمد بن عبد الله بن يزيد المقري كلاهما عن ابن عيينة مرسلاً. قال ابن أبي حاتم: وهو أصح من رواية ورقاء. قال الحافظ ابن حجر: قد اختلف فيه على ابن عيينة فأخرجه النسائي عن سعيد بن عبد الرحمن المخزومي عنه موصولاً بذكر ابن عباس فيه، لكن حكى الإسماعيلي عن ابن صاعد أن سعيدًا حدثهم به في كتاب المناسك موصولاً. قال: وحدّثنا به في ْحديث عمرو بن دينار فلم يجاوز به عكرمة انتهى.

والمحفوظ عن ابن عيينة ليس فيه ابن عباس لكن لم ينفرد شبابة بوصله، فقد أخرجه الحاكم في تاريخه من طريق الفرات بن خالد عن سفيان الثوري عن ورقاء موصولاً، وأخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن ابن عباس كما سبق.

7 - باب مُهَلِّ أَهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
(باب مهل أهل مكة للحج والعمرة) بضم الميم وفتح الحاء وتشديد اللام أي موضع إهلالهم وهو في الأصل رفع الصوت بالتلبية ثم أطلق على نفس الإحرام اتساعًا. قال أبو البقاء: وهو مصدر بمعنى الإهلال كالمدخل والمخرج بمعنى الإدخال والإخراج. قال البدر الدماميني: جعله هنا مصدرًا يحتاج إلى حذف أو تأويل ولا داعي إليه.
1524 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ "إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ". [الحديث 1524 - أطرافه في: 1526، 1529، 1530، 1845].
وبالسند قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري التبوذكي البصري قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو وفتح الحاء ابن خالد قال: (حدّثنا ابن طاوس) عبد الله اليماني (عن أبيه) طاوس (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (قال:)
(إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقت) أي حدد المواضع الآتية للإحرام وجعلها ميقاتًا وإن كان مأخوذًا من الوقت إلا أن العرف يستعمله في مطلق التحديد اتساعًا، ويحتمل أن يريد به تعليق الإحرام بوقت الوصول إلى هذه الأماكن بالشرط المعتبر وقد يكون بمعنى أوجب كقوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] ويؤيده الرواية الماضية بلفظ: فرضها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لأهل المدينة) النبوية ومن سلك طريق سفرهم ومرّ على ميقاتهم (ذا الحليفة) مفعول وقت، والحليفة بضم الحاء المهملة تصغير حلفة بنت معروف وهي قرية خربة، وبها مسجد يعرف بمسجد الشجرة خراب، وبئر يقال لها بئر علي. وقال في القاموس: هو ماء لبني جشم على ستة أميال وهو الذي صحه النووي كما مرّ، وقول من قال كابن الصباغ في الشامل والروياني في البحر أنه على ميل من المدينة وهم يردّه الحس ولهم موضع آخر بين حاذة وذات عرق وحاذة بالحاء المهملة والذال المعجمة المخففة وهو المراد في حديث رافع بن خديج: كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذي الحليفة من تهامة فأصبنا نهب إبل (ولأهل الشام) زاد النسائي في حديث عائشة ومصر وزاد الشافعي في روايته والغرب (الجحفة؟)، وقول النووي في شرح المهذّب أن بعدها عن مكة ثلاث مراحل فيه نظر كما قاله الحافظ
ابن حجر (ولأهل نجد) أي نجد الحجاز أو اليمن ومن سلك طريقهم في السفر (قرن المنازل) ويسمى قرن الثعالب وسمي بذلك لكثرة ما كان يأوي إليه من الثعالب. وحكى الروياني عن بعض قدماء الشافعية أنهما موضعان. أحدهما في هبوط وهو الذي يقاد له قرن المنازل، والآخر في صعود وهو الذي يقال له قرن الثعالب والمعروف الأول، لكن في أخبار مكة للفاكهي أن قرن الثعالب جبل مشرف على أسفل منى

(3/99)


بينه وبين مِنى ألف وخمسمائة ذراع، فظهر أن قرن الثعالب ليس من المواقيت، (ولأهل اليمن) إذا مرّوا بطريق تهامة ومن سلك طريق سفرهم ومرّ على ميقاتهم (يلملم) فتح الياء واللامين وسكون الميم الأولى بينهما غير منصرف جبل من جبال تهامة. ويقال فيه ألملم بهمزة بدل الياء على مرحلتين من مكة فإن مر أهل اليمن من طريق الجبال فميقاتهم نجد (هن) أي المواقيت المذكورة (لهن) بضمير المؤنثات. وكان مقتضى الظاهر أن يكون لهم بضمير المذكرين. فأجاب ابن مالك بأنه عدل إلى ضمير المؤنثات لقصد التشاكل وكأنه يقول ناب ضمير عن ضمير بالقرينة لطلب التشاكل. وأجاب غيره بأنه على حذف مضاف أي هن لأهلهن أي هذه المواقيت لأهل هذه البلدان بدليل قوله في حديث آخر: هنّ لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن، فصرح بالأهل ثانيًا. ولأبي ذر: هن لهم بضمير المذكرين وهو واضح (ولمن أتى) مرّ (عليهن) أي المواقيت (من غيرهن) أي من غير أهل البلاد المذكورة، فلو مرّ الشامي على ذي الحليفة كما يفعل الآن لزمه الإحرام منها وليس له مجاوزتها إلى الجحفة التي هي ميقاته فإن أخر أساء ولزمه دم عند الجمهور، وأطلق النووي الاتفاق ونفي الخلاف في شرحيه لمسلم المهذّب في هذه المسألة، فإن أراد نفي الخلاف في مذهب الشافعي فمسلم وإن أراد نفي الخلاف مطلقًا فلا لأن مذهب مالك أن له مجاوزة ذي الحليفة إلى الجحفة إن كان من أهل الشام أو مصر وإن كان الأفضل خلافه، وبه قال الحنفية، وابن المنذر من الشافعية.
وأما استشكال ابن دقيق العيد قوله: ولأهل الشام الجحفة فإنه شامل من مرّ من أهل الشام بذي الحليفة ومن لم يمر، وقوله: ولمن أتى عليهن من غير أهلهن فإنه شامل للشامي إذا مرّ بذي الحليفة وغيره فهما عمومان قد تعارضا، فأجاب عنه الولي ابن العراقي بأن المراد بأهل المدينة من سلك طريق سفرهم ومن مرّ على ميقاتهم وحينئذ فلا إشكال ولا تعارض.
(ممن أراد الحج والعمرة) معًا بأن يقرن بينهما أو الواو بمعنى أو وفيه دلالة على جواز دخول مكة بغير إحرام (ومن كان دون ذلك) أي بين الميقات ومكة (فمن) أي فميقاته من (حيث أنشأ) الإحرام أو السفر من مكانه إلى مكة (حتى أهل مكة) وغيرهم ممن هو بها يهلون (من مكة) كالأفاقي الذي بين مكة والميقات فإنه يحرم من مكانه ولا يحتاج إلى الرجوع إلى الميقات وهذا خاص بالحج. أما العمرة، فمن أدنى الحل. وقوله: حتى أهل مكة من مكة عام للحج والعمرة، ولذا قال المؤلّف باب: مهل أهل مكة للحج والعمرة لكن قصة عمرة عائشة حين أرسلها عليه الصلاة والسلام مع أخيها عبد الرحمن إلى التنعيم لتحرم منه بالعمرة تخصص عموم هذا الحديث، لكن البخاري نظر إلى

عموم اللفظ، نعم القارن حكمه حكم الحاج في الإهلال من مكة تغليبًا للجج لاندراج العمرة تحته فلا يحتاج إلى الإحرام بها من الحل مع أنه يجمع بين الحل والحرم بوقوفه بعرفة، وحتى هذه ابتدائية وأهل مكة مبتدأ والخبر محذوف والجملة لا محل لها من الإعراب.
وهذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي في الحج.

8 - باب مِيقَاتِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَلاَ يُهِلُّوا قَبْلَ ذِي الْحُلَيْفَةِ
(باب ميقات أهل المدينة، ولا يهلون قبل ذي الحليفة) لأنه لم ينقل عنه أحد ممن حج مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه أحرم قبلها، والظاهر أن المصنف كان يرى المنع من الإحرام قبل الميقات.
1525 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ «يُهِلُّ أَهْلُ الْمَدِينَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَأَهْلُ الشَّأْمِ مِنَ الْجُحْفَةِ، وَأَهْلُ نَجْدٍ مِنْ قَرْنٍ». قَالَ عَبْدُ اللَّهِ "وَبَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: وَيُهِلُّ أَهْلُ الْيَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:)
(يهل أهل المدينة) ومن سلك طريقهم في سفره (من ذي الحليفة وأهل الشام) ولأبي ذر: ويهل أهل الشأم أي ومن اجتاز في سفره بميقاتهم (من الجحفة، و) يهل (أهل نجد) ومن مرّ في سفره بميقاتهم (من قرن) (قال عبد الله) هو ابن عمر: (وبلغني أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:) وفي رواية سالم عنه زعموا أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ولم أسمعه (ويهل أهل اليمن) تهامته دون نجده ومن مر بطريقهم (من يلملم) قال ابن عبد البر: اتفقوا على أن ابن عمر لم يسمع من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قوله: ويهل أهل اليمن

(3/100)


من يلملم ولا خلاف بين العلماء أن مرسل الصحابي صحيح حجة. نعم، خالف في ذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفرايني فذهب إلى أنه ليس بحجة، وقد ورد ميقات اليمن مرفوعًا من غير إرسال من حديث ابن عباس في الصحيحين وغيرهما ومن حديث جابر في مسلم إلا أنه قال أحسبه رفعه، ومن حديث عائشة عند النسائي، وممن حديث الحرث بن عمرو عند أبي داود والنسائي.

9 - باب مُهَلِّ أَهْلِ الشَّأْمِ
(باب مهل أهل الشام).
1526 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "وَقَّتَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ

الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمُهَلُّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا حماد) هو ابن زيد (عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (قال):
(وقت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأهل المدينة) ساكنيها ومن مر في سفره بميقاتهما (ذا الحليفة، ولأهل الشام) ولأهل مصر والمغرب سكانها ومن مر في طريقهم بميقاتهم (الجحفة، ولأهل نجد) نجد والحجاز أو اليمن ومن مر بميقاتهم (قرن المنازل ولأهل اليمن) تهامة ومن مر بميقاتهم (يلملم) بفتح الأوّل والثاني والرابع وسكون الثالث (فهن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن) الضمائر كلها إلا الثاني للمواقيت، وأما الثاني وهو المجرور باللام وهو قوله لهنّ فلأهل البلد أو غير ذلك كما مرّ ولأبي ذر: لهم بضمير المذكرين وهو الأصل (لمن كان يريد الحج والعمرة) وفي الرواية السابقة ممن يريد بالميم بدل اللام وإسقاط كان (فمن كان دونهن) أي أقرب إلى مكة (فمهله) بضم الميم وفتح الهاء أي مكان إحرامه (من) دويرة (أهله وكذاك) بإسقاط اللام، وزاد أبو ذر وكذاك فتصير مرتين أي وكذا من كان أقرب من هذا الأقرب (حتى أهل مكة) وغيرهم ممن هو بها (يهلون منها) برفع أهل على أن حتى ابتدائية، وذكر الكرماني أنه روي فيها الجرّ أيضًا.

10 - باب مُهَلِّ أَهْلِ نَجْدٍ
(باب مهل أهل نجد).
1527 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَفِظْنَاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ "وَقَّتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبالنسد قال: (حدّثنا عليّ) هو ابن المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حفظناه من الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب أنه قال: (وقت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال المصنف (ح).
1528 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مُهَلُّ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ذُو الْحُلَيْفَةِ، وَمُهَلُّ أَهْلِ الشَّأْمِ مَهْيَعَةُ وَهِيَ الْجُحْفَةُ، وَأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنٌ» قَالَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "زَعَمُوا أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ -وَلَمْ أَسْمَعْهُ-: وَمُهَلُّ أَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ".
(حدّثنا أحمد) ولأبي ذر: أحمد بن عيسى أي الهمداني المصري قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله قال: (أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب (عن أبيه -رضي الله عنه-) أنه قال: (سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):

(مهل) بضم الميم وفتح الهاء إهلال (أهل المدينة ذو الحليفة ومهل الشام) ومصر والمغرب (مهيعة) بفتح الميم وسكون الهاء وفتح التحتية والعين المهملة وقيدها بعضهم بفتح الميم وكسر الهاء وسكون الياء فعيلة كجميلة وفسرها بقوله: (وهي الجحفة و) مهل (أهل نجد قرن) (قال ابن عمر): عبد الله (رضي الله عنهما زعموا) أي قالوا لأن الزعم يستعمل بمعنى القول المحقق (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال): (ولم أسمعه) جملة معترضة بين قوله قال ومقوله وهو (ومهل أهل اليمن يلملم) بالرفع خبر المبتدأ.

11 - باب مُهَلِّ مَنْ كَانَ دُونَ الْمَوَاقِيتِ
(باب مهل من كان دون المواقيت) أي دونها إلى مكة.
1529 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا، فَهُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ مِمَّنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أَهْلِهِ، حَتَّى إِنَّ أَهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا حماد) هو ابن زيد (عن عمرو) هو ابن دينار (عن طاوس عن ابن عباس -رضي الله عنهما-):
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقت لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل اليمن يلملم، ولأهل نجد قرنًا فهنّ لهن) ولأبي ذر: لهم (ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن كان يريد الحج والعمرة فمن كان دونهن) أي بين مكة والميقات (فمن) فإحرامه من دويرة (أهله حتى أن أهل مكة يهلون منها) بالحج وأما العمرة فمن أدنى الحل ولو كان الآفاقي أمامه ميقات فهو ميقاته كساكن الصفراء أو بدر فإنه بين ذي الحليفة والجحفة فميقاته الجحفة لا مسكنه لأنه ليس دون المواقيت.

12 - باب مُهَلِّ أَهْلِ الْيَمَنِ
(باب مهل أهل اليمن).
1530 - حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَّتَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ. وَلأَهْلِ الشَّأْمِ الْجُحْفَةَ، وَلأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، هُنَّ لأَهْلِهِنَّ وَلِكُلِّ آتٍ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ أَرَادَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ، حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ".
وبالسند قال: (حدّثنا معلى بن أسد) العمي أبو الهيثم أخو بهز بن أسد البصري قال: (حدّثنا

وهيب) بضم الواو وفتح الهاء ابن خالد (عن عبد الله بن طاوس عن أبيه) طاوس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-): (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقَّت لأهل المدينة

(3/101)


ذا الحليفة ولأهل الشام الجحفة ولأهل نجد قرن المنازل ولأهل اليمن يلملم) ويقال ألملم بالهمزة وهو الأصل والياء بدل منها.
وهذا الحديث وإن أطلق فيه أن ميقات أهل اليمن يلملم لكن المراد أنه ميقات تهامة خاصة فإن نجد اليمن ميقات أهلها ميقات نجد الحجاز بدليل أن ميقات أهل نجد قرن فأطلق اليمن وأريد بعضه وهو تهامة منه خاصة (هن) أي المواقيت (لأهلهن) أي أهل البلاد المذكورة (ولكل آت أتى عليهن) أي المواقيت (من غيرهم) بضمير جماعة المذكرين ولأبي ذر من غيرهن جماعة المؤنثات (ممن أراد الحج والعمرة فمن كان دون ذلك) أي دون ما ذكر وإلا فحق الإِشارة هنا أن تكون جمعًا التطابق المشار إليه (فمن حيث أنشأ)، النسك أو نحوه (حتى أهل مكة) ينشؤون النسك (من مكة) برفع أهل على أن حتى ابتدائية وبجرّه على أنها جارة.

13 - باب ذَاتُ عِرْقٍ لأَهْلِ الْعِرَاقِ
هذا (باب) بالتنوين (ذات عرق) بكسر العين وسكون الراء آخره قاف ميقات (لأهل العراق).
1531 - حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ مُسْلِمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "لَمَّا فُتِحَ هَذَانِ الْمِصْرَانِ أَتَوْا عُمَرَ فَقَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّ لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنًا وَهُوَ جَوْرٌ عَنْ طَرِيقِنَا، وَإِنَّا إِنْ أَرَدْنَا قَرْنًا شَقَّ عَلَيْنَا. قَالَ: فَانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ. فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ".
وبالسند قال (حدثني) بالإفراد (علي بن مسلم) بضم وسكون السين المهملة ابن سعيد الطوسي سكن بغداد (قال: حدّثنا عبد الله بن نمير) بضم النون وفتح الميم مصغرًا قال: (حدّثنا عبيد الله) بتصغير عبد بن عمر حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- قال):
(لما فتح هذان المصران) بضم فاء فتح مبنيًّا للمفعول وهذان نائب عن الفاعل والمصران البصرة والكوفة صفة له، ولأبي ذر عن الكشميهني: فتح هذين المصرين بفتح الفاء مبنيًّا للفاعل وهذين المصرين بالنصب على حذف الفاعل أي لا فتح الله، وكذا ثبت في رواية أبي نعيم في مستخرجه وجزم به عياض (أتوا عمر) -رضي الله عنه- (فقالوا: يا أمير المؤمنين إن رسول إلله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدّ لأهل نجد قرنًا وهو جورٌ) بفتح الجيم وسكون الواو ثم راء أي مائل (عن طريقنا، وإنا إن أردنا شق علينا) (قال) عمر: (فانظروا حذوها) بفتح الحاء المهملة وسكون الذال المعجمة وفتح الواو أو ما يحاذيها (من طريقكم)، التي تسلكونها إلى مكة من غير ميل فاجعلوه ميقاتًا (فحدّ لهم) عمر -رضي الله عنه- (ذات عرق) وهو الجبل الصغير، وقيل العرق من الأرض السبخة تنبت الطرفاء،
وبينها وبين مكة اثنان وأربعون ميلاً باجتهاده. ويؤيده رواية الشافعي من طريق أبي الشعثاء قال: لم يوقت رسول الله لأهل المشرق شيئًا فاتخذ بحيال قرن ذات عرق انتهى.
نعم روى مسلم في صحيحه عن أبي الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يسأل عن المهل فقال: سمعت أحسبه رفع الحديث إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر الحديث، وفيه: ومهل أهل العراق ذات عرق، لكن قال النووي في شرح مسلم إنه غير ثابت لعدم جزمه برفعه.
وأجيب: بأن قوله أحسبه معناه أظنه والظن في باب الرواية يتنزل منزلة اليقين وليس ذلك قادحًا في رفعه، وأيضًا فلو لم يصرّح برفعه لا يقينًا ولا ظنًّا فهو منزل منزلة المرفوع لأن هذا لا يقال من قبل الرأي وإنما يؤخذ توقيفًا من الشارع، لا سيما وقد ضمه جابر إلى المواقيت المنصوص عليها يقينًا باتفاق، وقد أخرجه أحمد من رواية ابن لهيعة وابن ماجة من رواية إبراهيم بن يزيد كلاهما عن أبي الزبير ولم يشكا في رفعه، ووقع في حديث عائشة عند أبي داود والنسائي بإسناد صحيح كما قاله النووي أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقت لأهل العراق ذات عرق لكن الإمام أحمد كان ينكر على أفلح بن حميد هذا الحديث، نعم قال ابن عدي قد حدّث عنه ثقات الناس وهو عندي صالح وأحاديثه مستقيمة كلها وصححه الذهبي وقال العراقي إن إسناده جيد.
وروى أحمد والدارقطني من حديث الحجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال: وقت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر الحديث وفيه وقال: لأهل العراق وذات عرق. فهذه الأحاديث وإن كان في كل منها ضعف فمجموعها لا يقصر عن درجة الاحتجاج به.
وأما ما أخرجه أبو داود والترمذي عن ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقت لأهل المشرق العقيق، فقد تفرد به يزيد بن أبي زياد وهو ضعيف باتفاق المحدثين وإن كان

(3/102)


حفظه فقد يجمع بينه وبين بقية الأحاديث في التوقيت من ذات عرق بأن ذات عرق ميقات الإيجاب والعقيق ميقات الاستحباب فالإحرام منه أفضل وأحوط لأنه أبعد من ذات عرق، فإن جاوزه وأحرم من ذات عرق جاز وبأن ذات عرق ميقات لبعض أهل العراق والعقيق ميقات لبعضهم. ويؤيده حديث الطبراني في الكبير عن أنس أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقت لأهل المدائن العقيق، ولأهل البصرة ذات عرق الحديث، وفيه أبو ظلال هلال بن يزيد وثقه ابن حبان وضعفه الجمهور. والعقيق: واد فوق ذات عرق بينه وبين مكة مرحلتان.

14 - باب
هذا (باب) بالتنوين بغير ترجمة فهو بمنزلة الفصل من سابقه، ووجه المناسبة بينهما دلالة الحديث الآتي إن شاء الله تعالى على استحباب صلاة ركعتين عند إرادة الإحرام من الميقات، ولأبي الوقت، كما رأيته في بعض الأصول المعتمدة باب: الصلاة بذي الحليفة.

1532 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ فَصَلَّى بِهَا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَفْعَلُ ذَلِكَ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر-رضي الله عنهما-).
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أناخ) بخاء معجمة أي أبرك راحلته (بالبطحاء بذي الحليفة) ونزل عنها (فصلّى بها) في ذهابه ركعتي الإحرام أو العصر ركعتين أو في الرجوع لحديث ابن عمر الذي بعد: وإذا رجع صلّى بذي الحليفة ولا مانع من أنه كان يفعل ذلك ذهابًا وإيابًا (وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يفعل ذلك) المذكور من الصلاة.

15 - باب خُرُوجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى طَرِيقِ الشَّجَرَةِ
(باب خروج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على طريق الشجرة).
1533 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَخْرُجُ مِنْ طَرِيقِ الشَّجَرَةِ وَيَدْخُلُ مِنْ طَرِيقِ الْمُعَرَّسِ، وَأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ، وَإِذَا رَجَعَ صَلَّى بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي وَبَاتَ حَتَّى يُصْبِحَ".
وبالسند قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) القرشي الحزامي المدني قال: (حدّثنا أنس بن عياض) المدني (عن عبيد الله) بتصغير عبد بن عمر العمري (عن نافع عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-):
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يخرج) من المدينة (من طريق الشجرة) التي عند مسجد ذي الحليفة (ويدخل) إلى المدينة (من طريق المعرس) بالهملات والراء مشدّدة مفتوحة موضع نزول المسافر آخر الليل أو مطلقًا وهو أسفل من مسجد ذي الحليفة فهو أقرب إلى المدينة منها (وأن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا خرج إلى مكة يصلّي) بلفظ المضارع، ولأبي ذر: صلّى (في مسجد الشجرة، وإذا رجع) من مكة (صلّى بذي الحليفة ببطن الوادي وبات) بذي الحليفة (حتى يصبح) ثم يتوجه إلى المدينة لئلا يفجأ الناس أهاليهم ليلاً.

16 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (الْعَقِيقُ وَادٍ مُبَارَكٌ)
(باب قول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العقيق وادٍ مبارك) برفع مبارك صفة لواد وهو العقيق.

1534 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ وَبِشْرُ بْنُ بَكْرٍ التِّنِّيسِيُّ قَالاَ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ حَدَّثَنِي عِكْرِمَةُ أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ -رضي الله عنه- يَقُولُ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِوَادِي الْعَقِيقِ يَقُولُ: أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي فَقَالَ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ وَقُلْ: عُمْرَةً فِي حَجَّةٍ". [الحديث 1534 - طرفاه في: 2337، 7343].
وبالسند قال: (حدّثنا الحميدي) بضم الحاء المهملة وفتح الميم أبو بكر بن عبد الله بن الزبير قال: (حدّثنا الوليد) بن مسلم (وبشر بن بكر) بكسر الموحدة وسكون الشين وبكر بفتح الموحدة وسكون الكاف (التنيسي) بكسر المثناة الفوقية والنون المشددة وكسر المهملة نسبة إلى تنيس بلدة معروفة ببحيرة تنيس شرقي مصر (قالا: حدّثنا الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو (قال: حدثني) بالإفراد (يحيى) بن أبي كثير (قال: حدثني) بالإفراد أيضًا (عكرمة) مولى ابن عباس (أنه سمع ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول أنه سمع عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- يقول: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (بوادي العقيق) أي فيه وهو بقرب البقيع بينه وبين المدينة أربعة أميال (يقول):
(أتاني الليلة آت من ربي) هو جبريل (فقال: صل في هذا الوادي المبارك) أي وادي العقيق، لكن ليس هذا من قوله عليه الصلاة والسلام حتى يطابق الترجمة، بل حكاه عن قول الآتي الذي أتاه، وقد روى ابن عدي من طريق يعقوب بن إبراهيم الزهري عن هشام وعروة عن أبيه عن عائشة مرفوعًا: تخيموا بالعقيق فإنه مبارك فكأن المؤلّف أشار إلى هذا. وقوله: تخيموا بالخاء المعجمة والمثناة التحتية أمر بالتخييم أي النزول هناك، لكن حكى ابن الجوزي في الموضوعات أنه تصحيف وأن الصواب بالمثناة الفوقية من الخاتم، وقد وقع في حديث

(3/103)


عمر: تخيموا بالعقيق فإن جبريل أتاني به من الجنة الحديث وهو ضعيف قاله الحافظ ابن حجر: (وقل عمرة في حجة) بنصب عمرة لأبي ذر على حكاية اللفظ أي: قل جعلتها عمرة قاله في اللامع كالتنقيح، وتعقبه في المصابيح قال: إذا كان هذا هو التقدير فعمرة منصوب بجعل والكلام بأسره محكي بالقول لا شيء من أجزائه من حيث هو
جزء، ولعله يشير إلى أن فعل القول قد يعمل في المفرد الذي يراد به مجرد اللفظ نحو: قلت زيدًا وهي مسألة خلاف لكن فرض المسألة حيث لا يراد مدلول اللفظ وإنما يراد به مجرد اللفظ، وهاهنا ليس المراد هذا وإنما المراد جعلها عمرة كما اعترف به فالحكاية متسلطة على مجموع الجملة كما قررناه انتهى. ولغير أبي ذر: عمرة بالرفع مبتدأ محذوف أي قل هذه عمرة في حجة وهو يفيد أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنًا أو يكون المر بأن يقول ذلك لأصحابه ليعلمهم مشروعية القرآن.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا المؤلّف في المزارعة والاعتصام، وأبو داود في الحج وكذا ابن ماجة.

1535 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- "عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ رُئِيَ وَهُوَ فِي مُعَرَّسٍ بِذِي الْحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الْوَادِي قِيلَ لَهُ: إِنَّكَ بِبَطْحَاءَ مُبَارَكَةٍ، وَقَدْ أَنَاخَ بِنَا سَالِمٌ يَتَوَخَّى بِالْمُنَاخِ الَّذِي كَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُنِيخُ يَتَحَرَّى مُعَرَّسَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ أَسْفَلُ مِنَ الْمَسْجِدِ الَّذِي بِبَطْنِ الْوَادِي، بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الطَّرِيقِ وَسَطٌ مِنْ ذَلِكَ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن أبي بكر) المقدمي قال: (حدّثنا فضيل بن سليمان) بضم الفاء والسين فيهما النمري قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) الأسدي (قال: حدثني) بالإفراد (سالم بن عبد الله) بن الخطاب (عن أبيه -رضي الله عنه-، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
(أنه رئي) بتقديم الراء المضمومة على الهمزة المكسورة أي رآه غيره لكن في نسختين من فروع اليونينية رئي بتشديد الهمزة المكسورة بل رأيته كذلك فيها ولأبي ذر: أري بتأخير الراء مكسورة وضم الهمزة أي في المنام "وهو معرس" بكسر الراء على لفظ اسم الفاعل من التعريس، والجملة حالية كذا للحموي والمستملي، وفي رواية الكشميهني: وهو في معرس بزيادة "في" وفتح الراء لأنه اسم مكان "بذي الحليفة ببطن الوادي" أي وادي العقيق كما دل عليه حديث ابن عمر السابق (قيل له): عليه الصلاة والسلام (إنك ببطحاء مباركة). قال موسى بن عقبة: (وقد أناخ بنا سالم يتوخى بالمناخ) بضم الميم وبالخاء فيهما أي يقصد المبرك (الذي كان عبد الله) بن عمر (ينيخ) فيه راحلته حال كونه (يتحرى) بالحاء المهملة وتشديد الراء يقصد (معرس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، بفتح راء معرس لأنه اسم مكان (وهو أسفل) بالرفع خبر وهو كذا في فرعين لليونينية كهي، لكن قال في اللامع كالكواكب الرواية بالنصب، وكذا رأيته في بعض الأصول المعتمدة وهو ظاهر كلام فتح الباري (من المسجد الذي) كان هناك في ذلك الزمان (ببطن الوادي بينهم) أي بين المعرسين بكسر الراء كذا للحموي والكشميهني، وللمستملي والكشميهني أيضًا: بينه أي بين العرس (وبين الطريق) خبر ثان (وسط) بفتح السين أي متوسط بين بطن الوادي وبين الطريق خبر ثالث أو بدل، ولأبي ذر؛ وسطًا بالنصب أي حال كونه متوسطًا (من ذلك) وأتى بقوله "وسطًا" بعد قوله "بين" وإن كان معلومًا منه ليبين أنه في حاق الوسط من قرب لأحد الجانبين.

17 - باب غَسْلِ الْخَلُوقِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ مِنَ الثِّيَابِ
(باب غسل الخلوق ثلاث مرات من الثياب) بفتح الخاء وضم اللام مخففة وآخره قاف ضرب من الطيب يعمل فيه زعفران.
1536 - قَالَ أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ يَعْلَى أَخْبَرَهُ "أَنَّ يَعْلَى قَالَ لِعُمَرَ -رضي الله عنه-: أَرِنِي النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ يُوحَى إِلَيْهِ. قَالَ: فَبَيْنَمَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْجِعْرَانَةِ -وَمَعَهُ

نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِهِ -جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ وَهْوَ مُتَضَمِّخٌ بِطِيبٍ؟ فَسَكَتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاعَةً، فَجَاءَهُ الْوَحْيُ، فَأَشَارَ عُمَرُ -رضي الله عنه- إِلَى يَعْلَى، فَجَاءَ يَعْلَى -وَعَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ- فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ، فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُحْمَرُّ الْوَجْهِ وَهُوَ يَغِطُّ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: أَيْنَ الَّذِي سَأَلَ عَنِ الْعُمْرَةِ؟ فَأُتِيَ بِرَجُلٍ فَقَالَ: اغْسِلِ الطِّيبَ الَّذِي بِكَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، وَانْزِعْ عَنْكَ الْجُبَّةَ، وَاصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ". قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَرَادَ الإِنْقَاءَ حِينَ أَمَرَهُ أَنْ يَغْسِلَ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ". [الحديث 1536 - أطرافه في: 1789، 1847، 4329، 4985].
وبالسند قال: (قال أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل كذا أورده بصيغة التعليق، وبه جزم الإسماعيلي وأبو نعيم، وقيل: إنه وقع في نسخة أو رواية حدّثنا أبو عاصم قال: (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك قال: (أخبرني) بالإفراد (عطاء) هو ابن أبي رباح (أن صفوان بن يعلى أخبره أن) أباه (يعلى) بن أمية التميمي المعروف بابن منية بضم الميم وسكون النون وفتح التحتية وهي أمه وقيل جدته (قال لعمر:) بن الخطاب (-رضي الله عنه- أرني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين يوحى إليه. قال: فبينما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالجعرانة) بكسر الجيم وإسكان العين وتخفيف الراء كما ضبطه جماعة من اللغويين ومحققي المحدّثين، ومنهم من ضبطه بكسر العين وتشديد الراء وعليه أكثر المحدّثين. قال صاحب المطالع: أكثر المحدّثين يشددونها وأهل الأدب يخطئونهم ويخففونها وكلاهما صواب (ومعه)

(3/104)


عليه الصلاة والسلام (نفر من أصحابه) جماعة منهم والواو للحال وكان ذلك في سنة ثمان وجواب بينما قوله: (جاءه رجل) قال الحافظ ابن حجر: لم أعرف اسمه، لكن ذكر ابن فتحون في الذيل عن تفسير الطرطوشي أن اسمه عطاء ابن منية. قال ابن فتحون: فإن ثبت ذلك فهو يعلى الراوي (فقال: يا رسول الله، كيف ترى في رجل أحرم بعمرة وهو متضمخ) بالضاد والخاء المعجمتين أي متلطخ (بطيب؟ فسكت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ساعة فجاءه الوحي، فأشار عمر -رضي الله عنه- إلى يعلى فجاء يعلى وعلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثوب قد أظل به) بضم الهمزة وكسر الظاء المعجمة مبنيًا للمفعول والنائب عن الفاعل ضمير يعود على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي: جعل الثوب له كالظلة يستظل به (فأدخل) يعلى (رأسه)، ليراه عليه الصلاة والسلام حال نزول الوحي وهو محمول على أن عمر ويعلى علما أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا يكره الإطلاع عليه في ذلك الوقت لأن فيه تقوية الإيمان بمشاهدة حال الوحي الكريم، (فإذا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- محمّر الوجه وهو يغط)، بغين معجمة مكسورة وطاء مهملة مشدّدة من الغطيط وهو صوت النفس المتردد من النائم من شدة ثقل الوحي، (ثم سري عنه) عليه الصلاة والسلام بسين مهملة مضمومة وراء مشددة أي كشف عنه شيئًا فشيئًا. وروي بتخفيف الراء أي كشف عنه ما يتغشاه من ثقل الوحي، يقال: سروت الثوب وسريته نزعته والتشديد أكثر لإفادة التدريج (فقال): "أين الذي سأل عن العمرة" (فأتي برجل فقال): عليه الصلاة والسلام (اغسل الطيب الذي بك ثلاث مرات) استدلّ به

على منع استدامة الطيب بعد الإِحرام للأمر بغسل أثره من الثوب والبدن لعموم قوله: اغسل الطيب الذي بك وهو قول مالك ومحمد بن الحسن.
وأجاب الجمهور بأن قصة يعلى كانت بالجعرانة سنة ثمان بلا خلاف كما مرّ وقد ثبت عن عائشة أنها طيبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع سنة عشر بلا خلاف وإنما يؤخذ بالآخر فالآخر من الأمر، والظاهر أن العامل في ثلاث مرات أقرب الفعلين إليه وهو: اغسل وعليه فيكون قوله ثلاث مرات من جملة مقول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو نص في تكرر الغسل، ويحتمل أن يكون العامل فيه قال أي قال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاث مرات اغسل الطيب، فلا يكون فيه تنصيص على أمره بثلاث غسلات إذ ليس في قوله اغسل الطيب تصريح بالغسلات الثلاث لاحتمال كون المأمور به غسلة واحدة، لكنه أكد في شأنها وعلى الأول فهمه ابن المنير فإنه قال في الحديث ما يدل على أن المعتبر في هذا الباب ذهاب الجرم الظاهر لا الأثر بالكلية، لأن الصباغ لا يزول لونه ولا رائحته بالكلية بثلاث مرات، فعلى هذا من غسل الدم من ثوبه لم يضره بقاء طبعه انتهى.
لكن لو كان في الحديث ما يدل على أن الخلوق كان في الثوب أمكن ما قاله، ولكن ظاهره أن الخلوق كان في بدنه لا في ثيابه لقوله: وهو متضمخ بطيب. وإذا كان الخلوق في البدن أمكن أن تزول رائحته ولونه بالكلية بغسله ثلاث مرات لأن علوق الطيب بالبدن أخف من علوقه بالثوب قاله في المصابيح.
(وانزع عنك الجبة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجتك) وللكشميهني: ما تصنع في حجتك بإسقاط كاف كما وتاء حجتك وفيه دلالة على أنه كان يعرف أعمال الحج قبل ذلك، وعند مسلم والنسائي من طريق سفيان عن عمرو بن دينار عن عطاء في هذا الحديث فقال: ما كنت صانعًا في حجك: قال أنزع عني هذه الثياب وأغسل عني هذا الخلوق. فقال: ما كنت صانعًا في حجك فاصنعه في عمرتك أي فلما ظن أن العمرة ليست كالحج قال له إنها كالحج في ذلك، وقد تبين أن المأمور به في قوله اصنع الغسل والنزع.
قال ابن جريج: (قلت لعطاء: أراد) عليه الصلاة والسلام (الإنقاء حين أمره) عليه الصلاة والسلام (أن يغسل ثلاث مرات؟ قال: نعم) أراد الإنقاء وهو يؤيد الاحتمال الأول وهو أن يكون ثلاث مرات معمولاً لاغسل وأنه من كلام النبي

(3/105)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وقال الإسماعيلي: ليس في الخبر أن الخلوق كان على الثوب كما في الترجمة وإنما فيه أن الرجل كان متضمخًا ولا يقال لمن طيب ثوبه أو صبغه به متضمخ. وقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اغسل الطيب الذي بك يبين أن الطيب لم يكن في ثوبه ولو كان على الجبة لكان في نزعها كفاية من جهة الإحرام انتهى يعني فليس بين الحديث والترجمة مطابقة.
وأجيب: بأن المؤلّف جرى على عادته أن يشير إلى ما وقع في بعض طرق الحديث الذي يورده، وقد أورده في محرمات الإحرام من وجه آخر بلفظ: عليه قميص فيه أثر صفرة والخلوق في

العادة إنما يكون في الثوب، ولأبي داود الطيالسي في مسنده عن شعبة عن قتادة عن عطاء رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رجلاً عليه جبة عليها أثر خلوق، ولمسلم مثله من طريق رباح ابن أبي معروف عن عطاء.
ورواة حديث الباب مكيون إلا شيخ المؤلّف عاصم النبيل فبصري وفي سنده انقطاع إلا أن كان صوان حضر مراجعة يعلى وعمر فيكون متصلاً لأنه قال: إن يعلى ولم يقل أن يعلى أخبره أنه قال لعمر.
وأخرجه أيضًا في فضائل القرآن والمغازي، ومسلم في الحج وكذا أبو داود والترمذي والنسائي.

18 - باب الطِّيبِ عِنْدَ الإِحْرَامِ، وَمَا يَلْبَسُ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ، وَيَتَرَجَّلَ وَيَدَّهِنَ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ، وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ، وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتَ وَالسَّمْنَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ. وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- وَهُوَ مُحْرِمٌ وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- بِالتُّبَّانِ بَأْسًا لِلَّذِينَ يَرْحَلُونَ هَوْدَجَهَا.
(باب) استحباب استعمال (الطيب عند الإحرام)، في البدن والثوب ولو للنساء (وما يلبس) الشخص (إذا أراد أن يحرم، ويترجل) بتشديد الجيم والرفع عطفًا على قوله وما يلبس وبالنصب بأن مقدرة وهو الذي في اليونينية لا غير كقوله:
ولبس عباءة وتقر عيني.
أي: ويسرح شعره بالمشط (ويدهن) بكسر الهاء مع تشديد الدال من الافتعال معطوف على سابقه أي يطلي بالدهن.
(وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-). فيما وصله سعيد بن منصور (يشم المحرم الريحان)، بفتح شين يشم على المشهور وحكي ضمها. وروى الدارقطني عنه بسند صحيح المحرم يشم الريحان ويدخل الحمام وينزع ضرسه ويفقأ القرحة وإن انكسر ظفره أماط عنه الأذى، ومذهب الشافعية أنه يحرم شم الريحان الفارسي وهو الضميران بفتح المعجمة وضم الميم بالقياس على تحريم شم الطيب للمحرم لأن معظم الغرض منه رائحته الطيبة وكرهه مالك والحنفية وتوقف أحمد.
وقال أيضًا -رضي الله عنه- مما وصله ابن أبي شيبة: (وينظر في المرآة)، بكسر الميم وسكون الراء بوزن مفعال ونقل كراهته عن القاسم بن محمد. وقال ابن عباس أيضًا مما وصله ابن أبي شيبة:

(ويتداوى بما يأكل الزيت والسمن) بالجر فيهما وصحح عليه ابن مالك بدلاً من الموصول المجرور وبالباء وبالنصب.
قال الزركشي وغيره: إنه المشهور وليس المعنى عليه فإن الذي يأكل هو الآكل لا المأكول انتهى.
قال في المصابيح: لم لا يجوز على النصب أن يكون بدلاً من العائد إلى ما الموصولة أي بما يأكله الزيت والسمن فالذي يأكله حينئذ هو المأكول لا الآكل، ثم قال فإن قلت: يلزم عليه حذف المبدل منه. وأجاب: بأنه قد قيل به في قوله تعالى: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ} [النحل: 116] فقال قوم: إن الكذب بدل من مفعول تصف المحذوف أي لما تصفه وقيل به أيضًا في قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ} [البقرة: 151] أي كما أرسلناه ورسولاً بدل من الضمير المحذوف.
قال: والزركشي -رحمه الله- ظن أن الزيت مفعول أكل فقال أن الذي يأكل الزيت مثلاً عبارة عن الآكل لا المأكول والمطلوب هو جواز التداوي بالمأكول فلا يتأتى المعنى المراد وقد استبان لك تأتيه بما قلنا اهـ.
(وقال عطاء) هو ابن أبي رباح مما وصله ابن أبي شيبة: (يتختم) أي يلبس الخاتم (ويلبس الهميان) بكسر الهاء وسكون الميم قال القزاز فارسي معرب يشبه تكة السراويل تجعل فيه الدراهم ويشد على الوسط.
(وطاف ابن عمر -رضي الله عنهما-) مما وصله الإمام الشافعي من طريق طاوس (وهو محرم) الواو للحال (وقد حزم) بفتح الحاء المهملة والزاي أي شد (على بطنه بثوب ولم تر عائشة -رضي الله عنها-) فيما وصله سعيد بن منصور (بالتبان بأسًا) بضم المثناة الفوقية وتشديد الموحدة سراويل قصير يستر العورة المغلظة يلبسه الملاحون ونحوهم (للذين يرحلون) بضم أوله وفتح الراء وتشديد الحاء المهملة المكسورة،

(3/106)


وفي نسخة: يرحلون بفتح الياء والحاء والراء ساكنة. قال الجوهري: رحلت البعير أرحله بفتح أوله رحلاً، واستشهد البخاري في التفسير بقول الشاعر إذا ما قمت أرحلها بليل قال في الفتح: وعلى هذا فوهم من ضبطه هنا بتشديد الحاء المهملة وكسرها والمعنى يشدون (هودجها) بفتح الهاء والدال المهملة والجيم والواو ساكنة مركب من مراكب النساء، وهذا كأنه رأي عائشة وإلاّ فالجمهور على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم، وقد سقط للذين يرحلون هودجها في رواية ابن عساكر.

1537 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَدَّهِنُ بِالزَّيْتِ، فَذَكَرْتُهُ لإِبْرَاهِيمَ قَالَ: مَا تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ:
وبالسند قال المؤلّف: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن سعيد بن جبير قال):
"كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يدهن بالزيت"، عند الإحرام أي الذي هو غير مطيب كما أخرجه الترمذي من وجه آخر عنه مرفوعًا. قال منصور: (فذكرته) أي امتناع ابن عمر من الطيب الإحرام (لإبراهيم) النخعي (فقال: ما تصنع بقوله): أي بقول ابن عمر حيث ثبت ما ينافيه من فعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
1538 - حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِي مَفَارِقِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُحْرِمٌ".
(حدثني) بالإفراد (الأسود) بن يزيد (عن عائشة -رضي الله عنها- قالت):
(كأني أنظر إلى وبيص الطيب في مفارق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو محرم) الواو للحال والمفارق جمع مفرق وهو وسط الرأس وجمعها تعميمًا لجوانب الرأس التي يفرق فيها، والوبيص: بفتح الواو وكسر الموحدة آخره صاد مهملة أي بريق أثره، لكن قال الإسماعيلي: الوبيص زيادة على البريق والمراد به التلألؤ قال: وهو يدل على وجود عين باقية لا الريح فقط، وأشارت بقولها: كأني أنظر إلى قوة تحققها لذلك بحيث أنها لكثرة استحضارها له كأنها ناظرة إليه.
وهذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في الحج.
1539 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: "كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لإِحْرَامِهِ حِينَ يُحْرِمُ، وَلِحِلِّهِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بِالْبَيْتِ". [الحديث 1539 - أطرافه في: 1754، 5922، 5928، 5930].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق التيمي المدني -رضي الله عنهم- (عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قالت:)
(كنت أطيب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لإحرامه) أي لأجل إحرامه (حين يحرم) أي قبل أن يحرم كما هو لفظ رواية مسلم والترمذي لأنه لا يمكن أن يراد بالإحرام هنا فعل الإحرام فإن التطيب بالإحرام ممتنع بلا شك، وإنما المراد إرادة الإحرام، وقد دل على ذلك رواية النسائي حين أراد الإحرام وحقيقة قولها: كنت أطيب تطييب بدنه ولا يتناول ذلك تطييب ثيابه، وقد دل على اختصاصه ببدنه

الرواية الأخرى التي فيها كنت أجد وبيص الطيب في رأسه ولحيته، وقد اتفق أصحابنا الشافعية على أنه لا يستحب تطييب الثياب عند إرادة الإحرام، وشذا المتولي فحكى قولاً باستحبابه. نعم في جوازه خلاف والأصح الجواز، فلو نزعه ثم لبسه ففي وجوب الفدية وجهان. صحح البغوي وغيره الوجوب (ولحلِّه) أي تحلله من محظورات الإحرام بعد أن يرمي ويحلق (قبل أن يطوف بالبيت) طواف الإفاضة واستفيد من قولها كنت أطيب إن كان لا تقتضي التكرار لأن ذلك لم يقع منها إلا مرة واحدة في حجة الوداع، وعورض بأن المدعي تكراره هنا إنما هو التطيب لا الإحرام ولا مانع من أن يتكرر التطيب للإحرام مع كون الإحرام مرة واحدة ولا يخفى ما فيه، واستفيد أيضًا استحباب التطيب عند الإحرام وجواز استدامته بعد الإحرام وأنه لا يضر بقاء لونه ورائحته وإنما يحرم ابتداؤه في الإحرام وهو قول الجمهور، وعن مالك يحرم لكن لا فدية. وقال محمد بن الحسن: يكره أن
يتطيب قبل الإحرام بما تبقى عينه بعده واستحباب التطيب أيضًا بعد التحلل الأول قبل الطواف.

19 - باب مَنْ أَهَلَّ مُلَبِّدًا
(باب من أهل) حال كونه (ملبدًا) شعر رأسه بضم الميم وفتح اللام وتشديد الموحدة مفتوحة ومكسورة في الفرع وأصله.
1540 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ "سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُهِلُّ مُلَبِّدًا". [الحديث 1540 - أطرافه في: 1549، 5914، 5915].
وبالسند قال: (حدّثنا أصبغ) بفتح الهمزة وسكون الصاد المهملة وفتح الموحدة آخره غين معجمة ابن الفرج قال: (أخبرنا ابن وهب) عبد الله (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن سالم

(3/107)


عن أبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب (-رضي الله عنه- قال:)
(سمعت رسول الله يهل) أي يرفع صوته بالتلبية حال كونه: (ملبدًا) شعر رأسه بنحو الصمغ لينضم الشعر ويلتصق بعضه ببعض احترازًا عن تمعطه وتقمله، وإنما يفعل ذلك من يطول مكثه في الإحرام، واستفيد منه استحباب التلبيد وقد نص عليه الشافعي.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في اللباس، وكذا مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

20 - باب الإِهْلاَلِ عِنْدَ مَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ
(باب الأهلال عند مسجد ذي الحليفة) لمن أراد النسك من المدينة.
1541 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-. ح وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ يَقُولُ "مَا أَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ مِنْ عِنْدِ الْمَسْجِدِ" يَعْنِي مَسْجِدَ ذِي الْحُلَيْفَةِ.
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) بضم العين وسكون القاف قال: (سمعت سالم بن عبد الله) بن عمر (قال: سمعت ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-)، قال المؤلّف (ح).
(وحدّثنا) بواو العطف (عبد الله بن مسلمة) بفتح الميم واللام مهملة ساكنة ابن قعنب القعنبي (عن مالك) إمام الأئمة (عن موسى بن عقبة عن سالم بن عبد الله أنه سمع أباه يقول):
(ما أهل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا من عند المسجد يعني مسجد ذي الحليفة) ولفظ متن رواية سفيان الذي لم يذكره المؤلّف هذه البيداء التي يكذبون فيها على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والله ما أهل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا من عند مسجد ذي الحليفة أخرجه الحميدي في مسنده، وكان ابن عمر ينكر على رواية ابن عباس الآتية إن شاء الله تعالى بعد بابين بلفظ: ركب راحلته حتى استوت على البيداء أهل، والبيداء هذه كما قاله أبو عبيد البكري وغيره فوق علمي ذي الحليفة لمن صعد من الوادي، وسيأتي عند المصنف إن شاء الله تعالى بعد أبواب من طريق صالح بن كيسان عن نافع عن ابن عمر قال: أهل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين استوت به راحلته قائمة فهذه ثلاث روايات ظاهرها التدافع، لكن قد أوضح هذا ابن عباس فيما رواه أبو داود والحاكم من طريق سعيد بن جبير. قلت لابن عباس: عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في إهلاله فذكر الحديث وفيه: فلما صلّى بمسجد ذي الحليفة ركعتين أوجب من مجلسه فأهل بالحج حين فرغ منهما فسمع منه قوم فحفظوه ثم ركب، فلما استقلت به راحلته أهل وأدرك ذلك منه قوم لم يشهدوه في المرة الأولى فسمعوه حين ذاك فقالوا: إنما أهلّ حين استقلت به راحلته ثم مضى، فلما علا شرف البيداء أهل وأدرك ذلك قوم لم يشهدوه فنقل كل واحد ما سمع وإنما كان إهلاله في مصلاه وأيم الله ثم أهل ثانيًا وثالثًا، وقد اتفق فقهاء الأمصار على جواز جميع ذلك إنما الخلاف في الأفضل.
وحديث الباب أخرجه مسلم في الحج، وكذا أبو داود والترمذي والنسائي.

21 - باب مَا لاَ يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ
(باب ما لا يلبس المحرم من الثياب) قال ابن دقيق العيد: لفظ المحرم يتناول من أحرم بالحج والعمرة معًا، والإحرام الدخول في أحد النسكين والتشاغل بأعمالهما، وقد كان شيخنا العلامة ابن عبد السلام -رحمه الله- يستشكل معرفة حقيقة الإحرام ويبحث فيه كثيرًا، وإذا قيل إنه النية اعترض

عليه بأن النية شرط في الحج الذي الإحرام ركنه وشرط الشيء غيره، ويعترض على أنه التلبية بأنها ليست بركن، والإحرام ركن هنا وكان يحوم على تعيين فعل تتعلق به النية في الابتداء انتهى.
وأجيب: بأن المحرم اسم فاعل من أحرم إحرامًا بمعنى دخل في الحرمة أي أدخل نفسه وصيرها متلبسة بالسبب المقتضي للحرمة لأنه دخل في عبادة الحج أو العمرة أو هما معًا، فحرم عليه الأنواع السبعة لبس المخيط والطيب ودهن الرأس واللحية وإزالة الشعر والظفر والجماع ومقدماته والصيد، وقد علم من هذا أن النية مغايرة له لشمولها له، ولغيره لأنها قصد فعل الشيء تقربًا إلى الله تعالى فأركان الحج مثلاً الإحرام والوقوف والطواف والسعي والنية فعل كل من الأربعة تقربًا إلى الله تعالى بها، وبهذا التقرير يزول الإشكال وكأن الذي كان يحوم عليه هو ما ذكر والله أعلم.
1542 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لاَ يَلْبَسُ الْقُمُصَ وَلاَ الْعَمَائِمَ وَلاَ السَّرَاوِيلاَتِ وَلاَ الْبَرَانِسَ وَلاَ الْخِفَافَ، إِلاَّ أَحَدٌ لاَ يَجِدُ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ. وَلاَ تَلْبَسُوا مِنَ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ الزَّعْفَرَانُ أَوْ وَرْسٌ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب

(3/108)


(-رضي الله عنهما- أن رجلاً) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف لم اسمه (قال: يا رسول الله، ما يلبس) الرجل (المحرم) قارنًا أو مفردًا أو متمتعًا (من الثياب)؟ وعند البيهقي أن ذلك وقع والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب في مقدم مسجد المدينة. وفي حديث ابن عباس عند المؤلّف في أواخر الحج أنه عليه الصلاة والسلام خطب بذلك في عرفات فيحمل على التعدد. (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:) مجيبًا له:
(لا يلبس القمص) بضم القاف والميم بالجمع ويلبس بالرفع وهو الأشهر على الخبر عن حكم الله إذ هو جواب السؤال أو خبر بمعنى النهي، وبالجزم على النهي وكسر لالتقاء الساكنين.
فإن قلت: السؤال وقع عما يجوز لبسه، والجواب وقع عما لا يجوز فما الحكمة فيه؟ أجيب: بأن الجواب بما لا يجوز لبسه أحصر وأخصر مما يجوز فذكره أولى إذ هو قليل، ويفهم منه ما يباح فتحصل المطابقة بين الجواب والسؤال بالمفهوم، وقيل: كان الأليق السؤال عن الذي لا يباح إذ الإباحة الأصل، ولذا أجاب بذلك تنبيهًا للسائل على الأليق ويسمى مثل ذلك أسلوب الحكيم نحو: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 189] الآية فإنهم سألوا عن حكمة اختلاف القمر حيث قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقًا ثم يزيد ثم ينقص؟ فأجابهم: بأن الحكمة الظاهرة في ذلك أن تكون معالم للناس يوقتون بها أمورهم، ومعالم للعبادات الموقتة تعرف بها أوقاتها وخصوصًا

الحج فبين فساد سؤالهم وهو: أنه كان ينبغي أن يسألوا عما ينفعهم في دينهم ولا يسألوا عما لا حاجة لهم في السؤال عنه. نعم، المطابقة واقعة بين السؤال والجواب على إحدى الروايتين، فقد رواه أبو عوانة من طريق ابن جريج عن نافع بلفظ: ما يترك المحرم وهي شاذة والاختلاف فيها على ابن جريج لا على نافع، ورواه سالم عن أبيه عن أحمد وابن خزيمة وأبي عوانة في صحيحيهما بلفظ: أن رجلاً قال: ما يجتنب المحرم من الثياب؟ وأخرجه أحمد عن ابن عيينة عن الزهري فقال مرة ما يترك ومرة ما يلبس، وأخرجه المؤلّف في أواخر الحج من طريق إبراهيم بن سعد عن الزهري بلفظ نافع، فالاختلاف فيه على الزهري يشعر بأن بعضهم رواه بالمعنى فاستقامت رواية نافع لعدم الاختلاف عليه فيها، واتجه البحث المتقدم فيها قاله في فتح الباري، ولأبي ذر عن المستملي: لا يلبس القميص بالإفراد (ولا العمائم) جمع عمامة سميت بذلك لأنها تعم جميع الرأس بالتغطية (ولا
السراويلات) جمع سروال فارسي معرّب والسراوين بالنون لغة والشروال بالشين المعجمة لغة (ولا البرانس) جمع برنس بضم النون قال في القاموس: البرنس بالضم قلنسوة طويلة أو كل ثوب رأسه منه درّاعة كان أو جبة انتهى (ولا الخفاف)، بكسر الحاء جمع خف فنبه بالقميص والسراويلات على كل مخيط وبالعمائم والبرانس على كل ما يغطي الرأس مخيطًا كان أو غيره فيحرم على الرجل ستر رأسه أو بعضه كالبياض الذي وراء الأذن مما يعد ساترًا عرفًا ولو بعصابة ومرهم، وهو ما يوضع على الجراحة وطين ساتر لا ستره بماء كأنه غطس فيه وخيط شدّ به رأسه وهودج استظل به وإن مسه ولا بوضع كفه وكذا كف غيره ومحمول كقفة على رأسه لأن ذلك لا يعدّ ساترًا، وظاهر كلامهم عدم حرمة ذلك سواء قصد الستر به أم لا. لكن جزم الفوراني وغيره بوجوب الفدية فيما إذا قصد بحمل القفة ونحوها الستر وظاهره حرمة ذلك حينئذ ولا أثر لتوسده وسادة أو عمامة فإنه حاسر الرأس عرفًا، ونبه بالخفاف على كل ما يستر الرجل مما يلبس عليه من مداس وجورب وغيرهما (إلا أحد لا يجد نعلين) في موضع رفع صفة لأحد، ويستفاد منه كما قاله ابن المنير في الحاشية جواز استعمال أحد في الإثبات خلافًا لمن خصه بضرورة الشعر كقوله:
وقد ظهرت فلا تخفى على أحد ... إلا على أحد لا يعرف القمرا
وقال: والذي يظهر لي بالاستقراء أن أحدًا لا يستعمل في الإثبات إلا أن يعقب النفي وكان الإثبات حينئذ في سياق النفي، ونظير هذا زيادة الباء فإنها لا تكون إلا في النفي، ثم رأيناها زيدت في الإثبات

(3/109)


الذي هو في سياق النفي كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [الأحقاف: 33] اهـ.
والمستثنى منه محذوف ذكره معمر في روايته عن الزهري عن سالم بلفظ: وليحرم أحدكم في إزار ورداء ونعلين فإن لم يجد نعلين (فليلبس خفين) ولأبي الوقت: فليلبس الخفين بالتعريف (وليقطعهما) أي بشرط أن يقطعهما (أسفل من الكعبين) ولا فدية عليه لأنها لو وجبت لبينها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا موضع بيانها. وقال الحنفية: عليه الفدية كما إذا احتاج إلى حلق الرأس يحلقه

ويفدي. وقال الحنابلة: ومن لم يجد إزارًا لبس سراويل ومتى وجد إزارًا خلعه أو نعلين لبس خفين ويحرم قطعهما. واستدلوا بحديث ابن عباس وجابر في الصحيح: من لم يجد نعلين فليلبس خفين وليس فيه ذكر القطع وقالوا: قطعهما إضاعة مال. قالوا: وإن حديث ابن عمر المصرح بقطعهما منسوخ.
وأجيب: بأنه لا يرتاب أحد من المحدّثين أن حديث ابن عمر أصح من حديث ابن عباس لأن حديث ابن عمر جاء بإسناد وصف بأنه أصح الأسانيد، واتفق عليه عن ابن عمر غير واحد من الحفاظ منهم نافع وسالم بخلاف حديث ابن عباس فلم يأت مرفوعًا إلا من رواية جابر بن زيد عنه، وبأنه يجب حمل حديث ابن عباس وجابر على حديث ابن عمر لأنهما مطلقان، وفي حديث ابن عمر زياة لم يذكراها يحب الأخذ بها وبأن إضاعة المال إنما تكون في المنهي عنه لا فيما أذن فيه والأمر في قوله: فليلبس الخفين للإباحة لا للوجوب والسر في تحريم المخيط وغيره مما ذكره مخالفة العادة والخروج عن المألوف لإشعار النفس بأمرين: الخروج عن الدنيا والتذكر للبس الأكفان عند نزع المخيط وتنبيهها على التلبس بهذه العبادة العظيمة بالخروج عن معتادها وذلك موجب للإقبال عليها والمحافظة على قوانينها وأركانها وشرائطها وآدابها.
(ولا تلبسوا) بفتح أوله وثالثه (من الثياب شيئًا مسه الزعفران) بالتعريف، ولأبي ذر: زعفران. قال الزركشي: بالتنوين لأنه ليس فيه إلا الألف والنون فقط وهو لا يمنع الصرف فلو سميت به امتنع، (أو ورس) بفتح الواو وسكون الراء بعدها سين مهملة نبت أصفر مثل نبات السمسم طيب الريح يصبغ به بين الصفرة والحمرة أشهر طيب في بلاد اليمن لكن قال ابن العربي: الورس وإن لم يكن طيبًا فله رائحة طيبة فأراد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن ينبه به على اجتناب الطيب وما يشبهه في ملائمة الشم، وهذا الحكم يشترك فيه النساء مع الرجال بخلاف الأول فإنه خاص بالرجال.
وهذا الحديث سبق في باب من أجاب السائل بأكثر مما سأله في آخر كتاب العلم.

22 - باب الرُّكُوبِ وَالاِرْتِدَافِ فِي الْحَجِّ
(باب جواز الركوب والارتداف في الحج).
1543 - 1544 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ الأَيْلِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ أُسَامَةَ -رضي الله عنه- كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ فَكِلاَهُمَا قَالَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ". [حديث 1543 - طرفه في: 1686 [حديث 1544 - أطرافه في: 1670، 1685، 1687].

وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا وهب بن جرير) بفتح الواو وسكون الهاء وجرير بفتح الجيم الأزدي البصري قال: (حدّثنا أبي) جرير بن حازم بن زيد (عن يونس) بن يزيد (الأيلي) بفتح الهمزة وسكون التحتية (عن) ابن شهاب (الزهري عن عبيد الله بن عبد الله) بتصغير عبد الأول أحد الفقهاء السبعة (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-).
(أن أسامة) بن زيد (-رضي الله عنه- كان ردف النبي) بكسر الراء وسكون الدال أي رديفه وهو الذي يركب خلف الراكب، ولأبي ذر: ردف رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عرفة) موضع الوقوف (إلى المزدلفة)، بكسر اللام اسم فاعل من الازدلاف وهو القرب لأن الحجاج إذا أفاضوا من عرفة يزدلفون إليها أي يقربون منها ويقدمون إليها أو لمجيئهم إليها في زلف من الليل، (ثم أردف) عليه الصلاة والسلام (الفضل) بن العباس بن عبد المطلب (من المزدلفة إلى منى)، تواضعًا منه عليه الصلاة والسلام وليحدّثنا عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بما يتفق له في تلك الحالة من التشريع، ولذا اختار أحداث الأسنان كما يختارون لتسميع الحديث قاله ابن المنير: (قال: فكلاهما قال: لم يزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يلبي حتى) أي إلى أن (رمى جمرة العقبة) وهي حدّ منى من جهة مكة من الجانب الغربي. وفي الحديث جواز الإرداف لكن إذا أطاقته الدابة وأن الركوب في الحج أفضل من المشي وأخرجه مسلم.

(3/110)


23 - باب مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ وَالأَرْدِيَةِ وَالأُزُرِ
وَلَبِسَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- الثِّيَابَ الْمُعَصْفَرَةَ -وَهْيَ مُحْرِمَةٌ- وَقَالَتْ: لاَ تَلَثَّمْ وَلاَ تَتَبَرْقَعْ وَلاَ تَلْبَسْ ثَوْبًا بِوَرْسٍ وَلاَ زَعْفَرَانٍ. وَقَالَ جَابِرٌ: لاَ أَرَى الْمُعَصْفَرَ طِيبًا. وَلَمْ تَرَ عَائِشَةُ بَأْسًا بِالْحُلِيِّ وَالثَّوْبِ الأَسْوَدِ وَالْمُوَرَّدِ وَالْخُفِّ لِلْمَرْأَةِ. وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لاَ بَأْسَ أَنْ يُبْدِلَ ثِيَابَهُ.
(باب ما يلبس المحرم من الثياب والأردية والأزر) بضم الهمزة والزاي، وفي اليونينية: بسكونها لا غير جمع إزار كخمر وخمار وهو للنصف الأسفل، والأردية جمع رداء وهو للنصف الأعلى وعطفهما على الثياب من عطف الخاص على العام، وهذا الترجمة مغايرة للسابقة على ما لا يخفى.
(ولبست عائشة) -رضي الله عنها- (الثياب المعصفرة) المصبوغة بالعصفر (وهي محمرة) وصله سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد بإسناد صحيح، والجمهور على جوازه للمحرم خلافًا لأبي حنيفة وقال: إنه طيب وأوجب فيه الفدية. (وقالت:) عائشة مما وصله البيهقي: (لا تلثم)
بالجزم على النهي وبمثناة واحدة مع تشديد المثلثة وأصله تتلثم فحذفت إحدى التائين كـ {نارًا تلظى} [الليل: 14] تخفيفًا واللثام: ما يغطي الشفة (ولا تتبرقع) بالجزم كذلك لكن بمثناتين على الأصل كذا في الفرع وفي غيره ولا تبرقع بحذف إحدى التاءين والرفع في الكلمتين والجزم (ولا تلبس ثوبًا) مصبوغًا (بورس) بسكون الراء، ولأبي ذر في رواية بورس بكسرها (ولا زعفران). والجملة من قوله وقالت إلى هنا ساقطة في رواية (ق) وفي الفتح: سقوطها أيضًا عن الحموي.

(وقال جابر:) هو ابن عبد الله الصحابي -رضي الله عنه- مما وصله الشافعي ومسدد: (لا أرى المعصفر طيبًا). أي مطيبًا لأنه خبر في الأصل عن معصفر ولا يخبر بالمعنى عن اسم عين وقد مرّ في المعصفر قريبًا (ولم تر عائشة) -رضي الله عنها- (بأسًا بالحلي) بضم الحاء المهملة وتشديد الياء جمع حلي بفتح الحاء وسكون اللام (والثوب الأسود والمورد) المصبوغ على لون الورد، وسيأتي موصولاً إن شاء الله تعالى في باب طواف النساء في آخر حديث عطاء عن عائشة (والخف للمرأة) وصله ابن أبي شيبة.
(وقال إبراهيم): النخعي مما وصله سعيد بن منصور وابن أبي شيبة: (لا بأس أن يبدل ثيابه) بضم حرف المضارعة وسكون الموحدة وتخفيف الدال المهملة مضارع أبدل، ولأبي الوقت: أن يبدّل ثيابه بفتح الموحدة وتشديد المهملة ومقالة إبراهيم هذه ساقطة في رواية ق.
1545 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ قَالَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "انْطَلَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْمَدِينَةِ بَعْدَمَا تَرَجَّلَ وَادَّهَنَ وَلَبِسَ إِزَارَهُ وَرِدَاءَهُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، فَلَمْ يَنْهَ عَنْ شَىْءٍ مِنَ الأَرْدِيَةِ وَالأُزْرِ تُلْبَسُ إِلاَّ الْمُزَعْفَرَةَ الَّتِي تَرْدَعُ عَلَى الْجِلْدِ، فَأَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، رَكِبَ رَاحِلَتَهُ حَتَّى اسْتَوَى عَلَى الْبَيْدَاءِ أَهَلَّ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، وَقَلَّدَ بَدَنَتَهُ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، فَقَدِمَ مَكَّةَ لأَرْبَعِ لَيَالٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ، فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ أَجْلِ بُدْنِهِ لأَنَّهُ قَلَّدَهَا. ثُمَّ نَزَلَ بِأَعْلَى مَكَّةَ عِنْدَ الْحَجُونِ وَهْوَ مُهِلٌّ بِالْحَجِّ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يُقَصِّرُوا مِنْ رُءُوسِهِمْ ثُمَّ يَحِلُّوا، وَذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ بَدَنَةٌ قَلَّدَهَا، وَمَنْ كَانَتْ مَعَهُ امْرَأَتُهُ فَهِيَ لَهُ حَلاَلٌ وَالطِّيبُ وَالثِّيَابُ". [الحديث 1545 - طرفاه في: 1625، 1731].
وبالسند السابق أول الكتاب إلى المؤلّف قال: (حدّثنا محمد بن أبي بكر المقدمي) بفتح الدال المشددة قال: (حدّثنا فضيل بن سليمان) بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة مصغرًا وضم سين سليمان (قال: حدثني) بالإفراد (موسى بن عقبة) بضم العين وسكون القاف (قال: أخبرني) بالإفراد أيضًا (كريب) مولى ابن عباس (عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال):
(انطلق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المدينة) بين الظهر والعصر يوم السبت كما صرح به الواقدي، ويأتي قريبًا إن شاء الله تعالى تحقيقه (بعدما ترجل) بالجيم المشددة أي سرح شعره (وادّهن) استعمل الدهن وأصله ادتهن فأبدلت التاء دالاً وأدغمت في الأخرى (ولبس إزاره ورداءه هو وأصحابه، فلم ينه) أحدًا (عن شيء من الأردية) جمع رداء (والأزر) بضم الزاي وإسكانها جمع إزار، (تلبس) بضم المثناة الفوقية وفتح الموحدة (إلا المزعفرة) بالنصب على الاستثناء والجر على حذف الجار أي إلا عن المزعفرة

(التي تردع) بفتح المثناة الفوقية والدال آخره عين مهملتين، وفي رواية: تردع بضم أوله وكسر ثالثه أي التي كثر فيها الزعفران حتى ينفضه على من يلبسها. وقال عياض: الفتح أوجه ومعنى الضم أنها تبقي أثره (على الجلد).
قال في التنقيح، قال أبو الفرج: يعني ابن الجوزي كذا وقع في البخاري وصوابه تردع الجلد بحذف، "على" أي تصبغه. وأجاب في المصابيح، بأن الجوهري قال في الصحاح، يقال: ردعته الشيء فارتدع أي لطخته فتلطخ، قال: فإذا كان كذلك فيجوز أن يكون المراد في الحديث التي تردع لابسها بأثرها وعلى الجلد ظرف مستقر في محل نصب على الحال وهو وجه جيد لا يلزم من ارتكابه تخطئة الرواية. قال: ويحتمل أن يكون تردع قد تضمن معنى تنفض أي تنفض أثرها على الجلد انتهى.
(فأصبح) عليه الصلاة والسلام (بذي الحليفة) أي وصل إليها نهارًا ثم بات بها. وفي مسلم

(3/111)


أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى الظهر بها ثم دعا بناقته فأشعرها في صفحة سنامها الأيمن وسلت الدم وقلدها بنعلين، ثم (ركب راحلته حتى استوى على البيداء) بفتح الموحدة وسكون التحتية، وعند النسائي أنه عليه الصلاة والسلام صلّى الظهر ثم ركب وصعد جبل البيداء ثم (أهلّ هو وأصحابه)، وهل كان عليه الصلاة والسلام مفردًا الحج أو قارنًا أو متمتعًا، خلاف يأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. (وقلد بدنته) بنعلين للإشعار بأنه هدي. قال الأزهري: تكون البدنة من الإبل والبقر والغنم، وقال النووي هي البعير ذكرًا كان أو أنثى وهي التي استكملت خمس سنين، وللكشميهني: بدنه بضم الموحدة وسكون الدال المهملة بلفظ الجمع (وذلك) المذكور من الركوب والاستواء على البيداء والإهلال والتقليد (لخمس بقين من ذي القعدة) بفتح القاف وكسرها والإشارة لخروجه عليه الصلاة والسلام من المدينة وهو الصواب لأن أول ذي الحجة كان يوم الخميس قطعًا لما ثبت، وتواتر أن وقوفه بعرفة كان يوم الجمعة فتعين أن أول الحجة الخميس، ولا يصح أن يكون خروجه يوم الخميس وإن جزم به ابن حزم بل ظاهر الخبر أن يكون يوم الجمعة، لكن ثبت في الصحيحين عن أنس أنهم صلوا معه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظهر بالمدينة أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين، فدلّ على أن خروجهم لم يكن الجمعة، ويحمل قوله: لخمس بقين أي إن كان الشهر ثلاثين فاتفق أن جاء تسعًا وعشرين فيكون يوم الخميس أول ذي الحجة بعد مضي أربع ليال لا خمس. ويؤيده قول جابر لخمس بقين من ذى الحجة أو أربع وإنما لم يقل الراوي إن بقين بحرف الشرط لأن الغالب تمام الشهر، وبه احتج من قال: لا حاجة للإتيان به، والآخر راعى احتمال النقص فقال يحتاج إليه للاحتياط.
(فقدم) عليه الصلاة والسلام (مكة) من أعلاها (لأربع ليال خلون من ذي الحجة) صبيحة يوم الأحد (فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة ولم يحل)، بفتح أوله وكسر ثانيه أي لم يصر حلالاً (من أجل بدنه) بسكون الدال (لأنه) عليه الصلاة والسلام (قلدها). فصارت هديًا ولا يجوز لصاحب

الهدي أن يتحلل حتى يبلغ الهدي محله (ثم نزل بأعلى مكة عند الحجون) بفتح الحاء المهملة وضم الجيم المخففة الجبل المشرق على المحصب حذاء مسجد العقبة، وفي المشارق وغيرها مقبرة أهل مكة على ميل ونصف من البيت (وهو) أي والحال أنه عليه الصلاة والسلام (مهل بالحج) بضم الميم وكسر الهاء (ولم يقرب الكعبة بعد طوافه بها) لعله لشغل منعه من ذلك (حتى رجع من عرفة وأمر أصحابه) الدين لم يسوقوا الهدي (أن يطوفوا) بتشديد الطاء مفتوحة كذا في الفرع وأصله، وفي غيره: يطوفوا بضمها مخففة (بالبيت وبين الصفا والمروة ثم يقصروا من رؤوسهم) لأجل أن يحلقوا بمنى (ثم يحلوا) بفتح أوله وكسر ثانيه لأنهم متمتعون ولا هدي معهم كما قال (وذلك لمن لم يكن معه بدنة قلدها ومن كانت) وفي نسخة: ومن كان (معه امرأته فهي له حلال والطيب والثياب) كسائر محرمات الإحرام حلال له، فالطيب مبتدأ حذف خبره والجملة عطف على الجملة.
وموضع الترجمة قوله: فلم ينه عن شيء من الأردية والأزر تلبس والحديث من أفراد المؤلّف، ورواه أيضًا مختصرًا.

24 - باب مَنْ بَاتَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب من بات بذي الحليفة حتى أصبح)، ممن حجه من المدينة، ولأبي ذر وابن عساكر: حتى يصبح ومراد المؤلّف بهذا الترجمة مشروعية المبيت بالقرب من بلد المسافر ليلحق به من تأخر عنه، وليكون أمكن من التوصل إلى ما عساه ينساه مما يحتاج إليه مثلاً (قاله) أي ما ذكره من المبيت (ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في حديثه السوق في باب: خروج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على طريق الشجرة كما مرّ.
1546 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "صَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَبِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَلَمَّا رَكِبَ رَاحِلَتَهُ وَاسْتَوَتْ بِهِ أَهَلَّ".
وبالسند قال (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا هشام بن يوسف) قاضي صنعاء قال: (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز قال: (حدّثنا محمد بن المنكدر) بلفظ اسم الفاعل، ولأبوي ذر والوقت: حدّثنا ابن المنكدر (عن أنس

(3/112)


بن مالك -رضي الله عنه- قال):
(صلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة) الظهر (أربعًا، وبذي الحليفة) العصر (ركعتين) قصرًا لأنه أنشأ السفر، وحذف لفظ الظهر والعصر لعدم الإلباس، وقد صرح بهما في الحديث الآتي (ثم بات حتى أصبح) دخل في الصباح (بذي الحليفة فلما ركب راحلته واستوت به أهلّ) بالحج أو بالعمرة أو
بهما. قال التوربشتي في شرح مصابيح البغوي أي: رفعته مستويًا في ظهرها، وتعقبه صاحب شرح المشكاة بأن استوى إنما يعدي بعلى لا بالباء فقوله به حال نحو قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ} [البقرة: 50] قال في الكشاف في موضع الحال بمعنى فرقناه ملتبسًا بكم كقوله:
تدوس بنا الجماجم والتريبا.
وفيه دليل للمالكية على أن الأفضل أن يهل إذا انبعثت به راحلته، وقد تقدم نقل الخلاف في ذلك وطريق الجمع بين المختلف فيه.
1547 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد الثقفي قال: (حدّثنا أيوب) السختياني (عن أبي قلابة) بكسر القاف عبد الله الجرمي (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-):
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلّى الظهر بالمدينة أربعًا، وصلّى العصر بذي الحليفة ركعتين)، صرح فيه بذكر الظهر والعصر المحذوف في سابقه (قال): أبو قلابة (وأحسبه) عليه الصلاة والسلام (بات بها) أي بذي الحليفة (حتى أصبح) وفي السابقة بغير شك، وقد ساق هذا الحديث هنا باختصار ويأتي إن شاء الله تعالى بأتم منه.

25 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ بِالإِهْلاَلِ
(باب رفع الصوت بالإهلال) أي بالتلبية، قال القاضي عياض: الإهلال بالحج رفع الصوت بالتلبية. قال في المصابيح: تأمل كيف يلتئم حينئذ قوله بالإهلال مع قوله رفع الصوت، ثم قال القاضي عياض: واستهل المولود رفع صوته وكل شيء ارتفع صوته فقد استهل، وبه سمي الهلال لأن الناس يرفعون أصواتهم بالإخبار عنه، واستبعد ابن المنير هذا الأخير من وجهين:
أحدهما: أن العرب ما كانت تعتني بالأهلة لأنها لا تؤرخ بها، والهلال مسمى بذلك قبل العناية بالتأريخ.
الثاني: أن جعل الإهلال مأخوذًا من الهلال أولى لقاعدة تصريفية وهي أنه إذا تعارض الأمر في اللفظين أيهما أخذ من الآخر جعلنا الألفاظ المتناولة للذوات أصلاً للألفاظ المتناولة للمعاني، والهلال ذات فهو الأصل والإهلال معنى يتعلق به فهو الفرع ذكره في المصابيح.

1548 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ "صَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمِعْتُهُمْ يَصْرُخُونَ بِهِمَا جَمِيعًا".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي بالمعجمة ثم المهملة الأزدي قال: (حدّثنا حماد بن زيد) هو ابن درهم الهضمي الأزدي البصري (عن أيوب) السختياني (عن أبي قلابة) الجرمي (عن أنس -رضي الله عنه- قال):
(صلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة الظهر أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين وسمعتهم) أي الناوين للقران (يصرخون بهما) أي بالحج والعمرة (جميعًا) أو الضمير في سمعتهم راجع إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن معه من أصحابه.
وفي الحديث حجة للجمهور في استحباب رفع الصوت بالتلبية للرجل بحيث لا يضر بنفسه. نعم لا يستحب رفع الصوت بها في ابتداء الإحرام بل يسمع نفسه فقط كما في المجموع، وخرج بالرجل المرأة والخنثى فلا يرفعان صوتهما بل يسمعان أنفسهما فقط كما في قراءة الصلاة فإن رفعا كره، وقد روى أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: أمرني جبريل برفع الصوت بالإهلال وقال إنه من شعائر الحج، وهذا كغيره من الأحاديث ليس فيه بيان حكم التلبية، وقد اختلف في ذلك ومذهب الشافعي وأحمد أنه سنة. وفي وجه حكاه الماوردي عن ابن خيران وابن أبي هريرة أنها واجبة يجب بتركها دم. وقال الحنفية: إذا اقتصر على النية ولم يلب لا ينعقد إحرامه لأن الحج تضمن أشياء مختلفة فعلاً وتركًا فأشبه الصلاة فلا يحصل إلا بالذكر في أوله، وقال المالكية: ولا ينعقد إلا بنية مقرونة بقول أو فعل متعلقين به كالتلبية والتوجه إلى الطريق فلا ينعقد بمجرد النية، وقيل ينعقد قاله سند وهو مروي عن مالك.

26 - باب التَّلْبِيَةِ
(باب التلبية) مصدر لبى كزكى تزكية أي قال لبيك وهو عند سيبويه والأكثرين مثنى لقلب ألفه

(3/113)


ياء مع الظهر وليست تثنيته حقيقية بل هو من المثناة لفظًا، ومعناها التكثير والمبالغة كما في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] أي نعمتاه عند من أول اليد بالنعمة ونعمه تعالى لا تحصى، وقوله تعالى: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] أي كرات كثيرة. وقال يونس بن حبيب: إنما هو اسم مفرد وألفه إنما انقلبت ياء لاتصالها بالضمير كلدى وعلى اهـ.
والأصل لببك فاستثقلوا الجمع بين ثلاث باءات فأبدلوا من الثالثة ياء كما قالوا من الظن تظنيت وأصله تظننت وهو منصوب على المصدر بعامل مضمر أي أجبت إجابة بعد إجابة إلى ما لا نهاية له، وكأنه من ألب بالمكان إذا أقام به والكاف للإِضافة. وقيل: ليس هنا إضافة والكاف حرف

خطاب ومعناه كما قال في القاموس أنا مقيم على طاعتك إلبابًا بعد الباب وإجابة بعد إجابة أو معناه اتجاهي وقصدي لك من داري تلب داره أي تواجهها، أو معناه محبتي لك من امرأة لبة محبة لزوجها، أو معناه إخلاصي لك من حسب لباب أي خالص اهـ.
وقال أبو نصر: معناه أنا ملب بين يديك أي خاضع، وقال ابن عبد البر: ومعنى التلبية إجابة الله فيما فرض عليهم من حج بيته والإقامة على طاعته فالمحرم بتلبيته مستجيب لدعاء الله إياه في إيجاب الحج عليه. قيل: هي إجابة لقوله تعالى للخليل إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27] أي بدعوة الحج والأمر به.
1549 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ تَلْبِيَةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ وَالْمُلْكَ، لاَ شَرِيكَ لَكَ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- أن تلبية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولمسلم عن ابن عمر أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا استوت به راحلته قائمة عند مسجد ذي الحليفة أهل فقال:
(لبيك اللهم لبيك لبيك) أي يا الله أجبناك فيما دعوتنا. وروى ابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له {وأذن في الناس بالحج} [الحج: 27] قال: رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ. قال: فنادى إبراهيم عليه الصلاة والسلام يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه ما بين السماء والأرض ألا ترون الناس يجيئون من أقصى الأرض يلبون؟ ومن طريق ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس وفيه: فأجابوه بالتلبية من أصلاب الرجال وأرحام النساء، وأول من أجابه أهل اليمن فليس حاج يحج من يومئذ إلى أن تقوم الساعة إلا من كان أجاب إبراهيم عليه الصلاة والسلام يومئذ زاد غيره فمن لبى مرة حج مرة ومن لبى مرتين حج مرتين ومن لبى أكثر حج بقدر تلبيته، وقد وقع في المرفوع تكرير لفظه لبيك ثلاث مرات وكذا في الموقوف، إلا أن في المرفوع الفصل بين الأولى والثانية بقوله: اللهم وقد نقل اتفاق الأدباء على أن التكرير اللفظي لا يزاد على ثلاث مرات: (لا شريك لك لبيك إن الحمد) بكسر الهمزة على الاستئناف كأنه لما قال لبيك استأنف كلامًا آخر فقال إن الحمد وبالفتح على التعليل كأنه قال: أجبتك لأن الحمد والنعمة لك والكسر أجود عند الجمهور، وحكاه الزمحشري عن أبي حنيفة، وابن قدامة عن أحمد بن حنبل، وابن عبد البر عن اختيار أهل العربية لأنه يقتضي أن تكون الإجابة مطلقة غير معللة فإن الحمد والنعمة لله على كل حال والفتح بدل على التعليل، لكن قال في اللامع والعدة إنه إذا كسر صار للتعليل أيضًا من حيث انه استئناف جوابًا عن سؤال عن العلة على ما

قرر في البيان، حتى أن الإمام الرازي وأتباعه جعلوا أن تفيد التعليل نفسها ولكنه مردود (والنعمة لك) بكسر النون والإحسان والمنة مطلقًا وبالنصب على الأشهر عطفًا على الحمد ويجوز الرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة خبر إن تقديره: إن الحمد لك والنعمة مستقرة لك. وجوز ابن الأنباري أن يكون الموجود خبر المبتدأ وخبر أن هو المحذوف (والملك)، لك بضم الميم والنصب عطفًا على اسم أن وبالرفع على الابتداء والخبر محذوف لدلالة الخبر المتقدم، ويحتمل أن يكون تقديره: والملك كذلك (لا شريك لك) في ملكك. وروى النسائي وابن ماجة وابن حبان في صحيحه والحاكم في مستدركه عن أبي هريرة قال:

(3/114)


كان من تلبية النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لبيك إله الحق لبيك، وعند الحاكم عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقف بعرفات فلما قال: لبيك اللهم لبيك قال إنما الخير خير الآخرة. وعند الدارقطني في العلل عن أنس بن مالك أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لبيك حجًّا حقًا تعبدًا ورقًا. وزاد مسلم في حديث الباب قال نافع وكان عبد الله بن عمر يزيد فيها لبيك لبيك لبيك وسعديك والخير بيديك والرغباء إليك والعمل، ولم يذكر البخاري هذه الزيادة فهي من أفراد مسلم خلافًا لما توهمه عبارة جامع الأصول والحافظ المنذري في مختصر السنن والنووي في شرح المهذّب.
وقوله: وسعديك هو من باب لبيك فيأتي فيه ما سبق من التثنية والإفراد ومعناه أسعدني إسعادًا فالمصدر فيه مضاف للفاعل وإن كان الأصل في معناه أسعدك بالإجابة إسعادًا بعد إسعاد على أن المصدر فيه مضاف للمفعول لاستحالة ذلك هنا، وقيل المعنى مساعدة على طاعتك بعد مساعدة فيكون من المضاف للمنصوب.
وقوله: والرغباء بفتح الراء والمد وبضمها مع القصر كالعلاء والعلاوة وبالفتح مع القصر ومعناه الطلب والمسألة يعني أنه تعالى هو المطلوب المسؤول منه فبيده جميع الأمور والعمل له سبحانه لأنه المستحق للعبادة وحده، وفيه حذف يحتمل أن تقديره والعمل إليك أي إليك القصد به والانتهاء به إليك لتجاري عليه.
وأخرج ابن أبي شيبة من طريق المسور بن مخرمة قال: كانت تلبية عمر فذكر مثل المرفوع وزاد: لبيك مرفوعًا ومرهوبًا إليك ذا النعماء والفضل الحسن، وهذا يدل على جواز الزيادة على تلبية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بلا استحباب ولا كراهة، وهذا مذهب الأئمة الأربعة، لكن قال ابن عبد البر قال مالك: أكره أن يزيد على تلبية رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وينبغي أن يفرد ما روي مرفوعًا ثم يقول الموقوف على انفراده حتى لا يختلط بالمرفوع. قال إمامنا الشافعي رحمة الله عليه فيما حكاه عنه البيهقي في المعرفة، ولا ضيق على أحد في مثل ما قال ابن عمر ولا غيره من تعظيم الله ودعائه مع التلبية غير أن الاختيار عندي أن يفرد ما روي عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من التلبية.

وفي سنن أبي داود وابن ماجة عن جابر قال: أهل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فذكر التلبية. قال: والناس يريدون ذا المعارج ونحوه من الكلام والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسمع فلم يقل لهم شيئًا.
وفي تاريخ مكة للأزرقي بسند معضل أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: لقد مرّ بفج الروحاء سبعون نبيًّا تلبيتهم شتى منهم يونس بن متى وكان يونس يقول: لبيك فراج الكرب لبيك وكان موسى يقول: لبيك أنا عبدك لديك لبيك قال: وتلبية عيسى أنا عبدك وابن أمتك بنت عبديك، واستحب الشافعية أن يصلّى على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد الفراغ من التلبية ويسأل الله رضاه والجنة ويتعوّذ به من النار واستأنسوا لذلك بما رواه الشافعي والدارقطني والبيهقي من رواية صالح بن محمد بن زائدة عن عمارة بن خزيمة بن ثابت عن أبيه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله تعالى رضوانه والجنة واستعفاه برحمته من النار. قال صالح: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان يستحب للرجل إذا فرغ من تلبيته أن يصلّي على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصالح هذا ضعيف عند الجمهور، وقال أحمد: لا أرى بأسًا.
1550 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي عَطِيَّةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "إِنِّي لأَعْلَمُ كَيْفَ كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُلَبِّي لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لاَ شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ". تَابَعَهُ أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمَشِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمن بن مهران (عن عمارة) بن عمير بضم العين وفتح الميم (عن أبي عطية) مالك بن عامر الهمداني (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت):
(إني لأعلم كيف كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يلبي لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد) بكسر الهمزة وفتحها كما مرّ (والنعمة لك) سقط قوله في رواية ابن عمر والملك لا شريك لك من هذه الرواية اختصارًا، وأردف المؤلّف هذا الحديث بسابقه لما فيه من الدلالة على أنه كان عليه الصلاة والسلام يديم ذلك، وفي حديث مسلم عن جابر التصريح بالمداومة.
(تابعه) أي تابع سفيان الثوري (أبو معاوية) محمد بن

(3/115)


خازم بالمعجمتين فيما وصله مسدّد في مسنده (عن الأعمش) سليمان بن مهران.
(وقال شعبة) بن الحجاج فيما وصله أبو داود الطيالسى في مسنده: (أخبرنا سليمان) الأعمش قال: (سمعت خيثمة) بفتح الخاء المعجمة والمثلثة بينهما مثناة تحتية ساكنة ابن عبد الرحمن الجعفي الكوفي (عن أبي عطية) مالك المذكور قال: (سمعت عائشة -رضي الله عنها-) ولفظه كلفظ سفيان لكنه زاد فيها ثم سمعتها تلبي، وليس فيه قوله: لا شريك لك، ورجح أبو حاتم في العلل رواية الثوري ومن تبعه على رواية شعبة. وقال: إنها وهم، وأفادت هذه الطريق بيان سماع أبي عطية من عائشة قاله في الفتح.

27 - باب التَّحْمِيدِ وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ قَبْلَ الإِهْلاَلِ عِنْدَ الرُّكُوبِ عَلَى الدَّابَّةِ
(باب التحميد والتسبيح والتكبير قبل الإهلال) أي قبل التلبية (عن الركوب) أي بعد الاستواء (على الدابة) لا حالة وضع رجله مثلاً في الركاب، وقول الزركشي وغيره أنه قصد به الرد على أبي حنيفة في قوله: إن من سبح أو كبر أجزأه عن إهلاله، فأثبت البخاري أن التسبيح والتحميد من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما كان قبل الإهلال، تعقبه العيني بأن مذهب أبي حنيفة الذي استقر عليه أنه لا ينقص شيئًا من ألفاظ تلبية النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإن زاد عليها فمستحب انتهى. قال الحافظ ابن حجرة وسقط لفظ التحميد من رواية المستملي.
1551 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَنَحْنُ مَعَهُ بِالْمَدِينَةِ- الظُّهْرَ أَرْبَعًا وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ بَاتَ بِهَا حَتَّى أَصْبَحَ، ثُمَّ رَكِبَ حَتَّى اسْتَوَتْ بِهِ عَلَى الْبَيْدَاءِ حَمِدَ اللَّهَ وَسَبَّحَ وَكَبَّرَ، ثُمَّ أَهَلَّ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ وَأَهَلَّ النَّاسُ بِهِمَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَ النَّاسَ فَحَلُّوا، حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ. قَالَ وَنَحَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَدَنَاتٍ بِيَدِهِ قِيَامًا، وَذَبَحَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ". قال أبو عبد الله: قَالَ بَعْضُهُمْ هَذَا عَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ.
وبالسند قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا وهيب) بالتصغير هو ابن خالد قال: (حدّثنا أيوب) السختياني (عن أبي قلابة) عبد الله الجرمي (عن أنس -رضي الله عنه- قال:)
(صلّى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن معه بالمدينة) حين أراد حجة الوداع (الظهر أربعًا) أي أربع ركعات والواو في قوله "ونحن" للحال (والعصر بذي الحليفة ركعتين) قصرًا (ثم بات بها) أي بذي الحليفة (حتى أصبح) دخل في الصباح أي: وصلّى الظهر ثم دعا بناقته فأشعرها كما عند مسلم (ثم ركب) أي راحلته (حتى استوت به) أي حال كونها متلبسة به كما مر (على البيداء) بفتح الموحدة مع المد الشرف المقابل لذي الحليفة (حمد الله وسبح وكبر ثم أهلّ بحج وعمرة) قارنًا بينهما (وأهل الناس) الذين كانوا معه (بهما) اقتداء به عليه الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين عن جابر: أهلّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو وأصحابه بالحج، وفيهما عن ابن عمر أنه عليه الصلاة والسلام لبى بالحج وحده، ولمسلم في لفظ: أهلّ بالحج مفردًا، وعند الشيخين عن ابن عمر أنه كان متمتعًا، وفيهما أيضًا عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: تمتع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعمرة إلى الحج وتمتع الناس معه.
قال النووي في المجموع: والصواب الذي نعتقده أنه عليه الصلاة والسلام أحرم أولاً بالحج مفردًا ثم أدخل عليه العمرة فصار قارنًا فمن روى أنه كان مفردًا وهم الأكثرون اعتمدوا أوّل

الإحرام، ومن روى أنه كان قارنًا اعتمد آخره، ومن روى متمتعًا أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والالتذاذ وقد انتفع بأن كفاه عن النسكين فعل واحد ولم يحتج إلى إفراد كل واحد بعمل اهـ.
وبقية مباحث ذلك تأتي إن شاء الله تعالى في باب التمتع والقران بعد ستة أبواب.
(فلما قدمنا) مكة (أمر) عليه الصلاة والسلام (الناس) الذين كانوا معه ولم يسوقوا الهدي (فحلوا) من إحرامهم، وإنما أمرم بالفسخ وهم قارنون لأنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج منكرة كما هو رسم الجاهلية، فأمرهم بالتحلل من حجهم والانفساخ إلى العمرة وتحقيقًا لمخالفتهم وتصريحًا جواز الاعتمار في تلك الأشهر، وهذا خاص بتلك السنة عند الجمهور خلافًا لأحمد (حتى كان يوم التروية) برفع يوم لأن كان تامة لا تحتاج إلى خبر ويوم التروي هو ثامن الحجة سمي به لأنهم كانوا يروون دوابهم بالماء فيه ويحملونه إلى عرفات (أهلوا بالحج) من مكة.
(قال) أنس (ونحر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بمكة (بدنات بيده) حال كونهن (قيامًا)، أي قائمات وهن المهداة إلى مكة (وذبح رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالمدينة) يوم عيد الأضحى (كبشين أملحين) بالحاء المهملة تثنية أملح وهو الأبيض الذي يخالطه سواد.
(قال أبو عبد الله) البخاري: (قال بعضهم: هذا عن أيوب) السختياني (عن رجل) قيل

(3/116)


هو أبو قلابة وقيل حماد بن سلمة (عن أنس) قال الحافظ ابن حجر: هكذا وقع عند الكشميهني اهـ.
ومقتضاه أنه سقط قول أبي عبد الله البخاري هذا إلى آخره عند المستملي والحموي.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الحج والجهاد وأبو داود بعضه في الأضاحي وبعضه في الحج.

28 - باب مَنْ أَهَلَّ حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قائمةً
(باب من أهلّ حين استوت به راحلته) قائمة إلى طريقه.
1552 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "أَهَلَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل قال: (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (قال: أخبرني) بالإفراد (صالح بن كيسان) بفتح الكاف الغفاري مؤدّب ولد عمر بن عبد العزيز (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-) أنه (قال):
"أهل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين استوت به راحلته قائمة" أي استوت راحلته حال كونها قائمة متلبسة به، فقوله به حال وكذا قوله قائمة وفيه دليل لمذهب المالكية والشافعي أن الأفضل أن يهل إذا انبعثت به
راحلته أو توجه لطريقه ماشيًا، وفي قول عند الشافعية عقب الصلاة جالسًا لحديث ابن عباس عند الترمذي وقال: حسن أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهلّ بالحج حين فرغ من ركعتيه وهو مذهب الحنفية.

29 - باب الإِهْلاَلِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ
(باب الإهلال) حال كونه (مستقبل القبلة) زاد أبو ذر عن المستملي. الغداة بذي الحليفة.
1553 - وَقَالَ أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- إِذَا صَلَّى بِالْغَدَاةِ بِذِي الْحُلَيْفَةِ أَمَرَ بِرَاحِلَتِهِ فَرُحِلَتْ، ثُمَّ رَكِبَ، فَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ قَائِمًا ثُمَّ يُلَبِّي حَتَّى يَبْلُغَ الْمَحْرَمَ، ثُمَّ يُمْسِكُ، حَتَّى إِذَا جَاءَ ذَا طُوًى بَاتَ بِهِ حَتَّى يُصْبِحَ، فَإِذَا صَلَّى الْغَدَاةَ اغْتَسَلَ وَزَعَمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَلَ ذَلِكَ". تَابَعَهُ إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ فِي الْغَسْلِ.
[الحديث 1553 - أطرافه في: 1554، 1573، 1574].
(وقال أبو معمر) بفتح اليمين بينهما مهملة ساكنة هو عبد الله بن عمرو المنقري المقعد، وليس هو إسماعيل القطيعي فيما وصله أبو نعيم في مستخرجه من طريق عباس الدورقي عن أبي معمر، وقال ذكره البخاري بلا رواية قال: (حدثنا عبد الوارث) بن سعيد قال: (حدّثنا أيوب) السختياني (عن نافع) مولى ابن عمر (قال):
(كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا صلّى بالغداة) أي صلّى الصبح بوقت الغداة، ولأبي ذر عن الكشميهني: إذا صلّى الغداة بإسقاط الموحدة أي الصبح (بذي الحليفة أمر براحلته فرحلت) بضم الراء وكسر الحاء المخففة (ثم ركب فإذا استوت به) راحلته قائمة (استقبل القبلة) حال كونه (قائمًا) أي مستويًا على ناقته غير مائل أو وصفه بالقيام لقيام ناقته. وعند ابن ماجة وأبي عوانة في صحيحه من طريق عبيد الله بن عمر عن نافع كان إذا أدخل رجله في الغرز واستوت به ناقته قائمًا أهلّ (ثم يلبي) بعد أن يركب راحلته ولا يقطع تلبيته (حتى يبلغ المحرم) بميم مفتوحة فحاء مهملة ساكنة فراء مفتوحة، ولأبي ذر وابن عساكر ق: الحرم أي أرض الحرم، وفي رواية إسماعيل بن علية إذا دخل أدنى الحرم (ثم يمسك)، عن التلبية أو المراد بالحرم المسجد وبالإمساك عن التلبية التشاغل بغيرها من الطواف وغيره. وروى ابن خزيمة في صحيحه من طريق عطاء قال: كان ابن عمر يدع
التلبية إذا دخل الحرم ولراجعها بعدما يقضي طوافه بين الصفا والروة فالأولى إن المراد إذا دخل الحرم كما في رواية إسماعيل بن علية، ولقوله بعد: (حتى إذا جاء ذا طوى) بضم الطاء مقصورًا منوّنًا، ولأبي ذر: طوى بكسر الطاء غير منصرف وصحح على عدم الصرف في اليونينية. ونسب الحافظ ابن حجر كسر الطاء لتقييد الأصيلي، وفي القاموس تثليثها، وقال الكرماني: الفتح أفصح وهو واد

معروف بقرب مكة في صوب طريق العمرة ومساجد عائشة ويعرف اليوم ببئر الزاهر فجعل غاية الإمساك الوصول إلى ذي طوى، ومذهب الشافعية والحنفية يمتد وقت التلبية إلى شروعه في التحلل رميًا أو غيره. قال الرافعي: ولذلك نقول المعتمر يقطعها إذا افتتح الطواف.
وفي الصحيحين عن الفضل بن عباس قال: كنت رديف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من جمع إلى منى فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة. وروى أبو داود عن ابن عباس عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: يلبي المعتمر حتى يستلم الحجر وعند المالكية خلاف هل يقطع التلبية حين يبتدئ الطواف أو إذا دخل مكة، والأول في المدونة، والثاني في الرسالة، وشهره ابن بشير ونقل الكرماني أن في بعض الأصول حتى إذا حاذى طوى بحاء مهملة من المحاذاة وحذف كلمة ذي قال: والصحيح هو الأول لأن اسم

(3/117)


الموضع ذو طوى فقط (بات به) أي بذي طوى (حتى يصبح) أي إلى أن يدخل في الصباح (فإذا صلّى الغداة) الصبح وجواب إذا قوله (اغتسل) لدخول مكة.
(وزعم) وفي رواية ابن علية عن أيوب ويحدّث (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل ذلك) المذكور من البيتوتة والصلاة والغسل.
(تابعه) أي تابع عبد الوارث (إسماعيل) بن علية (عن أيوب) السختياني (في الغسل) بفتح الغين المعجمة، ولأبي ذر: في الغسل بضمها أي وغيره، لكن من غير مقصود الترجمة لأن هذه المتابعة وصلها المؤلّف بعد أبواب عن يعقوب بن إبراهيم قال: حدّثنا ابن علية به ولم يقتصر على الغسل بل ذكره كله إلا القصة الأولى، وأوّله كان إذا دخل أدنى الحرم أمسك عن التلبية والباقي مثله. نبه عليه في الفتح، ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: فإذا استوت به استقبل القبلة والله أعلم.
1554 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ أَبُو الرَّبِيعِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- إِذَا أَرَادَ الْخُرُوجَ إِلَى مَكَّةَ ادَّهَنَ بِدُهْنٍ لَيْسَ لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ، ثُمَّ يَأْتِي مَسْجِدَ الْحُلَيْفَةِ فَيُصَلِّي، ثُمَّ يَرْكَبُ. وَإِذَا اسْتَوَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ قَائِمَةً أَحْرَمَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُ".
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن داود) بن حماد (أبو الربيع) العتكيّ الزهراني قال: (حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام آخره حاء مهملة مصغرًا ابن سليمان الخزاعي المدني. ويقال: فليح لقب واسمه عبد الملك من طبقة مالك احتج به البخاري وأصحاب السنن وروى له مسلم حديث الإِفك فقط وضعفه يحيى بن معين والنسائي وأبو داود. وقال الساجي: هو من أهل الصدق وكان يهم. وقال الدارقطني: مختلف فيه ولا بأس به. وقال ابن عديّ: له أحاديث صالحة مستقيمة وغرائب وهو عندي لا بأس به اهـ.

ولم يعتمد عليه البخاري اعتماده على مالك وابن عيينة وأضرابهما، وإنما أخرج له أحاديث أكثرها في المتابعات وبعضها في الرقائق. (عن نافع) مولى ابن عمر (قال):
(كان ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- إذا أراد الخروج إلى مكة ادّهن بدهن ليس له رائحة طيبة، ثم يأتي مسجد الحليفة) ولأبي ذر: مسجد ذي الحليفة (فيصلّي) الغداة (ثم يركب) راحلته (وإذا) وفي نسخة: فإذا (استوت به راحلته قائمة أحرم ثم قال: هكذا رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعل) لم يقع في رواية فليح هذه التصريح باستقبال القبلة لأنه من لازم استواء الراحلة عند الأخذ في السير استقبالها القبلة لأن مكة أمامه فهو مستقبل القبلة ضرورة، وقد صرح بالاستقبال في الرواية الأولى وهما حديث واحد، وإنما احتاج إلى رواية فليح لما فيها من زيادة ذكر الدهن الذي ليست له رائحة طيبة، قال المهلب: وإنما كان ابن عمر يدهن ليمنع القمل عن شعره ويجتنب ما له رائحة طيبة صيانة للإحرام.

30 - باب التَّلْبِيَةِ إِذَا انْحَدَرَ فِي الْوَادِي
(باب التلبية إذا انحدر) المحرم (في الوادي).
1555 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ "كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-، فَذَكَرُوا الدَّجَّالَ أَنَّهُ قَالَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: كَافِرٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَمَّا مُوسَى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ إِذِ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي يُلَبِّي". [الحديث 1555 - طرفاه في: 3355، 5913].
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) المعروف بالزمن (قال: حدثني) بالإفراد (ابن أبي عدي) بفتح العين وكسر الدال المهملتين ثم المثناة التحتية المشددة وهو محمد بن إبراهيم بن أبي عدي (عن ابن عون) بفتح العين وسكون الواو عبد الله (عن مجاهد) هو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة المخزومي مولاهم المكي إمام في التفسير (قال: كنا عند ابن عباس -رضي الله عنهما- فذكروا الدجال أنّه) أي الدجال والهمزة مفتوحة (قال: مكتوب بين عينيه: كافر) في موضع رفع خبر إن وكافر رفع بقوله مكتوب واسم المفعول يعمل عمل فعله كاسم الفاعل، (فقال ابن عباس: لم أسمعه)، عليه الصلاة والسلام زاد في باب الجعد من كتاب اللباس قال ذلك (ولكنه قال:) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(أما موسى كأني أنظر إليه) رؤيا حقيقية بأن يجعل الله لروحه مثالاً يرى في اليقظة كما يرى في النوم كليلة الإسراء والأنبياء أحياء عند ربهم يرزقون، وقد رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- موسى قائمًا في قبره يصلّي كما رواه مسلم عن أنس أو أنه عليه الصلاة والسلام نظر ذلك في المنام، وبذلك صرح موسى بن عقبة في روايته عن نافع. ورؤيا الأنبياء حق ووحي أو أنه مثلت له حالة موسى عليه السلام التي كان عليها في الحياة، وكيف يحج ويلبي، أو أنه عليه الصلاة والسلام أخبر بالوحي عن ذلك فلشدة

قطعه به قال: كأني أنظر إليه (إذ انحدر في الوادي) وادي الأزرق (يلبي) بحذف الألف بعد الذال، ولأبي ذر: إذا بإثباتها، وأنكرها

(3/118)


بعضهم فغلط راويها كما حكاه عياض. قال: وهو غلط منه إذ لا فرق بين إذا وإذ هنا لأنه وصفة حالة انحداره فيما مضى، وقوله: كأني أنظر إليه جواب أما والأصل فكأني فحذف الفاء وهو حجة على من قال من النحاة أنه لا يجوز حذفها، لكن قد يقال: إن حذفه وقع من الراوي، وقد جوّز ابن مالك حذفها في السعة وخصه بعضهم بالضرورة، وقد اعترض المهلب قوله موسى وقال: إنه وهم من بعض الرواة، وصوّب أنه عيسى لأنه حي، واستدلّ بقوله في الحديث الآخر ليهلن ابن مريم بفج الروحاء.
وأجيب: بأنه لا فرق بين موسى وعيسى لأنه لم يثبت أن عيسى منذ رفع نزل إلى الأرض وإنما ثبت أنه سينزل عند أشراط الساعة، وقد أخرج مسلم الحديث من طريق أبي العالية عن ابن عباس بلفظ: كأني أنظر إلى موسى من الثنية واضعًا إصبعيه في أذنيه مارًا بهذا الوادي وله جوار إلى الله تعالى بالتلبية قاله لما مرّ بوادي الأزرق، وقد زاد في باب: الجعد من كتاب اللباس ذكر إبراهيم ولفظه قال ابن عباس: لم أسمعه قال ذلك، ولكنه قال: أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم، وأما موسى فرجل آدم جعد على جمل أحمر مخطوم بخلب كأني أنظر إليه إذا انحدر في الوادي يلبي. أفيقال: أن الراوي غلط فزاد إبراهيم، وفي الحديث أن التلبية في بطون الأودية من سنن المرسلين وأنها تتأكد عند الهبوط كما تتأكد عند الصعود. وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في اللباس وفي أحاديث الأنبياء، ومسلم في الإيمان.

31 - باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ؟
أَهَلَّ: تَكَلَّمَ بِهِ، وَاسْتَهْلَلْنَا وَأَهْلَلْنَا الْهِلاَلَ: كُلُّهُ مِنَ الظُّهُورِ. وَاسْتَهَلَّ الْمَطَرُ: خَرَجَ مِنَ السَّحَابِ.
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] وَهْوَ مِنِ اسْتِهْلاَلِ الصَّبِيِّ.
هذا (باب) بالتنوين (كيف تهلّ) أي تحرم (الحائض والنفساء)؟ يقال: (أهلّ) الرجل بما في قلبه إذا (تكلم به. واستهللنا وأهللنا الهلال:) بالنصب على المفعولية أي طلبنا ظهوره، ولأبي ذر: الهلال بالرفع أي استهل الهلال على صيغة المعلوم أي تبين. قال المجد الشيرازي كالجوهري، ولا يقال أهل ويقال أهللنا عن ليلة كذا ولا يقال أهللنا فهل كما يقال أدخلناه فدخل وهو قياسه (كله) أي ما ذكر من هذه الألفاظ مأخوذ (من) معنى (الظهور. و) من الظهور أيضًا (استهل المطر:) أي (خرج من السحاب) ومنه أيضًا قوله تعالى: ({وما أهل لغير الله به}) [المائدة: 3] أي نودي عليه بغير اسم الله وأصله رفع الصوت (وهو من استهلال الصبي) أي رفع صوته بِالصياح عند الولادة. قال

في الفتح: وهذا في رواية المستملي والكشميهني وليس مخالفًا لما سبق من أصل الاستهلال رفع الصوت لأن الصوت يقع بذكر الشيء عند ظهوره.
1556 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ مَعَ الْعُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا. فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: انْقُضِي رَأْسَكِ وَامْتَشِطِي وَأَهِلِّي بِالْحَجِّ وَدَعِي الْعُمْرَةَ، فَفَعَلْتُ. فَلَمَّا قَضَيْنَا الْحَجَّ أَرْسَلَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ فَقَالَ: هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ. قَالَتْ: فَطَافَ الَّذِينَ كَانُوا أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلُّوا، ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى، وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ فَإِنَّمَا طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا مالك) الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن عروة بن الزبير) بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قالت: خرجنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لخمس بقين من ذي القعدة (في حجة الوداع) سميت بذلك لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ودّع الناس فيها (فأهللنا بعمرة)، أدخلناها على الحج بعد أن أهللنا به في الابتداء كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى، (ثم قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): لمن معه بعد إحرامهم بالحج ودنوّهم من مكة بسرف كما في رواية عائشة أو بعد طوافهم بالبيت فهم بالبيت كما في رواية جابر أو قاله مرتين في الموضعين وأن العزيمة كانت آخرًا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة.
(من كان معه هدي) بإسكان الدال وتخفيف الياء وبكسر الدال وتشديد الياء والأولى أفصح وأشهر اسم لما يهدى إلى الحرم من الأنعام وسوق الهدي سنة لمن أراد الإحرام بحج أو عمرة (فليهل بالحج مع العمرة ثم لا يحل) وفي اليونينية: بالنصب مصلح (حتى يحل منهما) أي من الحج والعمرة (جميعًا) وفيه دلالة على أن السبب في بقاء من ساق الهدي على إحرامه حتى يحل من الحج كونه أدخل الحج على العمرة لا مجرد سوق الهدي كما يقوله أبو حنيفة وأحمد وموافقوهما من أن المعتمر المتمتع إذا كان معه هدي لا يتحلل من عمرته حتى ينحر هديه يوم النحر، وقد تمسكوا بقوله في رواية عقيل عن الزهري في الصحيحين فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من أحرم بعمرة ولم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر

(3/119)


هديه، ومن أهلّ بحج فليتم حجه" وهي ظاهرة في الدلالة لمذهبهم، لكن تأولها الشافعية على أن معناها ومن أحرم بعمرة وأهدى فليهلل بالحج ولا يحل حتى ينحر هديه، واستدلوا لصحة هذا التأويل بهذه الرواية لأن القصة واحدة فتعين الجمع بين الروايتين.

قالت عائشة: (فقدمت مكة وأنا حائض) جملة اسمية وقعت حالاً وكان ابتداء حيضها بسرف يوم السبت لثلاث خلون من في الحجة (ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة)، عطف على المنفي قبله على تقدير ولم أسع وهو من باب علفتها تبنًا وماء باردًا، ويجوز أن يقدر ولم أطف بين الصفا والمروة على طريق المجاز لما في الحديث وطاف بالصفا والمروة سبعة أطواف، وإنما ذهب إلى التقدير دون الانسحاب لئلا يلزم استعمال اللفظ الواحد حقيقة ومجازًا في حالة واحدة قاله في شرح المشكاة. (فشكوت ذلك) أي ترك الطواف بالبيت وبين الصفا والمروة بسبب الحيض (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(انقضي رأسك) بالقاف المضمومة والضاد المعجمة المكسورة من النقض أي حلي ضفر شعر رأسك (وامتشطي) أي سرحيه بالمشط (وأهلي بالحج ودعي العمرة) أي عملها من الطواف والسعي وتقصير الشعر لا أنها تدع العمرة نفسها وحينئذٍ فتكون قارنة كذا تأوله الشافعي.
والحاصل أنها أحرمت بالحج ثم فسخته إلى العمرة حين أمر الناس بذلك، فلما حاضت وتعذر عليها إتمام العمرة والتحلل منها وإدراك الإحرام بالحج أمرها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالإحرام بالحج فأحرمت به فصارت مدخلة للحج على العمرة وقارنة، لكن استشكل الخطابي قوله لها انقضي رأسك وامتشطي لأنه ظاهر في إبطال العمرة لأن المحرم يفعل مثل ذلك لأنه يؤدّي إلى انتتاف الشعر.
وأجيب: بأنه لا يلزم من ذلك إبطال العمرة فإن نقض الرأس والامتشاط جائزان في الإحرام إذا لم يؤدّ إلى انتتاف الشعر لكن يكره الامتشاط لغير عذر أو إن ذلك كان بسبب أذى كان برأسها فأبيح كما أبيح لكعب بن عجرة في حلق رأسه للأذى، أو المراد بالامتشاط تسريح الشعر بالأصابع لغسل الإحرام بالحج، ولا سيما إن كانت ملبدة فتحتاج إلى نقض الضفر ثم تضفره كما كان ويلزم منه نقضه، ويشهد لما أوله الشافعي رحمة الله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآخر: قد حللت من حجتك وعمرتك جميعًا، وقوله في الحديث الآخر: طوافك وسعيك كافيك لحجك وعمرتك فهو صريح في أنها كانت قارنة، لكن عند المؤلّف في باب: التمتع والقران من طريق الأسود عنها أنها قالت: يا رسول الله يرجع الناس بعمرة وحج وأرجع أنا بحجة. وزاد في رواية عطاء عنها عند أحمد ليس معها عمرة، وهذا يقوي قول الحنفية أنها تركت العمرة وحجت مفردة متمسكين بقوله لها: دعي عمرتك. واستدلوا به على أن المرأة إذا أهلت بالعمرة متمتعة فحاضت قبل أن تطوف تترك العمرة وتهل بالحج مفردة كما صنعت عائشة -رضي الله عنها-، لكن قال: في الفتح: إن في رواية عطاء عنها ضعفًا والرافع للإشكال في ذلك ما رواه مسلم من حديث جابر أن عائشة أهلّت بعمرة حتى إذا كانت بسرف حاضت فقال لها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أهلي بالحج حتى إذا طهرت طافت بالكعبة وسعت فقال: قد حللت من حجك وعمرتك. قالت يا رسول الله إني أجد في نفسي أني لم أطف بالبيت حتى حججت. قال: فأعمرها من التنعيم. قالت عائشة -رضي الله عنها-: (ففعلت) بسكون اللام ما ذكر من النقض والامتشاط والإهلال بالحج وترك عمل العمرة وهذا موضع الترجمة.

(فلما قضينا الحج) أي وطهرت يوم النحر (أرسلني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع) أخي (عبد الرحمن بن أبي بكر) الصدّيق -رضي الله عنه- (إلى التنعيم) المشهور بمساجد عائشة (فاعتمرت. فقال) عليه الصلاة والسلام: (هذه) العمرة (مكان عمرتك) برفع مكان خبرًا لقوله هذه أو بالنصب، وهو الذي في اليونينية لا غير على الظرفية وعامله المحذوف هو الخبر أي كائنة أو مجعولة مكان عمرتك. قال القاضي عياض: والرفع أوجه عندي إذ لم يرد به الظرف إنما أراد عوض عمرتك، فمن قال كانت قارنة قال مكان عمرتك التي أردت

(3/120)


أن تأتي بها مفردة حينئذٍ فتكون عمرتها من التنعيم تطوّعًا لا عن فرض، لكنه أراد تطييب نفسها بذلك. ومن قال: كانت مفردة قال مكان عمرتك التي فسخت الحج إليها ولم تتمكني من الإتيان بها للحيض. وقال السهيلي: الوجه النصب على الظرف لأن العمرة ليست بمكان لعمرة أخرى لكن إن جعلت مكان بمعنى عوض أو بل مجازًا أي هذه بدل عمرتك جاز الرفع حينئذٍ.
(قالت): عائشة -رضي الله عنها- (فطاف الذين كانوا أهلّوا بالعمرة بالبيت و) سعوا أو طافوا (بين الصفا والمروة) لأجل العمرة (ثم حلوا)، منها بالحلق أو التقصير (ثم طافوا طوافًا واحدًا) للحج، ولأبي ذر عن الكشميهني: طوافًا آخر (بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا الحج والعمرة فإنما طافوا طوافًا واحدًا) لأن القارن يكفيه طواف واحد وسعي واحد لأن أفعال العمرة تندرج في أفعال الحج وهو مذهب الشافعي ومالك وأحمد والجمهور خلافًا للحنفية حيث قالوا: لا بدّ للقارن من طوافين وسعيين لأن القران هو الجمع بين العبادتين فلا يتحقق إلا بالإتيان بأفعال كل منهما والطواف والسعي مقصودان فيهما فلا يتداخلان إذ لا تداخل في العبادات وهو محكي عن أبي بكر وعمر وعلي بن أبي طالب وابن مسعود والحسن بن علي، ولا يصح عن واحد منهم.
واستبدل بعضهم له بحديث ابن عمر عند الدارقطني بلفظ: إنه جمع بين حجة وعمرة معًا وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وقال: هكذا رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صنع وبحديث علي عند الدارقطني أيضًا، وبحديث ابن مسعود وحديث عمران بن حصين أيضًا، وكلها مطعون فيها لما في رواتها من الضعف المانع للاحتجاج بها والله أعلم.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الحج والمغازي، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في الحج وكذا ابن ماجة والله أعلم.

32 - باب مَنْ أَهَلَّ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب من أهل) أي أهلّ على الإبهام من غير تعيين (في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كإهلال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فأقره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليه وتقييده في الترجمة بزمنه عليه الصلاة والسلام إشارة إلى أنه لا يجوز بعد ذلك.

لنا: أن الأصل عدم الخصوصية فيجوز أن يحرم كإحرام زيد فإن لم يكن زيد محرمًا انعقد إحرامه مطلقًا ولغت الإضافة لزيد، وإن كان زيد محرمًا انعقد إحرامه كإحرامه إن كان حجًّا فحج وإن كان عمرة فعمرة وإن كان مطلقًا فمطلق ويتخير كما يتخير زيد ولا يلزمه الصرف إلى ما يصرف إليه زيد، فإذا تعذر معرفة إحرامه بموته أو جنونه أو غيبته نوى القران وعمل أعمال النسكين ليتحقق الخروج عما شرع فيه، وهذا مذهب الشافعية وهو الصحيح عند أشهب نقله سند وصاحب الذخيرة وهو مذهب الحنابلة، وحكي عن مالك المنع وهو قول الكوفيين لعدم الجزم حين الدخول في العبادة (قاله) أي ما ذكر في الترجمة (ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فيما أخرجه المؤلّف -رحمه الله- في باب: بعث علي -رضي الله عنه- إلى اليمن من باب المغازي.
1557 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ عَطَاءٌ قَالَ جَابِرٌ -رضي الله عنه- "أَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلِيًّا -رضي الله عنه- أَنْ يُقِيمَ عَلَى إِحْرَامِهِ، وَذَكَرَ قَوْلَ سُرَاقَةَ". [الحديث 1557 - أطرافه في: 1568، 1570، 1651، 1785، 2506، 4352، 7230، 7367].
وبالسند قال: (حدّثنا المكي بن إبراهيم) بشر بن فرقد الحنظلي التميمي البلخي (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (قال عطاء) هو ابن أبي رباح، (قال جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري (-رضي الله عنه-).
(أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عليا -رضي الله عنه-) هو ابن أبي طالب حين قدم مكة من اليمن ومعه هدي (أن يقيم على إحرامه) الذي كان أحرم به كإحرام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا يحل لأنه معه الهدي.
(وذكر) أي جابر في حديثه فهو من مقول عطاء أو المكي بن إبراهيم فيكون من مقول البخاري (قول سراقة) بضم السين المهملة وفتح القاف ابن مالك بن جعشم بضم الجيم والشين المعجمة بينهما مهملة ساكنة المذكور في باب: عمرة التنعيم من حديث حبيب المعلم عن عطاء حدثني جابر أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهلّ هو وأصحابه بالحج وليس مع أحد منهم هدي غير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطلحة، وكان علي -رضي الله عنه- قدم من اليمن ومعه هدي الحديث وفيه: أن سراقة لقي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعقبة وهو يرميها فقال: ألكم هذه خاصة يا رسول الله

(3/121)


قال بل لأبد الأبد أي إن أفعال العمرة تدخل في أفعال الحج للقارن دائمًا في خصوص تلك السنة.
وفي هذا الحديث التحديث والعنعنة والقول. قال عطاء وقال جابر وهو صورة التعليق وهو من الرباعيات.
1558 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْخَلاَّلُ الْهُذَلِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا سَلِيمُ بْنُ حَيَّانَ قَالَ سَمِعْتُ مَرْوَانَ الأَصْفَرَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ "قَدِمَ عَلِيٌّ -رضي الله عنه- عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَالَ: لَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ

لأحْللتُ" وَزَادَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ "قَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بِمَا أَهْلَلْتَ يَا عَلِيُّ؟ قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ: فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ".
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن علي الخلال) بفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام الأولى (الهذلي) بضم الهاء وفتح الذال المعجمة نسبة إلى هذيل بن مدركة المتوفى سنة اثنتين وأربعين ومائتين قال: (حدّثنا عبد الصمد) بن عبد الوارث بن سعيد قال: (حدّثنا سليم بن حيان) بفتح السين وكسر اللام وحيان بفتح الحاء المهملة وتشديد المثناة التحتية (قال سمعت مروان الأصفر) بالصاد المهملة والفاء أبو خليفة البصري قيل اسم أبيه خاقان وقيل سالم (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: قدم علي -رضي الله عنه- على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مكة (من اليمن فقال:) عليه الصلاة والسلام له:
(بما أهللت؟) أي أحرم وأثبت ألف ما الاستفهامية مع دخول الجار عليها وهو قليل، ولأبي ذر: بم بحذفها على الكثير الشائع نحو فيم أنت من ذكراها عم يتساءلون (قال:) علي -رضي الله عنه- (بما أهل) أي بالذي أحرم (به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال:) عليه الصلاة والسلام (لولا أن معي الهدي لأحللت) من الإحرام وتمتعت لأن صاحب الهدي لا يتحلل حتى يبلغ الهدي محله وهو يوم النحر، واللام في لأحللت للتأكيد. وأخرج هذا الحديث مسلم والترمذي في الحج.
(وزاد محمد بن بكر) بفتح الموحدة وسكون الكاف البرساني بضم الموحدة وفتح السين المهملة مما وصله الإسماعيلي من طريق محمد بن بشار وأبو عوانة في صحيحيه عن عمار كلاهما عنه (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (قال له النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(بما أهللت يا علي)؟ (قال: بما أهل به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قال) (فأهد) بهمزة قطع مفتوحة (وامكث) بهمزة وصل أي البث حال كونك (حرامًا) أي محرمًا (كما أنت) أي على ما أنت عليه من الإحرام إلى الفراغ من الحج، وما: موصولة وأنت مبتدأ حذف خبره أو خبر حذف مبتدؤه أي كالذي هو أنت أو ما زائدة ملغاة والكاف جارة وأنت ضمير مرفوع أنيب عن المجرور كقولهم ما أنا كأنت، والمعنى كن فيما يستقبل مماثلاً لنفسك فيما مضى أو ما كافة وأنت مبتدأ حذف خبره أي عليه أو كائن. قال البرماوي كالكرماني: وفي الحديث أن عليًا كان قارنًا لأن الدم إما على متمتع أو قارن وليس متمتعًا لأن قوله أمكث يدل على عدمه.
1559 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ "بَعَثَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى قَوْمٍ بِالْيَمَنِ. فَجِئْتُ وَهْوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قُلْتُ أَهْلَلْتُ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ: هَلْ مَعَكَ مِنْ هَدْيٍ؟ قُلْتُ: لاَ. فَأَمَرَنِي فَطُفْتُ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. ثُمَّ أَمَرَنِي فَأَحْلَلْتُ، فَأَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ قَوْمِي فَمَشَطَتْنِي أَوْ غَسَلَتْ رَأْسِي. فَقَدِمَ عُمَرُ -رضي الله عنه- فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، قَالَ اللَّهُ: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ

وَالْعُمْرَةَ} [البقرة: 196]. وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى نَحَرَ الْهَدْيَ". [الحديث 1559 - أطرافه في: 1565، 1724، 1795، 4346، 4397].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) بن واقد الفريابي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن قيس بن مسلم) بضم الميم وسكون السين الجدلي بفتح الجيم والدال الكوفي (عن طارق بن شهاب) البجلي وفي المغازي من رواية أيوب بن عائذ عن قيس بن مسلم سمعت طارق بن شهاب (عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (-رضي الله عنه- قال: بعثني -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في العاشرة من الهجرة قبل حجة الوداع (إلى قوم باليمن) ولأبي ذر: إلى قومي بياء الإضافة (فجئت وهو بالبطحاء) أي بطحاء مكة زاد في باب متى يحل المعتمر من رواية شعبة عن قيس وهو منيخ أي نازل بها (فقال:) عليه الصلاة والسلام.
(بما أهللت؟) بإثبات ألف ما الاستفهامية على القليل. قال أبو موسى (قلت: أهللت) وفي رواية شعبة: قلت لبيك بإهلال (كإهلال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال): (هل معك من هدي) (قلت: لا فأمرني فطفت بالبيت وبالصفا والمروة ثم أمرني فأحللت) من إحرامي (فأتيت امرأة من قومي) لم تسم المرأة. نعم في أبواب العمرة أنها امرأة من قيس، ويحتمل أن تكون محرمًا له (فمشطتني) بتخفيف الشين المعجمة أي سرحته بالمشط (أو غسلت رأسي) بالشك. ولمسلم: وغسلت بواو العطف ولم يذكر الحلق إما لكونه معلومًا عندهم أو لدخوله في أمره بالإحلال (فقدم) بكسر الدال أي جاء (عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه-) أي زمان خلافته لا في حجة الوداع كما بين في مسلم واختصره المؤلّف، ولفظ مسلم: ثم أتيت امرأة من قيس فقلت رأسي ثم أهللت بالحج

(3/122)


فكنت أفتي به الناس حتى كان في خلافة عمر -رضي الله عنه- فقال له رجل: يا أبا موسى أو يا عبد الله بن قيس رويدك بعض فتياك فإنك لا تدري ما أحدث أمير المؤمنين في النسك بعدك. فقال: يا أيها الناس من كنا أفتيناه فُتيا فليتئد فإن أمير المؤمنين قادم عليكم فأتموا به. قال: فقدم عمر فذكرت له ذلك (فقال: أن نأخذ بكتاب الله فإنه يأمرنا بالتمام)، أي بإتمام أفعالهما بعد الشروع فيهما (قال الله تعالى: {وأتموا الحج والعمرة لله} [البقرة: 196] قيل إتمامهما الإحرام بهما من دويرة أهله وهو مروي عن علي وابن عباس وسعيد بن جبير وطاوس وعند عبد الرزاق عن عمر من تمامهما أن يفرد كل واحد منهما من الآخر وأن يعتمر في غير أشهر الحج إن الله تعالى يقول الحج أشهر معلومات، (وأن نأخذ بسنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه) عليه الصلاة والسلام (لم يحل) من إحرامه (حتى نحر الهدي) بمنى، وظاهر كلام عمر هذا إنكار فسخ الحج إلى العمرة وأن نهيه عن التمتع إنما هو من باب ترك الأولى لا أنه منع ذلك منع تحريم وابطال قاله عياض. وقال النووي: والمختار أنه ينهى عن المتعة المعروفة التي هي الاعتمار في أشهر الحج ثم الحج من عامه وهو على التنزيه للترغيب في الإفراد ثم انعقد الإجماع على جواز التمتع من غير كراهة، وإنما أمر أبا موسى بالإحلال لأنه ليس معه هدي بخلاف علي حيث

أمره بالبقاء لأن معه الهدي مع أنهما أحرما كإحرامه، لكن أمر أبا موسى بالإحلال تشبيهًا بنفسه لو لم يكن معه هدي، وأمر عليًّا تشبيهًا به في الحالة الراهنة.
وفي الحديث صحة الإحرام المعلق وهو موضع الترجمة وبه أخذ الشافعية كما مرّ أول الباب.

33 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [البقرة: 197]: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، [البقرة: 197]: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: أَشْهُرُ الْحَجِّ شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَعَشْرٌ مِنْ ذِي الْحَجَّةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "مِنَ السُّنَّةِ أَنْ لاَ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ إِلاَّ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ". وَكَرِهَ عُثْمَانُ -رضي الله عنه- أَنْ يُحْرِمَ مِنْ خُرَاسَانَ أَوْ كَرْمَانَ.
(باب قول الله تعالى): ({الحج أشهر}) [البقرة: 197] أي وقت الحج أشهر فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه أي وقت الحج في أشهر لكن قال ابن عطية: من قدر الكلام في أشهر لزمه مع سقوط حرف الجر نصب الأشهر ولم يقرأ بنصبها أحد، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يلزم نصب الأشهر مع سقوط حرف الجر كما ذكره لأنه يرفع على الاتساع وهذا لا خلاف فيه عند البصريين أعني أنه إذا كان ظرف الزمان نكرة خبرًا عن المصادر فإنه يجوز عندهم فيه الرفع والنصب، وسواء كان لحدث مستغرقًا للزمان أو غير مستغرق. وأما الكوفيون فعندهم في ذلك تفصيل وهو أن الحدث إما أن يكون مستغرقًا للزمان فيرفع ولا يجوز فيه النصب أو غير مستغرق، فمذهب هشام أنه يجب فيه الرفع فتقول ميعادك يوم وثلاثة أيام. وذهب الفراء إلى جواز النصب والرفع كالبصريين، ونقل عن الفراء في هذا الموضع أنه لا يجوز نصب الأشهر لأن أشهرًا نكرة غير محصورة وهذا النقل مخالف لما نقل عنه فيمكن أن يكون له قولان قول كالبصريين والآخر كهشام انتهى.
وقال الشيخ أبو إسحاق في المهذّب: المراد وقت إحرام الحج لأن الحج لا يحتاج إلى أشهر فدل على أن المراد وقت الإحرام به والأشهر جمع شهر وليس المراد منه ثلاثة أشهر كوامل، ولكن المراد شهران وبعض الثالث فهو من إطلاق الكل وإرادة البعض كما حكى الفراء له اليوم يومان لم أرده قال وإنما هو يوم وبعض يوم آخر، وحكي عن العرب ما رأيته من خمسة أيام وإن كنت قد رأيته في اليوم الأول واليوم الخامس فلم يشمل الانتفاء خمسة الأيام جميعها، بل يجعل ما رأيته في بعضه وانتفت الرؤية في بعضه كأنه يوم كامل لم يره فيه أو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] قاله في الكشاف وتعقبه في البحر بأن ما ذكره الدعوى فيه عامة. وهو أن اسم الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد وهذا فيه النزاع والدليل الذي ذكره

خاص وهذا لا خلاف فيه، ولإطلاق الجمع في مثل ذلك على التثنية شروط ذكرت في النحو وأنه ليس من باب فقد صغت قلوبكما فلا يمكن أن يستدل به عليه.
({معلومات}) أي معروفات عند الناس لا تشك عليهم ({فمن فرض فيهن الحج}) أوجبه على نفسه بالنية عند الشافعية وبالتلبية أو سوق الهدي عند أبي حنيفة، وهو دليل على ما ذهب إليه الشافعي أن من أحرم بالحج لزمه الإتمام ({فلا رفث}) فلا جماع أو فلا فحش من الكلام ({ولا فسوق}) ولا خروج عن حدود الشرع بالسيئات

(3/123)


وارتكاب المحظورات ({ولا جدال}) ولا مراء مع الخدم والرفقة ({في الحج}) [البقرة: 197] في أيامه الثلاثة. وقرأ رفث وفسوق برفعهما منّونًا ابن كثير وأبو عمرو على جعل لا ليسية وهو خبر بمعنى النهي، أو على جعلهما جملتين حذف خبرهما، أو رفث مبتدأ وفسوق عطف عليه والخبر محذوف. وقرأ الباقون بالنصب بلا تنوين مبنيين مع لا الجنسية والجمهور على بناء جدال على الفتح للعموم.
({يسألونك}) [البقرة: 189] ولأبي ذر: وقوله يسألونك (عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج) جمع ميقات من الوقت والفرق بينه وبين المدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها والزمان مدة مقسومة والوقت الزمان المفروض لأمر.
(وقال ابن عمر:) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-) مما وصله ابن جرير الطبري والدارقطني من طريق ورقاء عن عبد الله بن دينار عنه: (أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة) فيدخل يوم النحر، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد. وقال الشافعي: لا يدخل يوم النحر وهو المصحح المشهور عنه. وقال مالك في المشهور عنه ذو الحجة بكماله لقوله تعالى: ({الحج أشهر معلومات}) وإنما تكون أشهرًا إذا كمل ذو الحجة، وليس المراد من كونها أشهر الحج باعتبار أن كل أفعاله جائزة فيها. ألا ترى أن الوقوف وطواف الزيادة وغيرهما غير جائز في شوال بل باعتبار أن بعض أفعاله يعتدّ بها فيها دون غيرها كما أن الأفاقي إذا قدم في شوال وطاف طواف القدوم وسعى بعده ينوب هذا السعي عن السعي الواجب في الحج.
(وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-:) مما وصله ابن خزيمة والدارقطني والحاكم (من السنة) أي من الشريعة (أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج) فلو أحرم به في غير أشهره كرمضان انعقد عمرة عند الشافعية لأن الإحرام شديد التعلق واللزوم فإذا لم يقبل الوقت ما أحرم به انصرف إلى ما يقبله وهو العمرة. وقال المالكية والحنفية: ينعقد حجًّا ولا يصح شيء من أفعاله إلا فيها لكنه يكره. قال الحنفية: لأنه لا يأمن في التقديم وقوع محظور. وقال المالكية: لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما أحرم به في أشهره.
(وكره عثمان) بن عفان (-رضي الله عنه- أن يحرم من خراسان) بضم الخاء المعجمة (أو كرمان) بكسر الكاف لأبي ذر وبفتحها لغيره وهذا وصله سعيد بن منصور ولفظه: حدّثنا هشيم يونس بن عبيد حدّثنا الحسن هو البصري أن عبد الله بن عامر أحرم من خراسان فلما قدم على عثمان لامه

فيما صنع وكرهه، ولأبي أحمد بن سيار في تاريخ مرو قال: لما فتح عبد الله بن عامر خراسان قال: لأجعلن شكري لله أن أخرج من موضعي هذا محرمًا فأحرم من نيسابور، فلما قدم على عثمان لامه. وفي تاريخ يعقوب بن أبي سفيان أن ذلك في السنة التي قتل فيها عثمان، ووجه الكراهة ما فيه من الحرج والضرر.
1560 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الْحَنَفِيُّ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ سَمِعْتُ الْقَاسِمَ بْنَ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ، وَلَيَالِي الْحَجِّ، وَحُرُمِ الْحَجِّ، فَنَزَلْنَا بِسَرِفَ. قَالَتْ: فَخَرَجَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ مَعَهُ هَدْيٌ فَأَحَبَّ أَنْ يَجْعَلَهَا عُمْرَةً فَلْيَفْعَلْ، وَمَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَلاَ. قَالَتْ: فَالآخِذُ بِهَا وَالتَّارِكُ لَهَا مِنْ أَصْحَابِهِ. قَالَتْ: فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ فَكَانُوا أَهْلَ قُوَّةٍ وَكَانَ مَعَهُمُ الْهَدْيُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْعُمْرَةِ. قَالَتْ: فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ يَا هَنْتَاهْ؟ قُلْتُ: سَمِعْتُ قَوْلَكَ لأَصْحَابِكَ فَمُنِعْتُ الْعُمْرَةَ. قَالَ: وَمَا شَأْنُكِ؟ قُلْتُ: لاَ أُصَلِّي. قَالَ: فَلاَ يَضِيرُكِ، إِنَّمَا أَنْتِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنَاتِ آدَمَ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْكِ مَا كَتَبَ عَلَيْهِنَّ، فَكُونِي فِي حَجَّتِكِ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَكِيهَا. قَالَتْ: فَخَرَجْنَا فِي حَجَّتِهِ حَتَّى قَدِمْنَا مِنًى فَطَهَرْتُ ثُمَّ خَرَجْتُ مِنْ مِنًى فَأَفَضْتُ بِالْبَيْتِ. قَالَتْ: ثُمَّ خَرَجَتْ مَعَهُ فِي النَّفْرِ الآخِرِ حَتَّى نَزَلَ الْمُحَصَّبَ وَنَزَلْنَا مَعَهُ، فَدَعَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أخْرُجْ بِأُخْتِكَ مِنَ الْحَرَمِ فَلْتُهِلَّ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ افْرُغَا ثُمَّ ائْتِيَا هَاهُنَا فَإِنِّي أَنْظُرُكُمَا حَتَّى تَأْتِيَانِي. قَالَتْ: فَخَرَجْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ وَفَرَغْتُ مِنَ الطَّوَافِ ثُمَّ جِئْتُهُ بِسَحَرَ فَقَالَ: هَلْ فَرَغْتُمْ؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ. فَآذَنَ بِالرَّحِيلِ فِي أَصْحَابِهِ، فَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَمَرَّ مُتَوَجِّهًا إِلَى الْمَدِينَةِ". ضَيْرُ مِنْ ضَارَ يَضِيرُ ضَيْرًا. وَيُقَالُ ضَارَ يَضُورُ ضَوْرًا، وَضَرَّ يَضُرُّ ضَرًّا.
وبالسند قال: (حدثنا محمد بن بشار) بفتح الموحدة وتشديد الشين المعجمة الملقب ببندار (قال: حدثني) بالإفراد (أبو بكر) عبد الكبير بن عبد المجيد (الحنفي) قال: (حدّثنا أفلح بن حميد) بهمزة مفتوحة ففاء ساكنة ثم حاء مهملة وحميد بضم الحاء المهملة وفتح الميم الأنصاري (قال: سمعت القاسم بن محمد) أي ابن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في أشهر الحج، وليالي الحج، وحرم الحج)، بضم الحاء والراء أي أزمنته وأمكنته وحالاته، وهذا موضع الترجمة فإنه يدل على أنه كان مشهورًا عندهم معلومًا. وللأصيلي فيما ذكره الزركشي كعياض: وحرم الحج بفتح الراء جمع حرمة أي ممنوعات الحج ومحرماته، (فنزلنا بسرف) بفتح السين المهملة وكسر الراء آخره فاء غير منصرف للعلمية والتأنيث اسم بقعة على عشرة أميال من مكة (قالت) عائشة (فخرج) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من قبته التي ضربت له (إلى أصحابه فقال:) لهم:
(من لم يكن منكم معه هدي فأحب أن يجعلها) أي حجته (عمرة فليفعل) أي العمرة (ومن كان

معه الهدي فلا) يفعل أي لا يجعلها عمرة فحذف الفعل المجزوم بلا الناهية، ولمسلم

(3/124)


قالت: قدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأربع مضين من ذي الحجة أو خمس فدخل علي وهو غضبان فقلت: من أغضبك أدخله الله النار؟ قال: أو ما شعرت أني أمرت الناس بأمر فإذا هم يترددون.
وفي حديث جابر عند البخاري فقال لهم: أحلوا من إحرامكم واجعلوا التي قدمتم بها متعة.
فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال: افعلوا ما أقول لكم فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم، ولكن لا يحل مني حرام حتى يبلغ الهدي محله ففعلوا. قال النووي: هذا صريح في أنه عليه الصلاة والسلام أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة أمر عزيمة وتحتيم بخلاف قوله من لم يكن معه هدي فأحب أن يجعلها عمرة فليفعل. قال العلماء: خيرهم أولاً بين الفسخ وعدمه ملاطفة لهم وإيناسًا بالعمرة في أشهر الحج لأنهم كانوا يرونها من أفجر الفجور ثم حتم عليهم بعد ذلك الفسخ وأمرهم أمر عزيمة وألزمهم إياه وكره تردّدهم في قبول ذلك ثم قبلوه وفعلوه إلا من كان معه هدي.
(قالت:) عائشة -رضي الله عنها- (فالآخذ بها) بمد الهمزة وكسر الخاء المعجمة والرفع على الابتداء (والتارك لها) عطف على سابقه والضميران للعمرة وخبر المبتدأ قولها (من أصحابه قالت: فأما رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورجال من أصحابه فكانوا أهل قوة وكان معهم الهدي فلم يقدروا على العمرة. قالت: فدخل عليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا أبكي) جملة حالية (فقال):
(ما يبكيك يا هنتاه؟) بفتح الهاء وسكون النون والهاء الأخيرة كذا ضبطه في الفرع كأصله، ونسبه السفاقسي لرواة أبي ذر وفي أخرى زيادة فتح النون وضم الهاء الأخيرة والسكون فيها هو الأصل لأنها للسكت، لكنهم شبهوها بالضمائر وأثبتوها في الوصل وضموها. ويقال: في التثنية هنتان وفي الجمع هنات وهنوات وفي المذكر هن وهنان وهنون، ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة فتقول يا هنة وأن تشبع الحركة فتصير ألفًا فتقول يا هناه. وقال الخليل: إذا دعوت امرأة فكنيت عن اسمها قلت يا هنة فإذا وصلتها بالألف الهاء وقفت عندها في النداء فقلت يا هنتاه ولا يقال إلا في النداء. قال: ومعنى يا هنتاه يا بلهاء كأنها نسبت إلى قلة المعرفة بمكايد الناس وشرودهم أو المعنى يا هذه.
(قلت: سمعت قولك لأصحابك بك فمنعت العمرة). أي أعمالها من الطواف والسعي وقد كانت قارنة (قال: (وما شأنك؟) قلت: لا أصلي) كنت عن الحيض بالحكم الخاص به وهو امتناع الصلاة وتأدبًا منها في الكناية لما في التصريح به من إخلال ما بالأدب، ولهذ والله أعلم استمر النساء إلى الآن على الكناية عن الحيض بحرمان الصلاة أي تحريمها، فظهر أثر أدبها -رضي الله عنها- في بناتها قاله ابن المنير.

(قال:) عليه الصلاة والسلام: (فلا يضيرك) بكسر الضاد وتخفيف المثناة التحتية من الضير وهو الضرر. قال العيني كالحافظ ابن حجر، وفي رواية غير الكشميهني: فلا يضرك بتشديد الراء من الضرر (إنما أنت امرأة من بنات آدم كتب الله عليك ما كتب عليهن) سلاها عليه الصلاة والسلام بذلك وخفف همها أي إنك لست مختصة بذلك بل كل بنات آدم يكون منهن هذا (فكوني في حجتك فعسى الله أن يرزقكيها) مفردة كذا في اليونينية وغيرها بباء متولدة من إشباع كسرة الكاف وهي في لسان المصريين شائعة قاله في المصابيح. وفي البرماوي كالكرماني يرزقكها بغير ياء قالا وفي بعضها بإشباع كسرة الكاف ياء والضمير للعمرة.
(قالت: فخرجنا في حجته حتى قدمنا منى فطهرت) بالطاء المهملة وفتح الهاء يوم السبت وهو يوم النحر في حجة الوداع وكان ابتداء حيضها يوم السبت أيضًا لثلاث خلون من ذي الحجة، (ثم خرجت من منى فأفضت بالبيت) أي طفت به طواف الإفاضة (قالت: ثم خرجت) بسكون الجيم وضم التاء. وفي اليونينية: بفتح الجيم وسكون التاء لا غير (معه) عليه الصلاة والسلاً (في النفر الأخر) بإسكان الفاء القوم ينفرون من منى والأخر بكسر الخاء وهو في اليوم الثالث عشر من ذي الحجة، وأما النفر

(3/125)


الأول ففي ثاني عشرة (حتى نزل) عليه الصلاة والسلام (المحصب) بضم الميم وفتح الحاء والصاد المشددة المهملتين آخره موحدة موضع متسع بين مكة ومنى وسمي به لاجتماع الحصباء فيه بحمل السيل لانهباطه وهو الأبطح وخيف بني كنانة وهو ما بين الجبلين إلى المقابر وليست المقابر منه. وفرق المحب الطبري بين الأبطح والبطحاء من حيث التذكير والتأنيث لا من حيث المكان فقال: والأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى فإذا أردت الوادي قلت الأبطح وإذا أردت البقعة قلت البطحاء (ونزلنا معه) فيه (فدعا عبد الرحمن بن أبي بكر) الصديق (فقال):
(أخرج) بضم الراء (بأختك) عائشة (من الحرم) إلى أدنى الحل لتجمع في النسك بين أرض الحل والحرم كما يجمع الحاج بينهما (فلتهلّ بعمرة) أي مكان العمرة التي كانت تريد حصولها منفردة غير مندرجة فمنعها الحيض منها. وقوله: فلتهلّ بسكون اللام وضم التاء من الإهلال وهو الإحرام ثم (افرغا) من العمرة وظاهره أن عبد الرحمن اعتمر مع أخته (ثم ائتيا هاهنا) أي المحصب (فإني أنظركما) بضم الظاء المعجمة بمعنى رواية أبي ذر عن الكشميهني انتظركما بزيادة مثناة فوقية من الانتظار كما في قوله تعالى: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] (حتى تأتياني) وفي بعض الأصول تأتيان بحذف الياء تخفيفًا وتخفيف النون وكسرة النون تدل على المحذوف. (قالت: فخرجنا) إلى التنعيم فأحرمنا بالعمرة (حتى إذا فرغت) منها (وفرغت) أيضًا (من الطواف) للوداع وحذف ذلك للعلم به فكل واحد من اللفظين مسلط على غير ما تسلط عليه الآخر، وهذا يرد على من زعم أن الراوي حرّف اللفظ أو غلط فيه وأن الأصل فرغت بلفظ الغائب تعني عائشة أخاها بدليل ما في أول الحديث أفرغا وما في آخره هل فرغتم.

وأجيب: بأنه ليس الذي في أوّله وآخره موجبًا لأن تقول فرغت وفرغ بل إنما عبرت عن حالها عن حاله، لكن قال الكرماني وتبعه البرماوي والعيني أنه في بعضها فرغ بلفظ الغائب والله أعلم.
(ثم جئته بسحر) قبيل الفجر الصادق. قال الزركشي وغيره بفتح الراء أي من ذلك اليوم فلا ينصرف للعلمية والعدل نحو جئته يوم الجمعة سحر انتهى.
قال في المصابيح: حكى الرضى خلافًا في صرفه مع إرادة التعيين، لكن حكى أن القول المشهور كونه غير منصرف وتحقق العدل فيه هو أن كل لفظ جنس أطلق وأريد فرد معين من أفراده فلا بد فيه من لام العهد سواء صار علمًا بالغلبة كالصعق والنجم أو لا نحو: {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 16] أخذًا من استقراء لغتهم، فثبت في سحر بذلك عدل محقق. وقال أبو حيان: تعينه أن يراد من يوم بعينه سواء ذكرت ذلك اليوم معه كجئتك (يوم الجمعة سحر أو لم تذكره كجئتك سحر وأنت تريد ذلك من يوم بعينه)، وسواء عرّفت ذلك اليوم كما مرّ أو نكرته نحو: جئتك يومًا سحر.
(فقال): عليه الصلاة والسلام لهما ومن معهما ممن اعتمر: (هل فرغتم)؟ من العمرة؟ أو قال لهما فقط على قول أن أقل الجمع اثنان. قالت عائشة: (فقلت) ولأبي ذر وابن عساكر: قلت: (نعم)، فرغنا منها. (فآذن) بهمزة ممدودة فذال معجمة مفتوحة مخففة فنون أي أعلم (بالرحيل في أصحابه)، وقيل أذن بتشديد الذال من غير مدّ (فارتحل الناس، فمر) عليه الصلاة والسلام حال كونه (متوجهًا إلى المدينة) ولما كان في قوله لا يضيرك روايتان هذه والثانية فلا يضرك أشار بقوله (ضير) الأجوف اليائي إلى أن مصدر لا يضيرك ضير، وأشار إلى أن فيه لغتين: إحداهما أن يكون (من ضار يضير ضيرًا) من باب يبيع بيعًا، وأشار إلى الثانية بقوله: (ويقال ضار يضور ضورًا) من باب: قال يقول قولاً، وأشار إلى الرواية الثانية بقوله: (وضرّ يضر ضرًا) بفتح العين في الماضي وضمها في المستقبل، وهذه الجملة من قوله ضير الخ ساقطة في رواية أبي ذر.
وفي حديث الباب التحديث والعنعنة والسماع والقول، ورواته الأوّلان بصريان والأخيران مدنيان، وأخرجه البخاري أيضًا ومسلم في الحج وكذا النسائي.

34 - باب التَّمَتُّعِ وَالإِقْرَانِ وَالإِفْرَادِ بِالْحَجِّ وَفَسْخِ الْحَجِّ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ
(باب التمتع) وهو تفعل من المتاع

(3/126)


وهو المنفعة وما تمتعت به يقال تمتعت بكذا واستمتعت به بمعنى والاسم منه المتعة وهي: أن يحرم من على مسافة القصر من حرم مكة بعمرة أوّلاً من ميقات بلده في أشهر الحج ثم يفرغ منها وينشئ حجًّا من مكة من عامها ولم يعد لميقات من المواقيت ولا

لمثله مسافة، وسمي تمتعًا لتمتع صاحبه بمحظورات الإحرام بينهما وخرج بالقيود المذكورة ما لو أحرم بالحج أوّلاً لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة إلى الحج} وما لو أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج وإن وقع أعمالها في أشهره لأنه لم يجمع بينهما في وقت الحج فأشبه الفرد، وما لو أحرم في أشهر الحج من الحرم ومن دون مسافة القصر لأنه من حاضري في المسجد الحرام، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وما لو أحرم بها من مسافة القصر فأكثر من الحرم ولم يحج من عامها أو حج من عامها وعاد قبل إحرامه به أو بعده وقبل التلبس بنسك إلى ميقات أو مثله مسافة ولو أقرب مما أحرم به بالعمرة وهذه القيود المذكورة إنما هي قيود للتمتع الموجب للدم لا في صدق اسم التمتع.
(والإقران) أن يجمع بينهما في إحرامه فتندرج أفعال العمرة في أفعال الحج أو يحرم بالعمرة ثم يدخل عليها الحج قبل الشروع في الطواف، فلو أحرم بالحج أوّلاً ثم أدخل عليه العمرة لم يصح على أصح قولي الشافعي لأنه لا يستفيد به شيئًا بخلاف إدخاله الحج على العمرة يستفيد به الوقوف والرمي والمبيت، ولأنه يمتنع إدخال الضعيف على القوي نعم صحح الإمام البلقيني في التدريب القول الآخر وجعله من أنواع القران فقال: والمختار جوازه لصحة ذلك من فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد قال: "خذوا مناسككم عني" قال ثم يمتد الجواز ما لم يشرع في طواف القدوم على الأرجح اهـ.
وقوله: الإقران كذا في رواية أبي ذر بالهمزة المكسورة قبل القاف الساكنة قال القاضي عياض: وهو خطأ من حيث اللغة، وقال السفاقسي: الإقران غير ظاهر لأن فعله ثلاثي وصوابه قرن. قال في التنقيح: لم يسمع في الحج أقرن ولا قرن في المصدر منه، وإنما هو قران مصدر قرن بين الحج والعمرة إذا جمع بينهما قال في المصابيح: أراد تخطئة البخاري لقصد المشاكلة بين الإقران والإفراد نحو: ارجعن مأزورات غير مأجورات اهـ.
ولأبي الوقت: والقران (والإفراد بالحج) بأن يحج ثم يعتمر أو يحرم بعمرة في غير أشهر الحج أو فيها على دون مسافة القصر من الحرم أو على مسافته منه ولم يحج عام العمرة أو يحج عامها ويعود إلى ميقات. نعم ما سوى الأولى تمتع لكن لا يوجب دمًا (وفسخ الحج) إلى العمرة أي قلبه عمرة بأن يحرم به ثم يتحلل منه بعمل عمرة فيصير متمتعًا (لمن لم يكن معه هدي) وجوّزه أحمد وطائفة من أهل الظاهر. وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وجماهير العلماء من السلف والخلف: أنه خاص بالصحابة وبتلك السنة ليخالفوا ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج واعتقادهم أن إيقاعها فيه من أفجر الفجور.
ودليل التخصيص حديث الحرث بن بلال عن أبيه المروي عند أبي داود والنسائي وابن ماجة قال: قلت: يا رسول الله أرأيت فسخ الحج إلى العمرة لنا خاصة أم للناس عامة؟ فقال (بل لكم خاصة) وأجاب القائلون بالأوّل بأن حديث الحرث بن بلال ضعيف، فإن الدارقطني قال: إنه تفرّد
به عبد العزيز بن محمد الدراوردي عنه. وقال أحمد: إنه لا يثبت ولا نرويه عن الدراوردي ولا يصح حديث في الفسخ أنه كان لهم خاصة وساق في البخاري قال: شهدت عثمان وعليًّا -رضي الله عنهما- وعثمان ينهى عن المتعة أي عن فسخ الحج إلى العمرة لأنه كان مخصوصًا بتلك السنة وقال: مرة حديث بلال لا أقول به لا نعرف هذا الرجل ولم يروه إلا الدراوردي، وأما الفسخ فرواه أحد وعشرون صحابيًا وأين يقع بلال بن الحرث منهم؟ وأجاب النووي بأنه لا معارضة بينه وبينهم حتى يرجح لأنهم أثبتوا الفسخ للصحابة والحرث يوافقهم وزاد زيادة لا تخالفهم.
1561 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ نُرَى إِلاَّ أَنَّهُ الْحَجُّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا تَطَوَّفْنَا بِالْبَيْتِ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ أَنْ يَحِلَّ، فَحَلَّ مَنْ لَمْ يَكُنْ سَاقَ الْهَدْيَ وَنِسَاؤُهُ لَمْ يَسُقْنَ فَأَحْلَلْنَ. قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فَحِضْتُ، فَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، يَرْجِعُ النَّاسُ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ وَأَرْجِعُ أَنَا بِحَجَّةٍ. قَالَ: وَمَا طُفْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا مَكَّةَ؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَاذْهَبِي مَعَ أَخِي كِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ، ثُمَّ مَوْعِدُكِ كَذَا وَكَذَا. قَالَتْ صَفِيَّةُ: مَا أُرَانِي إِلاَّ حَابِسَتَهُمْ. قَالَ: عَقْرَى حَلْقَى، أَوَ مَا طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: قُلْتُ بَلَى. قَالَ: لاَ بَأْسَ، انْفِرِي. قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فَلَقِيَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ مُصْعِدٌ مِنْ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ عَلَيْهَا، أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهْوَ مُنْهَبِطٌ مِنْهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا عثمان) بن أبي شيبة قال: (حدّثنا جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن إبراهيم) النخعي (عن الأسود) بن زيد (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت):
(خرجنا

(3/127)


مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في أشهر الحج (ولا نرى) بضم النون أي لا نظن (إلا أنه الحج) قال الزركشي: يحتمل أن ذلك كان اعتقادها من قبل أن تهل ثم أهلت بعمرة، ويحتمل أن تريد حكاية فعل غيرها من الصحابة فإنهم كانوا لا يعرفون إلا الحج ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج فخرجوا محرمين بالذي لا يعرفون غيره. اهـ.
وتعقبه الدماميني بأن الظاهر غير الاحتمالين المذكورين، وهو أن مرادها لا أظن أنا ولا غيري من الصحابة إلا أنه الحج فأحرمنا به هذا ظاهر اللفظ اهـ.
قلت: هذا ليس بظاهر لأن قولها: لا نرى إلا أنه الحج ليس صريحًا في إهلالها بالحج فليتأمل. نعم في رواية أبي الأسود عنها كما سيأتي إن شاء الله تعالى مهلين بالحج، ولمسلم: لبّينا بالحج وهذا ظاهره أنها مع غيرها من الصحابة كانوا أوّلاً محرمين بالحج، لكن في رواية عروة عنها في هذا الباب: فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهلّ بحجة وعمرة ومنا من أهلّ بالحج، فيحمل الأوّل

على أنها ذكرت ما كانوا يعهدونه من ترك الاعتماد في أشهر الحج، ثم بين لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجوه الإحرام وجوّز لهم الاعتمار في أشهر الحج. وأما عائشة نفسها فسيأتي إن شاء الله تعالى في أبواب العمرة وفي حجة الوداع من المغازي من طريق هشام بن عروة عن أبيه عنها في أثناء هذا الحديث قالت: وكنت ممن أهلّ بعمرة، وقد زعم إسماعيل القاضي وغيره أن الصواب رواية أبي الأسود والقاسم وعمرة عنها أنها أهلت بالحج مفردًا ونسب عروة إلى الغلط.
وأجيب: بأن قول عروة عنها أنها أهلت بعمرة صريح، وأما قول أبي الأسود وغيره عنها لا نرى إلا الحج صريحًا في إهلالها بحج مفرد فالجمع بينهما ما سبق من غير تغليط عروة وهو أعلم الناس بحديثها، وقد وافقه جابر بن عبد الله عند مسلم وطاوس ومجاهد عنها.
(فلما قدمنا) مكة (تطوّفنا بالبيت)، تعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه غيرها لأنها لم تطف بالبيت ذلك الوقت لأجل حيضها، (فأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من لم يكن ساق الهدي أن يحل) من الحج بعمل العمرة وياء يحل مضمومة من الإحلال والذي في اليونينية: بفتحها لا غير، والفاء في فأمر للتعقيب فيدل على أن أمره عليه الصلاة والسلام بذلك كان بعد الطواف، وسبق أن أمرهم به بسرف، فالثاني تكرار للأول وتأكيد له فلا منافاة بينهما (فحل) بعمل العمرة (من لم يكن ساق الهدي) وهذا هو فسخ الحج المترجم به، وجوّزه أحمد وبعض أهل الظاهر وخصه الأئمة الثلاثة والجمهور بالصحابة في تلك السنة كما سبق. (ونساؤه) عليه الصلاة والسلام (لم يسقن) الهدي (فأحللن) وعائشة منهم لكن منعها من التحلل كونها حاضت ليلة دخولها مكة وكانت محرمة بعمرة وأدخلت عليها الحج فصارت قارنة كما مرّ.
(قالت عائشة -رضي الله عنها-: فحضت) بسرف (فلم أطف بالبيت) طواف العمرة لمانع الحيض وأما طواف الحج فقد قالت فيه كما مر ثم خرجت من منى فأفضت بالبيت، (فلما كانت ليلة الحصبة) بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين أي ليلة المبيت بالمحصب (قالت يا رسول الله)، الأصل أن تقول قلت لكنه على طريق الالتفات (يرجع الناس بعمرة) منفردة عن حجة (وحجة) منفردة عن عمرة (وأرجع أنا بحجة) ليس لي عمرة منفردة عن حج حرصت نجذلك على تكثير الأفعال كما حصل لسائر أمهات المؤمنين وغيرهن من الصحابة الذين فسخوا الحج إلى العمرة وأتموا العمرة وتحللوا منها قبل يوم التروية وأحرموا بالحج يوم التروية من مكة فحصل لهم حجة منفردة وعمرة منفردة، وأما عائشة فإنما حصل لها عمرة مندرجة في حجة بالقران، فأرادت عمرة مفردة كما حصل لبقية الناس، ولأبي الوقت من غير اليونينية: وأرجع أنا بالحجة وللكشميهني في بعض النسخ. وارجع لي بحجة. (قال): عليه الصلاة والسلام:
(وما طفت ليالي قدمنا مكة) قالت عائشة: (قلت لا: قال) عليه الصلاة والسلام (فاذهبي مع أخيك) عبد الرحمن (إلى التنعيم فأهليّ) أي أحرمي (بعمرة) أمرها بذلك تطييبًا لقلبها (ثم موعدك

كذا وكذا) في

(3/128)


الرواية السابقة في باب: قول الله تعالى: {الحج أشهر معلومات} ثم ائتيا هاهنا أي المحصب (قالت صفية:) بنت حيي أم المؤمنين -رضي الله عنها- (ما أراني) بضم الهمزة أي ما أظن نفسي (إلا حابستهم.) بالنصب أي القوم عن المسير إلى المدينة لأني حضت ولم يطف بالبيت، فلعلهم بسببي يتوقفون إلى زمان طوافي بعد الطهارة، وإسناد الحبس إليها مجاز. وفي نسخة: حابستكم بكاف الخطاب وكانت صفية كما سيأتي إن شاء الله تعالى قد حاضت ليلة النفر فأراد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها ما يريد الرجل من أهله وذلك قبيل وقت النفر لا عقب الإفاضة. قالت عائشة: يا رسول الله إنها حائض.
(قال): عليه الصلاة والسلام (عقرا حلقا،) بفتح الأول وسكون الثاني فيهما وألفهما مقصورة للتأنيث فلا ينوّنان ويكتبان بالألف هكذا يرويه المحدثون حتى لا يكاد يعرف غيره وفيه خمسة أوجه.
أولها: إنهما وصفان لمؤنث بوزن فعلى أي عقرها الله في جسدها وحلقها أي أصابها وجع في حلقها أو حلق شعرها فهي معقرة محلوقة وهما مرفوعان خبرا المبتدأ محذوف أي هي.
ثانيها: كذلك إلا أنها بمعنى فاعل أي أنها تعقر قومها وتحلقهم بشؤمها أي تستأصلهم فكأنه وصف من فعل متعدّ وهما مرفوعان أيضًا بتقدير هي وبه قال الزمخشري.
ثالثها: كذلك إلا أنه جمع كجريح وجرحى أي ويكون وصف المفرد بذلك مبالغة.
رابعها: أنه وصف فاعل لكن بمعنى لا تلد كعاقر وحلقى أي مشؤومة. قال الأصمعي: يقال أصبحت أمه حالقًا أي ثاكلاً.
خامسها: إنهما مصدران كدعوى والمعنى عقرها الله وحلقها أي حلق شعرها أو أصابها بوجع في حلقها كما سبق قاله في المحكم فيكون منصوبًا بحركة مقدّرة على قاعدة المقصور وليس بوصف.
وقال أبو عبيدة: الصواب عقرًا حلقًا بالتنوين فيهما. قيل له: لم لا يجوز فعلى؟ قال: لأن فعلى يجيء نعتًا ولم يجيء في الدعاء. وهذا دعاء. وقال في القاموس: عقرا وحلقا وينوّنان. وفي الصحاح وربما قالوا عقرا وحلقا بلا تنوين، وحاصله جواز الوجهين فالتنوين على أنه مصدر منصوب كسقيًا وتركه إما على أنه مصدر كما في المحكم أو وصف على بابه فيكون مرفوعًا كما مرّ، فالجملة على هذا خبرية وعلى ما قبله دعائية. وفي القاموس كالمحكم إطلاق العقرا على الحائض وكأن العقر بمعنى الجرح لما كان فيه سيلان دم سمي سيلان الدم بذلك، وعلى كل تقدير فليس المراد حقيقة ذلك لا في الدعاء ولا في الوصف بل هي كلمة اتسعت فيها العرب فتطلقها ولا تريد حقيقة معناها فهي كتربت يداه ونحو ذلك.
(أو ما طفت يوم النحر؟) طواف الإفاضة (قالت): صفية (قلت: بلى) طفت (قال) عليه الصلاة والسلام: (لا بأس، انفري). بكسر الفاء أي ارجعي واذهبي إذ طواف الوداع ساقط عن

الحائض. (قالت عائشة -رضي الله عنها-: فلقيني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بالمحصب (وهو مصعد) بضم أوله وكسر ثانيه أي مبتدئ السير (من مكة وأنا منهبطة عليها أو أنا مصعدة وهو منهبط منها) بالشك من الراوي والواو في وهو وأنا للحال.
ورواة هذا الحديث كلهم كوفيون، وأخرجه البخاري أيضًا ومسلم في الحج وكذا أبو داود والنسائي.
1562 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، وَأَهَلَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحَجِّ. فَأَمَّا مَنْ أَهَلَّ بِالْحَجِّ أَوْ جَمَعَ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لَمْ يَحِلُّوا حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ".
وبه قال (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل) يتيم عروة الأسدي (عن عروة بن الزبير) بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت):
(خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام حجة الوداع فمنا من أهل بعمرة) فقط (ومنا من أهل بحجة وعمرة) جمع بينهما، ولأبي ذر: بحج وعمرة (ومنا من أهلّ بالحج) فقط وكانوا أوّلاً لا يعرفون إلا الحج، فبين لهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجوه الإحرام وجوّز لهم الاعتمار في أشهر الحج. والحاصل من مجموع الأحاديث أن الصحابة -رضي الله عنهم- كانوا ثلاثة أقسام: قسم أحرموا بحج وعمرة أو بحج ومعهم الهدي، وقسم بعمرة ففرغوا منها ثم أحرموا بالحج، وقسم بحج ولا هدي معهم فأمرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يقلبوه عمرة وهو معنى

(3/129)


فسخ الحج إلى العمرة. وأما عائشة -رضي الله عنها- فكانت أهلت بعمرة ولم تسق هديًا ثم أدخلت عليها الحج كما مرّ (وأهل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالحج) مفردًا ثم أدخل عليه العمرة (فأما من أهلّ بالحج) فقط (أو جمع الحج والعمرة) كذا في اليونينية مرقوم على أو علامة السقوط لأبي الوقت (لم يحلوا) بفتح الياء في اليونينية، ولأبي الوقت: فلم يحلوا (حتى كان يوم النحر).
1563 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ مَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَ "شَهِدْتُ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا -رضي الله عنهما-، وَعُثْمَانُ يَنْهَى عَنِ الْمُتْعَةِ وَأَنْ يُجْمَعَ بَيْنَهُمَا، فَلَمَّا رَأَى عَلِيٌّ، أَهَلَّ بِهِمَا: لَبَّيْكَ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ، قَالَ: مَا كُنْتُ لأَدَعَ سُنَّةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَوْلِ أَحَدٍ". [الحديث 1563 - طرفه في: 1569].

وبه قال: (حدّثنا) بالجمع، ولابن عساكر: حدثني (محمد بن بشار) بفتح الموحدة والمعجمة المشدّدة المعروف ببندار العبدي البصري قال: (حدّثنا غندر) هو محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الحكم) بفتحتين ابن عتيبة بالمثناة الفوقية والموحدة مصغرًا الفقيه الكوفي (عن) زين العابدين (عليّ بن حسين) بضم الحاء (عن مروان بن الحكم) بفتحتين ابن أبي العاصي بن أمية بن عبد الملك الأموي المدني ولي الخلافة في آخر سنة أربع وستين ومات سنة خمس في رمضان ولا يثبت له صحبة (قال: شهدت عثمان وعليًا -رضي الله عنهما-) بعسفان (وعثمان ينهى عن المتعة) بسكون التاء وفي اليونينية بفتحها أي عن فسخ الحج إلى العمرة لأنه كان مخصوصًا بتلك السنة التي حج فيها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو عن التمتع المشهور والنهي للتنزيه ترغيبًا في الإفراد (و) ينهى أيضًا نهي تنزيه (أن يجمع بينهما) بضم الياء وسكون الجيم وفتح الميم وضمير الاثنين في بينهما عائد على الحج والعمرة والواو في وأن للعطف فيكون النهي واقعًا على التمتع والقران.
وقوله في فتح الباري: ويحتمل أن تكون تفسيرية وهو على ما تقدم أن السلف كانوا يطلقون على القران تمتعًا. تعقبه في عمدة القارئ بأنه لا إجمال في المعطوف عليه حتى يقال إنها تفسيرية قال: وهو قد ردّ على نفسه كلامه بقوله: إن السلف كانوا يطلقون على القران تمتعًا فإذا كان كذلك يكون عطف التمتع على المتعة وهو غير جائز انتهى.
(فلما رأى عليّ)، -رضي الله عنه- النهي الواقع من عثمان عن المتعة والقران (أهلّ بهما): أي بالحج والعمرة حال كونه قائلاً: (لبّيك بعمرة وحجة) وإنما فعل ذلك خشية أن يحمل غيره النهي على التحريم فأشاع ذلك، ولم يخف على عثمان أن التمتع والقران جائزان وإنما نهى عنهما ليعمل بالأفضل كما وقع لعمر فكل مجتهد مأجور ولا يقال: إن هذه الواقعة دليل المسألة اتفاق أهل العصر الثاني بعد اختلاف أهل العصر الأول وإن ذكره ابن الحاجب وغيره لأن نهي عثمان عنه إن كان المراد به الاعتمار في أشهر الحج قبل الحج، فلم يستقر الإجماع عليه لأن الحنفية يخالفون فيه، وإن كان المراد به فسخ الحج إلى العمرة فكذلك لأن الحنابلة يخالفون فيه على أن الظاهر كما مرّ أن عثمان ما كان يبطله وإنما كان يرى الإفراد أفضل منه. وفي رواية النسائي ما يشعر بأن عثمان رجع عن النهي ولفظه: نهى عثمان عن التمتع فلبى عليّ وأصحابه بالعمرة فلم ينههم عثمان فقال له عليّ: ألم تسمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تمتع؟ قال: بلى.
وزاد مسلم هنا فقال عثمان: تراني أنهي الناس وأنت تفعله؟ (قال) عليّ: (ما كنت لأدع سنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقول أحد). وموضع الترجمة قوله أهلّ بهما.
1564 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الأَرْضِ، وَيَجْعَلُونَ الْمُحَرَّمَ صَفَرًا، وَيَقُولُونَ: إِذَا بَرَأَ الدَّبَرْ، وَعَفَا الأَثَرْ، وَانْسَلَخَ صَفَرْ، حَلَّتِ الْعُمْرَةُ لِمَنِ

اعْتَمَرْ. قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ صَبِيحَةَ رَابِعَةٍ مُهِلِّينَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً، فَتَعَاظَمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْحِلِّ؟ قَالَ: حِلٌّ كُلُّهُ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد قال: (حدّثنا ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه) طاوس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كانوا) أي أهل الجاهلية (يرون) بفتح الياء أي يعتقدون. وقال فى المصابيح كالتنقيح وغيره بضمها أي يظنون (أن العمرة) أي الإحرام بها (في أشهر الحج) شوّال وذي القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة النحر أو عشر أو ذي الحجة بكماله على الخلاف السابق (من أفجر الفجور) من باب: جدّ جدّه وشعر شاعر، والفجور الانبعاث في المعاصي فجر يفجر من باب نصر ينصر أي من أعظم الذنوب (في الأرض)، وهذا من مبتدعاتهم الباطلة التي لا أصل لها. وسقط حرف الجر في رواية أبي الوقت فأفجر نصب على المفعولية، ولابن حبان من طريق أخرى عن ابن

(3/130)


عباس قال: والله ما أعمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عائشة في ذي الحجة إلا ليقطع بذلك أمر الشرك، فإن هذا الحي من قريش ومن دان دينهم كانوا يقولون فذكر نحوه. قال في الفتح: فعرف بهذا تعيين المعتمدين، (ويجعلون) أي يسمون (المحرّم صفرًا)، بالتنوين والألف كذا رأيته في ثلاثة أصول من فروع اليونينية لأنه مصروف. قال النووي كعياض بلا خلاف. نعم هو في بعض الأصول صفر بفتح الراء من غير ألف ولا تنوين وكذا هو في أصل الدمياطي الحافظ. وقال الحافظ ابن حجر: إنه كذلك في جميع الأصول من الصحيحين، وظاهره أنه لم يقف على اليونينية لكن رأيت خطه الكريم بالتبليغ على الفروع في غير ما موضع والله أعلم.
وقال النووي: كان ينبغي أن يكتب بالألف ولكن على تقدير حذفها لا بد من قراءته منصوبًا لأنه مصروف بلا خلاف انتهى. وهذا جار على لغة ربيعة لأنهم يكتبون المنصوب بغير ألف فلا يلزم منه أن لا يصرف فيقرأ بغير ألف، لكن حكى صاحب الحكم عن أبي عبيدة أنه كان لا يصرفه فقيل له لا يمتنع الصرف حتى تجتمع علتان فما هما؟ قال: المعرفة والساعة. وفسر المطرزي الساعة بالزمان لأن الأزمنة ساعات والساعات مؤنثة، والمعنى أنهم يجعلون صفرًا من الأشهر الحرم ولا يجعلون المحرم منها لئلا تتوالى عليهم ثلاثة أشهر محرمة فيضيق عليهم ما اعتادوه من الغارة بعضهم على بعض فضللهم الله بذلك فقال: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة: 37]، أي إنما تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر قال المفسرون: كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرًا حتى رفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرد العدد ويحرمونه عامًا فيتركونه على حرمته. وقيل: إن أول من أحدث ذلك جنادة بن عوف الكناني كان يقوم على جمل في الموسم فينادي: إن آلهتكم قد أحلت لكم الحرم فأحلوه، ثم ينادي في القبائل: إن آلهتكم قد حرمت عليكم الحرم فحرموه، وقيل القلمس واسمه حذيفة بن عبيد الكناني وقيل غير ذلك. وقال ابن دريد: الصفران شهران من السنة سمي أحدهما في الإسلام المحرم وقد سمي بذلك لإصفار مكة من

أهلها. وقال الفراء: لأنهم كانوا يخلون البيوت فيه لخروجهم إلى البلاد، وقيل كانوا يزيدون في كل أربع سنين شهرًا يسمونه صفرًا الثاني فتكون السنة ثلاثة عشر شهرًا، ولذلك قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "السنة اثنتا عشر شهرًا" وكانوا يتطيرون ويرون أن الآفات فيه واقعة.
(ويقولون: إذا برأ) بفتح الموحدة والراء من غير همزة في اليونينية. وفي المصابيح كالتنقيح بالهمزة موافقة لكثير من الأصول أي أفاق (الدبر)، بفتح الدال المهملة والموحدة الجرح الذي يكون في ظهر الإبل من اصطكاك الأقتاب (وعفا الأثر)، أي ذهب أثر سير الحاج من الطريق وانمحى بعد رجوعهم بوقوع الأمطار وغيرها لطول الأيام أو ذهب أثر الدبر، ولأبي داود: وعفا الوبر بالواو أي كثر وبر الإبل الذي حلق بالرحال، (وانسلخ صفر) الذي هو المحرم في نفس الأمر وسموه صفرًا أي إذا انقضى وانفصل شهر صفر (حلت العمرة لمن اعتمر). بالسكون في الأربعة وذلك لأنهم لما جعلوا المحرم صفر ألزم منه أن تكون السنة ثلاثة عشر شهرًا، والمحرم الذي سموه صفرًا آخر السنة وآخر أشهر الحج على طريق التبعية إذ لا يبرأ دبر إبلهم في أقل من هذه المدة، وهي ما بين أربعين يومًا إلى خمسين يومًا غالبًا، وجعلوا أول أشهر الاعتمار شهر المحرم الذي هو الأصل صفر، والراء التي تواطأت عليها الفواصل في الدبر والثلاثة بعد ساكنة للسجع، ولو حركت فات الغرض المطلوب من السجع.
(قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه) أي فقدم فأسقط فاء العطف في هذه الرواية وهي ثابتة عنده في أيام الجاهلية من رواية مسلم بن إبراهيم عن وهيب بن خالد كمسلم في صحيحه من طريق بهز بن أسد عن وهيب أيضًا (صبيحة) ليلة (رابعة) من ذي الحجة يوم الأحد حال كونهم (مهلين

(3/131)


بالحج) أي ملبين به كما فسر في رواية إبراهيم بن الحجاج ولفظه: وهم يلبون بالحج ولا يلزم من إهلاله عليه الصلاة والسلام بالحج أن لا يكون قارنًا فلا حجة فيه لمن قال: إنه عليه الصلاة والسلام كان مفردًا (فأمرهم) عليه الصلاة والسلام (أن يجعلوها) أي يقلبوا الحجة (عمرة)، ويتحللوا بعملها فيصيروا متمتعين، وهذا الفسخ خاص بذاك الزمن خلافًا لأحمد كما مرّ غير مرة. (فتعاظم) وفي رواية إبراهيم بن الحجاج: فكبر (ذلك) الاعتمار في أشهر الحج (عندهم) لما كانوا يعتقدونه أولاً من أن العمرة فيها من أفجر الفجور (فقالوا): بعد أن رجعوا عن اعتقادهم (يا رسول الله أي الحل؟) أي هل هو الحل العام لكل ما حرم بالإحرام حتى الجماع أو حلّ خاص لأنهم كانوا محرمين بالحج؟ وكأنهم كانوا يعرفون أن له تحللين (قال): عليه الصلاة والسلام:
(حل كله) أي حل يحل فيه كل ما يحرم على المحرم حتى غشيان النساء، لأن العمرة ليس لها إلا تحلل واحد. وعند الطحاوي أي الحل يحل؟ قال: الحل كله.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في أيام الجاهلية، ومسلم في الحج وكذا النسائي.

1565 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ: "قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَمَرَهُ بِالْحِلِّ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي الزمن قال: (حدّثنا غندر) محمد بن جعفر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قيس بن مسلم) بضم الميم وسكون السين الجدلي (عن طارق بن شهاب) البجلي (عن أبي موسى) الأشعري (-رضي الله عنه- قال):
(قدمت) من اليمن (على النبي) وهو بالبطحاء فقال: بما أهللت؟ قلت أهللت بإهلال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: هل معك من هدي؟ قلت: لا. (فأمره بالحل) هو على طريق الالتفات أو ذكره الراوي بالمعنى لا بحكاية لفظه، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: فأمرني على الأصل، وقد أورده المؤلّف هنا مختصرًا: قدمت على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأمره أو فأمرني بالحل، وقد سبق عنده تامًا قبل بباب باللفظ الذي ذكرته هنا.
1566 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ ح. وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ -رضي الله عنهم- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهَا قَالَتْ "يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ؟ قَالَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي، وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ". [الحديث 1566 - أطرافه في: 1697، 1725، 4398، 5916].
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أويس الأصبحي المدني (قال: حدثني) بالإفراد (مالك) الإمام قال المؤلّف أيضًا (ح).
(وحدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر) بن الخطاب (عن حفصة) -رضي الله عنهم- (زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها قالت):
(يا رسول الله ما شأن الناس حلوا) من الحج (بعمرة) أي بعملها لأنهم فسخوا الحج إلى العمرة فكان إحرامهم بالعمرة سببًا لسرعة حلهم "ولم تحلل" بفتح أوله وكسر ثالثه (أنت من عمرتك؟) أي المضمومة إلى الحج فيكون قارنًا كما هو في أكثر الأحاديث. وحينئذ فلا تمسك به لمن قال إنه عليه الصلاة والسلام كان متمتعًا لكونه عليه الصلاة والسلام أقر على أنه كان محرمًا بعمرة لأن اللفظ محتمل للتمتع والقران، فتعين بقوله عليه الصلاة والسلام في رواية عبيد الله بن عمر عند الشيخين حتى أحل من الحج أنه كان قارنًا ولا يتجه القول بأنه كان متمتعًا لأنه لا جائز أن يقال: إنه استمر على العمرة خاصة ولم يحرم بالحج أصلاً لأنه يلزم منه أنه لم يحج تلك السنة وهذا لا يقاله أحد.
وقد روي عنه وأنه كان قارنًا سعيد بن المسيب كما في البخاري، وأنس في الصحيحين وعمران بن حصين في مسلم، وعمر بن الخطاب في البخاري، والبراء في سنن أبي داود، وعلي في
سنن النسائي، وسراقة وأبو طلحة عند أحمد، وأبو سعيد وقتادة عند الدارقطني، وابن أبي أوفى عند البزار والإفراد أي: وروى الإفراد ابن عمر وجابر في الصحيحين وابن عباس في مسلم، وجمع بين القولين بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أولاً مفردًا ثم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج، فعمدة رواة الإفراد أول الإحرام وعمدة رواة القران آخره، وأما من روى أنه كان معتمرًا كابن عمر وعائشة وأبي موسى الأشعري وابن عباس في الصحيحين وعمران بن حصين في مسلم، فأراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع وقد انتفع بالاكتفاء بفعل واحد. ويؤيد ذلك أنه لم يعتمر في تلك السنة عمرة منفردة ولو جعلت حجته منفردة لكان غير معتمر في تلك السنة ولم يقل أحد أن الحج وحده أفضل من القران وبهذا الجمع تنتظم الأحاديث. وقال إمامنا الشافعي -رضي الله عنه- في كتاب اختلاف

(3/132)


الحديث: معلوم في لغة العرب جوازًا إضافة الفعل إلى الأمر به كجواز إضافته إلى الفاعل كقولك: بنى فلان دارًا إذا أمر ببنائها، وضرب الأمير فلانًا! إذا أمر بضربه، ورجم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماعزًا، وقطع سارق رداء صفوان وإنما أمر بذلك ومثله كثير في الكلام. وكان أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منهم القارن والمفرد والمتمتع وكل منهم يأخذ عنه أمر نسكه ويصدر عن فعله، فجاز أن تضاف إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على معنى أنه أمر بها وأذن فيها اهـ.
وقد أجمع العلماء كما قاله النووي وغيره على جواز الأنواع الثلاثة: الإفراد والتمتع والقران، واختلفوا في أيها أفضل بحسب اختلافهم فيما فعله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع. ومذهب الشافعية والمالكية أن الإفراد أفضل لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اختاره أولاً، ولأن رواته أخص به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذه الحجة فإن منهم جابرًا وهو أحسنهم سياقًا لحجه عليه الصلاة والسلام، ومنهم ابن عمر وقد قال: كنت تحت ناقته عليه الصلاة والسلام يمسني لعابها أسمعه يلبي بالحج، وعائشة وقربها منه عليه الصلاة والسلام واطلاعها على باطن أمره وعلانيته كله معروف مع فقهها، وابن عباس وهو بالمحل المعروف من الفقه والفهم الثاقب، ولأن الخلفاء الراشدين بعد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أفردوا الحج وواظبوا عليه وما وقع في الاختلاف عن علي وغيره فإنما فعلوه لبيان الجواز، وإنما أدخل النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العمرة على الحج لبيان جواز الاعتمار في أشهر الحج، ثم إن الأفضل بعد الإفراد التمتع ثم القران. نعم القران أفضل من الإفراد للذي لا يعتمر في سنته عندنا، لكن صرح القاضي حسين والمتولي بترجيح الإفراد ولو لم يعتمر في تلك السنة وقال أحمد وآخرون: أفضلها التمتع ثم الإفراد ثم القران، واحتج لترجيح التمتع بأنه عليه الصلاة والسلام تمناه بقوله: لو استقبلت من أمري ما استدبرت لم أسق الهدي ولجعلتها عمرة.
وأجاب الشافعية عن ذلك: بأن سببه أن من لم يكن معه هدي أمروا بجعلها عمرة فحصل لهم حزن حيث لم يكن معهم هدي فيوافقون النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في البقاء على الإحرام، فتأسف عليه الصلاة والسلام حينئذ على فوات موافقتهم تطييبًا لنفوسهم ورغبة فيما فيه موافقتهم لا أن التمتع دائمًا أفضل قال القاضي حسين: ولأن ظاهر هذا الحديث غير مراد بالإجماع لأن ظاهره أن سوق الهدي يمنع

انعقاد العمرة وقد انعقد الإجماع على خلافه. وقال أبو حنيفة: القران ثم التمتع ثم الإفراد واحتج لترجيح القران بما سبق من الأحاديث، وبقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] وقالوا: إن الدم الذي على القارن ليس دم جبران بل هو دم عبادة والعبادة المتعلقة بالبدن والمال أفضل من المختصة بالبدن.
وأجاب أصحابنا عن أحاديث القرآن بأنها مؤولة، وبأن أحاديث الإفراد أكثر وأرجح وعن الآية الكريمة بأنه ليس فيها إلا الأمر بإتمامها ولا يلزم منه قرنهما في الفعل فهو كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وبأن الدم الذي على القارن دم جبران لا نسك لأن الصيام يقوم مقامه عند العجز، ولو كان دم نسك لم يقم مقامه كالأضحية وعن أحمد فيما حكاه المروزي عنه: إن ساق الهدي فالقران أفضل وإن لم يسقه فالتمتع أفضل وعن بعضهم فيما حكاه عياض أن الأنواع الثلاثة سواء في الفضيلة.
تنبيه:
قوله: حلوا بعمرة ولم تحلل أنت من عمرتك. رواه المؤلّف كذلك بزيادة قوله بعمرة عن إسماعيل بن أبي أويس وعبد الله بن يوسف عن مالك، وكذا رواه ابن وهب فيما ذكره ابن عبد البر، ورواه بدونها القعنبي ويحيى بن بكير وأبو مصعب ويحيى بن يحيى وغيرهم والمعنى واحد عند أهل العلم، ولم تختلف الرواة عن مالك في قوله: ولم تحلل أنت من عمرتك. وأما قول الأصيلي: إنه لم يقل أحد في هذا الحديث عن نافع ولم تحلل أنت من عمرتك إلا مالك وحده فتعقب بأنه رواها غير مالك عبيد الله بن عمر فيما رواه مسلم وابن ماجة، وكذا رواها أيوب السختياني، وهؤلاء هم حفاظ أصحاب نافع والحجة فيه على من خالفهم فزيادة مالك مقبولة لحفظه وإتقانه لو انفرد بها، فكيف

(3/133)


وقد تابعه من ذكرنا، نعم رواها البخاري من رواية عبيد الله بن عمر بدون قولها من عمرتك، ولفظ الشيخين فيها: فلا أحل حتى أحل من الحج، ورواه ابن جريج عن نافع فيما أخرجه مسلم فلم يقل من عمرتك، وأخرج البخاري مثلها من طريق موسى بن عقبة عن نافع، وذكر البيهقي رواية موسى بن عقبة ثم قال: وكذلك رواه شعيب بن أبي حمزة عن نافع ولم يذكرا فيه العمرة، وفيه إشارة إلى الاختلاف في ذكر هذه اللفظة ففيه ميل لقول الأصيلي (قال): عليه الصلاة والسلام:
(إني لبدت رأسي) بفتح اللام والموحدة المشددة من التلبيد وهو أن يجعل المحرم برأسه شيئًا من نحو الصمغ ليجتمع الشعر ولا يدخل فيه قمل، (وقلدت هديي)، وهو تعليق شيء في عنق الهدي ليعلم (فلا أحل) من إحرامي (حتى أنحر) الهدي، وهذا قول أبي حنيفة وأحمد لأنه جعل العلة في بقائه على إحرامه الهدي وأخبر أنه لا يحل حتى ينحر، وأجاب الجمهور عنه بأنه ليس العلة في ذلك سوق الهدي، وأنما السبب فيه إدخال العمرة على الحج، ويدل له قوله في رواية عبيد الله بن عمر

المذكورة: حتى أحل من الحج، وعبر عن الإحرام بالحج بسوق الهدي لأنه كان ملازمًا له في تلك الحجة فإنه قال لهم: من كان معه الهدي فليهل بالحج مع عمرته ثم لا يحل حتى يحل منهما جميعًا، ولما كان عليه الصلاة الصلاة والسلام قد أدخل العمرة على الحج لم يفده الإحرام بالعمرة سرعة الإحلال لبقائه على الحج فشارك الصحابة في الإحرام بالعمرة وفارقهم ببقائه على الحج وفسخهم له، وليس التلبيد والتقليد من الحل ولا من عدمه وإنما هو لبيان أنه من أول الأمر مستعد لدوام إحرامه حتى يبلغ الهدي محله والتلبيد مشعر بمدّة طويلة.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الحج واللباس والمغازي، ومسلم في الحج وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجة.
1567 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَخْبَرَنَا أَبُو جَمْرَةَ نَصْرُ بْنُ عِمْرَانَ الضُّبَعِيُّ قَالَ: "تَمَتَّعْتُ، فَنَهَانِي نَاسٌ، فَسَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- فَأَمَرَنِي، فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ رَجُلاً يَقُولُ لِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ وَعُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، فَأَخْبَرْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: سُنَّةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَقَالَ لِي: أَقِمْ عِنْدِي فَأَجْعَلَ لَكَ سَهْمًا مِنْ مَالِي. قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: لِمَ؟ فَقَالَ: لِلرُّؤْيَا الَّتِي رَأَيْتُ". [الحديث 1567 - طرفه في: 1688].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (أخبرنا أبو جمرة) بالجيم والراء المفتوحتين (نصر بن عمران) بفتح النون وسكون الصاد المهملة (الضبعي) بضم الضاد المعجمة وفتح الموحدة (قال: تمتعت، فنهاني ناس)، قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على أسمائهم وكان ذلك في زمن عبد الله بن الزبير وكان ينهى عن المتعة كما رواه مسلم، (فسألت ابن عباس -رضي الله عنهما- فأمرني)، أي أن استمر على التمتع (فرأيت في المنام كأن رجلاً يقول لي): هذا (حج مبرور) مقبول صفة لحج ولابن عساكر حجة مبرورة بالتأنيث فيهما (وعمرة متقبلة، فأخبرت ابن عباس) بما رأيته في المنام من قول الرجل حج مبرور وعمرة متقبلة (فقال:) لي هذه (سنة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ويجوز نصب سنة وهي رواية غير أبي ذر بتقدير وافقت أو أتيت. وقال الزركشي على الاختصاص، قال الدماميني: لا وجه لجعل هذا من الاختصاص فتأمله والرفع لأبي ذر، (فقال لي) ابن عباس: (أقم عندي فأجعل) بالرفع ويجوز النصب بأن مقدرة وكلاهما في الفرع والجزم جوابًا للأمر، ولأبي ذر: واجعل بالواو والدالة على الحالية والنصب (لك سهمًا) نصيبًا (من مالي). قال المهلب: فيه أنه يجوز للعالم أخذ الأجر على العلم وفيه نظر إذ الظاهر أنه إنما عرض عليه ماله رغبة في الإحسان إليه لما ظهر أن عمله متقبل وحجه مبرور وإنما يتقبل الله من المتقين قاله في المصابيح.
(قال شعبة): بن الحجاج (فقلت): أي لأبي جمرة (لم)؟ استفهام عن سبب ذلك (فقال): أبو جمرة (للرؤيا) أي لأجل الرؤيا المذكورة (التي رأيت) بتاء المتكلم أي ليقص على الناس هذه الرؤيا المبينة لحال المتعة. قال المهلب: ففي هذا دليل على أن الرؤيا الصادقة شاهد على أمور اليقظة وفيه،

نظر لأن الرؤيا الحسنة من غير الأنبياء ينتفع بها في التأكيد لا في التأسيس والتجديد فلا يسوغ لأحد أن يسند فتياه إلى منام ولا يتلقى من غير الأدلة الشرعية حكمًا من الأحكام.
وموضع الترجمة قوله: تمتعت إلى قوله فأمرني وقد مرّ هذا الحديث في باب أداء الخمس من الإيمان وأخرجه المؤلّف أيضًا وكذا مسلم.
1568 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ قَالَ: قَدِمْتُ مُتَمَتِّعًا مَكَّةَ بِعُمْرَةٍ، فَدَخَلْنَا قَبْلَ التَّرْوِيَةِ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، فَقَالَ لِي أُنَاسٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: تَصِيرُ الآنَ حَجَّتُكَ مَكِّيَّةً، فَدَخَلْتُ عَلَى عَطَاءٍ أَسْتَفْتِيهِ فَقَالَ "حَدَّثَنِي جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ حَجَّ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ وَقَدْ أَهَلُّوا بِالْحَجِّ مُفْرَدًا فَقَالَ لَهُمْ: أَحِلُّوا مِنْ إِحْرَامِكُمْ بِطَوَافِ الْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَصِّرُوا ثُمَّ أَقِيمُوا حَلاَلاً حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ فَأَهِلُّوا بِالْحَجِّ وَاجْعَلُوا الَّتِي قَدِمْتُمْ بِهَا مُتْعَةً، فَقَالُوا: كَيْفَ نَجْعَلُهَا مُتْعَةً وَقَدْ سَمَّيْنَا الْحَجَّ؟ فَقَالَ: افْعَلُوا مَا أَمَرْتُكُمْ، فَلَوْلاَ أَنِّي سُقْتُ الْهَدْيَ لَفَعَلْتُ مِثْلَ الَّذِي أَمَرْتُكُمْ، وَلَكِنْ لاَ يَحِلُّ مِنِّي حَرَامٌ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. فَفَعَلُوا".
وبه قال (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال:

(3/134)


(حدّثنا أبو شهاب) الأكبر الحناط بفتح الحاء المهملة والنون المشددة موسى بن نافع الهذلي الكوفي (قال: قدمت) حال كوني (متمتعًا مكة بعمرة)، حال أيضًا أي متلبسًا بعمرة (فدخلنا قبل) يوم (التروية بثلاثة أيام فقال لي أناس من أهل مكة): لم أعرف أسماءهم (تصير الآن حجتك مكية)، قليلة الثواب لقلة مشقتها لأنه ينشئها من مكة فتفوته فضيلة الإحرام من الميقات، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: يصير الآن حجك مكيًا بالتذكير (فدخلت على عطاء) هو ابن أبي رباح (أستفتيه) هو من الأحوال المقدرة (فقال): أي عطاء (حدثني) بالإفراد (جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- أنه حج مع النبي) ولأبي ذر: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ساق البدن معه) بضم الموحدة وسكون الدال المهملة وضمها وذلك في حجة الوداع (وقد أهلوا) أي الصحابة (بالحج مفردًا) بفتح الراء (فقال لهم): عليه الصلاة والسلام اجعلوا حجكم عمرة ثم:
(أحلوا من إحرامكم) بها (بطواف البيت و) السعي (بين الصفا والمروة وقصروا) لم يأمرهم بالحلق ليتوفر الشعر يوم الحلاق لأنهم يهلون بعد قليل بالحج لأن بين دخولهم مكة وبين يوم التروية أربعة أيام فقط (ثم أقيموا) حال كونكم (حلالاً) محلين (حتى إذا كان يوم التروية فأهلوا بالحج) من مكة وهاء أهلوا مكسورة (واجعلوا) الحجة الفردة (التي قدمتم) مهلين (بها متعة)، بأن تتحللوا منها فتصيروا متمتعين وأطلق على العمرة متعة مجازًا والعلاقة بينهما ظاهرة. وقال النووي قوله: وقد أهلوا بالحج الخ فيه تقديم وتأخير تقديره وقد أهلوا بالحج مفردًا، فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اجعلوا إحرامكم عمرة وتحللوا بعمل العمرة وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة اهـ.

(فقالوا: كيف نجعلها متعة وقد سمينا الحج؟ فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (افعلوا ما أمرتكم) به (فلولا أني سقت الهدي لفعلت مثل الذي أمرتكم) به، وفيه استعمال لو في مثل هذا ولا تعارض بينه وبين حديث: لو تفتح عمل الشيطان لأن المراد بذلك باب: التلهف على أمور الدنيا لما فيه من عدم صورة التوكل وعدم نسبة الفعل للقضاء والقدر أما في القربات كهذا الحديث فهذا المعنى منتف فلا كراهة، (ولكن لا يحل) بكسر الحاء (مني) شيء (حرام) أي لا يحل مني ما حرم علي (حتى يبلغ الهدي محله) أي إذا نحر يوم منى (ففعلوا) ما أمرهم به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زاد المستملي والكشميهني هنا قال أبو عبد الله: أي البخاري أبو شهاب أي الأكبر ليس له حديث مسند يرويه مرفوعًا، أو ليس له مسند عن عطاء إلا هذا الحديث وهو طرف من حديث جابر الطويل الذي انفرد به مسلم بسياقه من طريق جعفر بن محمد بن علي عن أبيه عن جابر، وفي هذه الطريق بيان زائد لصفة التحلل من العمرة ليس في الحديث الطويل.
1569 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ الأَعْوَرُ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ "اخْتَلَفَ عَلِيٌّ وَعُثْمَانُ -رضي الله عنهما- وَهُمَا بِعُسْفَانَ فِي الْمُتْعَةِ، فَقَالَ عَلِيٌّ: مَا تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَنْهَى عَنْ أَمْرٍ فَعَلَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قاَلَ: فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَلِيٌّ أَهَلَّ بِهِمَا جَمِيعًا".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي قال: (حدّثنا حجاج بن محمد الأعور عن شعبة) بن الحجاج (عن عمرو بن مرة) بسكون الميم في الأول وضمها في الثاني وتشديد الراء (عن سعيد بن المسيب قال):
(اختلف علي وعثمان -رضي الله عنهما- وهما بعسفان) جملة حالية أي كائنان بعسفان بضم العين وسكون السين المهملتين وبالفاء وبعد الألف نون. قرية جامعة بينها وبين مكة ستة وثلاثون ميلاً (في المتعة فقال علي): لعثمان (ما تريد إلى أن تنهي) أي ما تريد إرادة منتهية إلى النهي أو ضمن الإرادة معنى الميل، وللكشميهني: إلا أن تنهى بحرف الاستثناء (عن أمر فعله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) صفة لقوله عن أمر والجملة حالية. قال ابن المسيب (فلما رأى ذلك) النهي (علي) -رضي الله عنه- (أهلّ بهما) أي بالحج والعمرة (جميعًا) وهذا هو القران.
قال في الكواكب فإن قلت: الاختلاف بينهما كان في التمتع وهذا قران فكيف يكون فعله مثبتًا لقوله نافيًا لقول صاحبه؟ وأجاب: بأن القران أيضًا نوع من التمتع لأنه يتمتع بما فيه من التخفيف أو كان القران كالتمتع عند عثمان بدليل ما تقدم حيث قال: وأن يجمع بينهما وكان حكمهما

(3/135)


واحدًا عنده جوازًا ومنبعًا والمراد بالمتعة العمرة في أشهر الحج، سواء كانت في ضمن الحج أو متقدمة عنه منفردة وسبب تسميتها متعة ما فيها من التخفيف الذي هو تمتع اهـ.
وهذا الحديث قد تقدم قريبًا من أوجه أخر.

35 - باب مَنْ لَبَّى بِالْحَجِّ وَسَمَّاهُ
(باب من لبى بالحج وسماه) أي عينه.
1570 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ حَدَّثَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- "قَدِمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَنَحْنُ نَقُولُ: لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ بِالْحَجِّ، فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَعَلْنَاهَا عُمْرَةً".
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا حماد بن زيد) هو ابن درهم الجهضمي البصري (عن أيوب) السختياني (قال: سمعت مجاهدًا) هو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة ثم راء المخزومي الإمام في التفسير وغيره (يقول: حدّثنا جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما-).
(قدمنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في حجة الوداع (ونحن نقول: لبيك اللهم لبيك بالحج) سقط لأبوي ذر والوقت لفظتا لبيك واللهم (فأمرنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفسخ الحجة إلى العمرة (فجعلناها) أي الحجة (عمرة) وهذا منسوخ عند الجمهور خلافًا لقوم ومنهم أحمد كما مرّ. وموضع الترجمة قوله: لبيك اللهم لبيك بالحج فإنه لبى وسماه، وقد أخرج هذا الحديث مسلم أيضًا.

36 - باب التَّمَتُّعِ على عهدِ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب التمتع) زاد أبو ذر: على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي بعض النسخ باب بالتنوين لغير ترجمة.
1571 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: حَدَّثَنِي مُطَرِّفٌ عَنْ عِمْرَانَ -رضي الله عنه- قَالَ "تَمَتَّعْنَا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَنَزَلَ الْقُرْآنُ، قَالَ رَجُلٌ بِرَأْيِهِ مَا شَاءَ". [الحديث 1571 - طرفه في: 4518].
وبالسند قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا همام) هو ابن يحيى بن دينار (عن قتادة) بن دعامة (قال: حدثني) بالإفراد (مطرف) بضم الميم فطاء مهملة مفتوحة فراء مشددة مكسورة، ففاء ابن الشخير (عن عمران) بن حصين (قال):
(تمتعنا على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونزل القرآن) بجوازه قال تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]. وزاد مسلم: (ولم ينزل قرآن) يحرمه ولم ينه عنها حتى مات. أي: فلا نسخ. وفي نسخة: وهي التي في الفرع فنزل بالفاء بدل الواو (قال: رجل برأيه ما شاء) هو عمر بن

الخطاب لا عثمان بن عفان لأن عمر أول من نهى عنها فكان من بعده تابعًا له في ذلك، ففي مسلم أن ابن الزبير كان ينهى عنها وابن عباس يأمر بها فسألوا جابرًا فأشار إلى أن أول من نهى عنها عمر.
ورواة هذا الحديث كلهم بصريون وأخرجه مسلم في الحج أيضًا.

37 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [البقرة: 196] {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
(باب) تفسير (قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196].
1572 - وَقَالَ أَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ حُسَيْنٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو مَعْشَرٍ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ غِيَاثٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ مُتْعَةِ الْحَجِّ فَقَالَ "أَهَلَّ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَنْصَارُ وَأَزْوَاجُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأَهْلَلْنَا، فَلَمَّا قَدِمْنَا مَكَّةَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اجْعَلُوا إِهْلاَلَكُمْ بِالْحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ، فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَأَتَيْنَا النِّسَاءَ وَلَبِسْنَا الثِّيَابَ، وَقَالَ: مَنْ قَلَّدَ الْهَدْيَ فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. ثُمَّ أَمَرَنَا عَشِيَّةَ التَّرْوِيَةِ أَنْ نُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَإِذَا فَرَغْنَا مِنَ الْمَنَاسِكِ جِئْنَا فَطُفْنَا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَقَدْ تَمَّ حَجُّنَا وَعَلَيْنَا الْهَدْيُ كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] إِلَى أَمْصَارِكُمْ. الشَّاةُ تَجْزِي، فَجَمَعُوا نُسُكَيْنِ فِي عَامٍ بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَهُ فِي كِتَابِهِ وَسَنَّهُ نَبِيُّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَبَاحَهُ لِلنَّاسِ غَيْرَ أَهْلِ مَكَّةَ. قَالَ اللَّهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} وَأَشْهُرُ الْحَجِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى: شَوَّالٌ وَذُو الْقَعْدَةِ وَذُو الْحَجَّةِ، فَمَنْ تَمَتَّعَ فِي هَذِهِ الأَشْهُرِ فَعَلَيْهِ دَمٌ أَوْ صَوْمٌ" وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ، وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي، وَالْجِدَالُ الْمِرَاءُ.
(وقال أبو كامل فضيل بن حسين) بضم الفاء والحاء فيهما مصغرين (البصري) الجحدري المتوفى سنة سبع وثلاثين ومائتين مما وصله الإسماعيلي: (حدّثنا أبو معشر) بفتح الميم وسكون العين وفتح الشين المعجمة يوسف بن يزيد من الزيادة ولأبي ذر أبو معشر البراء بفتح الموحدة وتشديد الراء نسبة إلى بري السهام قال: (حدّثنا عثمان بن غياث) بغين معجمة مكسورة فمثناة تحتية فألف فمثلثة الباهلي (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-: أنه سئل عن متعة الحج فقال:) مجيبًا عن ذلك (أهل المهاجرون والأنصار وأزواج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع وأهللنا) قد مر أنهم كانوا ثلاث فرق: فرقة أحرموا بحج وعمرة أو بحج ومعهم هدي، وفرقة بعمرة ففرغوا منها

ثم أحرموا بحج، وفرقة بحج ولا هدي معهم، فأمرهم عليه الصلاة والسلام أن يجعلوه عمرة وإلى هذا الأخير أشار بقوله: (فلما قدمنا مكة) أي قربنا منها لأنه كان بسرف (قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لمن كان أهل بالحج مفردًا:
(اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة) افسخوه إلى العمرة لبيان مخالفة ما كانت عليه الجاهلية من تحريم العمرة في أشهر الحج، وهذا خاص بهم في تلك السنة كما في حديث بلال عند أبي داود وقد مرّ التنبيه على ذلك (إلا من قلد الهدي) (طفنا بالبيت) أي فلما قدمنا طفنا، وللأصيلي: فطفنا بفاء العطف (وبالصفا والمروة وأتينا النساء) أي واقعناهنّ والمراد غير المتكلم لأن ابن عباس كان إذ ذاك لم يدرك الحلم وإنما حكي ذلك عن الصحابة، (ولبسنا الثياب) المخيطة (و) قد (قال) عليه الصلاة والسلام: (من قلد الهدي فإنه لا يحل له) شيء من محظورات الإحرام (حتى يبلغ الهدي محله) بأن ينحره بمنى (ثم أمرنا) عليه الصلاة والسلام (عشية)

(3/136)


يوم (التروية) بعد الظهر ثامن من ذي الحجة (أن نهل بالحج)، من مكة (فإذا فرغنا من المناسك) من الوقوف بعرفة والبيت بمزدلفة والرمي والحلق (جئنا فطفنا بالبيت) طواف الإفاضة (وبالصفا والمروة فقد تم حجنا) وللكشميهني: وقد بالواو بدل
الفاء ومن قوله فقد تم حجنا إلى آخر الحديث موقوف على ابن عباس ومن أوله إليه مرفوع (وعلينا الهدي) (كما قال الله تعالى: {فما استيسر من الهدي} [البقرة: 196]، أي فعليه دم استيسره بسبب التمتع فهو دم جبران يذبحه إذا أحرم بالحج لأنه حينئذ يصير متمتعًا بالعمرة إلى الحج ولا يأكل منه وقال أبو حنيفة: أنه دم نسك فهو كالأضحية ({فمن لم يجد}) أي الهدي ({فصيام ثلاثة أيام في الحج}) في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل، ولا يجوز تقديمها على الإحرام بالحج لأنها عبادة بدنية فلا تقدم على وقتها، ويستحب قبل يوم عرفة لأنه يستحب للحاج فطره. وقال أبو حنيفة: في أشهره بين الإحرامين والأحب أن يصوم سابع ذي الحجة وثامنه وتاسعه ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثر. وقال المالكية: يصوم أيام التشريق أو ثلاثة بعدها لقوله تعالى: ({فصيام ثلاثة أيام في الحج}) أي في وقته وذو الحجة كله وقت عندهم. ولنا: أنه نهى عن صوم
أيام التشريق ولأن ما بعدها ليس من وقت الحج عندنا ({وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى أمصاركم) [البقرة: 196] وهذه تفسير من ابن عباس للرجوع، وإذا نفرتم وفرغتم من أعماله لأن قوله تعالى: ({وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}) مسبوق بقوله تعالى: ({ثلاثة أيام في الحج}) فتنصرف إليه، وكأنه بالفراغ رجع عما كان مقبلاً عليه من الأعمال وهذا مذهب أبي حنيفة. والقول الثاني للشافعي وإذا قلنا بالأول فلو توطن مكة بعد فراغه من الحج صام بها وإن لم يتوطنها لم يجز صومه بها ولا يجوز صومها بالطريق إذا توجه إلى وطنه لأنه تقديم للعبادة البدنية على وقتها وإن قلنا بالثاني فلو أخره حتى رجع إلى وطنه جاز بل هو أفضل خروجًا من الخلاف.
(الشاة تجزي) بفتح أوله من غير همز أي تكفي لدم التمتع والجملة حالية وقعت بدون واو نحو كلمته فوه إلى فيّ وهذا تفسير ابن عباس، وفي بعض الأصول تجزئ بضم أوله وهمز آخره (فجمعوا

نسكين في عام بين الحج والعمرة) ذكرهما للبيان وإلا فهما نفس النسكين على ما لا يخفى، والنسكين بضم السين كما في فروع ثلاثة لليونينية وغيرها تثنية نسك. وضبطه الحافظ ابن حجر والعيني والدماميني بإسكان السين مستدلين بما نقلوه عن الجوهري أن النسك بإسكان السين العبادة وبالضم الذبيحة، والذي رأيته في الصحاح والنسك العبادة والناسك العابد، وقد نسك وتنسك أي تعبد ونسك بالضم نساكة أي صار ناسكًا، والنسيكة الذبيحة. والجمع نسك ونسائك هذا لفظه. وقال في القاموس: النسك مثلثة وبضمتين العبادة وكل حق لله عز وجل، والنسك بالضم وبضمتين وكسفينة الذبيحة أو النسك الدم والنسيكة الذبح، فليتأمل هذا مع ما سبق، (فإن الله تعالى أنزله) أي الجمع بين الحج والعمرة (في كتابه) العزيز حيث قال (فمن تمتع بالعمرة إلى الحج) [البقرة: 196] (وسنه) أي شرعه (نبيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حيث أمر به أصحابه (وأباحه) أي التمتع (للناس) بعد أن كانوا يعتقدون حرمته في أشهر الحج وأنه من أفجر الفجور (غير أهل مكة)، فلا دم عليهم، وغير بالنصب على الاستثناء والجر صفة للناس. وقوله في الفتح: ويجوز كسره مخالف للاستعمال النحوي إذ هو للبناء والجر للإعراب.
(قال الله) عز وجل: ({ذلك}) إشارة إلى الحكم المذكور عندنا والتمتع عند أبي حنيفة إذ لا تمتع ولا قران لحاضري المسجد الحرام عنده تقليدًا لابن عباس -رضي الله عنهما-. وأجاب الشافعية بأن قول الصحابي ليس حجة عند الشافعي إذ المجتهد لا يقلد مجتهدًا قاله الكرماني وغيره، وأما قول العيني أن هذا جواب واهٍ مع إساءة الأدب، فإن مثل ابن عباس كيف لا يحتج بقوله وأي مجتهد بعد الصحابة يلحق ابن عباس أو يقرب منه حتى لا يقلده فلا يخفى ما فيه فلا يحتاج إلى الاشتغال برده ({لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}) [البقرة: 196] وهو من كان من الحرم على

(3/137)


مسافة القصر عندنا كمن مساكنهم بها، واعتبرت المسافة من الحرم لأن كل موضع ذكر الله فيه المسجد الحرام فهو الحرم إلا قوله تعالى: {فولّ وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة: 144] فهو نفس الكعبة. واعتبرها الرافعي في الحرر من مكة. قال في المهمات: وبه الفتوى فقد نقله في التقريب عن نص الإملاء، وأن الشافعي أيّده أن اعتبارها من الحرم يؤدي إلى إدخال البعيد عن مكة وإخراج القريب منها لاختلاف المواقيت اهـ.
والقريب من الشيء يقال إنه حاضره قال الله تعالى: {واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر} [الأعراف: 163] أي قريبة منه. وقال في المدونة: وليس على أهل مكة القرية بعينها وأهل ذي طوى إذا قرنوا أو تمتعوا دم قران ولا متعة. قال ابن حبيب عن مالك وأصحابه: ومن كان دون مسافة القصر من مكة حكمه حكم المكي، وقيل: إن من دون المواقيت كالمكي ولم يعزه اللخمي قاله بهرام. وقال الحنفية: هم أهل المواقيت ومن دونها.
(وأشهر الحج التي ذكر الله تعالى) زاد أبو بكر في كتابه أي في الآية التي بعد آية التمتع وهي قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات} [البقرة: 197] (شوال وذو القعدة وذو الحجة) من باب إقامة

البعض مقام الكل أو إطلاقًا للجمع على ما فوق الواحد أي تسع ذي الحجة بليلة النحر عندنا، والعشر عند أبي حنيفة، وذو الحجة كله عند مالك وبناء الخلاف أن المراد بوقته وقت إحرامه أو وقت أعماله ومناسكه أو ما لا يحسن فيه غيره من المناسك مطلقًا، فإن مالكًا كره العمرة في بقية ذي الحجة وأبو حنيفة وإن صحح الإحرام به قبل شوّال فقد استكرهه. (فمن تمتع في هذه الأشهر) الثلاثة أو العاشر من الحجة أو ليلته (فعليه دم أو صوم) ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إن عجز عن الهدي وليس للقيد بالأشهر مفهوم، لأن الذي يعتمر في غير أشهر الحج لا يسمى متمتعًا ولا دم عليه، وكذلك المكي عند الجمهور خلافًا لأبي حنيفة ويدخل في عموم قوله: فمن تمتع من أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى بلده ثم حج منها، وبه قال الحسن البصري وهو مبني على أن التمتع إيقاع العمرة في أشهر الحج فقط، والذي عليه الجمهور أن التمتع أن يجمع الشخص الواحد بينهما في سفر واحد في أشهر الحج في عام واحد وأن يقدم العمرة وأن لا يكون مكيًّا فمتى اختل شرط واحد من هذه الشروط لم يكن متمتعًا.
(والرفث الجماع) أو الفحش من الكلام (والفسوق المعاصي) فيه إشعار بأن الفسوق جمع فسق لا مصدر وتفسير الأشهر وسائر الألفاظ زيادة للفوائد باعتبار أدنى ملابسة بين الآيتين قاله الكرماني: (والجدال المراء) كذا فسره ابن عباس فيما رواه ابن أبي شيبة ولفظه: ولا جدال في الحج تماري صاحبك حتى تغضبه.

38 - باب الاِغْتِسَالِ عِنْدَ دُخُولِ مَكَّةَ
(باب) استحباب (الاغتسال عند دخول مكة) ولو لحائض ونفساء، ويستثنى من خرج من مكة فأحرم بالعمرة من مكان قريب كالتنعيم واغتسل للإحرام فلا يسن له الغسل لدخولها لحصول النظافة بالغسل السابق، بخلاف ما إذا أحرم من مكان بعيد كالجعرانة والحديبية وظاهر إطلاقه يتناول المحرم والحلال الداخل لها أيضًا، وقد حكاه الشافعي في الأم عن فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام الفتح، وإنما لم يجب لأنه غسل لمستقبل كغسل الجمعة والعيد نعم يكره تركه وإحرامه جنبًا ومثله حائض ونفساء انقطع دمهما وغير المميز يغسله وليه، ولو عجز عن الغسل لفقد الماء أو غيره تيمم أو وجد ماء لا يكفي غسله توضأ به حكاه الرافعي عن البغوي وأقره. قال النووي: إن أراد أن يتوضأ ثم يتيمم فحسن، وإن أراد الاقتصار على الوضوء فليس بجيد لأن المطلوب الغسل والتيمم يقوم مقامه دون الوضوء اهـ.
والأقرب الأول ولعله إنما اقتصر على الوضوء كالشافعي في قوله: فإن لم يجد ماء يكفي غسله توضأ فإن لم يجد ماء بحال تيمم فيقوم ذلك مقام الغسل والوضوء تنبيهًا على أن أعضاء الوضوء أولى بالغسل لما فيه من تحصيل الوضوء الذي هو عبادة كاملة وسنة قبل الغسل القائم مقامه التيمم.
1573 - حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "كَانَ ابْنُ عُمَرَ

-رضي الله عنهما- إِذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنِ التَّلْبِيَةِ. ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِ الصُّبْحَ وَيَغْتَسِلُ، وَيُحَدِّثُ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ".
وبالسند قال (حدثني) بالإفراد (يعقوب بن إبراهيم) بن كثير الدورقي العبدري قال: (حدّثنا ابن علية) بضم العين وفتح اللام وتشديد المثناة التحتية إسماعيل بن إبراهيم بن سهم

(3/138)


وعلية أمه قال: (أخبرنا أيوب) السختياني (عن نافع) مولى ابن عمر (قال: كان ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- إذا دخل أدنى الحرم) أول موضع منه (أمسك عن التلبية)، يتركها أصلاً أو يستأنفها بعد ذلك إذا تركها عند ابتداء رمي جمرة يوم العقبة يوم العيد لأخذه في أسباب التحلل، (ثم يبيت بذي طوى)، بكسر الطاء اسم بئر أو موضع بقرب مكة، ولأبي ذر: طوى بضمها ويجوز فتحها والتنوين وعدمه كما في القاموس، فمن صرفه جعله اسم واد ومكان وجعله نكرة، ومن لم يصرفه جعله بلدة وبقعة وجعله معرفة، (ثم يصلّي به) أي بذي طوى (الصبح ويغتسل)، به وفيه استحباب الاغتسال به وهو محمول على أنه كان بطريقه بأن يأتي من طريق المدينة وإلا اغتسل من نحو تلك المسافة. قال الطبري: ولو قيل يسنّ له التعريج إليها والاغتسال بها اقتداء وتبركًا لم يبعد قال الأذرعي وبه جزم الزعفراني. (و) كان ابن عمر -رضي الله عنهما- (يحدث أن نبي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفعل ذلك) المذكور من الإِمساك عن التلبية والبيتوتة والاغتسال بذي طوى أو الإشارة إلى الغسل فقط وهو موضع الترجمة.
وهذا الحديث سبق معلقًا بأتم من هذا في باب الإهلال مستقبل القبلة.

39 - باب دُخُولِ مَكَّةَ نَهَارًا أَوْ لَيْلاً
بَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذِي طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنه- يَفْعَلُهُ.
(باب) استحباب (دخول مكة نهارًا أو ليلاً) ولأبوي ذر والوقت: وليلاً بالواو بدل أو (بات النبي بذي طوى) بكسر الطاء، ولأبي ذر: بضمها ويجوز فتحها والصرف وعدمه كما مر (حتى أصبح ثم دخل مكة)، نهارًا، (وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يفعله) أي المبيت، وسقط قوله: بات إلى آخره في رواية أبي ذر وهذا قد سبق موصولاً في الباب المتقدم ثم ساقه بسند آخر غير الأول فقال:
1574 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "بَاتَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذِي طُوًى حَتَّى أَصْبَحَ ثُمَّ دَخَلَ مَكَّةَ، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَفْعَلُهُ".

(حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن عبيد الله) بضم العين العمري (قال: حدثني) بالإفراد (نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-، قال):
(بات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذي طوى حتى أصبح ثم دخل مكة)، أي نهارًا كما هو ظاهر بل وقع صريحًا في مسلم من طريق أيوب عن نافع ولفظه: كان لا يقدم مكة إلا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل ثم يدخل مكة نهارًا. نعم دخلها ليلاً في عمرة الجعرانة كما رواه أصحاب السنن الثلاثة ولا يعلم دخوله ليلاً في غيرها، وحينئذ فلا يخفى ما في قول الكرماني، وتبعه البرماوي مجيبًا عن كون المصنف ذكر في الترجمة دخول مكة في الليل والنهار ولم يذكر حديثًا يدل لليل أن كلمة ثم للتراخي، فيحتمل أن الدخول تأخر إلى الليل. وأجاب ابن المنير: بأنه أراد أن يبين أنه غير مقصود وأن الليل والنهار سواء وبنى على أن ذي طوى من مكة وقد دخل عشية وبات فيه، فدلّ على جواز الدخول ليلاً جاز نهارًا بطريق الأولى، وقيل: هما سواء لكن الأكثر على أنه بالنهار أفضل، وفرق بعضهم بين الإمام وغيره لما روى سعيد بن منصور عن عطاء قال: إن شئتم فادخلوا ليلاً إنكم لستم كرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنه كان إمامًا فأحب أن يدخلها نهارًا ليراه الناس اهـ. أي ليقتدوا به.
(وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يفعله) أي ما ذكر من البيتوتة.

40 - باب مِنْ أَيْنَ يَدْخُلُ مَكَّةَ
هذا (باب) بالتنوين (من أين يدخل مكة).
1575 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ قَالَ حَدَّثَنِي مَعْنٌ قَالَ حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى". [الحديث 1575 - طرفه في: 1576].
وبالسند قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) الحزامي المدني (قال: حدثني) بالإفراد (معن) بفتح الميم وسكون العين ابن عيسى بن يحيى القزاز بالقاف وتشديد الزاي الأولى (قال: حدثني) بالإفراد أيضًا (مالك) الإمام قال في الفتح: ليس هو في الموطأ ولا رأيته في غرائب مالك للدارقطني ولم أقف عليه إلا من رواية معن بن عيسى، وقد تابع إبراهيم بن المنذر عليه عبد الله بن جعفر البرمكي (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال):
(كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدخل مكة من الثنية العليا) التي ينزل منها إلى المعلاة ومقابر مكة بجنب المحصب، والثنية بفتح المثلثة وكسر النون وتشديد المثناة التحتية كل عقبة في جبل أو طريق عالية فيه، وهذه الثنية كانت صعبة المرتقى فسهلها معاوية ثم عبد الملك ثم المهدي، ثم سهل منها سنة إحدى عشرة وثمانمائة موضع، ثم سهلت كلها في زمن

(3/139)


سلطان مصر الملك المؤيد في حدود العشرين وثمانمائة "ويخرج" منها (من الثنية السفلى) التي بأسفل مكة عند باب شبيكة، وكان بناء هذا الباب عليها في القرن السابع. زاد الإسماعيلي من طريق ابن ناجية عن البخاري وأبو داود من طريق

عبد الله بن جعفر البرمكي عن معن يعني ثنيتي مكة، والمعنى في ذلك الذهاب من طريق والإياب من أخرى كالعيد لتشهد له الطريقان، وخصت العليا بالدخول مناسبة للمكان العالي الذي قصده والسفلى للخروج مناسبة للمكان الذي يذهب إليه، ولأن إبراهيم عليه الصلاة والسلام حين قال {فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم} [إبراهيم: 37] كان على العليا كما روي عن ابن عباس قاله السهيلي.

41 - باب مِنْ أَيْنَ يَخْرُجُ مِنْ مَكَّةَ
هذا (باب) بالتنوين (من أين يخرج من مكة).
1576 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ بْنُ مُسَرْهَدٍ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ مِنَ الثَّنِيَّةِ الْعُلْيَا الَّتِي بِالْبَطْحَاءِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الثَّنِيَّةِ السُّفْلَى".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ يُقَالُ: هُوَ مُسَدَّدٌ كَاسْمِهِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ مَعِينٍ يَقُولُ سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ سَعِيدٍ يَقُولُ: لَوْ أَنَّ مُسَدَّدًا أَتَيْتُهُ فِي بَيْتِهِ فَحَدَّثْتُهُ لاَسْتَحَقَّ ذَلِكَ، وَمَا أُبَالِي كُتُبِي كَانَتْ عِنْدِي أَوْ عِنْدَ مُسَدَّدٍ.
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد بن مسرهد البصري) سقط في رواية أبي ذر ابن مسرهد البصري (قال: حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن عبيد الله) بضم العين مصغرًا ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-).
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل مكة من كداء) وبفتح الكاف والدال المهملة ممدودًا منونًا على إرادة الموضع. وقال أبو عبيد: لا يصرف أي على إرادة البقعة للعلمية والتأنيث (من الثنية العليا التي بالبطحاء)، بفتح الموحدة قال الجوهري: الأبطح مسيل واسع فيه دقاق الحصى، والعليا بضم العين تأنيث الأعلى، وهذه الثنية ينزل منها إلى الحجون بفتح الحاء المهملة وضم الجيم مقبرة مكة (ويخرج) بلفظ المضارع، ولأبي ذر: وخرج (من الثنية السفلى) التي بقرب شعب الشاميين من ناحية جبل قعيقعان.
(قال أبو عبد الله:) البخاري (كان يقال هو مسدد) من التسديد وهو الإحكام أي محكم (كاسمه). أي فطابق اسمه مسماه ولم يكتف المؤلّف بتوثيقه إياه بنفسه حتى نقل عن ابن معين توثيقه فقال: (قال أبو عبد الله): البخاري (سمعت يحيى بن معين) الإمام في باب الجرح والتعديل (يقول: سمعت يحيى بن سعيد) القطان (يقول: لو أن مسددًا أتيته في بيته فحدّثته لاستحق ذلك

وما أبالي كتبي كانت عندي أو عند مسدد) وهذا منه غاية في التعديل ونهاية في التوثيق، وسقط عند أبي ذر قوله: قال أبو عبد الله كان يقال إلى هنا.
1577 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى قَالاَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا جَاءَ إِلَى مَكَّةَ دَخَلَ مِنْ أَعْلاَهَا وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِهَا". [الحديث 1577 - أطرافه في: 1578، 1579، 1580، 1581، 4290، 4291].
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) أبو بكر عبد الله بن الزبير المكي (محمد بن المثنى) العنزي الزمن البصري (قالا: حدّثنا سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام (عن عائشة -رضي الله عنها-).
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما جاء إلى مكة دخل من أعلاها) بغير ضمير النصب، ولأبوي ذر والوقت: دخلها من أعلاها (وخرج من أسفلها) وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في المغازي عن الحميدي وابن المثنى ومسلم في الحج عن ثانيهما وابن أبي عمر وأبو داود والترمذي والنسائي.
1578 - حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلاَنَ الْمَرْوَزِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ وَخَرَجَ مِنْ كُدًا مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ".
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدثني (محمود بن غيلان) بفتح الغين المعجمة وسكون المثناة التحتية، وسقط لأبي ذر ابن غيلان، ولغير أبي ذر المروزي قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (حدّثنا هشام بن عروة) بن الزبير (عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها-):
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل عام الفتح من) ثنية (كداء) بالفتح والمد والتنوين (وخرج من) ثنية (كدا) بالضم مقصورًا منوّنًا على المشهور فيهما خلافًا لما وقع للرافعي في شرح الوجيز أن الذي يشعر به كلام الأكثرين أن الثاني بالمدّ أيضًا. قال: ويدل عليه أنهم كتبوها بالألف، وردّه النووي بأن كتابتها بالألف لا تدل على المدّ، وضبط الحافظ الدمياطي الأولى بضم الكاف مع القصر غير منوّن والثانية بفتح الكاف والتنوين مع المدّ وقال: هكذا هو مضبوط يعني في هذا الموضع، فأشعر أن المعتمد خلاف ما وقع. ويؤيده قول النووي أنه غلط قال: وأما كدي بضم الكاف وتشديد الياء فهي في طريق الخارج إلى اليمن وليست من هذين الطريقين في شيء اهـ.
وفي القاموس: والكداء ككساء المنع والقطع

(3/140)


وكسماء اسم عرفات أو جبل بأعلى مكة، ودخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة منه وكسمى جبل أسفلها وخرج منه عليه الصلاة والسلام أو جبل آخر قرب عرفة وكقرى جبل مسفلة مكة على طريق اليمن، وكدى مقصورة كفتى ثنية الطائف، وغلط المتأخرون في هذا التفصيل واختلفوا فيه على أكثر من ثلاثين قولاً (من أعلى مكة) استشكل هذا من جهة أن مفهومه أنه عليه الصلاة والسلام خرج من أعلى مكة، والأحاديث السابقة أنه خرج من أسفلها،

وأجاب الكرماني فقال: لعل الدخول والخروج في عام الفتح كان كلاهما من أعلاها، فأما في الحج فكان الخروج من أسفلها هذا إذا كان كدا أولاً بفتح الكاف، وأما إن كان الثاني بضمها فوجهه أن يقال: إن من أعلى مكة متعلق بدخل، ولفظ: وخرج من كدا حال مقدرة بينهما فلا يحتاج إلى التخصيص بغير عام الفتح اهـ.
والذي في الأصول المعتمدة ضبط الأوّل بالفتح والثاني بالضم ولا أعلم أنهما رويا بالفتح، والتوجيه الثاني الذي ذكره لا يخفى ما فيه من التكلف، والذي يظهر ما قاله الحافظ أبو الفضل بن حجر -رحمه الله- أنه روي كذا مقلوبًا في رواية أبي أسامة، وأن الصواب ما رواه غيره دخل من كداء من أعلى مكة وأن الوهم فيه ممن دون أبي أسامة لأن أحمد رواه عن أبي أسامة على الصواب. المشهور أنه دخل من كداء بالفتح والمد وخرج من كدا بالضم والقصر. نعم وقع في رواية أبي داود أنه دخل عام الفتح من كداء بالفتح دخل في العمرة من كدا أي بالقصر.
1579 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنَا عَمْرٌو عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ أَعْلَى مَكَّةَ". قَالَ هِشَامٌ وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ عَلَى كِلْتَيْهِمَا. مِنْ كَدَاءٍ وَكُدًا. وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَتْ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد) يحتمل أن يكون هو ابن عيسى التستري المصري كما في أوائل الحج. وقال أبو علي بن السكن عن الفربري: هو في المواضع كلها أحمد بن صالح المصري، وكذا قال أبو عبد الله بن منده وليس هو ابن أخي ابن وهب لأن المؤلّف لم يخرج عنه شيئًا قال: (حدّثنا ابن وهب) عن عبد الله المصري قال: (أخبرنا عمرو) بفتح العين ابن الحرث المصري (عن هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-):
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل عام الفتح) مكة (من كداء) بفتح الكاف والمد والتنوين (أعلى مكة).
وبالإسناد السابق (قال هشام وكان عروة) أبوه (يدخل على) ولأبي ذر: من (كلتيهما). بكسر الكاف وسكون اللام والمثناة التحتية بينهما مثناة فوقية مفتوحة والضمير يرجع إلى الثنتين العليا والسفلى (من كداء) بالفتح والمد والتنوين (وكدى) بالضم والقصر والتنوين بيان لقوله: كلتيهما (وأكثر ما يدخل) عروة (من كداء)، بالفتح والمد، ولأبوي ذر والوقت كما في اليونينية كدى بضم الكاف والقصر مع التنوين. وقال الحافظ ابن حجر: إنه بالضم والقصر للجميع، وعزاه في المصابيح كالتنقيح للأصيلي والفتح والمد لغيره، وفي بعض النسخ: كدى بالضم والقصر من غير تنوين. (وكانت) أي الثنية العليا وفي فرع اليونينية وأصول معتمدة وكان (أقربهما) بالنصب خبر كان، وفي بعض النسخ أقرب أي أقرب الثنتين (إلى منزله) اعتذار لأبيه عروة على رواية الضم، لأنه روى

الحديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يدخل من كداء بالفتح والمد، وخافه لأنه رأى أن ذلك ليس بلازم حتم، فلذلك كان يسوي بينهما في الدخول ويكثر من الدخول من الأخرى لكونها أقرب إلى منزله.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في المغازي.
1580 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَكَانَ عُرْوَةُ أَكْثَرَ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ، وَكَانَ أَقْرَبَهُمَا إِلَى مَنْزِلِهِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب) الحجّي البصري قال: (حدّثنا حاتم) بالحاء المهملة والمثناة الفوقية المكسورة ابن إسماعيل الكوفي سكن المدينة (عن هشام عن) أبيه (عروة):
(دخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مكة (عام الفتح من كداء من أعلى مكة وكان عروة أكثر ما يدخل من كداء) بفتح الكاف والمدّ والتنوين في الأول والثاني. قال النووي: وأكثر دخول عروة من كداء بالمدّ اهـ.
ولأبوي ذر والوقت: من كدى بالضم والقصر من غير تنوين، وقال الحافظ ابن حجر: إنه كذلك للجميع "وكان أقربهما إلى منزله" وهذا الحديث كما قاله في الفتح اختلف في وصله وإرساله على

(3/141)


هشام بن عروة، وأورد البخاري الوجهين مشيرًا إلى أن رواية الإرسال لا تقدح في رواية الوصل، لأن الذي وصله حافظ وهو ابن عيينة، وقد تابعه ثقتان يعني عمرًا وحاتمًا المذكورين، ثم أورد المؤلّف طريقًا آخر من مراسيل عروة فقال بالسند السابق أوّل هذا الكتاب إليه.
1581 - حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ "دَخَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءٍ وَكَانَ عُرْوَةُ يَدْخُلُ مِنْهُمَا كِلَيْهِمَا، وَأَكْثَرُ مَا يَدْخُلُ مِنْ كَدَاءٍ أَقْرَبِهِمَا إِلَى مَنْزِلِهِ".
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: كَدَاءٌ وَكُدًا مَوْضِعَانِ.
(حدّثنا موسى) بن إسماعيل المنقري قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو وفتح الهاء ابن خالد قال: (حدّثنا هشام عن أبيه) عروة أنه قال:
(دخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مكة (عام الفتح من كداء) بالفتح والد منوّنًا، (وكان عروة يدخل منهما) أي من كداء بالفتح وكدى بالضم (كليهما) بكاف مكسورة ولام مفتوحة فمثناة تحتية، وللأصيلي: كلاهما بالألف على لغة من أعربه بالحركات المقدّرة في الأحوال الثلاث (وأكثر) بالرفع، ولأبي ذر: وكان بالنصب خبر كان الزائدة عنده (ما يدخل) وفي بعض النسخ و: أكثر ما كان يدخل (من كداء) بالفتح والمدّ والتنوين، ولأبي ذر: كدى بالضم والقصر من غير تنوين. قال الحافظ ابن حجر: إنها كذلك للجميع "أقربهما إلى منزله" بجرّ أقرب بيان أو بدل من كداء، والأرجح أن دخوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أعلى مكة وخروجه من أسفلها كان قصدًا ليتأسى به فيه فيكون سنّة لكل داخل، وحينئذٍ فالآتي من غير طريق المدينة يؤمر بالتعريج ليدخل منها وهذا ما صححه النووي في الروضة والمجموع لما قاله

الشيخ أبو محمد الجويني: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عرّج إليه قصدًا. وحكى الرافعي عن الأصحاب تخصيصه بالآتي من طريق المدينة للمشقة، وأن دخوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها كان اتفاقًا.
(قال أبو عبد الله): البخاري (كداء وكدى) بالفتح والمدّ والتنوين في الأوّل، والضم والقصر والتنوين في الثاني، وفي نسخة: بركته (موضعان) كذا ثبت هذا القول للمستملي، وسقط لغيره وهو أولى لأنه ليس في سياقه كبير فائدة كما لا يخفى.

42 - باب فَضْلِ مَكَّةَ وَبُنْيَانِهَا، وقوله تعالى: [البقرة: 125 - 128] {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.
(باب) بيان (فضل مكة) زادها الله تعالى شرفًا ورزقنا العود إليها على أحسن حال بمنه وكرمه (و) في (بنيانها)، أي الكعبة (وقوله تعالى) بالجر عطفًا على سابقه أي في بيان تفسير قوله تعالى: ({وإذ جعلنا البيت}) أي الكعبة ({مثابة للناس}) من ثاب القوم إلى الموضع إذا رجعوا إليه. أي: جعلنا البيت مرجعًا ومعاذًا يأتونه كل عام ويرجعون إليه فلا يقضون منه وطرًا، أو موضع ثواب يثابون بحجه واعتماده ({وأمنًا}) من المشركين أبدًا فإنهم لا يتعرضون لأهل مكة ويتعرضون لمن حولها، أولاً يؤاخذ الجاني الملتجئ إليه كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقيل: يأمن الحاج من عذاب الآخرة من حيث أن الحج يجب ما قبله ({واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى}) مقام إبراهيم الحجر المعروف أو المسجد الحرام أو الحرم أو مشاعر الحج. وقد صح أن عمر قال: يا رسول الله هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: "نعم". قال: أفلا نتخذه مصلّى: فأنزله الله ({واتخذوا}) الخ. وهو عطف على
اذكروا نعمتي أو على معنى مثابة أي ثوبوا إليه واتخذوا أو مقدّر بقلنا أي: وقلنا اتخذوا منه موضع صلاة أو مدعى والأمر للاستحباب بالاتفاق ({وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل) أمرناهما ({أن طهّرا بيتي}) أي: بأن طهرا وهو بمعنى الوحي عدّى بإلى يريد طهراه من الأوثان والأنجاس وما لا يليق به وأخلصاه ({للطائفين}) حوله ({والعاكفين}) المقيمين عنده أو المعتكفين فيه ({والركع السجود}) جمع راكع وساجد أي المصلين، واستدلّ به على جواز صلاة الفرض والنفل داخل البيت خلافًا لمالك رحمه الله في الفرض. ({وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا}) البلد أو المكان ({بلدًا آمنًا}) أي ذا أمن كقوله تعالى: {في عيشة راضية} [الحاقة: 21 والقارعة: 7] وآمنًا أهله كقولك: ليل نائم ({وارزق

أهله من الثمرات}) فاستجاب الله دعاءه بأن بعث الله تعالى جبريل عليه الصلاة والمسلام حتى اقتلع الطائف من موضع الأردن، ثم طاف بها حول الكعبة فسميت الطائف قاله المفسرون ({من آمن منهم بالله واليوم الآخر}) أبدل من آمن من أهله بدل البعض للتخصيص. ({قال ومن كفر}) عطف على من

(3/142)


آمن وهو من كلام الله تعالى نبه الله سبحانه أن الرزق عام دنيوي يعم المؤمن والكافر لا الإمامة والتقدم في الدين أو مبتدأ تضمن معنى الشرط ({فأمتعه قليلاً) خبره، وقليلاً: نصب بالمصدر والكفر، وإن لم يكن سبب التمتع لكنه سبب تقليله بأن يجعله مقصورًا بحظوظ الدنيا غير متوسل به إلى نيل الثواب ولذلك عطف عليه ({ثم أَضطّره إلى عذاب النارو}) أي ألجئه إليه ({وبئس المصير}). أي العذاب. فحذف المخصوص بالذم ({وإذ يرفع إبراهيم القواعد}) الأساس ({من البيت}) ورفعها البناء عليها وظاهره أنه كان مؤسسًا قبل إبراهيم، ويحتمل أن يكون المواد بالرفع نقلها من مكانها إلى مكان البيت ({وإسماعيل})، كان يناوله الحجارة يقولان ({ربنا تقبل منا}) بناء البيت ({إنك أنت السميع}). لدعائنا ({العليم}) بنياتنا ({ربنا واجعلنا مسلمين لك}) مخلصين لك منقادين ({ومن ذريتنا}) أي واجعل بعض ذريتنا ({أمة}) جماعة ({مسلمة لك}) خاضعة مخلصة، وإنما خصا الذرية بالدعاء لأنهم أحق بالشفقة ولأنهم إذا صلحوا بهم الأتباع، وخصا بعضهم لما أعلما في ذريتهما ظلمة وعلما أن الحكمة الإلهية لا تقتضي الاتفاق على الإخلاص والإقبال الكلي على الله فإنه مما يشوّش المعاش، ولذلك قيل: لولا الحمقى لخربت الدنيا قاله القاضي: ({وأرنا}) قال البيضاوي: من رأى بمعنى أبصر أو عرف ولذلك بتجاوز مفعولين. وقال أبو حيان: أي تصرنا إن كانت من رأي البصرية، والتعدي هنا إلى اثنين ظاهر لأنه منقول بالهمزة من المتعدي إلى واحد، وإن كانت من رؤية القلب فالمنقول أنها تتعدى إلى اثنين، فإذا دخلت عليها همزة النقل تعدّت إلى ثلاثة وليس هنا إلا اثنان فوجب أن يعتقد أنها من رؤية العين، وقد جعلها الزمخشري من رؤية القلب وشرحها بقوله: عرف فهي عنده تأتي بمعنى عرف أي تكون قلبية وتتعدى إلى واحد، ثم أدخلت همزة النقل فتعدت إلى اثنين ويحتاج ذلك إلى سماع من كلام العرب اهـ.
({مناسكنا}) متعبداتنا في الحج أو مذابحنا. وروى عبد بن حميد عن أبي مجلز قال، لما فرغ إبراهيم من البيت أتاه جبريل فأراه الطواف بالبيت سبعًا قال: وأحسبه بين الصفا والمروة ثم أتى به عرفة فقال" أعرفت؟ قال: نعم، قال: فمن ثم سميت عرفات ثم أتى به جميعًا فقال: هاهنا يجمع الناس الصلاة، ثم أتى به منى فعرض لهما الشيطان فأخذ جبريل سبع حصيات فقال: أرمه بها وكبّر مع كل حصاة ({وتب علينا})، استتابة لذريتهما لأنهما معصومان أو عما فرط منهما سهوًا، ولعلهما قالاه هضمًا لأنفسهما وإرشادًا لذريتهما ({إنك أنت التواب الرحيم}) [البقرة: الآيات: 125 - 126 - 127 - 128] لمن تاب. وهذه أربع آيات ساقها المصنف كلها كما هو في رواية كريمة، وللباقين بعض الآية الأولى، ولأبي ذر كلها ثم قال: إلى قوله التواب الرحيم.
1582 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي

عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَمَّا بُنِيَتِ الْكَعْبَةُ ذَهَبَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَبَّاسٌ يَنْقُلاَنِ الْحِجَارَةَ، فَقَالَ الْعَبَّاسُ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اجْعَلْ إِزَارَكَ عَلَى رَقَبَتِكَ، فَخَرَّ إِلَى الأَرْضِ، وَطَمَحَتْ عَيْنَاهُ إِلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ: أَرِنِي إِزَارِي، فَشَدَّهُ عَلَيْهِ".
وبالسند قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبوي ذر والوقت: حدثني (عبد الله بن محمد) المسندي الجعفي قال: (حدثنا أبو عاصم) النبيل هو أحد شيوخ المؤلّف أخرج عنه في غير موضع بواسطة (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن جريج) بضم الجيم الأولى وفتح الراء عبد الملك بن عبد العزيز (قال: أخبرني) بالإفراد أيضًا (عمرو بن دينار) بفتح العين (قال: سمعت جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- يقول): ولغير الكشميهني قال: (لما بنيت الكعبة) قبل المبعث بخمس سنين وكانت قريش خافت أن تنهدم من السيول، وقد اختلف في عدد بنائها والذي تحصل من ذلك أنها بنيت عشر مرات: بناء الملائكة قبل خلق آدم وذلك لما قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30] الآية خافوا وحافوا بالعرش ثم أمرهم الله تعالى أن يبنوا في كل سماء بيتًا وفي كل أرض بيتًا. قال مجاهد: هي أربعة عشر بيتًا، وقد روي أن الملائكة حين أسست الكعبة انشقت الأرض إلى منتهاها وقذفت فيها حجارة أمثال الإبل فتلك القواعد من البيت التي وضع عليها إبراهيم وإسماعيل.
ثم بناء آدم عليه الصلاة والسلام رواه البيهقي في دلائل النبوّة من حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا من طريق ابن لهيعة وفيه أنه قيل له: أنت

(3/143)


أوّل الناس وهذا أوّل بيت وضع للناس، لكن قال ابن كثير: أنه من مفردات ابن لهيعة وهو ضعيف، والأشبه أن يكون موقوفًا على عبد الله.
ثم بناء بني آدم من بعده بالطين والحجرة فلم يزل معمورًا يعمرونه هم ومن بعدهم حتى كان زمن نوح فنسفه الغرق وغير مكانه حتى بوّئ لإبراهيم عليه الصلاة والسلام فبناه كما هو ثابت بنص القرآن، وجزم الحافظ، بن كثير بأنه أوّل من بناه وقال: لم يجيء خبر عن معصوم أنه كان مبنيًّا قبل الخليل وقد كان المبلغ له ببنائه عن الملك الجليل جبريل فمن ثم قيل: ليس ثم في هذا العالم بناء أشرف من الكعبة لأن الآمر ببنائها الملك الجليل والمبلغ والمهندس جبريل، والباني الخليل، والتلميذ إسماعيل.
ثم بناء العمالقة، ثم جرهم رواه الفاكهي بسنده عن عليّ وذكر المسعودي أن الذي بناه من جرهم هو الحرث بن مضاض الأصغر، ثم بناء قصي بن كلاب كما ذكر الزبير بن بكار، ثم بناء قريش وحضره النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجعلوا ارتفاعها ثمانية عشر ذراعًا، وقيل عشرين ونقصوا من طولها ومن عرضها لضيق النفقة بهم، ثم بناء عبد الله بن الزبير وسببه توهين الكعبة من حجارة المنجنيق التي أصابتها حين حوصر ابن الزبير بمكة في أوائل سنة أربع وستين من الهجرة لمعاندة يزيد بن معاوية فهدمها حتى بلغت الأرض يوم السبت منتصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين، وبناها على قواعد
إبراهيم وأدخل فيها ما أخرجته منها قريش في الحجر فجعل لها بابين لاصقين بالأرض أحدهما بابها الموجود الآن والآخر المقابل له المسدود، وجعل فيها ثلاث دعائم في صف واحد وفرغ منها في سنة خمس وستين كما ذكره المسبحي العاشر بناء الحجاج، وكان بناؤه للجدار الذي من جهة الحجر بسكون الجيم والباب الغربي المسدود عند الركن اليماني وما تحت الباب الشرقي وهو أربعة أذرع وشبر على ما ذكره الأزرقي، وترك بقية الكعبة على بناء ابن الزبير، واستمر بناء الحجاج إلى الآن وقد أراد الرشيد أو أبوه أو جدّه أن يعيده على ما فعله ابن الزبير فناشده مالك في ذلك وقال: أخشى أن يصير ملعبة للملوك فتركه، ولم يتفق لأحد من الخلفاء ولا غيرهم تغيير شيء مما صنعه الحجاج إلى الآن إلا في الميزاب والباب وعتبته، وكذا وقع الترميم في الجدار الذي بناه الحجاج غير مرة وفي السقف وفي سلم السطح وجدّد فيها الرخام، وأوّل من فرشها بالرخام الوليد بن عبد الملك فيما قاله ابن جريج وهذا الحديث مرسل لأن جابرًا لم يدرك بناء قريش، لكن يحتمل أن يكون سمع ذلك من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو ممن حضره من الصحابة. وقد روى الطبراني وأبو نعيم في الدلائل من طريق ابن لهيعة عن أبي الزبير قال: سألت جابرًا هل يقوم الرجل عريانًا فقال: أخبرني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه لما انهدمت الكعبة الحديث. لكن ابن لهيعة ضعيف، وقد تابعه عبد العزيز بن سليمان عن أبي الزبير ذكره أبو نعيم فإن كان محفوظًا وإلا فقد حضره من الصحابة العباس فلعل جابرًا حمله عنه قاله في الفتح وجواب لما قوله:
(ذهب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وعباس) عمه (ينقلان الحجارة) على أعناقهما (فقال العباس للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اجعل إزارك على رقبتك) أي لتقوى به على حمل الحجارة ففعل عليه الصلاة والسلام ذلك (فخر) أي وقع (إلى الأرض وطمحت) بالواو والطاء المهملة والميم والحاء المهملة المفتوحات ولأبي ذر: فطمحت بالفاء (عيناه) أي شخصتا وارتفعتا (إلى السماء) والمعنى أنه صار ينظر إلى فوق. قال ابن المنير: فيه دليل على أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان متعبدًا قبل البعثة بالفروع التي بقيت محفوظة كستر العورة، لأن سقوطه إلى الأرض عند سقوط الإزار خشية من عدم الستر في تلك اللحظة اهـ.
وهذا يردّه ما في الدلائل للبيهقي عن سماك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس عن أبيه قال: لما بنت قريش انفردت رجلين رجلين ينقلون الحجارة فكنت أنا وابن أخي فجعلنا نأخذ أزرنا فنضعها على مناكبنا ونجعل عليها الحجارة فإذا دنونا من الناس لبسنا أزرنا، فبينما هو أمامي إذ صرع فسعيت وهو شاخ ببصره إلى السماء

(3/144)


قال فقلت لابن أخي ما شأنك؟ قال: نهيت أن أمشي عريانًا. قال: فكتمته حتى أظهر الله نبوّته. وفي التهذيب للطبراني: إني لمع غلمان هم أسناني قد جمعنا أزرنا على أعناقنا لحجارة ننقلها إذ لكمني لاكم لكمة شديدة ثم قال: اشدد عليك إزارك. وعند السهيلي في خبر آخر لما سقط ضمه العباس إلى نفسه وسأله عن شأنه فأخبره أنه نودي من السماء أن اشدد إزارك يا محمد. وفي رواية أن الملك نزل فشدّ عليه إزاره فوضح أن استتاره لم يكن مستند إلى شرع متقدم (فقال:) عليه الصلاة والسلام لعمه العباس

(أرني) بكسر الراء وسكونها أي أعطني (إزاري) لأن الإراءة من لازمها الإعطاء فأعطاه فأخذ (فشده عليه) زاد زكريا بن إسحاق في روايته السابقة في باب كراهية التعري في أوائل الصلاة فما رئي بعد ذلك عريانًا.
وفي هذا الحديث التحديث بالجمع والإفراد والإخبار بالإفراد والسماع والقول، ورواته ما بين بخاري وبصري ومكّي، وأخرجه أيضًا في بنيان الكعبة ومسلم في الطهارة.
1583 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنهم- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا: أَلَمْ تَرَىْ أَنَّ قَوْمَكِ لَمَّا بَنَوُا الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: لَوْلاَ حِدْثَانُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَفَعَلْتُ"
فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ -رضي الله عنه-: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- سَمِعَتْ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا أُرَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.
وبه قال (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن سالم بن عبد الله) بن عمر (أن عبد الله بن محمد بن أبي بكر) الصديق (أخبره) أباه (عبد الله بن عمر) بن الخطاب بنصب عبد الله على المفعولية والفاعل مضمر (عن عائشة) متعلق بأخبر (-رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها):
(ألم تري) مجزوم بحذف النون أي ألم تعرفي (أن قومك) قريشًا (لما) ولأبوي ذر والوقت: حين (بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم) (فقلت: يا رسول الله ألا تردّها على قواعد إبراهيم)؟ جمع قاعدة وهي الأساس (قال) عليه الصلاة والسلام: (لولا حدثان قومك) قريش بكسر الحاء وسكون الدال المهملتين وفتح المثلثة مبتدأ خبره محذوف وجوبًا أي موجود يعني قرب عهدهم (بالكفر لفعلت) أي لرددتها على قواعد إبراهيم، وفيه دليل على ارتكاب أيسر الضررين دفعًا لأكبرهما، لأن قصور البيت أيسر من افتتان طائفة من المسلمين ورجوعهم عن دينهم (فقال عبد الله) بن عمر (-رضي الله عنه-) وعن أبيه بالإسناد المذكور: (لئن كانت عائشة -رضي الله عنها- سمعت هذا من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ليس شكًا في قولها ولا تضعيفًا لحديثها فإنها الحافظة المتقنة، لكنه جرى على ما يعتاد في كلام العرب من الترديد للتقرير واليقين كقوله تعالى: {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} [الأنبياء: 111] (ما أرى) بضم الهمزة ما أظن (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر) بسكون الجيم أي يقربان منه وزاد معمر ولا طاف الناس من وراء الحجر (إلا أن البيت) الكعبة (لم يتمم) ما نقص منه وهو الركن الذي كان في الأصل (على قواعد إبراهيم) عليه السلام، فالموجود الآن في جهة

الحجر بعض الجدار الذي بنته قريش فلذلك لم يستلمهما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فلو استلمهما أو غيرهما من البيت أو قبل ذلك لم يكره ولا هو خلاف الأولى بل هو حسن لما في الاستقصاء عن الشافعي أنه قال: وأي البيت قبل فحسن غير أنا نأمر بالاتباع اهـ.
قال أبو عبد الله الأبي: وهذا الذي قاله ابن عمر من فقهه ومن تعليل العدم بالعدم علل عدم الاستلام بعدم أنهما من البيت.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في أحاديث الأنبياء وفي التفسير، ومسلم في الحج والنسائي فيه وفى العلم وفي التفسير.
1584 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو الأَحْوَصِ حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "سَأَلْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْجَدْرِ أَمِنَ الْبَيْتِ هُوَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَمَا لَهُمْ لَمْ يُدْخِلُوهُ فِي الْبَيْتِ؟ قَالَ: إِنَّ قَوْمَكِ قَصَّرَتْ بِهِمُ النَّفَقَةُ. قُلْتُ: فَمَا شَأْنُ بَابِهِ مُرْتَفِعًا؟ قَالَ: فَعَلَ ذَلِكِ قَوْمُكِ لِيُدْخِلُوا مَنْ شَاءُوا وَيَمْنَعُوا مَنْ شَاءُوا، وَلَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثٌ عَهْدُهُمْ بِالْجَاهِلِيَّةِ فَأَخَافُ أَنْ تُنْكِرَ قُلُوبُهُمْ أَنْ أُدْخِلَ الْجَدْرَ فِي الْبَيْتِ وَأَنْ أُلْصِقَ بَابَهُ بِالأَرْضِ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) قال: (حدّثنا أبو الأحوص) بفتح الهمزة وسكون الحاء آخره صاد مهملتين بينهما واو مفتوحة سلام بن سليم الجعفي قال: (حدّثنا أشعث) بهمزة مفتوحة فمعجمة ساكنة فعين مهملة مفتوحة فمثلثة ابن أبي الشعثاء المحاربي (عن الأسود بن يزيد) من الزيادة (عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سألت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الجدر) بفتح الجيم وسكون الدال المهملة، ولأبي ذر عن المستملي: عن الجدار بكسر ثم فتح فألف (أمن البيت هو)؟ بهمزة الاستفهام (قال:) عليه الصلاة والسلام

(3/145)


(نعم) هو منه لما فيه من أصول حائطه وظاهره أن الحجر كله من البيت، وبذلك كان يفتي ابن عباس. وقد روى عبد الرزاق عنه أنه قال: لو وليت من البيت ما ولي ابن الزبير لأدخلت الحجر كله في البيت فلم يطاف به إن لم يكن من البيت، وسيأتي إن شاء الله تعالى في آخر الطريق الرابعة لحديث عائشة هذا قول يزيد بن رومان الذي رواه عن عكرمة أنه أراه لجرير بن حازم فحرره ستة أذرع أو نحوها مع زيادة من فرائد الفوائد.
قالت عائشة: (قلت): أي لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فما لهم لم يدخلوه في البيت؟ قال) (إن قومك) قريشًا (قصرت) بتشديد الصاد المفتوحة، ولأبي ذر: قصرت بتخفيفها مضمومة (بهم النفقة): أي لم يتسعوا لإتمامه لقلة ذات يدهم. وقال في فتح الباري: أي النفقة الطيبة التي أخرجوها لذلك كما جزم به الأزرقي، ويوضحه ما ذكره ابن إسحاق في السيرة أن أبا وهب بن عائذ بن عمران بن

مخزوم قال لقريش: لا تدخلوا فيه من كسبكم إلا طيبًا ولا تدخلوا فيه مهر بغي ولا بيع ربا ولا مظلمة أحد من الناس اهـ.
قالت عائشة: (قلت فما شأن بابه مرتفعًا؟ قال) عليه الصلاة والسلام (فعل ذلك قومك) بكسر الكاف فيهما لأن الخطاب لعائشة (ليدخلوا من شاؤوا) ولأبي ذر عن المستملي: يدخلوها بغير لام وزيادة الضمير (ويمنعوا من شاءوا) زاد مسلم: فكان الرجل إذا هو أراد أن يدخلها يدعونه يرتقي حتى إذا كاد أن يدخل دفعوه فسقط، (ولولا أن قومك حديث) بالتنوين (عهدهم بالجاهلية) برفع عهدهم على الفاعلية، ولأبي ذر عن الكشميهني: بجاهلية منكرًا، وسبق في العلم من طريق الأسود حديث عهد بكفر، ولأبي عوانة من طريق عبادة عن عروة عن عائشة: حديث عهد بشرك (فأخاف أن تنكر قلوبهم أن أدخل الجدر) أي يخاف إنكار قلوبهم إدخال الجدر (في البيت) وجواب لولا محذوف أي لفعلت ذلك، وقد رواه مسلم عن سعيد بن منصور عن أبي الأحوص بلفظ: أن تنكر قلوبهم لنظرت أن أدخل، فأثبت جواب لولا وللإسماعيلي من طريق شيبان عن أشعث ولفظه:
لنظرت فأدخلت (وأن ألصق بابه بالأرض) فلا يكون مرتفعًا، ونقل ابن بطال عن علمائهم أن النفرة التي خشيها عليه الصلاة والسلام أن ينسبوه إلى الانفراد بالفخر دونهم.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا مسلم وابن ماجة في الحج.
1585 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَوْلاَ حَدَاثَةُ قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَنَقَضْتُ الْبَيْتَ ثُمَّ لَبَنَيْتُهُ عَلَى أَسَاسِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، فَإِنَّ قُرَيْشًا اسْتَقْصَرَتْ بِنَاءَهُ، وَجَعَلْتُ لَهُ خَلْفًا". قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: حَدَّثَنَا هِشَامٌ: خَلْفًا يَعْنِي بَابًا.
وبه قال: (حدّثنا عبيد بن إسماعيل) بضم العين وفتح الموحدة لقب عبد الله القرشي الهباري الكوفي غلب عليه وهو من ولد هبار بن الأسود قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-).
قال الحافظ أبو الفضل بن حجر: كذا رواه مسلم من طريق أبي معاوية، والنسائي من طريق عبدة بن سليمان، وأبو عوانة من طريق علي بن مسهر وأحمد عن عبد الله بن نمير كلهم عن هشام، وخالفهم القاسم بن معن فرواه عن هشام عن أبيه عن أخيه عبد الله بن الزبير عن عائشة أخرجه أبو عوانة، ورواية الجماعة أرجح فإن رواية عروة عن عائشة لهذا الحديث مشهورة من غير وجه، فسيأتي في الطريق الرابعة من رواية يزيد بن رومان عنه، وكذا لأبي عوانة من طريق قتادة وأبي النضر كلاهما عن عروة عن عائشة بغير واسطة، ويحتمل أن يكون عروة حمل عن أخيه عن عائشة منه شيئًا زائدًا على روايته عنها كما وقع للأسود بن يزيد مع ابن الزبير فيما تقدم شرحه في كتاب العلم اهـ.

(قالت: قال لي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ولولا حداثة قومك بالكفر) بفتح الحاء والدال المهملتين ثم المثلثة بعد الألف (لنقضت البيت ثم لبنيته على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام فإن قريشًا استقصرت بناءه) اقتصرت على هذا القدر لقصور النفقة عن تمامة ثم عطف المؤلّف على قوله لبنيته قوله: (وجعلت له) بتاء التكلم فاللام ساكنة. وقال في التنقيح كالقابسي بفتح اللام وسكون التاء يعني فيكون مسندًا إلى ضمير المؤنث فالتاء ساكنة لأنها تاء التأنيث اللاحقة للفعل، فيكون: وجعلت معطوفًا على استقصرت وهو وهم. قال: وروي

(3/146)


بإسكان اللام وضم التاء اهـ.
وهذا الأخير هو الظاهر لما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى (خلفًا) بسكون اللام بعد فتح الخاء المعجمة وآخره فاء.
(قال: أبو معاوية) محمد بن خازم بالخاء والزاي المعجمتين مما وصله مسلم والنسائي (حدّثنا هشام) هو ابن عروة (خلفًا يعني بابًا) من خلفه يقابل هذا الباب المقدم حتى يدخلوا من المقدم ويخرجوا من الذي خلفه، وعلى هذا التفسير يتعين كون جعلت مسندًا إلى ضمير المتكلم وهو النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا إلى ضمير يعود إلى قريش كما قاله الزركشي على ما لا يخفى، والتفسير المذكور من قول هشام كما بينه أبو عوانة من طريق علي بن مسهر عن هشام قال: الخلف الباب ولم يقع في رواية مسلم والنسائي هذا التفسير، وأخرجه ابن خزيمة عن أبي كريب عن أبي أسامة، وأدرج التفسير ولفظه: وجعلت له خلفًا يعني بابًا آخر من خلف.
1586 - حَدَّثَنَا بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا يَزِيدُ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لَهَا: يَا عَائِشَةُ لَوْلاَ أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ بَابًا شَرْقِيًّا وَبَابًا غَرْبِيًّا فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ". فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما- عَلَى هَدْمِهِ. قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنَ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الإِبِلِ. قَالَ جَرِيرٌ: فَقُلْتُ لَهُ أَيْنَ مَوْضِعُهُ؟ قَالَ: أُرِيكَهُ الآنَ. فَدَخَلْتُ مَعَهُ الْحِجْرَ، فَأَشَارَ إِلَى مَكَانٍ فَقَالَ: هَا هُنَا. قَالَ جَرِيرٌ: فَحَزَرْتُ مِنَ الْحِجْرِ سِتَّةَ أَذْرُعٍ أَوْ نَحْوَهَا.
وبالسند قال: (حدّثنا بيان بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم وبيان بفتح الموحدة وتخفيف التحتية وبعد الألف نون البخاري المتوفى سنة ثنتين وعشرين ومائتين قال: (حدّثنا يزيد) من الزيادة هو ابن هارون كما جزم به أبو نعيم في مستخرجه قال: (حدّثنا جرير بن حازم) بالحاء المهملة والزاي، وجرير بالجيم المفتوحة والراء المكررة بينهما تحتية قال: (حدّثنا يزيد بن رومان) بضم الراء وسكون الواو وتخفيف الميم وبعد الألف نون غير مصروف، ويزيد من الزيادة وهو مولى آل الزبير (عن عروة) بن الزبير بن العوّام.
قال الحافظ ابن حجر: كذا رواه الحفاظ من أصحاب يزيد بن هارون عنه، فأخرجه أحمد بن حنبل وأحمد بن سنان وأحمد بن منيع في مسانيدهم عن هكذا، والنسائي عن عبد الرحمن بن محمد بن سلام، والإسماعيلي من طريق هارون الجمال والزعفراني كلهم عن يزيد بن هارون، وخالفهم الحرث بن أبي أسامة فرواه عن يزيد بن هارون فقال: عن عبد الله بن الزبير بدل عروة بن الزبير، وهكذا أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي الأزهر عن وهب بن جرير بن حازم عن أبيه، قال الإسماعيلي: إن كان أبو الأزهر ضبطه فكأن يزيد بن رومان سمعه من الآخوين. قال الحافظ ابن حجر: قد تابعه محمد بن مشكان كما أخرجه الجوزقي عن الدغولي عنه عن وهب بن جرير ويزيد قد حمله عن الآخوين، لكن رواية الجماعة أوضح فهي أصح (عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها):
(يا عائشة لولا أن قومك حديث عهد بجاهلية) بإضافة حديث لعهد عند جميع الرواة. قال المطرزي: وهو لحن إذ لا يجوز حذف الواو في مثل هذا، والصواب حديثو عهد بواو الجمع كذا نقله الزركشي والحافظ ابن حجر والعيني وأقروه، وأجاب صاحب المصابيح بأنه لا لحن فيه ولا خطأ والرواية صواب وتوجه بنحو ما قالوه في قوله تعالى {ولا تكونوا أول كافر به} [البقرة: 41] حيث قالوا: إن التقدير أول فريق كافر أو فوج كافر يعنون أن مثل هذه الألفاظ مفردة بحسب اللفظ وجمع بحسب المعنى فيجوز لك رعاية لفظه تارة ومعناه أخرى كيف شئت، فانقل هذا إلى الحديث تجده ظاهرًا لا خفاء بصوابه. وقال صاحب اللامع: قد توجه بأن فيعلاً يستعمل للمفرد والجمع والمؤنث والمذكر كما في: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} وخرج عليه خبير بنو لهب إذا قلنا أنه خبر مقدم، فإذا صحت الرواية وجب التأويل.
(لأمرت بالبيت فهدم فأدخلت فيه ما أخرج منه) بضم الهمزة أي من الحجر (وألزقته بالأرض) بحيث يكون بابه على وجهها غير مرتفع عنها وألزقته بالزاي كألصقته بالصاد، (وجعلت له بابين بابًا شرقيًا) مثل الوجود الآن (وبابًا غربيًا فبلغت به أساس إبراهيم) عليه الصلاة والسلام. (فذلك الذي حمل ابن الزبير) عبد الله (على هدمه) البيت. زاد وهب وبنائه والإشارة في قوله ذلك إلى ما روته عائشة -رضي الله عنها- عنه عليه الصلاة والسلام مع عدم وجود ما كان عليه الصلاة والسلام يخافه من الفتنة وقصور النفقة كما في حديث عطاء عند مسلم بلفظ: وقال ابن الزبير: سمعت عائشة تقول: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لولا أن الناس حديث عهدهم بكفر وليس

(3/147)


عندي من النفقة ما يقوي على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له بابًا يدخل منه الناس وبابًا يخرجون منه فأنا اليوم أجد ما أنفق ولست أخاف الناس" الحديث.
(قال يزيد): بن رومان بالإسناد السابق: (وشهدت ابن الزبير حين هدمه) وكان قد هدمه حتى بلغ به الأرض (و) حين (بناه) وكان في سنة خمس وستين. وقال الأزرقي: في نصف جمادى الآخرة سنة أربع وستين وجمع بينهما بأن الابتداء كان في سنة أربع والانتهاء في سنة خمس، وأيدوه

بأن في تاريخ المسجى أن الفراغ من بناء البيت كان في سنة خمس وستين. زاد المحب الطبري أنه كان في شهر رجب. (وأدخل فيه من الحجر) خمسة أذرع. قال يزيد بن رومان: (وقد رأيت أساس إبراهيم حجارة كأسنمة الإبل) وفي كتاب مكة للفاكهي من طريق أبي أويس عن يزيد بن رومان: فكشفوا له أي لابن الزبير عن قواعد إبراهيم وهي صخر أمثال الخلف من الإبل ورأوه بنيانًا مربوطًا بعضه ببعض. وعند عبد الرزاق من طريق ابن سابط عن زيد: أنهم كشفوا عن القواعد فإذا الحجر مثل الخلفة والحجارة مشتبك بعضها ببعض. وفي رواية للفاكهي عن عطاء قال: كنت في الأبناء الذين جمعوا على حفره فحفروا قامة ونصفًا فهجموا على حجارة لها عروق تتصل بزرد عروق المروة فضربوه فارتجت قواعد البيت فكبر الناس فبني عليه، وفي رواية مرثد عند عبد الرزاق فكشف عن ربض في الحجر آخذ بعضه ببعض فتركه مكشوفًا ثمانية أيام ليشهدوا عليه فرأيت ذلك الربض مثل خلف الإبل وجه ووجه حجران ووجه حجر ووجه حجران، ورأيت الرجل يأخذ العتلة فيضرب بها من ناحية الركن فيهتز الركن الآخر.
(قال جرير): هو ابن حازم المذكور (فقلت له) أي ليزيد بن رومان: (أين موضعه) أي الأساس؟ (قال: أريكه الآن فدخلت معه الحجر فأشار إلى مكان) منه (فقال: هاهنا. قال جرير: فحزرت) بتقديم الزاي على الراء المهملة أي قدرت (من الحجر) بكسر الحاء وسكون الجيم (ستة أذرع) بالذال المعجمة جمع ذراع، ولأبي ذر: ست أذرع (أو نحوها).
قال في المصابيح: والسبب في كونه حرز ذلك ولم يقطع به أن المنقول أنه لم يكن حول البيت حائط يحجز الحجر من سائر المسجد حتى حجزه عمر بالبنيان ولم ينبه على الجدر الذي كان علامة على أساس إبراهيم عليه الصلاة والسلام بأن زاد ووسع قطعًا للشك، وصار الجدر في داخل التحجيز فلذلك حرز جرير ولم يقطع اهـ.
وهذا نقله المهلب عن ابن أبي زيد بلفظ: إن حائط الحجر لم يكن مبنيًا في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبي بكر حتى كان عمر فبناه قطعًا للشك، وفيه نظر لأن هذا إنما هو في حائط المسجد لا في الحجر ولم يزل الحجر موجودًا في عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما يصرح به كثير من الأحاديث الصحيحة، وهل الصحيح أن الحجر كله من البيت حتى لا يصح الطواف في جزء منه أو بعضه؟ فيصح جزم النووي بالأول كابن الصلاح لحديث الصحيحين: الحجر من البيت، وأبو محمد الجويني وولده إمام الحرمين والبغوي بالثاني.
وقال الرافعي: إنه الصحيح لحديث الباب وحديث مسلم عن الحرث عن عائشة: فإن لقومك أن يبنوه بعدي فهلمي لأريك ما تركوا منه قريبًا من سبعة أذرع. وله من طريق سعيد بن مينا عن عبد الله بن الزبير عنها: وزدت فيه ستة أذرع، ولسفيان بن عيينة في جامعه أن ابن الزبير زاد ستة أذرع مما يلي الحجر، وله أيضًا ستة أذرع وشبر، لكن قال ابن الصلاح منتصرًا لما ذهب إليه:

اضطربت الروايات في ذلك ففي الصحيحين: الحجر من البيت، وروى ستة أذرع، وروي ست أو نحوها، وروي خمس، وروي قريبًا من سبع وحينئذ يتعين الأخذ بأكثرها ليسقط الفرض بيقين. وقال الحافظ زين الدين العراقي في شرح سنن أبي داود: ظاهر نص الشافعي في المختصر أن الحجر كله من البيت وهو مقتضى كلام جماعة من أصحابه، وقال النووي: إنه الصحيح وبه قطع جماهير أصحابنا وقال هذا هو الصواب.
وتعقب بأن الجمع بين المختلف من

(3/148)


الأحاديث ممكن وهو أولى من دعوى الاضطراب والطعن في الروايات المقيدة لأجل الاضطراب، لأن شرط الاضطراب أن تتساوى الوجوه بحيث يتعذر الترجيح أو الجمع ولم يتعذر ذلك هنا فيتعين حمل المطلق على المقيد، وإطلاق اسم الكل على البعض سائغ مجازًا وحينئذ فالرواية التي جاء فيها أن الحجر من البيت مطلقة فيحمل المطلق منها على المقيد، ولم تأت رواية صريحة بأن جميع الحجر من بناء إبراهيم في البيت، وإنما قال النووي: ذلك نصرة لما صححه أن جميع الحجر من البيت، وعمدته في ذلك أن الشافعي نص على إيجاب الطواف خارج الحجر، ونقل ابن عبد البر الاتفاق عليه، لكن لا يلزم منه أن يكون كله من البيت فقد نص الشافعي كما ذكره البيهقي في المعرفة أن الذي في الحجر من البيت نحو من ستة أذرع، ونقله عن عدة من أهل العلم من قريش لقيهم، فيحتمل أن يكون رأي إيجاب الطواف من ورائه احتياطًا ولأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إنما طاف خارجه وقد قال: "خذوا عني مناسككم" وكما لا يصح الطواف داخل البيت لا يصح داخل جزء منه فلا يصح على الشاذروان بفتح الذال المعجمة وهو الخارج عن عرض جدار البيت مرتفعًا عن وجه الأرض قدر ثلثي ذراع تركته قريش لضيق النفعة، فلو كان في الطواف ومس جدار البيت في موازاة الشاذروان لا يصح على الأصح لأن بعض بدنه في البيت، والصحيح من مذهب الحنابلة لا يجزئه وقطعوا به. وعند الشيخ تقي الدين بن تيمية: إنه ليس من الكعبة فعلى الأول لو الجدار بيده في موازاة الشاذروان صح لأن معظمه خارج البيت قال: في الرعاية الكبرى: لكن قال المرداوي: ويحتمل عدم الصحة. وقال الحنفية: يصح طواف من لم يحترز منه، لكن قال العلامة ابن الهمام: وينبغي أن يكون طوافه وراء الشاذروان لئلا يكون طوافه في البيت بناء على أنه منه. وقال الكرماني من الحنفية: الشاذروان ليس من البيت عندنا، وعند الشافعي منه حتى لا يجوز الطواف عليه، والقول قوّلنا لأن الظاهر أن البيت هو الجدار المرئي قائمًا إلى أعلاه اهـ.
ومشهور مذهب المالكية كالشافعية، وعبارة الشيخ بهرام: ومن واجبات الطواف أن يطوف وجميع بدنه خارج عن شاذروان البيت وهو البناء المحدودب الذي في جدار البيت وأسقط من أساسه ولم يرفع على استقامته اهـ.
ونحوه قال الشيخ خليل في التوضيح: لكن نازع الخطيب أبو عبد الله بن رشيد بضم الراء وفتح المعجمة في رحلته في ذلك محتجًا بما حاصله أن لفظ الشاذروان لم يوجد في حديث صحيح ولا سقيم ولا عن أحد من السلف ولا ذكر له عن فقهاء المالكية إلا ما وقع في الجواهر لابن شاس،
وتبعه ابن الحاجب وهو بلا شك منقول من كتب الشافعية، وأقدم من ذكر ذلك منهم المزني ومن ذكره منهم كابن الصلاح والنووي مقربان اليمانيين على قواعد إبراهيم والآخرين ليسا عليها، فلو كان الشاذروان من البيت لكان الركن الأسود داخلاً في البيت ولم يكن متممًا على قواعد إبراهيم، فمن أين نشأ الشاذروان وقد انعقد الإجماع على أن المبيت متمم على قواعد إبراهيم من جهة الركنين اليمانيين، ولذلك استلمهما النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دون الآخرين، وأن ابن الزبير لما هدمه حتى بلغ به الأرض وبناه على قواعد إبراهيم إنما زاد فيه من جهة الحجر وأقامه على الأسس الظاهرة التي عاينها العدول من الصحابة وكبراء التابعين، وأن الحجاج لما نقض البيت بأمر عبد الملك لم ينقضه إلا من جهة الحجر خاصة، وهذا أمر معلوم مقطوع به مجمع عليه منقول بالسند الصحيح في الكتب المعتمدة التي لا يشك فيها أحد، وهو يرد قول ابن الصلاح: إن قريشًا لما رفعوا الأساس بمقدار ثلاثة أصابع من وجه الأرض وهو القدر الظاهر الآن من الشاذروان الأصلي قبل تزليقه نقصوا عرض الجدار عن عرض الأساس الأول. قال ابن رشيد: وكيف يقال أن هذا القدر الظاهر نقصته قريش من عرض الجدار، وهل بقي لبناء قريش أثر؟ فالسهو والغلط فيما نقله ابن الصلاح مقطوع به، ولعل ابن الصلاح نقله عن التاريخيين، وإلا فهذا لم يأت في خبر صحيح ولا روي من قول صاحب يصح

(3/149)


سنده، ولو صح لاشتهر ونقل، وإنما وضع هذا البناء حول البيت ليقيه السيول كما قاله ابن عبد ربه في كتاب العقد في صفة الكعبة.
وقال ابن تيمية أنه جعل عماد البيت وأيّده بأن داخل الحجر تحت حائط الكعبة الشاذروان فيكون هذا الشاذروان نظير الشاذروان الذي هو خارج البيت ولم يقل أحد أن هذا في الحجر له حكم الشاذروان الخارج ولا أنه عماد وأن الخارج شاذروان فكون هذا الشاذروان مراعى في الطواف لا دليل عليه، ومثل هذا لا يثبت إلا بالإجماع الصحيح المتواتر النقل اهـ.
وأقول قول ابن رشيد: إنه لم يوجد لفظ الشاذروان عن أحد من السلف، ونسبه ابن الصلاح إلى السهو والغلط فيما نقله من ذلك يقال عليه هذا الإمام الأعظم الشافعي قد قال ذلك فيما نقله عنه البيهقي في كتابه معرفة السنن والأخبار، وعبارته قال الشافعي: فكل طواف طافه على شاذروان الكعبة أو في الحجر أو على جداره فكما لم يطف. قال الشافعي: أما الشاذروان فأحسبه مبنيًا على أساس الكعبة ثم يقتصر بالبنيان عن استيطافه، ولا ريب أن الشافعي من أجل السلف ثم إنه لا يلزم من كونه عليه الصلاة والسلام كان يستلم الركنين اليمانيين عدم وجود الشاذروان ووجوده ليس مانعًا من استلامهما لصدق القول بأنهما على القواعد، وليس فيما نقله ابن رشيد تصريح بأن ابن الزبير وضع البناء على أساس إبراهيم عليه السلام بحيث لم يبق شيئًا مما يسمى شاذرون، ولا وقفت على ذلك في شيء من الروايات، فيحتمل أن يكون الأمر كذلك وأن يكون على حد بناء قريش فأبقي ما قيل أنهم أبقوه، وإذا احتمل الأمر واحتمل سقط الاستدلال به. نعم هدم ابن الزبير لجميع البيت الظاهر منه أنه كان ليعيده على القواعد بحيث لم يترك شيئًا منها خارجًا عن الجدار من جميع جوانبه وإلا فلو كان

غرضه إعادة ما نقصته قريش من جهة الحجر فقط لاكتفى بهدم ذلك فهدمه لجميعه وإعادته لا بد وأن يكون لغرض صحيح، وليس ثم سوى إعادته على بناء الخليل من غير أن يترك منه شيئًا، لكن روى مسلم في صحيحه عن عطاء قال: احترق البيت زمن يزيد بن معاوية قال ابن الزبير: يا أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهى منها. قال ابن عباس: إني أرى أن تصلح ما وهى منها وتدع بيتًا أسلم الناس عليه وأحجارًا أسلم الناس عليها وبعث عليها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فقال ابن الزبير: لو أن أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده فكيف ببيت ربكم إني مستخير ربي ثلاثًا ثم عازم على أمر، فلما مضى الثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها الحديث. فلم يقل أني أريد إعادته على قواعد إبراهيم بل قال جوابًا لابن عباس حيث قال: إني أرى أن تصلح ما وهى لو أن أحدكم احترق بيته ما رضي حتى يجدده ففيه مع ما قبله إشعار بأن الداعي له على الهدم والبناء زيادة ما نقصته قريش من البيت من جهة الحجر وما وهى بسبب الحريق فلم يتعين أن الهدم كان متمحضًا لإعادتها كلها على القواعد بحيث لا يترك منها شيئًا، ولم أر في شيء من الأحاديث التصريح بأن قريشًا أبقت من الأساس ما يسمى شاذروان، بل السياق مشعر بالتخصيص بالحجر فليتأمل.
وهذا الحديث من علامات النبوة حيث أعلم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عائشة بذلك فكان الذي تولى نقضها وبناءها ابن اختها ابن الزبير ولم ينقل أنه قال ذلك لغيرها من الرجال والنساء، ويؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لها: فإن بدا لقومك أن يبنوه فهلمي لأريك ما تركوا منه فأراها قريبًا من سبعة أذرع رواه مسلم في صحيحه.

43 - باب فَضْلِ الْحَرَمِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى [النمل: 91]
{إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَىْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}
وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَىْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [القصص: 57].
(باب فضل الحرم) المكي وهو ما أحاط بمكة وأطاف بها من جوانبها جعل الله تعالى له حكمها في الحرمة تشريفًا لها، وسمي حرمًا لتحريم الله تعالى فيه كثيرًا مما ليس بمحرم في غيره من المواضع، وحده من طريق المدينة عند التنعيم على ثلاثة أميال من مكة، وقيل أربعة ومن طريق اليمن طرف أضاة لبن بفتح الهمزة والضاد المعجمة. ولبن: بكسر اللام وسكون الموحدة على ستة أميال من مكة، وقيل سبعة ومن طريق الجعرانة على تسعة أميال بتقديم المثناة الفوقية على السين ومن طريق الطائف على عرفات من

(3/150)


بطن نمرة سبعة أميال، وقيل ثمانية. ومن طريق جدة عشرة أميال. وقال

الرافعي: هو من طريق المدينة على ثلاثة أميال، ومن العراق على سبعة، ومن الجعرانة على تسعة، ومن الطائف على سبعة، ومن جدة على عشرة وقد نظم ذلك بعضهم فقال:
وللحرم التحديد من أرض طيبة ... ثلاثة أميال إذا رمت اتقانه
وسبعة أميال عراق وطائف ... وجدة عشر ثم تسع جعرانه
وزاد أبو الفضل النويري هنا بيتين فقال:
ومن يمن سبع بتقديم سينها ... فسل ربك الوهاب يرزقك غفرانه
وقد زيد في حد لطائف أربع ... ولم يرض جمهور لذا القول رجحانه
وقال ابن سراقة في كتابه الإعداد: والحرم في الأرض موضع واحد وهو مكة وما حولها ومسافة ذلك ستة عشر ميلاً في مثلها وذلك بريد واحد وثلث على الترتيب، والسبب في بُعد بعض الحدود وقرب بعضها ما قيل إن الله تعالى لما أهبط على آدم بيتًا من ياقوتة أضاء له ما بين المشرق والمغرب فنفرت الجن والشياطين ليقربوا منها فاستعاذ منهم بالله وخاف على نفسه منهم، فبعث الله ملائكة فحفوا بمكة فوقفوا مكان الحرم، وذكر بعض أهل الكشف والمشاهدات أنهم يشاهدون تلك الأنوار واصلة إلى حدود الحرم فحدود الحرم موضع وقوف الملائكة، وقيل: إن الخليل لما وضع الحجر الأسود في الركن أضاء له نور وصل إلى أماكن الحدود فجاءت الشياطين فوقفت عند الأعلام فبناها الخليل عليه السلام حاجزًا. رواه مجاهد عن ابن عباس، وعنه أن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم عليه السلام موضع أنصاب الحرم فنصبها، ثم جددها إسماعيل عليه السلام، ثم جددها قصي بن كلاب، ثم جددها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فلما ولي عمر -رضي الله عنه- بعث أربعة من قريش فنصبوا أنصاب الحرم، ثم جددها معاوية -رضي الله عنه-، ثم عبد الملك بن مروان.
(وقوله تعالى) بالجر عطفًا على سابقه المجرور بالإضافة ({إنما أمرت}) أي قل لهم يا محمد إنما أمرت ({أن أعبد رب هذه البلدة}) مكة ({الذي حرمها}) لا يسفك فيها دم حرام ولا يظلم فيها أحد ولا يهاج صيدها ولا يختلى خلاها، وتخصيص مكة بهذه الأوصاف تشريف لها وتعظيم لشأنها والذي بالذال في موضع نصب نعت لرب ({وله كل شيء}) البلدة وغيرها خلقًا وملكًا ({وأمرت أن أكون من المسلمين}) [النمل: 91] المنقادين الثابتين على الإسلام، ووجه تعلق هذه الآية بالترجمة من حيث أنه اختصها من بين جميع البلاد بإضافة اسمه إليها لأنها أحب بلاده إليه وأكرمها عليه وموطن نبيه ومهبط وحيه.
(وقوله جل ذكره) بالجر عطفًا على السابق ({أو لم نمكن لهم حرمًا آمنًا}) أو لم نجعل مكانهم حرمًا ذا أمن بحرمة البيت الذي فيه ({يجبى إليه}) يحمل إليه ويجمع فيه ({ثمرات كل شيء رزقًا من لدنا}) مصدر من معنى يجبى لأنه في معنى يرزق أو مفعول له أو حال بمعنى مرزوقًا من ثمرات، وجاز لتخصيصها بالإِضافة أي إذا كان هذا حالهم وهم عبدة الأصنام فكيف يعترضهم التخوف

والتخطف إذا ضموا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد. ({ولكن أكثرهم لا يعلمون}) [القصص: 57] جهلة لا يتفكّرون هذه النعم التي خصوا بها. وروى النسائي أن الحرث بن عامر بن نوفل قال للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا فأنزل الله تعالى ردًّا عليه {أولم نمكن لهم حرمًا آمنًا} الآية.
1587 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ: إِنَّ هَذَا الْبَلَدَ حَرَّمَهُ اللَّهُ، لاَ يُعْضَدُ شَوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ لُقَطَتَهُ إِلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا جرير بن عبد الحميد) بفتح الجيم، وعبد الحميد بفتح الحاء المهملة وكسر الميم ابن قرط بضم القاف وسكون الراء بعدها طاء مهملة الضبي الكوفي نزيل الري وقاضيها (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن مجاهد) هو ابن جبر المفسر (عن طاوس) هو ابن كيسان اليماني (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله

(3/151)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم فتح مكة.
(أن هذا البلد حرمه الله)، زاد المؤلّف في باب: غزوة الفتح يوم خلق السماوات والأرض فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة يعني: أن تحريمه أمر قديم وشريعة سالفة مستمرة ليس مما أحدثه أو اختص بشرعه، وهذا لا ينافي قوله في حديث جابر عند مسلم: أن إبراهيم حرمها لأن إسناد التحريم إليه من حيث أنه مبلغه، فإن الحاكم بالشرائع والأحكام كلها هو الله تعالى والأنبياء يبلغونها، فكما تضاف إلى الله تعالى من حيث أنه الحاكم بها تضاف إلى الرسل لأنها تسمع منهم وتبين على ألسنتهم، والحاصل أنه أظهر تحريمها بعد أن كان مهجورًا إلا أنه ابتدأه أو حرمها بإذن الله يعني أنه تعالى كتب في اللوح المحفوظ يوم خلق السماوات والأرض أن إبراهيم سيحرم مكة بأمر الله تعالى.
(لا يعضد) بضم أوّله وفتح الضاد المعجمة أي يقطع (شوكه ولا ينفر صيده)، لا يزعج من مكانه فإن نفره عصى سواء تلف أم لا. لكن إن تلف في نفاره قبل السكون ضمن دمه بالتنفير على الإتلاف ونحوه لأنه إذا حرم التنفير فالإتلاف أولى. (ولا يلتقط لقطته) بفتح القاف في اليونينية وبسكونها في غيرها. قال الأزهري: والمحدثون لا يعرفون غير الفتح، ونقل الطيبي عن صاحب شرح السنة أنه قال: اللقطة بفتح القاف والعامة تسكنها. وقال الخليل: هو بالسكون وأما بالفتح فهو الكثير الالتقاط. قال الأزهري: وهو القياس. وقال ابن بري في حواشي الصحاح: وهذا هو الصواب لأن الفعلة للفاعل كالضحكة للكثير الضحك. وفي القاموس: واللقط محركة أي بغير هاء وكحزمة وهمزة وثمامة التقط اهـ.
وهي هنا نصب مفعول مقدم والفاعل قوله: (إلا من عرفها) أي أشهرها ثم يحفظها لمالكها ولا يتملكها أي عرفها ليعرف مالكها فيردّها إليه، وهذا بخلاف غير الحرم فإنه يجوز تملكها بشرطه،

وقال الحنفية والمالكية: حكمها واحد في سائر البلاد لعموم قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة من غير فصل. لنا: أن قوله ولا يلتقط لقطته ورد مورد بيان الفضائل المختصة بمكة كتحريم صيدها وقطع شجرها، وإذا سوّى بين لقطة الحرم وبين لقطة غيره من البلاد بقي ذكر اللقطة في هذا الحديث خاليًا عن الفائدة.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الحج والجزية والجهاد، ومسلم وأبو داود في الحج والجهاد، والترمذي في السير، والنسائي في الحج.

44 - باب
تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ وَبَيْعِهَا وَشِرَائِهَا. وَأَنَّ النَّاسَ فِي مَسْجِدِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ خَاصَّةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25]. الْبَادِي: الطَّارِئ. مَعْكُوفًا: مَحْبُوسًا.
(باب) حكم (توريث دور مكة وبيعها وشرائها وأن الناس في مسجد الحرام) بالتنكير في الأول، ولأبي ذر: في المسجد الحرام بالتعريف فيهما (سواء خاصة)، قيد للمسجد الحرام أي المساواة إنما هي في نفس المسجد لا في سائر المواضع من مكة (لقوله تعالى) تعليل لقوله وإن الناس في المسجد الحرام سواء: ({إن الذين كفروا}) أي أهل مكة ({ويصدون}) يصرفون الناس ({عن سبيل الله}) عن دين الإسلام. قال البيضاوي كالزمخشري: لا يريد به حالاً ولا استقبالاً، وإنما يريد استمرار الصدّ منهم، ولذلك حسن عطفه على الماضي، وقيل هو حال من فاعل كفروا ({والمسجد الحرام) عطف على اسم الله يعني وعن المسجد الحرام، والآية مدنية وذلك أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما خرج مع أصحابه عام الحديبية منعهم المشركون عن المسجد الحرام ({الذي جعلناه للناس سواء العاكف فيه والباد}) [الحج: 25] سواء رفع على أنه خبر مقدم، والعاكف والباد: مبتدأ مؤخر وإنما وحد الخبر وإن كان المبتدأ اثنين لأن سواء في الأصل مصدر وصف به. وقرأ حفص سواء بالنصب على أنه مفعول ثان لجعل إن جعلناه يتعدى لمفعولين، وإن قلنا يتعدى لواحد كان حالاً من هاء جعلناه، وعلى التقديرين فالعاكف مرفوع على الفاعلية لأنه مصدر وصف به فهو في قوّة اسم الفاعل المشتق تقديره جعلناه مستويًا فيه العاكف والبادي، والمراد بالمسجد الذي يكون فيه النسك والصلاة لا سائر دور مكة. وأوّله أبو حنيفة بمكة واستدلّ بقوله الذي جعلناه للناس سواء على عدم جواز بيع دورها وإجمارتها، وهو مع ضعفه معارض

(3/152)


بحديث الباب.
وقوله تعالى: {الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم} [الحشر: 8] فنسب الله الديار إليهم كما نسب الأموال إليهم، ولو كانت الديار ليست بملك لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج من دور

ليست ملك لهم. قال ابن خزيمة: لو كان المراد بقوله تعالى: ({سواء العاكف فيه والباد}) جميع الحرم وأن اسم المسجد الحرام واقع على جميع الحرم لما جاز حفر بئر ولا قبر ولا التغوّط ولا البول ولا إلقاء الجيف والنتن، ولا نعلم عالمًا منع من ذلك ولا كره لجنب وحائض ودخل الحرم ولا الجماع فيه، ولو كان كذلك لجاز الاعتكاف في دور مكة وحوانيتها ولا يقول بذلك أحد.
({ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم}) [الحج: 25] الباء في بإلحاد صلة أي: ومن يرد فيه إلحادًا كما في قوله تعالى: {تنبت بالدهن} [المؤمنون: 20] قال في الكشاف: ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول كأنه قال: ومن يرد فيه مرادًا ما عادلاً عن القصد، وقوله: بإلحاد وبظلم حالان مترادفان، وخبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه تقديره إن الذين كفروا ويصدون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم، وكل من ارتكب فيه ذنبًا فهو كذلك.
وقال المؤلّف يفسر ما وقع من غريب الألفاظ على عادته: (البادي: الطاري) وفي الفرع بالهمز مصلح على كشط وهو تفسير منه بالمعنى. قال في الفتح: وهو مقتضى ما جاء عن ابن عباس وغيره كما رواه عبد بن حميد وغيره وهو موافق لما قاله البيضاوي وغيره. (معكوفًا: محبوسًا) وليست هذه الكلمة في هذه الآية بل في قوله: والهدي معكوفًا أن يبلغ محله في سورة الفتح، ويمكن أن يكون ذكرها لمناسبة قوله تعالى هنا: سواء العاكف فيه أي المقيم والباد في وجوب تعظيمه عليهم ولزوم احترامهم له وإقامة مناسكه قاله الحسن ومجاهد وغيرهما. وذهب ابن عباس وابن جبير وقتادة وغيرهم إلى أن التسوية بين البادي والعاكف في منازل مكة، وهو مذهب أبي حنيفة وقال به محمد بن الحسن فليس المقيم بها أحق بالمنزل من القادم عليها، واحتج لذلك بحديث علقمة بن نضلة عند ابن ماجة قال: توفي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن. زاد البيهقي: ومن استغنى أسكن، وزاد الطحاوي بعد قوله على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- ما تباع ولا تكرى، لكنه منقطع لأن علقمة ليس بصحابي، وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد أن عمر قال: يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابًا لينزل البادي: حيث شاء.
وأجيب: بأن المراد كراهة الكراء رفقًا بالوفود ولا يلزم من ذلك منع البيع والشراء.
1588 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ حُسَيْنٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ عُثْمَانَ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ تَنْزِلُ، فِي دَارِكَ بِمَكَّةَ؟ فَقَالَ: وَهَلْ تَرَكَ عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ؟ وَكَانَ عَقِيلٌ وَرِثَ أَبَا طَالِبٍ هُوَ وَطَالِبٌ، وَلَمْ يَرِثْهُ جَعْفَرٌ وَلاَ عَلِيٌّ -رضي الله عنهما- شَيْئًا، لأَنَّهُمَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ وَكَانَ عَقِيلٌ وَطَالِبٌ كَافِرَيْنِ، فَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- يَقُولُ: لاَ يَرِثُ الْمُؤْمِنُ الْكَافِرَ" قَالَ ابْنُ شِهَابٍ وَكَانُوا يَتَأَوَّلُونَ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى [الأنفال: 72] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} الآيَةَ. [الحديث 1588 - أطرافه 3058، 4282، 6764].
وبالسند قال: (حدّثنا أصبغ) بن الفرج (قال: أخبرني) بالإفراد (ابن وهب) عبد الله (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن علي بن حسين) المشهور بزين العابدين ولأبي ذر: ابن الحسين (عن عمرو بن عثمان) بن عفان أمير المؤمنين -رضي الله عنه- وعمرو بفتح العين وسكون الميم (عن أسامة بن زيد) حب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (-رضي الله عنه- أنه قال: يا رسول الله أين تنزل) زاد في المغازي غدًا (في دارك بمكة)؟ قال في الفتح: حذفت أداة الاستفهام من قوله في دارك بدليل رواية ابن خزيمة والطحوي عن يونس بن عبد الأعلى عن ابن وهب بلفظ: أتنزل في دارك؟ قال: فكأنه استفهمه أوّلاً عن مكان نزوله ثم ظن أنه ينزل في داره فاستفهمه عن ذلك اهـ.
وتعقبه العيني بأن أين كلمة استفهام فلم يبق وجه لتقدير حرف لاستفهام. قال: وما وجه قوله حذفت أداة الاستفهام من قوله في دارك والاستفهام عن النزول في الدار لا عن نفس الدار اهـ.
والذي قاله في الفتح هو الأظهر فليتأمل (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(وهل ترك) زاد مسلم كالبخاري في المغازي هنا لنا (عقيل) بفتح العين وكسر القاف (من رباع) بكسر الراء جمع ربع المحلة أو المنزل المشتمل على أبيات أو الدار وحينئذٍ فيكون قوله (أو دور)؟ تأكيدًا أو شكًا من الراوي وجمع النكرة وإن كانت في سياق الاستفهام الإنكاري تفيد العموم للإشعار بأنه لم يترك من الرباع المتعددة شيء ومن

(3/153)


للتبعيض قاله الكرماني، وقيل، إن هذه الدار كانت لهاشم بن عبد مناف ثم صارت لابنه عبد المطلب فقسمها بين ولده فمن ثم صار للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حق أبيه عبد الله، وفيها ولد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قاله الفاكهي. وظاهر قوله: وهل ترك لنا عقيل من رباع أنها كانت ملكه فأضافها إلى نفسه، فيحتمل أن عقيلاً تصرف فيها كما فعل أبو سفيان بدور المهاجرين، ويحتمل غير ذلك. وقد فسر الراوي ولعله أسامة المراد بما أدرجه هنا حيث قال:
(وكان عقيل ورث) أباه (أبا طالب) اسمه عبد مناف (هو و) أخوه (طالب) المكنى به عبد مناف أبوه (ولم يرثه) أي ولم يرث أبا طالب ابناه (جعفر) الطيار ذو الجناحين (ولا علي) أبو تراب (-رضي الله عنهما- شيئًا لأنهما كانا مسلمين) ولو كانا وارثين لنزل عليه الصلاة والسلام في دورهما وكانت كأنها ملكه لعلمه بإيثارهما إياه على أنفسهما، وكان قد استولى طالب وعقيل على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما، أو باعتبار ترك النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحقه منها بالهجرة، وفقد طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها. وحكى الفاكهي أن الدار لم تزل بيد أولاد عقيل إلى أن باعوها لحمد بن يوسف أخي الحجاج بمائة ألف دينار، وقال الداودي وغيره: كان كل من هاجر من المؤمنين باع قريبه الكافر داره فأمضى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تصرفات الجاهلية تأليفًا لقلوب من أسلم منهم.

(وكان عقيل وطالب كافرين فكان عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- يقول:) مما هو موقوف عليه (لا يرث المؤمن الكافر) وقد أخرجه المؤلّف مرفوعًا في المغازي (قال ابن شهاب:) محمد بن مسلم الزهري (وكانوا) أي السلف (يتأولون قول الله تعالى) أي يفسرون الولاية في قوله تعالى: ({إن الذين آمنوا) أي صدقوا بتوحيد الله تعالى وبمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقرآن ({وهاجروا}) من مكة إلى المدينة ({وجاهدوا}) العدو ({بأموالهم}) فصرفوها في الكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج ({وأنفسهم}) بمباشرة القتال ({في سبيل الله}) في طاعته وما فيه رضاه ({والذين آووا ونصروا}) هم اللأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم ونصروهم على أعدائهم ({أولئك بعضهم أولياء بعض} [الأنفال: 72] الآية بالنصب يعني بتمامها، أو بتقدير اقرأ بولاية الميراث، وكان المهاجرون والأنصار يتوارثون بالهجرة والنصرة دون الأقارب حتى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض} [الأنفال: 75] والذي يفهم من الآية المسوقة هنا أن المؤمنين يرث بعضهم بعضًا، ولا يلزم منه أن المؤمن لا يرث الكافر لكنه مستفاد من بقية اللآية المشار إليها بقول المؤلّف الآية وهي قوله تعالى: {والدين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا} [الأنفال: 72] أي من توليهم في الميراث، إذ الهجرة كانت في أول عهد البعثة من تمام الإيمان فمن لم يكن مهاجرًا كأنه ليس مؤمنًا، فلهذا لم يرث المؤمن المهاجر منه. وسقط قوله الآية في رواية ابن عساكر.
وفي هذا الحديث التحديث والإخبار والعنعنة والقول، ورواته ما بين بصري وايلي ومدني، وأخرجه أيضًا في الجهاد والمغازي، ومسلم في الحج وكذا أبو داود والنسائي، وأخرجه ابن ماجة في الفرائض.

45 - باب نُزُولِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ
(باب) موضع (نزول النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة).
1589 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَرَادَ قُدُومَ مَكَّةَ: مَنْزِلُنَا غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ". [الحديث 1589 - أطرافه في: 1590، 3882، 4284، 4285، 7479].
وبالسند قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (قال: حدثني) بالإفراد (أبو سلمة) بن عبد الرحمن (أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أراد قدوم مكة) بعد رجوعه من منى وتوجهه إلى البيت الحرام.

(منزلنا) بالرفع مبتدأ (غدًا) ظرف (إن شاء الله تعالى) اعتراض بين المبتدأ وخبره وهو قوله: (بخيف بني كنانة) أي فيه وهو بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتية آخره فاء ما انحدر من الجبل وارتفع عن المسيل، والمراد به الحصب (حيث تقاسموا) أي تحالفوا (على الكفر) وهو تبرؤهم من بني هاشم وبني المطلب أن لا يقبلوا لهم صلحًا الآتي ذلك في الحديث التالي

(3/154)


لهذا الحديث مستوفى إن شاء الله تعالى، وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الهجرة والمغازي.
1590 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ حَدَّثَنَا الأَوْزَاعِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ "قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْغَدِ يَوْمَ النَّحْرِ -وَهُوَ بِمِنًى- نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ، يَعْنِي ذَلِكَ الْمُحَصَّبَ، وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا وَكِنَانَةَ تَحَالَفَتْ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -أَوْ بَنِي الْمُطَّلِبِ- أَنْ لاَ يُنَاكِحُوهُمْ وَلاَ يُبَايِعُوهُمْ حَتَّى يُسْلِمُوا إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وَقَالَ سَلاَمَةُ عَنْ عُقَيْلٍ، وَيَحْيَى بْنُ الضَّحَّاكِ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ: أَخْبَرَنِي ابْنُ شِهَابٍ. وَقَالاَ: بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: بَنِي الْمُطَّلِبِ أَشْبَهُ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير المكي قال: (حدّثنا الوليد) بن مسلم القرشي الأموي الدمشقي قال: (حدّثنا الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو (قال: حدثني) بالإفراد (الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن أبي سلمة) بن عبد الرحمن (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي) ولأبي ذر: قال رسول الله:
(من الغد) وهو ما بين الصبح وطلوع الشمس (يوم النحر). نصب على الظرفية (وهو بمنى) أي قال في غداة يوم النحر حال كونه بمنى ومقول قوله عليه الصلاة والسلام (نحن نازلون غدًا بخيف بني كنانة) والمراد بالغد هنا ثالث عشر ذي الحجة يوم النزول بالمحصب فهو مجاز في إطلاقه كما يطلق أمس على الماضي مطلقًا وإلا فثاني العيد هو الغد حقيقة، وليس مرادًا قاله البرماوي كالكرماني (حيث تقاسموا) تحالفوا (على الكفر).
قال الزهري مما أدرجه من قوله (يعني) عليه الصلاة والسلام (ذلك) وللأصيلي وأبي ذر عن الكشميهني: بذلك أي بخيف بني كنانة (المحصب)، بضم الميم وفتح الحاء والصاد المشددة المهملتين، (وذلك) أي تقاسمهم على الكفر (أن قريشًا وكنانة).
قال في الفتح: فيه إشعار بأن في كنانة من ليس قرشيًا إذ العطف يقتضي المغايرة فترجح القول بأن قريشًا من ولد فهر بن مالك على القول بأنهم ولد كنانة. نعم، لم يعقب النضر غير مالك ولا مالك غير فهر فقريش ولد النضر بن كنانة وأما كنانة فأعقب من غير النضر، ولهذا وقعت المغايرة اهـ.

(تحالفت) بالحاء المهملة وكان القياس فيه تحالفوا لكنه أفرد بصيغة المفرد والمؤنث باعتبار الجماعة (على بني هاشم وبني عبد المطلب أو بني المطلب) بالشك في جميع الأصول، وعند البيهقي من طريق أخرى: وبني عبد المطلب بغير شك (أن لا يناكحوهم) فلا يتزوج قريش وكنانة امرأة من بني هاشم وبني عبد المطلب ولا يزوجون امرأة منهم إياهم، (ولا ببايعوهم) لا يبيعوا لهم ولا يشتروا منهم، وعند الإسماعيلي: ولا يكون بينهم وبينهم شيء (حتى يسلموا) بضم أوله وإسكان السين المهملة وكسر اللام المخففة (إليهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وكتبوا بذلك كتابًا بخط منصور بن عكرمة العبدري فشلت يده، أو بخط بغيض بن عامر بن هاشم وعلقوه في جوف الكعبة فاشتد الأمر على بني هاشم وبني عبد المطلب في الشعب الذي انحازوا إليه، فبعث الله الأرضة فلحست كل ما فيها من جور وظلم وبقي ما كان فيها من ذكر الله فأطلع الله رسوله على ذلك فأخبر به عمه أبا طالب
فقال أبو طالب لكفار قريش: إن ابن أخي أخبرني ولم يكذبني قط أن الله قد سلط على صحيفتكم الأرضة فلحست ما كان فيها من ظلم وجور وبقي فيها ما كان من ذكر الله فإن كان ابن أخي صادقًا نزعتم عن سوء رأيكم وإن كان كاذبًا دفعته إليكم فقتلتموه أو استحييتموه. قالوا: قد أنصفتنا فوجدوا الصادق المصدوق قد أخبر بالحق فسقط في أيديهم ونكسوا على رؤوسهم، وإنما اختار النزول هناك شكرًا لله تعالى على النعمة في دخوله ظاهرًا ونقضًا لما تعاقدوه بينهم وتقاسموا عليه من ذلك.
(وقال سلامة) بن روح بن خالد الأيلي مما وصله ابن خزيمة في صحيحه (عن) عمه (عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن خالد الأيلي (ويحيى عن الضحاك) كذا في غير فرع لليونينية. قال الحافظ ابن حجر: وهي رواية أبي ذر وكريمة وهو وهم، ولغيرهما ويحيى بن الضحاك نسبة لجده وأبوه عبد الله البابلتي بفتح الموحدة الثانية كما رأيته بخط شيخنا الحافظ السخاوي. وقال العيني: بضمها وبعد اللام المضمومة مثناة فوقية مشدّدة. وقال الحافظ ابن حجر: بموحدتين وبعد اللام المضمومة مثناة مشددة منسوب إلى جده، وليس له في هذا الكتاب غير هذا الموضع المعلق، وقد وصله أبو عوانة في صحيحه والخطيب في المدرج (عن الأوزاعي) عبد الرحمن بن عمرو ولكن قال يحيى بن معين: يحيى البابلتي والله لم يسمع عن الأوزاعي شيئًا نعم. ذكر الهيثم بن خلف الدوري أن أمه

(3/155)


كانت تحت الأوزاعي وحينئذٍ فلا يبعد سماعه منه لأنه في حجره. (أخبرني) بالإِفراد (ابن شهاب) الزهري (وقالا): أي سلامة ويحيى (بني هاشم وبني المطلب) دون لفظ عبد، وقد تابعه على الجزم بقوله بني هاشم وبني المطلب محمد بن مصعب عن الأوزاعي كما عند أحمد.
(قال أبو عبد الله) البخاري قوله (بني المطلب) بحذف عبد (أشبه) أي بالصواب لأن عبد المطلب هو ابن هاشم فلفظ هاشم مغن عنه، وأما المطلب فهو أخو هاشم وهما ابنان لعبد مناف فالمراد أنهم تحالفوا على بني عبد مناف.

46 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: [إبراهيم: 35]
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} الآيَةَ.
(باب قول الله تعالى): ({وإذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد) مكة ({آمنًا}) ذا أمن لمن فيها ((واجنبني) بعدني ({وبني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرًا من الناس) فلذلك سألت منك العصمة واستعذت بك من إضلالهن وأسند الإضلال إليهن باعتبار السبب ({فمن تبعني}) على ديني ({فإنه مني}) بعضي ({ومن عصاني}) لم يطعني ولم يوحدك ({فإنك غفور رحيم}) تقدر أن تغفر له وترحمه ولا يجب عليك شيء، وقيل معناه ومن عصاني فيما دون الشرك أو أنك غفور بعد الإِنابة ({ربنا إني أسكنت من ذريتي}) بعضها إسماعيل ({بواد غير ذي زرع}) يعني مكة ({عند بيتك المحرم})، الذي في علمك أنه يحدث في ذلك الوادي ({ربنا ليقيموا الصلاة}) أي أسكنتهم كي يقيموا الصلاة عند بيتك ({فاجعل أفئدة من الناس}) أي قلوبًا ومن للتبعيض ({تهوي}) تسرع ({إليهم}) [إبراهيم: 35، 36، 37] شوقًا وودًّا، وعن بعض السلف لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم والناس كلهم لكنه قال فمن الناس فاختص به المسلمون، وقال إليهم لأنه أوحي إليه أنه ستكثر ذريته بها. وقال تهوي لأن تهامة غور منخفضة وذكر القلوب لأن الأجساد تبع لها (الآية) بالنصب بتقدير أعني أو اقرأ، وسقط في رواية ابن عساكر من قوله: {رب إنهن أضللن} ولفظ رواية أبي ذر: أن تعبد الأصنام إلى قوله {لعلهم يشكرون} أي نعمتك ولم يذكر المصنف في هذا الباب حديثًا لأنه لم يجد حديثًا على شرطه.

47 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى [المائدة: 97]
{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ}.
(باب قول الله تعالى): ({جعل الله}) أي صير ({الكعبة}) وسميت بذلك لتكعبها ({البيت الحرام}) عطف بيان على جهة المدح ({قيامًا للناس}) انتعاشًا لهم من أي سبب انتعاشهم في أمر معاشهم ومعادهم يلوذ به الخائف ويأمن فيه الضعيف ويربح فيه التجار ويتوجه إليه الحجاج والعمار أو ما يقوم به أمر دينهم ودنياهم ({والشهر الحرام}) الذي يؤدى فيه الحج وهو ذو الحجة ({والهدي والقلائد ذلك}) إشارة إلى الجعل أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام وغيره ({لتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض}) فإن شرع الأحكام لدفع المضار قبل وقوعها وجلب المنافع

المترتبة عليها دليل حكمة الشارع وكمال علمه ({وأن الله بكل شيء عليم}) [المائدة: 97] تعميم بعد تخصيص، وقد أشار المؤلّف بهذه الآية الكريمة إلى أن قوام أمور الناس وانتعاش أمر دينهم بالكعبة المشرفة فإذا زالت الكعبة على يد ذي السويقتين تختل أمور الناس فلذا أورد حديث أبي هريرة.
1591 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا زِيَادُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ». [الحديث 1591 - طرفه في: 1596].
وبالسند قال (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: حدّثنا زياد بن سعد) بسكون العين وكسر زاي زياد وتخفيف يائها المثناة تحت الخراساني (عن) ابن شهاب (الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال:)
(يخرب الكعبة) بضم الياء وفتح الخاء المعجمة وتشديد الراء مكسورة من التخريب، والجملة فعل ومفعول والفاعل قوله (ذو السويقتين من الحبشة) تثنية سويقة مصغر الساق ألحق بها التاء في التصغير لأن الساق مؤنثة والتصغير للتحقير، وفي سيقان الحبشة دقة فلذا أصغرها ومن للتبعيض أي يخربها ضعيف من هذه الطائفة، والحبشة نوع من السودان ولا ينافي ما ذكر هنا قوله تعالى: {أو لم يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا} [العنكبوت: 67] لأن الأمن إلى قريب القيامة وخراب الدنيا حينئذ فيأتي ذو السويقتين.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا قريبًا، ومسلم في الفتن، والنسائي في الحج والتفسير.
1592 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ هُوَ ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "كَانُوا يَصُومُونَ عَاشُورَاءَ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ رَمَضَانُ، وَكَانَ يَوْمًا تُسْتَرُ فِيهِ الْكَعْبَةُ. فَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ رَمَضَانَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ شَاءَ أَنْ يَصُومَهُ فَلْيَصُمْهُ، وَمَنْ شَاءَ أَنْ يَتْرُكَهُ فَلْيَتْرُكْهُ". [الحديث 1592 - أطرافه في: 1893، 2001، 2002، 3831، 4502، 4504].
وبه قال: (حدّثنا يحيى

(3/156)


بن بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين وفتح القاف مصغرًا ابن خالد (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عروة) بن الزبير بن العوام (عن عائشة -رضي الله عنها-) قال المؤلّف: (ح).
(حدثني) بالإفراد (محمد بن مقاتل) المجاور بمكة (قال: أخبرني) بالإفراد أيضًا (عبد الله هو ابن المبارك قال: أخبرنا محمد بن أبي حفصة) اسمه ميسرة ضدّ الميمنة البصري (عن الزهري عن عروة عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: كانوا) أي المسلمون (يصومون) يوم (عاشوراء) بالمد غير منصرف

اليوم العاشر من المحرم (قبل أن يفرض رمضان). قال الكرماني: فيه جواز نسخ السنة بالكتاب والنسخ بلا بدل. قال البرماوي: مذهب الشافعي وجمع أن عاشوراء لم يجب حتى ينسخ وبتقدير أنه كان واجبًا فلا معارضة بينه وبين رمضان فلا نسخ، وأما قوله بلا بدل فعجيب فأنهم يمثلون به لما هو ببدل أثقل إذا قلنا بالنسخ اهـ.
ومباحث ذلك تأتي إن شاء الله تعالى في موضعها. (وكان) أي عاشوراء (يومًا تستر فيه الكعبة). لما بينهما من المناسبة في الإعظام والإجلال وهذا موضع الترجمة (فلما فرض الله) عز وجل صيام (رمضان قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من شاء أن يصومه فليصمه ومن شاء أن يتركه فليتركه).
1593 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ حَجَّاجٍ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي عُتْبَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ «لَيُحَجَّنَّ الْبَيْتُ وَلَيُعْتَمَرَنَّ بَعْدَ خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ». تَابَعَهُ أَبَانُ وَعِمْرَانُ عَنْ قَتَادَةَ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ شُعْبَةَ قَالَ «لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُحَجَّ الْبَيْتُ» وَالأَوَّلُ أَكْثَرُ، سَمِعَ قَتَادَةُ عَبْدَ اللَّهِ وَعَبْدُ اللَّهِ أَبَا سَعِيدٍ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد) بن أبي عمرو واسمه حفص بن عبد الله بن راشد السلمي (حدّثنا أبي) حفص قاضي نيسابور قال: (حدّثنا إبراهيم) بن طهمان (عن الحجاج بن حجاج) الأسلمي الباهلي الأحول (عن قتادة) بن دعامة (عن عبد الله بن أبي عتبة) بضم العين المهملة وسكون المثناة الفوقية وفتح الموحدة مولى أنس بن مالك (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري -رضي الله عنه- عن النبي قال:)
(ليحجن البيت) بضم المثناة التحتية وفتح الحاء والجيم مبنيًّا للمفعول مؤكدا بالنون الثقيلة وكذا قوله: (وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج) اسمان أعجميان.
(تابعه) أي تابع عبد الله بن أبي عتبة فيما وصله أحمد (أبان) بن يزيد العطار، (و) تابعه أيضًا (عمران) القطان فيما وصله أيضًا أحمد وأبو يعلى وابن خزيمة (عن قتادة) أي على لفظ المتن (فقال عبد الرحمن) بن مهدي فيما وصله الحاكم من طريق أحمد بن حنبل عنه (عن شعبة) عن قتادة بهذا السند (قال: لا تقوم الساعة حتى لا يحج البيت) بضم المثناة التحتية وفتح الحاء مبنيًا للمفعول (والأول أكثر) لاتفاق من تقدم ذكره على هذا اللفظ وانفراد شعبة بما يخالفهم وإنما قال ذلك لأن ظاهرهما التعارض، لأن المفهوم من الأول أن البيت يحج بعد أشراط الساعة، ومن الثاني أنه لا يحج
بعدها لكن يمكن الجمع بين الحديثين بأنه لا يلزم من حج البيت بعد خروج يأجوج ومأجوج أن يمتنع الحج في وقت ما عند قرب ظهور الساعة، ويظهر والله أعلم أن المراد بقوله: ليحجن البيت أي مكان البيت لأن الحبشة إذا خربوه لم يعمر بعد ذلك قاله في الفتح، وزاد هنا في رواية غير أبي

ذر وابن عساكر: سمع قتادة عبد الله بن أبي عتبة وعبد الله سمع أبا سعيد الخدري فانتفت تهمة التدليس.

48 - باب كِسْوَةِ الْكَعْبَةِ
(باب) بيان حكم التصرف في (كسوة الكعبة) وقد قيل أول من كساها تبع الحميري الخصف والمعافر والملاء والوصائل، وذكر ابن قتيبة أنه كان قبل الإسلام بتسعمائة سنة وفي تاريخ ابن أبي شيبة أول من كساها عدنان بن أد. وزعم الزبير أن أول من كساها الديباج عبد الله بن الزبير، وعند ابن إسحاق عن ليث بن سليم كانت كسوة الكعبة على عهد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الانطاع والمسوح، وروى الواقدي عن إبراهيم بن أبي ربيعة قال: كسي البيت في الجاهلية الأنطاع ثم كساه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الثياب اليمانية، ثم كساه عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان القباطي، ثم كساه الحجاج الديباج. وروى أبو عروبة في الأوائل له عن الحسن قال: أول من ألبس الكعبة القباطي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وذكر الأزرقي فيمن

(3/157)


كساها أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- ولم يذكر علي بن أبي طالب، ولعله اشتغل عن ذلك بما كان بصدده من الحروب في تمهيد أمر الدين مع الخوارج، وكساها معاوية الديباج والقباطي والحبرات، فكانت تكسى الديباج يوم عاشوراء، والقباطي في آخر رمضان. وكساها يزيد بن معاوية الديباج الخسرواني، وكساها المأمون الديباج الأحمر يوم التروية، والقباطي يوم هلال رجب، والديباج الأبيض يوم سبع وعشرين من رمضان للفطر، وهكذا كانت تكسى في زمن المتوكل العباسي، ولما كان زمن الناصر العباسي كسيت السواد من الحرير فهى تكسى ذلك من ذلك الزمان وإلى الآن، إلا أنه في سنة ثلاث وأربعين وستمائة قطعت من ريح شديد فكسيت ثيابًا من القطن سودًا وقد ذكر بعضهم حكمة حسنة في سواد كسوة الكعبة فقال: كأنه يشير إلى أنه فقد أناسًا كانوا حوله فلبس السواد حزنًا عليهم، ولم تزل الملوك تتداول كسوتها إلى أن وقف عليها المصالح إسماعيل بن الناصر محمد بن قلاوون في سنة نيف وخمسين وسبعمائة قرية تسمى بيسوس بضواحي القاهرة في طرف القليوبية مما يلي القاهرة، وأول من كساها من ملوك الترك بعد انقضاء الخلافة من بغداد الظاهر بيبرس الصالحي صاحب مصر.
1594 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا وَاصِلٌ الأَحْدَبُ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جِئْتُ إِلَى شَيْبَةَ. ح وَحَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ وَاصِلٍ عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: جَلَسْتُ مَعَ شَيْبَةَ عَلَى الْكُرْسِيِّ فِي الْكَعْبَةِ فَقَالَ: لَقَدْ جَلَسَ هَذَا الْمَجْلِسَ عُمَرُ -رضي الله عنه- فَقَالَ "لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ لاَ أَدَعَ فِيهَا صَفْرَاءَ وَلاَ بَيْضَاءَ إِلاَّ قَسَمْتُهُ. قُلْتُ إِنَّ صَاحِبَيْكَ لَمْ يَفْعَلاَ. قَالَ هُمَا الْمَرْآنِ أَقْتَدِي بِهِمَا". [الحديث 1594 - طرفه في: 7275].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب) الحجبي البصري قال: (حدّثنا خالد بن الحرث) الهجيمي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري قال: (حدّثنا واصل الأحدب) الأسدي (عن أبي

وائل) شقيق بن سلمة (قال: جئت إلى شيبة) بن عثمان الحجبي بالحاء المهملة والجيم المفتوحين العبدري صاحب مفتاح الكعبة الصحابي. قال المؤلّف (ح).
(وحدّثنا قبيصة) بفتح القاف وكسر الموحدة وفتح الصاد المهملة ابن عقبة السوائي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن واصل عن أبي وائل قال: جلست مع شيبة على الكرسي في الكعبة فقال: لقد جلس هذا المجلس) على هذا الكرسي (عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- فقال:) -رضي الله عنه- (لقد هممت أن لا أدع) أي لا أترك (فيها) أي في الكعبة (صفراء ولا بيضاء) ذهبًا ولا فضة (إلا قسمته) بالتذكير باعتبار المال. وفي رواية عمر بن شبة في كتاب مكة عن قبيصة المذكور: إلا قسمتها. وزاد المؤلّف في الاعتصام بين المسلمين قال الزركشي وغيره: وظن بعضهم أنه حلي الكعبة، وغلطه صاحب المفهم بأن ذلك محبس عليها كقناديلها ونحو ذلك فلا يجوز صرفه في غيرها، وإنما هو الكنز الذي بها وهو ما كان يهدى إليها خارجًا عما كانت تحتاج إليه مما ينفق فيه وكانوا يطرحونه في صندوق في البيت فأراد عمر أن يقسمه بين المسلمين فقال شيبة: (قلت) له: (إن صاحبيك) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبا بكر -رضي الله عنه- (لم يفعلا) ذلك (قال:) عمر (هما) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر -رضي الله عنه- (المرآن) الرجلان الكاملان لا أخرج عنهما بل (أقتدي بهما) وقد كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما افتتح مكة تركه رعاية لقلوب قريش ثم بقي على ذلك إلى زمن الصديق وعمر -رضي الله عنها- في بناء الكعبة: لولا أن قومك حديثو عهد بكفر لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله. وحكى الفاكهي: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وجد فيها يوم الفتح ستين أوقية، وعلى هذا فإنفاقه جائز كما جاز لابن الزبير بناؤها على القواعد لزوال سبب الامتنّاع، ولولا قوله في الحديث في سبيل الله لأمكن أن يحمل الإنفاق على ما يتعلق بها فيرجع إلى أن حكمه حكم التحبيس، ويحتمل أن يحمل قوله في سبيل الله على ذلك لأن عمارة الكعبة تصدق على سبيل الله وليس لكسوة الكعبة في هذا الحديث ذكر، فمن ثم استشكل سوق هذا الحديث لهذه الترجمة.
وأجيب: بأن مقصوده التنبيه على أن حكم الكسوة حكم المال بها فيجوز قسمتها على أهل الحاجة استنباطًا من رأي عمر قسمة الذهب والفضة الكائنين بها. وقيل: لأن الكعبة لم تزل معظمة تقصد بالهدايا تعظيمًا لها، فالكسوة من باب التعظيم لها، واختلف في الكسوة هل يجوز التصرف فيها بالبيع ونحوه؟ فقال أبو الفضل بن عبدان من أصحابنا: لا يجوز قطع

(3/158)


شيء من أستار الكعبة ولا نقله ولا بيعه ولا شراؤه ولا وضعه بين أوراق المصحف، ومن حمل من ذلك شيئًا لزمه رده وأقره الرافعي عليه. قال ابن فرحون من المالكية: وهذا على وجه الاستحسان منه والنصوص تخالفه. قال الباجي: وقد استخف مالك شراء كسوة الكعبة. وقال ابن الصلاح: أمر ذلك إلى الإمام يصرفه في بعض مصارف بيت المال بيعًا وعطاء، واحتج بما رواه الأزرقي في تاريخ مكة: أن عمر بن الخطاب كان ينزع كسوة الكعبة كل سنة فيقسمها على الحاج. قال النووي: وهو حسن متعين لئلا تتلف بالبلى، وبه قال ابن عباس وعائشة وأم سلمة. وجوّزوا لمن أخذها لبسها ولو حائضًا وجنبًا، ونبه في

المهمات على أن ما قاله النووي هنا مخالف لما وافق عليه الرافعي في آخر الوقف من تصحيح أنها تباع إذا لم يبق فيها جمال ويصرف ثمنها في مصالح المسجد، ثم قال: واعلم أن للمسألة أحوالاً.
أحدها: أن توقف على الكعبة وحكمها ما مرّ وخطأه غيره بأن الذي مرّ محله فيما إذا كساها الإمام من بيت المال، أما إذا وقفت فلا يتعقل عالم جواز صرفها في مصالح غير الكعبة.
ثانيها: أن يملكها مالكها للكعبة فلقيمها أن يفعل فيها ما يراه من تعليقها عليها أو بيعها وصرف ثمنها إلى مصالحها.
ثالثها: أن يوقف شيء على أن يؤخذ ريعه وتكسى به الكعبة كما في عصرنا فإن الإمام قد وقف على ذلك بلادًا. قال: وقد تلخص لي في هذه المسألة أنه إن شرط الواقف شيئًا من بيع وإعطاء لأحد أو غير ذلك فلا كلام، وإن لم يشترط شيئًا نظر إن لم يقف الناظر تلك فله بيعها وصرف ثمنها في كسوة أخرى، وإن وقفها فيأتي فيها ما مرّ من الخلاف في البيع نعم بقي قسم آخر وهو الواقع اليوم فى هذا الوقف وهو أن الواقف لم يشرط شيئًا من ذلك وشرط تجديدها كل سنة مع علمه بأن بني شيبة كانوا يأخذونها كل سنة لما كانت تكسى من بيت المال فهل يجوز لهم أخذها الآن أو تباع ويصرف ثمنها إلى كسوة أخرى؟ فيه نظر والمتجه الأول. وهذا الحديث أخرجه أيضًا المؤلّف في الاعتصام، وأبو داود في الحج وكذا ابن ماجة.

49 - باب هَدْمِ الْكَعْبَةِ
قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَغْزُو جَيْشٌ الْكَعْبَةَ فَيُخْسَفُ بِهِمْ».
(باب هدم الكعبة) في آخر الزمان (قالت عائشة -رضي الله عنها-) ولغير أبي ذر: وقالت عائشة: (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:) "يغزو جيش الكعبة" بفتح الجيم وسكون المثناة التحتية. قال البرماوي كالكرماني لا بالمهملة والموحدة اهـ.
قلت: ثبت في اليونينية في رواية أبي ذر: حبش بالحاء المهملة والموحدة المفتوحتين (فيخسف بهم) بضم التحتية وفتح السين المهملة، وهذا طرف من حديث وصله في أوائل البيوع ولفظه: يغزو جيش الكعبة حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم ثم يبعثون على نياتهم. والبيداء: المفازة التي لا شيء فيها، وهي في هذا الحديث اسم موضع مخصوص بين مكة والمدينة، وقوله: ثم يبعثون على نياتهم أي يخسف بالكل بشؤم الأشرار ثم يعامل كل منهم في الحشر بحسب نيته وقصده إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر.
1595 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ الأَخْنَسِ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي

مُلَيْكَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "كَأَنِّي بِهِ أَسْوَدَ أَفْحَجَ يَقْلَعُهَا حَجَرًا حَجَرًا".
وبالسند قال: (حدّثنا عمرو بن علي) بسكون الميم ابن بحر بن كثير الباهلي الصيرفي قال: (حدّثنا يحيى بن سعيد) القطان قال: (حدّثنا عبيد الله بن الأخنس) بخاء معجمة بعد همزة مفتوحة وآخره سين مهملة قبلها نون مفتوحة بوزن الأحمر وعبيد بالتصغير النخعي الكوفي قال: (حدثني) بالإفراد (ابن أبي مليكة) بضم الميم وفتح اللام وسكون التحتية هو عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي مليكة واسمه زهير التيمي الأحول (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(كأني به) قال في فتح الباري: كذا في جميع الروايات عن ابن عباس في هذا الحديث، والذي يظهر أن في الحديث شيئًا حذف، ويحتمل أن يكون هو ما وقع في حديث علي عند أبي عبيد في غريب الحديث من طريق أبي العالية عن علي قال: استكثروا من الطواف بهذا البيت قبل أن يحال بينكم وبينه فكأني برجل من الحبشة أصلع -أو قال أصمع- حمش الساقين قاعد عليها وهي تهدم. ورواه الفاكهي من هذا الوجه ولفظه: أصعل بدل أصلع وقال: قائمًا عليها يهدمها بمسحاته. ورواه يحيى الحماني في مسنده من وجه آخر عن علي مرفوعًا اهـ.
وتعقبه العيني بأنه لا يحتاج إلى تقدير

(3/159)


حذف لأنه إنما يقدر في موضع يحتاج إليه للضرورة ولا ضرورة هنا. قال: ودعواه الظهور غير ظاهرة لأنه لا وجه في تقدير محذوف لا حاجة إليه بما جاء في أثر عن صحابي، ولا يقال: الأحاديث يفسر بعضها بعضًا لأنا نقول هذا إنما يكون عند الاحتياج إليه ولا احتياج هنا إلى ذلك، والضمير في به للقالع الآتي ذكره وقوله:
(أسود) نصب كما في اليونينية على الذم أو الاختصاص وليس من شرط المنصوب على الاختصاص أن لا يكون نكرة، فقد قال الزمخشري في قوله تعالى: {قائمًا بالقسط} [آل عمران: 18] أنه منصوب على الاختصاص كذا نقله البرماوي والعيني وغيرهما كالكرماني، وعبارة الزمخشري: ويجوز أن يكون نصبًا على المدح.
فإن قلت: أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة نحو: الحمد لله الحميد، إنا معشر الأنبياء لا نورث.
إنا بني نهشل لا ندعى لأب.
قلت: قد جاء نكرة في قول الهذلي:
ويأوي إلى نسوة عطل ... وشعثًا مراضيع مثل السعالى اهـ.

وتعقبه أبو حيان فقال: في كلامه هذا تخليط وذلك أنه لم يفرق بين المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم وبين المنصوب على الاختصاص وجعل حكمهما واحدًا، وأورد مثالاً من المنصوب على المدح وهو: الحمد لله الحميد، ومثالين من المنصوب على الاختصاص وهما: إنّا معشر الأنبياء لا نورث.
إنا بني نهشل لا ندعى لأب.
والذي ذكره النحويون أن المنصوب على المدح أو الذم أو الترحم قد يكون معرفة وقبله معرفة يصلح أن يكون تابعًا لها، وقد لا يصلح وقد يكون نكرة كذلك وقد يكون نكرة قبلها معرفة فلا يصلح أن يكون نعتًا لها نحو قول النابغة:
أقارع عوف لا أحاول غيرها ... وجوه قرود تبتغي من تجادع
فانتصب وجوه قرود على الذم وقبله معرفة وهو أقارع عوف، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرة ولا مبهمًا ولا يكون إلا معرفًا بالألف واللام أو بالإضافة أو بالعلمية أو بأي ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص به أو مشارك فيه وربما أتى بعد ضمير مخاطب اهـ.
وأجاب تلميذه السمين بأن الزمخشري إنما أراد بالمنصوب على الاختصاص المنصوب على إضمار فعل سواء كان من الاختصاص المبوّب له في النحو أم لا. وهذا اصطلاح أهل المعاني والبيان اهـ.
والأولى أن يقول الذي نص عليه الزمخشري النصب على المدح وأدخل فيه الاختصاص فليتأمل.
(أفحج) بفتح الهمزة وسكون الفاء بعدها وفتح الحاء المهملة وبالجيم منصوب صفة لسابقه، ويجوز أن يكون أسود أفحج حالين متداخلين أو مترادفين من ضمير به، وبه قال التوربشتي والدماميني وقال المظهري: هما بدلان من الضمير المجرور وفتحًا لأنهما غير منصرفين، ويجوز إبدال المظهر من المضمر الغائب نحو: ضربته زيدًا. وقال الطيبي: الضمير في به مبهم يفسره ما بعده على أنه تمييز كقوله تعالى: {فقضاهن سبع سماوات} [فصلت: 12] فإن ضميرهن هو المبهم الفسر بسبع سماوات وهو تمييز كما قاله الزمخشري، وفي بعض الأصول أسود أفحج برفعهما على أن أسود مبتدأ خبره يقلعها، والجملة حال بدون الواو والضمير في به للبيت أي كأني متلبس به أو أسود خبر مبتدأ محذوف والضمير في به للقالع. أي كأني بالقالع هو أسود، وقوله: أفحج خبر بعد خبر. قال في القاموس: فحج كمنع تكبر وفي مشيته تداني صدور قدميه وتباعد عقباه كفحج وهو أفحج بين الفحج محركة والتفحج التفريج بين الرجلين.

(يقلعها) أي يقلع الأسود الافحج الكعبة حال كونها قلعًا (حجرًا حجرًا) نحو: بوّبته بابًا بابًا أي مبوّبًا، أو هو بدل من الضمير المنصوب في يقلعها.
قال في المصابيح، فإن قلت: ما إعراب الألفاظ الواقعة في هذا التركيب وهو قوله كأني به الخ؟.
وأجاب: بأنه نظير قولهم كأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل وكأنك بالليل قد أقبل: قال: وفيه أعاريب مختلفة. قال بعض المحققين فيه الأولى أن تقول كأن على معنى التشبيه ولا تحكم بزيادة شيء وتقول: التقدير كأنك تبصر

(3/160)


بالدنيا تشاهدها من قوله تعالى: {فبصرت به عن جنب} [القصص: 11] والجملة بعد المجرور بالباء حال أي كأنك تبصر بالدنيا وتشاهدها غير كائنة. ألا ترى إلى قولهم: كأنك بالليل وقد أقبل والواو لا تدخل على الجمل إذا كانت أخبارًا لهذه الحروف. قال الدمياني: ويؤيده أي ما قاله هذا المحقق ثبوت هذه الرواية بنصب أسود أفحج في الحديث، فالنصب على الحالية كما مرّ، ويقلعها في محل نصب على الصفة أو الحال أيضًا.
وفي هذا الحديث التحديث بالجمع والإفراد والعنعنة، وشيخ المؤلّف ويحيى بصريان وابن الأخنس كوفي وابن أبي مليكة مكي.
1596 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنَ الْحَبَشَةِ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) المخزومي المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام المصري (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يخرب الكعبة) عند قرب الساعة حين لا يبقى في الأرض أحد يقول الله الله (ذو السويقتين) بضم السين وفتح الواو تثنية سويقة مصغر الساق (من الحبشة) قال في القاموس: الحبش والحبشة محركتين، والأحبش بضم الباء جنس من السودان الجمع حبشان وأحابش اهـ.
قال بعضهم: الحبشة ليس بصحيح في القياس لأنه لا واحد له على مثال فاعل فيكون مكسرًا على فعلة. وقال ابن دريد: وأما قولهم الحبشة فعلى غير قياس، وقد قالوا أيضًا: حبشان ولا أدري كيف هو اهـ.
وإنكارهم لفظ الحبشة على هذا الوزن لا وجه له لأنه ورد في لفظ أفصح الناس، وقال الرشاطي: وهم من ولد كوش بن حام وهم أكثر السودان وجميع ممالك السودان يعطون الطاعة للحبش، وقد جاء في تخريب الكعبة أحاديث كحديث ابن عباس وعائشة عند المؤلّف، وما رواه أبو داود الطيالسي بسند صحيح. وحديث عبد الله بن عمر عند أحمد، وروى ابن الجوزي عن حذيفة

حديثًا طويلاً مرفوعًا فيه: وخراب مكة من الحبشة على يد حبشي أفحج الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن معه أصحابه ينقضونها حجرًا حجرًا ويتناولونها حتى يرموا بها يعني الكعبة إلى البحر، وخراب المدينة من الجوع، واليمن من الجراد. وذكر الحليمي أن خراب الكعبة يكون في زمن عيسى عليه الصلاة والسلام، وقال القرطبي: بعد رفع القرآن من الصدور والمصاحف وذلك بعد موت عيسى وهو الصحيح.

50 - باب مَا ذُكِرَ فِي الْحَجَرِ الأَسْوَدِ
(باب ما ذكر في الحجر الأسود) ويسمى الركن الأسود وهو في ركن الكعبة الذي يلي الباب من جانب المشرق وارتفاعه من الأرض الآن ذراعان وثلثا ذراع على ما قاله الأزرقي وبينه وبين المقام ثمانية وعشرون ذراعًا.
وفي حديث ابن عباس مرفوعًا ما صححه الترمذي: نزل الحجر الأسود من الجنة وهو أشد بياضًا من اللبن فسوّدته خطايا بني آدم لكن فيه عطاء بن السائب وهو صدوق إلا أنه اختلط وجرير ممن سمع منه بعد اختلاطه، لكن له طريق أخرى في صحيح ابن خزيمة فيقوى بها. وفي هذا الحديث التخويف لأنه إذا كانت الخطايا تؤثر في الحجر فما ظنك بتأثيرها في القلوب؟ وينبغي أن يتأمل كيف أبقاه الله تعالى على صفة السواد أبدًا مع ما مسه من أيدي الأنبياء والمرسلين المقتضي لتبييضه ليكون ذلك عبرة لذوي الأبصار وواعظًا لكل من وافاه من ذوي الأفكار ليكون ذلك باعثًا على مباينة الزلات، ومجانبة الذنوب الموبقات.
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي مرفوعًا: أن الحجر والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولولا ذلك لأضاء ما بين المشرق والمغرب. رواه أحمد والترمذي، وصححه ابن حبان لكن في إسناده رجاء أبو يحيى وهو ضعيف، وإنما أذهب الله نورهما ليكون إيمان الناس ْبكونهما حقًا إيمانًا بالغيب ولو لم يطمس لكان الإيمان بهما إيمانًا بالمشاهدة، والإيمان الموجب للثواب هو إيمان بالغيب.
1597 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَابِسِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنْ عُمَرَ -رضي الله عنه- "أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ". [الحديث 1597 - طرفاه في: 1605، 1601].
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن إبراهيم) بن يزيد النخعي (عن عابس بن ربيعة) بالعين المهملة

وبعد الألف موحدة مكسورة وآخره سين مهملة وربيعة بفتح الراء النخعي (عن عمر) بضم العين (-رضي الله عنه-):

(3/161)


(أنه جاء إلى الحجر الأسود فقبله) بأن وضع فمه عليه من غير صوت (فقال): ليدفع توهم قريب عهد بإسلام ما كان يعتقد في حجارة أصنام الجاهلية من الضر والنفع (إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع) أي بذاتك وإن كان امتثال ما شرع فيه ينفع في الثواب لكن لا قدرة له عليه لأنه حجر كسائر الأحجار، وأشاع عمر هذا في الموسم ليشتهر في البلدان ويحفظه المتأخرون في الأقطار، لكن زاد الحاكم في هذا الحديث فقال علي بن أبي طالب: بل يا أمير المؤمنين يضر وينفع ولو علمت ذلك من تأويل كتاب الله تعالى لعلمت أنه كما أقول قال الله تعالى: {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى} [الأعراف: 172] فلما أقروا أنه الرب عز وجل وأنهم العبيد كتب ميثاقهم في رق وألقمه في هذا الحجر وأنه يبعث يوم القيامة وله عينان ولسان وشفتان يشهد لمن وافى بالموافاة فهو أمين الله في هذا الكتاب، فقال له عمر: لا أبقاني الله بأرض لست فيها يا أبا الحسن وقال: ليس هذا على شرط الشيخين فإنهما لم يحتجا بأبي هارون العبدي.
ومن غرائب المتون ما في ابن أبي شيبة في آخر مسند أبي بكر -رضي الله عنه- عن رجل رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقف عند الحجر فقال: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ثم قبله، ثم حج أبو بكر -رضي الله عنه- فوقف عند الحجر فقال: إني أعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقبلك ما قبلتك فليراجع إسناده فإن صح يحكم ببطلان حديث الحاكم لبعد أن يصدر الجواب عن علي: أعني قوله: بل يضر وينفع بعدما قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لا تضر ولا تنفع لأنه صورة معارضة. لا جرم أن الذهبي قال في مختصره عن العبدي أنه ساقط.
(ولولا أني رأيت رسول الله! ولغير أبي ذر: النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقبلك ما قبلتك) تنبيه على أن لولا الاقتداء ما قبله.
وقال الطيبي: أعلم أنهم ينزلون نوعًا من أنواع الجنس بمنزلة جنس آخر باعتبار اتصافه بصفة مختصة به لأن تغاير الصفات بمنزلة التغاير في الذوات فقوله: إنك حجر شهادة له بأن من هذا الجنس، وقوله: لا تضر ولا تنفع تقرير وتأكيد بأنه حجر كسائر الأحجار، وقوله: ولولا أني رأيت الخ. إخراج له عن هذا الجنس باعتبار تقبيله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اهـ.
وفي هذا الحديث التحديث والأخبار والعنعنة، ورواته كوفيون إلا شيخ المؤلّف فبصري، وأخرجه مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي في الحج.

51 - باب إِغْلاَقِ الْبَيْتِ، وَيُصَلِّي فِي أَيِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ
(باب إغلاق) باب (البيت)، بالغين المعجمة (ويصلّي) الداخل (في أي) ناحية من (نواحي البيت شاء) فإن كان الباب مفتوحًا فصلاته باطلة لأنه لم يستقبل منها شيئًا فإن كان له عتبة قدر ثلثي ذراع صحت.
1598 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ "دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبَيْتَ هُوَ وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ وَبِلاَلٌ وَعُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ فَأَغْلَقُوا عَلَيْهِمْ، فَلَمَّا فَتَحُوا كُنْتُ أَوَّلَ مَنْ وَلَجَ فَلَقِيتُ بِلاَلاً فَسَأَلْتُهُ: هَلْ صَلَّى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: نَعَمْ، بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ".
وبالسند قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) بكسر العين أبو رجاء الثقفي البلخي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن سالم) هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب القرشي العدوى (عن أبيه) عبد الله -رضي الله عنه- (أنه قال):
(دخل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البيت) الحرام عام الفتح (هو وأسامة بن زيد وبلال) المؤذن (وعثمان بن طلحة) الحجبي زاد النسائي ومعه الفضل بن عباس فيكونون أربعة، (فأغلقوا عليهم) أي الباب من داخل كما عند أبي عوانة، وزاد يونس فمكث نهارًا طويلاً، وفي رواية فليح: زمانًا بدل نهارًا أو لمسلم فمكث فيها مليًا وفي رواية له أيضًا فمكث فيها ساعة "فلما فتحوا" الباب (كانت أول من ولج) دخل (فلقيت بلالا) بكسر القاف زاد في رواية مجاهد السابقة في أوائل الصلاة عن ابن عمر وأجد بلالاً قائمًا بين البابين "فسألته" أي بلالاً (هل صلّى فيه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: نعم) صلّى فيه (بين العمودين اليمانيين) بتخفيف الياء لأنهم جعلوا الألف بدل إحدى ياءي النسبة، وجوّز سيويه التشديد. وفي رواية مالك عن نافع: جعل عمودًا عن يمينه وعمودًا عن يساره، وفي رواية فليح في المغازي: بين ذينك العمودين المقدمين، وكان البيت على ستة أعمدة سطرين صلّى بين
العمودين من السطر

(3/162)


المقدم وجعل باب البيت خلف ظهره، وقال في آخر روايته: وعند المكان الذي صلّى فيه مرمرة حمراء، وكل هذا إخبار عما كان عليه البيت قبل أن يهدم ويبنى في زمن ابن الزبير، فأما الآن فقد بين موسى بن عقبة في روايته عن نافع كما في الباب الذي يليه أن بين موقفه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين الجدار الذي استقبله قريبًا من ثلاثة أذرع، وسيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى.
وموضع الترجمة من الحديث قوله: فأغلقوا عليهم، لكن استشكل قوله في الترجمة ويصلّي في أي نواحي البيت شاء فإنه يدل على التخيير، وفي الحديث أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلّى بين اليمانيين وهو يدل على التعيين. وأجيب: بأن صلاته عليه الصلاة والسلام في ذلك الموضع لم تكن قصدًا بل وقعت اتفاقًا، وهذا الحديث أخرجه مسلم في الحج، والنسائي فيه وفي الصلاة.

52 - باب الصَّلاَةِ فِي الْكَعْبَةِ
(باب الصلاة في الكعبة) اختلف في ذلك، فعن ابن عباس: لا تصح الصلاة داخلها مطلقًا لأنه يلزم من ذلك استدبار بعضها، وقد ورد الأمر باستقبالها فيحمل على استقبال جميعها، واستحب الشافعية الصلاة فيها وهو ظاهر في النفل ويلحق به الفرض إذ لا فرق بينهما في مسألة الاستقبال للمقيم، وهو قول الجمهور، ومشهور مذهب المالكية جوازًا لسنة فيها وفي الحجر لأي جهة كانت. وأما الفرض والسنن المؤكدة كالوتر والنافلة المؤكدة كالفجر فلا يجوز إيقاع شيء منها فيهما وهو مذهب المدونة فإن صلّى الفرض فيهما أعاد في الوقت.
1599 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّهُ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْكَعْبَةَ مَشَى قِبَلَ الْوَجْهِ حِينَ يَدْخُلُ وَيَجْعَلُ الْبَابَ قِبَلَ الظَّهْرِ يَمْشِي حَتَّى يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِدَارِ الَّذِي قِبَلَ وَجْهِهِ قَرِيبًا مِنْ ثَلاَثِ أَذْرُعٍ فَيُصَلِّي، يَتَوَخَّى الْمَكَانَ الَّذِي أَخْبَرَهُ بِلاَلٌ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى فِيهِ، وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ بَأْسٌ أَنْ يُصَلِّيَ فِي أَىِّ نَوَاحِي الْبَيْتِ شَاءَ".
وبالسند قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) هو السمسار المروزي فيما قاله أبو نصر الكلاباذي وأبو عبد الله الحاكم. وقال الدارقطني: هو ابن شبويه ورجح المزي وغيره الأول قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي (قال: أخبرنا موسى بن عقبة عن نافع) مولى ابن عمر بن الخطاب (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-):
(أنه كان إذا دخل الكعبة مشى قبل الوجه) بكسر القاف وفتح الموحدة كاللذين بعد أي مقابل الوجه (حين يدخل) الكعبة (ويجعل الباب قبل الظهر يمشي حتى يكون) المقدار أو المسافة (بينه وبين الجدار الذي قبل وجهه قريبًا) نصب خبر يكون واسمها محذوف مقدر بالمقدار أو المسافة، ولأبي ذر وابن عساكر: قريب بالرفع اسم ليكون (من ثلاث أذرع) بحذف التاء من تلاث، وللأصيلي وابن عساكر: ثلاثة أذرع، وهذه زيادة على الرواية السابقة كما مرّ وقد جزم برفعها مالك عن نافع فيما أخرجه أبو داود من طريق عبد الرحمن بن مهدي، والدارقطني في الغرائب، وأبو عوانة من طريق هشام بن سعد عن نافع، وحينئذ فينبغي لمن أراد الاتباع في ذلك أن يجعل بينه وبين الجدار ثلاثة أذرع فإنه يقع قدماه في مكان قدميه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن كانت ثلاثة أذرع سواء وتقع ركبتاه أو يداه أو وجهه إن كان أقل من ثلاثة أذرع، (فيصلّي) حال كونه (يتوخى) بتشديد الخاء المعجمة أي يقصد (المكان الذي أخبره بلال أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلّى فيه). قال ابن عمر أو غيره (وليس على أحد بأس أن يصلّي في أي نواحي البيت شاء) أي: إذا كان الباب مغلقًا كما مرّ في الباب السابق.

53 - باب مَنْ لَمْ يَدْخُلِ الْكَعْبَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَحُجُّ كَثِيرًا وَلاَ يَدْخُلُ
(باب من لم يدخل الكعبة) لأنه ليس من مناسك الحج. (وكان ابن عمر -رضي الله عنهما-) الذي هو أشهر من روى عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخول الكعبة (يحج كثيرًا ولا يدخل) الكعبة، فلو كان من المناسك لما أخل به مع كثرة اتباعه، وهذا التعليق وصله سفيان الثوري في جامعه.
1600 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى قَالَ "اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَطَافَ بِالْبَيْتِ، وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَهُ مَنْ يَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: أَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْكَعْبَةَ؟ قَالَ: لاَ". [الحديث 1600 - أطرافه في: 1791، 4188، 4255].
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) قال: (حدّثنا خالد بن عبد الله) الطحان قال: (حدّثنا إسماعيل بن أبي خالد عن عبد الله بن أبي أوفى) -رضي الله عنه- (قال):
(اعتمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) عمرة القضاء سنة سبع من الهجرة قبل الفتح (فطاف بالبيت وصلّى خلف المقام ركعتين ومعه من يستره من الناس فقال له:) أي لابن أبي أوفى (رجل: أدخل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الكعبة؟) في هذه العمرة والهمزة للاستفهام، (قال): ابن أبي أوفى (لا). لم يدخلها في هذه العمرة وسببه ما كان فيها حينئذ من الأصنام ولم يكن

(3/163)


المشركون يتركونه ليغيرها، فلما كان في الفتح أمر بإزالة الصور ثم دخلها قاله النووي، ويحتمل أن يكون دخول البيت لم يقع في الشرط، فلو أراد دخوله لمنعوه كما منعوه من الإقامة بمكة زيادة على الثلاث فلم يقصد دخولها لئلا يمنعوه، وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا وفي المغازي، وأبو داود في الحج وكذا النسائي وابن ماجة.

54 - باب مَنْ كَبَّرَ فِي نَوَاحِي الْكَعْبَةِ
(باب من كبّر في نواحي الكعبة).
1601 - حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قَدِمَ أَبَى أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ وَفِيهِ الآلِهَةُ، فَأَمَرَ بِهَا فَأُخْرِجَتْ، فَأَخْرَجُوا صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ فِي أَيْدِيهِمَا الأَزْلاَمُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، أَمَا وَاللَّهِ قَدْ عَلِمُوا أَنَّهُمَا لَمْ يَسْتَقْسِمَا بِهَا قَطُّ. فَدَخَلَ الْبَيْتَ فَكَبَّرَ فِي نَوَاحِيهِ، وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو معمر) بميمين مفتوحين عبد الله بن عمر المقعد البصري قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد قال: (حدّثنا أيوب) السختياني قال: (حدّثنا عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما قدم) أي مكة (أبى أن يدخل البيت) أي: امتنع من دخوله (وفيه) أي والحال أن فيه (الآلهة) أي الأصنام التي لأهل الجاهلية وأطلق عليها الآلهة باعتبار ما كانوا يزعمون، (فأمر) عليه الصلاة والسلام (بها) أي بالآلهة (فأخرجت فأخرجوا صورة إبراهيم وإسماعيل) عليهما السلام (في أيديهما الأزلام) جمع زلم بفتح الزاي وضمها وهي الأقلام أو القداح، وهي أعواد نحتوها وكتبوا في أحدها أفعل وفي الآخر لا تفعل ولا شيء في الآخر، فإذا أراد أحدهم سفرًا أو حاجة ألقاها فإن خرج أفعل فعل، وإن خرج لا تفعل لم يفعل، وإن خرج الآخر أعاد الضرب حتى يخرج له افعل أو لا تفعل فكانت سبعة على صفة واحدة مكتوب عليها لا. نعم منهم من غيرهم ملصق العقل فضل العقل، وكانت بيد السادن فإذا أرادوا خروجًا أو تزويجًا أو حاجة ضرب السادن فإن خرج نعم ذهب وإن خرح لا كف وإن شكوا في نسب واحد أتوا به إلى الصنم فضرب بتلك الثلاثة التي هي منهم من غيرهم ملصق، فإن خرج منهم كان من أوسطهم نسبًا، وإن خرج من غيرهم كان حليفًا، وإن خرج ملصق لم يكن له نسب ولا حلف، وإن جنى أحد جناية واختلفوا على من العقل ضربوا فإن خرج العقل على من ضرب عليه عقل وبرئ الآخرون، وكانوا إذا عقلوا العقل وفضل الشيء منه واختلفوا فيه أتوا السادن فضرب فعلى من وجب أداه. (فقال: رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(قاتلهم الله)، أي لعنهم كما في القاموس وغيره (أما) بإثبات الألف بعد الميم في اليونينية حرف استفتاح وفي بعض الأصول، وعزاها ابن حجر للأكثر أم بحذفها للتخفيف (والله قد) ولأبي ذر: لقد بزيادة اللام لزيادة التأكيد (علموا) أهل الجاهلية (أنهما) إبراهيم وإسماعيل (لم يستقسما) أي لم يطلبا القسم أي معرفة ما قسم لهما وما لم يقسم (بها) أي بالأزلام (قط). بفتح القاف وتشديد الطاء وتضم القاف ويخففان، وقط مشددة مجرورة، كما في القاموس. وقول الزركشي: إن معناها هنا أبدًا، تعقبه البر الدماميني: بأن قط مخصوص باستغراق الماضي من الزمان، وأما أبدًا فيستعمل في المستقبل نحو لا أفعل أبدًا وخالدين فيها أبدًا. (فدخل) عليه الصلاة والسلام (البيت فكبر في نواحيه ولم يصل فيه) احتج المؤلّف بحديث ابن عباس هذا مع كونه يرى تقديم حديث بلال في إثباته الصلاة فيه عليه، ولا معارضة في ذلك بالنسبة إلى الترجمة لأن ابن عباس أثبت التكبير ولم يتعرض له بلال، وبلال أثبت الصلاة ونفاها ابن عباس، فاحتج المؤلّف بزيادة ابن عباس وقدم إثبات بلال على نفي غيره لأنه لم يكن مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومئذ، وإنما أسند نفيه تارة لأسامة وتارة لأخيه الفضل مع أنه لم يثبت أن الفضل كان معهم إلا في رواية شاذة وأيضًا بلال مثبت، فيقدم على النافي لزيادة علمه، وقد قرر المؤلّف مثل ذلك في باب العشر فيما يسقى من ماء السماء من كتاب الزكاة.

55 - باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الرَّمَلِ
هذا (باب) بالتنوين (كيف كان بدء) مشروعية (الرمل؟) في الطواف. والرمل: بفتح الراء والميم هو سرعة المشي مع تقارب الخطأ دون العدو والوثوب فيما قاله الشافعي، وقال المتولي: تكره المبالغة في الإسراع في الرمل، وعند الحنفية: الرمل أن يهز كتفيه في مشيه كالمتبخترين الصفين. 1602 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ - هُوَ ابْنُ زَيْدٍ - عَنْ أَيُّوبَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابُهُ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ وَقَدْ وَهَنَهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ. فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ الثَّلاَثَةَ، وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، وَلَمْ يَمْنَعْهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا الأَشْوَاطَ كُلَّهَا إِلاَّ الإِبْقَاءُ عَلَيْهِمْ". [الحديث 1602 - طرفه في: 4256].
وبه قال

(3/164)


(حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي بمعجمة ثم مهملة البصري قال: (حدّثنا حماد هو ابن زيد عن أيوب) السختياني (عن سعيد بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة الكوفي الأسدي قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين ومائة (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه) في عمرة القضية سنة سبع (فقال المشركون): من قريش (إنه) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يقدم) بفتح الدال مضارع قدم بكسرها أي يرد (عليكم و) الحال أنه (قد) بالقاف (وهنهم)، ولابن السكن: قد وهنهم بحذف حرف العطف، وهاء وهنهم مفتوحة والضمير للصحابة أي أضعفهم (حمى يثرب) بفتح الموحدة غير منصرف اسم المدينة الشريفة في الجاهلية، وحمى رفع على الفاعلية، ولأبي ذر: إنه يقدم عليكم وفد بالفاء والرفع فاعل يقدم أي جماعة، وحينئذ يكون قوله: وهنهم حمى يثرب في موضع رفع صفة لوفد وضمير الشأن.
(فأمرهم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أن يرملوا) بضم الميم مضارع رمل بفتحها (الأشواط الثلاثة)، ليرى المشركون قوتهم بهذا الفعل لأنه أقطع في تكذيبهم وأبلغ في نكايتهم، ولذا قالوا كما في مسلم: هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى وهنتهم هؤلاء أجلد من كذا وكذا والأشواط: جمع شوط بفتح الشين، والمراد به هنا الطوفة حول الكعبة زادها الله تعالى شرفًا وهو منصوب على الظرفية. (و) أمرهم عليه الصلاة والسلام (أن يمشوا ما بين الركنين) اليمانيين حيث لا يراهم المشركون لأنهم كانوا مما يلي الحجر من قبل قعيقعان، وهذا منسوخ بما يأتي إن شاء الله تعالى.
قال ابن عباس: (ولم يمنعه أن يأمرهم) أي من أن يأمرهم فحذف الجار لعدم اللبس، وموضع أن تاليها بعد حذفه جر أو نصب، قولان (أن يرملوا الأشواط كلها) أي بأن يرملوا فحذف الجار كذلك أو لا حذف أصلاً لأنه يقال: أمرته بكذا وأمرته كذا أي لم يمنعه عليه الصلاة والسلام أن يأمرهم بالرمل في الطوفات كلها (إلا الإبقاء عليهم) بكسر الهمزة وسكون الموحدة وبالقاف ممدودًا

مصدر أبقى عليه إذا رفق به وهو مرفوع فاعل لم يمنعه، لكن الإبقاء لا يناسب أن يكون هو الذي منعه من ذلك لإبقاء معناه الرفق كما في الصحاح فلا بدّ من تأويله بإرادة ونحوها أي: لم يمنعه من الأمر بالرمل في الأربعة إلا إرادته عليه الصلاة والسلام الإبقاء عليهم فلم يأمرهم به وهم لا يفعلون شيئًا إلا بأمره، وقول الزركشي وتبعه العيني كالحافظ ابن حجر: ويجوز النصب على أنه مفعول لأجله ويكون في يمنعهم ضمير عائد إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو فاعله. تعقبه في المصابيح بأن تجويز النصب مبني على أن يكون في لفظ حديث البخاري لم يمنعهم وليس كذلك إنما فيه لم يمنعه فرفع الإبقاء متعين لأنه الفاعل، وهذا الذي قاله الزركشي وقع للقرطبي في شرح مسلم، وفي الحديث ولم يمنعهم فجوز فيه الوجهين وهو ظاهر، لكن نقله إلى ما في البخاري غير متأت.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في المغازي، ومسلم وأبو داود والنسائي في الحج.

56 - باب اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ الأَسْوَدِ حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ، وَيَرْمُلُ ثَلاَثًا
(باب استلام الحجر الأسود حين يقدم مكة أول ما يطوف ويرمل ثلاثًا) أي ثلاث مرات، وأول نصب على الظرفية، والاستلام افتعال من السلام بكسر السين وهي الحجارة قاله ابن قتيبة، فلما كان لمسًا للحجر قيل له استلام أو من السلام بفتحها وهو التحية قاله الأزهري لأن ذلك الفعل سلام على الحجر، وأهل اليمن يسمون الركن الأسود المحيا أو هو استلام مهموز من الملاءمة وهي الاجتماع أو استفعل من اللأمة وهي الدرع لأنه إذا لمس الحجر تحصن بحصن من العذاب كما بتحصن باللأمة من الأعداء.
فإن قيل: كان القياس فيه على هذا أن يكون استلام لا استلم، أجيب: باحتمال أن يكون خفف بنقل حركة الهمزة إلى اللام الساكنة قبلها ثم حذفت الهمزة ساكنة قاله في المصابيح.
1603 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ أَخْبَرَنِي ابْنُ وَهْبٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنه- قَالَ "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ يَقْدَمُ مَكَّةَ إِذَا اسْتَلَمَ الرُّكْنَ الأَسْوَدَ أَوَّلَ مَا يَطُوفُ يَخُبُّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ مِنَ السَّبْعِ". [الحديث 1603 - أطرافه في: 1604، 1616، 1617، 1644].
وبالسند قال: (حدّثنا أصبغ بن الفرج) بفتح الهمزة وسكون المهملة وفتح الموحدة آخره معجمة في الأول وبالفاء والجيم في الثاني ابن سعيد الأموي (قال: أخبرني) بالإفراد وفي بعضها أخبرنا (ابن وهب)

(3/165)


عبد الله المصري (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وعن أبيه (قال):

(رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين يقدم مكة إذا استلم الركن الأسود أول ما يطوف) ظرف مضاف إلى ما المصدرية (يخب) بفتح المثناة التحتية وضم الخاء المعجمة وتشديد الموحدة من الخبب ضرب العدو أي يرمل (ثلافة أطواف من) الطوفات (السبع) وفي بعضها من السبعة وبالتأنيث باعتبار الأطواف، وإذا كان المميز غير مذكور جاز في العدد التذكير والتأنيث.
فإن قلت: ظاهر هذا الحديث يقتضي أن الرمل يستوعب الطوفة بخلاف حديث ابن عباس السابق في الباب الذي قبله لأنه صريح في عدم الاستيعاب. أجيب: بأنه عليه الصلاة والسلام رمل في طوافه أوّل قدومه في حجة الوداع من الحجر إلى الحجر ثلاثًا، ومشى أربعًا فاستقرت سنة الرمل على ذلك من الحجر إلى الحجر لأنه المتأخر من فعله عليه الصلاة والسلام.

57 - باب الرَّمَلِ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
(باب) بقاء مشروعية (الرمل) في بعض الطواف (في الحج والعمرة).
1604 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا سُرَيْجُ بْنُ النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا فُلَيْحٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "سَعَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلاَثَةَ أَشْوَاطٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ".
تَابَعَهُ اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي كَثِيرُ بْنُ فَرْقَدٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدثني محمد) زاد في رواية أبي ذر: هو ابن سلام، وبه جزم ابن السكن وهو في رواية الباقين غير منسوب، ورجح أبو علي الجياني أنه ابن رافع، وقيل هو البخاري نفسه بدليل روايته عن الراوي التالي: (قال: حدّثنا سريج بن النعمان) بضم السين المهملة وفتح الراء آخره جيم الجوهري البغدادي (قال: حدّثنا فليح) بضم الفاء وفتح اللام آخره حاء مهملة ابن سليمان (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- قال):
(سعى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثلاثة أشواط) أي أسرع في المشي في الطوفات الثلاث الأول (ومشى أربعة في الحج والعمرة) أي في حجة الوداع وعمرة القضية لأن الحديبية لم يمكن فيها من الطواف والجعرانة لم يكن معه ابن عمر فيها، ومن ثم أنكرها والتي مع حجته اندرجت أفعالها فيها فتعينت عمرة القضية، لكن في حديث أبي سعيد عند الحاكم: رمل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجته وفي عمره كلها وأبو بكر وعمر والخلفاء.
(تابعه) أي تابع سريجًا (الليث) بن سعد الإمام (قال: حدثني) بالإفراد (كثير بن فرقد) بفتح الفاء والقاف بينهما راء ساكنة وآخره مهملة (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).

1605 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قَالَ أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ "أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَالَ لِلرُّكْنِ: أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لأَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اسْتَلَمَكَ مَا اسْتَلَمْتُكَ. فَاسْتَلَمَهُ ثُمَّ قَالَ: مَالَنَا وَلِلرَّمَلِ؟ إِنَّمَا كُنَّا رَاءَيْنَا بِهِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ ثُمَّ قَالَ: شَىْءٌ صَنَعَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَلاَ نُحِبُّ أَنْ نَتْرُكَهُ".
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) بكسر العين (قال: أخبرنا محمد بن جعفر) الأنصاري زاد أبو ذر: ابن أبي كثير (قال: أخبرني) بالإفراد (زيد بن أسلم) مولى عمر (عن أبيه) أسلم (أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: للركن) الأسود مخاطبًا له ليسمع الحاضرين: (أما والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع ولولا أي رأيت رسول الله) ولغير أبي ذر: النبي "-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استلمك ما استلمتك فاستلمه" تعبد محضًا (ثم قال) بعد استلامه (فما) بالفاء، ولابن عساكر: ما (لنا والرمل) بالنصب نحو: مالك وزيدًا، وجواز الجر في مثله مذهب كوفي، ويروى ما لنا وللرمل بإعادة اللام (إنما كنا رأينا) كذا في رواية أبي ذر والأصيلي بوزن فاعلنا بالهمز أي أريناهم بذلك أنا أقوياء لا نعجز عن مقاومتهم ولا نضعف عن محاربتهم، وجعله ابن مالك من الرياء الذي هو إظهار المرائي خلاف ما هو عليه فقال: معناه أظهرنا لهم القوة ونحن ضعفاء، وهو مثل قول ابن المنير في قوله:
فأمرهم أن يرملوا لم يجوز لهم أن يقولوا ليس بنا حمى، لكن جوّز لهم فعلاً يفهم منه من لا يعلم الباطن أنه ليس بهم حمى وإن كان الفاهم مغالطًا في فهمه لمصلحة إفحام الخصم المبطل، لكن هذا الذي قالاه يحتاج إلى ثبوت نقل يدل عليه، وليس في الحديث ما يقتضيه، وعلى هذا فتصويب العيني لقول ابن مالك فيه نظر. نعم وقع في رواية غير أبي ذر والأصيلي هنا ما يؤيده حيث روي رايينا (به المشركين) بمثناتين تحتيتين من غير همز حملا له على الرياء، وإن كان رئاء بهمرّتين فقلبت الهمزة ياء لفتحها وكسر ما قبلها وحمل الفعل على المصدر وإن لم يوجد فيه الكسر كما قالوا في: آخيت وأخيت

(3/166)


حملاً على يواخي ومواخاة، والأصل يؤاخي مؤاخاة فقلبت الهمزة واوًا لفتحها بعد ضمه. (وقد أهلكهم الله) فلا حاجة لنا اليوم إلى ذلك بتركه لفقد سببه.
(ثم قال) بعد أن رجع عما هم به هو (شيء صنعه النبي) ولأبي الوقت: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلا نحب أن نتركه) لعدم اطلاعنا على حكمته وقصور عقولنا عن إدراك كنهه، وقد يكون فعله سببًا باعثًا على تذكر نعمة الله تعالى على إعزازه الإسلام وأهله، وزاد الإسماعيلي في روايته: ثم رمل. وقد أخرج المؤلّف هذا الحديث أيضًا وكذا مسلم والنسائي.
1606 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "مَا تَرَكْتُ اسْتِلاَمَ هَذَيْنِ الرُّكْنَيْنِ فِي شِدَّةٍ وَلاَ رَخَاءٍ مُنْذُ رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَلِمُهُمَا. قُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَمْشِي بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ؟ قَالَ: إِنَّمَا كَانَ يَمْشِي لِيَكُونَ أَيْسَرَ لاِسْتِلاَمِهِ". [الحديث 1606 - طرفه في: 1611].

وبه قال: (حدّثنا مسدد) أي ابن مسرهد (قال: حدّثنا يحيى) القطان (عن عبيد الله) بضم العين وفتح الموحدة ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر القرشي المدني (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-. قال):
(ما تركت استلام هذين الركنين) اليمانيين (في شدة ولا رخاء منذ رأيت النبي) ولأبي الوقت: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستلمهما). قال عبيد الله: (فقلت لنافع أكان) بهمزة الاستفهام (ابن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنهما- (يمشي بين الركنين) اليمانيين أي ويرمل في غيرهما (قال) نافع: (إنما كان) ابن عمر (يمشي) بينهما ولا يرمل (ليكون) ذلك (أيسر) أي أرفق (لاستلامه) أي ليقوى عليه عند الازدحام، وهذا يدل على أنه كان يرمل في الباقي من البيت كما مرّ وبه يجاب عما أشار إليه الإسماعيلي من أنه لا مطابقة بين الترجمة والحديث إذ لا ذكر للرمل فيه.

58 - باب اسْتِلاَمِ الرُّكْنِ بِالْمِحْجَنِ
(باب استلام الركن) الأسود (بالمحجن) بكسر الميم وسكون المهملة وفتح الجيم بعدها نون عصا محنية الرأس أي يومئ إلى الركن حتى يصيبه.
1607 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ وَيَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالاَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "طَافَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ عَلَى بَعِيرٍ يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ بِمِحْجَنٍ" تَابَعَهُ الدَّرَاوَرْدِيُّ عَنِ ابْنِ أَخِي الزُّهْرِيِّ عَنْ عَمِّهِ. [الحديث 1607 - أطرافه في: 1612، 1613، 1632، 5293].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) أبو جعفر المصري المشهور بابن الطبراني كان أبوه من أهل طبرستان، (ويحيى بن سليمان) الجعفي (قالا: حدّثنا ابن وهب) عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبيد الله) بضم العين وفتح الموحدة (ابن عبد الله) بن عتبة بن مسعود (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال):
(طاف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن) زاد مسلم من حديث أبي الطفيل ويقبل المحجن، وهذا مذهب الشافعي عند العجز عن الاستلام باليد، وإن استلم بيده لزحمة منعته من التقبيل قبلها كما في المجموع وعليه الجمهور، لكن نازع العز بن جماعة في تخصيص تقبيل اليد بتعذر تقبيل الركن، ولم يذكر في المحرر والمنهاج تقبيل اليد. وعند الحنفية: يضع يديه عليه ويقبلهما عند عدم إمكان التقبيل فإن لم يمكنه وضع عليه شيئًا كعصا فإن لم يتمكن من ذلك رفع يديه إلى أذنيه وجعل باطنهما نحو الحجر مشيرًا إليه كأنه واضع يديه عليه وظاهرهما نحو وجهه ويقبلهما. وعند المالكية، إن زوحم لمسه بيده أو بعود ثم يضعه على فيه من غير تقبيل فإن لم يصل كبر إذا حاذاه ومضى ولا يشير بيده، ومذهب الحنابلة كالشافعية.

ورواة هذا الحديث ما بين مصري وكوفي ومدني وأيلي، وفيه التحديث والإخبار بالجمع والإفراد والعنعنة والقول، وأخرجه مسلم وأبو داود وابن ماجة في الحج.
(تابعه) أي تابع يونس عن ابن شهاب عبد العزيز (الدراوردي) بفتح الدال المهملة والراء والواو وسكون الراء وكسر الدال (عن ابن أخي الزهري) محمد بن عبد الله (عن عمه) محمد بن مسلم الزهري، وأخرجه الإسماعيلي عن الحسن بن سفيان عن محمد بن عباد عن الدراوردي فذكره، ولم يقل حجة الوداع ولا على بعير، وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى.

59 - باب مَنْ لَمْ يَسْتَلِمْ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ
(باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين) الأسود الذي يليه دون الركنين الشاميين، وياء اليمانيين مخففة على المشهور لأن الألف فيه عوض عن ياء النسب فلو شددت لزم الجمع بين العوض والمعوض.
1608 - وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنْ أَبِي الشَّعْثَاءِ أَنَّهُ قَالَ "وَمَنْ يَتَّقِي شَيْئًا مِنَ الْبَيْتِ؟ وَكَانَ مُعَاوِيَةُ يَسْتَلِمُ الأَرْكَانَ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: إِنَّهُ لاَ يُسْتَلَمُ هَذَانِ الرُّكْنَانِ. فَقَالَ: لَيْسَ شَىْءٌ مِنَ الْبَيْتِ مَهْجُورًا. وَكَانَ ابْنُ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما- يَسْتَلِمُهُنَّ كُلَّهُنَّ".
(وقال محمد بن بكر) بفتح الموحدة البرساني بضمها وسكون الراء وبالسين المهملة نسبة إلى برسان حي من الأزد (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز ونسبه لجده لشهرته به (قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو

(3/167)


بن دينار) بفتح العين (عن أبي الشعثاء) مؤنث الأشعث واسمه جابر بن زيد مما وصله أحمد في مسنده (أنّه قال ومن) استفهام على جهة الإنكار التوبيخي فلذا لم يحذف الياء بعد القاف من قوله (يتقي) أي لا ينبغي لأحد أن يتقي (شيئًا من البيت)؟ الحرام.
(وكان معاوية) -رضي الله عنه- مما وصله أحمد والترمذي والحاكم (يستلم الأركان) الأربعة، وفي رواية: فكان معاوية بالفاء وحينئذٍ فتكون من شرطية على مذهب من لا يوجب الجزم فيه (فقال: به ابن عباس -رضي الله عنهما-: إنه لا يستلم هذان الركنان) اللذان يليان الحجر لأنهما لم يتمما على قواعد إبراهيم فليسا بركنين أصليين، ويستلم بضم المثناة التحتية وفتح اللام مبنيًّا للمفعول الغائب، وهذان نائب عن الفاعل، والركنان صفة له، والهاء في أنه ضمير الشأن. وللحموي والمستملي كما في نسخة: لا يستلم بفتح المثناة هذين الركنين بالنصب على المفعولية، والضمير في أنه عائد على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وكذا فاعل لا يستلم ضمير يعود عليه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وفي رواية عزاها في اليونينية لأبي ذر الحموي والمستلمي، والأصيلي: لا تستلم بفتح المثناة الفوقية وجزم الميم على النهي، وفي رواية رابعة: لا نستلم بالنون بدل المثناة بلفظ المتكلم.

(فقال:) معاوية -رضي الله عنه-: (ليس شيء من البيت مهجورًا) ولأبي ذر: بمهجور بالموحدة قبل الميم، وهذا أجاب عنه. إمامنا الشافعي بأنا لم ندع استلامهما هجرًا للبيت وكيف نهجره ونحن نطوف به. ولكننا نتبع السنة فعلاً وتركًا ولو كان ترك استلامهما هجرًا لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرًا له ولا قائل به. وقال الداودي: ظن معاوية أنهما ركنا البيت الذي وضع عليه من أول وليس كذلك لما سبق في حديث عائشة.
(وكان ابن الزبير) عبد الله مما وصله ابن أبي شيبة (يستلمهن كلهن) أي الأربعة لأنه لما عمر الكعبة أتمها على قواعد إبراهيم كذا حمله ابن التين، فزال مانع عدم استلام الآخرين، ويؤيد هذا الحمل ما أخرجه الأزرقي في تاريخ مكة أنه لما فرغ من بناء البيت وأدخل فيه من الحجر ما أخرج منه ورد الركنين على قواعد إبراهيم طاف للعمرة واستلم الأركان الأربعة، ولم يزل على بناء ابن الزبير إذا طاف استلمها جميعًا حتى قتل ابن الزبير وروي أيضًا أن آدم لما حج استلم الأركان كلها وكذا إبراهيم وإسماعيل.
1609 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ -رضي الله عنهما- قَالَ "لَمْ أَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَلِمُ مِنَ الْبَيْتِ إِلاَّ الرُّكْنَيْنِ الْيَمَانِيَيْنِ".
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك قال: (حدّثنا ليث) هو ابن سعد (عن ابن شهاب) الزهري (عن سالم بن عبد الله عن أبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب (-رضي الله عنهما-. قال): "لم أر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستلم من البيت إلا الركنين اليمانيين" لأنهما على القواعد الإبراهيمية، ففي الركن الأسود فضيلتان: كون الحجر فيه، وكونه على القواعد وفي الثاني الثانية فقط ومن ثم خص الأول بمزيد تقبيله دون الثاني. وحديث ابن عباس: أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبل الركن اليماني ووضع خده عليه رواه جماعة منهم ابن المنذر والحاكم وصححه وضعفه بعضهم، وعلى تقدير صحته فهو محمول على الحجر الأسود لأن المعروف أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استلم الركن اليماني فقط، وإذا استلمه قبل يده على الأصح عند الشافعية والحنابلة ومحمد بن الحسن من الحنفية، وهو المنصوص في الأم. ولم يتعرض في المحرر والمنهاج والحاوي الصغير لتقبيل اليد، وحديث: أنه-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- استلم الحجر فقبله واستلم الركن اليماني فقبل يده ضعفه البيهقي وغيره. وقال المالكية: يستلمه ويضع يده على فيه ولا يقبلها فإن لم يستطع كبّر إذا حاذاه ولا يشير إليه بيده، ونص جماعة من متأخري الشافعي أنه يشير إليه عند العجز عن استلامه، ولم يذكر ذلك النووي ولا الرافعي وسكوتهما كما قال العز بن جماعة دليل على عدم الاستحباب، وبه صرح بعض متأخري الشافعية قال: وهو الذي اختاره لأنه لم ينقل عنه عليه الصلاة والسلام، لكن لا بأس به كتقبيل يده بعد استلامه إذ أنهما أي الإشارة وتقبيل اليد بعد الاستلام ليسا بسنّة، وكذا تقبيل نفس الركن لا بأس به كما جزم به في الأم، واستحبه بعض

(3/168)


الشافعية ونقل عن محمد بن الحسن.

60 - باب تَقْبِيلِ الْحَجَرِ
(باب) مشروعية (تقبيل الحجر) الأسود بوضع الشفة عليه من غير تصويب ولا تطنين كما قاله الشافعي، وروى الفاكهي من طريق سعيد بن جبير قال: إذا قبلت الركن فلا ترفع بها صوتك كقبلة النساء.
1610 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سِنَانٍ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ أَخْبَرَنَا زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه- قَبَّلَ الْحَجَرَ وَقَالَ: لَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبَّلَكَ مَا قَبَّلْتُكَ".
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن سنان) بكسر المهملة وتخفيف النون القطان الواسطي قال: (حدّثنا يزيد بن هارون) الواسطي (قال: أخبرنا ورقاء) مؤنث الأورق (قال: أخبرنا زيد بن أسلم) بفتح الهمزة واللام والميم الحبشي البخاري بفتح الموحدة والجيم مولى عمر (عن أبيه) أسلم (قال):
(رأيت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قبَّل الحجر) الأسود (وقال: لولا أني رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قبلك ما قبلتك) فمتابعته عليه الصلاة والسلام مشروعة وإن لم يعقل معناها لكن فيه تعظيم للحجر وتبرك به واختيار ليعلم بالمشاهدة طاعة من يطيع، وذلك شبيه بقصة إبليس حيث أمر بالسجود لآدم مع ما ورد مرفوعًا أنه يؤتى به يوم القيامة وله لسان ذلق لمن استلمه بالتوحيد.
1611 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَرَبِيٍّ قَالَ: "سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ اسْتِلاَمِ الْحَجَرِ فَقَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ. قَالَ قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ؟ قَالَ: اجْعَلْ "أَرَأَيْتَ" بِالْيَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد قال: حدّثنا حماد) زاد أبو الوقت: ابن زيد (عن الزبير بن عربي) براء مهملة مفتوحة بعدها موحدة ثم مثناة تحتية مشددة لا الزبير بن عدي كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى (قال: سأل رجل) هو الزبير الراوي كما عند أبي داود الطيالسي عن حماد، حدّثنا الزبير سألت (ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- عن استلام الحجر) الأسود (فقال):
(رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستلمه) بأن يمسه بيده (ويقبله. قال: قلت أرأيت) ولأبي الوقت وقال: أرأيت (إن زحمت) أنا بضم الزاي مبنيًّا للمفعول وفي بعض الأصول: إن زوحمت بالواو (أرأيت إن غُلِبت) أنا؟ بضم الغين مبنيًا للمفعول أخبرني ما أصنع هل لا بد من استلامي له في هذه الحالة (قال): ابن عمر: (اجعل) لفظ (أرأيت)؟ حال كونك (باليمن) أي اتبع السنة واترك الرأي، وكأنه فهم عنه من كثرة السؤال التدرج إلى الترك المؤدّي إلى عدم الاحترام والتعظيم المطلوب شرعًا.

ثم قال ابن عمر: (رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستلمه ويقبله) ظاهره أن ابن عمر لم ير الزحام عذرًا في ترك الاستلام، وروى سعيد بن منصور من طريق القاسم بن محمد قال: رأيت ابن عمر يزاحم على الركن حتى يدمى، ونقل ابن الرفعة أنه تكره المزاحمة. قال ابن جماعة: وفي إطلاقه نظر فإن الشافعي قال في الأم: إنه لا يحب الزحام إلا في بدء الطواف وآخره، والذي يظهر لي أنه أراد الزحام الذي لا يؤذي. وعن عبد الرحمن بن الحرث قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعمر -رضي الله عنه-: "يا أبا حفص إنك رجل قوي فلا تزاحم على الركن فإنك تؤذي الضعيف ولكن إن وجدت خلوة فاستلمه وإلاّ فكبر وامض". رواه الشافعي وأحمد وغيرهما وهو مرسل جيد، ولو أزيل الحجر والعياذ بالله قبل موضعه واستلمه قاله الدارمي من الشافعية.
ورواة هذا الحديث الخمسة بصريون، وفيه التحديث والعنعنة والسؤال، وأخرجه الترمذي والنسائي في الحج، ووقع في رواية أبي ذر عن شيوخه عن الكروخي هنا قال: محمد بن يوسف الفربري: وجدت في كتاب أبي جعفر محمد بن أبي حاتم ورّاق المؤلّف، قال أبو عبد الله البخاري: الزبير بن عدي بالدال والمثناة كوفي تابعي، والزبير بن عربي بالراء الراوي تابعي أيضًا، وفيه تنبيه على أن ما وقع هنا عند الأصيلي عن أبي أحمد الجرجاني الزبير بن عدي بالدال وهم وأن صوابه عربي براء كذا رواه سائر الرواة عن الفربري حكاه الجياني، فكأن البخاري استشعر هذا التصحيف فأشار إلى التحذير منه.

61 - باب مَنْ أَشَارَ إِلَى الرُّكْنِ إِذَا أَتَى عَلَيْهِ
(باب من أشار إلى الركن) الأسود (إذا أتى عليه) في الطواف عند عجزه عن استلامه.
1612 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "طَافَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ".
وبالسند إلى المؤلّف قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) بن عبيد العنزي البصري (قال: حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد المجيد بن الصلت الثقفي البصري المتوفى سنة أربع وتسعين ومائة (قال: حدّثنا خالد) بن مهران الحذاء (عن عكرمة) بن عبد الله مولى ابن عباس أصله بربري ثقة ثبت عالم

(3/169)


بالتفسير (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال):
(طاف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالبيت على بعير) ليراه الناس فيسأل ويقتدى بفعله (كلما أتى على الركن) الأسود أي محاذيًا له (أشار إليه) بمحجن في يده ويقبل المحجن كما مرّ في باب استلام الركن بالمحجن قريبًا، وكذا يشير الطائف بيده عند العجز لا بفمه إلى التقبيل، واقتصر الرافعي وجماعة على الإشارة ولم يذكروا أنه يقبل ما أشار به، وتبعهم النووي في الروضة والمنهاج وقال في المجموع والإيضاح وابن الصلاح في منسكه: أنه يقبل ما أشار به، وقال الحنفية: يرفع يديه إلى أذنيه ويجعل

باطنهما نحو الحجر مشيرًا إليه واضع يديه عليه وظاهرهما نحو وجهه ويقبلهما، وعند المالكية: يكبر إذا حاذاه ولا يشير بيده.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الحج والطلاق وكذا الترمذي والنسائي.

62 - باب التَّكْبِيرِ عِنْدَ الرُّكْنِ
(باب) استحباب (التكبير عند الركن) الأسود.
1613 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا خَالِدٌ الْحَذَّاءُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "طَافَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَيْتِ عَلَى بَعِيرٍ، كُلَّمَا أَتَى الرُّكْنَ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ كَانَ عِنْدَهُ وَكَبَّرَ".
تَابَعَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (حدّثنا خالد بن عبد الله) الطحان قال: (حدّثنا خالد) بن مهران (الحذاء) بالحاء المهملة والذال المعجمة (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال)
(طاف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالبيت على بعير، كلما أتى الركن) الحجر الأسود وللكشميهني: وكلما أتى على الركن (أشار إليه بشيء) أي بمحجن (كان عنده وكبر) أي في كل طوفة، واستحب الشافعي وأصحاب مذهبه والحنابلة أن يقول عند ابتداء الطواف واستلام الحجر: بسم الله والله أكبر اللهم إيمانًا بك وتصديقًا بكتابك ووفاء بعهدك واتباعًا لسنة نبيك محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وروى الشافعي عن أبي نجيح قال: أخبرت أن بعض أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: يا رسول الله كيف نقول إذا استلمنا؟ قال: بسم الله والله أكبر إيمانًا بالله وتصديقًا لإجابة محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ولم يثبت ذلك كما قاله ابن جماعة وصح في أبي داود والنسائي والحاكم وابن حبان في صحيحيهما أنه عليه الصلاة والسلام قال بين الركنين اليمانيين {ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار} [البقرة: 201] قال ابن المنذر: لا نعلم خبرًا ثابتًا عنه عليه الصلاة والسلام يقال في الطواف وغيره، ونقل الرافعي أن قراءة القرآن في الطواف أفضل من الدعاء غير المأثور، وأن المأثور أفضل منها. سلمنا ذلك لكن لم يثبت عنه عليه الصلاة والسلام كما قال ابن المنذر فيما مر إلا {ربنا آتنا في الدنيا حسنة} الآية. وهو قرآن، وإنما ثبت بين الركنين. وحينئذٍ فيكون أفضل ما يقال بين الركنين ويكون هو وغيره أفضل من الذكر والدعاء في باقي الطواف إلا التكبير عند استلام الحجر فإنه أفضل تاسيًا به عليه الصلاة والسلام، والصحيح عند الحنابلة أنه لا بأس بقراءة القرآن، وجزم صاحب الهداية في التجنيس بأن ذكر الله أفضل منها فيه وكرهها المالكية.

(تابعه) أي تابع خالد الطحان مما وصله المؤلّف في الطلاق (إبراهيم بن طهمان) الهروي (عن خالد الحذاء) في التكبير ونبه بهذه المتابعة على أن رواية عبد الوهاب عن خالد السابقة في الباب الذي قبل هذا العارية عن التكبير لا تقدح في زيادة خالد بن عبد الله لمتابعة إبراهيم والله أعلم.

63 - باب مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى بَيْتِهِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا
(باب من طاف بالبيت إذا قدم مكة) محرمًا بالعمرة (قبل أن يرجع إلى بيته ثم صلّى ركعتين) سنة الطواف (ثم خرج إلى الصفا) للسعي بينها وبين المروة.
1614 و 1615 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ عَنِ ابْنِ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ذَكَرْتُ لِعُرْوَةَ قَالَ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ -رضي الله عنها- "أَنَّ أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ -رضي الله عنهما- مِثْلَهُ"، ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي الزُّبَيْرِ -رضي الله عنه-، فَأَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَهُ. وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا". [الحديث 1614، طرفه في: 1641] [الحديث 1615 - حديث في: 1642، 1796].
وبه قال (حدّثنا أصبغ) بن الفرج (عن ابن وهب) عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو) بفتح العين هو ابن الحرث (عن محمد بن عبد الرحمن) هو أبو الأسود النوفلي يتيم عروة (قال: ذكرت لعروة) بن الزبير بن العوام ما قيل في حكم القادم إلى مكة مما ذكره مسلم من هذا الوجه وحذفه المؤلّف مقتصرًا على المرفوع منه، ومحصل ذلك ومعناه: أن رجلاً من أهل العراق قال لأبي الأسود سل لي عروة بن الزبير عن رجل يهل بالحج فإذا طاف بالبيت أيحل أي دون أن يطوف بين الصفا والمروة أم لا؟ قال أبو الأسود فسألته فقال: لا يحل من أهلّ بالحج إلا بالحج فتصدى أي فتعرض لي الرجل فسألني أي عما أجاب به عروة فحدثته فقال: قل له فإن رجلاً أي ابن

(3/170)


عباس يخبر أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل ذلك يعني أمر به حيث قال لمن لم يسق الهدي من أصحابه: اجعلوها عمرة.
وعند المؤلّف في حجة الوداع من حديث ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: إذا طاف بالبيت فقد حل، فقلت لعطاء: من أين أخذ هذا ابن عباس؟ قال: من قول الله تعالى: {ثم محلها إلى البيت العتيق} [الحج: 33] ومتى أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أصحابه أن يحلوا في حجة الوداع؟ قلت: إنما كان ذلك بعد المعزف. قال فإن ابن عباس يراه قبل وبعد اهـ.
قال أبو الأسود: فجئته أي عروة فذكرت له ذلك يعني ما قاله الرجل العراقي من مذهب ابن عباس.

(قال:) أي عروة قد حج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فأخبرتني عائشة -رضي الله عنها-): (إن أول شيء بدأ به حين قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه توضأ) في موضع رفع خبر إن من قولها إن أول شيء بدأ به (ثم طاف) بالبيت ولم يحل من حجه (ثم لم تكن)، تلك الفعلة التي فعلها عليه الصلاة والسلام حين قدم من الطواف وغيره (عمرة) فعرف من هذا أن ما ذهب إليه ابن عباس مخالف لفعله عليه الصلاة والسلام، وأن أمره عليه الصلاة والسلام أصحابه أن يفسخوا حجهم فيجعلوه عمرة خاص بهم، وأن من أهل بالحج مفردًا لا يضره الطواف بالبيت كما فعله عليه الصلاة والسلام وبذلك احتج عُروة، قوله عمرة بالنصب خبر كان أو بالرفع كما لأبي ذر على أن كان تامة والمعنى لم تحصل عمرة.
(ثم حج أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما- مثله) أي فكان أول شيء بدأ به الطواف ثم لم تكن عمرة (ثم حججت مع أبي) أي مصاحبًا لوالدي (الزبير) بن العوام (رضي الله عنه) والزبير بالجر بدل من أبي أو عطف بيان، وللكشميهني: ثم حججت مع ابن الزبير أي مع أخي عبد الله بن الزبير. قال القاضي عياض: وهو تصحيف (فأول شيء بدأ به الطواف ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلونه) أي البدء بالطواف، (وقد أخبرتني أمي) أسماء بنت أبي بكر (أنها أهلت هي وأختها) عائشة زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (والزبير وفلان وفلان بعمرة، فلما، مسحوا الركن) أي الحجر الأسود وأتموا طوافهم وسعيهم وحلقوا (حلوًّا) من إحرامهم وحذف المقدر هنا للعلم به وعدم خفائه.
فإن قلت: إن عائشة في تلك الحجة لم تطف بالبيت لأجل حيضها؟ أجيب: بأنه محمول على أنه أراد حجة أخرى بعد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غير حجة الوداع.
ورواة هذا الحديث ما بين مصري ومدني، وفيه التحديث والإخبار بالإفراد والعنعنة والذكر، وأخرجه مسلم في الحج.
1616 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ أَنَسٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا طَافَ فِي الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَوَّلَ مَا يَقْدَمُ سَعَى ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعَةً، ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ".
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) بن عبد الله الأسدي (قال: حدّثنا أبو ضمرة) بفتح الضاد المعجمة (أنس) هو ابن عياض (قال: حدّثنا موسى بن عقبة) الأسدي الإمام في المغازي (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-).
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا طاف في الحج أو العمرة أول ما يقدم) بنصب أول على الظرفية (سعى) أي رمل (ثلاثة أطواف ومشى أربعة) أي أربعة أطواف (ثم سجد سجدتين) أي ركعتين للطواف من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل (ثم يطوف بين الصفا والمروة).

1617 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ الأَوَّلَ يَخُبُّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ وَيَمْشِي أَرْبَعَةً، وَأَنَّهُ كَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ".
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) بن حزام بالزاي وهو المذكور قريبًا (قال: حدّثنا أنس بن عياض) هو أبو ضمرة السابق (عن عبيد الله) بضم العين بالتصغير هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني (عن نافع عن ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-):
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا طاف بالبيت الطواف الأول) الذي يعقبه السعي لا طواف الوداع (يخب) بضم الخاء المعجمة وبالموحدة المشددة أي يرمل (ثلاثة أطواف ويمشي أربعة) أي أربعة أطواف (وأنه) عليه الصلاة والسلام (كان يسعى) أي يسرع (بطن المسيل) أي الوادي الذي بين الصفا والمروة وهو قبل الوصول إلى الميل الأخضر المعلق بركن المسجد إلى أن يحاذي الميلين الأخضرين المتقابلين اللذين أحدهما بفناء المسجد والآخر بدار العباس، وبطن: منصوب على الظرفية. قال في المصابيح: ولا شك أنه ظرف مكان محدد

(3/171)


فليس نصبه على الظرفية بقياس (إذا طاف) أي سعى (بين الصفا والمروة).

64 - باب طَوَافِ النِّسَاءِ مَعَ الرِّجَالِ
(باب طواف النساء مع الرجال).
1618 - وَقَالَ لِي عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ "أَخْبَرَنَا قَالَ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ -إِذْ مَنَعَ ابْنُ هِشَامٍ النِّسَاءَ الطَّوَافَ مَعَ الرِّجَالِ- قَالَ كَيْفَ يَمْنَعُهُنَّ وَقَدْ طَافَ نِسَاءُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ الرِّجَالِ؟ قُلْتُ: أَبَعْدَ الْحِجَابِ أَوْ قَبْلُ؟ قَالَ: إِي لَعَمْرِي لَقَدْ أَدْرَكْتُهُ بَعْدَ الْحِجَابِ. قُلْتُ: كَيْفَ يُخَالِطْنَ الرِّجَالَ؟ قَالَ: لَمْ يَكُنَّ يُخَالِطْنَ، كَانَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- تَطُوفُ حَجْرَةً مِنَ الرِّجَالِ لاَ تُخَالِطُهُمْ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ: انْطَلِقِي نَسْتَلِمْ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَتْ: انْطَلِقِي عَنْكِ، وَأَبَتْ. يَخْرُجْنَ مُتَنَكِّرَاتٍ بِاللَّيْلِ فَيَطُفْنَ مَعَ الرِّجَالِ، وَلَكِنَّهُنَّ كُنَّ إِذَا دَخَلْنَ الْبَيْتَ قُمْنَ حَتَّى يَدْخُلْنَ وَأُخْرِجَ الرِّجَالُ، وَكُنْتُ آتِي عَائِشَةَ أَنَا وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ وَهِيَ مُجَاوِرَةٌ فِي جَوْفِ ثَبِيرٍ. قُلْتُ وَمَا حِجَابُهَا؟ قَالَ: هِيَ فِي قُبَّةٍ تُرْكِيَّةٍ لَهَا غِشَاءٌ، وَمَا بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا دِرْعًا مُوَرَّدًا".
وبالسند إلى المؤلّف قال: (وقال لي عمرو بن علي) بسكون الميم ابن بحر الباهلي البصري أي: من باب العرض والمذاكرة وسقط لفظ: "لي" لغير أبي ذر (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل البصري المتوفى سنة اثنتي عشرة ومائتين (قال ابن جريج) بضم الجيم الأولى عبد الملك المتوفى سنة خمسين ومائة: (أخبرنا) بالجمع ولأبي ذر بالإفراد أي: قال أبو عاصم أخبرنا ابن جريج قال: أي ابن جريج أخبرني بالإفراد (عطاء) هو ابن أبي رباح المكي المتوفى سنة أربع عشرة ومائة (إذ منع ابن هشام)

في محل نصب مفعول ثان لأخبرني أي قال ابن جريج: أخبرني عطاء بزمان منع ابن هشام إبراهيم في إمرته على الحج بالناس من قبل ابن أخته هشام بن عبد الملك، أو المراد أخوه محمد بن هشام وكان ابن أخته ولاه أمرة مكة فمنع (النساء الطواف مع الرجال) في وقت واحد حال كونه أي عطاء (قال): فيه أي في زمان المنع (كيف تمنعهن) بتاء الخطاب لابن هشام إبراهيم أو أخيه محمد، وفي بعض الأصول كيف يمنعهن بالغيبة أي كيف يمنعهن مانع (وقد طاف نساء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع الرجال؟) في وقت واحد.
قال ابن جريج (قلت:) لعطاء: (1) كان طوافهن معهم (بعد) نزول آية (الحجاب) أي قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53] وكان ذلك في تزويجه عليه الصلاة والسلام بزينب بنت جحش سنة خمس من الهجرة أو سنة ثلاث. وفي رواية غير المستملي: بعد الحجاب أي بإسقاط همزة الاستفهام (أو قبل؟ قال:) عطاء لابن جريج (أي لعمري) بكسر الهمزة وسكون الياء حرف جواب بمعنى نعم، لكن يشترط فيه أن يكون بعد استفهام على رأي ابن الحاجب، وأن يكون سابقًا لقسم على رأي الجميع. قال بعض المحققين: ولا يكون المقسم به بعدها إلا الرب أو لعمري، وعلى الجملة فقد توفرت الشروط هنا كما ترى، ولعمري بفتح اللام والعين لغة في العمر بضم العين يختص به القسم لإيثار الأخف لأنه كثير الدور على الألسنة أي وبقاء الله (لقد أدركته) أي طوافهن معهم (بعد الحجاب).
قال ابن جريج: (قلت:) لعطاء (كيف يخالطن الرجال؟) نصب على المفعولية وفي بعض الأصول، وعزاه العيني كابن حجر للمستملي يخالطهن بالهاء بعد الطاء الرجال بالرفع على الفاعلية. (قال: لم يكن يخالطن)، وللمستملي أيضًا كالسابق: يخالطهن (كانت عائشة -رضي الله عنها- تطوف حجرة) بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم وبعد الراء هاء تأنيث نصب على الظرفية أي ناحية محجورة (من الرجال) أي عنهم كقوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] أي عن ذكر الله قال الفراء والزجاج تقول: أتخمته من الطعام، وعنه ولأبي ذر عن الكشميهني: حجزة بفتح الحاء والزاي المعجمة أي في ناحية محجوزة عن الرجال بحيث يضرب بينهم وبينها حاجز يسترها عنهم (لا تخالطهم، فقالت امرأة): معها قيل كان اسمها دقرة بكسر الدال المهملة وسكون القاف كانت تطوف معها بالليل (انطلقي نستلم) بالرفع والجزم (يا أم المؤمنين، قالت:) عائشة -رضي الله عنها- (عنك)، ولأبوي ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر قالت: انطلقي عنك أي عن جهة نفسك ولأجلك (وأبت) أي منع عائشة الاستلام (فكن يخرجن) حال كونهن (متنكرات) في رواية عبد الرزاق مستترات (بالليل فيطفن مع الرجال، ولكنهن كن إذا دخلن البيت) الحرام (قمن) فيه (حتى يدخلن) وللمستملي والحموي: قمن حين يدخلن (وأخرج الرجال)، منه بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول أي: إذا أردن الدخول وقفن قائمات حتى يدخلن حال كون الرجال مخرجين منه.

قال عطاء (وكنت آتي عائشة أنا وعبيد بن عمير) بضم العين فيهما الليثي قاضي مكة ولد في الزمن النبوي (وهي) أي عائشة (مجاورة) أي مقيمة (في جوف ثبير)، بمثلثة مفتوحة فموحدة مكسورة منصرف جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب منها إلى

(3/172)


منى وعلى يمين الذاهب من منى إلى عرفات، وبمكة خمسة جبال أخرى يقال لها منها ثبير كما ذكره ياقوت والبكري.
قال ابن جريج، (قلت): لعطاء (وما حجابها)؟ يومئذ (قال) عطاء: (هي) أي عائشة (في قبة تركية) أي خيمة صغيرة من لبود تضرب في الأرض (لها) أي للقبة (غشاء وما بيننا وبينها غير ذلك)، أي كانت محجوبة عنا بهذه الخيمة (ورأيت عليها) أي على عائشة وأنا صبي (درعًا) بكسر الدال المهملة (موردًا) أي قميصًا أحمر لونه لون الورد، ويحتمل أن يكون رأى ما عليها اتفاقًا لا قصدًا.
1619 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها-زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-- قَالَتْ: "شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَشْتَكِي فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ، فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَئِذٍ يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، وَهْوَ يَقْرَأُ {وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} ".
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس ابن أخت الإمام مالك (قال: حدّثنا) وفي رواية: حدثني (مالك) هو ابن أنس الإمام (عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل) يتيم عروة (عن عروة بن الزبير عن زينب بنت أبي سلمة) ربيبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولدت بأرض الحبشة (عن) أمها (أم سلمة) هند (-رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلت: شكوت إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أني أشتكي) أي مرضي وإني ضعيفة (فقال:) عليه الصلاة والسلام:
(طوفي من وراء الناس) لأن ستة النساء التباعد عن الرجال في الطواف وبقربها يخاف تأذي الناس بدابتها وقطع صفوفهم في فوله (وأنت راكبة) للحال كهي في قولها: (فطفت ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينئذ) أي حال كونه (يصلّي الصبح إلى جنب البيت) الحرام لأنه أستر لها (وهو) أي والحال أنه عليه الصلاة والسلام (يقرأ) سورة {وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 1، 2] وسبقت بقية مباحث الحديث في باب إدخال البعير في المسجد.

65 - باب الْكَلاَمِ فِي الطَّوَافِ
(باب) إباحة (الكلام) بالخير (في الطواف).
1620 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ: أَخْبَرَنِي سُلَيْمَانُ الأَحْوَلُ أَنَّ طَاوُسًا أَخْبَرَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّ وَهُوَ يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ

بِإِنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إِنْسَانٍ بِسَيْرٍ -أَوْ بِخَيْطٍ أَوْ بِشَىْءٍ غَيْرِ ذَلِكَ- فَقَطَعَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: قُدْهُ بِيَدِهِ". [الحديث: 1620 - أطرافه في: 1621، 6702، 6703].
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) بن يزيد الفراء (قال: حدّثنا هشام) الصنعاني (أن ابن جريج) عبد الملك (أخبرهم قال: أخبرني) بالإفراد (سليمان) بن أبي مسلم (الأحول أن طاوسًا) هو ابن كيسان (أخبره عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّ وهو) أي والحال أنه (يطوف بالكعبة بإنسان ربط يده إلى إنسان بسير). بسين مهملة مفتوحة ومثناة تحتية ساكنة ما يقدّ من الجلد والقد الشق طويلاً (أو يخيط أو بشيء غير ذلك) -كمنديل ونحوه، وكأن الراوي لم يضبط ذلك فلذا شك (فقطعه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده) لأنه لم يمكن إزالة هذا المنكر إلا بقطعه (ثم قال): عليه الصلاة والسلام للقائد:
(قد بيده) بضم القاف وإسكان الدال وحذف الضمير المنصوب قيل: وظاهره أن المقود كان ضريرًا. وأجيب: باحتمال أن يكون لمعنى آخر.
فإن قلت ما اسم الإنسانين المبهمين هنا؟ أجيب: بأن الطبراني روى من طريق فاطمة بنت مسلم حدثني حذيفة بن بشر عن أبيه أنه أسلم فرد عليه النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ماله وولده ثم لقيه هو وابنه طلق بن بشر مقترنين بحبل فقال: ما هذا؟ قال: حلفت لئن رد الله عليّ مالي وولدي لأحجن بيت الله مقرونًا، فأخذ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الحبل فقطعه وقال لهما: حجا إن هذا من عمل الشيطان، فيمكن أن يكون المبهمان بشرًّا وابنه طلقًا المذكورين.
فإن قلت: أين دلالة الحديث على ما ترجم له؟ قلت: من قوله ثم قال قدّ بيده.
فإن قلت: إن الزركشي حمله على المجاز وقال: إنه قد شاع في كلامهم إجراء قال مجرى فعل. قلت: غلطه صاحب المصابيح بأنه صرف للفظ عن حقيقته وهي الأصل بلا قرينة، وقد سلط؟ القول هنا على كلام نطق به، وهو بيده، وكأن الزركشي ظن أنه مثل قوله فقال بيده هكذا وفرق أصابعه، وليس كذلك لوجود القرينة في هذا دون ذاك اهـ.
وقد استحب الشافعية للطائف أنه لا يتكلم إلا بذكر الله تعالى، وأنه يجوز الكلام في الطواف ولا يبطل ولا يكره، لكن الأفضل تركه إلا أن يكون كلامًا في خير كأمر بمعروف أو نهي عن منكر أو تعليم جاهل أو جواب فتوى، وقد روى الشافعي عن إبراهيم بن نافع قال: كلمت طاوسًا في الطواف فكلمني، وفي الترمذي مرفوعًا: الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه فمن تكلم فيه فلا

(3/173)


يتكلم إلا بخير، وفي النسائي عن ابن عباس: الطواف بالبيت صلاة فأقلوا به الكلام فليتأدب الطائف بآداب الصلاة خاضعًا حاضر القلب ملازم الأدب في ظاهره وباطنه مستشعرًا بقلبه عظمة من يطوف بيته وليجتنب الحديث فيما لا فائدة فيه لا سيما في محرم كعيبة أو نميمة. وقد روينا عن وهيب بن الورد قال: كنت في الحجر تحت الميزاب فسمعت من تحت الأستار

إلى الله أشكو وإليك يا جبريل ما ألقى من الناس من تفكههم حولي في الكلام أخرجه الأزرقي وغيره.

66 - باب إِذَا رَأَى سَيْرًا أَوْ شَيْئًا يُكْرَهُ فِي الطَّوَافِ قَطَعَهُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا رأى) شخص (سيرًا) ربط به آخر وهو يقاد به (أو) رأى (شيئًا يكره) فعله بضم المثناة التحتية مبنيًّا للمفعول صفة لشيئًا، أو في نسخة: يكرهه أي الرائي من قول أو فعل منكر (في الطواف قطعه) بلفظ الماضي جواب إذا، والقطع في السير حقيقة وفي الشيء المكروه فعله بمعنى المنع.
1621 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنْ سُلَيْمَانَ الأَحْوَلِ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَجُلاً يَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ بِزِمَامٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَطَعَهُ".
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك (عن ابن جريج) عبد الملك (عن سليمان) بن أبي مسلم (الأحول عن طاوس) هو ابن كيسان (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-):
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلاً يطوف بالكعبة بزمام) مربوط في يده وآخر يقوده به (أو غيره) أي غير زمام كمنديل ونحوه (فقطعه) عليه الصلاة والسلام بيده لأن القود بالأزمة إنما يفعل بالبهائم.
وهذا الحديث مختصر من السابق لكنه أخرجه من وجه آخر.

67 - باب لاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ، وَلاَ يَحُجُّ مُشْرِكٌ
هذا (باب) بالتنوين (لا يطوف بالبيت عريان)، ولا يحج مشرك.
1622 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ حَدَّثَنِي حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أَخْبَرَهُ "أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ -رضي الله عنه- بَعَثَهُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْها رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُ فِي النَّاسِ: أَلاَ لاَ يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلاَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) المصري اسم أبيه عبد الله ونسبه لجده لشهرته به (قال: حدّثنا الليث) بن سعد المصري (قال يونس) بن يزيد الأيلي (قال: ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (حدثني) بالإفراد (حميد بن عبد الرحمن) بن عوف (أن أبا هريرة) -رضي الله عنه- (أخبره أن أبا بكر الصديق -رضي الله عنه- بعثه) أي أبا هريرة سنة تسع من الهجرة ليحج بالناس (في الحجة التي أمره) بتشديد الميم أي جعله (عليها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أميرًا، ولغير أبي ذر: أمره عليه بالتذكير على أبي هريرة (قبل حجة الوداع يوم النحر) بمنى ظرف لقوله بعثه (في) جملة (رهط) وهو ما دون العشرة

من الرجال، وقيل إلى الأربعين ولا تكون فيهم امرأة (يؤذن) أي يعلم الرهط أو أبو هريرة على الالتفات (في الناس): حين نزل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ} [التوبة: 28]، والمراد به الحرم كله.
(ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام للتنبيه (لا يحج) بالرفع ولا نافية (بعد) هذا (العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان) بالرفع فاعل يطوف وهو بضم الطاء وسكون الواو مخففتين مرفوع عطفًا على يحج.
وفي رواية أبي ذر: أن لا يحج بإسقاط ألا التي للتنبيه وبفتح الهمزة وتشديد اللام، ونصب يحج بأن ولا نافية ويطوف نصب عطفًا على يحج، ويجوز أن تكون أن مخففة من الثقيلة فلا نافية ويحج مرفوع ويطوف عطف عليه، وأن تكون أن تفسيرية فلفظة لا تحتمل أن تكون نافية وناهية، وعلى كونها نافية فرفع الفعلين لما سبق، وعلى كونها ناهية فيحج مجزوم قطعًا، لكن يجوز تحريك آخره بالفتح كغيره من المضاعف نحو: لا تسب فلانًا بالفتح ويجوز الضم فيه اتباعًا ويطوف حينئذ بتشديد الطاء والواو مجزومًا وجوبًا، واحتج بهذا إمامنا الشافعي ومالك وأحمد في رواية عنه على اشتراط ستر العورة في الطواف، وعليه الجمهور خلافًا لأبي حنيفة وأحمد في رواية عنه حيث جوازه للعاري لكن عليه دم.

68 - باب إِذَا وَقَفَ فِي الطَّوَافِ
وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلاَةُ أَوْ يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ: إِذَا سَلَّمَ يَرْجِعُ إِلَى حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ. وَيُذْكَرُ نَحْوُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنهم.
هذا (باب) بالتنوين (إذا وقف) الطائف (في الطواف) هل ينقطع طوافه أم لا. ومذهب الشافعية وهو الجديد أن الموالاة بين الطوفات وبين أبعاض الطوفة الواحدة سنة فلو فرق تفريقًا كثيرًا بغير عذر كره. ولم يبطل طوافه. ومذهب الحنابلة وجوب الموالاة فمن تركها عمدًا أو سهوًا لم يصح طوافه إلا أن يقطعها لصلاة حضرت أو جنازة.
(وقال: عطاء) هو ابن أبي رباح التابعي الكبير مما وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه (فيمن يطوف فتقام الصلاة) أي المكتوبة في أثناء طوافه يقطع طوافه

(3/174)


كذا أطلقه الرافعي ثم النووي. وقال الماوردي: فإن أقيمت الصلاة قبل تمام الطواف فيختار أن يقطعه على وتر من ثلاث أو خمس ولا يقطعه على شفع لقوله عليه الصلاة والسلام "إن الله وتر يحب الوتر" فإن قطع على شفع جاز (أو يدفع عن مكانه: إذا سلم) من صلاته (يرجع إلى حيث قطع عليه)، وزاد أبوا ذر والوقت: فيبني أي على ما مضى من طوافه مبتدئًا من الموضع الذي قطع عنده على الأصح ولا يستأنف الطواف وهذا

مذهب الجمهور خلافًا للحسن حيث قال: يستأنف ولا يبني على ما مضى، وقيده مالك بصلاة الفريضة.
(ويذكر نحوه) بضم المثناة التحتية وفتح الكاف أي نحو قول عطاء مما وصله سعيد بن منصور (عن ابن عمر) بن الخطاب (و) عن (عبد الرحمن بن أبي بكر -رضي الله عنهم-) مما وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عن عطاء عنه: ولو حضرت صلاة جنازة وهو في أثناء الطواف استحب قطعه إن كان طواف نفل وإن كان طواف فرض كره قطعه، ولو أحدث عمدًا لم يبطل ما مضى من طوافه على المذهب فيتوضأ أو يبني. وقال المالكية: وإن انتقض وضوءه بطل مطلقًا، وقال نافع: طول القيام في الطواف بدعة، واكتفى المؤلّف بما ذكره إشارة إلى أنه لم يجد في الباب حديثًا مرفوعًا على شرطه.

69 - باب صَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ
وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يُصَلِّي لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ: قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ إِنَّ عَطَاءً يَقُولُ تُجْزِئُهُ الْمَكْتُوبَةُ مِنْ رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ، فَقَالَ: السُّنَّةُ أَفْضَلُ، لَمْ يَطُفِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سُبُوعًا قَطُّ إِلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ.
هذا (باب) بالتنوين (صلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لسبوعه ركعتين). بالسين المهملة والموحدة المضمومتين بغير همز في لغة قليلة أو جمع سبع بضم السين وسكون الموحدة كبرد وبرود، وفي حاشية الصحاح مضبوط بفتح أوله كضرب وضروب وعلى الكل فالمراد به سبع مرات.
(وقال نافع): مولى ابن عمر مما وصله عبد الرزاق عن الثوري عن موسى بن عقبة عن سالم عن ابن عمر (كان ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- يصلّي لكل سبوع ركعتين). وهما سنة مؤكدة على أصح القولين عند الشافعية وهو مذهب الحنابلة وأوجبهما الحنفية والمالكية، لكن قال الحنفية: لا يجبران بدم.
(وقال إسماعيل بن أمية): بضم الهمزة وفتح الميم ابن عمرو بن سعيد بسكون الميم وكسر العين ابن العاصي الأموي المكي (قلت للزهري) محمد بن مسلم بن شهاب مما وصله ابن أبي شيبة (أن عطاء) هو ابن أبي رباح المكي (يقول: تجزئه المكتوبة) بضم المثناة الفوقية وبفتحها مع الهمزة فيهما أي تكفيه الصلاة المفروضة (من ركعتي الطواف)، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة تفريعًا على أنهما سنة كإجزاء الفريضة عن تحية المسجد نص على ذلك الشافعي في القديم، واستبعده إمام الحرمين والاحتياط أن يصلّيهما بعد ذلك. وعند المالكية أنها لا تجزئ عنهما. (فقال:) الزهري: (السنة) أي مراعاتها (أفضل: لم يطف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سبوعًا قط) بضم السين من غير همز (إلا صلى ركعتين) أي من غير الفريضة فلا تجزئ المفروضة عنهما، لكن في استدلال الزهري بذلك نظر لأن

قوله: إلا صلّى ركعتين أعم من أن يكونا نفلاً أو فرضًا لأن الصبح ركعتان فتدخل في ذلك، لكن الزهري لا يخفى عليه ذلك فلم يرد بقوله إلا صلّى ركعتنِ أي من غير المكتوبة، ثم إن القران بين الأسابيع خلاف الأولى لأنه عليه الصلاة والسلام لم يفعله، وقد قال: "خذوا عني مناسككم" وهذا قول أكثر الشافعية وأبي يوسف ومحمد وأجازه الجمهور بغير كراهة.
وروى ابن أبي شيبة بإسناد جيد عن المسور بن مخرمة أنه كان يقرن بين الأسابيع إذا طاف بعد الصبح والعصر، فإذا طلعت الشمس أو غربت صلّى لكل أسبوع ركعتين، وفي الجزء السابع من أجزاء ابن السماك من حديث أبي هريرة بإسناد ضعيف أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طاف ثلاثة أسابيع جميعًا، ثم أتى المقام فصلّى خلفه ست ركعات يسلم من كل ركعتين. وقال بعض الشافعية إن قلنا أن ركعتي الطواف واجبتان كقول أبي حنيفة والمالكية فلا بدّ من ركعتين لكل طواف. وقال الرافعي: ركعتا الطواف وإن قلنا بوجوبهما فليستا بشرط في صحة الطواف لكن في تعليل بعض أصحابنا ما يقتضي اشتراطهما، وإذا قلنا

(3/175)


بوجوبهما هل يجوز فعلهما من قعود مع القدرة فيه؟ وجهان: أصحهما لا. ولا تسقط بفعل فريضة كالظهر إذا قلنا بالوجوب، والأصح أنها سنة كقول الجمهور.
1623 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو: سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ فِي الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ "قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا ثُمَّ صَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَقَالَ {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) بكسر العين قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو) بسكون الميم ابن دينار قال: (سألنا ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- أيقع الرجل على امرأته؟) بهمزة الاستفهام لم يجامعها (في العمرة) (قبل أن يطوف) أي يسعى (بين الصفا والمروة؟ قال) ابن عمر:
(قدم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فطاف بالبيت سبعًا ثم صلّى خلف المقام ركعتين وطاف بين الصفا والمروة)، (وقال) ابن عمر: ({لقد كان لكم في رسول الله أسوة}) خصلة ({حسنة}) [الأحزاب: 21] من حقها أن يؤتسى بها وتتبع.
1624 - قَالَ: وَسَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- فَقَالَ "لاَ يَقْرَبِ امْرَأَتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ".
(قال) عمرو بن دينار: (وسألت جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- فقال: لا يقرب امرأته) بفتح المثناة التحتية وضم الراء وكسر الموحدة لالتقاء الساكنين ولا ناهية أي لا يجامعها (حتى يطوف بين الصفا والمروة).

70 - باب مَنْ لَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ وَلَمْ يَطُفْ حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ وَيَرْجِعَ بَعْدَ الطَّوَافِ الأَوَّلِ
(باب من لم يقرب الكعبة) بضم الراء وكسر الباء أي لم يدن منها (ولم يطف) بها تطوّعًا (حتى) أي إلى أن (يخرج إلى عرفة ويرجع) بالنصب عطفًا على يخرج (بعد الطواف الأول) أي طواف القدوم وهو مستحب لكل قادم سواء كان محرمًا أو غير محرم وليس هو من فروض الحج.
1625 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلٌ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ فَطَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلَمْ يَقْرَبِ الْكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن أبي بكر) بن علي المقدمي الثقفي (قال: حدّثنا فضيل) هو ابن سليمان بضم الفاء والسين فيهما النمري (قال: حدّثنا موسى بن عقبة) الأسدي (قال: أخبرني) بالإفراد (كريب) بضم الكاف مولى ابن عباس (عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- قال):
(قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة فطاف) بالبيت للقدوم (وسعى بين الصفا والمروة، ولم يقرب) كذا في اليونينية بفتح الراء (الكعبة بعد طوافه) هذا "بها حتى رجع من عرفة" خشية أن يظن وجوبه واجتزأ عن ذلك بما أخبرهم به من فضل الطواف، وليس فيه دلالة لمذهب المالكية أن الحاج يمنع من طواف النفل قبل الوقوف بعرفة.
ورواة هذا الحديث ما بين بصري ومدني وهو من إفراده، وفيه التحديث والإخبار بالإفراد والعنعنة والقول.

71 - باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ وَصَلَّى عُمَرُ -رضي الله عنه- خَارِجًا مِنَ الْحَرَمِ
(باب من صلّى ركعتي الطواف) حال كونه (خارجًا من المسجد) الحرام إذ لا يتعين لهما موضع بعينه. نعم فعلهما خلف المقام أفضل كما سيأتي إن شاء الله تعالى. (وصلّى عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه-) ركعتي الطواف بعد أن نظر فلم ير الشمس (خارجًا من الحرم) بذوي طوى، وهذا وصله البيهقي من حديث حميد بن عبد الرحمن بن عبد القاري وإنما فعل عمر -رضي الله عنه- ذلك لكونه طاف بعد الصبح وكان لا يرى النفل بعده مطلقًا حتى تطلع الشمس.
1626 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- "شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا

أَبُو مَرْوَانَ يَحْيَى بْنُ أَبِي زَكَرِيَّاءَ الْغَسَّانِيُّ عَنْ هِشَامٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَهْوَ بِمَكَّةَ وَأَرَادَ الْخُرُوجَ -وَلَمْ تَكُنْ أُمُّ سَلَمَةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وَأَرَادَتِ الْخُرُوجَ- فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِذَا أُقِيمَتْ صَلاَةُ الصُّبْحِ فَطُوفِي عَلَى بَعِيرِكِ وَالنَّاسُ يُصَلُّونَ. فَفَعَلَتْ ذَلِكَ، فَلَمْ تُصَلِّ حَتَّى خَرَجَتْ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) الإمام (عن محمد بن عبد الرحمن) بن نوفل بن الأسود الأسدي المدني يتيم عروة (عن عروة) بن الزبير (عن زينب) بنت أبي سلمة (عن) أمها (أم سلمة -رضي الله عنها- قالت):
"شكوت إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" (ح) للتحويل كما مرّ قال المؤلّف:
(وحدثني) بالإفراد (محمد بن حرب) بفتح الحاء المهملة وسكون الراء آخره موحدة (حدّثنا أبو مروان يحيى بن أبي زكريا) يحيى (الغساني) بغين معجمة مفتوحة وسين مهملة مشدّدة نسبة إلى بني غسان لا بالعين المهملة والشين المعجمة ولأبي ذر في اليونينية الغساني (عن هشام عن) أبيه (عروة) بن الزبير (عن أم سلمة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). وسماع عروة منها ممكن فإنه أدرك حياتها نيفًا وثلاثين سنة وهو معها في بلد واحد، فحتمل أن يكون سمعه أوّلاً من زينب عنها ثم سمعه منها فلا يكون مرسلاً. قال في الفتح، وفي رواية الأصيلي: عن عروة عن زينب بنت أبي سلمة عن أم سلمة فزاد في هذه الطريق عن زينب، وقد رواه ابن السكن عن علي بن عبد الله بن مبشر عن محمد بن حرب لم يذكر فيه زينب وهو المحفوظ. (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: وهو بمكة وأراد الخروج ولم تكن أم سلمة) -رضي الله عنها- (طافت بالبيت)

(3/176)


لأنها كانت شاكية (وأرادت الخروج فقال لها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا أقيمت صلاة الصبح فطوفي على بعيرك والناس يصلون) (ففعلت ذلك فلم تصل) ركعتي الطواف (حتى خرجت) من المسجد الحرام أو مكة ثم صلّت، فدلّ على جواز صلاة الطواف خارج المسجد إذ لو كان شرطًا لازمًا لما أقرها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وعلى أن من نسي ركعتي الطواف قضاهما حيث ذكر من حل أو حرم وهو قول الجمهور خلافًا للثوري حيث قال: يركعهما حيث شاء ما لم يخرج من الحرم ولمالك حيث قال: إن لم يركعهما حتى تباعد ورجع إلى بلده فعليه دم، لكن قال ابن المنذر: ليس ذاك أكبر من صلاة المكتوبة ليس على من تركها غير قضائها حيث ذكرها.
في قوله: وحدثني محمد بن حرب الخ. بعطف ذلك على سابقه وسياقه على لفظ الرواية الثانية تجوّز فإن اللفظين مختلفان، وقد لفظ الرواية الأولى في باب طواف النساء مع الرجال ويأتي إن شاء الله تعالى قريبًا.

ورواة هذا الحديث ما بين مدني وشامي، وفيه رواية الابن عن أبيه وصحابية عن صحابية والتحديث بالجمع والإفراد والعنعنة.

72 - باب مَنْ صَلَّى رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ خَلْفَ الْمَقَامِ
(باب من) أي الذي (صلّى ركعتي الطواف خلف المقام) وهو الحجر الذي فيه أثر قدمي الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام وقد صح في البخاري وغيره أن عمر قال: يا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا مقام أبينا إبراهيم؟ قال: نعم الحديث.
1627 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ "قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى الصَّفَا، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ".
وبه قال (حدّثنا آدم) بن أبي إياس (قال: حدثنا شعبة) بن الحجاج (قال: حدّثنا عمرو بن دينار) بسكون الميم (قال: سمعت ابنَ عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-) حال كونه (يقول) "قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" مكة "فطاف بالبيت سبعًا وصلّى خلف المقام ركعتين" سنة الطواف. وفي حديث جابر الطويل في صفة حجة الوداع عند مسلم: طاف ثم تلا: {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى} [البقرة: 125] فصلّى عند المقام ركعتين، ومفهومه أن الآية آمرة بهما والأمر للوجوب وهو قول عند الشافعية لكنه معارض بما في حديث الصحيحين هل عليّ غيرها؟ قال: لا. إلا أن تطوّع، وعلى القول بالوجوب يصح الطواف بدونهما ولا يجبر تركهما بدم خلافًا للمالكية فإنهما يجبران فيما قاله سند فإن تعذر فعلهما خلف المقام لزحمة أو غيرها صلاهما في الحجر فإن لم يفعل ففي المسجد فإن لم يفعل ففي أي موضع شاء من الحرم وغيره وقال المالكية حيث شاء من المسجد ما خلا الحجر"ثم خرج عليه الصلاة والسلام إلى الصفا" للسعي. قال ابن عمر: (وقد قال تعالى) في كتابه ({لقد كان لكم في رسول الله أسوة}) قدوة ({حسنة}) وقد تقدم الكلام على هذا الحديث في باب قول الله تعالى {واتخذوا من مقام إبراهيم مصلّى} [البقرة: 125] في أوائل كتاب الصلاة.

73 - باب الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يُصَلِّي رَكْعَتَىِ الطَّوَافِ مَا لَمْ تَطْلُعِ الشَّمْسُ وَطَافَ عُمَرُ بَعْدَ الصُّبْحِ فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوًى
(باب) حكم الصلاة عقب (الطواف بعد) صلاة (الصبح و) صلاة (العصر وكان ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-) مما وصله سعيد بن منصور من طريق عطاء (يصلّي ركعتين الطواف ما لم تطلع الشمس) هذا جار على مذهبه في اختصاص الكراهة بحال طلوع الشمس وحال غروبها.

(وطاف عمر) بن الخطاب -رضي الله عنهما- مما وصله في الموطأ (بعد صلاة الصبح) ثبت قوله صلاة لأبي الوقت عن المستملي، فلما قضى طوافه نظر فلم ير الشمس (فركب حتى صلى الركعتين) سنة الطواف (بذي طوى) بضم الطاء المهملة.
1628 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عُمَرَ الْبَصْرِيُّ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ حَبِيبٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ نَاسًا طَافُوا بِالْبَيْتِ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ، ثُمَّ قَعَدُوا إِلَى الْمُذَكِّرِ، حَتَّى إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَامُوا يُصَلُّونَ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: قَعَدُوا، حَتَّى إِذَا كَانَتِ السَّاعَةُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاَةُ قَامُوا يُصَلُّونَ".
وبه قال: (حدّثنا الحسن بن عمر) بضم العين ابن شقيق (البصري، قال: حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الراي مصغرًا (عن حبيب) هو المعلم كما جزم المزي (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن عروة) بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أن ناسًا طافوا بالبيت بعد صلاة الصبح ثم قعدوا إلى المذكر) بتشديد الكاف أي الواعظ (حتى إذا طلعت الشمس) يعني كان قعودهم منتهيًا إلى طلوع الشمس (قاموا يصلون) سنة الطواف (فقالت عائشة -رضي الله عنها-: قعدوا حتى إذا كانت الساعة التي تكره فيها الصلاة) أي عند طلوع الشمس (قاموا يصلون). ومفهومه أنها كانت تحمل النهي على عمومه

(3/177)


ويؤيده ما رواه عطاء عنها مما عند ابن أبي شيبة بإسناد حسن أنها قالت: إذا أردت الطواف بالبيت بعد صلاة الفجر أو العصر فطف وأخر الصلاة حتى تغيب الشمس أو حتى تطلع الشمس وصلّ لكل أسبوع ركعتين، وهذا مذهب المالكية. وقال الحنفية: لا يفعلان في الأوقات المكروهة فإن فعلاً فيها صحت مع الكراهة.
1629 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ "سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْهَى عَنِ الصَّلاَةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا".
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) الحزامي بالزاي قال: (حدّثنا أبو ضمرة) أنس بن عياض المدني قال: (حدّثنا موسى بن عقبة عن نافع) مولى ابن عمر (أن عبد الله) بن عمر (-رضي الله عنه-) وعن أبيه (قال):
(سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (ينهى عن الصلاة) التي لا سبب لها (عند طلوع الشمس وعند غروبها.
1630 - حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الزَّعْفَرَانِيُّ حَدَّثَنَا عَبِيدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ حَدَّثَنِي عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ رُفَيْعٍ قَالَ "رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما- يَطُوفُ بَعْدَ الْفَجْرِ وَيُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ".

وبه قال: (حدثني) بالإفراد (الحسن بن محمد هو) ابن الصباح (الزعفراني) المتوفى يوم الاثنين لثمان بقين من رمضان سنة ستين ومائتين بعد المؤلّف بأربع سنين (قال: حدّثنا عبيدة بن حميد) بفتح العين وكسر الموحدة في الأول وضم الحاء المهملة وفتح الميم في الثاني التميمي النحوي (قال: حدثني) بالإفراد (عبد العزيز بن رفيع) بضم الراء وفتح الفاء مصغر الأسدي المكي نزيل الكوفة (قال):
"رأيت عبد الله بن الزبير" بن العوام "-رضي الله عنهما-" حال كونه "يطوف بعد" صلاة "الفجر ويصلّي ركعتين" سنة الطواف.
1631 - قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ "وَرَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْعَصْرِ وَيُخْبِرُ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- حَدَّثَتْهُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا إِلاَّ صَلاَّهُمَا".
(قال عبد العزيز) بن رفيع بالسند المذكور.
(رأيت عبد الله بن الزبير يصلّي ركعتين بعد العصر ويخبر أن عائشة -رضي الله عنها- حدثته أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يدخل بيتها إلا صلاهما) أي الركعتين بعد العصر، وكان ابن الزبير استنبط جواز الصلاة بعد الصبح من جوازها بعد العصر فكان يفعل ذلك بناء على اعتقاده أن ذلك على عمومه، ومذهب الشافعية جواز فعل سنة الطواف في جميع الأوقات بلا كراهة لحديث جبير بن مطعم مرفوعًا: يا بني عبد مناف من ولي من أمر الناس شيئًا فلا يمنعن أحدًا طاف بهذا البيت وصلّى أية ساعة شاء من ليل أو نهار. رواه الشافعي وأصحاب السنن وابن خزيمة وغيره وصححه الترمذي وروى الدارقطني والبيهقي حديث أبي ذر مرفوعًا: لا يصلّين أحد بعد الصبح حتى تطلع الشمس ولا بعد العصر حتى تغرب الشمس إلا بمكة، وهذا يخص عموم النهي عن الصلاة في الأوقات المكروهة.

74 - باب الْمَرِيضِ يَطُوفُ رَاكِبًا
(باب) حكم (المريض) حال كونه (يطوف) بالبيت العتيق حال كونه (راكبًا).
1632 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ الْوَاسِطِيُّ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَافَ بِالْبَيْتِ وَهْوَ عَلَى بَعِيرٍ كُلَّمَا أَتَى عَلَى الرُّكْنِ أَشَارَ إِلَيْهِ بِشَىْءٍ فِي يَدِهِ وَكَبَّرَ".
وبه قال: (حدثني) بالإفراد وفي نسخة: حدّثنا (إسحاق) زاد في بعض النسخ ابن شاهين (الواسطي قال: حدّثنا خالد) الطحان (عن خالد الحذاء) بالذال المعجمة والمدّ (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-):
(أن رسول الله عليه الصلاة والسلام طاف بالبيت وهو على بعير) مؤدّبًا ولا كراهة في الطواف راكبًا من غير عذر على المشهور عند الشافعية قاله النووي لكنه خلاف الأولى. وقال الإمام بعد حكايته عدم الكراهة وفي النفس من إدخال البهيمة التي لا يؤمن تلويثها المسجد شيء، فإن أمكن الاستيثاق فذاك وإلا فإدخالها مكروه اهـ.
وعند الحنفية أن من واجبات الطواف المشي إلا من عذر حتى لو طاف راكبًا من غير عذر لزمه الإعادة ما دام بمكة وإن عاد إلى بلده لزمه الدم، ومذهب المالكية: أنه لا يجوز إلا لعذر فإن طاف راكبًا لغير عذر أعاد إلا أن يرجع إلى بلده فيبعث بهدي، ولو طاف زحفًا مع قدرته على المشي فطوافه صحيح، لكنه يكره عند الشافعية. وعند الحنابلة: لا شيء عليه عند العجز فإن كان قادرًا فعليه الإعادة إن كان بمكة والدم إن رجع إلى أهله.
وكان عليه الصلاة والسلام (كلما أتى على الركن) أي الحجر الأسود (أشار إليه بشيء في يده) الكريمة (وكبّر).
فإن قلت: من أين المطابقة بين الحديث والترجمة؟ أجيب: من حيث أن المؤلّف حمل سبب طوافه عليه الصلاة والسلام راكبًا على أنه كان عن شكوى، ويؤيده رواية أبي داود من حديث ابن عباس أيضًا بلفظ: قدم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو يشتكي فطاف على راحلته لكن قال:

(3/178)


العز بن جماعة ورواية من روى أنه طاف راكبًا لمرض ضعيفة. قال الشافعي: ولا أعلمه في تلك الحجة اشتكى والذي يظهر أن هذا الطواف الذي ركب فيه عليه الصلاة والسلام هو طواف الإفاضة كما ذكره الشافعي في الأم لأنه عليه الصلاة والسلام طاف في حجة الوداع ثلاثة أسابيع طوافه أوّل القدوم، وقد صح أنه عليه الصلاة والسلام رمل فيه ومشى أربعًا وطواف الإفاضة وطواف الوداع، والمناسب أن يكون المركوب فيه منهما طواف الإفاضة ليراه الناس ويسألوه عن المناسك لا طواف الوداع، فإنه عليه الصلاة والسلام طافه في السحر بعد أن أخذ الناس المناسك.
فإن قلت: في صحيح مسلم من حديث جابر أنه عليه الصلاة والسلام طاف في حجة الوداع على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة لأن يراه الناس ويسألوه وسعيه في حجة الوداع كان مرة واحدة وكان عقب طوافه الأول. أجيب: بأن الواو لا تقتضي الترتيب فيكون طاف أوّل قدومه ماشيًا ثم سعى راكبًا ثم طاف يوم النحر راكبًا. اهـ.
1633 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَشْتَكِي، فَقَالَ: طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ. فَطُفْتُ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ وَهْوَ يَقْرَأُ بِالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ".

وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بفتح الميم واللام القعنبي قال: (حدّثنا مالك) الإمام (عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل) الأسدي المدني يتيم عروة (عن عروة) بن الزبير (عن زينب ابنة) ولأبي ذر بنت (أم سلمة) زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: شكوت إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أني أشتكي) أي مريضة (فقال): عليه الصلاة والسلام:
(طوفي من وراء الناس وأنت راكبة) (فطفت ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يصلّي) الصبح (إلى جنب البيت) الحرام (وهو يقرأ {بالطور وكتاب مسطور}) وهذا ظاهر فيما ترجم له المؤلّف.

75 - باب سِقَايَةِ الْحَاجِّ
(باب) ما جاء في (سقاية الحاج) مصدر سقي والمراد ما كانت قريش تسقيه الحاج من الزبيب المنبوذ في الماء وكان يليها العباس بن عبد المطلب بعد أبيه في الجاهلية، فأقرّها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له في الإسلام فهي حق لآل العباس أبدًا.
1634 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي الأَسْوَدِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "اسْتَأْذَنَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ -رضي الله عنه- رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ". [الحديث 1634 - أطرافه في: 1743، 1744، 1745].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن أبي الأسود) واسمه حميد الصيرفي ابن أخت عبد الرحمن بن مهدي قال: (حدّثنا أبو ضمرة) بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم أنس بن عياض الليثي المدني قال: (حدّثنا عبيد الله) بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال):
(استأذن العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه- رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يبيت بمكة ليالي منى) ليلة الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر "من أجل سقايته"، أي بسببها "فأذن له" فيه دليل على وجوب المبيت بمنى في الليالي الثلاث لغير معذور كاهل السقاية إلا أن ينفر في ثاني أيامها فيسقط مبيت الثالثة، والمراد معظم الليل كما لو حلف لا يبيت بمكان لا يحنث إلا بمبيته معظم الليل فيجب بتركه دم، وفي ترك مبيت الليلة الواحدة مدّ والليلتين مدّان من الطعام. أما أهل السقاية ولو كانوا غير عباسيين والرعاء فلهم ترك المبيت من غير دم لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص للعباس كما مرّ ولرعاء الإبل كما رواه الترمذي وقال: حسن صحيح. وقال الحنفية: المبيت بمنى ستّة لأنه لو كان واجبًا لما رخص في تركه لأهل السقاية. وأجابوا عن قول الشافعية لولا أنه واجب لما احتاج إلى إذن بأن مخالفة السنّة عندهم كان مجانبًا جدًّا خصوصًا إذا انضم إليها الإنفراد عن جميع الناس مع الرسول عليه الصلاة

والسلام فاستأذن لإسقاط الإساءة الكائنة بسبب عدم موافقته عليه الصلاة والسلام لا فيه من إظهار المخالفة المستلزمة لسوء الأدب، إذ أنه عليه الصلاة والسلام كان يبيت بمنى ليالي أيام التشريق.
1635 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ خَالِدٍ الْحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فَاسْتَسْقَى. فَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا فَضْلُ اذْهَبْ إِلَى أُمِّكَ فَأْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَرَابٍ مِنْ عِنْدِهَا. فَقَالَ: اسْقِنِي. قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أَيْدِيَهُمْ فِيهِ. قَالَ: اسْقِنِي. فَشَرِبَ مِنْهُ. ثُمَّ أَتَى زَمْزَمَ وَهُمْ يَسْقُونَ وَيَعْمَلُونَ فِيهَا فَقَالَ؛ اعْمَلُوا فَإِنَّكُمْ عَلَى عَمَلٍ صَالِحٍ. ثُمَّ قَالَ: لَوْلاَ أَنْ تُغْلَبُوا لَنَزَلْتُ حَتَّى أَضَعَ الْحَبْلَ عَلَى هَذِهِ. يَعْنِي عَاتِقَهُ. وَأَشَارَ إِلَى عَاتِقِهِ".
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) هو ابن شاهين الواسطي لا ابن بشر قال: (حدّثنا خالد) الطحان (عن خالد الحذاء عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء إلى السقاية) التي يسقى بها الماء في الموسم وغيره (فاستسقى) طلب الشراب (فقال العباس) لولده: (يا فضل اذهب

(3/179)


إلى أمك) أم الفضل لبابة بنت الحرث الهلالية (فأت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشراب من عندها فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(استقني: قال: يا رسول الله إنهم يجعلون أيديهم فيه: قال) عليه الصلاة والسلام تواضعًا وإرشادًا إلى أن الأصل الطهارة والنظافة حتى يتحقق أو يظن ما يخالف الأصل: (اسقني) زاد الطبراني مما يشرب منه الناس، وزاد أبو علي بن السكن في روايته فناوله العباس الدلو (فشرب منه) زاد الطبراني فذاقه فقطب ثم دعا بماء فكسره ثم قال: "إذا اشتد نبيذكم فاكسروه بالماء" وتقطيبه عليه الصلاة والسلام منه إنما كان لحموضته فقط وكسره بالماء ليهون شربه عليه، (ثم أتى) عليه الصلاة والسلام (زمزم وهم يسقون) الناس والجملة، حالية (ويعملون فيها) أي ينزحون منها الماء (فقال) عليه الصلاة والسلام لهم: (اعملوا فإنكم على عمل صالح) (ثم قال) عليه الصلاة والسلام: (لولا أن تغلبوا) بضم المثناة الفوقية وفتح اللام مبنيًا للمفعول. أي: لولا أن يجتمع عليكم الناس إذا رأوني قد عملته لرغبتهم في الاقتداء بي فيغلبوكم بالمكاثرة (لنزلت) عن راحلتي (حتى أضع الحبل على هذه يعني) عليه الصلاة والسلام (عاتقه وأشار) بقوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذه (إلى عاتقه) وفيه إشارة إلى أن السقايات العامة كالآبار والصهاريج يتناول منها الغني والفقير إلا أن ينص على إخراج الغني لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تناول من ذلك الشراب العام وهو لا يحل له الصدقة فيحمل الأمر فيه هذه السقايات على أنها موقوفة للنفع العام، فهي للغني هدية وللفقير صدقة، وفيه أيضًا كراهة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات.
وموضع الترجمة منه قوله: جاء إلى السقاية.

76 - باب مَا جَاءَ فِي زَمْزَمَ
(باب ما جاء في زمزم) بفتح الزايين وسكون الميم وسكون الميم الأولى وسميت بذلك لكثرة مائها والماء الزمزم هو الكثير: وقيل لزم هاجر ماؤها حين انفجرت، وقيل زمزمة جبريل وكلامه وتسمى الشباعة وبركة ونافعة ومضنونة وبرة وميمونة وكافية عافية ومغذية ومروية وطعام طعم وشفاء سقم، وأوّل من أظهرها جبريل سقيًا لإسماعيل عليهما الصلاة والسلام عندما ظمئ وحفرها الخليل عليه الصلاة والسلام بعد جبريل فيما ذكره الفاكهي، ثم غيبت بعد ذلك لاندراس موضعها لاستخفاف جرهم بحرمة الحرم والكعبة أو لدفنهم لها عندما نفوا من مكة، ثم منحها الله تعالى عبد المطلب فحفرها بعد أن أعلمت له في المنام بعلامات استبان له بها موضعها ولم تزل ظاهرة إلى الآن، ولها فضائل وردت في أحاديث لم يذكر المؤلّف شيئًا منها لكونها لم تكن على شرطه صريحًا وفي مسلم من حديث أبي ذر: ماء زمزم طعام طعم، وزاد الطيالسي وشفاء سقيم، وفي المستدرك من حديث ابن عباس مرفوعًا: ماء زمزم لما شرب له، وصححه البيهقي في الشعب وصححه ابن عيينة فيما نقله ابن الجوزي في الأذكياء، وكذا صححه ابن حبان ووثق رجاله الحافظ الدمياطي إلا أنه اختلف في وصله وإرساله. قال في الفتح: وإرساله أصح وله شاهد من حديث جابر وهو أتم منه أخرجه الشافعي وابن ماجة ورجاله ثقات إلا عبد الله بن المؤمّل المكي فذكر العقيلي أنه تفرد به، لكن ورد من رواية غيره عند البيهقي من طريق إبراهيم بن طهمان، ومن طريق حمزة الزيات، وبالجملة فقد ثبتت صحة هذا الحديث إلا ما قيل أن الجارود تفرد عن ابن عيينة بوصله ومثله لا يحتج به إذا انفرد فكيف إذا خالف وهو من رواية الحميدي وابن أبي عمرو وغيرهما ممن لازم ابن عيينة أكثر من الجارود فيكون أولى، لكن الذي يحتاج إليه الحكم بصحة المتن عن النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا عليه كونه من خصوصٍ طريق بعينها وهنا أمور تدل عليه. منها: أن مثله لا مجال للرأْي فيه فوجب كونه سماعًا وكذا إن قلنا العبرة في تعارض الوصل والوقف والإرسال للواصل بعد كونه ثقة لا إلا حفظ ولا غيره، مع أنه قد صح تصحيح نفس ابن عيينة له كما مرّ، وروى الدارقطني والبيهقي مرفوعًا آية ما بيننا وبين المنافقين أنهم لا يتضلعون من زمزم، وقد شربه جماعة من السلف والخلف لمآرب فنالوها وأولى ما يشرب لتحقيق التوحيد

(3/180)


والموت عليه والعزة بطاعة الله.
1636 - وَقَالَ عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ "كَانَ أَبُو ذَرٍّ -رضي الله عنه- يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: فُرِجَ سَقْفِي وَأَنَا بِمَكَّةَ. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا. فَأَفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا: افْتَحْ. قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ جِبْرِيلُ".
(وقال عبدان) بفتح المهملة وسكون الموحدة أسمه عبد الله بن عثمان المروزي مما وصله مطولاً

في أول باب الصلاة عن يحيى بن بكير عن الليث عن يونس ويأتي في أحاديث الأنبياء أتم منه، ووصله الجوزقي بتمامه عن الدغولي عن محمد بن الليث عن عبدان (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن) ابن شهاب (الزهري قال: أنس بن مالك -رضي الله عنه-: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(فرج) بضم الفاء وكسر الراء مخففة أي فتح (سقفي) إضافة إليه وإن كان بيت أم هانئ لأن الإضافة تكون بأدنى ملابسة (وأنا بمكة) (فنزل جبريل عليه الصلاة والسلام ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم) غير منصرف (ثم جاء بطست من ذهب) كان هذا قبل تحريم استعمال أواني الذهب (ممتلئ حكمة وإيمانًا) هو من باب التمثيل (فأفرغها) أي الطست أي أفرغ ما فيها من الإيمان والحكمة (في صدري ثم أطبقه) غطاه وجعله مطبقًا (ثم أخذ) جبريل (بيدي فعرج) أي صعد (بي إلى السماء الدنيا) روى أبو جعفر محمد بن عثمان بن أبي شيبة في كتاب العرش عن العباس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هل تدرون كم بين السماء والأرض؟ قلنا: الله ورسوله أعلم. قال: بينهما خمسمائة عام وكثف كل سماء خمسمائة عام وفوق السماء السابعة بحر بين أسفله وأعلاه كما بين السماء والأرض (قال): ولأبي الوقت: قال: (جبريل لخازن السماء: افتح) أي الباب (قال): الخازن (من هذا؟) الذي يقرع الباب (قال: جبريل).
وموضع الترجمة قوله: ثم غسله بماء زمزم لأنه يدل على فضل زمزم حيث اختص غسله بها دون غيرها من المياه، وقد قال شيخ الإسلام البلقيني: إنه أفضل من الكوثر لأن به غسل قلبه الشريف ولم يكن يغسل إلا بأفضل المياه، وقال الزين العراقي الحكمة في غسل قلبه الشريف به لأن به يقوى القلب على رؤية ملكوت السماوات والأرض والجنة والنار لأن من خواص ماء زمزم أنه يقوي القلب ويسكن الروع.
1637 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِيُّ عَنْ عَاصِمٍ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- حَدَّثَهُ قَالَ: "سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وَهُوَ قَائِمٌ. قَالَ عَاصِمٌ: فَحَلَفَ عِكْرِمَةُ مَا كَانَ يَوْمَئِذٍ إِلاَّ عَلَى بَعِيرٍ". [الحديث 1637 - طرفه في: 5617].
وبه قال: (حدّثنا محمد) هو (ابن سلام) بتخفيف اللام البيكندي ولأبي ذر: ابن سلام بتشديدها حيث وقع قال: (أخبرنا الفزاري) مروان بن معاوية (عن عاصم) هو ابن سليمان الأحول (عن الشعبي) بفتح المعجمة وسكون المهملة عامر بن شراحيل (أن ابن عباس -رضي الله عنهما- حدثه، قال:)
(سقيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من زمزم فشرب وهو قائم) فيه الرخصة في الشرب قائمًا، واستحباب الشرب من ماء زمزم قال ابن المنير: وكأنه عنوان عن حسن العهد وكمال الشوق، فإن العرب اعتادت الحنين إلى مناهل الأحبة وموارد أهل المودّة، وزمزم هو منهل أهل البيت فالمحترق عليها

والمتعطش إليها قد أقام شعار المحبة وأحسن العهد للأحبة، ولهذا جعل التضلع منها علامة فارقة بين الإيمان والنفاق، ولله در القائل:
وما شرقي بالماء إلا تذكرًا ... لماء به أهل الحبيب نزول
وقال آخر:
يقولون ملح ماء فجلة آجن ... أجل هو مملوح إلى القلب طيب
وقال آخر:
بالله قولوا لنيل مصر ... بأنني عنه في غِناءِ
بزمزم العذب عند بيت ... معلق الستر بالوفاءِ
وروى الفاكهي وغيره عن ابن عباس: صلوا في مصلّى الأخيار واشربوا من شراب الأبرار، قيل: وما مصلّى الأخيار؟ قال: تحت الميزاب. قيل: فما شراب الأبرار؟ قال: زمزم.
(قال عاصم:) الأحول (فحلف عكرمة) مولى ابن عباس: والله (ما كان) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يومئذ) أي يوم سقاه ابن عباس من ماء زمزم (إلا) راكبًا (على بعير) ولابن ماجة من هذا الوجه قال عاصم: فذكرت ذلك لعكرمة بالله ما فعل؟ أي ما شرب قائمًا لأنه حينئذ كان راكبًا، لكن عند أبي داود من رواية عكرمة

(3/181)


عن ابن عباس: أنه أناخ فصلّى ركعتين فلعل شربه من ماء زمزم كان بعد ذلك، ولعل عكرمة إنما أنكر شربه قائمًا لنهيه عنه، لكن ثبت عن علي عند البخاري أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شرب قائمًا فيحمل على بيان الجواز قاله في فتح الباري.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الأشربة وكذا الترمذي.

77 - باب طَوَافِ الْقَارِنِ
(باب طواف القارن) هل يكفيه طواف واحد أو لا بد من طوافين؟ خلاف يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
1638 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَأَهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قَالَ: مَنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا. فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، فَلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنَا أَرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَاعْتَمَرْتُ، فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: هَذِهِ مَكَانَ عُمْرَتِكِ. فَطَافَ الَّذِينَ أَهَلُّوا بِالْعُمْرَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافًا آخَرَ بَعْدَ أَنْ رَجَعُوا مِنْ مِنًى. وَأَمَّا الَّذِينَ جَمَعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ طَافُوا طَوَافًا وَاحِدًا".

وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي (قال: أخبرنا مالك) الإمام (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عروة) بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) قالت: (خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع) سنة عشر وسميت بذلك لأنه عليه الصلاة والسلام ودّع الناس فيها ولم يحج بعد الهجرة غيرها، (فأهللنا) أحرمنا (بعمرة ثم قال:) عليه الصلاة والسلام:
(من كان معه هدي فليهلّ بالحج والعمرة ثم لا يحل) بالنصب، ولغير أبي ذر: لا يحل بالرفع (حتى يحل منهما). أي من الحج والعمرة لأن القارن يعمل عملاً واحدًا كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. قالت عائشة: (فقدمت مكة وأنا حائض فلما قضينا حجنا) أي بعد أن طهرت وطفت (أرسلني مع) أخي (عبد الرحمن إلى التنعيم) أدنى الحل إلى الحرم، وإنما أرسلها إلى التنعيم لأن العمرة كالحج لا بد أن يجمع فيها بين الحل والحرم (فاعتمرت، فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "هذه" العمرة (مكان عمرتك). بنصب مكان على الظرفية أي بدل عمرتك التي أردت أن تأتي بها مفردة لا أنها قضاء عن التي كانت أحرمت بها، (فطاف الذين أهلوا بالعمرة) وحدها متمتعين وسعوا (ثم حلوا) لم يفرق بين من معه الهدي ومن ليس معه. وقال أبو حنيفة: من كان معه الهدي لا يحل من عمرته ويبقى على إحرامه حتى يحج وينحر هديه يوم النحر، (ثم طافوا طوافًا آخر) للحج (بعد أن رجعوا من منى، وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة) وهم الذين كان معهم الهدي (طافوا طوافًا واحدًا) بغير فاء في طافوا الذي هو جواب أما، لكن صرح النحاة بلزوم إثباتها فيه نحو قوله تعالى: {فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم} [البقرة: 26] إلا في ضرورة الشعر كقوله:
فأما القتال لا قتال لديكم ... ولكن سيرًا في عراض المواكب
وأما حذفها في قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [آل عمران: 106] فالأصل فيقال لهم: أكفرتم فحذف القول استغناء عنه بالمقول فتبعته الفاء في الحذف، ورب شيء يصح تبعًا ولا يصح استقلالاً كالحاج عن غيره يصلّي عنه ركعتي الطواف، ولو صلّى أحد عن غيره ابتداء لم يصح على الصحيح قاله ابن هشام. وتلخص منه أن الفاء لا تحذف في غير الضرورة إلا مع القول، وعورض بأنه ثبت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: أما بعد ما بال رجال يشترطون شروطًا.
وأجيب: بأنه يجوز أن يكون هذا الحديث مما حذف فيه الفاء تبعًا للقول والتقدير، فأقول: ما بال رجال؟ فالأولى النقص بما وقع هنا في حديث عائشة. وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة طافوا وبقوله عليه الصلاة والسلام: أما موسى كأني أنظر إليه إذ ينحدر في الوادي، ولذا قال ابن مالك في التسهيل: ولا بدّ مع أما من ذكر الفاء إلا في ضرورة أو ندور، وللكشميهني: فإنما طافوا فأتي بالفاء قبل إنما في جواب أما، وفي هذا الحديث دليل على أن القارن يجزيه طواف واحد وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد والجمهور، وكذا يجزيه سعي واحد. وقال أبو حنيفة في آخرين عليه طوافان

وسعيان، واستدلّ لذلك في فتح القدير بما رواه النسائي في سننه الكبرى عن حماد بن عبد الرحمن الأنصاري عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية قال: طفت مع أبي وقد جمع الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى سعيين. وحدثني أن عليًّا -رضي الله عنه- فعل ذلك وحدثه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل ذلك. قال العلامة ابن الهمام: وحماد هذا وإن ضعفه الأزدي فقد ذكره ابن حبان في الثقات فلا ينزل حديثه عن درجة الحسن مع أنه روى عن علي بطرق كثيرة مضعفة ترتقي إلى الحسن، غير أنا تركناها واقتصرنا على ما هو الحجة بنفسه

(3/182)


بلا ضم قال: ورواه الشافعي بسند فيه مجهول وقال: معناه أنه يطوف بالبيت حين يقدم بالصفا والمروة ثم يطوف بالبيت للزيادة اهـ.
وهو صريح في مخالفة النص عن علي، وقول ابن المنذر: ولو كان ثابتًا عن علي كان قول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أولى من أحرم بالحج والعمرة أجزأه عنهما طواف واحد وسعي واحد مدفوع بأن عليًّا رفعه إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما أسمعناك، فوقعت المعارضة وكانت هذه الرواية أقيس بأصول الشرع فرجحت، وقد استقر في الشرع أن من ضم عبادة إلى أخرى أنه يفعل أركان كل منهما والله أعلم بحقيقة الحال اهـ.
ولا ريب أن العمل بما في صحيح البخاري أولى من حديث لم يكن على رسم الصحيح على ما لا يخفى، وقد روى مسلم من طريق ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: لم يطف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا أصحابه بين الصفا والمروة إلا طوافًا واحدًا، ومن طريق طاوس عن عائشة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لها: "يسعك طوافك لحجك وعمرتك" وهذا صريح في الأجزاء وإن كان العلماء اختلفوا فيما كانت عائشة محرمة به. وقال عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل قال: حلف طاوس، ما طاف أحد من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لحجته وعمرته إلا طوافًا واحدًا. قال الحافظ ابن حجر: وهذا إسناد صحيح.
وحديث الباب مضى في باب: كيف تهل الحائض والنفساء؟ وموضع الترجمة منه قوله: وأما الذين جمعوا بين الحج والعمرة لأنه هو القارن.
1639 - حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- دَخَلَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَظَهْرُهُ فِي الدَّارِ فَقَالَ: إِنِّي لاَ آمَنُ أَنْ يَكُونَ الْعَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتَالٌ فَيَصُدُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَلَوْ أَقَمْتَ. فَقَالَ: قَدْ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَفْعَلُ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ثُمَّ قَالَ: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ مَعَ عُمْرَتِي حَجًّا. قَالَ: ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا". [الحديث 1639 - أطرافه في: 1640، 1693، 1708، 1729، 1806، 1807، 1808، 1810، 1812، 1813، 4183، 4184، 4185].
وبه قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم) الدورقي نسبة للبس القلانس الدوقية قال: (حدّثنا ابن علية) هو إسماعيل وعلية بضم العين المهملة وفتح اللام وتشديد التحتية هو اسم أمه واسم أبيه إبراهيم بن مقسم (عن أيوب) السختياني (عن نافع) مولى ابن عمر بن الخطاب (أن ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- دخل ابنه عبد الله بن عبد الله وظهره) بالرفع مبتدأ خبره قوله (في الدار) والجملة حالية والضمير في ظهره لابن عمر، والمراد بالظهر مركوبه من الإبل، وكان ابن عمر قد عزم على الحج وأحضر مركوبه ليركب عليه ويتوجه (فقال:) له ابنه عبد الله: (إني لا آمن) بمدّ الهمزة وفتح الميم مخففة، وللمستملي فبينما ذكره الحافظ ابن حجر: لا إيمن بكسر الهمزة وفتح الميم وهي لغة تميم فإنهم يكسرون الهمزة في أول مستقبل ماضيه على فعل بالكسر، ولا يكسرون إذا كان ماضيه بالفتح إلا أن يكون فيه حرف حلق نحو: اذهب والمعنى أخاف (أن يكون العام) نصب على
الظرفية أي على هذا العام (بين الناس قتال) بالرفع فاعل يكون وهي هنا تامة والظرف متعلق بها وكذا بين الناس (فيصدوك عن البيت، فلو قمت) هذه السنة وتركت الحج لكان خيرًا لعدم إلا من فجواب الشرط محذوف، ويحتمل أن تكون لو للتمني فلا تحتاج إلى جواب (فقال): عبد الله بن عمر لابنه عبد الله (قد خرج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يوم الاثنين في هلال ذي القعدة سنة ست من الهجرة للعمرة حتى نزل بالحديبية (فحال كفار قريش بينه وبين البيت) فتحلل بأن خرج من النسك بالذبح والحلق أي مع النية فيهما (فإن حيل) بكسر الحاء المهملة بلفظ الماضي (بيني وبينه) أي البيت (أفعل كما فعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من التحلل حيث منعوه من دخول مكة وأفعل بالرفع كما في اليونينية على تقدير أنا وبالجزم على أنه جزاء، وللكشميهني: فإن يحل بضم الياء وفتح الحاء وسكون اللام مبنيًا فافعل جزم فقط ({لقد كان لكم في رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسوة حسنة} [الأحز اب: 21] خصلة حسنة من حقها أن يؤتسى بها وهو في نفسه قدوة حسنة فحسن التأسي به كقوله في البيضة عشرون منا حديدًا أي هي في نفسها هذا القدر من الحديد (ثم قال): أي عبد الله بن عمر: (أشهدكم أني قد أوجبت مع عمرتي حدًّا) بالتذكير الأخير ولم يكتف بالنية بل أراد الإعلام لمن يريد الاقتداء به. (قال): عبد الله بن عبد الله بن عمر (ثم قدم) أي أبي عبد الله مكة من منى بعد الوقوف بعرفات (فطاف لهما) أي للحج والعمرة (طوافًا واحدًا) بعد

(3/183)


الوقوف بعرفة.
وهذا موضع الترجمة. وحمله القائلون بطوافين وسعيين للقارن على أن المراد بقوله: طوافًا واحدًا أي طاف لكل منهما طوافًا يشبه الطواف الذي للآخر ولا يخفى ما في ذلك. وقد روى سعيد بن منصور عن نافع عن ابن عمر عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "من جمع بين الحج والعمرة كفاه لهما طواف واحد وسعي واحد" فهذا صريح في المراد.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في الحج وكذا مسلم.
1640 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَرَادَ الْحَجَّ عَامَ نَزَلَ الْحَجَّاجُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ، فَقِيلَ لَهُ إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ، فَقَالَ {لَقَدْ كَانَ

لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إِذًا أَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. إِنِّي أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عُمْرَةً ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجًّا مَعَ عُمْرَتِي. وَأَهْدَى هَدْيًا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَلَمْ يَنْحَرْ وَلَمْ يَحِلَّ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ وَلَمْ يَحْلِقْ وَلَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ فَنَحَرَ وَحَلَقَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: كَذَلِكَ فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما- أراد الحج عام نزل) أي في عام نزل (الحجاج) بن معاوية بن زيد بن معاوية ولم يكن استخلف بقي الناس بلا خليفة شهرين وأيامًا، فاجتمع رأي أهل الحل والعقد من أهل مكة فبايعوا عبد الله بن الزبير، وبايع أهل الشام ومصر مروان بن الحكم، ثم لم يزل الأمر كذلك إلى أن توفى مروان وولي ابنه عبد الملك فمنع الناس الحج خوفًا أن يبايعوا ابن الزبير ثم بعث جيشًا أمر عليه الحجاج فقدم مكة وأقام الحصار من أوّل شعبان سنة اثنتين وسبعين بأهل مكة إلى أن غلب عليهم، وقتل ابن الزبير وصلبه (فقيل له) أي لابن عمر والقائل له ابناه عبد الله وسالم كما في مسلم: (إن الناس كائن بينهم قتال) برفع قتال ويجوز النصب على التمييز والجملة في موضع رفع خبر إن، (وإنا نخاف أن يصدوك)، عن البيت (فقال). ابن عمر: ({لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}) [الأحزاب: 21] (إذا صنع) نصب بإذا وهي حرف جزاء وجواب، وقيل اسم والأصل في إذا أكرمك إذا جئتني أكرمتك ثم حذفت الجملة وعوّض التنوين عنها وأضمرت أن وعلى الأول فالأصح أنها بسيطة لا مركبة من إذ وأن، وعلى البساطة فالصحيح أنها الناصبة لا أن مضمرة بعدها، وتنصب المضارع بشروط أن تكون مصدرة وأن يكون الفعل متصلاً بها أو منفصلاً بقسم وأن يكون مستقبلاً يقال: سآتيك غدًا فتقول إذا أكرمك وإذا والله أكرمك فتنصب فيهما وترفع وجوبًا إن قلت أنا إذا أكرمك لعدم تصدرها وإذا يا عبد الله أكرمك للفضل بغير القسم أو حدثك إنسان حديثًا فقلت: إذا تصدق لعدم الاستقبال، وقد ظهر مما ذكر أن أصنع هنا منصوب لأن إذا مصدرة وأصنع متصل بها مستقبل، وأن قول العيني إذا كان فعلها مستقبلاً وجب الرفع كما هو هنا سهو أو سبق قلم، والمعنى: إن صددت عن البيت أصنع (كما صنع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من التحلل حين حصر بالحديبية. (إني أشهدكم أني قد أوجبت عمرة) كما أوجبها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصة الحديبية (ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء) موضع بين مكة والمدينة قدام ذي الحليفة (قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد) بالرفع أي واحد في حكم الحصر وإنه إذا كان التحلل للحصر جائزًا في العمرة مع أنها غير محددة بوقت فهو في الحج أجوز وفيه العمل بالقياس (أشهدكم أني قد أوجبت حجًّا مع عمرتي. وأهدى) بفتح الهمزة فعل ماض من الإهداء (هديًا اشتراه بقديد)، بقاف مضمومة ودالين مهملتين بينهما تحتية ساكنة مصغرًا موضع قريب من الجحفة. زاد في باب: من اشترى هديه من الطريق وقلده حتى قدم فطاف بالبيت وبالصفا أي إلى أن قدم مكة فطاف بالبيت للقدوم وبالصفا، (ولم يزد على ذلك، فلم

ينحر ولم يحل من شيء حرم منه) أي حرم من أفعاله وهي المحرمات السبع، (ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق ورأى أن قد قضى) أي أدّى (طواف الحج والعمرة بطوافه الأول) الذي طافه يوم النحر للإضافة بعد الوقوف بعرفة فهو مراده بالأول. قال في اللامع: لأن أول لا يجتاج أن يكون بعده شيء فلو قال أول عبد يدخل فهو حر فلم يدخل إلا واحد عتق، والمراد أنه لم يجعل للقران طوافين بل اكتفى بواحد وهو مذهب الشافعي وغيره خلافًا للحنفية. وقال بعضهم: المراد بالطواف الأول الطواف بين الصفا والمروة، وأما الطواف

(3/184)


بالبيت وهو طواف الإضافة فهو ركن فلا يكتفى عنه بطواف القدوم في القران ولا في الإفراد. (وقال ابن عمر): -رضي الله عنهما- (كذلك فعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهذا موضع الترجمة.

78 - باب الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ
(باب الطواف على وضوء) وهو شرط عند الجمهور لا يصح الطواف بدونه كالطهارة من الخبث وشر العورة لحديث الترمذي: الطواف بالبيت صلاة، فيدل على اشتراط ما ذكر فيه لأنه شبهه بها وليس بين ذاتيهما شيء من المشابهة لأن ذات الطواف وهو الدوران مما تنتفي به ذات الصلاة، فيكون المراد أن حكمه حكم الصلاة ومن حكمها عدم الاعتداد بدون الطهارة. وقال الحنفية: وتجب الطهارة عن الحدثين والحيض والنفاس للطواف في الأصح وليست بشرط للجواز ولا فرض بل واجبة حتى يجوز الطواف بدونها ويقع معتدًا به، ولكن يكون مسيئًا وتجب الدّية، فإن طاف للقدوم أو للصدر محدثًا تجب صدقة وجنبًا دم، وللزيادة محدثًا دم وجنبًا بدنة، وتستحب الإعادة ما دام بمكة في الحديث ويجب في الجنابة حتى إذا رجع إلى أهله فعليه أن يعود إلى مكة بإحرام جديد.
1641 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ نَوْفَلٍ الْقُرَشِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ "قَدْ حَجَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ -رضي الله عنها- أَنَّهُ أَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ حِينَ قَدِمَ أَنَّهُ تَوَضَّأَ ثُمَّ طَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. ثُمَّ حَجَّ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً. ثُمَّ عُمَرُ -رضي الله عنه- مِثْلُ ذَلِكَ. ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ -رضي الله عنه-، فَرَأَيْتُهُ أَوَّلُ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ. ثُمَّ مُعَاوِيَةُ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ. ثُمَّ حَجَجْتُ مَعَ أَبِي -الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ- فَكَانَ أَوَّلَ شَىْءٍ بَدَأَ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ. ثُمَّ رَأَيْتُ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ. ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأَيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابْنُ عُمَرَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً. وَهَذَا ابْنُ عُمَرَ عِنْدَهُمْ فَلاَ يَسْأَلُونَهُ وَلاَ أَحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِشَىْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أَقْدَامَهُمْ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّونَ. وَقَدْ رَأَيْتُ أُمِّي وَخَالَتِي حِينَ تَقْدَمَانِ لاَ تَبْتَدِئَانِ بِشَىْءٍ أَوَّلَ مِنَ الْبَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لاَ تَحِلاَّنِ".

وبالسند قال: (حدّثنا أحمد بن عيسى) التستري المصري الأصل قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو بن الحرث) بفتح العين وسكون الميم (عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل القرشي أنه سأل عروة بن الزبير) بن العوّام حذف المؤلّف المسؤول عنه وقد بينه مسلم فقال: إن رجلاً من العراق قال لي سل عروة عن رجل يهل بالحج فإذا طاف يحل أم لا؟ فإن قال لك لا يحل فقل له إن رجلاً يقول ذلك فسألته فقال: لا يحل من أهل بالحج إلا بالحج. قلت: فإن كان رجلاً كان يقول ذلك. قال: بئسما قال. فتصدى ليس الرجل فسألني فحدثته قال: فقل له أن رجلاً كان يخبر أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد فعل ذلك وما شأن أسماء والزبير فعلاً ذلك، فجئت عروة فذكرت له ذلك فقال: من هذا؟ فقلت: لا أدري. فقال: ما باله لا يأتيني بنفسه يسألني أظنه عراقيًا. قلت: لا أدري. قال: فإنه قد كذب (فقال: قد) ضبب في اليونينية على لفظ قد (حج رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأخبرتني عائشة -رضي الله عنها-) الفاء في فأخبرتني كالتفصيل للمجمل يعني فأخبر عروة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قد حج ثم فصله بأخبار عائشة (أن أول شيء بدأ به حين قدم) مكة (أنه توضأ ثم طاف بالبيت) ليس فيه دلالة على اشتراط الوضوء إلا إذا انضم إليه قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "خذوا عني مناسككم" المروي في مسلم (ثم لم تكن عمرة)، بالرفع على أن كان تامة أي لم توجد بعد الطواف عمرة، ولغير أبي ذر: عمرة بالنصب على أنها ناقصة، (ثم حج أبو بكر) الصديق، (-رضي الله عنه- فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت) بنصب أول خبر كان ورفع الطواف اسمها (ثم لم تكن عمرة) بعد الطواف وعمرة بالرفع والنصب، (ثم) حج (عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- مثل ذلك) برفع أول والطواف كما في فروع اليونينية كهي مبتدأ وخبر في موضع نصب مفعول ثان لرأى القلبية، وفي بعض الأصول أول شيء بدأ به الطواف بنصب أول بدل من الضمير والطواف مفعول ثان لرأيته والأول الضمير كذا أعربه البرماوي والعيني كالكرماني، وفيه نظر لأن رأى البصرية لا تتعدى لمفعولين، لكن يحتمل أن يكون بمعنى تيقنت فتتعدى لهما، (ثم لم تكن عمرة) بالرفع والنصب وقوله: ثم حج عثمان هو من قول عروة وما قبله من قول عائشة فيما قاله الداودي. وقال أبو عبد الملك: منتهى حديث عائشة عند قوله ثم لم تكن عمرة ومن قوله ثم حج أبو بكر الخ من كلام عروة اهـ.
قال الحافظ ابن حجر: فعلى هذا يكون بعض هذا منقطعًا لأن عروة لم يدرك أبا بكر ولا عمر. نعم أدرك عثمان، وعلى قول الداودي يكون الجميع متصلاً وهو الأظهر.
(ثم) حج (معاوية) بن أبي سفيان (وعبد الله بن عمر) بن الخطاب، (ثم حججت مع ابن الزبير بن العوام) كذا للكشميهني: ابن الزبير يعني أخاه عبد الله. قال عياض

(3/185)


وهو تصحيف، وللمستملي والحموي: مع أبي الزبير وهو الصواب، والمعنى قال عروة: ثم حججت مع والذي الزبير فالزبير بدل من أبي، (فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت، ثم لم تكن عمرة) بالرفع، ولأبي ذر: بالنصب، (ثم رأيت المهاجرين والأنصار يفعلون ذلك ثم لم تكن) ولأبي ذر: ثم لا تكون

(عمرة). بالرفع والنصب، (ثم آخر من رأيت فعل ذلك ابن عمر ثم لم ينقضها عمرة) أي لم يفسخها
إلى العمرة. قال أبو عبد الله الأبي: إكثار عروة من الاحتجاجات يشبه أن يكون احتجاجًا بعمل أو
إجماع (وهذا ابن عمر عندهم فلا يسألونه) أي أفلا يسألونه فهمزة الاستفهام مقدرة (ولا أحد ممن
مضى) عطف على فاعل لم ينقضها أي لا ابن عمر ولا أحد من السلف الماضين (ما كانوا يبدؤون
بشيء حين يضعون أقدامهم من الطواف بالبيت).
قال ابن بطال: لا بد من زيادة لفظ أول بعد لفظ أقدامهم، وتعقبه الكرماني فقال: الكلام
صحيح بدون زيادة إذ معناه ما كان أحد منهم يبدأ بشيء آخر حين يضع قدمه في المسجد لأجل
الطواف أي لا يصلون تحية المسجد ولا يشتغلون بغير الطواف، وأما كون من بمعنى لأجل فهو
كثير.
قال الحافظ ابن حجر: وحاصله أنه لم يتعين حذف لفظ أول بل يجوز أن يكون الحذف في
موضع آخر، لكن الأول أولى لأن الثاني يحتاج إلى جعل من بمعنى من أجل وهو قليل، وأيضًا فلفظ
أول قد ثبت في بعض الروايات وثبت أيضًا في مكان آخر من الحديث نفسه اهـ.
وتعقبه العيني بأن جعله "من" بمعنى من أجل قليلاً غير مسلم بل هو كثير في الكلام لأن
أحد معاني من التعليل كما عرف في موضعه، قوله: وأيضًا فقد ثبت لفظ أول في بعض الروايات
مجرد دعوى فلا يقبل إلا ببيان اهـ.
وفي رواية الكشميهني: حتى يضعوا نصب بحذف النون من يضعوا بأن مقدرة بعد حتى التي
للغاية وهي أوضح في المعنى. (ثم لا يحلون) فيه أنه لا يجوز التحلل بطواف القدوم، (وقد رأيت
أمي) أسماء (وخالتي) عائشة ابنتي أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم- (حين تقدمان لا تبتدئان بشيء
أول من البيت تطوفان به ثم لا تحلان) سواء كان إحرامهما بالحج وحده أو بالقران خلافًا لمن قال:
أن من حج مفردًا وطاف حل بذلك كما نقل عن ابن عباس، ولأبي ذر: ثم إنهما لا تحلان فزاد
لفظ إنهما. والأفعال الأربعة بالمثناة الفوقية وفي بعض الأصول بالتحتية.
1642 - وَقَدْ أَخْبَرَتْنِي أُمِّي "أَنَّهَا أَهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا وَالزُّبَيْرُ وَفُلاَنٌ وَفُلاَنٌ بِعُمْرَةٍ، فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا".
(وقد أخبرتني أمي) أسماء (أنها أهلت هي وأختها) عائشة (والزبير) بن العوام (وفلان وفلان)
هما عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان (بعمرة فلما مسحوا الركن) الأسود (حلوا) من العمرة.
قال المازري: والمراد بالمسح الطواف وعبّر عنه ببعض ما يفعل فيه ومنه قول عمر بن أبي ربيعة:
فلما قضينا من منى كل حاجة .. ومسح بالأركان من هو ماسح

لأن الطائف إنما يمسح الحجر الأسود فكني بالمسح، ويحتمل أن يكون متأوّلاً بأن المراد طافوا وسعوا وحلقوا حلوا وحذفت هذه المقدرات اختصارًا للعلم بها.

79 - باب وُجُوبِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَجُعِلَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ
(باب وجوب) السعي بين (الصفا والمروة وجعل) بضم الجيم مبنيًّا للمفعول وجوب السعي بينهما (من شعائر الله) من أعلام مناسكه جمع شعيرة وهي العلامة.
1643 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ "سَأَلْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- فَقُلْتُ لَهَا: أَرَأَيْتِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} فَوَاللَّهِ مَا عَلَى أَحَدٍ جُنَاحٌ أَنْ لاَ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. قَالَتْ: بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي، إِنَّ هَذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أَوَّلْتَهَا عَلَيْهِ كَانَتْ لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ لاَ يَتَطَوَّفَ بِهِمَا، وَلَكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأَنْصَارِ، كَانُوا قَبْلَ أَنْ يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ الْمُشَلَّلِ، فَكَانَ مَنْ أَهَلَّ يَتَحَرَّجُ أَنْ يَطُوفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا أَسْلَمُوا سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ ذَلِكَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّا كُنَّا نَتَحَرَّجُ أَنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآيَةَ. قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: وَقَدْ سَنَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا فَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا. ثُمَّ أَخْبَرْتُ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ: إِنَّ هَذَا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ، وَلَقَدْ سَمِعْتُ رِجَالاً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَذْكُرُونَ أَنَّ النَّاسَ -إِلاَّ مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كَانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ-، كَانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ فِي الْقُرْآنِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كُنَّا نَطُوفُ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ فَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، فَهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أَنْ نَطَّوَّفَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} الآيَةَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَأَسْمَعُ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا: فِي الَّذِينَ كَانُوا يَتَحَرَّجُونَ أَنْ يَطُوفُوا بِالْجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تَحَرَّجُوا أَنْ يَطُوفُوا بِهِمَا فِي الإِسْلاَمِ مِنْ أَجْلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ وَلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا، حَتَّى ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ". [الحديث 1643 - أطرافه في: 1790، 4495، 4861].
وبالسند قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن) ابن شهاب (الزهري قال: عروة) بن الزبير بن العوام: (سألت عائشة -رضي الله عنها- فقلت لها: أرأيت قول الله تعالى) أي أخبرني عن مفهوم قول الله تعالى: ({إن الصفا والمروة}) جبلا السعي اللذان يسعى من أحدهما إلى الآخر، والصفا في الأصل جمع صفاة وهي الصخر أو الحجر الأملس،
والمروة في الأصل حجر أبيض براق ({من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه) فلا إثم عله ({أن يطوّف بهما}) [البقرة: 158] بشديد الطاء أصله يتطوّف فأبدلت التاء طاء لقرب مخرجهما وأدغمت الطاء في الطاء (فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوّف) كذا في اليونينية

(3/186)


(بالصفا والمروة) إذا مفهومها أن السعي ليس بواجب لأنها دلت على رفع الجناح وهو الإثم عن فاعله، وذلك يدل على إباحته، ولو كان واجبًا لما قيل فيه مثل هذا. فردت عليه عائشة -رضي الله عنها- حيث (قالت: بئسما قلت يا ابن أختي)، أسماء (إن هذه) الآية (لو كانت كما أولتها عليه) من الإباحة (كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما)، كذا بزيادة فوقية بعد التحتية وبزيادة لا بعد أن، وبه قرئ في الشاذ كما قالت عائشة فإنها كانت حينئذ تدل على رفع الإثم عن تاركه، وذلك حقيقة المباح فلم يكن في الآية نص على الوجوب ولا عدمه، ثم بينت عائشة أن الاقتصار في الآية على نفي الإثم له سبب خاص فقالت: (ولكنها) أي الآية (أنزلت في الأنصار)، الأوس والخزرج (كانوا قبل أن يسلموا يهلون) يحجون (لمناة الطاغية) بميم مفتوحة فنون مخففة مجرور بالفتحة للعلمية والتأنيث، وسميت مناة لأن النسائك كانت تمنى أي تراق عندها، وهي اسم صنم كان في الجاهلية والطاغية صفة إسلامية لمناة (التي كانوا يعبدونها عند المشلل) بميم مضمومة فشين معجمة مفتوحة فلامين الأولى مشددة مفتوحة ثنية مشرفة على قديد. زاد سفيان الزهري بالمشلل من قديد أخرجه مسلم وكان لغيرهم صنمان بالصفا إساف بكسر الهمزة وتخفيف السين المهملة وبالمروة نائلة بالنون والهمزة والمد، وقيل: إنهما كانا رجلاً وامرأة فزنيا داخل الكعبة فمسخهما الله حجرين فنصبا عند الكعبة، وقيل على الصفا والمروة ليعتبر الناس بهما ويتعظوا ثم حولهما قصي بن كلاب فجعل أحدهما ملاصق الكعبة والآخر لزمزم ونحر عندهما وأمر بعبادتهما، فلما فتح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة كسرهما (فكان من أهل) من الأنصار (يتحرج) أي يحترز من الإثم (أن يطوف بالصفا والمروة) كراهية لذينك الصنمين وحبهم صنمهم الذي بالمشلل، وكان ذلك سنة في آبائهم من أحرم لمناة لم يطف بين الصفا والمروة، (فلما أسلموا) أي الأنصار (سألوا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن ذلك) أي عن الطواف بهما وسقط لأبي ذر لفظ أسلموا (قالوا: يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة)، ولأبي ذر: بالصفا والروة (فأنزل الله تعالى {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] إلى آخرها). فقد تبين أن الحكمة في التعبير بذلك في الآية مطابقة جواب السائلين لأنهم توهموا من كونهم كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية أنه يستمر في الإسلام، فخرج الجواب مطابقًا لسؤالهم. وأما الوجوب فيستفاد من دليل آخر وقد يكون الفعل واجبًا ويعتقد المعتقد أنه منع من إيقاعه على صفة مخصوصة كمن عليه صلاة ظهر مثلاً فظن أنه لا يجوز فعلها عند الغروب فسأل فقيل في جوابه: لا جناح عليك إن صليتها في هذا الوقت. فالجواب صحيح ولا يستلزم ذلك الوجوب ولا يلزم من نفي الإثم عن الفاعل نفي الإثم عن التارك. فلو كان المراد مطلق الإباحة لنفي الإثم عن التارك.
(قالت عائشة -رضي الله عنها- وقد سن) أي فرض (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الطواف بينهما) أي بين

الصفا والمروة بالسنة وليس المراد نفي فرضيتهما. ويؤيده ما في مسلم من حديثها: ولعمري ما أتم الله حج من لم يطف بين الصفا والمروة. واستدلّ البيهقي وابن عبد البر والنووي وغيرهم على ذلك أيضًا بكونه عليه الصلاة والسلام كان يسعى بينهما في حجه وعمرته وقال: "خذوا عني مناسككم" (فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما) وهو ركن عند الشافعية والمالكية والحنابلة. وقال الحنفية: واجب يصح الحج بدونه ويجبر بدم.
وقال الزهري: (ثم أخبرت أبا بكر بن عبد الرحمن) بن الحرث بن هشام بذلك (فقال: إن هذا لعلم) بفتح اللام وهي المؤكدة وبالتنوين على أنه الخبر، وللحموي والمستملي: إن هذا العلم بالنصب صفة لهذا أي أن هذا هو العلم (ما كنت سمعته) خبر لأن. وكنت بلفظ المتكلم وما نافية، وعلى الرواية الأولى وهي للكشميهني لعلم خبر أن وكلمة ما موصولة ولفظ كنت للمتكلم في جميع ما وقفت عليه من الأصول. وقال العيني كالكرماني ولفظ: كنت

(3/187)


للمخاطب على النسخة الأولى وهي لعلم.
قال أبو بكر: (ولقد سمعت رجالاً من أهل العلم يذكرون أن الناس إلا من ذكرت عائشة) -رضي الله عنها- والاستثناء معترض بين اسم أن وخبرها وهو قوله: (ممن كان يهل بمناة) بالباء الموحدة (كانوا يطوفون كلهم بالصفا والمروة)، فلم يخصوا بطائفة بخلاف عائشة فإنها خصت الأنصار بذلك كما رواه الزهري عن عروة عنها. (فلما ذكر الله تعالى الطواف بالبيت ولم يذكر الصفا والمروة في القرآن قالوا: يا رسول الله، كنا نطوف بالصفا والمروة)، أي في الجاهلية (وأن الله) بالواو، ولأبي الوقت: فإن الله عز وجل (أنزل الطواف بالبيت فلم يذكر الصفا)، أي والمروة (فهل علينا من حرج) إثم (أن نطوف) بتشديد الطاء (بالصفا والمروة)؟ إنما سألوا عن ذلك بناء على ما ظنوه من أن التطوف بهما من فعل الجاهلية (فأنزل الله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} [البقرة: 158] قال أبو بكر: فأسمع) بفتح الهمزة والميم وضم العين على صيغة المتكلم من المضارع، وضبطها الدمياطي الحافظ فاسمع بوصل الهمزة وسكون العين على صيغة الأمر. قال في الفتح: والأول أصوب (هذه الآية) إن الصفا والمروة (نزلت في الفريقين) الأنصار وقوم من العرب كما في مسلم (كليهما): قال العيني والبرماوي كالكرماني كلاهما وهو على لغة من يلزمها الألف دائمًا (في الذين كانوا يتحرجون أن يطوفوا) وفي نسخة: أن يتطوفوا بالتاء (في الجاهلية بالصفا والمروة)، لكونه عندهم من أفعال الجاهلية، (والذين يطوفون ثم تحرجوا بهما في الإسلام من أجل أن الله تعالى أمر بالطواف بالبيت ولم يذكر الصفا)، أي ولا المروة (حتى ذكر ذلك) أي الطواف بالصفا والمروة في قوله تعالى: ({إن الصفا والمروة}) (بعد ما ذكر الطواف بالبيت) في قوله تعالى {وليطوفوا بالبيت العتيق} [الحج: 29] والمراد تأخر نزول آية البقرة في الصفا والمروة عن آية الحج وليطوفوا بالبيت العتيق قال في الفتح
ووقع في رواية المستملي وغيره حتى ذكر بعد ذلك ما ذكر الطواف بالبيت. قال الحافظ ابن حجر: وفي توجيهه عسر. قال العيني: لا عسر فيه فقد وجهه الكرماني فقال: لفظة ما ذكر بدل من ذلك

وأن ما مصدرية والكاف مقدرة كما في: زيد أسد أي ذكر السعي بعد ذكر الطواف كذكر الطواف واضحًا جليًا ومشروعًا مأمورًا به.

80 - باب مَا جَاءَ فِي السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: السَّعْيُ مِنْ دَارِ بَنِي عَبَّادٍ إِلَى زُقَاقِ بَنِي أَبِي حُسَيْنِ
(باب ما جاء في) كيفية (السعي بين الصفا والمروة. وقال ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-): مما وصله ابن أبي شيبة والفاكهي: (السعي من دار بني عباد) بفتح العين وتشديد الموحدة ابن جعفر وتعرف اليوم بسلمة بنت عقيل (إلى زقاق بني أبي حسن) تصغير حسن، ولأبي ذر عن الكشميهني والمستملي: ابن أبي حسين، قال سفيان فيما رواه الفاكهي: هو ما بين هذين العلمين. وقال البرماوي كالكرماني: دار بني عباد من طرف الصفا وزقاق بني أبي حسين من طرف المروة.
1644 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِذَا طَافَ الطَّوَافَ الأَوَّلَ خَبَّ ثَلاَثًا وَمَشَى أَرْبَعًا. وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ الْمَسِيلِ إِذَا طَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. فَقُلْتُ لِنَافِعٍ: أَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يَمْشِي إِذَا بَلَغَ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ أَنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ، فَإِنَّهُ كَانَ لاَ يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ".
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن عبيد بن ميمون) كذا في جميع ما وقفت عليه من الأصول. وقال الحافظ ابن حجر: إنه الصواب وبه جزم أبو نعيم قال: زاد أبو ذر في روايته هو ابن حاتم، ولعل حاتمًا اسم جدّ له إن كانت رواية أبي ذر فيه مضبوطة اهـ.
قال: (حدّثنا عيسى بن يونس) السبيعي الكوفي (عن عبيد الله بن عمر) بتصغير عبد العمري (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال):
(كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إذا طاف الطواف الأول) طواف القدوم وكذا الركن (خب ثلاثًا) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الموحدة أي رمل وهو المشي مع تقارب الخطا (ومشى أربعًا) من غير رمل. (وكان) عليه الصلاة والسلام (يسعى) جهده بأن يسرع فوق الرمل (بطن المسيل). نصب على الظرفية أي المكان الذي يجتمع فيه السيل ولم يبق اليوم بطن المسيل لأن السيول كبسته فيسعى حين يدنو من الميل الأخضر المعلق بجدار المسجد قدر ستة أذرع حتى يقابل الميلين الأخضرين اللذين أحدهما بجدار

المسجد والآخر بدار العباس، ثم يمشي على هيئته (إذا طاف بين الصفا والمروة)

(3/188)


يفعل ذلك ذاهبًا وراجعًا.
قال عبيد الله بن عمر العمري، (فقلت لنافع: أكان عبد الله) بن عمر (يمشي) من غير رمل (إذا بلغ الركن اليماني)؟ بتخفيف الياء على المشهور (قال: لا إلا أن يزاحم) بضم التحتية وفتح الحاء (على الركن)، فإنه يمشي ولا يرمل ليكون أسهل لاستلامه عند الازدحام (فإنه كان لا يدعه) أي لا يترك الركن (حتى يستلمه).
وموضع الترجمة قوله: وكان يسعى بطن المسيل، والحديث سبق في باب: من طاف بالبيت إذا قدم مكة.
1645 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ "سَأَلْنَا ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنه- عَنْ رَجُلٍ طَافَ بِالْبَيْتِ فِي عُمْرَةٍ وَلَمْ يَطُفْ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَيَأْتِي امْرَأَتَهُ؟ فَقَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا وَصَلَّى خَلْفَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ فَطَافَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعًا {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو بن دينار قال: سألنا ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-) وفي نسخة اليونينية: عنه (عن رجل طاف بالبيت في عمرة ولم يطف بين الصفا والمروة أيأتي امرأته)؟ بهمزة الاستفهام (فقال): ولأبي ذر: قال:
(قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مكة (فطاف بالبيت سبعًا وصلّى خلف المقام ركعتين فطاف) بالفاء، ولأبي ذر: وطاف (بين الصفا والمروة سبعًا). أي فلم يتحلل عليه الصلاة والسلام من عمرته حتى سعى بينهما ومتابعته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واجبة فلا يحل لهذا الرجل أن يواقع امرأته حتى يسعى بينهما ({لقد}) ولأبي الوقت: وقد ({كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}) [الأحزاب: 21].
1646 - "وَسَأَلْنَا جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- فَقَالَ: لاَ يَقْرَبَنَّهَا حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ".
(وسألنا جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما-) عن ذلك (فقال: لا يقربنها) بنون التوكيد الثقيلة (حتى يطوف بين الصفا والمروة) لأنه ركن لا يتحلل بدونه ولا يجبر بدم خلافًا للحنفية لأن عندهم أن ما ثبت آحادًا يثبت الوجوب لا الركنية لأنها إنما تثبت بدليل قطعي.
1647 - حَدَّثَنَا الْمَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. ثُمَّ تَلاَ [الأحزاب: 21]: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ".

وبه قال: (حدّثنا المكي بن إبراهيم) بن بشير بن فرقد البلخي (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو بن دينار قال: سمعت ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه-: قال).
(قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة فطات بالبيت) أي سبعًا (ثم صلّى ركعتين) سنة الطواف (ثم سعى بين الصفا والمروة). أي سبعًا يبدأ بالصفا ويختم بالمروة يحسب الذهاب من الصفا مرة والعود من المروة مرة ثانية. قال النووي في الإيضاح: وهذا هو المذهب الصحيح الذي قطع به جماهير العلماء من أصحابنا وغيرهم، وعليه عمل الناس في الأزمنة المتقدمة والمتأخرة. وذهب جماعة من أصحابنا إلى أنه يحسب الذهاب والعود مرة واحدة قاله من أصحابنا أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي، وأبو حفص بن الوكيل، وأبو بكر الصيدلاني، وهذا قول فاسد لا اعتداد به ولا نظر إليه اهـ.
ووجهه إلحاقه بالطواف حيث كان من المبدأ أعني الحجر إلى المبدأ. وتعقب بأنه لو كان كذلك لكان الواجب أربعة عشر شوطًا، وقد اتفق رواة نسكه عليه الصلاة والسلام أنه إنما طاف سبعًا.
وأجيب: بأن هذا موقوف على أن مسمى الشوط إما من الصفا إلى المروة أو من المروة إلى الصفا في الشرع وهو ممنوع إذ نقول: هذا اعتباركم لا اعتبار الشرع لعدم النقل في ذلك، وأقل الأمور إذا لم يثبت عن الشارع تنصيص في مسماه أن يثبت احتمال أنه كما قلتم أو كما قلت فيجب الاحتياط فيه، ويقويه أن لفظ الشوط أطلق على ما حوالي البيت وعرف قطعًا أن المراد به ما بين المبدأ إلى المبدأ، فكذا إذا أطلق في السعي ولا تنصيص على المراد فيجب أن يحمل على المعهود منه في غيره، فالوجه إثبات أن مسمى الشوط في اللغة يطلق على كل من الذهاب من الصفا إلى المروة والرجوع منها إلى الصفا ليس في الشرع ما يخالفه، فيبقى على المفهوم اللغوي، وذلك أنه في الأصل مسافة تعدوها الفرس كالميدان ونحوه مرة واحدة فسبعة أشواط حينئذ قطع مسافة مقدرة بسبع مرات، فإذا قال: طاف بين كذا وكذا سبعًا صدق بالتردد من كل من الغايتين إلى الأخرى سبعًا بخلاف بكذا، فإن حقيقته متوقفة على أن يشمل بالطواف ذلك الشيء فإذا قال: طاف به سبعًا كان بتكرير تعميمه بالطواف سبعًا، فمن هنا افترق الحال بين الطواف بالبيت حيث لزم في شوطه كونه من المبدأ إلى المبدأ، والطواف بين الصفا والمروة حيث لم يلزم ذلك قاله في فتح القدير.
(ثم تلا) أي ابن عمر: ({لقد كان

(3/189)


لكم في رسول الله أسوة حسنة}) [الأحزاب: 21].
1648 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا عَاصِمٌ قَالَ "قُلْتُ لأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-. أَكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ قَالَ: نَعَمْ، لأَنَّهَا كَانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الْجَاهِلِيَّةِ، حَتَّى أَنْزَلَ اللَّهُ [البقرة: 158]: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. [الحديث 1648 - طرفه في: 4496].

وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) المعروف بابن شبويه المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا عاصم) هو ابن سليمان الأحول البصري (قال قلت لأنس بن مالك -رضي الله عنه-: أكنتم تكرهون السعي بين الصفا والمروة؟ قال:) ولأبي الوقت: فقال: (نعم) بزيادة فاء العطف أي نعم كنا نكره وعلل الكراهة بقوله: (لأنها كانت من شعائر الجاهلية) أي من العلامات التي كانوا يتعبدون بها، وأنث الضمير باعتبار السعي وهو سبع مرات (حتى أنزل الله {إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوّف بهما} [البقرة: 158] أي: فزالت الكراهة.
وفي هذا الحديث التحديث والإخبار والعنعنة والقول، وأخرجه أيضًا في التفسير، ومسلم في المناسك، والترمذي في التفسير، والنسائي في الحج.
1649 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "إِنَّمَا سَعَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِيُرِيَ الْمُشْرِكِينَ قُوَّتَهُ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو) بفتح العين ولأبي ذر زيادة: ابن دينار (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال).
(إنما سعى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالبيت وبين الصفا والمروة ليري المشركين قوته) بضم الياء وكسر الراء من ليري، ومفهومه قصر السبب فيما ذكره على ما ذكر في إنما من إفادة الحصر بها منطوقًا أو مفهومًا على الخلاف في العربية والأصول، لكن روى أحمد من حديث ابن عباس: سعى أبينا إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيجوز أن يكون هو المقتضي لمشروعية الإسراع.
(زاد الحميدي): بضم الحاء أبو بكر عبد الله بن الزبير المكي شيخ المؤلّف فقال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو) هو ابن دينار (قال: سمعت عطاء) هو ابن أبي رباح (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (مثله) أي مثل الحديث السابق، وفائدة ذلك أن الحميدي صرح بالتحديث في روايته عن عمرو وهو صرح بالسماع عن عطاء.

81 - باب تَقْضِي الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلاَّ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ وَإِذَا سَعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ
هذا (باب) بالتنوين (تقضي الحائض المناسك كلها إلا الطواف بالبيت) للمنع الوارد فيه (و) فيما (إذا سعى على غير وضوء بين الصفا والمروة).

1650 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّهَا قَالَتْ "قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنَا حَائِضٌ، وَلَمْ أَطُفْ بِالْبَيْتِ وَلاَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ قَالَتْ: فَشَكَوْتُ ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: افْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) إمام دار الهجرة (عن عبد الرحمن بن القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق (عن أبيه عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: قدمت مكة وأنا حائض ولم أطف بالبيت ولا بين الصفا والمروة) لتوقفه على سبق الطواف وإن كان يصح بغير طهارة. وقولها: ولا بين الصفا والمروة عطف على النفي قلبه على تقدير ولم أسع وهو من باب:
علفتها تبنًا وماء باردًا.
ويجوز أن يقدر ولم أطف بين الصفا والمروة على طريق المجاز، وإنما ذهبوا إلى هذا التقدير دون الانسحاب لئلا يلزم استعمال اللفظ الواحد حقيقة ومجازًا في حالة واحدة. (قالت:) عائشة (فشكوت ذلك إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(افعلي كما يفعل الحاج) من الوقوف بعرفة وغيره (غير لم لا تطوفي بالبيت) لا زائدة (حتى تطهري) بسكون الطاء وضم الهاء كذا فيما وقفت عليه من الأصول، وضبطه العيني كالحافظ ابن حجر بتشديد الطاء والهاء على أن أصله أي حتى ينقطع دمك وتغتسلي، ويؤيده رواية مسلم حتى تغتسلي وهو ظاهر في نهي الحائض حتى ينقطع دمها وتغتسل.
1651 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ. ح وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا حَبِيبٌ الْمُعَلِّمُ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ "أَهَلَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هُوَ وَأَصْحَابُهُ بِالْحَجِّ، وَلَيْسَ مَعَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيْرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَطَلْحَةَ. وَقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ الْيَمَنِ -وَمَعَهُ هَدْيٌ- فَقَالَ: أَهْلَلْتُ بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَأَمَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصْحَابَهُ أَنْ يَجْعَلُوهَا عُمْرَةً وَيَطُوفُوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا وَيَحِلُّوا، إِلاَّ مَنْ كَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ. فَقَالُوا نَنْطَلِقُ إِلَى مِنًى وَذَكَرُ أَحَدِنَا يَقْطُرُ! فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أَهْدَيْتُ، وَلَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ. وَحَاضَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها- فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا، غَيْرَ أَنَّهَا لَمْ تَطُفْ بِالْبَيْتِ، فَلَمَّا طَهُرَتْ طَافَتْ بِالْبَيْتِ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ وَأَنْطَلِقُ بِحَجٍّ! فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي بَكْرٍ أَنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمِ، فَاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الْحَجِّ".

وبه قال (حدّثنا محمد بن المثنى) المعروف بالزمن قال: (حدّثنا عبد الوهاب) بن عبد الحميد الثقفي قال المؤلّف: (ح).
(وقال لي خليفة) بن خياط أي على سبيل المذاكرة إذ لو كان على سبيل التحمل لقال: حدّثنا ونحوه والمسوق هنا لفظ حديثه. وأما لفظ حديث محمد بن المثنى فسيأتي إن شاء الله تعالى في باب عمرة التنعيم.
(حدّثنا عبد الوهاب) الثقفي قال: (حدّثنا حبيب المعلم) بكسر اللام المشددة من التعليم (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- قال: أهل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي أحرم (هو وأصحابه بالحج) فيه دليل على أنه عليه الصلاة والسلام كان مفردًا وإطلاق لفظ الأصحاب

(3/190)


محمول على الغالب لما يأتي إن شاء الله تعالى، (وليس مع أحد منهم هدي غير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطلحة) بنصب غير على الاستثناء ولأبي ذر غير بجرها صفة لأحد قال أبو حيان ولا يجوز الرفع (وقدم علي) هو ابن أبي طالب (من اليمن ومعه هدي) وفي رواية: وقدم علي من سعايته بكسر السين أي من عمله في السعي في الصدقات، لكن قال بعضهم: إنما بعثه أميرًا إذ لا يجوز استعمال بني هاشم على الصدقة.
وأجيب: بأن سعايته لا تتعين للصدقة فإن مطلق الولاية يسمى سعاية. سلمنا لكن يجوز أن يكون ولاه الصدقات محتسبًا أو بعمالة من غير الصدقة. وقوله: ومعه هدي جملة اسمية حالية. وفي رواية أنس السابقة في باب: من أهل في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال بما أهللت؟ (فقال: أهللت بما أهل به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولم يذكر في هذا الحديث جواب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين قال له ذلك كقوله بما أهللت. وفي رواية أنس المذكورة فقال أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لولا أن معي الهدي لأحللت-. وزاد محمد بن بكر عن ابن جريج قال: فأهل وامكث حرامًا كما أنت وهذا غير ما أجاب به أبا موسى فإنه قال له كما في الصحيحين بما أهللت. قال: بإهلال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال: هل سقت الهدي؟ قال: لا. قال: فطف بالبيت وبالصفا والمروة ثم أحل الحديث. وإنما أجابه بذلك لأنه ليس معه هدي فهو من المأمورين بفسخ الحج بخلاف عليّ فإن معه هديًا وفيه صحة الإحرام المعلق على ما أحرم به فلان وينعقد ويصير محرمًا بما أحرم به فلان، وأخذ بذلك الشافعي فأجاز الإهلال بالنية المبهمة ثم له أن ينقلها إلى ما شاء من حج أو عمرة.
(فأمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أصحابه) ممن ليس معه هدي (أن يجعلوها) أي الحجة التي أهلوا بها (عمرة) وهو معنى فسخ الحج إلى العمرة (ويطوفوا) هو من عطف المفصل على المجمل مثل توضأ وغسل وجهه، والمراد بالطواف هنا ما هو أعم من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة قال تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] أو اقتصر على الطواف بالبيت لاستلزامه السعي بعده، والتقدير فيطوفوا ويسعوا فحذف اكتفاء على أنه قد جاء في رواية التصريح بهما، (ثم يقصروا
ويحلوا) بفتح أوّله وكسر الحاء أي يصيروا حلالاً (إلا من كان معه الهدي) استثناء من قوله فأمر أصحابه (فقالوا): أي المأمورون بالفسخ ولغير أبي ذر: قالوا (ننطلق) أي أننطلق فحذف همزة الاستفهام التعجبي (إلى منى وذكر أحدنا يقطر منيًّا) هو من باب المبالغة أي أنه يفضي بنا إلى مجامعة النساء، ثم نحرم بالحج عقب ذلك فنخرج وذكر أحدنا لقربه من الجماع يقطر منيًّا وحالة الحج تنافي الترفه وتناسب الشعث فكيف يكون ذلك، (فبلغ ذلك) أي قولهم هذا وليس في اليونينية لفظ ذلك (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بنصب النبي على المفعولية وفي رواية فما ندري أشيء بلغه من السماء أم شيء من قبل الناس. (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(لو استقبلت من أمري ما استدبرت) يجوز أن تكون "ما" موصولة أي الذي أو نكرة موصوفة أي شيئًا وأيًّا كان فالعائد محذوف أي استدبرته أي لو كنت الآن مستقبلاً زمن الأمر الذي استدبرته، (ما أهديت) ما سقت الهدي "ولولا أن معي الهدي لأحللت" أي بالفسخ لأن وجوده مانع من فسخ الحج إلى العمرة والتحلل منها والأمر الذي استدبره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو ما حصل لأصحابه من مشقة انفرداهم عنه بالفسخ حتى أنهم توقفوا وترددوا وراجعوه، أو المعنى: لو أن الذي رأيت في الآخر وأمرتكم به من الفسخ عنّ لي فى أوّل ما سقت الهدي لأن سوقه يمنع منه لأنه لا ينحر إلا بعد بلوغه محله يوم النحر.
وقال في المعالم: إنما أراد عليه الصلاة والسلام تطييب قلوب أصحابه لأنه كان يشق عليهم أن يحلوا وهو محرم ولم يعجبهم أن يرغبوا بأنفسهم ويتركوا الاقتداء به قال ذلك لئلا يجدوا في أنفسهم وليعلموا أن الأفضل في حقهم ما دعاهم إليه، ولا يقال: إن الحديث يدل على أن التمتع أفضل لأنه عليه الصلاة والسلام لا يتمنى

(3/191)


إلا الأفضل لأنا نقول: التمني هنا ليس لكونه أفضل مطلقًا بل لأمر خارج فلا يلزم من ترجيحه من وجه ترجيحه مطلقًا كما ذكره ابن دقيق العيد.
فإن قلت: قد ورد عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما يقتضي كراهة قول "لو" حيث قال عليه الصلاة والسلام: لو تفتح عمل الشيطان.
أجيب: بأن المكروه استعمالها في التلهف على أمور الدنيا إما طلبًا كقوله: لو فعلت كذا حصل لي كذا وإما هربًا كقوله لو كان كذا وكذا لما بي كذا وكذا لما في ذلك من صورة عدم التوكل ونسبة الأفعال إلى غير القضاء والقدر، أما تمني القربات كما في هذا الحديث فلا كراهة لانتفاء المعنى المذكور.
(وحاضت عائشة -رضي الله عنها- فنسكت المناسك كلها) أتت بأفعال الحج كلها (غير أنها لم تطف بالبيت) أي ولم تسع بين الصفا والمروة وحذفه لأن السعي لا بد من تقديم طواف عليه فيلزم من نفيه نفيه فاكتفي بنفي الطواف، (فلما طهرت) بفتح الهاء وضمها (طافت بالبيت) أي وسعت بين الصفا والمروة (قالت: يا رسول الله تنطلقون) أي أتنطلقون فحذفت همزة الاستفهام (بحجة وعمرة)

أي العمرة التي فسخوا الحج إليها والحجة التي أنشؤوها من مكة (وانطلق بحج!) مفرد بلا عمرة مفردة كما وقع لهم، (فأمر) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عبد الرحمن بن أبي بكر) الصديق -رضي الله عنهما- (أن يخرج معها إلى التنعيم) لتعتمر منه (فاعتمرت بعد الحج).
وهذا الحديث أخرجه أبو داود، وفيه التحديث والعنعنة والقول، وذكر الإسناد من طريقين ورواته كلهم بصريون إلا عطاء فمكي.
1652 - حَدَّثَنَا مُؤَمَّلُ بْنُ هِشَامٍ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ حَفْصَةَ قَالَتْ "كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ، فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ، فَحَدَّثَتْ أَنْ أُخْتَهَا كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ غَزَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثِنْتَىْ عَشْرَةَ غَزْوَةً، وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتِّ غَزَوَاتٍ. قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى، وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى. فَسَأَلَتْ أُخْتِي رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: هَلْ عَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لاَ تَخْرُجَ؟ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَدِ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ. فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ -رضي الله عنها- سَأَلْنَهَا! أَوْ قَالَتْ: سَأَلْنَاهَا -فَقَالَتْ: وَكَانَتْ لاَ تَذْكُرُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلاَّ قَالَتْ: بِأَبِي- فَقُلْنَا: أَسَمِعْتِ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ كَذَا وَكَذَا؟ قَالَتْ: نَعَمْ بِأَبِي فَقَالَ: لِتَخْرُجِ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ -أَوِ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ- وَالْحُيَّضُ فَيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى. فَقُلْتُ: آلْحَائِضُ؟ فَقَالَتْ: أَوَ لَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ وَتَشْهَدُ كَذَا وَتَشْهَدُ كَذَا؟ ".
وبه قال: (حدّثنا مؤمل بن هشام) بميم مضمومة فهمزة فميم مشددة مفتوحتين آخر لام اليشكري البصري قال: (حدّثنا إسماعيل) ابن علية (عن أيوب) السختياني (عن حفصة) بنت سيرين (قالت: كنا نمنع عواتقنا) نصب مفعول نمنع والعواتق جمع عاتق وهي التي لم تفارق بيت أهلها إلى زوجها لأنها عتقت عن آبائها في الخدمة والخروج إلى الحوائج، وقيل غير ذلك مما مرّ في باب شهود الحائض العيدين عند ذكر الحديث (أن يخرجن) أي من خروجهن في العيدين (فقدمت امرأة) لم تسم (فنزلت قصر بني خلف) جد طلحة الطلحات وكان بالبصرة (فحدثت أن أختها) هي أم عطية فيما قيل أو غيرها (كانت تحت رجل) لم يسم (من أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قد غزا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اثنتي عشرة غزوة) قالت المرأة المحدّثة: (وكانت أختي معه) أي مع زوجها أو مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في ست غزوات قالت) أي الأخت: (كنا نداوي الكلمى) بفتح الكاف وسكون اللام وفتح الميم الجرحى (ونقوم على المرضى فسألت أختي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت: هل على إحدانا بأس) أي إثم (إن لم يكن لها جلباب أن لا تخرج)؟ إلى مصلّى العيد (فقال): عليه الصلاة والسلام:
(لتلبسها صاحبتها) بكسر اللام وضم الفوقية وسكون اللام وكسر الموحدة وجزم السين والفاعل صاحبتها (من جلبابها) بكسر الجيم خمار واسع كالملحفة تغطي به المرأة رأسها وصدرها أي:

لتعرها جلبابًا لا تحتاج إليه، (ولتشهد الخير) أي مجالسه (ودعوة المؤمنين).
وفي باب: شهود الحائض العيدين ودعوة المسلمين (فلما قدمت أم عطية) نسيبة (-رضي الله عنها-) البصرة (سألنها-) بنون بعد اللام الساكنة ثم هاء من غير ألف أي حفصة والنسوة معها (أو قالت-) حفصة (سألناها) بألف بعد النون، ولأبي الوقت: سألتها، ولأبي ذر: فقال بالتذكير أي قال أيوب عن حفصة سألناها (فقالت) ولأبي الوقت: قالت (وكانت لا تذكر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا) ولأبوي ذر والوقت: أبدًا إلا (قالت بأبي) بهمزة بين موحدتين مكسورتين أي أفديه، وللكشميهني: بأبا بقلب التحتية ألفا فتفتح الموحدة الأخيرة وللمستملي: بيبا بإبدال الهمزة ياء وقلب الياء المضافة إليها ألفًا (فقلنا): ولأبي ذر: قلنا (أسمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول كذا وكذا) كناية عن الشيء، والكاف حرف تشبيه، وذا للإشارة أي ما ذكر

(3/192)


(قالت: نعم) سمعته (بأبي) ولأبي ذر: بيبا بإبدال الهمزة ياء وقلب الياء المضافة إليها ألفًا (فقال):
(لتخرج العوائق ذوات) ولأبي ذر: وذوات (الخدور) بالخاء المعجمة والدال المهملة أي البيوت صفة للعواتق (أي العواتق وذوات الخدور) وسقط لأبي ذر: أو العواتق وذوات الخدور (والحيض) بتشديد الياء جمع حائض عطف على العواتق (فيشهدن) ولأبي ذر وليشهدن (الخير ودعوة المسلمين ويعتزل الحيض المصلّى) وجوبًا (فقلت: آلحائض؟) بمد الهمزة استفهام تعجبي من إخبارها بشهود الحائض وليس في اليونينية مد على الهمزة (فقالت): أم عطية (أو ليس تشهد) الحائض (عرفة) أي يومها (وتشهد كذا) نحو المزدلفة ومنى ورمي الجمار (وتشهد كذا؟) كصلاة الاستسقاء.
وموضع الترجمة منه قولها: أوليس تشهد عرفة وتشهد كذا وتشهد كذا؟ وهذا موافق لقول جابر؛ فنسكت المناسك كلها غير أنها لم تطف بالبيت، وكذا قولها يعتزل الحيض المصلّى فإنه يناسب قوله وإن الحائض لا تطوف بالبيت لأنها إذا أمرت باعتزال المصلّى كان اعتزالها للمسجد بل للمسجد الحرام للكعبة من باب أولى قاله في الفتح.

82 - باب الإِهْلاَلِ مِنَ الْبَطْحَاءِ وَغَيْرِهَا لِلْمَكِّيِّ وَلِلْحَاجِّ إِذَا خَرَجَ إِلَى مِنًى
وَسُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ الْمُجَاوِرِ يُلَبِّي بِالْحَجِّ، قَالَ: وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يُلَبِّي يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إِذَا صَلَّى الظُّهْرَ وَاسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ. وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه-: قَدِمْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمِ التَّرْوِيَةِ وَجَعَلْنَا مَكَّةَ بِظَهْرٍ لَبَّيْنَا بِالْحَجِّ. وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ: أَهْلَلْنَا مِنَ الْبَطْحَاءِ. وَقَالَ عُبَيْدُ بْنُ جُرَيْجٍ لاِبْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: رَأَيْتُكَ إِذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أَهَلَّ النَّاسُ إِذَا رَأَوُا الْهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أَنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ، فَقَالَ: لَمْ أَرَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ.
(باب الإهلال) أي الإحرام بالحج (من البطحاء) وادي مكة (وغيرها) أي من غير بطحاء مكة من سائر أجزائها (للمكي) المقيم بها (وللحاج) الآفاقي الذي دخل مكة متمتعًا (إذا خرج إلى منى) والحاصل أن مهل المكيّ والمتمتع نفس مكة وهو الصحيح من مذهب الشافعية، وله أن يحرم من جميع بقاع مكة لا سائر الحرم لقوله عليه الصلاة والسلام: حتى أهل مكة من مكة، وقيس بأهلها غيرهم ممن هو بها فإن فارق بنيانها وأحرم خارجها ولم يعد إليها قبل الوقوت أساء ولزمه دم لمجاوزته سائر المواقيت، فإن عاد إليها قبل الوقوف سقط الدم، والأفضل أن يحرم من باب داره، وسواء أراد المقيم بمكة الإحرام بالحج مفردًا أم أراد القران بين الحج والعمرة فميقاته ما ذكر. وقال الحنفية من دويرة أهله أو حيث شاء من الحرم إلا أن إحرامه من المسجد أفضل لفضيلة المسجد. وقال المالكية: ومكان الإحرام للحج للمقيم بمكة مكة وسواء كان من أهلها أو مقيمًا بها وقت الإحرام، والمستحب له أن يحرم من المسجد لفعل السلف وهو مذهب المدوّنة. قال أشهب: يريد من داخله لا من بابه وقاله في الموازية عن مالك. وقال ابن حبيب: إنما يحرم من بابه ولمن اتسع له الوقت من أهل الآفاق إذا كان بمكة وأراد الإحرام بالحج أن يخرج إلى ميقاته فيحرم منه. وقال المرداوي من الحنابلة: والأفضل من المسجد نصًّا وفي المنهج والإيضاح من تحت الميزاب وإن أحرم من خارج الحرم جاز وصح ولا دم عليه نصًّا.
(وسئل عطاء) هو ابن أبي رباح فيما وصله سعيد بن منصور (عن المجاور) بمكة حال كونه (يلبي بالحج) ولأبي ذر: أيلبي بهمزة الاستفهام (قال): ولأبوي ذر والوقت: فقال: (وكان) ولابن عساكر: فكان بالفاء بدل الواو، ولأبي ذر: كان (ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- يلبي يوم التروية) الثامن من ذي الحجة وسمي به لأنهم كانوا يروون إبلهم ويتروّون من الماء فيه استعدادًا للموقف يوم عرفة لأن تلك الأماكن لم يكن فيها إذ ذاك آبار ولا عيون، وقيل: لأن رؤيا إبراهيم عليه الصلاة والسلام كانت في ليلته فتروّى في أن ما رآه من الله أولاً من الرأي وهو مهموز، وقيل لأن الإمام يروي للناس فيه مناسكهم من الرواية وقيل غير ذلك (إذا صلّى الظهر واستوى على راحلته).
(وقال عبد الملك): هو ابن أبي سليمان مما وصله مسلم وقال الكرماني: هو ابن عبد العزيز بن جريج قال الحافظ ابن حجر: الظاهر أنه الأوّل (عن عطاء عن جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري (-رضي الله عنه- قدمنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مكة محرمين بالحج فأمرنا أن نحل ونجعلها عمرة (فأحللنا حتى) أي إلى (يوم التروية وجعلنا مكة بظهر) بفتح الظاء المعجمة أي جعلناها وراء ظهورنا حال كوننا (لبينا بالحج) وجه دلالته على الترجمة أن الاستواء على الراحلة كناية عن السفر فابتداء الاستواء هو ابتداء الخروج إلى منى، وفيه أن وقت الإهلال

(3/193)


بالحج يوم التروية وهو الأفضل عند الجمهور، وروى مالك وغيره بإسناد منقطع وابن المنذر بإسناد متصل عن عمر أنه قال لأهل مكة: ما لكم يقدم الناس عليكم شعثًا وأنتم تنضحون طيبًا مدّهنين؟ إذا رأيتم الهلال فأهلوا بالحج.

(وقال أبو الزبير) محمد بن مسلم بن تدرس بفتح الفوقية وسكون الدال المهملة وضم الراء آخره سين مهملة المكي مما وصله أحمد ومسلم من طريق ابن جريج عنه (عن جابر أهللنا) بالحج (من البطحاء) ولفظ مسلم: فأهللنا من الأبطح، وفي رواية له: ثم أهللنا يوم التروية.
(وقال عبيد بن جريج) مما وصله المؤلّف في باب: غسل الرجلين في النعلين وفي اللباس (لابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- رأيتك إذا كنت بمكة أهل الناس) بالحج (إذا رأوا الهلال) قيل: إن ذلك منهم محمول على الاستحباب، وبه قال مالك وأبو ثور: وقال ابن المنذر: الأفضل أن يهل يوم التروية إلا المتمتع الذي لا يجد الهدي ويريد الصوم فيعجل الإهلال ليصوم ثلاثة أيام بعد أن يحرم. (ولم تهل أنت حتى يوم التروية)، بالحركات الثلاثة والجر رواية أبي ذر (فقال:) ابن عمر: (لم أر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يهل حتى تنبعث به راحلته).
فإن قلت: إهلاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين انبعثت به راحلته إنما كان بذي الحليفة، وإهلال ابن عمر بمكة يوم التروية فكيف احتج به لما ذهب إليه ولم يكن إهلاله عليه الصلاة والسلام بمكة ولا يوم التروية؟.
أجاب ابن بطال: أن ذلك من جهة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهلّ من ميقاته في حين ابتدائه في عمل حجته واتصل له عمله ولم يكن بينهما مكث ينقطع به العمل، فكذلك المكيّ لا يهلّ إلا يوم التروية الذي هو أوّل عمله ليتصل عمله تأسيًّا به عليه الصلاة والسلام بخلاف ما لو أهل من أول الشهر.

83 - باب أَيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟
هذا (باب) بالتنوين (أين يصلّي الظهر يوم التروية؟) وهو ثامن الحجة.
1653 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الأَزْرَقُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ "سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قُلْتُ: أَخْبِرْنِي بِشَىْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى. قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأَبْطَحِ. ثُمَّ قَالَ: افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ". [الحديث 1653 - طرفاه في: 1654، 1763].
وبالسند قال: (حدثني) بالإفراد (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا إسحاق الأزرق) هو ابن يوسف قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن عبد العزيز بن رفيع) بضم الراء وفتح الفاء وسكون المثناة التحتية آخره عين مهملة (قال: سألت أنس بن مالك -رضي الله عنه- قلت: أخبرني بشيء عقلته) بفتح القاف أي أدركته وفقهته جملة في موضع جر صفة لقوله بشيء (عن النبي) ولأبي ذر وابن عساكر: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أين صلّى الظهر والعصر يوم التروية؟ قال) أنس: صلاهما (بمنى) اتفق الأربعة على استحبابه (قلت: فأين صلّى العصر يوم النفر؟) الأول بفتح النون وسكون الفاء

الرجوع من منى (قال) أنس: صلاها (بالأبطح) هو المحصب (ثم قال) أنس: (افعل كما يفعل أمراؤك) صلّ حيث يصلون، وفيه إشارة إلى الجواز وأن الأمراء إذ ذاك ما كانوا يواظبون على صلاة الظهر ذلك اليوم بمكان معين.
وفي هذا الحديث التحديث بلفظ الإفراد والجمع والعنعنة والقول والسؤال، ورواته ما بين بخاري وواسطي وكوفي، وليس لعبد العزيز بن رفيع عن أنس في الصحيحين إلا هذا الحديث، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الحج وكذا مسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، وقد قال الترمذي: بعد أن أخرجه صحيح مستغرب من حديث إسحاق الأزرق عن الثوري.
قال في الفتح: إن إسحاق تفرد به وله شواهد منها: في حديث جابر الطويل عند مسلم: فلما كان يوم التروية توجهوا إلى منى فأهلوا بالحج وركب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر، ولأبي داود والترمذي وأحمد والحاكم من حديث ابن عباس: صلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظهر يوم التروية والفجر يوم عرفة بمنى، ولابن خزيمة من طريق القاسم بن محمد بن عبد الله بن الزبير قال: من سنة الحج أن يصلّي الإمام الظهر وما بعدها والفجر بمنى ثم يغدون إلى عرفة.
ولهذه النكتة التي ذكرها الترمذي أردف المؤلّف هذا الحديث بطريق أبي بكر بن عياش عن عبد العزيز فقال بالسند السابق إليه:
1654 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ سَمِعَ أَبَا بَكْرِ بْنَ عَيَّاشٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ لَقِيتُ أَنَسًا. وَحَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبَانَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَالَ "خَرَجْتُ إِلَى مِنًى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَلَقِيتُ أَنَسًا -رضي الله عنه- ذَاهِبًا عَلَى حِمَارٍ، فَقُلْتُ: أَيْنَ صَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَذَا الْيَوْمَ الظُّهْرَ؟ فَقَالَ: انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَرَاؤُكَ فَصَلِّ".
(حدّثنا عليّ) هو ابن المديني أنه (سمع أبا بكر بن عياش) بتشديد التحتية آخره شين معجمة ابن سالم الأسدي الكوفي

(3/194)


الحناط بالحاء المهملة والنون قال: (حدّثنا عبد العزيز) بن رفيع (قال: لقيت أنسًا) قال المؤلّف:
(وحدثني) بالإفراد (إسماعيل بن أبان) بفتح الهمزة وتخفيف الموحدة آخره نون غير منصرف كما في اليونينية، وقال العيني: هو منصرف على الأصح قال: (حدّثنا أبو بكر) هو ابن عياش (عن عبد العزيز) بن رفيع (قال: خرجت إلى منى يوم التروية، فلقيت أنسًا) هو ابن مالك (-رضي الله عنه-) حال كونه (ذاهبًا) وللكشميهني: راكبًا (على حمار فقلت) له (أين صلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هذا اليوم) أي يوم التروية (الظهر؟ فقال:) أنس لعبد العزيز: (انظر حيث يصلّي أمراؤك فصلّ) فيه إشارة إلى متابعة أُولي الأمر والاحتراز عن مخالفة الجماعة، وإن ذلك ليس بنسك واجب. نعم المستحب ما

فعله الشارع، وبه قال الأئمة الأربعة، قال النووي: وهو الصحيح المشهور من نصوص الشافعى وفيه قول ضعيف أنه يصلّي الظهر بمكة ثم يخرج إلى منى.

84 - باب الصَّلاَةِ بِمِنًى
"باب" كيفية (الصلاة بمنى) هل يصلي الرباعية أربعًا أو اثنتين قصرًا.
1655 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ "صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلاَفَتِهِ".
وبالسند قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) الحزامي بالحاء المهملة والزاي قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله المصري قال: (أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله بن عبد الله بن عمر) بتصغير عبد الأوّل (عن أبيه قال: صلّى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمنى) الرباعية (ركعتين) قصرًا، (و) كذا صلاها (أبو بكر وعمر) -رضي الله عنهما-، (و) كذا (عثمان) -رضي الله عنه- (صدرًا من) أيام (خلافته) ثم أتمها بعد ست سنين لأن الإتمام والقصر جائزان ورأى ترجيح طرف الإتمام لأن فيه زيادة مشقة. وفي رواية أبي سفيان عن عبيد الله عند مسلم ثم إن عثمان صلّى أربعًا فكان ابن عمر إذا صلّى مع الإمام صلّى أربعًا، وإذا صلّى وحده صلّى ركعتين.
ولمسلم أيضًا قال: صلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمنى صلاة المسافر وأبو بكر وعمر وعثمان ثمان سنين أو ست سنين، وقد اتفق الأئمة على أن الحاج القادم من مكة يقصر الصلاة بها وبمنى وسائر المشاهد لأنه عندهم في سفر لأن مكة ليست دار إقامة إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها. وكان المهاجرون قد فرض عليهم ترك المقام بها فلذلك لم ينو -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الإقامة بها ولا بمنى، ومذهب المالكية القصر حتى أهل مكة وعرفة ومزدلفة للسنة.
قال ابن المنير السر في القصر في هذه المواضع المتقاربة إظهار الله تعالى تفضله على عباده حيث اعتد لهم بالحركة القريبة اعتداده بالسفر البعيد، فجعل الوافدين من عرفة إلى مكة كأنهم سافروا إليها ثلاثة أسفار: سفر إلى المزدلفة ولهذا يقصر أهل عرفة بالمزدلفة، وسفر إلى منى ولهذا يقصر أهل المزدلفة بمنى، وسفر إلى مكة ولهذا يقصر أهل مكة بمنى فهي على قربها من عرفة معدودة بثلاث مسافات كل مسافة منها سفر طويل، وسر ذلك والله أعلم أنهم كلهم وفد الله وأن القريب كالبعيد في إسباغ الفضل اهـ.
1656 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ "صَلَّى بِنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-وَنَحْنُ أَكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ- بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ".

وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي أياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق الهمداني) بسكون الميم المشهور بالسبيعي (عن حارثة بن وهب الخزاعي) بضم الخاء المعجمة وتخفيف الزاي وحارثة بالحاء المهملة والمثلثة (-رضي الله عنه- قال):
(صلّى بنا النبي) ولأبي الوقت: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن أكثر ما كنا قط وآمنه) بفتح القاف وتشديد الطاء مضمومة في أفصح اللغات ظرف زمان لاستغراق ما مضى فيختص بالنفي يقال: ما فعلته قط، والعامة تقول: لا أفعله قط وهو خطأ واشتقاقه من قططته أي قطعته فمعنى ما فعلته قط ما فعلته فيما انقطع من عمري لأن الماضي منقطع عن الحال والاستقبال وبنيت لتضمنها معنى مذ وإلى إذ المعنى مدّ أن خلقت إلى الآن وعلى حركة لئلا يلتقي ساكنان وكانت ضمة تشبيهًا بالغايات حملاً على قبل وبعد قاله ابن هشام. وتعقب الدماميني قوله: ويختص بالنفي بأن ملازمة قط للنفي ليست أمرًا مستمرًا على الدوام وإنما ذلك هو الغالب. قال في التسهيل: وربما استعمل قط دونه

(3/195)


لفظًا ومعنى يريد النفي، ومن شواهده قوله هنا أكثر ما كنا قط وله نظائر والجملة حالية وما مصدرية ومعناه الجمع لأن ما أضيف إليه أفعل يكون جمعًا. وآمنه: رفع عطفًا على أكثر والضمير فيه راجع إلى ما والمعنى صلّى بنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والحال أنا أكثر أكواننا في سائر الأوقات عددًا وأكثر أكواننا في سائر الأوقات أمنًا، وإسناد الأمن إلى الأوقات مجاز، ويجوز أن تكون ما نافية خبر المبتدأ الذي هو نحن، وأكثر منصوبًا على أنه خبرُ كان، والتقدير نحن ما كنا قط في وقت أكثر منا في هذا الوقت ولا آمن منا فيه، ويجوز إعمال ما بعد ما فيما قبلها إذا كانت بمعنى ليس فكما يجوز تقديم خبر ليس عليه يجوز تقديم خبر ما في معناه عليه (بمنى ركعتين) قصرًا أي في منى والعامل فيه قوله صلّى.
1657 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ "صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ -رضي الله عنه- رَكْعَتَيْنِ، وَمَعَ عُمَرَ -رضي الله عنه- رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ، فَيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ".
وبه قال (حدّثنا قبيصة بن عقبة) بفتح القاف وكسر الموحدة وعقبة بضم العين وسكون القاف ابن محمد بن سفيان السوائي الكوفي قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن إبراهيم) النخعي (عن عبد الرحمن بن يزيد) من الزيادة ابن قيس أخي الأسود الكوفي النخعي (عن عبد الله) هو ابن مسعود (-رضي الله عنه- قال):
(صليت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) المكتوبة بمنى (ركعتين، و) صليت (مع أبي بكر -رضي الله عنه- ركعتين ومع عمر -رضي الله عنه- ركعتين، ثم تفرفت) في قصر الصلاة وإتمامها (بكم الطرق،) منكم من يقصر ومنكم من يتم. (فيا ليت حظي) نصيبي (من أربع ركعتان متقبلتان) بالألف فيهما رفع على الأصل فركعتان خبر ليت ومتقبلتان صفته، ولأبي الوقت: ركعتين متقبلتين بالياء فيهما نصب على

مذهب الفراء حيث جوز نصب خبر ليت كاسمه، والمعنى ليت عثمان صلّى ركعتين بدل الأربع كما صلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحباه، وفيه إظهار لكراهة مخالفتهم أو يريد أنا أتم متابعة لعثمان، وليت الله قبل مني من الأربع ركعتين. وهذه الأحاديث الثلاثة سبقت في أبواب تقصير الصلاة.

85 - باب صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ
(باب) حكم (صوم يوم عرفة) بعرفات.
1658 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَالِمٌ قَالَ سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ "شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ". [الحديث 1658 - أطرافه في: 1661، 1988، 5604، 5618، 5636].
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب قال: (حدّثنا سالم) هو أبو النضر بالضاد المعجمة ابن أبي أمية مولى عمر بن عبيد الله كذا في فرع اليونينية والصواب سقوط الزهري كما في بعض الأصول، وعند المؤلّف في باب: الوقوف على الدابة بعرفة من طريق القعنبي وكتاب الصوم من طريق مسدد، وطريق عبد الله بن يوسف كلهم عن مالك عن أبي النضر، لكن قال البرماوي كالكرماني: إن صح سماع الزهري من سالم أبي النضر فيكون البخاري رواه بالطريقين (قال: سمعت عميرًا) بضم العين وفتح الميم مصغر عمر (مولى أم الفضل) ويقال مولى ابن عباس فالأوّل على الأصل والثاني باعتبار ما آل إليه لأنه انتقل إلى ابن عباس من قبل أمه (عن أم الفضل) لبابة أم عبد الله بن عباس (شك الناس) واختلفوا وهو معنى قوله في كتاب الصوم وتماروا (يوم عرفة) وهم معرّفون (وفي صوم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم فيه إشعار بأن صوم عرفة كان معروفًا عندهم معتادًا لهم في الحضر، فمن قال بصيامه له أخذ بما كان عليه الصلاة والسلام من عادته ومن نفاه أخذ بكونه مسافرًا قالت أم الفضل: (فبعثت) بسكون المثلثة وضم المثناة الفوقية بلفظ المتكلم، ولأبوي ذر والوقت: فبعثت المثلثة وسكون المثناة أي أم الفضل، وفي كتاب الصوم فأرسلت، وفي حديث آخر أن المرسلة هي ميمونة بنت الحرث، فيحتمل أنهما معًا أرسلتا فنسب ذلك إلى كل منهما فتكون ميمونة أرسلت لسؤال أم الفضل لها بذلك لكشف الحال في ذلك ويحتمل
أن تكون أم الفضل أرسلت ميمونة (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بشراب) وفي باب: الوقوف على الدابة بعرفة وفي كتاب الصيام بقدح لبن (فشربه) زاد فيهما وهو واقف على بعيره، وزاد أبو نعيم وهو يخطب الناس بعرفة وفيه

(3/196)


استحباب فطر يوم عرفة للحاج، وفي سنن أبي داود نهيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن صوم يوم عرفة بعرفة وهذا وجه للشافعية، والصحيح أنه خلاف الأولى لا مكروه، وعلى كل حال يستحب فطره للحاج للاتباع كما دل عليه حديث الباب وليقوى على الدعاء. وأما حديث أبي داود فضعف بأن في إسناده

مجهولاً. قال في المجموع قال الجمهور: وسواء أضعفه الصوم عن الدعاء وأعمال الحج أم لا. وقال المتولي: إن كان ممن لا يضعف بالصوم عن ذلك فالصوم أولى له وإلاّ فالفطر.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الحج وفي الصوم وفي الأشربة، ومسلم في الصوم وكذا أبو داود.

86 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ إِذَا غَدَا مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ
(باب) مشروعية (التلبية والتكبير إذا غدا) ذهب (من منى إلى عرفة).
1659 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ "أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ- كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ: كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ، وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن محمد بن أبي بكر الثقفي) وليس له في الصحيح عن أنس إلا هذا الحديث (إنه سأل أنس بن مالك -رضي الله عنه- وهما غاديان) جملة اسمية حالية أي ذاهبان غدوة (من منى إلى) عرفات يوم (عرفة كيف كنتم تصنعون) أي من الذكر طول الطريق (في هذا اليوم مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فقال) أنس: (كان) أي الشأن (يهل منا المهل) يرفع صوته بالتلبية (فلا ينكر عليه) بضم الياء وكسر الكاف مبنيًا للفاعل أي للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وفي نسخة فلا ينكر بفتح الكاف مبنيًّا للمفعول والفتحة مكشوطة من فرع اليونينية، وفي رواية موسى بن عقبة عن محمد بن أبي بكر عند مسلم عن أنس: لا يعيب أحدنا على صاحبه، (ويكبر منا المكبر فلا ينكر عليه) ومفهومه أنه لا حرج في التكبير ذلك الوقت بل يجوز كسائر الأذكار ولكن ليس التكبير يوم عرفة سنة للحاج. وفي الحديث ردّ على من قال يقطع التلبية صبح يوم عرفة، بل السنة أن لا يقطعها إلا في أوّل حصاة من جمرة العقبة، ويحتمل أن تكبيرهم هذا كان شيئًا من الذكر يتخلل التلبية من غير ترك للتلبية، وهذا مذهب أبي حنيفة والشافعي وقال مالك: يقطع إذا زالت الشمس وراح إلى الصلاة. قال ابن فرحون: وهو المشهور، وفرق ابن الجلاب بين من يأتي عرفة وبين من يحرم بعرفة فيلبي حتى يرمي جمرة العقبة وإذا قطع التلبية بعرفة لم يعاودها.

87 - باب التَّهْجِيرِ بِالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ
(باب التهجير بالرواح يوم عرفة) من نمرة إلى موضع الوقوف بعرفة ونمرة هي بفتح النون وكسر الميم وفتح الراء موضع خارج الحرم بين طرف الحرم وطرف عرفات والتهجير السير في الهاجرة وهي عند نصف النهار واشتداد الحرّ.

1660 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ "كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لاَ يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ. فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنه- وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ، فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ، فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ: مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ فَقَالَ: الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ، قَالَ: هَذِهِ السَّاعَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجَ. فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ. فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ: صَدَقَ". [الحديث 1660 - طرفاه في: 1662، 1663].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) إمام دار الهجرة (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن سالم) هو ابن عبد الله بن عمر (قال: كتب عبد الملك) بن مروان الأموي (إلى الحجاج) بن يوسف الثقفي حين أرسله إلى قتال ابن الزبير وجعله واليًا على مكة وأميرًا على الحاج (أن لا تخالف ابن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (في) أحكام (الحج) قال سالم (فجاء ابن عمر -رضي الله عنهما- وأنا معه) أي مع ابن عمر والواو للحال (يوم عرفة حين زالت الشمس فصاح عند سراق الحجاج)، بضم السين قال البرماوي: والحافظ ابن حجر وغيرهما كالكرماني: الخيمة. وتعقبه العيني بأنه هو الذي يحيط بالخيمة وله باب يدخل منه إلى الخيمة ولا يعمله غالبًا إلا الملوك الأكابر اهـ.
وفي القاموس: أنه الذي يمدّ فوق صحن البيت والبيت ومن الكرسف زاد الإسماعيلي من هذا الوجه أين هذا يعني الحجاج، (فخرج) من سرادقه (وعليه ملحفة معصفرة) مصبوغة بالعصفر واللحفة بكسر الميم الإزار الكبير (فقال): أي الحجاج (ما لك يا أبا عبد الرحمن!) كنية ابن عمر (فقال) له ابن عمر: عجل أو رح (الرواح) فالنصب بفعل مقدر. قال العيني: والأصوب نصبه على الإغراء (إن كنت تريد) أن تصيب (السنّة) النبوية (قال) الحجاج: (هذه الساعة) وقت الهاجرة (قال) ابن عمر (نعم. قال) الحجاج: (فأنظرني) بهمزة قطع ومعجمة مكسورة من الأنظار وهو المهملة ولأبي ذر عن الكشميهني: فانظرني

(3/197)


بهمزة وصل وظاء مضمومة أي انتظرني (حتى أفيض على رأسي) أي أغتسل لأن إفاضة الماء على الرأس غالبًا إنما تكون في الغسل (ثم أخرج) بالنصب عطفًا على أفيض (فنزل) ابن عمر عن مركوبه وانتظر (حتى خرج الحجاج) قال سالم: (فسار بيني وبين أبي)، عبد الله بن عمر (فقلت) للحجاج (إن كنت تريد السنّة) النبوية (فاقصر الخطبة) كذا في اليونينية بوصل الهمزة وضم الصاد (وعجل الوقوف). وكذا في رواية عبد الله بن يوسف عن مالك، ووافقه القعنبي في الموطأ وأشهب عند النسائي، وخالفهم يحيى وابن القاسم وابن وهب ومطرّف عن مالك فقالوا: وعجل الصلاة وقد غلط أبو عمر بن عبد البرّ الرواية الأولى لأن أكثر الرواة عن مالك على خلافها ووجهت بأن تعجيل الوقوف يستلزم تعجيل الصلاة، (فجعل) الحجاج (ينظر إلى

عبد الله) بن عمر كأنه يستدعي معرفة ما عنده فيما قاله ابنه سالم هل هو كذا أم لا؟ (فلما رأى ذلك عبد الله قال: صدق).
وفي هذا الحديث فوائد جمة تظهر عند التأمل لا نطيل بها. وموضع الترجمة منه قوله: هذه الساعة لأنه أشار به إلى وقت زوال الشمس عند الهاجرة وهو وقت الرواح إلى الموقف لحديث ابن عمر عند أبي داود قال: غدا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين صلّى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل نمرة وهو منزل الإمام الذي ينزل به بعرفة حتى إذا كان عند صلاة الظهر راح رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مهجرًا فجمع بين الظهر والعصر ثم خطب الناس ثم راح فوقف.
وحديث الباب قد أخرجه النسائي في الحج.

88 - باب الْوُقُوفِ عَلَى الدَّابَّةِ بِعَرَفَةَ
(باب الوقوف على الدابة بعرفة).
1661 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْعَبَّاسِ "عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّ نَاسًا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَقَالَ بَعْضُهُمْ هُوَ صَائِمٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ. فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي (عن مالك) الإمام (عن أبي النضر) بسكون الضاد المعجمة سالم بن أبي أمية (عن عمير مولى عبد الله بن العباس) حقيقة أو مجازًا (عن أم الفضل) لبابة (بنت الحرث) -رضي الله عنها- (أن ناسًا اختلفوا عندها يوم عرفة في صوم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال بعضهم: هو صائم) كعادته (وقال بعضهم: ليس بصائم) لكونه مسافرًا (فأرسلت) أم الفضل (إليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بقدح لبن وهو واقف على بعيره) بعرفات (فشربه).
وفي حديث جابر الطويل المروي في مسلم: ثم ركب إلى الموقف فلم يزل واقفًا حتى غربت الشمس، وهذا يدل لمذهب الجمهور أن الأفضل الركوب اقتداء به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولما فيه من العون على الاجتهاد في الدعاء والتضرع الذي هو المطلوب في ذلك الموضع حينئذٍ، وخصه آخرون بمن يحتاج الناس إليه للتعليم وفيه: أن الوقوف على ظهر الدابة مباح إذا لم يجحف بها ولا يعارضه النهي الوارد: لا تتخذوا ظهورها منابر لأنه محمول على الأغلب الأكثر.

89 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِعَرَفَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلاَةُ مَعَ الإِمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا
(باب الجمع بين الصلاتين) الظهر والعصر في وقت الأولى (بعرفة) للمسافرين سفر القصر، وقال المالكية: للنسك فيجوز لكل أحد المكي وغيره، وقالي أبو حنيفة: يختص الجمع بمن صلّى مع الإمام حتى لو صلّى الظهر وحده أو بجماعة بدون الإمام لا يجوز وخالفه صاحباه فقالا والمنفرد أيضًا كالأئمة الثلاثة.
(وكان ابن عمر -رضي الله عنهما-) مما وصله إبراهيم الحربي في المناسك (إذا فاتته الصلاة مع الإمام) يوم عرفة (جمع بينهما) أي بين الظهر والعصر في منزله.
1662 - وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ "أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ -عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما-- سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ -رضي الله عنه-: كَيْفَ تَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ؟ فَقَالَ سَالِمٌ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلاَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: صَدَقَ، إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ. فَقُلْتُ لِسَالِمٍ: أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ سَالِمٌ: وَهَلْ تَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلاَّ سُنَّتَهُ؟ ".
(وقال الليث) بن سعد الإمام مما وصله الإسماعيلي (حدثني) بالإفراد (عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (قال: أخبرني) بالإفراد (سالم) هو ابن عبد الله بن عمر (أن الحجاج بن يوسف) الثقفي (عام نزل بابن الزبير) عبد الله (-رضي الله عنهما-) بمكة لمحاربته سنة ثلاث وسبعين (سأل عبد الله) بن عمر (-رضي الله عنه-) وعن أبيه (كيف تصنع في الموقف يوم عرفة؟ فقال) له (سالم) ولد ابن عمر: (أن كنت تريد السنّة) النبوية (فهجر بالصلاة) بتشديد الجيم المكسورة أي صلها وقت الهجير شدة الحر (يوم عرفة، فقال: عبد الله بن عمر) أبوه (صدق) سالم (إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة). بضم السين. قال الطيبي حال من فاعل يجمعون أي

(3/198)


متوغلين في السنة ومتمسكين بها قالها تعريضًا بالحجاج.
قال ابن شهاب: (فقلت لسالم): مستفهمًا له (أفعل ذلك رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فقال سالم: وهل يتبعون في ذلك) بتشديد الفوقية الثانية وكسر الموحدة بعدها عين مهملة من الاتباع (إلا سنته)؟ على سبيل الحصر بعد الاستفهام أي ما تتبعون في التهجير والجمع لشيء من الأشياء إلا سنته، فسنته منصوب بنزع الخافض، وللحموي والمستملي كما في اليونينية: وهل تبتغون بذلك بمثناتين فوقيتين مفتوحتين بينهما موحدة ساكنة وبالغين المعجمة من الابتغاء وهو الطلب وبذلك بالموحدة بدل في، وللحموي والمستملي كما في فرع اليونينية: يتبعون بالمثناة التحتية بلفظ الغيبة. وقال العيني كالحافظ

ابن حجر: إن الذي بالمهملة لأكثر الرواة والدين بالغين المعجمة للكشميهني وأنه في رواية الحموي: وهل تتبعون ذلك بحذف في وهي مقدرة.

90 - باب قَصْرِ الْخُطْبَةِ بِعَرَفَةَ
(باب قصر الخطبة بعرفة) بفتح القاف وسكون الصاد.
1663 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ كَتَبَ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ يَأْتَمَّ بِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فِي الْحَجِّ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ جَاءَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- وَأَنَا مَعَهُ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ -أَوْ زَالَتْ- فَصَاحَ عِنْدَ فُسْطَاطِهِ: أَيْنَ هَذَا؟ فَخَرَحَ إِلَيْهِ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الرَّوَاحَ. فَقَالَ: الآنَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: أَنْظِرْنِي أُفِيضُ عَلَىَّ مَاءً. فَنَزَلَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- حَتَّى خَرَجَ، فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي، فَقُلْتُ: إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ أَنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ الْيَوْمَ فَاقْصُرِ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلِ الْوُقُوفَ. فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ صَدَقَ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (أخبرنا مالك عن ابن شهاب عن سالم بن عبد الله) بن عمر (أن عبد الملك بن مروان كتب إلى الحجاج أن يأتم) أي يقتدي (بعبد الله بن عمر في) أحكام (الحج فلما كان يوم عرفة جاء ابن عمر -رضي الله عنهما- وأنا معه حين زاغت الشمس) أي مالت (أو زالت) شك من الراوي (فصاح عند فسطاطه): بيت من شعر (أين هذا؟) فيه تحقير للحجاج ولعله لتقصيره في تعجيل الرواح ونحوه (فخرج إليه) الحجاج (فقال) له (ابن عمر:) عجل (الرواح) أو النصب على الإغراء (فقال) الحجاج: (الآن؟ قال) ابن عمر: (نعم. قال) الحجاج: (أنظرني) بهمزة قطع وكسر المعجمة أي أمهلني (أفيض عليّ ماء). بضم الهمزة والرفع على الاستئناف، وللكشميهني: أفض بالجزم جواب الأمر (فنزل ابن عمر -رضي الله عنهما-) عن مركوبه (حتى خرج،) الحجاج من فسطاطه (فسار بيني وبين أبي،) عبد الله بن عمر (فقلت) للحجاج (إن كنت تريد أن تصيب السُّنّة) النبوية (اليوم فاقصر الخطبة) بهمزة وصل وضم الصاد (وعجّل الوقوف). في رواية ابن وهب وغيره وعجل الصلاة ومر ما فيه قريبًا (فقال ابن عمر: صدق) سالم، ولأبي الوقت والحموي لو كنت تريد السنّة فلو بمعنى أن لمجرد الشرطية من غير ملاحظة الامتنّاع.

(باب التعجيل إلى الموقف).
لم يذكر الأكثرون في هذه الترجمة حديثًا بل سقطت من رواية أبي ذر وابن عساكر أصلاً، لكن قال أبو ذر: إنه رأى في بعض النسخ عقب هذه الترجمة. قال أبو عبد الله أي المؤلّف حديث مالك أي المذكور قبل يذكر هنا ولكني لا أريد أن أدخل فيه أي في هذا الجامع معادًا بضم الميم أي مكررًا

فإن وقع ما يوهم التكرار فتأمله تجده لا يخلو من فوائد إسنادية أو متنية كتقييد مهمل أو تفسير مبهم أو زيادة لا بدّ منها ونحو ذلك مما يقف عليه من تتبع هذا الكتاب، وما وقع له مما سوى ذلك فبغير قصد وهو نادر الوقوع! ووقع في نسخة الصغاني يدخل في هذا الباب هذا الحديث حديث مالك عن ابن شهاب، ولكني أريد أن أدخل فيه غير معاد، والحاصل من ذلك أنه قال: زيادة الحديث المذكور كانت مناسبة أن تدخل في باب التعجيل إلى الوقف، ولكني ما أدخلته فيه لأني ما أدخلت فيه مكررًا إلا لفائدة وأنه لم يظفر بطريق آخر فيه غير الطريقتين المذكورتين، فلذا لم يدخله. وفي الكرماني وقال أبو عبد الله يزاد في هذا الحديث بفتح هاء هم وسكون ميمها قيل إنها فارسية وقيل عربية ومعناها قريب من معنى أيضًا اهـ.

باب التَّعْجِيلِ إِلَى الْمَوْقِفِ

91 - باب الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ
(باب الوقوف بعرفة) دون غيرها من الأماكن.
1664 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ "كُنْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي ... ". وَحَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ "أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي، فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقِفًا بِعَرَفَةَ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ مِنَ الْحُمْسِ، فَمَا شَأْنُهُ هَا هُنَا؟ ".
وبالسند قال: (حدّثنا عليّ بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو) هو ابن دينار قال: (حدّثنا محمد بن جبير بن مطعم) بضم الجيم وفتح الموحدة ومطعم بضم الميم وكسر العين (عن أبيه) أنه (قال كنت أطلب بعيرًا لي) قال البخاري (ح).
(وحدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عمرو) هو ابن دينار أنه (سمع محمد بن جبير) ولأبي ذر زيادة،

(3/199)


ابن مطعم (عن أبيه جبير بن مطعم قال أضللت بعيرًا) أي أضعته أو ذهب هو زاد إسحاق بن راويه في مسنده في الجاهلية وزاد المؤلّف في غير رواية أبي ذر وابن عساكر لي (فذهبت أطلبه يوم عرفة)، أي في يوم عرفة متعلق بأضللت (فرأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واقفًا بعرفة) قال جبير: (فقلت: هذا) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (والله من الحمس،) بحاء مهملة مضمومة وميم ساكنة.
قال في القاموس: والحمس الأمكنة الصلبة جمع أحمس، وبه لقبت قريش وكنانة وجديلة ومن تابعهم لتحمسهم في دينهم أو لالتجائهم للحمساء وهي الكعبة لأن حجرها أبيض يميل إلى السواد اهـ.

وهذا الأخير رواه إبراهيم الجرمي في غريب الحديث من طريق عبد العزيز بن عمر، والأول أكثر وأشهر.
وقال ابن إسحاق: كانت قريش لا أدري قبل الفيل أو بعده ابتدعت أمر الحمس رأيًا فتركوا الوقوف على عرفة والإفاضة منها وهم يعرفون ويقرّون أنها من المشاعر والحج إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم ونحن الحمس والحمس أهل الحرم. قالوا: ولا ينبغي للحمس أن يتأقطوا الأقط ولا يسلوا السمن وهم حرم، ولا يدخلوا بيتًا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حرمًا، ثم قالوا: لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحل إلى الحرم إذا جاؤوا حجابًا أو عمارًا ولا يطوفوا بالبيت إذا قدموا طوافهم إلا في ثياب الحمس.
(فما شأنه هاهنا)؟ تعجب من جبير وإنكار منه لما رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- واقفًا بعرفة فقال: هو من الحمس فما باله يقف بعرفة والحمس لا يقفون بها لأنهم لا يخرجون من الحرم؟ وعند الحميدي عن سفيان: وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم: إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانوا لا يخرجون من الحرم، وعند الإسماعيلي وكانوا يقولون: نحن أهل الله لا نخرج من الحرم وكان سائر الناس يقف بعرفة وذلك قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}؟ [البقرة: 199].
وهذا الحديث أخرجه مسلم والنسائي في الحج.
1665 - حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ "كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلاَّ الْحُمْسَ -وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ- وَكَانَتِ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ، يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا، وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا، فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا. وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ. قَالَ: وَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُمْسِ {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قَالَ: كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ". [الحديث 1665 - طرفه في: 4520].
وبالسند قال: (حدّثنا فروة بن أبي المغراء) بفتح الميم وسكون الغين المعجمة آخره راء ممدود وفروة بفتح الفاء والواو بينهما راء ساكنة الكندي الكوفي قال: (حدّثنا عليّ بن مسهر) بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء قاضي الموصل (عن هشام بن عروة) بن الزبير (قال عروة): أبو هشام (كان الناس يطوفون في الجاهلية) بالكعبة حال كونهم (عراة إلا الحمس والحمس قريش وما ولدت) من أمهاتهم وعبر بما دون من لقصد التعميم وزاد معمر، وكان ممن ولدت قريش خزاعة وبنو كنانة وبنو عامر بن صعصعة. وعند إبراهيم الجرمي: وكانت قريش إذا خطب إليهم الغريب

اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم فدخل في الحمس من غير قريش ثقيف وليث وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة يعني وغيرهم، وعرف بهذا أن المراد بهذه القبائل من كانت له من أمهاته قرشية لا جميع القبائل المذكورة.
(وكانت الحمس يحتسبون على الناس) يعطونهم حسبة لله (يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها، وتعطي المرأة المرأة الثياب تطوف فيها فمن لم تعطه الحمس) ثيابًا (طاف بابيت عريانًا وكان يفيض جماعة الناس) أي غير الحمس يدفعون (من عرفات).
قال الزمخشري: عرفات علم للموقف سمي بجمع كاذرعات.
فإن قلت: هلا منعت الصرف وفيها السببان التعريف والتأنيث؟ قلت: لا يخلو التأنيث إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وإما بتاء مقدرة كما في سعاد فالتي في لفظها ليست للتأنيث وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنث، ولا يصح تقدير التاء فيها لأن هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي هي بدل من الواو ولاختصاصها بالمؤنث كتاء فأبت تقديرها.
وتعقبه ابن المنير بأنه يلزمه إذا سمى امرأة بمسلمات أن يصرفه وهو قول رديء والأفصح تنوينه وهو يرى أن تنوين عرفات للتمكين لا للمقابلة ولم يعدّ تنوين المقابلة في مفصله بناء منه على أنه راجع إلى التمكين،

(3/200)


ونقل الزجاج فيها وجهين الصرف وعدمه إلا أنه قال: لا يكون إلا مكسورًا وإن سقط التنوين.
(وتفيض الحمس من جمع) بفتح الجيم وسكون الميم أي من المزدلفة وسميت به لأن آدم اجتمع فيها مع حوّاء، وازدلف إليها أي دنا منها، أو لأنه يجمع فيها بين الصلاتين وأهلها يزدلفون أي يتقربون إلى الله تعالى بالوقوف فيها.
(قال:) هشام (وأخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها- أن هذه الآية نزلت في الحمس {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] إبراهيم الخليل عليه أفضل الصلاة والسلام رواه الترمذي وقال: حسن؟ صحيح من حديث يزيد بن شيبان قال: أتانا ابن مربع بكسر الميم وسكون الراء وفتح الموحدة زيد الأنصاري ونحن وقوف بالموقف فقال: إني رسول رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إليكم يقول: كونوا على مشاعركم فإنكم على إرث من إرث إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقرئ الناس بالكسر أي الناسي يريد آدم من قوله تعالى: {فنسي} أو المراد سائر الناس غير الحمس. قال ابن التين: وهو الصحيح والمعنى: أفيضوا من عرفة لا من المزدلفة، والخطاب مع قريش كانوا يقفون بجمع وسائر الناس بعرفة ويرون ذلك ترفعًا عليهم كما مرّ فأمروا بأن يساووهم.

فإن قلت: ما وجه إدخال ثم هنا حيث كانت الإفاضة المذكورة بعدها هي بعينها الإفاضة المذكورة قبلها فما معنى عطف الأمر بها بكلمة ثم الدالة على التراخي على الأمر بالذكر المتأخر عنها، وكيف موقع ثم من كلام البلغاء؟ فقال البيضاوي كالزمخشري: وثم لتفاوت ما بين الإفاضتين كما في قولك: أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، وزاد الزمخشري: تأتي بثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات قال: ثم أفيضوا التفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ اهـ.
وتعقبه أبو حيان فقال: ليست الآية كالمثال الذي مثله، وحاصل ما ذكر أن ثم تسلب الترتيب وأن لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها ولم يجر في الآية أيضًا ذكر الإفاضة الخطأ فتكون ثم في قوله: {ثم أفيضوا} جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما ولا نعلم أحدًا سبقه إلى إثبات هذا المعنى لثم اهـ.
وقيل {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} وهم الحمس أي المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات اهـ.
فيكون المراد بالناس هنا المعهودين وهم الحمس ويكون هذا الأمر أمرًا بالإضافة من المزدلفة إلى منى بعد الإفاضة من عرفات.
(قال:) عروة ولابن عساكر: قالت أي عائشة (كانوا) أي الحمس (يفيضون من جمع) من المزدلفة (فدفعوا) بضم الدال المهملة مبنيًّا للمفعول أي أمروا بالذهاب (إلى عرفات) حيث قيل لهم أفيضوا، وللكشميهني: فرفعوا بالراء بدل الدال، ولمسلم: رجعوا إلى عرفات يعني أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها ثم يفيضوا منها.

92 - باب السَّيْرِ إِذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ
(باب السير إذا دفع من عرفة).
1666 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ "سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ: كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ؟ قَالَ: كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ، فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ". قَالَ هِشَامٌ: وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ. قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: فَجْوَةٌ: مُتَّسَعٌ، وَالْجَمِيعُ فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ، وَكَذَلِكَ رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ. مَنَاصٌ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ. [الحديث 1666 - طرفاه في: 2999، 4413].
وبالسند قال: "حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) هو ابن أنس الأصبحي الإمام (عن هشام بن عروة) بن الزبير (عن أبيه أنّه قال: سئل أسامة) بن زيد بن حارثة

حب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وأنا جالس) أي معه والواو للحال (كيف كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسير في حجة الوداع حين دفع)؟ أي انصرف من عرفات إلى المزدلفة وسمي دفعًا لازدحامهم إذا انصرفوا فيدفع بعضهم بعضًا (قال) أسامة.
(كان) عليه الصلاة والسلام، ولأبي الوقت: فكان (يسير العنق)، بفتح العين والنون منصوب على المصدر انتصاب القهقرى في قولهم رجع القهقرى، أو التقدير يسير السير العنق وهو السير بين الإبطاء والإسراع (فإذا وجد) عليه السلام (فجوة) بفتح الفاء وسكون الجيم أي متسعًا (نص) بفتح النون والصاد المهملة المشددة أي سار سيرًا شديدًا يبلغ به الغاية.
(قال هشام): هو ابن عروة (والنص فوق العنق) أي أرفع منه في السرعة (فجوة) وللمستملي قال أبو عبد الله: أي البخاري فجوة (متسع)،

(3/201)


يريد المكان الخالي من المارة (والجميع) بكسر الميم والتحتية الساكنة (فجوات وفجاء) بكسر الفاء والد (وكذلك ركوة) بفتح الراء (وركاء) بكسرها مع المد (مناص) بالرفع ويجوز زجره على الحكاية للفظ القرآن (ليس حين فرار) بنصب حين خبر ليس واسمها محذوف تقديره: ليس الحين حين هرب يشير المؤلّف بهذا إلى أنه ليس النصر والمناص أحدهما مشتق من الآخر.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في الجهاد والمغازي، ومسلم في المناسك وكذا أبو داود والنسائي وابن ماجة.

93 - باب النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفَةَ وَجَمْعٍ
(باب النزول بين عرفة وجمع) لقضاء حاجته أي حاجة كانت وليس من المناسك.
1667 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ مَالَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ. فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي؟ فَقَالَ: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ".
والسند قال (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد الأسدي الكوفي قال: (حدّثنا حماد بن زيد) هو ابن درهم (عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن موسى بن عقبة) بضم العين وسكون القاف (عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حيث أفاض من عرفة) بلفظ الإفراد. قال الفراء: إفراده شبيه بالمولد وليس بعربي، وللكشميهني: حين بالنون بدل حيث بالمثلثة وهو أصوب لأنه ظرف زمان وحيث ظرف مكان (مال) أي عدل (إلى الشعب) بكسر الشين المعجمة الطريق بين الجبلين (فقضى حاجته) أي استنجى (فتوضأ فقلت يا رسول الله أتصلي؟) بهمزة الاستفهام (فقال) عليه الصلاة والسلام:

(الصلاة أمامك) بفتح الهمزة أي مشروعة فيما بين يديك أي في المزدلفة، والصلاة: رفع
مبتدأ خبره محذوف تقديره الصلاة حاضرة أو الخبر الظرف المكاني المستقر، ويجوز النصب بفعل
مقدر. وهذا الحديث سبق في باب إسباغ الوضوء.
1668 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَجْمَعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ، غَيْرَ أَنَّهُ يَمُرُّ بِالشِّعْبِ الَّذِي أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيَدْخُلُ فَيَنْتَفِضُ وَيَتَوَضَّأُ وَلاَ يُصَلِّي حَتَّى يُصَلِّيَ بِجَمْعٍ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا جويرية) تصغير جارية ابن أسماء الضبعي البصري (عن نافع) مولى ابن عمر (قال: كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يجمع بين المغرب والعشاء) جمع تأخير (بجمع) بالمزدلفة (غير أنه) في معنى الاستثناء المنقطع أي كان يجمع بينهما بمزدلفة لكن بهذه الهيئة وهي أنه (يمرّ بالشعب الذي أخذه) أي سلكه (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيدخل) فيه (فينتفض) بفاء وضاد معجمة من الانتفاض وهو كناية عن قضاء الحاجة أي يستنجي (ويتوضأ ولا يصلّي) شيئًا (حتى يصلّي بجمع) وهو المزدلفة كما مرّ.
1669 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ قَالَ "رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عَرَفَاتٍ، فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشِّعْبَ الأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ، ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا، فَقُلْتُ: الصَّلاَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ. فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى، ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غَدَاةَ جَمْعٍ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد قال: (حدّثنا إسماعيل بن جعفر) الأنصاري مولى زريق المؤدّب (عن محمد بن أبي حرملة) مولى آل حويطب (عن كريب مولى ابن عباس عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أنه قال: ردفت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بكسر الدال ردفت أي ركبت وراءه (من عرفات، فلما بلغ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة) أي قربها (أناخ) راحلته (فبال، ثم جاء فصببت عليه الوضوء) بفتح الواو الماء الذي يتوضأ به (توضأ) ولأبي ذر، وابن عساكر: فتوضأ بفاء العطف (وضوءًا خفيفًا) إما بأنه مرة مرة أو خفف استعمال الماء على خلاف عادته قال أسامة (ففلت: الصلاة يا رسول الله). رفع على تقدير حضرت الصلاة أو نصب بفعل مقدر (قال:) عليه الصلاة والسلام:
(الصلاة) حاضرة (أمامك) بفتح الهمزة ويجوز نصب الصلاة بفعل مقدر كما مرّ، (فركب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى أتى المزدلفة فصلّى) المغرب والعشاء لم يبدأ بشيء قبل الصلاة، (ثم ردف
الفضل) بن العباس (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي ركب خلفه فالفضل رفع على الفاعلية (غداة جمع) أي غداة الليلة التي كان فيها الجمع وهي صبيحة يوم النحر.
1670 - قَالَ كُرَيْبٌ "فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ الْفَضْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ".
(قال كريب: فأخبرني عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن الفضل) بن عباس "أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يزل يلبي حتى بلغ الجمرة" التي بالعقبة فقطع التلبية حين بلوغها، وهذا الحديث رواه مسلم.

94 - باب أَمْرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسَّكِينَةِ عِنْدَ الإِفَاضَةِ، وَإِشَارَتِهِ إِلَيْهِمْ بِالسَّوْطِ
(باب أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أصحابه (بالسكينة) بالوقار (عند الإفاضة) من عرفة (وإشارته إليهم بالسوط) بذلك.
1671 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى وَالِبَةَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ عَرَفَةَ، فَسَمِعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلإِبِلِ، فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالإِيضَاعِ".
أَوْضَعُوا: أَسْرَعُوا. خِلاَلَكُمْ مِنَ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ، {وَفَجَّرْنَا خِلاَلَهُمَا}: بَيْنَهُمَا.
وبالسند قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) هو سعيد بن محمد

(3/202)


بن الحكم بن أبي مريم الجمحي البصري قال: (حدّثنا إبراهيم بن سويد) بضم السين وفتح الواو ابن حيان المديني روى له البخاري هذا الحديث فقط وقد وثقه ابن معين وأبو زرعة. قال ابن حبان: في الثقات ربما أتي بمناكير لكن لمتنه هذا شواهد، وقد تابعه فيه سليمان بن بلال عند الإسماعيلي وكذا غيره (قال: حدثني) بالإفراد (عمرو بن أبي عمرو) بفتح العين فيهما (مولى المطلب قال: أخبرني) بالإفراد (سعيد بن جبير) بضم وفتح الموحدة (مولى والبة) بلام مكسورة وموحدة مفتوحة لا ينصرف للعلمية والتأنيث بالهاء (الكوفي) وقتله الحجاج سنة خمس وتسعين قال: (حدثني) بالإفراد (ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه دفع) انصرف (مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من عرفات (يوم عرفة فسمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وراءه زجرًا) بفتح الزاي وسكون الجيم صياحًا (شديدًا وضربًا) زاد في غير رواية أبي الوقت كما في اليونينية وعزاها غيره لكريمة ققط: وصوتًا وكأنه تصحيف من ضربا وعطف عليه (للإبل فأشار بسوطه إليهم وقال):
(أيها الناس، عليكم بالسكينة)، أي الزموا الرفق وعدم المزاحمة في السير ثم علل ذلك بقوله "فإن البر" بكسر الموحدة أي الخير (ليس بالإيضاع) بكسر الهمزة وبالضاد المعجمة وآخره عين مهملة

وهو حمل الدابة على إسراعها في السير. يقال: وضع البعير وغيره أسرع في سيره وأوضعه راكبه أي ليس البر بالسير السريع، ثم قال المؤلّف مفسرًا للإيضاع على عادته: (أوضعوا): معناه (أسرعوا) ركائبهم (خلالكم) من التخلل بينكم، ({وفجرنا خلالهما}) [الكهف: 33] أي: (بينهما) وفي الفرع وأصله مكتوب على وصوتًا علامة السقوط لأبي الوقت ثم كتب على بينهما "إلى".
ذكر خلالكم استطرادًا لبقية الآية ثم الآية الأخرى بسورة الكهف تكثيرًا لفرائد الفوائد اللغوية رحمه الله وأثابه، وهذا الحديث من أفراد المؤلّف والله أعلم.

95 - باب الْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ
(باب) استحباب (الجمع بين الصلاتين) المغرب والعشاء في وقت الثانية (بالمزدلفة) قيده الدارمي والبدنيجي والقاضي أبو الطيب وابن الصباغ والطبري والعمراني بما إذا لم يخش فوت الاختيار للعشاء، فإن خشيه صلّى بهم في الطريق، ونقله القاضي أبو الطيب وغيره عن النص قال في شرح المهذّب: ولعل إطلاق الأكثرين محمول على هذا.
1672 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- أَنَّهُ سَمِعَهُ يَقُولُ "دَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عَرَفَةَ، فَنَزَلَ الشِّعْبَ فَبَالَ، ثُمَّ تَوَضَّأَ وَلَمْ يُسْبِغِ الْوُضُوءَ. فَقُلْتُ لَهُ: الصَّلاَةُ. فَقَالَ: الصَّلاَةُ أَمَامَكَ. فَجَاءَ الْمُزْدَلِفَةَ فَتَوَضَّأَ فَأَسْبَغَ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى الْمَغْرِبَ، ثُمَّ أَنَاخَ كُلُّ إِنْسَانٍ بَعِيرَهُ فِي مَنْزِلِهِ، ثُمَّ أُقِيمَتِ الصَّلاَةُ فَصَلَّى، وَلَمْ يُصَلِّ بَيْنَهُمَا".
وبالسند قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن موسى بن عقبة) بضم العين وسكون القاف المدني (عن كريب) مولى ابن عباس (عن أسامة بن زيد -رضي الله عنهما- أنه سمعه) حال كونه (يقول: دفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عرفة) أي رجع من وقوف عرفة بعرفات لأن عرفة اسم لليوم وعرفات بلفظ الجمع اسم للموضع وحينئذ فيكون المضاف إليه محذوفًا لكن على مذهب من يقول إن عرفة اسم للمكان أيضًا لا حاجة إلى التقدير، (فنزل الشعب) الأيسر الذي دون المزدلفة (فبال) ولأبي ذر وابن عساكر: بإسقاط الفاء (ثم توضأ) وضوءًا شرعيًا أو استنجى وأطلق عليه اسم الوضوء اللغوي لأنه من الوضاءة وهي النظافة، (ولم يسبغ الوضوء) أي خففه أو لم يتوضأ في جميع أعضاء الوضوء بل اقتصر على بعضها، فيكون لغويًا أو على بعض العدد فيكون شرعيًا. ويؤيد هذا قوله في رواية وضوءًا خفيفًا لأنه لا يقال في الناقص خفيف. قال أسامة (فقلت: له) عليه الصلاة والسلام: حضرت (الصلاة) أو نصب بفعل مقدر؟ (فقال:) عليه الصلاة والسلام:

(الصلاة أمامك) مبتدأ وخبر أي موضع هذه الصلاة قدامك وهو المزدلفة فهو من باب: ذكر الحال وإرادة المحل أو التقدير وقت الصلاة قدّامك فالمضاف فيه محذوف إذ الصلاة نفسها لا توجد قبل إيجادها وعند إيجادها لا تكون أمامه. قال الحنفية: فيكون المراد وقتها فيجب تأخيرها وهو مذهب أبي حنيفة ومحمد، فلو صلّى المغرب في الطريق لم يجز وعليه إعادتها ما لم يطلع الفجر. وقال المالكية: يندب الجمع بينهما وظاهره أنه لو صلاهما قبل إتيانه إليها أجرأه لأنه جعل ذلك مندوبًا، والذي في المدوّنة أنه يعيدهما إلا أنها عند ابن القاسم على سبيل الاستحياب. وقال ابن حبيب:

(3/203)


يعيدهما أبدًا وقال الشافعية: لو جمع بينهما في وقت المغرب في أرض عرفات أو في الطريق أو صلّى كل صلاة في وقتها جاز وإن خالف الأفضل، وفي الحديث تخصيص لعموم الأوقات المؤقتة للصلوات الخمس ببيان فعله عليه الصلاة والسلام.
(فجاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ) أي الوضوء فحذف المفعول. قال الخطابي: إنما ترك إسباغه حين نزل الشعب ليكون مستصحبًا للطهارة في طريقه وتجوز فيه لأنه لم يرد أن يصلّي به، فلما نزل المزدلفة وأرادها أسبغه، ويحتمل أن يكون تجديدًا وأن يكون عن حدث طرأ، واستبعد القول بأن المراد بقوله: لم يسبغ الوضوء اللغوي وأبعد منه أن المراد به الاستنجاء، ومما يقوّي استبعاده رواية المؤلّف السابقة في باب: الرجل يوضئ صاحبه عن أسامة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عدل إلى الشعب فقضى حاجته فجعلت أصب الماء عليه ويتوضأ إذ لا يجوز أن يصب عليه أسامة إلا وضوء الصلاة لأنه كان لا يقرب منه أحد وهو على حاجته.
(ثم أقيمت الصلاة فصلّى) عليه الصلاة والسلام بالناس (المغرب) أي قبل حط الرحال كما جاء مصرحًا به في رواية أخرى، (ثم أناخ كل إنسان) منا (بعيره في منزله ثم أقيمت الصلاة فصلّى) عليه الصلاة والسلام بالناس صلاة العشاء (ولم يصل) نفلاً (بينهما) لأنه يخل بالجمع لأن الجمع يجعلهما كصلاة واحدة، فوجب الولاء كركعات الصلاة، ولولا اشتراط الولاء لما ترك عليه الصلاة والسلام الرواتب، لكن هذا فيه تفصيل بين جمع التقديم فيخل وبين جمع التأخير فلا كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه عن قريب، والله الموفق.

96 - باب مَنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَلَمْ يَتَطَوَّعْ
(باب من جمع بينهما) أي بين العشاءين بالمزدلفة (ولم يتطوع) بينهما ولا على أثر واحدة منهما.
1673 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "جَمَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ. كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، وَلاَ عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا".

وبالسند قال: (حدّثنا آدم) بن أبي أياس عبد الرحمن قال: (حدّثنا ابن أبي ذئب) هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سالم بن عبد الله) بن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال):
(جمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بين المغرب والعشاء بجمع) بسكون الميم بعد فتح الجيم أي المزدلفة وسقط لأبي ذر لفظة بين فقوله المغرب نصب على المفعولية والعشاء عطف عليه (كل واحدة منهما) من العشاءين (بإقامة ولم يسبح) أي لم يتنفل (بينهما ولا على إثر كل واحدة منهما) بكسر الهمزة وسكون المثلثة من أثر بمعنى أثر بفتحتين أي عقبها أي لم يصل بعد كل واحدة منهما، وليس المراد أنه لم يتنفل لا بينهما ولا بعدهما لأن المنفي التعقيب لا المهلة، وحينئذ فلا ينافي قولهم باستحباب تأخير سنة العشاءين عنهما، ومذهب الشافعية: أنه إذا جمع بين الظهر والعصر قدّم سنة الظهر التي قبلها وله تأخيرها سواء جمع تقديمًا أو تأخيرًا، وتوسيطها إن جمع تأخيرًا سواء قدم الظهر أو العصر وأخر سنتها التي بعدها، وله توسيطها إن جمع تأخيرًا وقدم الظهر وأخر عنهما سنة العصر، وله توسيطها وتقديمها إن جمع تأخيرًا سواء قدم الظهر أم العصر وإذا جمع بين المغرب والعشاء أخر سنتهما، وله توسيط سنة المغرب إن جمع تأخيرًا وقدم المغرب، وتوسيط سنة العشاء إن جمع تأخيرًا وقدم العشاء وما سوى ذلك ممنوع، وهذا كله بناء على أن الترتيب والولاء شرطان في جمع التقديم دون جمع التأخير، والأولى من ذلك تقديم سنة الظهر أو المغرب القدمة وتأخير ما سواها على كل تقدير.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في الحج وكذا النسائي.
1674 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلاَلٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الأَنْصَارِيُّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ". [الحديث 1674 - طرفه في: 4414].
وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون الخاء البجلي قال: (حدّثنا سليمان بن بلال) هو سليمان بن أيوب بن بلال القرشي قال: (حدّثنا يحيى بن سعيد) الأنصاري (قال: أخبرني) بالإفراد (عدي بن ثابت) هو عدي بن أبان بن ثابت الأنصاري (قال: حدثني) بالإفراد (عبد الله بن يزيد الخطمي) بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة نسبة إلى خطمة فخذ من الأوس ويزيد من الزيادة (قال: حدثني) بالإفراد (أبو أيوب) خالد (الأنصاري) -رضي الله عنه-.
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع في حجة الوداع المغرب والعشاء بالمزدلفة) أي: ولم يصل بينهما تطوّعًا، وقد سبق قريبًا أنه يسنّ التطوّع على التفصيل السابق. نعم لا يسنّ التنفل المطلق لا بين الصلاتين ولا على

(3/204)


أثرهما لئلا ينقطع عن المناسك. وهذا الحديث أخرجه المؤلّف في المغازي ومسلم في المناسك والنسائي في الصلاة وابن ماجة في الحج.

97 - باب مَنْ أَذَّنَ وَأَقَامَ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا
(باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما) أي من العشاءين بالمزدلفة.
1675 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ: "حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ -رضي الله عنه-، فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الأَذَانِ بِالْعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَ رَجُلاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ، وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَمَرَ -أُرَى رَجُلاً- فَأَذَّنَ وَأَقَامَ" قَالَ عَمْرٌو لاَ أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلاَّ مِنْ زُهَيْرٍ - "ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ. فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ: لاَ يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلاَّ هَذِهِ الصَّلاَةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: هُمَا صَلاَتَانِ تُحَوَّلاَنِ عَنْ وَقْتِهِمَا: صَلاَةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ، وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ، قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهُ". [الحديث 1675 - طرفاه في: 1682، 1683].
وبالسند قال: (حدّثنا عمرو بن خالد) بفتح العين قال: (حدّثنا زهير) هو ابن معاوية بن خديج الجعفي قال: (حدّثنا أبو إسحاق) السبيعي (قال: سمعت عبد الرحمن بن بزيد) من الزيادة حال كونه (يقول: حج عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) زاد النسائي هنا: فأمرني علقمة أن ألزمه فلزمته (فأتينا المزدلفة حين الأذان بالعتمة) أي وقت العشاء الأخيرة (أو قريبًا من ذلك)، أي من مغيب الشفق (فأمر رجلاً) لم يعلم اسمه ويحتمل أن يكون هو عبد الرحمن بن يزيد (فأذن وأقام، ثم صلّى المغرب، وصلّى بعدها ركعتين)، سنتها (ثم دعا بعشائه) بفتح العين ما يتعشى به من المأكول (فتعشى ثم أمر -أرى رجلاً-) بضم الهمزة يعني أنه أمر فيما يظنه لا فيما يعلمه يقينًا (فأذن وأقام قال عمرو:) شيخ المؤلّف (لا أعلم الشك) في قوله أرى فأذن وأقام (إلا من زهير) المذكور في السند، وقد أخرجه الإسماعيلي من طريق الحسن بن موسى عن زهير مثل ما رواه عمر وعنه ولم يقل ما قاله عمرو، (ثم صلّى العشاء ركعتين) فيه الأذان والإقامة لكل من الصلاتين، وهذا مذهب مالك. قال ابن عبد البر: وليس لهم في ذلك حديث مرفوع اهـ.
لكن حمل الطحاوي حديث ابن مسعود هذا على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم، قال الحافظ ابن حجر: ولا يخفى تكلفه وقد اختلفت طرف الحديث في الأذان والإقامة للصلاتين على ستة أوجه:
الإقامة لكل منهما بغير أذان كما سبق قريبًا من حديث ابن عمر.
أو الإقامة لهما مرة واحدة. رواه مسلم وأبو داود والنسائي من حديث سعيد بن جبير عن ابن عمر.

أو الأذان مرة مع إقامتين رواه مسلم وغيره في حديث جابر الطويل وهو الصحيح من مذهب الشافعية والحنابلة.
أو مع الأذان إقامة واحدة رواه النسائي من رواية سعيد بن جبير عن ابن عمر وهو مذهب الحنفية، أو الأذان والإقامة لكل منهما كما في حديث هذا الباب ورواه النسائي أيضًا.
وقول ابن عبد البر: لا أعلم في هذا الباب حديثًا مرفوعًا إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بوجه تعقبه الحافظ زين الدين العراقي في شرح الترمذي بأن ابن مسعود قال: في آخر هذا الحديث كما سيأتي إن شاء الله تعالى: رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعله فإن أراد به جمع ما ذكره في الحديث فهو إذًا مرفوع وإن أراد به كون هاتين الصلاتين في هذين الوقتين وهو الظاهر فيكون ذكر الأذانين والإقامتين موقوفًا عليه اهـ.
والوجه السادس: ترك الأذان والإقامة فيهما رواه ابن حزم في حجة الوداع عن طلق بن حبيب عن ابن عمر من فعله، ويمكن الجمع بين أكثرها فقوله: بإقامة واحدة أي لكل صلاة أو على صفة واحدة لكل منهما ويتأيد برواية من صرح بإقامتين، وقول من قال: كل واحدة بإقامة أي ومع إحداهما بأذان، ويدل عليه رواية من قال بأذان وإقامتين. ومذهب الشافعية: أنه يسن الأذان للفرض الأول دون الثاني في جمع التقديم لفعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعرفة رواه مسلم. وحفظًا للولاء ويسن للفرض الثاني في جمع التأخير أن ابتدأ بالفرض الثاني لأنه في وقته ولم يتقدمه فرض دون الأول لأنه كالفائت فإن ابتدأ بالأول فلا يؤذن له كالفائت على ما صححه الرافعي ولا للثاني لتبعيته للأول وحفظًا للولاء، ولأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع بين العشاءين بمزدلفة بإقامتين كما في الحديث السابق في الباب الذي قبل هذا الباب، ونص عليه الشافعي كما رأيته في المعرفة للبيهقي بلفظ قال الشافعي: ويصلّي بالمزدلفة بإقامتين إقامة للمغرب وإقامة للعشاء ولا أذان، لكن الأظهر في الروضة أنه يؤذن للفرض الأول لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جمع بينهما بمزدلفة بأذان وإقامتين كما رواه الشيخان من حديث جابر وهو مقدم على الذي قبله لأن معه زيادة علم.
(فلما طلع الفجر) أي صلّى صلاة الفجر فالجواب محذوف، وللمستملي والكشميهني وابن عساكر: فلما حين طلع الفجر

(3/205)


أي لما كان طلوعه وفي نسخة: فلما كان حين طلع الفجر.
قال في المصابيح: الظاهر أن كان تامة وحين فاعلها غير أنه أضيف إلى الجملة الفعلية التي صدرها ماض فبني على المختار ويجوز فيه الإعراب، وقال الزركشي: ويروى: فلما أحس وقت طلوع الفجر من الإحساس (قال):
(إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان لا يصلّي هذه الساعة) بالنصب (إلا هذه الصلاة) بالنصب أيضًا (في هذا المكان من هذا اليوم) (قال عبد الله): يعني ابن مسعود (هما صلاتان تحولان) بالمثناة الفوقية المضمومة أو بالتحتية مع فتح الواو المشددة (عن وقتهما): المستحب المعتاد، وليس المراد بالتحويل إيقاعهما قبل

دخول الوقت المحدود لهما في الشرع قاله المهلب (صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة)، وقت العشاء (والفجر حين يبزغ الفجر)، بزاي مضمومة وغين معجمة أي يطلع فتحوّلت بتقديمها عن الوقت الظاهر لكل أحد فقدمت إلى وقت منهم من يقول طلع الفجر، ومنهم من يقول: لم يطلع لكن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تحقق طلوعه إما بوحي أو بغيره، والمراد به المبالغة في التغليس على باقي الأيام ليتسع الوقت لما بين أيديهم من أعمال يوم النحر من المناسك.
(قال) أي ابن مسعود: (رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعله) الظاهر أن الضمير يرجع إلى فعل الصلاتين في هذين الوقتين أو إلى جميع ما ذكره فيكون مرفوعًا كما سبق قريبًا تقريره.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا وكذا النسائي.

98 - باب مَنْ قَدَّمَ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ بِلَيْلٍ، فَيَقِفُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَيَدْعُونَ، وَيُقَدِّمُ إِذَا غَابَ الْقَمَرُ
(باب من قدم ضعفة أهله) بفتح الضاد المعجمة والعين المهملة جمع ضعيف النساء والصبيان والمشايخ العاجزين وأصحاب الأمراض ليرموا قبل الزحمة (بليل) أي في ليل من منزله بجمع (فيقفون بالمزدلفة) عند المشعر الحرام أو عند غيره منها (ويدعون) ويذكرون بها (ويقدم) بكسر الدال المشددة (إذا غاب القمر) عند أوائل الثلث الأخير، فهو بيان لقوله: بليل إذ هو شامل لجميع أجزائه فبينه بقوله إذا غاب القمر.
1676 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَالِمٌ "وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلاَةِ الْفَجْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوُا الْجَمْرَةَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبالسند قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام المصري (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري المدني. (قال سالم): هو ابن عبد الله بن عمر بن الخطاب (وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقدم ضعفة أهله) النساء والصبيان والعاجزين من منزله الذي نزله بالمزدلفة إلى منى خوف التأذي بالاستعجال والازدحام (فيقفون عند المشعر) بفتح الميم المشعر ويجوز كسرها (الحرام بالمزدلفة) الذي يحرم فيه الصيد وغيره لأنه من الحرم أو لأنه ذو حرمة وسمي مشعرًا فيما قاله الأزهري لأنه معلم للعبادة، وهو كما قاله النووي كابن

الصلاح جبل صغير بآخر المزدلفة يقال له: "قزح" بضم القاف وفتح الزاي آخره حاء مهملة وهو منها لأنه ما بين مأزمي عرفة ووادي محسر.
وقد استبدل الناس الوقوف به على بناء محدث هناك يظنونه المشعر وليس كما يظنون، لكن يحصل بالوقوف عنده أصل السنة أي وكذا بغيره من مزدلفة على الأصح، وقال المحب الطبري: هو بأوسط المزدلفة وقد بني عليه بناء، ثم حكى كلام ابن الصلاح ثم قال: والظاهر أن البناء إنما هو على الجبل والمشاهدة تشهد له. قال: ولم أر ما ذكره ابن الصلاح لغيره. وقال ابن الحاج: المزدلفة والمشعر وأجمع وقزح أسماء مترادفة اهـ.
والمعروف أن المشعر موضع خاص بالمزدلفة ويحصل أصل السنّة بالمرور وإن لم يقف كما في عرفة. نقله في الكفاية عن القاضي وأقره (بليل) أي في ليل (فيذكرون الله عز وجل) ويدعونه (ما بدا لهم) من غير همز أي ما ظهر لهم وسنح في خواطرهم وأرادوا (ثم يرجعون) إلى منى، ولمسلم: ثم يدفعون. قال في الفتح: وهو أظهر (قبل أن يقف الإمام) بالمشعر الحرام أو بالمزدلفة، ولأبي الوقت: ثم يرجعون ما بدا لهم قبل أن يقف الإمام (وقبل أن يدفع) إلى منى، (فمنهم من يقدم) بفتح الياء والدال وسكون القاف بينهما (منى) بالصرف (لصلاة الفجر) أي عند صلاة الفجر فاللام للتوقيت لا للعلة، (ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة) الكبرى وهي جمرة العقبة.
(وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول: أرخص)

(3/206)


بهمزة مفتوحة وسكون الراء فعل ماض وفاعله الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي بعض الروايات كما في الفتح: رخص بدون همزة وتشديد الخاء وهو أوضح في المعنى لأنه من الترخيص ضد العزيمة لا من الرخص ضد الغلاء (في أولئك) أي الضعفة (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
1677 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ". [الحديث 1677 - طرفاه في: 1678، 1856].
وبه قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا حماد بن زيد) هو ابن درهم (عن أيوب) السختياني (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال) "بعثني رسول الله" ولأبي ذر وابن عساكر: النبي "-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من جمع" بفتح الجيم وسكون الميم من المزدلفة (بليل) قيده الشافعي وأصحابه بالنصف الثاني.
1678 - حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- يَقُولُ "أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ".

وبه قال: (حدّثنا علي) هو ابن عبد الله المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله بن أبي يزيد) بضم العين مصغرًا المكي مولى آل قارظ بن شيبة الكناني أنه (سمع ابن عباس -رضي الله عنهما- يقول) "أنا ممن قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة المزدلفة في ضعفه أهله" إلى منى.
1679 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ "أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي، فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: يَا بُنَىَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: لاَ. فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ: هَلْ غَابَ الْقَمَرُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قُلْتُ: فَارْتَحِلُوا، فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا، حَتَّى رَمَتِ الْجَمْرَةَ، ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتِ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا. فَقُلْتُ لَهَا: يَا هَنْتَاهْ، مَا أُرَانَا إِلاَّ قَدْ غَلَّسْنَا. قَالَتْ: يَا بُنَىَّ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَذِنَ لِلظُّعُنِ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد عن يحيى) القطان (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (قال: حدثني) بالإفراد ولأبي ذر، وابن عساكر: حدّثنا (عبد الله) بن كيسان (مولى أسماء) بنت أبي بكر (عن أسماء) -رضي الله عنها- (أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة فقامت تصلي فصلت ساعة ثم قالت:) لعبد الله بن كيسان (يا بني) بضم الموحدة مصغرًا (هل غاب القمر؟) قال ابن كيسان (قلت: لا، فصلت ساعة ثم قالت؟) له (هل) ولأبي ذر: ثم قالت: يا بني هل (غاب القمر؟) قال: (قلت: نعم) غاب (قالت: فارتحلوا) بكسر الحاء أمر من الارتحال (فارتحلنا ومضينا) بها ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: فمضينا بفاء العطف بدل الواو (حتى رمت الجمرة) الكبرى (ثم رجعت) إلى منزلها بمنى (فصلت الصبح في منزلها).
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح على شرط مسلم عن عائشة -رضي الله عنها-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت، واستدلّ به على أنه يدخل وقت الرمي بنصف ليلة النحر، ووجهه أنه عليه الصلاة والسلام علق الرمي بما قبل الفجر وهو صالح لجميع الليل ولا ضابط له فجعل النصف ضابطًا لأنه أقرب إلى الحقيقة مما قبله ولأنه وقت به للدفع من مزدلفة ولأذان الصبح فكان وقتًا للرمي كما بعد الفجر ومذهب المالكية والحنفية يحل بطلوع الفجر وقبله لغو حتى للنساء والضعفة، والرخصة في الدفع ليلاً إنما هي في الدفع خوف الزحام والأفضل الرمي من طلوع الشمس.
وفي سنن أبي داود بإسناد حسن من حديث ابن عباس: أنه عليه الصلاة والسلام قال لغلمان بني عبد المطلب: "لا ترموا حتى تطلع الشمس" وإذا كان من رخص له منع أن يرمي قبل طلوع الشمس فمن لم يرخص له أولى، وقد جمعوا بين حديث ابن عباس هذا وحديث الباب بحمل الأمر في حديث ابن عباس على الندب، ويؤيده حديث ابن عباس عند الطحاوي قال: بعثني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر.

(فقلت لها يا هنتاه) بفتح الهاء وسكون النون وبعد المثناة الفوقية ألف آخره هاء ساكنة أي يا هذه (ما أرانا) بضم الهمزة أي ما أظن (إلا قد غلّسنا) بفتح الغين المعجمة وتشديد اللام وسكون السين المهملة أي تقدمنا على الوقت المشروع (قالت: يا بني إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أذن للظعن) بضم الظاء المعجمة والعين المهملة ويجوز سكونها جمع ظعينة المرأة في الهودج، واستدلّ بقولها: أذن على عدم وجوب المبيت بالمزدلفة إذ لو كان واجبًا لم يسقط بعذر الضعف كالوقوف بعرفة وهو مذهب المالكية.
قال الشيخ خليل: وندب بياته بها وإن لم ينزل فالدم أي على الأشهر وهذا ما صححه الرافعي، وصحح النووي وجوبه على غير المعذور بخلاف المعذور كالرعاء وأهل سقاية العباس أو له مال يخاف تلفه بالمبيت أو مريض يحتاج إلى تعهده أو أمر يخاف فوته.
قال النووي: ويحصل المبيت بمزدلفة بحضورها لحظة في النصف الثاني كالوقوف بعرفة نص عليه في الأم، وبه قطع جمهور العراقيين وأكثر الخراسانيين وقيل: يشترط

(3/207)


معظم الليل كما لو حلف لا يبيتنّ بموضع لا يحنث إلا بمعظم الليل، وهذا صححه الرافعي ثم استشكله من جهة أنهم لا يصلونها حتى يمضي ربع الليل مع جواز الدفع منها بعد نصف الليل، وقال أبو حنيفة: بوجوب المبيت أيضًا.
1680 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ -هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ- عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتِ: اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ جَمْعٍ -وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً- فَأَذِنَ لَهَا". [الحديث 1680 - طرفه في: 1681].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري وهو ثقة ولم يصب من ضعفه قال: (أخبرنا سفيان) الثوري قال: (حدّثنا عبد الرحمن هو ابن القاسم عن القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق والقاسم هو والد عبد الرحمن (عن عائشة) عمة القاسم (-رضي الله عنها- قالت) (استأذنت سودة) بنت زمعة أم المؤمنين (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة جمع -وكانت ثقيلة-) من عظم جسمها (وثبطة) بسكون الموحدة بعد المثلثة المفتوحة، ولأبي ذر: ثبطة بكسرها أي بطيئة الحركة. وفي مسلم عن القعنبي عن أفلح بن حميد أن تفسير الثبطة بالثقيلة من القاسم راوي الحديث، وحينئذ فيكون قوله في هذه الرواية ثقيلة ثبطة من الإدراج الواقع قبل ما أدرج عليه وأمثلته قليلة جدًّا، وسببه أن الراوي أدرج التفسير بعد الأصل فظن الراوي الآخر أن اللفظين ثابتان في أصل المتن فقدم وأخر قاله في الفتح. "فأذن لها" -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ولم يذكر محمد بن كثير شيخ المؤلّف عن سفيان ما استأذنته سودة فيه فلذلك عقبه المؤلّف بطريق أفلح عن القاسم المبينة لذلك، فقال بالسند السابق إليه في أول هذا المجموع:
1681 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: "نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ، فَاسْتَأْذَنَتِ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ- وَكَانَتِ امْرَأَةً

بَطِيئَةً- فَأَذِنَ لَهَا، فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ، وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ، ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ، فَلأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَىَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ".
(حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا أفلح بن حميد) الأنصاري (عن القاسم بن محمد) والد عبد الرحمن المذكور في سند الحديث السابق (عن) عمته (عائشة -رضي الله عنها- قالت) "نزلنا المزدلفة فاستأذنت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سودة" بنت زمعة -رضي الله عنها- "أن تدفع" أي أن تتقدم إلى منى "قبل حطمة الناس" بفتح الحاء وسكون الطاء المهملتين أي قبل زحمتهم لأن بعضهم يحطم بعضًا من الزحام "وكانت" سودة "امرأة بطيئة فأذن لها" -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "فدفعت" إلى منى "قبل حطمة الناس وأقمنا حتى أصبحنا نحن ثم دفعنا بدفعه" -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
قالت عائشة: (فلأن أكون) بفتح اللام (استأذنت رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما استأذنت سودة) أي كاستئذان سودة فما مصدرية والجملة معترضة بين المبتدأ الذي هو قوله: فلأن أكون وبين خبره وهو قوله: (أحب إليّ من) كل شيء (مفروح به) وأسره، وهذا كقوله في الحديث الآخر: أحب إليّ من حمر النعم.
قال أبو عبد الله الأبي رحمه الله: الشائع في كلام الفخر والأصوليين أن ذكر الحكم عقب الوصف المناسب يشعر بكونه علة فيه، وقول عائشة هذا يدل على أنه لا يشعر بكونه علة لأنه لو أشعر بكونه علة لم ترد لك لاختصاص سودة بذلك الوصف إلا أن يقال: إن عائشة نقحت المناط ورأت أن العلة إنما هي الضعف والضعف أعم من أن يكون لثقل الجسم أو غيره كما قال: أذن لضعفة أهله، ويحتمل أنها قالت ذلك لأنها شركتها في الوصف لما روي أنها قالت: سابقت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فسبقته فلما ربيت اللحم سبقني.

99 - باب مَنْ يُصَلِّي الْفَجْرَ بِجَمْعٍ
(باب من) وللأربعة: متى (يصلّي الفجر بجمع) وهو أوضح من الأول.
1682 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ "مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى صَلاَةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا، إِلاَّ صَلاَتَيْنِ: جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) بكسر المعجمة آخره مثلثة قال: (حدّثنا أبي) حفص بن غياث بن طلق النخعي قاضي الكوفة قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران (قال: حدثني) بالإفراد (عمارة) ابن عمير التيمي (عن عبد الرحمن) بن يزيد النخعي (عن عبد الله) يعني ابن مسعود (-رضي الله عنه- قال) (ما رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلى صلاة بغير ميقاتها) المعتاد ولأبي ذر: لغير

باللام بدل الموحدة (إلا صلاتين جمع بين المغرب والعشاء) جمع تأخير قال النووي: احتج الحنفية بقول ابن مسعود: ما رأيته عليه الصلاة والسلام صلّى إلا صلاتين على منع الجمع بين الصلاتين في السفر، وجوابه أنه مفهوم وهم لا يقولون به ونحن نقول به إذا لم يعارضه منطوق، وقد تظاهرت الأحاديث على جواز الجمع ثم هو متروك الظاهر بالإجماع في صلاتي الظهر والعصر بعرفات، وقد تعقبه العيني في قوله: إنه مفهوم وهم لا يقولون به فقال: لا نسلم هذا على إطلاقه وإنما لا يقولون بالمفهوم المخالف قال:

(3/208)


وما ورد في الأحاديث من الجمع بين الصلاتين في السفر فمعناه الجمع بينهما فعلاً لا وقتًا اهـ. فليتأمل.
(وصلّى الفجر) حين طلوعه (قبل ميقاتها) المعتاد مبالغة في التبكير ليتسع الوقت لفعل ما يستقبل من المناسك وإلاّ فقد كان يؤخرها في غير هذا اليوم حتى يأتيه بلال، وليس المراد أنه صلاها قبل الفجر إذ هو غير جائز بالاتفاق.
ورواة هذا الحديث كلهم كوفيون، وأخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في الحج.
1683 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ "خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- إِلَى مَكَّةَ، ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلاَتَيْنِ: كُلَّ صَلاَةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ -قَائِلٌ يَقُولُ طَلَعَ الْفَجْرُ، وَقَائِلٌ يَقُولُ لَمْ يَطْلُعِ الْفَجْرُ- ثُمَّ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلاَتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ: الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، فَلاَ يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا، وَصَلاَةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ. ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ، ثُمَّ قَالَ: لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ. فَمَا أَدْرِي أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ -رضي الله عنه-، فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن رجاء) بفتح الراء والجيم مولى ابن عمرو يقال ابن المثنى بدل عمر الغداني بضم المعجمة وتخفيف الدال المهملة البصري. قال أبو حاتم: كان ثقة رضا. قال ابن معين: ليس به بأس، وقال عمرو بن الفلاس: كان كثير الغلط والتصحيف ليس بحجة اهـ.
وقد لقيه المؤلّف وحدث عنه بأحاديث يسيرة وروى له النسائي وابن ماجة قال: (حدّثنا إسرائيل) بن يونس (عن) جده (أبي إسحاق) عمرو بن عبيد الله السبيعي (عن عبد الرحمن بن يزيد) النخعي الكوفي (قال: خرجنا) بلفظ الجمع، ولأبي ذر: خرجت (مع عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه- إلى مكة، ثم قدمنا جمعًا) بفتح الجيم وسكون الميم أي المزدلفة من عرفات (فصلّى الصلاتين): المغرب والعشاء (كل صلاة) بنصب كل أي صلّى كل صلاة منهما (وحدها بأذان وإقامة، والعشاء بينهما:) بكسر العين في فرع اليونينية وغيره، وفي بعض الأصول وهو الذي في اليونينية: والعشاء بفتحها وهو الصواب لأن المراد به الطعام أي أنه تعشى بين الصلاتين وقد وقع مبينًا فيما

سبق بلفظ: إنه دعا بعشائه فتعشى ثم صلّى العشاء. قال عياض: وإنما فعل ذلك لينبه على أنه يغتفر الفصل اليسير بينهما، والواو في قوله والعشاء للحال. (ثم صلّى الفجر حين طلع الفجر قائل) كذا في فرع اليونينية قائل بغير واو وفي غيره: وقائل بإثباتها (يقول طلع الفجر، وقائل يقول لم يطلع الفجر، ثم قال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إن هاتين الصلاتين حولتا) غيرتا (عن وقتهما) المعتاد (في هذا المكان) المزدلفة قال البلقيني فيما نقله عنه صاحب اللامع: لعل هذا مدرج من كلام ابن مسعود، ففي باب: من أذن وأقام قال عبد الله: هما صلاتان محوّلتان. قال: وحكى البيهقي عن أحمد ترددًا في أنه مرفوع أو مدرج، ثم جزم البيهقي بأنه مدرج، وأجاب البرماوي. بأنه لا تنافي بين الأمرين فمرة رفع ومرة وقف (المغرب والعشاء) بالنصب فيهما. قال الزركشي: بدل من اسم أن وكذا صلاة الفجر، وتعقبه الدماميني: بأن المبدل منه مثنى فلا يبدل منه بدل كل إلا ما يصدق عليه المثنى وهو اثنان فحينئذ المغرب وصلاة الفجر مجموعهما هو البدل، ويحتمل أن يكون نصبهما بفعل محذوف أي أعني المغرب وصلاة الفجر اهـ.
ويجوز الرفع فيهما على أن المغرب خبر مبتدأ محذوف تقديره إحدى الصلاتين المغرب، وسقط في رواية ابن عساكر: والعشاء.
(فلا يقدم الناس جمعًا) أي المزدلفة بفتح دال يقدم بعد سكون قافها (حتى يعتموا)، بضم أوله وكسر ثالثه من الإعتام أي يدخلوا في العتمة وهو وقت العشاء الأخيرة (وصلاة الفجر) بالنصب، ولأبي ذر: صلاة بالرفع كإعراب المغرب فيهما السابق (هذه الساعة) بالنصب أي بعد طلوع الفجر قبل ظهوره للعامة.
(ثم وقف) ابن مسعود -رضي الله عنه- بمزدلفة أو بالشعر الحرام (حتى أسفر) أضاء الصبح وانتشر ضوءه (ثم قال): (لو أن أمير المؤمنين) عثمان -رضي الله عنه- (أفاض الآن) عند الإسفار قبل طلوع الشمس (أصاب السنة) التي فعلها رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خلافًا لما كانت عليه الجاهلية من الإفاضة بعد طلوع الشمس كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الباب التالي.
قال عبد الرحمن بن يزيد الراوي عن ابن مسعود: (فما أدري أقوله) أي أقول ابن مسعود لو أن أمير المؤمنين أفاض الخ. (كان أسرع أم دفع عثمان -رضي الله عنه-) أي: أسرع. ووقع في شرح الكرماني وتبعه البرماوي أن القائل: فما أدري الخ. هو ابن مسعود نفسه وهو خطأ كما قاله في فتح الباري. قال: ووقع في رواية جرير بن حازم عن أبي أسحق عند أحمد من الزيادة في هذا الحديث أن نظير هذا القول صدر من ابن مسعود عند الدفع من عرفة أيضًا ولفظه: فلما وقفنًا

(3/209)


بعرفة غابت الشمس فقال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب. قال: فما أدري أكلام ابن مسعود أسرع أو إفاضة عثمان؟ الحديث.
(فلم يزل) أي ابن مسعود (يلبي حتى رمى جمرة العقبة يوم النحر) أي ابتدأ الرمي لأخذه في أسباب التحلل، وسيأتي إن شاء الله تعالى البحث في التلبية بعد باب.

100 - باب مَتَى يُدْفَعُ مِنْ جَمْعٍ
هذا (باب) بالتنوين (متى يدفع) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول، ولأبي ذر: يدفع بفتح أوله مبنيًا للفاعل أي متى يدفع الحاج (من جمع) من المزدلفة بعد الوقوف بالمشعر الحرام.
1684 - حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مِنْهَالٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ سَمِعْتُ عَمْرَو بْنَ مَيْمُونٍ يَقُولُ "شَهِدْتُ عُمَرَ -رضي الله عنه- صَلَّى بِجَمْعٍ الصُّبْحَ، ثُمَّ وَقَفَ فَقَالَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لاَ يُفِيضُونَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَيَقُولُونَ: أَشْرِقْ ثَبِيرُ. وَأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَالَفَهُمْ، ثُمَّ أَفَاضَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ". [الحديث 1684 - طرفه في: 1838].
وبالسند قال: (حدّثنا حجاج بن منهال) بكسر الميم وسكون النون الأنماطي البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) السبيعي قال: (سمعت عمرو بن ميمون) بالتنوين وعمرو بفتح العين وسكون الميم ابن مهران البصري (يقول: شهدت عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- صلّى بجمع) بالمزدلفة (الصبح ثم وقف) بالمشعر الحرام (فقال: إن المشركن كانوا لا يفيضون) بضم أوله من الإفاضة أي لا يدفعون من المزدلفة إلى منى (حتى تطلع الشمس)، وعند الطبري من رواية عبيد الله بن موسى عن سفيان حتى يروا الشمس على ثبير (ويقولون: أشرق ثبير) بفتح الهمزة وسكون الشين المعجمة وكسر الراء وجزم القاف فعل أمر من الإشراق، وثبير بفتح المثلثة وكسر الموحدة والضم منادى حذف منه حرف النداء وزاد أبو الوليد عن شعبة عند الإسماعيلي كيما نغير، وفي بعض الأصول ثبير كنغير لإرادة السجع. قال النووي: هو جبل عظيم بالمزدلفة على يسار الذاهب إلى منى ويمين الذاهب إلى عرفات وإنه المذكور في صفة الحج والمراد في مناسك الحج اهـ.
ومراده ما ذكر في المناسك أنه يستحب المبيت بمنى ليلة تاسع ذي الحجة، فإذا طلعت الشمس وأشرقت على ثبير يسيرون إلى عرفات. قال صاحب تحصيل المرام في تاريخ البلد الحرام: وهذا غير مستقيم لأنه يقتضي أن ثبيرًا المذكور في صفة الحج بالمزدلفة وإنما هو بمنى على ما ذكره المحب الطبري في شرح التنبيه، بل قال المجد الشيرازي في كتاب الوصل والمنى في بيان فضل منى أن قول النووي مخالف لإجماع أئمة اللغة والتواريخ. وقال في القاموس: وثبير الأثبرة وثبير الخضراء والنصع والزنج والأعرج والأحدب وغيناء جبال بظاهر مكة اهـ.
وسمي برجل من هذيل اسمه ثبير دفن به، والمعنى لتطلع عليك الشمس وكيما نغير بالنون أي نذهب سريعًا يقال أغار يغير إذا أسرع في العدو، وقيل نغير على لحوم الأضاحي أي ننهبها.

(وأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح همزة وأن وفي بعض النسخ بكسرها (خالفهم)، فأفاض حين أسفر قبل طلوع الشمس، (ثم أفاض) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو ابن مسعود والمعتمد الأول لعطفه على قوله خالفهم، وفي حديث جابر الطويل عند مسلم: فلم يزل واقفًا أي عند المشعر الحرام حتى أسفر جدًّا فدفع (قبل أن تطلع الشمس)، ولابن خزيمة عن ابن عباس فدفع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أسفر كل شيء قبل أن تطلع الشمس وهذا مذهب الشافعي والجمهور، وقال مالك في المدوّنة: ولا يقف أحد به أي بالمشعر الحرام إلى طلوع الفجر والإسفار، ولكن يدفع قبل ذلك وإذا أسفر ولم يدفع الإمام دفع الناس وتركوه، واحتج له بعض أصحابه بأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يعجل الصلاة مغلسًا إلا ليدفع قبل الشمس فكلما بعد دفعه من طلوع الشمس كان أولى، وهذا موضع الترجمة.

101 - باب التَّلْبِيَةِ وَالتَّكْبِيرِ غَدَاةَ النَّحْرِ حِينَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ، وَالاِرْتِدَافِ فِي السَّيْرِ
(باب التلبية والتكبير غداة النحر حين يرمي الجمرة) الكبرى، ولأبي ذر عن الكشميهني: حتى قال في الفتح وهو أصوب (والارتداف) بالجر عطفًا على المجرور السابق وهو الركوب خلف الراكب (في السير) من المزدلفة إلى منى.
1685 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْدَفَ الْفَضْلَ، فَأَخْبَرَ الْفَضْلُ أَنَّهُ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى الْجَمْرَةَ".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد) بفتح الميم واللام بينهما معجمة ساكنة النبيل البصري قال: (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز الأموي (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن ابن عباس) عبد الله (-رضي الله عنهما- أن النبي). ولأبي الوقت أن رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أردف الفضل) بن العباس من المزدلفة إلى منى (فأخبر الفضل) أخاه عبد الله (أنه) عليه الصلاة والسلام (لم يزل

(3/210)


يلبي حتى رمى الجمرة) الكبرى وهي جمرة العقبة.
1686 و 1687 - حَدَّثَنَا زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ يُونُسَ الأَيْلِيِّ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ -رضي الله عنهما- كَانَ رِدْفَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ، ثُمَّ أَرْدَفَ الْفَضْلَ مِنَ الْمُزْدَلِفَةِ إِلَى مِنًى، قَالَ فَكِلاَهُمَا قَالاَ: لَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ".
وبه قال (حدّثنا زهير بن حرب) بفتح الحاء المهملة وسكون الراء آخره موحدة النسائي بالنون والسين المهملة قال: (حدّثنا وهب بن جرير) بفتح الجيم قال: (حدّثنا أبي) جرير بن حازم بن زيد

البصري (عن يونس) بن يزيد (الأيلي عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن عبيد الله بن عبد الله) بتصغير عبد الأول ابن عتبة بن مسعود أحد الفقهاء السبعة (عن ابن عباس) عبد الله (-رضي الله عنهما-): (أن أسامة بن زيد) الحب (-رضي الله عنهما- كان ردف النبي) بكسر الراء وسكون الدال، ولأبي ذر: (ردف رسول الله "-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" من عرفة إلى المزدلفة، ثم أردف) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (الفضل) بن عباس (من المزدلفة إلى منى) (قال) عبد الله بن عباس (فكلاهما) أي الفضل وأسامة (قالا:) وللأربعة قال: (لم يزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يلبي) أي في أوقات حجته (حتى رمى جمرة العقبة) غداة النحر أي عند رمي أوّل حصاة من حصيات جمرة العقبة وهذا مذهب الحنفية والشافعية، ونقل البرماوي والحافظ ابن حجر أن مذهب الإمام أحمد -رحمه الله- لا يقطعها حتى يرميها فيكون الحديث مستندًا له، والذي رأيته في تنقيح المقنع وعليه الفتوى عند الحنابلة ما نصه: ويقطع التلبية مع رمي أوّل حصاة منها، فلعل ما نقله البرماوي وصاحب الفتح قول له أيضًا وهو قول بعض الشافعية، واستدلوا له بحديث ابن عباس عن الفضل عند ابن خزيمة قال: أفضت مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من عرفات فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة يكبر مع كل حصاة ثم قطع التلبية مع آخر حصاة. قال ابن خزيمة: هذا حديث صحيح مفسر لما أبهم من الروايات الأخرى، وأن المراد بقوله: حتى رمى جمرة العقبة أي حتى أتم رميها اهـ.
وذهب الإمام مالك إلى أنه إذا راح إلى مصلّى عرفة قال ابن القاسم وذلك بعد الزوال وراح يريد الصلاة، ويى في حديثي الباب ذكر التكبير المترجم له. نعم روى البيهقي عن عبد الله بن سخبرة قال: غدوت مع عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- من منى إلى عرفة وكان رجلاً آدم له ضفيرتان عليه مسحة أهل البادية وكان يلبي فاجتمع عليه الغوغاء فقالوا: يا أعرابي إن هذا ليس يوم تلبية إنما هو التكبير، فالتفت إليّ فقال: جهل الناس أم نسوا والذي بعث محمدًا بالحق لقد خرجت معه من منى إلى عرفة فما ترك التلبية حتى رمى الجمرة إلا أن يخلطها بتكبير أو تهليل، فيحتمل أن البخاري أشار في الترجمة لهذا تشحيذًا لذهن الطالب وحثًا له على البحث.

تنبيه
وقع في هذا الحديث عند مسلم من رواية إبراهيم بن عقبة عن كريب أن أسامة بن زيد انطلق من المزدلفة في سباق قريش على رجليه، ومقتضاه أن يكون قوله هنا لم يزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يلبي مرسلاً لأنه لم يحضر ذلك، لكن أجيب: باحتمال أن يكون رجع إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصحبه إلى الجمرة والله أعلم.
وفي سند هذا الحديث تابعي عن تابعي وثلاثة من الصحابة.

102 - باب {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196]
هذا (باب) بالتنوين ({فمن تمتع بالعمرة إلى الحج}) قال البيضاوي أي فمن استمتع وانتفع بالتقريب إلى الله تعالى بالعمرة قبل الانتفاع بتقربه بالحج في أشهره ({فما استيسر من الهدي}) فعليه دم استيسر بسبب التمتع فهو دم جبران يذبحه إذا أحرم بالحج ولا يأكل منه وقال أبو حنيفة إنه دم نسك فهو كالأضحية ({فمن لم يجد}) أي الهدي ({فصيام ثلاثة أيام في الحج}) في أيام الاشتغال به بعد الإحرام وقبل التحلل. وقال أبو حنيفة: في أشهره بين الإحرامين ولا يجوز يوم النحر وأيام التشريق عند الأكثر ({وسبعة إذا رجعتم}) إلى أهليكم أو نفرتم وفرغتم من أعماله وهو مذهب أبي حنيفة ({تلك عشرة}) فذلك الحساب، وفائدتها أن لا يتوهم أن الواو بمعنى أو كقولك جالس الحسن وابن سيرين وأن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلاً، فإن أكثر العرب لم يحسنوا الحساب، وأن المراد بالسبعة العدد دون الكثرة فإنه يطلق لهما ({كاملة}) صفة مؤكدة تفيد المبالغة في محافظة العدد ({ذلك}) إشارة إلى الحكم المذكور عندنا والتمتع عند أبي حنيفة إذ لا متعة ولا قران لحاضري المسجد عنده فمن فعل

(3/211)


ذلك منهم فعليه دم جناية ({لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام}) [البقرة: 196] وهو من كان من الحرم على مسافة القصر عندنا فإن من كان على أقل فهو مقيم الحرم أو في حكمه ومن مسكنه وراء الميقات عنده وأهل الحرم عند طاوس وغير المكي عند مالك ولفظ رواية أبوي ذر والوقت {فما استيسر من الهدي} إلى قوله: {حاضري المسجد الحرام} فأسقطا بقية الآية.
1688 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا أَبُو جَمْرَةَ قَالَ "سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ الْمُتْعَةِ فَأَمَرَنِي بِهَا، وَسَأَلْتُهُ عَنِ الْهَدْيِ فَقَالَ فِيهَا جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ أَوْ شَاةٌ أَوْ شِرْكٌ فِي دَمٍ. قَالَ: وَكَأَنَّ نَاسًا كَرِهُوهَا، فَنِمْتُ فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ إِنْسَانًا يُنَادِي: حَجٌّ مَبْرُورٌ، وَمُتْعَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ. فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- فَحَدَّثْتُهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، سُنَّةُ أَبِي الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"
قَالَ وَقَالَ آدَمُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ وَغُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ "عُمْرَةٌ مُتَقَبَّلَةٌ، وَحَجٌّ مَبْرُورٌ".
وبالسند قال: (حدّثنا) بالجمع، ولابن عساكر: حدثني (إسحاق بن منصور) الكوسج المروزي قال: (أخبرنا النضر) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة ابن شميل قال: (أخبرنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا أبو جمرة) بالجيم والراء المفتوحتين بينهما ميم ساكنة نصر بن عمران الضبعي (قال: سألت ابن عباس -رضي الله عنهما- عن المتعة) أي عن مشروعيتها وهي أن يحرم بالعمرة في أشهر

الحج ويفرغ منها ثم يحج من عامه (فأمرني بها) أي فأذن لي فيها وإلا فالإفراد أفضل عند الأكثر كما مر ولم ينقل عن ابن عباس خلافه، (وسألته عن الهدي) أي عن أحكام الهدي والواجب فيها لقوله تعالى: {فمن تمتع بالعمرة} الآية (فقال) ابن عباس (فيها) أي في المتعة: (جزور) بفتح الجيم وضم الزاي على وزن فعول من الجزر وهو القطع من الإبل يقع على الذكر والأنثى (أو بقرة أو شاة) واحدة الغنم تطلق على الذكر والأنثى من الضأن والمعز، (أو شرك) بكسر الشين المعجمة وسكون الراء أي النصيب الحاصل للشريك من الشركة (في) إراقة (دم) والمراد به هنا على الوجه المصرح به في حديث أبي داود قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "البقرة عن سبعة والجزور عن سبعة" فهو من المجمل والمبين فإذا شارك غيره في سبع بقرة أو جزور أجزأ عنه.
(قال:) أي أبو جمرة (وكأن ناسًا) يعني كعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وغيرهما ممن نقل عنه الخلاف في ذلك (كرهوها) أي المتعة (فنمت فرأيت في المنام كأن إنسانًا) ولابن عساكر: كأن المنادي (ينادي حج مبرور ومتعة متقبلة فأتيت ابن عباس -رضي الله عنهما- فحدّثته)، بما رأيت (فقال:) متعجبًا من الرؤيا التي وافقت السنة (الله أكبر)، هذا (سنة أبي القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي طريقته، وليس المراد بها ما يقابل الغرض لأن السنة الإفراد على الأرجح كما مرّ، واستأنس بالرؤيا لما قام به الدليل الشرعي فإن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءأ من النبوة كما في الصحيح.
(قال، وقال آدم) بن أبي إياس فيما وصله المؤلّف في باب التمتع والإقران وسقط وقال من وقال آدم لأبي ذر (ووهب بن جرير) فيما وصله البيهقي (وغندر) وهو محمد بن جعفر البصري مما وصله أحمد عنه الثلاثة (عن شعبة عمرة متقبلة وحج مبرور) بدل قول النضر متعة قال الإسماعيلي وغيره: تفرد النضر بقوله متعة ولا أعلم أحدًا من أصحاب شعبة رواه عنه إلا قال عمرة، وهذه فائدة إتيان المؤلّف بهذا التعليق فافهم.

103 - باب رُكُوبِ الْبُدْنِ
لِقَوْلِهِ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلاَ دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج: 36]. قَالَ مُجَاهِدٌ: سُمِّيَتِ الْبُدْنَ لِبُدْنِهَا. وَالْقَانِعُ: السَّائِلُ، وَالْمُعْتَرُّ: الَّذِي يَعْتَرُّ بِالْبُدْنِ مِنْ غَنِيٍّ أَوْ فَقِيرٍ، وَشَعَائِرُ الله: اسْتِعْظَامُ الْبُدْنِ وَاسْتِحْسَانُهَا. وَالْعَتِيقُ: عِتْقُهُ مِنَ الْجَبَابِرَةِ. وَيُقَالُ وَجَبَتْ: سَقَطَتْ إِلَى الأَرْضِ، وَمِنْهُ وَجَبَتِ الشَّمْسُ.
(باب) جواز (ركوب البدن) بضم الموحدة وسكون الدال وهي الإبل أو البقر وعن عطاء فيما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه البدنة والبعير والبقرة، وعن مجاهد: لا تكون البدن إلا من الإبل وعن

بعضهم: البدنة ما يهدى من الإبل والبقرة والغنم وهو غريب (لقوله) تعالى: ({والبدن}) نصب بفعل يفسره قوله: ({جعلناها لكم من شعائر الله}) من أعلام دينه التي شرعها راتبة ({لكم فيها خير) منافع دينية ودنيوية من الركوب والحلب كما روى ابن أبي حاتم وغيره بإسناد جيد عن إبراهيم النخعي لكم فيها خير من شاء ركب ومن شاء حلب ({فاذكروا اسم الله عليها}) عند نحرها بأن تقولوا الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر اللهم منك إليك كذا روي عن ابن عباس ({صواف0.}) قائمات على ثلاثة قوائم معقولة يدها اليسرى أو رجلها اليسرى ({فإذا وجبت}) سقطت ({جنوبها}) على الأرض أي ماتت ({فكلوا منها وأطعموا القانع}) السائل من قنع إذا سأل أو فقيرًا لا يسأل من القناعة ({والمعترّ}) الذي لا يتعرض للمسألة أو هو السائل ({كذلك}) مثل ما وصفنا من نحرها قيامًا ({سخرناها لكم}) مع عظمها وقوّتها حتى تأخذوها منقادة فتعقلوها وتحبسوها

(3/212)


صافة قوائمها ثم تطعنوا في لباتها ({لعلكم تشكرون}) إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص ({لن ينال الله}) لن يصيب رضاه ولن يقع منه موقع القبول ({لحومها}) المتصدق بها ({ولا دماؤها}) المهراقة بالنحر من حيث أنها لحوم ودماء ({ولكن يناله التقوى منكم}) ولكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم من النية والإخلاص فإنها هي المتقبلة منكم ({كذلك سخرها لكم}) كررها تذكيرًا لنعمة التسخير وتعليلاً بقوله: ({لتكبروا الله}) أي لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر غيره عليه فتوحدوه بالكبرياء ({على ما هداكم}) إلى كيفية التقرب إليه تعالى بها ولتضمن تكبروا معنى تشكروا عداه بعلى ({وبشر المحسنين}) [الحج: 36 - 37] الذين أحسنوا أعمالهم وسياق الآيتين بتمامهما رواية كريمة وأما رواية أبوي ذر والوقت فالمذكور منهما قوله: ({والبدن جعلناها لكم}) إلى قوله: ({وجبت جنوبها}) ثم المذكور بعده ({جنوبها}) إلى قوله: ({وبشر المحسنين}).
(قال مجاهد: سميت البدن لبدنها) بضم الموحدة وسكون المهملة وللحموي والمستملي لبدنها بفتح الموحدة والمهملة وللكشميهني لبدانتها بفتح الموحدة والمهملة والنون وألف قبلها ومثناة فوقية بعدها أي لسمنها وأخرج عبد بن حميد من طريق ابن أبي نجيح عن مجاهد قال: إنما سميت البدن من قبل السمانة (والقانع السائل) من قنع إذا سأل (والمعتر الذي يعتر) أي يطيف (بالبدن من غني أو فقير) قال: مجاهد فيما أخرجه عبد بن حميد: القانع جارك الذي ينتظر ما دخل بيتك والمعتر الذي يعتر ببابك ويريك نفسه ولا يسألك شيئًا. وروى عنه ابن أبي حاتم القانع الطامع وقال مرة هو السائل (وشعائر الله:) المذكورة في الآية (استعظام البدن واستحسانها.) عن مجاهد فيما أخرجه عبد بن حميد أيضًا في قوله تعالى: {ومن يعظم شعائر الله} فإن استعظام البدن استحسانها واستسمانها (والعتيق) المذكور في قوله تعالى: {وليطوّفوا بالبيت العتيق} (عتقه من الجبابرة.) قال مجاهد: كما رواه عبد بن حميد أيضًا إنما سمي أي البيت العتيق لأنه عتق من الجبابرة (ويقال: وجبت) أي (سقطت إلى الأرض) هو قول ابن عباس فيما أخرجه ابن أبي حاتم والمراد به تفسير قوله: فإذا وجبت جنوبها وسقطت الواو من ويقال: (ومنه وجبت الشمس) إذا سقطت للغروب.

1689 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا. فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا. قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الثَّانِيَةِ".
[الحديث 1689 - أطرافه في: 1716، 2755، 6160].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلاً) لم يعرف اسمه (يسوق بدنة) زاد مسلم مقلدة والبدنة تقع على الجمل والناقة والبقرة وهي بالإبل أشبه وكثر استعمالها فيما كان هديًا (فقال:) له عليه الصلاة والسلام:
(اركبها) لتخالف بذلك الجاهلية في ترك الانتفاع بالسائبة والوصيلة والحام وأوجب بعضهم ركوبها لهذا المعنى عملاً بظاهر هذا الأمر وحمله الجمهور على الإرشاد لمصلحة دنيوية، واستدلوا بأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهدى ولم يركب ولم يأمر الناس بركوب الهدايا، وجزم به النووي في الروضة كأصلها في الضحايا، ونقل في المجموع عن القفال والماوردي جواز الركوب مطلقًا، ونقل فيه عن أبي حامد والبندنيجي وغيرهما تقييده بالحاجة، وفي شرح مسلم عن عروة بن الزبير ومالك في رواية عنه وأحمد وإسحاق له ركوبها من غير حاجة بحيث لا يضرها ثم قال: ودليلنا على عروة وموافقيه رواية جابر عند مسلم اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهرًا اهـ.
يعني لأنه مقيد يقضي على المطلق ولأنه شيء خرج عنه لله فلا يرجع فيه ولو أبيح النفع لغير ضرورة أبيح استئجاره ولا يجوز باتفاق والذي رأيته في تنقيح المقنع من كتب الحنابلة وعليه الفتوى عندهم وله ركوبها عند الحاجة فقط بلا ضرر ويضمن نقصها وهو مذهب الحنفية أيضًا (فقال) الرجل (إنها بدنة) أي هدي (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- له: (اركبها) (فقال: إنها بدنة)، فقال:

(3/213)


(اركبها ويلك) نصب أبدًا على المفعول المطلق بفعل من معناه محذوف وجوبًا أي ألزمه الله ويلاً وهي كلمة تقال لمن وقع في الهلاك أو لمن يستحقه أو هي بمعنى الهلاك أو مشقة العذاب أو الحزن أو واد في جهنم أو بئر أو باب لها أقوال، فيحتمل إجراؤها على هذا المعنى هنا لتأخر المخاطب عن امتثال أمره -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لقول الراوي (في) المرة (الثالثة أو في) المرة (الثانية) ولأبي ذر ويلك في الثانية أو الثالثة والشك من الراوي قال القرطبي وغيره أي ويلك تأديبًا لأجل مراجعته له مع عدم خفاء الحال عليه. ويحتمل أن لا يراد بها موضوعها الأصلي ويكون مما جرى على لسان العرب في المخاطبة من غير قصد لموضوعه كما في: تربت يداك ونحوه، وقيل كان أشرف على هلكة من الجهد وويل كلمة تقال لمن وقع في هلكة كما مر فالمعنى أشرفت على الهلاك فاركب فعلى هذا هي إخبار.
1690 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ وَشُعْبَةُ قَالاَ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْهَا. قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا.

قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا. ثَلاَثًا". [الحديث 1690 - طرفاه في: 2754، 6159].
وبه قال (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي الأزدي قال: (حدّثنا هشام) هو ابن أبي عبد الله سنبر بمهملة ثم نون ثم موحدة بوزن جعفر الدستوائي بفتح الدال وسكون السين المهملتين وفتح المثناة ثم مد ثقة ثبت قدمه أحمد على الأوزاعي وعلى أصحاب يحيى بن أبي كثير وعلى أصحاب قتادة وكان شعبة يقول: هو أحفظ مني، وكان القطان يقول: إذا سمعت الحديث من هشام الدستوائي لا تبالي أن لا تسمعه من غيره ومع هذا فقال محمد بن سعد: كان ثقة حجة إلا أنه يرى القدر، وقال العجلي: ثقة ثبت في الحديث إلا أنه كان يرى القدر ولا يدعو إليه لكن احتج به الأئمة. (وشعبة بن الحجاج) بن الورد العتكي الواسطي ثم البصري (قالا: حدّثنا قتادة) بن دعامة السدوسي البصري (عن أنس) وعند الإسماعيلي: سمعت أنس بن مالك (-رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلاً يسوق بدنة فقال:) ولأبي ذر: قال:
(اركبها) (قال) الرجل (إنها بدنة قال:) عليه الصلاة والسلام: (اركبها ثلاثًا) أي قالها ثلاث مرات، وفي رواية أبي ذر فقال: اركبها ثلاثًا فسقط عنده ما ثبت عند الباقين قال إنها بدنة قال اركبها قال إنها بدنة قال اركبها وقد وافق الباقين على إثبات ذلك أبو مسلم الكجي في السنن عن مسلم بن إبراهيم شيخ المؤلّف فيه، وأخرجه الإسماعيلي عن مسلم كذلك لكن قال في آخره ويلك بدل ثلاثًا، وللترمذي فقال له في الثالثة أو الرابعة: اركبها ويحك أو ويلك وهو في البخاري في باب: هل ينتفع الواقف بوقفه كذلك.

104 - باب مَنْ سَاقَ الْبُدْنَ مَعَهُ
(باب من ساق البدن) التي للهدي (معه) من الحل إلى الحرم.
1691 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "تَمَتَّعَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، وَأَهْدَى فَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ، ثُمَّ أَهَلَّ بِالْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَكَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ أَهْدَى فَسَاقَ الْهَدْيَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُهْدِ. فَلَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ قَالَ لِلنَّاسِ: مَنْ كَانَ مِنْكُمْ أَهْدَى فَإِنَّهُ لاَ يَحِلُّ لِشَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَقْضِيَ حَجَّهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَهْدَى فَلْيَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلْيُقَصِّرْ وَلْيَحْلِلْ ثُمَّ لِيُهِلَّ بِالْحَجِّ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَلْيَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إِذَا رَجَعَ إِلَى أَهْلِهِ فَطَافَ حِينَ قَدِمَ مَكَّةَ، وَاسْتَلَمَ الرُّكْنَ أَوَّلَ شَىْءٍ. ثُمَّ خَبَّ ثَلاَثَةَ أَطْوَافٍ وَمَشَى أَرْبَعًا، فَرَكَعَ حِينَ قَضَى طَوَافَهُ بِالْبَيْتِ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَانْصَرَفَ فَأَتَى الصَّفَا فَطَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثُمَّ لَمْ يَحْلِلْ

مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى قَضَى حَجَّهُ وَنَحَرَ هَدْيَهُ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَفَاضَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ، ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ، وَفَعَلَ مِثْلَ مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ أَهْدَى وَسَاقَ الْهَدْيَ مِنَ النَّاسِ".
وبالسند قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير ونسبه لجده لشهرته به المخزومي مولاهم المصري بالميم قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين بن خالد بن عقيل بفتح العين الأيلي بفتح الهمزة وسكون التحتية (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب (أن) أبان (ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: تمتع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج) التمتع بلغة القرآن الكريم وعرف الصحابة أعم من القِران كما ذكره غير واحد وإذا كان أعم منه احتمل أن يراد به الفرد المسمى بالقران في الاصطلاح الحادث وأن يراد به المخصوص باسم التمتع في ذلك الاصطلاح، لكن يبقى النظر في أنه أعم في عرف الصحابة أم لا ففي الصحيحين عن سعيد بن المسيب. قال اجتمع علي وعثمان بعسفان فكان عثمان ينهى عن المتعة فقال عليّ: ما تريد إلى أمر فعله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تنهى عنه؟ فقال عثمان: دعنا منك. فقال إني لا أستطيع أن أدعك فلما رأى عليّ ذلك أهل بهما جميعًا، فهذا يبين أنه عليه الصلاة والسلام كان قارنًا ويفيد أيضًا أن الجمع بينهما تمتع فإن عثمان كان ينهى عن المتعة وقصد عليّ إظهار مخالفته تقديرًا لما فعله عليه الصلاة والسلام وأنه لم ينسخ فقرن، وإنما تكون مخالفة إذا كانت المتعة التي نهى عنها عثمان فدلّ على الأمرين اللذين عيناهما وتضمن اتفاق عليّ وعثمان على أن القران من مسمى التمتع وحينئذٍ يجب حمل قول ابن عمر: تمتع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-

(3/214)


على التمتع الذي نسميه قرانًا لو لم يكن عنده يخالف اللفظ، فكيف وقد وجد عنه ما يفيد ما قلنا، وهو ما في صحيح مسلم عن ابن عمر أنه قرن الحج مع العمرة وطاف لهما طوافًا واحدًا ثم قال: هكذا فعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فظهر أن مراده بلفظ المتعة في هذا الحديث الفرد المسمى بالقران.
(وأهدى) عليه الصلاة والسلام أي تقرب إلى الله تعالى بما هو مألوف عندهم من سوق شيء من النعم إلى الحرم ليذبح ويفرّق على مساكينه تعظيمًا له (فساق معه الهدي) وكان أربعًا وستين بدنة (من ذي الحليفة) ميقات أهل المدينة، (وبدأ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأهلّ) أي لبى في أثناء الإحرام (بالعمرة، ثم أهل) أي لبى (بالحج) وليس المراد أنه أحرم بالحج لأنه يؤدي إلى مخالفة الأحاديث الصحيحة السابقة فوجب تأويل هذا على موافقتها. ويؤيد هذا التأويل قوله: (فتمتع الناس) في آخر الأمر (مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعمرة إلى الحج) لأنه معلوم أن كثيرًا منهم وأكثرهم أحرموا أولاً بالحج مفردين وإنما فسخوه إلى العمرة آخرًا فصاروا متمتعين، (فكان من الناس من أهدى فساق) زاد في بعض الأصول معه (الهدي، ومنهم من لم يهد. فلما قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة قال للناس): في رواية عن عائشة -رضي الله عنها- تقتضي أنه-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-قال لهم ذلك بعد أن أهلوا بذي الحليفة، لكن الذي تدل عليه الأحاديث في الصحيحين وغيرهما من رواية عائشة وجابر وغيرهما أنه إنما قال لهم ذلك في منتهى
سفرهم ودنوهم من مكة وهم بسرف كما في حديث عائشة أو بعد طوافه كما في حديث جابر، ويحتمل تكرار الأمر بذلك في الموضعين وأن العزيمة كانت آخرًا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة.
(من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء) ولأبي ذر وابن عساكر: من شيء (حرم منه) أي من أفعاله (حتى يقضي حجه) إن كان حاجًا فإن كان معتمرًا فكذلك لما في الرواية الأخرى، ومن أحرم بعمرة فلم يهد فليحلل، ومن أحرم بعمرة وأهدى فلا يحل حتى ينحر هديه (ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصر) من شعر رأسه وإنما لم يقل وليحلق وإن كان أفضل ليبقى له شعر يحلقه في الحج فإن الحلق في تحلل الحج أفضل منه في تحلل العمرة، ولأبي ذر: ويقصر بحذف لام الأمر والجزم عطفًا على المجزوم قبله والرفع على الأصل لأنه فعل مضارع مجرد من ناصب وجازم أي: وبعد الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة يقصر، (وليحلل) بسكون اللام الأولى والثالثة وكسر الثانية وفتح التحتية أمر معناه الخبر أي صار حلالاً فله فعل كل ما كان محظورًا عليه في الإحرام، ويحتمل أن يكون إذنًا كقوله تعالى: {وإذا حللتم فاصطادوا} [المائدة: 2] والمراد فسخ الحج عمرة واتمامها حتى يحل منها وفيه دليل على أن الحلق أو التقصير نسك وهو الصحيح، (ثم ليهل بالحج) أي في وقت خروجه إلى عرفات لا أنه يهل عقب تحلل العمرة، ولذا قال ثم ليهل فعبر بثم المقتضية للتراخي والهلة (فمن لم يجد هديًا) بأن عدم وجوده أو ثمنه أو زاد على ثمُن المثل أو كان صاحبه لا يريد بيعه (فليصم ثلاثة أيام في الحج) بعد الإحرام به والأولى تقديمها قبل يوم عرفة لأن الأولى فطره فيندب أن يحرم المتمتع العاجز عن الدم قبل سادس ذي الحجة ويمتنع تقديم الصوم على الإحرام (وسبعة إذا رجع إلى أهله) ببلده أو بمكان توطن به كمكة ولا يجوز صومها في توجهه إلى أهله لأنه تقديم للعبادة البدنية على وقتها ويندب تتابع الثلاثة والسبعة.
(فطاف) رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حين قدم مكة واستلم) أي مسح (الركن) الأسود حال كونه (أول شيء) أي مبدوءًا به (ثم خب) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الموحدة أي رمل (ثلاثة طواف ومشى أربعًا) ولأبي ذر: أربعة أي من الأطواف (فركع حين قضى) أدى (طوافه بالبيت) سبعًا (عند المقام) مقام إبراهيم (ركعتين) للطواف (ثم سلم) منهما (فانصرف فأتى) عقب ذلك (الصفا) بالقصر (فطاف بالصفا والمروة سبعة

(3/215)


أطواف ثم لم يحلل من شيء حرم منه حتى قضى حجه) بالوقوف بعرفات ورمى الجمرات ولم يقل وعمرته لدخولها في الحج أو لأنه كان مفردًا (ونحر هديه) الذي ساقه معه من المدينة (يوم النحر وأفاض) أي دفع نفسه أو راحلته بعد الإتيان بما ذكر إلى المسجد الحرام (فطاف بالبيت) طواف الإفاضة، (ثم حل) عليه الصلاة والسلام (من كل شيء حرم منه) أي حصل له الحل. قال ابن عمر: (وفعل مثل ما فعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي مثل فعله فما مصدرية وفاعل فعل قوله (من أهدى) ممن كان معه عليه الصلاة والسلام، (وساق الهدي من الناس) "ومن" للتبعيض لأن من كان معه الهدي بعضهم لا كلهم.

1692 - وَعَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- أَخْبَرَتْهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي تَمَتُّعِهِ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ، فَتَمَتَّعَ النَّاسُ مَعَهُ بِمِثْلِ الَّذِي أَخْبَرَنِي سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وقال ابن شهاب (وعن عروة) بن الزبير عطفًا على قوله عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر، ووقع في بعض النسخ هنا ونسب لرواية أبي الوقت بعد قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- باب: من أهدى وساق الهدي من الناس وعن عروة وهو غير صواب. (أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرته عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تمتعه بالعمرة إلى الحج فتمتع الناس معه بمثل الذي أخبرني سالم عن ابن عمر -رضي الله عنه- عن رسول الله) ولابن عساكر: عن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
قال في الفتح: وقد تعقب المهلب قول ابن شهاب بمثل الذي أخبرني سالم فقال: يعني مثله في الوهم لأن أحاديث عائشة كلها شاهدة بأنه حج مفردًا. وأجاب الحافظ ابن حجر: بأنه ليس وهمًا إذ لا مانع من الجمع بين الروايتين فيكون المراد بالإفراد في حديثها البداءة بالحج وبالتمتع بالعمرة إدخالها على الحج. قال: وهو أولى من توهيم جبل من جبال الحفظ اهـ.
وحديث الباب أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي في الحج.

105 - باب مَنِ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنَ الطَّرِيقِ
(باب من اشترى الهدي) بإسكان الدال مع تخفيف الياء ويجوز كسر الدال مع تشديد الياء ما يهدى إلى الحرم من النعم ويجزئ في الأضحية، ويطلق أيضًا على دم الجبران عند توجهه إلى البيت الحرام (من الطريق) سواء كان في الحل أو الحرم.
1693 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهم- لأَبِيهِ: أَقِمْ فَإِنِّي لاَ آمَنُهَا أَنْ سَتُصَدُّ عَنِ الْبَيْتِ. قَالَ: إِذًا أَفْعَلَ كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} فَأَنَا أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ عَلَى نَفْسِي الْعُمْرَةَ. فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ. قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْبَيْدَاءِ أَهَلَّ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَقَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ. ثُمَّ اشْتَرَى الْهَدْيَ مِنْ قُدَيْدٍ، ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا، فَلَمْ يَحِلَّ حَتَّى حَلَّ مِنْهُمَا جَمِيعًا".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا حماد) هو ابن زيد (عن أيوب) السختياني (عن نافع) مولى ابن عمر (قال: قال عبد الله بن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- لأبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب في عام نزول الحجاج بمكة لقتال ابن الزبير (أقم) بفتح الهمزة وكسر القاف أمر من الإقامة أي لا تحج في هذه السنة (فإني لا آمنها) بفتح الهمزة

الممدودة والميم المخففة، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي وابن عساكر: لا إيمنها بكسر الهمزة فتقلب الألف ياء ساكنة على لغة من يكسر حرف المضارعة إذا كان الماضي على فعل بكسر العين ومستقبله يفعل بفتحها نحو: أنا أعلم وأنت تعلم ونحن نعلم وهو يعلم أي لا آمن الفتنة (أن ستصد) بفتح الهمزة وفتح السين والصاد ونصب الدال ورفعها أي ستمنع، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: أن تصد (عن البيت قال): ابن عمر (إذا أفعل) نصب بإذا (كما فعل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من الإحلال حين صدّ بالحديبية، (وقد قال الله) تعالى: ({لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}) [الأحزاب: 21] فأنا أشهدكم أني قد أوجبت على نفسي العمرة فأهل بالعمرة) زاد أبو ذر: من الدار وفيها جواز الإحرام من قبل الميقات وهو من الميقات أفضل منه من دويرة أهله خلافًا للرافعي في تصحيحه عكسه، لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحرم بحجته وبعمرة الحديبية من ذي الحليفة ولأن في مصابرة الإحرام بالتقديم عسرًا وتغريرًا بالعبادة وإن كان جائزًا.
(قال) عبد الله بن عبد الله بن عمر: (ثم خرج) أي أبوه إلى الحج (حتى إذا كان بالبيداء أهلّ بالحج والعمرة وقال: ما شأن الحج والعمرة) في العمل (إلا واحد) لأن القارن عنده لا يطوف إلا طوافًا واحدًا وسعيًا واحدًا وهو مذهب الجمهور خلافًا للحنفية. وأجابوا عن هذا بأن المراد من هذا الطواف طواف القدوم كما مرّ في باب طواف القارن، (ثم اشترى الهدي من قديد) بضم القاف وفتح الدال بعدها موضع في أرض الحل وهذا موضع الترجمة وكونه معه من بلده أفضل وشراؤه من طريقه

(3/216)


أفضل من شرائه من مكة ثم من عرفة فإن لم يسقه أصلاً بل اشتراه من منى جاز وحصل أصل الهدي، (ثم قدم) بفتح القاف وكسر الدال مكة (فطاف) بالكعبة (لهما) أي للحج والعمرة (طوافًا واحدًا) وسعى سعيًا واحدًا (فلم يحل) من إحرامه (حتى حلّ) وللحموي: أحل بزيادة ألف قبل الحاء وهي لغة مشهورة يقال: حل وأحل (منهما) أي من الحج والعمرة (جميعًا).

106 - باب مَنْ أَشْعَرَ وَقَلَّدَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ ثُمَّ أَحْرَمَ وَقَالَ نَافِعٌ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- إِذَا أَهْدَى مِنَ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ يَطْعُنُ فِي شِقِّ سَنَامِهِ الأَيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ، وَوَجْهُهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَةً
(باب من أشعر وقلد) هديه (بذي الحليفة) ميقات أهل المدينة (ثم أحرم) بعد الإشعار والتقليد.
(وقال نافع) مولى ابن عمر بن الخطاب مما وصله مالك في موطئه: (كان ابن عمر -رضي الله عنهما- إذا أهدى من المدينة قلده) أي الهدي بأن يعلق في عنقه نعلين من النعال التي تلبس في الإحرام (وأشعره بذي الحليفة) من الإشعار بكسر الهمزة وهو لغة الإعلام وشرعًا ما هو مذكور

في قوله (يطعن) بضم العين أي يضرب (في شق) بكسر الشين المعجمة أي ناحية صفحة (سنامه) بفتح السين المهملة أي سنام الهدي (الأيمن) نعت لشق. وقال مالك: في الأيسر وهو الذي في الموطأ. نعم روى البيهقي عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أنه كان لا يبالي في أي الشقين أشعر في الأيسر أو في الأيمن. قال: وإنما يقول الشافعي بما روي في ذلك عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يشير إلى حديث ابن عباس: أشعر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الشق الأيمن (بالشفرة) بفتح الشين المعجمة السكين العريضة بحيث يكشط جلدها حتى يظهر الدم (ووجهها) أي البدنة (قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة أي جهة (القبلة) أي في حالتي التقليد والإشعار حال كونها (باركة) ويلطخها بالدم لتعرف إذا ضلت وتتميز إذا اختلطت بغيرها فإن لم يكن لها سنام أشعر موضعه هذا مذهب الشافعية وهو ظاهر المدونة، وفي كتاب محمد: لا تشعر لأنه تعذيب فيقتصر فيه على ما ورد. وقال أبو حنيفة: الإشعار مكروه وخالفه صاحباه: فقالا: إنه سنّة، واحتج لأبي حنيفة بأنه مثلة وهي منهي غنها وعن تعذيب الحيوان.
وأجيب: بأن أخبار النهي عن ذلك عامة وأخبار الإشعار خاصة فقدمت. وقال الخطابي: أشعر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدنه آخر حياته ونهيه عن المثلة كان أول مقدمه المدينة مع أنه ليس من المثلة بل من باب آخر اهـ.
أي: بل هو كالختان والفصد وشق أذن الحيوان ليكون علامة وغير ذلك كالختان، وقد كثر تشنيع المتقدمين على أبي حنيفة -رحمه الله- في إطلاقه كراهة الإشعار فقال ابن حزم في المحلى: هذه طامة من طوام العالم أن يكون مثلة شيء فعله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أف لكل عقلٍ يتعقب حكم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذه قولة لأبي حنيفة لا نعلم له فيها متقدمًا من السلف ولا موافقًا من فقهاء عصره إلا من قلدها اهـ.
وقد ذكر الترمذي عن أبي السائب قال: كنا عند وكيع فقال له رجل روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: الإشعار مثلة فقال له وكيع: أقول لك أشعر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وتقول قال إبراهيم ما أحقك أن تحبس اهـ.
وهذا فيه رد على ابن حزم حيث زعم أنه ليس لأبي حنيفة سلف في ذلك، وقد أجاب الطحاوي مختصرًا لأبي حنيفة فقال: لم يكره أبو حنيفة أصل الإشعار بل ما يفعل منه على وجه يخاف منه هلاك البدن كسراية الجرح لا سيما مع الطعن بالشفرة فأراد سدّ الباب عن العامة لأنهم لا يراعون الحد في ذلك، وأما من كان عارفًا بالسنة في ذلك فلا. وقد ثبت عن عائشة وابن عباس التخيير في الإشعار وتركه فدلّ على أنه ليس بنسك اهـ.
1694 و 1695 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ قَالاَ "خَرَجَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْمَدِينَةِ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةً مِنْ أَصْحَابِهِ حَتَّى إِذَا كَانُوا بِذِي الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْهَدْيَ وَأَشْعَرَ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ". [الحديث

1694 - أطرافه في: 1811، 2712، 2731، 4158، 4178، 4181] [الحديث 1695 - أطرافه في: 2711، 2732، 4157، 4179، 4180].
وبالسند قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) هو فيما قاله الدارقطني ابن شبويه، وقال الحاكم أبو عبد الله هو المروزي المعروف بمرويه ورجح المزي هذا الثاني قال: (أخبرنا عبد الله) هو ابن المبارك قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن) ابن شهاب (الزهري عن عروة بن الزبير) بن العوام (عن المسور) بكسر الميم وسكون السين المهملة وفتح الواو (ابن مخرمة) بفتح الميمين وسكون الخاء المعجمة وفتح الراء أمه عاتكة أخت عبد الرحمن بن عوف القرشي الزهري، وكان مولده بعد الهجرة بسنتين، وقدم المدينة بعد الفتح سنة ثلاث ابن ست سنين. قال البغوي: حفظ عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أحاديث وحديثه

(3/217)


عنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في خطبة عليّ بنت أبي جهل في الصحيحين وغيرهما وقع في بعض طرقه عند مسلم: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا محتلم، وهذا يدل على أنه ولد قبل الهجرة لكنهم أطبقوا على أنه ولد بعدها، وقد تأول بعضهم أن قوله محتلم من الحلم بالكسر لا من الحلم بالضم يريد أنه كان عاقلاً ضابطًا لما يتحمله، وتوفى في حصار ابن الزبير الأول أصابه حجر من حجارة المنجنيق وهو يصلّي فأقام خمسة أيام ومات يوم أتي بنعي يزيد بن معاوية سنة أربع وستين لا في سنة ثلاث وسبعين، لأن ذلك الحصار كان من الحجاج، وفيه قتل ابن الزبير ولم يبق السور إلى هذا الزمان. (ومروان) بن الحكم ابن أبي العاص القرشي الأموي ابن عم عثمان وكاتبه في خلافته ولد بعد الهجرة بسنتين وقيل بأربع، وقال ابن أبي داود: كان في الفتح مميزًا وفي حجة الوداع، لكن لا أدري أسمع من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيئًا أم لا. قال في الإصابة: ولم أر من جزم بصحبته فكأنه لم يكن حينئذٍ مميزًا ومن بعد الفتح أخرج أبوه إلى الطائف وهو معه فلم يثبت له أزيد من الرؤية وأرسل عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقرنه البخاري بالسور بن مخرمة في روايته عن الزهري عنهما في قصة الحديبية وفي بعض طرقه عنده أنهما رويا عن بعض الصحابة وفي أكثرها أرسلاً الحديث، وولي مروان الخلافة سنة أربع وستين ومات في رمضان سنة خمس وله ثلاث أو إحدى وستون سنة. قال في التقريب: ولم يثبت له صحبة (قالا): أي: المسور ومروان:
(خرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من المدينة) زاد أبوا الوقت وذر عن الحموي والمستملي: زمن الحديبية (في بضع عشرة مائة من أصحابه) بكسر الموحدة وقد تفتح ما بين الثلاث إلى التسع (حتى إذا كانوا بذي الحليفة) ميقات أهل المدينة المشهور (قلد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الهدي وأشعره) وعند الدارقطني أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ساق يوم الحديبية سبعين بدنة عن سبعمائة رجل (وأحرم بالعمرة) ويؤخذ منه أن السنة لمريد النسك أن يشعر ويقلد بدنه عند الإحرام من الميقات، وهل الأفضل تقديم الإشعار أو التقليد؟ قال في الروضة: صح في الأول خبر في صحيح مسلم، وصح في الثاني عن فعل ابن عمر وهو المنصوص، وزاد في المجموع أن الماوردي حكى الأول عن أصحابنا كلهم ولم يذكر فيه خلافًا.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الشروط والمغازي، وأبو داود في الحج، والنسائي في السنن، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة والقول وهو من المراسيل على ما مرّ.
1696 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "فَتَلْتُ قَلاَئِدَ بُدْنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا وَأَشْعَرَهَا وَأَهْدَاهَا، فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ أُحِلَّ لَهُ". [الحديث 1696 - أطرافه في: 1698، 1699، 1700، 1701، 1702، 1703، 1704، 1705، 2317، 5566].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا أفلح) بن حميد الأنصاري (عن القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن) عمته (عائشة -رضي الله عنها- قالت):
(فتلت) بالفاء (قلائد بدن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيدي) بفتح الدال وتشديد الياء (ثم قلدها) عليه الصلاة والسلام بيده الشريفة (وأشعرها وأهداها) قالت عائشة: (فما) بالفاء قبل ما، ولأبوي الوقت وذر: وما (حرم) بفتح الحاء وضم الراء (عليه شيء كان أحل له) قبل ذلك من محظورات الإحرام.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الحج وكذا مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة.

107 - باب فَتْلِ الْقَلاَئِدِ لِلْبُدْنِ وَالْبَقَرِ
(باب فتل القلائد للبدن والبقر) ومذهب الشافعي وموافقيه أنه يستحب تقليد البقر وإشعارها. وقال المالكية: التقليد والإشعار في الإبل وفي البقر التقليد دون الإشعار والبدن عند الشافعية من الإبل خاصة، وعند الحنفية من الإبل والبقر والهدي منهما ومن الغنم.
1697 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ رضي الله عنهم قَالَتْ "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ؟ قَالَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَحِلَّ مِنَ الْحَجِّ».
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) الأسدي البصري قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن عبيد الله) بتصغير عبد بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني أخي عبد الله بن عمر (قال: أخبرني) بالإفراد (نافع) مولى ابن عمر بن الخطاب (عن ابن عمر عن) أم المؤمنين (حفصة وضي الله عنهم) أنها (قالت: قلت يا رسول الله ما شأن الناس حلوا) زاد في باب التمتع والقران بعمرة وسبق ما فيها من البحث هناك (ولم تحلل)؟ بكسر اللام الأولى بفك الإدغام، ولأبوي ذر والوقت: ولم تحل أنت بإدغام اللام في اللام أي من عمرتك (قال): عليه الصلاة والسلام.

(أني لبدت) شعر (رأسي)

(3/218)


بتشديد الموحدة من التلبيد وهو جعل شيء نحو الصمغ في الشعر ليجتمع ويلتصق بعضه ببعض احترازًا عن تمعطه وتقمله، لكن تلبيد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان بالعسل كما في رواية أبي داود وكان عند إهلاله كما في الصحيحين (وقلدت هديي فلا) بالفاء، ولأبي ذر وابن عساكر: ولا (أحل) من إحرامي أي لا يحل شيء مما حرم عليّ (حتى أحل من الحج) وليس العلة في ذلك سوق الهدي وتقليده بل إدخال الحج على العمرة خلافًا للحنفية حيث جعلوا العلة في بقائه على إحرامه الهدي كما سبق تقريره.
ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أن الهدي يتناول البقر والبدن جميعًا كما سبق وهمزة أحل مفتوحة في الموضعين من الثلاثي ويجوز الضم من الرباعي لغتان كقوله: تحل. والفتح أوفق لقولها: وقال: لبدت رأسي وقلدت هديي وإن كان أجنبيًا من الحل وعدمه لبيان أنه من أوّل الأمر مستعد لدوام إحرامه حتى يبلغ الهدي محله والتلبيد مشعر بمدة طويلة أو ذكر لبيان الواقع أو للتأكيد، وفيه: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان قارنًا، ولم يقع في الحديث ذكر فتل القلائد المذكور في الترجمة، فقيل: لأن التقليد لا بد له من الفتل ورد بأن القلادة أعم من أن تكون من شيء يفتل أو من شيء لا يفتل فلا تلازم.
1698 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ حَدَّثَنَا ابْنُ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ وَعَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُهْدِي مِنَ الْمَدِينَةِ، فَأَفْتِلُ قَلاَئِدَ هَدْيِهِ، ثُمَّ لاَ يَجْتَنِبُ شَيْئًا مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الْمُحْرِمُ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام قال: (حدّثنا) بالجمع، ولأبي الوقت: حدثني (ابن شهاب) الزهري (عن عروة) بن الزبير (وعن عمرة بنت عبد الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية (أن عائشة -رضي الله عنها- قالت):
(كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يهدي) بضم أوله (من المدينة) أي يبعث بالهدي منها (فأفتل قلائد هديه ثم لا يجتنب) عليه الصلاة والسلام (شيئًا مما يجتنبه المحرم) من محظورات الإحرام لأنه كان حينئذٍ لا يحرم، ولأبوي ذر والوقت: يجتنب بإسقاط الضمير.
وفي الحديث أن من أرسل الهدي إلى مكة لا يصير بذلك محرمًا ولا يحرم عليه شيء مما يحرم على المحرم، وهذا مذهب كافة العلماء خلافًا لما روي عن ابن عباس وابن عمر وعطاء وسعيد بن جبير من اجتنابه ما يجتنبه المحرم ولا يصير محرمًا من غير نيّة الإحرام.

108 - باب إِشْعَارِ الْبُدْنِ
وَقَالَ عُرْوَةُ عَنِ الْمِسْوَرِ -رضي الله عنه- "قَلَّدَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ".

(باب إشعار البدن) وقد سبق ما فيه وإنما ذكره المؤلّف لزيادة فرائد الفوائد متنًا وإسنادًا. (وقال عروة) بن الزبير فيما سبق موصولاً (عن المسور) بن مخرمة (-رضي الله عنه-: قلد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الهدي وأشعره) زمن الحديبية (وأحرم بالعمرة).
1699 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ أَشْعَرَهَا وَقَلَّدَهَا -أَوْ قَلَّدْتُهَا- ثُمَّ بَعَثَ بِهَا إِلَى الْبَيْتِ وَأَقَامَ بِالْمَدِينَةِ فَمَا حَرُمَ عَلَيْهِ شَىْءٌ كَانَ لَهُ حِلٌّ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا أفلح بن حميد) الأنصاري المدني (عن القاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت):
(فتلت قلائد هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم أشعرها) أي البدن (وقلدها) هو عليه الصلاة والسلام- (أو قلدتها) - بالشك من الراوي وعليه تجوز الاستنابة في التقليد (ثم بعث) عليه الصلاة والسلام (بها) أي بالبدن مع أبي بكر الصديق كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى (إلى البيت) الحرام (وأقام) عليه الصلاة والسلام (بالمدينة) حلالاً (فما حرم عليه شيء) من محورات الإحرام (كان له حل) أي حلال، والجملة في موضع رفع صفة لقوله شيء وهو رفع بقوله فما حرم بضم الراء.

109 - باب مَنْ قَلَّدَ الْقَلاَئِدَ بِيَدِهِ
(باب من قلد القلاتد بيده) على الهدايا من غير أن يستنيب.
1700 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهَا أَخْبَرَتْهُ "أَنَّ زِيَادَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ كَتَبَ إِلَى عَائِشَةَ -رضي الله عنها- إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: مَنْ أَهْدَى هَدْيًا حَرُمَ عَلَيْهِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْحَاجِّ حَتَّى يُنْحَرَ هَدْيُهُ. قَالَتْ عَمْرَةُ: فَقَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، أَنَا فَتَلْتُ قَلاَئِدَ هَدْيِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَىَّ، ثُمَّ قَلَّدَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَيْهِ، ثُمَّ بَعَثَ بِهَا مَعَ أَبِي، فَلَمْ يَحْرُمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَىْءٌ أَحَلَّهُ اللَّهُ حَتَّى نُحِرَ الْهَدْيُ".
وبالسند قال (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم) بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي وعمرو بفتح العين وهو ساقط لأبي ذر (عن) خالته (عمرة بنت عبد الرحمن) الأنصارية (أنها أخبرته أن زياد بن أبي سفيان) هو الذي استلحقه معاوية، وإنما كان يقال له زياد بن أبيه أو ابن عبيد لأن أمه سمية مولاة الحرث بن كلدة ولدته على فراش عبيد، فلما كان في خلافة معاوية شهد جماعة على إقرار أبي سفيان بأن زيادًا ولده فاستلحقه معاوية لذلك وأمره على العراقين. (كتب إلى عائشة -رضي الله عنها- أن

عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-) بكسر همزة أن في الفرع وفي غيره بالفتح (قال: من أهدى)

(3/219)


أي بعث إلى مكة (هديًا حرم عليه ما يحرم على الحاج) من محظورًا الإحرام (حتى ينحر) بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًّا للمفعول و (هديه) رفع نائب عن الفاعل (قالت عمرة): بنت عبد الرحمن بالسند المذكور: (فقالت عائشة -رضي الله عنها-: ليس كما قال ابن عباس -رضي الله عنه-)
(أنا فتلت قلائد هدي رسول الله) ولابن عساكر: قلائد هدي النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيدي) بفتح الدال وتشديد الياء وفي أخرى بالإفراد (ثم قلدها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيديه) الشريفتين (ثم بعث بها) أي بالبدن إلى مكة (مع أبي) أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- لما حج بالناس سنة تسع (فلم يحرم على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شيء أحله الله) زاد أبوا ذر والوقت: له (حتى نحر الهدي) بالبناء للمفعول، وفي نسخة: حتى نحر الهدي مبنيًا للفاعل أي حتى نحر أبو بكر الهدي.
وقال الكرماني فإن قلت: عدم الحرمة ليس مغيًا إلى النحر إذ هو باق بعده فلا مخالفة بين حكم ما بعد الغاية وما قبلها. وأجاب: بأنه غاية ليحرم لا للم يحرم أي الحرمة المنتهية إلى النحر اهـ.
وقد وافق ابن عباس جماعة من الصحابة منهم: ابن عمر رواه ابن أبي شيبة، وقيس بن سعد بن عبادة رواه سعيد بن منصور. وقال ابن المنذر قال عمر وعليّ وقيس بن سعد وابن عمر وابن عباس والنخعي وعطاء وابن سيرين وآخرون: من أرسل الهدي وأقام حرم عليه ما يحرم على المحرم. وقال ابن مسعود وعائشة وأنس وابن الزبير وآخرون: لا يصير بذلك محرمًا، وإلى ذلك صار فقهاء الأمصار. ومن حجة الأوّلين ما رواه الطحاوي وغيره من طريق عبد الملك بن جابر عن أبيه قال: كنت جالسًا عند النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقدّ قميصه من جيبه حتى أخرجه من رجليه وقال "إني أمرت ببدني التي بعثت بها أن تقلد اليوم وتشعر على مكان كذا وكذا. فلبست قميصي ونسيت فلم أكن لأخرج قميصي من رأسي" الحديث. قال في الفتح: وهذا لا حجة فيه لضعف إسناده.
وهذا الحديث أخرجه البخاري أيضًا في الوكالة ومسلم والنسائي في الحج.

110 - باب تَقْلِيدِ الْغَنَمِ
(باب تقليد الغنم).
1701 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "أَهْدَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّةً غَنَمًا".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران (عن إبراهيم) النخعي (عن الأسود) بن يزيد (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت): (أهدى

(النبي) أي بعث إلى مكة (مرة غنمًا). وهذا الحديث أخرجه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجة في الحج.
1702 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "كُنْتُ أَفْتِلُ الْقَلاَئِدَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَيُقَلِّدُ الْغَنَمَ وَيُقِيمُ فِي أَهْلِهِ حَلاَلاً".
وبه قال: (حدثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا عبد الواحد) بن زياد قال: (حدثنا الأعمش) قال: حدثنا إبراهيم) النخعي وصرح الأعمش في هذا بالتحديث عن إبراهيم فانتفت تهمة تدليسه في سند الحديث السابق حيث عنعن فيه (عن الأسود) بن يزيد (عن عائشة -رضي الله عنها- قالت): (كنت أفتل) بكسر التاء (القلائد للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيقلد) بها (الغنم) وزاد في الرواية التالية: لهذه فيبعث بها (ويقيم في أهله حلالاً).
1703 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ الْمُعْتَمِرِ. ح وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "كُنْتُ أَفْتِلُ قَلاَئِدَ الْغَنَمِ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَبْعَثُ بِهَا، ثُمَّ يَمْكُثُ حَلاَلاً".
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي المذكور قال: (حدّثنا حماد) هو ابن زيد قال: (حدّثنا منصور بن المعتمر) قال المؤلّف ح:
(وحدّثنا محمد بن كثير) العبدي البصري قال ابن معين: لم يكن بالثقة، وقال أبو حاتم، صدوق ووثقه أحمد بن حنبل، وقال في التقريب: لم يصب من ضعفه وما رواه البخاري له قد توبع عليه قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن منصور) السابق (عن إبراهيم) النخعي (عن الأسود) بن يزيد (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت): (كنت أفتل قلائد الغنم للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيبعث بها) إلى مكة (ثم يمكث) بالمدينة (حلالاً) وقد احتج الشافعي بهذا على أن الغنم تقلد، وبه قال أحمد والجمهور خلافًا لمالك وأبي حنيفة حيث معناه لأنها تضعف عن التقليد قال عياض: المعروف من مقتضى الرواية أنه كان عليه الصلاة والسلام يهدي البدن لقوله في بعض الروايات: قلد وأشعر، وفي بعضها: فلم يحرم عليه شيء حتى نحر الهدي لأن ذلك إنما يكون في البدن، وإنما الغنم في رواية الأسود

(3/220)


هذه ولانفراده بها نزلت على حذف مضاف أي من صوف الغنم كما قال في الأخرى من عهن. والعهن: الصوف، لكن جاء في بعض روايات حديث الأسود هذا: كنا نقلد الشاة وهذا يرفع التأويل اهـ.
قال أبو عبد الله الأبي: وأحاديث الباب ظاهرة في تقليد الغنم اهـ.
وقال المنذري والإعلال بتفرد الأسود عن عائشة ليس بعلة لأنه ثقة حافظ لا يضره التفرد وقد وقع الاتفاق على أنها لا تشعر لضعفها، ولأن الإشعار لا يظهر فيها لكثرة شعرها وصوفها فتقلد بما لا يضعفها كالخيوط المفتولة ونحوها.

1704 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "فَتَلْتُ لِهَدْيِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-تَعْنِي الْقَلاَئِدَ- قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ".
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا زكريا) ابن أبي زائدة (عن عامر) هو الشعبي (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن عائشة -رضي الله عنها- قالت): (فتلت لهدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تعني) عائشة (القلائد قبل أن يحرم) ولفظ الهدي شامل للغنم وغيرها فالغنم فرد من أفراد ما يهدى، وقد ثبت أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أهدى الإبل وأهدى البقر فمن ادعى اختصاص الإبل بالتقليد فعليه البيان.

111 - باب الْقَلاَئِدِ مِنَ الْعِهْنِ
(باب القلائد من العهن) بكسر العين وسكون الهاء آخره نون الصوف أو المصبوغ ألوانًا أو الأحمر.
1705 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَلِيٍّ حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ مُعَاذٍ حَدَّثَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "فَتَلْتُ قَلاَئِدَهَا مِنْ عِهْنٍ كَانَ عِنْدِي".
وبالسند قال: (حدثنا عمرو بن علي) بسكون الميم بعد فتح العين ابن بحر الصيرفي البصري قال: (حدّثنا معاذ بن معاذ) بضم الميم وتخفيف العين وبالذال المعجمة فيهما ابن نصر بن حسان العنبري التميمي قاضي البصرة قال: (حدثنا ابن عون) عبيد الله (عن القاسم) بن محمد بن أْبي بكر الصديق -رضي الله عنه- (عن) عمته (أم المؤمنين) عائشة (-رضي الله عنها- قالت): (فتلت قلائدها) أي البدن أو الهدايا (من عهن) أي صوف وأكثر ما يكون مصبوغًا ليكون أبلغ في العلامة (كان عندي) وفيه ردّ على من قال تكره القلائد من الأوبار، واختار أن يكون من نبات الأرض. ونقل ابن فرحون في مناسكه عن ابن عبد السلام أنه قال: والمذهب أن ما تنبته الأرض مستحب على غيره. وقال ابن حبيب: يقلدها بما شاء.

112 - باب تَقْلِيدِ النَّعْلِ
(باب تقليد النعل) للهدي وأل للجنس فيعم الواحدة فما فوقها، وأبدى ابن المنير فيه حكمة وهي أن العرب تعتدّ النعل مركوبة لكونها تقي عن صاحبها وتحمل عنه وعر الطريق، فكأن الذي أهدى وقلده بالنعل خرج عن مركوبه لله تعالى حيوانًا وغيره بالنظر إلى هذا يستحب النعلان في التقليد.
1706 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَعْلَى بْنُ عَبْدِ الأَعْلَى عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- "أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَجُلاً يَسُوقُ بَدَنَةً قَالَ: ارْكَبْهَا،

قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ. قَالَ: ارْكَبْهَا، قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُهُ رَاكِبَهَا يُسَايِرُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالنَّعْلُ فِي عُنُقِهَا". تَابَعَهُ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ.
حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ يَحْيَى عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبالسند قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: حدثني (محمد) زاد أبو ذر: هو ابن سلام، وكذا عند ابن السكن، لكن قال الجياني: لعله محمد بن المثنى لأنه قال هذا في باب الذبح قبل الحلق: حدّثنا محمد بن المثنى، حدّثنا عبد الأعلى، ويؤيده رواية الإسماعيلي وأبي نعيم في مستخرجيهما من طريق الحسن بن سفيان حدّثنا محمد بن المثنى حدّثنا عبد الأعلى فذكرا حديث النعل. قال الحافظ ابن حجر: وليس ذلك بلازم والعمدة على ما قاله ابن السكن فإنه حافظ وسلام بالتخفيف، ولأبي ذر بالتشديد قال: (أخبرنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى) بن محمد السامي بالمهملة من بني سامة بن لؤيّ (عن معمر) هو ابن راشد (عن يحيى بن أبي كثير عن عكرمة) مولى ابن عباس لا عكرمة بن عمار لأنه تلميذ يحيى لا شيخه (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن نبيّ الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلاً)، حال كونه (يسوق بدنة) أي هديًا (قال) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولأبي ذر: فقال:
(اركبها) (قال): الرجل (إنها بدنة قال) عليه الصلاة والسلام: (اركبها) (قال) أبو هريرة (فلقد رأيته) أي الرجل المذكور حال كونه (راكبها) وإنما انتصب على الحال وإن كان مضافًا للضمير لأن اسم الفاعل العامل لا يتعرف بالإضافة وهو وإن كان ماضيًا لكنه على حكاية الحال كما في قوله تعالى: {وكلبهم باسط ذراعيه} [الكهف: 18] أو لأن إضافته لفظية فهو نكرة، ويجوز أن يكون بدلاً من ضمير المفعول في رأيته (يساير النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والنعل في عنقها).
(تابعه محمد بن بشار) بفتح الموحدة وتشديد المعجمة. قال إمام الصنعة الحافظ ابن حجر: المتابع بالفتح هنا هو معمر، والمتابع بالكسر ظاهر السياق أنه محمد بن بشار، وفي التحقيق هو علي بن المبارك

(3/221)


وإنما احتاج معمر عنده إلى المتابعة لأن في رواية البصريين عنه مقالا لكونه حدثهم بالبصرة من حفظه وهذا من رواية البصريين اهـ.
وتعقبه العيني فقال: الذي يقتضيه حق التركيب يرد ما قاله على ما لا يخفى، والذي حمله على ذكر علي بن المبارك في السند الذي يأتي عقب هذا وهذا في غاية البعد على ما يخفى. غاية ما في الباب أن السند الذي فيه علي بن المبارك يظهر أنه تابع معمرًا في روايته في نفس الأمر لا في الظاهر لأن التركيب لا يساعد ما قاله أصلاً فافهم اهـ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: أخبرنا (عثمان بن عمر) بن فارس البصري قال: (أخبرنا علي بن المبارك) الهنائي بضم الهاء وتخفيف النون ممدود البصري ثقة كان له عن يحيى بن أبي كثير
كتابان: أحدهما سماع والآخر إرسال، فحديث الكوفيين عنه فيه شيء لكن أخرج له البخاري من رواية البصريين خاصة، وأخرج من رواية وكيع عنه حديثًا واحدًا توبع عليه (عن يحيى) بن أبي كثر (عن عكرمة) مول ابن عباس (عن أبي هريرة رضي الله عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وأخرجه الإسماعيلي من طريق وكيع بمتابعة عثمان بن عمر وقال: إن حسينا المعلم رواه عن يحيى بن أبي كثير أيضًا.

113 - باب الْجِلاَلِ لِلْبُدْنِ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- لاَ يَشُقُّ مِنَ الْجِلاَلِ إِلاَّ مَوْضِعَ السَّنَامِ وَإِذَا نَحَرَهَا نَزَعَ جِلاَلَهَا مَخَافَةَ أَنْ يُفْسِدَهَا الدَّمُ ثُمَّ يَتَصَدَّقُ بِهَا
(باب الجلال للبدن) بكسر الجيم وهي ما يوضع على ظهورها وأحدها جل.
(وكان ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-) مما وصل بعضه في الموطأ (لا يشق من الجلال إلا موضع السنام) بفتح السين لئلا يسقط وليظهر الإشعار لئلا يستر تحتها، وهذا يقتضي أن إظهار التقرب بالهدي أفضل من إخفائه، والمعروف أن إخفاء العمل الصالح غير الفرض أفضل من إظهاره.
وأجيب: بأن أفعال الحج مبنية على الظهور كالإحرام والطواف والوقوف فكان الإشعار والتقليد كذلك فيخص الحج من عموم الإخفاء.
(وإذا نحرها) أي أراد نحرها (نزع جلالها) عنها (مخافة أن يفسدها الدم ثم يتصدق بها) قال نافع فيما رواه ابن المنذر: وربما دفعها إلى بني شيبة اهـ.
وأراد بذلك أن لا يرجع في شيء أهل به لله ولا في شيء أضيف إليه.
1707 - حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ "أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَتَصَدَّقَ بِجِلاَلِ الْبُدْنِ الَّتِي نَحَرْتُ وَبِجُلُودِهَا". [الحديث 1707 - أطرافه في: 1716، 1716 م، 1717، 1718، 2299].
وبالسند قال: (حدّثنا قبيصة) بفتح القاف ابن عقبة بن عامر السوائي العامري قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن ابن أبي نجيح) بفتح النون وكسر الجيم عبد الله بن يسار المكي (عن مجاهد) هو ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة الإمام في التفسير (عن عبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاري المدني ثم الكوفي (عن علي -رضي الله عنه- قال): (أمرني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن أتصدق بجلال البدن التي) وفي رواية الذي (نحرت) بفتح النون والحاء وسكون الراء وضم الفوقية ولأبي الوقت: نحرت بضم النون وكسر الحاء وفتح الراء وسكون الفوقية (وبجلودها) ولابن عساكر: وجلودها بإسقاط حرف الجر وفيه استحباب تجليل البدن والتصدق بذلك الجل. نقل القاضي عياض عن العلماء: أن التجليل

يكون بعد الإشعار لئلا يتلطخ بالدم وأن تشق الجلال عن الأسنمة إن كانت قيمتها قليلة فإن كانت نفيسة لم تشق. قال صاحب الكواكب: وفيه أنه لا يجوز بيع الجلال ولا جلود الهدايا والضحايا كما هو ظاهر الحديث إذ الأمر حقيقة في الوجوب اهـ.
وتعقبه في اللامع فقال: فيه نظر فذلك صيغة أفعل لا لفظ أمر. وهذا الحديث أخرجه في الحج أيضًا وكذا مسلم وابن ماجة.

114 - باب مَنِ اشْتَرَى هَدْيَهُ مِنَ الطَّرِيقِ وَقَلَّدَهَا
(باب من اشترى هديه من الطريق وقلدها) أنث الضمير باعتبار ما صدق عليه الهدي وهو
البدنة وللأصيلي وقلده بالتذكير باعتبار الهدي، وقد سبق هذا الباب بترجمته لكنه زاد عنا ذكر
التقليد، وأورد فيه الحديث من وجه آخر فرحمه الله على حسن صنيعه ما أدق نظره وأوسع اطلاعه.
1708 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ قَالَ "أَرَادَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- الْحَجَّ، عَامَ حَجَّةِ الْحَرُورِيَّةِ فِي عَهْدِ ابْنِ الزُّبَيْرِ -رضي الله عنهما-، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ النَّاسَ كَائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَنَخَافُ أَنْ يَصُدُّوكَ، فَقَالَ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} إِذًا أَصْنَعَ كَمَا صَنَعَ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي أَوْجَبْتُ عُمْرَةً حَتَّى كَانَ بِظَاهِرِ الْبَيْدَاءِ قَالَ: مَا شَأْنُ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ إِلاَّ وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي جَمَعْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَةٍ. وَأَهْدَى هَدْيًا مُقَلَّدًا اشْتَرَاهُ، حَتَّى قَدِمَ فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَحْلِلْ مِنْ شَىْءٍ حَرُمَ مِنْهُ حَتَّى يَوْمِ النَّحْرِ، فَحَلَقَ وَنَحَرَ، وَرَأَى أَنْ قَدْ قَضَى طَوَافَهُ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ بِطَوَافِهِ الأَوَّلِ، ثُمَّ قَالَ: كَذَلِكَ صَنَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبالسند قال: (حدّثنا إبراهيم بن المندر) الحزامي المدني قال: (حدّثنا أبو ضمرة) عياض الليثي المدني قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) الأسدي المدني (عن نافع) مو ابن عمر المدني (قال: أراد ابن عمر -رضي الله عنهما- الحج عام حجة الحرورية) سنة أربع وستين وهي السنة التي مات فيها يزيد بن معاوية. والحرورية بفتح الحاء وضم الراء الأولى نسبة إلى قرية من قرى الكوفة كان

(3/222)


أول اجتماع الخوارج بها وهم الذين خرجوا على عليّ -رضي الله عنه- لما حكم أبا موسى الأشعري وعمرو بن العاص وأنكروا على علي في ذلك وقالوا: شككت في أمر الله وحكمت عدوّك وطالت خصومتهم، ثم أصبحوا يومًا وقد خرجوا وهم ثمانية آلاف وأميرهم ابن الكواء عبد الله، فبعث إليهم علي عبد الله بن عباس فناظرهم فرجع منهم ألفان وبقيت ستة آلاف، فخرج إليهم علي فقاتلهم، قوله: حجة بالنصب، وللأصيلي: حجة بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: عامة حجة الحرورية بالجر على الإضافة، وله عن الكشميهني: عام حج الحرورية بالتذكير

والجر. (في عهد ابن الزبير) عبد الله (-رضي الله عنهما-) واستشكل هذا لأنه مغاير لقوله في باب: طواف القارن من رواية الليث عن نافع عام نزل الحجاج بابن الزبير، لأن نزول الحجاج بابن الزبير كان في سنة ثلاث وسبعين وذلك في آخر أيام ابن الزبير، وحجة الحرورية كما سبق قريبًا في سنة أربع وستين وذلك قبل أن يتسمى ابن الزبير بالخلافة.
وأجيب: باحتمال أن الراوي أطلق على الحجاج وأتباعه حرورية بجامع ما بينهم من الخروج على أئمة الحق أو باحتمال تعدد القصة قاله صاحب الفتح وغيره.
(فقيل له) سبق في باب: من اشترى الهدي من الطريق أن القائل ابنه عبد الله، ويأتي إن شاء الله تعالى في باب: إذا أحصر المتمتع أن عبيد الله سالمًا ولديه كلماه في ذلك فقالوا: (إن الناس كائن بينهم قتال) يشير إلى الجيش الذي أرسله عبد الملك بن مروان وأمر عليه الحجاج لقتال ابن الزبير ومن معه بمكة، (ونخاف أن يصدوك) عن الحج بسبب ما يقع بينهم من القتال (فقال): ابن عمر: ({لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) بضم الهمزة وكسرها (إذا) أي حينئذ (أصنع) في حجي (كما صنع) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من التحلل حين حصر في الحديبية والابتداء بالعمرة كما أهلّ بها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين صدّ عام الحديبية أيضًا. وقوله: أصنع نصب بإذا (أشهدكم أني أوجبت عمرة حتى كان) ولأبوي ذر والوقت: حتى إذا كان (بظاهر البيداء) الشرف الذي قدام ذي الحليفة إلى جهة مكة (قال: ما شأن الحج والعمرة إلا واحد) في حكم الحصر، وإذا كان التحلل للحصر جائزًا في العمرة
مع أنها غير محدودة بوقت ففي الحج أجوز. (أشهدكم أني جمعت) ولأبي ذر: قد جمعت (حجة) ولأبوي ذر والوقت عن الحموي والمستملي: جمعت الحج (مع عمرة) ولم يكتف بالنية في إدخال الحج على العمرة بل أراد إعلام من يقتدي به أنه انتقل نظره إلى القران لاستوائهما فى حكم الحصر وفيه العمل بالقياس، (وأهدى هديًا مقلدًّا اشتراه) من قديد كما صرح به فيما سبق، وهذا موضع الترجمة كما لا يخفى ولم يزل مسوقًا معه (حتى قدم) أي إلى أن قدم مكة، ولأبوي ذر والوقت: حين قدم (فطاف بالبيت) للقدوم (وبالصفا) أي وبالمروة وحذفه للعلم به (ولم يزد على ذلك ولم يحلل من شيء حرم منه حتى يوم النحر) بجر يوم بحتى أي إلى يوم النحر (فحلق) شعر رأسه (ونحر) هديه (ورأى أن قد قضى) أي أدّى (طوافه) الذي طافه بعد الوقوف بعرفات للإفاضة (الحج) بالنصب، ولأبي الوقت: للحج بلام الجر فالرواية الأولى على نزع الخافض (والعمرة) نصب عطفًا على المنصوب السابق وعلى رواية أبي الوقت جر عطفًا على المجرور (بطوافه الأول) مراده بالأول الواحد.
قال البرماوي: لأن أول لا يحتاج أن يكون بعده شيء فلو قال: أول عبد يدخل فهو حرّ فلم يدخل إلا واحد عتق، والمراد أنه لم يجعل للقران طوافين بل اكتفى بواحد وهو مذهب الشافعي وغيره خلافًا للحنفية كما مرّ.

وقال ابن بطال: المراد بالطواف الأول الطواف بين الصفا والمروة، وأما الطواف بالبيت وهو طواف الإفاضة فهو ركن فلا يكتفى عنه بطواف القدوم في القران ولا في الإفراد وهذا قد سبق ذكره لك في باب: طواف القارن وإنما أعدناه لبعد العهد به.
(ثم قال): أي ابن عمر (كذلك) ولأبي ذر عن المستملي: هكذا (صنع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).

115 - باب ذَبْحِ الرَّجُلِ الْبَقَرَ عَنْ نِسَائِهِ مِنْ غَيْرِ أَمْرِهِنَّ
(باب ذبح الرجل البقر عن نسائه من غير أمرهن).

(3/223)


1709 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- تَقُولُ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ لاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ فَلَمَّا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ وَسَعَى بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ أَنْ يَحِلَّ. قَالَتْ: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ، مَا هَذَا؟ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَزْوَاجِهِ. قَالَ يَحْيَى: فَذَكَرْتُهُ لِلْقَاسِمِ فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام الأعظم (عن يحيى بن سعيد) الأنصاري (عن عمرة بنت عبد الرحمن) بن سعد بن زرارة الأنصارية (قالت): (سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) سنة عشرة من الهجرة (لخمس بقين من ذي القعدة) بفتح القاف وكسرها وسمي بذلك لأنهم كانوا يقعدون فيه عن القتال. وقوله: لخمس بقين يقتضي أن تكون قالته بعد انقضاء الشهر ولو قالته قبله لقالت أن بقين (لا نرى) بضم النون وفتح الراء أي لا نظن (إلا الحج) أي حين خروجهم من المدينة أو لم يقع في نفوسهم إلا ذلك لأنهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج (فلما دنونا) قربنا (من مكة) أي بسرف كما جاء عنها وبعد طوافهم بالبيت وسعيهم كما في رواية جابر، ويحتمل تكريره الأمر بذلك مرتين في الموضعين وأن العزيمة كانت آخرًا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة (أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من لم يكن معه هدي إذا طاف) بالبيت (وسعى بين الصفا والمروة أن يحل) بفتح أوله وكسر ثانيه أي يصير حلالاً بأن يتمتع.
(قالت) عائشة -رضي الله عنها-: (فدخل) بضم الدال وكسر الخاء مبنيًا للمفعول (علينا يوم النحر) بنصب يوم على الظرفية أي في يوم النحر (بلحم بقر فقلت: ما هذا؟ قال: نحر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أزواجه). عبر في الترجمة بلفظ الذبح وفي الحديث بلفظ النحر إشارة إلى رواية سليمان بن بلال الآتية إن شاء الله تعالى في باب: ما يأكل من البدن وما يتصدق، ولفظه. فدخل

علينا يوم النحر بلحم بقر فقلت ما هذا؟ فقيل ذبح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أزواجه ونحر البقر جائز عند العلماء، لكن الذبح مستحب لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67] واستفهام عائشة عن اللحم لما دخل به عليها استدلّ به المؤلّف لقوله بغير أمرهن، لأنه لو كان الذبح بعلمها لم تحتج إلى الاستفهام لكن ذلك ليس دافعًا لاحتمال أن يكون تقدم علمها بذلك فيكون وقع استئذانهن في ذلك، لكن لما أدخل اللحم عليها احتمل أن يكون هو الذي وقع الاستئذان فيه وأن يكون غير ذلك فاستفهمت عنه لذلك قاله في الفتح. وقال النووي: هذا محمول على أنه، استأذنهن لأن التضحية عن الغير لا تجوز إلا بإذنه. وقال البرماوي: وكأن البخاري عمل بأن الأصل عدم الاستئذان.
(قال يحيى): أي ابن سعيد الأنصاري بالسند المذكور إليه (فذكرته للقاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق (فقال: أتتك بالحديث على وجهه) أي ساقته لك سياقًا تامًا ولم تختصر منه شيئًا ولا غيرته بتأويل.
وهذا الحديث أخرجه في الحج والجهاد ومسلم في الحج وكذا النسائي.

116 - باب النَّحْرِ فِي مَنْحَرِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِنًى
(باب النحر في منحر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمنى) وهو بفتح الميم وسكون النون وفتح الحاء المهملة الموضع الذي تنحر فيه الإبل وهو عند الجمرة الأولى التي تلي مسجد الخيف.
1710 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ خَالِدَ بْنَ الْحَارِثِ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ -رضي الله عنه- كَانَ يَنْحَرُ فِي الْمَنْحَرِ. قَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: مَنْحَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه أنه (سمع خالد بن الحرث) الهجيمي البصري قال: (حدّثنا عبيد الله) بتصغير عبد (بن عمر) بن الخطاب (عن نافع) مولى ابن عمر (أن عبد الله) بن عمر بن الخطاب (-رضي الله عنه- كان ينحر) هديه (في المنحر. قال عبيد الله): بن عمر المذكور (منحر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بجر منحر بدلاً من المجرور السابق، ومنى كلها منحر فليس في تخصيص ابن عمر بمنحره عليه الصلاة والسلام دلالة على أنه من المناسك لكنه كان شديد الاتباع للسنة. نعم في منحره عليه الصلاة والسلام فضيلة على غيره.
1711 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كَانَ يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مِنْ جَمْعٍ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ حَتَّى يُدْخَلَ بِهِ مَنْحَرُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَعَ حُجَّاجٍ فِيهِمُ الْحُرُّ وَالْمَمْلُوكُ".

وبه قال (حدّثنا) بالجمع ولأبي الوقت: حدثني (إبراهيم بن المنذر) الحزامي بالزاي وثقه ابن معين وابن وضاح والنسائي وأبو حاتم والدارقطني، وتكلم فيه أحمد من أجل القرآن. وقال الساجي: عنده مناكير، واعتمده البخاري وانتقى من حديث، وروى له الترمذي والنسائي وغيرهما قال: (حدّثنا أنس بن عياض) أبو ضمرة الليثي المدني قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) مولى آل الزبير الإمام في المغازي ولم يصح أن ابن معين لينه وقد اعتمده الأئمة كلهم (عن

(3/224)


نافع أن ابن عمر -رضي الله عنهما- ما كان يبعث بهديه من جمع) بسكون الميم بعد فتح الجيم أي من المزدلفة (من آخر الليل حتى يدخل به) بضم الياء وفتح الخاء المعجمة مبنيًّا للمفعول (منحر النبى) رفع نائب عن الفاعل، ولأبي ذر: منحر رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مع حجاج فيهم) أي في الحجاج (الحر والمملوك) مراده أنه لا يشترط بعث الهدي مع الأحرار دون العبيد، وأردف المؤلّف طريق موسى بن عقبة هذه بسابقتها لتصريحها بإضافة المنحر إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في نفس الحديث مع زيادة من الفوائد فرحمه الله وأثابه، وزاد أبو ذر عن المستملي: هنا.

117 - باب مَنْ نَحَرَ بِيَدِهِ
(باب من نحر هديه بيده) وهو أفضل إذا أحسن النحر من أن ينحر عنه غيره.
1712 - حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ -وَذَكَرَ الْحَدِيثَ- قَالَ "وَنَحَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، مُخْتَصَرًا".
وبالسند قال: (حدّثنا سهل بن بكار) بتشديد الكاف بعد فتح الموحدة قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو وفتح الهاء مصغر وهب (عن أيوب) السختياني (عن أبي قلابة) بكسر القاف ابن زيد (عن أنس، وذكر الحديث) الآتي بتمامه إن شاء الله تعالى بعد باب السند بعينه.
(قال): أنس: (ونحر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده) الكريمة (سبع بدن) بضم الموحدة وسكون الدال وفي بعض النسخ سبعة بالتأنيث. قال التيمي: على إرادة أبعرة حال كونهن (قيامًا) والمسوغ لوقوع الحال من النكرة مع تأخّرها عنها تخصيص النكرة بالإضافة (وضحى بالمدينة كبشين) قال ابن التين: صوابه بكبشين (أملحين) يخالط بياضهما أدنى سواد (أقرنين)، أي كبيري القرنين رواه (مختصرًا).
وهذا الباب وحديثه ساقط لجميع الرواة إلا لأبي ذر عن المستملي وحده، وفي نسخة الصغاني بعد الترجمة ما نصه: حديث سهل بن بكار عن وهيب فاكتفى بالإشارة، وقد أخرج الحديث المؤلّف بعد باب كما مرّ وفي موضع آخر من الحج وفي الجهاد، ومسلم في الصلاة وكذا النسائي، وأخرجه أبو داود بعضه في الحج وبعضه في الأضاحي.

118 - باب نَحْرِ الإِبِلِ مُقَيَّدَةً
(باب نحر الإبل) حال كونها (مقيدة) وموضع النحر اللبة وهي بفتح اللام من أسفل العنق فيقطع الحلقوم والمريء، وموضع الذبح الحلق وهو أسفل مجمع اللحيين وهو أعلى العنق، وكمال الذبح قطع الحلقوم وهو بضم الحاء مخرج النفس والمريء وهو بالمد والهمزة مجرى الطعام والشراب وهو تحت الحلقوم، والودجين بفتح الواو والدال وهما عرقان في صفحتي العنق محيطان بالحلقوم. ويسن نحر إبل وذبح بقر وغنم ويجوز عكسه، ولأبي ذر: نحر الإبل المقيدة بالتعريف.
1713 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ عَنْ يُونُسَ عَنِ زِيَادِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ "رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَتَى عَلَى رَجُلٍ قَدْ أَنَاخَ بَدَنَتَهُ يَنْحَرُهَا، قَالَ: ابْعَثْهَا قِيَامًا مُقَيَّدَةً سُنَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ يُونُسَ: أَخْبَرَنِي زِيَادٌ.
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) القعنبي قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) تصغير زرع العيشي (عن يونس) بن عبد الله بن دينار العبدي (عن زياد بن جبير) بن حيّة ضدّ الميتة الثقفي البصري (قال: رأيت ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما-: أتى على رجل) لم يسم (قد أناخ بدنته) أي بركها حال كونه (ينحرها) زاد أحمد عن إسماعيل ابن علية عن يونس: بمنى (قال): أي ابن عمر (ابعثها) أي أثرها حال كونها (قيامًا) مصدر بمعنى قائمه أي معقولة اليسرى رواه أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم وانتصابه على الحال. قال التوربشتي: ولا يصح أن يجعل العامل في قيامًا ابعثها لأن البعث إنما يكون قبل القيام واجتماع الأمرين في حالة واحدة غير ممكن اهـ.
وأجاب الطيبي: باحتمال أن تكون حالاً مقدرة فيجوز تأخره عن العامل كما في التنزيل: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا} [الصافات: 112] أي ابعثها مقدرًا قيامها وتقييدها ثم انحرها، وقيل: معنى ابعثها أقمها فعلى هذا انتصاب قيامًا على المصدرية (مقيدة) نصب على الحال من الأحوال المترادفة أو التداخلة (سُنة) بنصب سنة بعامل مضمر على أنه مفعول به والتقدير فاعلاً بها أو مقتفيًا سنّة (محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ويجوز الرفع بتقدير هو سنة محمد، وقول الصحابي من السنة كذا مرفوع عند الشيخين لاحتجاجهما بهذا الحديث في صحيحهما.
(وقال شعبة) هو ابن الحجاج مما وصله إسحاق بن راهويه (عن يونس): قال: (أخبرني) بالإفراد (زياد) وفائدة ذكره لهذا بيان سماع يونس للحديث من زياد، والحديث أخرجه مسلم

(3/225)


وأبو داود والنسائي في الحج.

119 - باب نَحْرِ الْبُدْنِ قَائِمَةً
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: سُنَّةَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما {صَوَافَّ} قِيَامًا.
(باب نحر البدن) حال كونها (قائمة) ولأبي ذر عن الكشميهني: قيامًا مصدر بمعنى الرواية السابقة.
(وقال ابن عمر): بن الخطاب (-رضي الله عنهما-): فيما ذكره موصولاً في الباب السابق (سنة محمد) نصب بفعل محذوف، ولأبي ذر: من سنة محمد، وفي نسخة: قيامًا سنة محمد (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
(وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-): مما رواه سعيد بن منصور عن ابن عيينة في تفسيره عن عبيد الله بن أبي يزيد عنه في قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا} [الحج: 36] ({صواف}) أي (قيامًا). وفي المستدرك للحاكم من وجه آخر عن ابن عباس في قوله: صوافن أي بكسر الفاء بعدها نون أي قيامًا على ثلاث قوائم معقولة وهي قراءة ابن مسعود، وهي جمع صافنة وهي التي رقعت إحدى يديها بالعقل لئلا تضطرب.
1714 - حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ بَكَّارٍ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ "صَلَّى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ فَبَاتَ بِهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ يُهَلِّلُ وَيُسَبِّحُ، فَلَمَّا عَلاَ عَلَى الْبَيْدَاءِ لَبَّى بِهِمَا جَمِيعًا. فَلَمَّا دَخَلَ مَكَّةَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحِلُّوا، وَنَحَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ سَبْعَ بُدْنٍ قِيَامًا، وَضَحَّى بِالْمَدِينَةِ كَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ".
وبالسند قال: (حدّثنا سهل بن بكار) أبو بشر الدارمي قال: (حدّثنا وهيب) هو ابن خالد بن عجلان (عن أيوب) السختياني (عن أبي قلابة) بن زيد الجرمي (عن أنس) هو ابن مالك (-رضي الله عنه- قال): (صلّى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظهر بالمدينة أربعًا والعصر بذي الحليفة) ميقات أهل المدينة (ركعتين) قصرًا وذلك في حجة الوداع (فبات بها) أي بذي الحليفة (فلما أصبح) وللكشميهني فيما ذكره الحافظ ابن حجر: فبات بها حتى أصبح (ركب راحلته فجعل يهلل ويسبح فلما علا على البيداء لبى بهما) أي بالحج والعمرة (جميعًا فلما دخل) عليه الصلاة والسلام (مكة أمرهم) أي أمر من لم يكن معه هدي من أصحابه (أن يحلوا) بفتح الياء وكسر الحاء بأعمال العمرة. (ونحر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيده سبعة بدن) أي أربعة فلذا أدخل التاء، وفي رواية غير أبي ذر: سبع بدن بدون تاء فلا حاجة إلى التأويل (قيامًا) نصب صفة لسبع أو حال منه أي قائمة. قال البيضاوي: والعامل فعل محذوف دل عليه قرينة الحال أي نحرها قائمة على ثلاث من قوائمها معقولة اليسرى وهذا مذهب الشافعية والحنابلة وقال الحنفية: تنحر باركة وقائمة. (وضحى بالمدينة كبشين أملحين) يخالط بياضهما سواد (أقرنين) تثنية أقرن وهو الكبير القرن.

1715 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ "صَلَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الظُّهْرَ بِالْمَدِينَةِ أَرْبَعًا، وَالْعَصْرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ". وَعَنْ أَيُّوبَ عَنْ رَجُلٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- "ثُمَّ بَاتَ حَتَّى أَصْبَحَ فَصَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ رَكِبَ رَاحِلَتَهُ، حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ الْبَيْدَاءَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ وَحَجَّةٍ".
وبه قال: (حدّثنا مسدد) (حدّثنا إسماعيل) بن علية (عن أيوب) السختياني (عن أبي قلابة) عبد الله بن زيد (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال): (صلّى النبي الظهر بالمدينة أربعًا والعصر بذي الحليفة ركعتين) (وعن أيوب) السختياني (عن رجل) هو مجهول احتملت جهالته لأنه في المتابعة وقيل هو أبو قلابة (عن أنس -رضي الله عنه-) (ثم بات) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (حتى أصبح فصلّى الصبح ثم ركب راحلته حتى إذا استوت به البيداء) نصب على نزع الخاف أي على البيداء (أهل بعمرة وحجة).

120 - باب لاَ يُعْطَى الْجَزَّارُ مِنَ الْهَدْيِ شَيْئًا
هذا (باب) بالتنوين (لا يعطى) صاحب الهدي (الجزار من الهدي) الذي ذبحه (شيئًا) وفي نسخة: لا يعطى بضم أوله وفتح ثالثه مبنيًا للمفعول الجزار رفع نائب عن الفاعل.
1716 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ "بَعَثَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُمْتُ عَلَى الْبُدْنِ، فَأَمَرَنِي فَقَسَمْتُ لُحُومَهَا ثُمَّ أَمَرَنِي فَقَسَمْتُ جِلاَلَهَا وَجُلُودَهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (قال: أخبرني) ولأبي ذر: حدثني بالإفراد فيهما (ابن أبي نجيح) بفتح النون عبد الله بن يسار المكي الثقفي وثقه أحمد وابن معين والنسائي وأبو زرعة. وقال أبو حاتم: إنما يقال فيه من جهة القدر وهو صالح الحديث، وذكره النسائي فيمن كان يدلس واحتج به الجماعة. (عن مجاهد) هو ابن جبر (عن عبد الرحمن بن أبي ليلى) الأنصاري المدني ثم الكوفي (عن علي -رضي الله عنه- قال): (بعثني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقمت على البدن) التي أرصدها للهدي وأتولى أمرها في ذبحها وتفرقتها وكانت مائة كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى (فأمرني عليه الصلاة والسلام فقسمت لحومها ثم أمرني) عليه الصلاة والسلام (فقسمت جلالها) بكسر الجيم جمع جل (وجلودها).
1716 م - قَالَ سُفْيَانُ وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الْكَرِيمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- قَالَ "أَمَرَنِي النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ أَقُومَ عَلَى الْبُدْنِ، وَلاَ أُعْطِيَ عَلَيْهَا شَيْئًا فِي جِزَارَتِهَا".
(قال): ولأبوي ذر والوقت وقال: (سفيان) الثوري بالسند السابق وهو موصول عند النسائي

أيضًا: (وحدثني) بالإفراد (عبد الكريم) بن مالك الجزري (عن مجاهد عن عبد الرحمن

(3/226)


بن أبي ليلى عن علي -رضي الله عنه- قال): (أمرني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن أقوم على البدن) وكانت مائة. وفي حديث جابر الطويل عند مسلم: أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحر منها ثلاثًا وستين بدنة ثم أعطى عليًّا فنحر ما غبر وأشركه في هديه (ولا أعطي عليها شيئًا) بضم الهمزة وكسر الطاء والنصب عطفًا على المنصوب السابق الجزار (في) أجرة (جزارتها) بكسر الجيم اسم للفعل يعني عمل الجزار، وجوز ابن التين ضمها وهو اسم للسواقط، فإن صحت الرواية بالضم جاز أن يكون المراد أن لا يعطي من بعض الجزور أجرة للجزار نعم يجوز إعطاؤه منها صدقة إذا كان فقيرًا واستوفى أجرته كاملة وهذا موضع الترجمة.
والحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في الحج والوكالة ومسلم وأبو داود في الحج وابن ماجة في الأضاحي.

121 - باب يُتَصَدَّقُ بِجُلُودِ الْهَدْيِ
هذا (باب) بالتنوين (يتصدق) صاحب الهدي (بجلود الهدي) ولا تباع، ولغير أبي ذر: يتصدق بضم أوله مبنيًا للمفعول.
1717 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُسْلِمٍ وَعَبْدُ الْكَرِيمِ الْجَزَرِيُّ أَنَّ مُجَاهِدًا أَخْبَرَهُمَا أَنَّ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَخْبَرَهُ أَنَّ عَلِيًّا -رضي الله عنه- أَخْبَرَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ عَلَى بُدْنِهِ، وَأَنْ يَقْسِمَ بُدْنَهُ كُلَّهَا لُحُومَهَا وَجُلُودَهَا وَجِلاَلَهَا، وَلاَ يُعْطِيَ فِي جِزَارَتِهَا شَيْئًا".
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد بن مسربل بن مغربل الأسدي البصري قال: (حدثنا يحيى) بن أبي كثير اليماني (عن ابن جريج) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج (قال: أخبرني) بالإفراد (الحسن بن مسلم) هو ابن يناق بفتح المثناة التحتية وتشديد النون آخره قاف المكي (وعبد الكريم الجزري أن مجاهدًا أخبرهما أن عبد الرحمن بن أبي ليلى أخبره أن عليًّا -رضي الله عنه- أخبره).
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمره أن يقوم على بدنه وأن يقسم بدنه كلها لحومها) إلا ما أمر به من كل بدنة ببضعة فطبخت كما في حديث مسلم الطويل عن جابر (وجلودها وجلالها)، زاد ابن خزيمة من هذا الوجه على المساكين (ولا يعطي في جزارتها شيئًا).
قال النووي في شرح مسلم: ومذهبنا أنه لا يجوز بيع جلد الهدي ولا الأضحية ولا شيء من أجزائها سواء كان تطوّعًا أو واجبين لكن إن كانا تطوعًا فله الانتفاع بالجلد وغيره باللبس وغيره وبه قال مالك وأحمد.

122 - باب يُتَصَدَّقُ بِجِلاَلِ الْبُدْنِ
هذا (باب) بالتنوين (يتصدق) صاحب الهدي (بجلال البدن) ولغير أبي ذر: يتصدق بضم أوله مبنيًا للمفعول.
1718 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ أَبِي سُلَيْمَانَ قَالَ سَمِعْتُ مُجَاهِدًا يَقُولُ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي لَيْلَى أَنَّ عَلِيًّا -رضي الله عنه- حَدَّثَهُ قَالَ "أَهْدَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِائَةَ بَدَنَةٍ، فَأَمَرَنِي بِلُحُومِهَا فَقَسَمْتُهَا، ثُمَّ أَمَرَنِي بِجِلاَلِهَا فَقَسَمْتُهَا، ثُمَّ بِجُلُودِهَا فَقَسَمْتُهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سيف بن أبي سليمان) المخزومي المكي، وقيل سيف بن سليمان. قال النسائي: ثقة ثبت. وقال أبو زكريا الساجي: أجمعوا على أنه صدوق غير أنه اتهم بالقدر. وقال الحافظ ابن حجر: له في البخاري أحاديث. أحدها في الأطعمة حديث حذيفة في آنية الذهب بمتابعة الحكم وابن عون وغيرهما عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عنه، وفي الحج حديث علي في القيام على البدن بمتابعة ابن أبي نجيح وغيره عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عنه، وآخر في الحج حديث كعب بن عجرة في الفدية وغيره عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عنه، وآخر في الحج حديث كعب بن عجرة في الفدية بمتابعة حميد بن قيس وغيره عن مجاهد عن ابن أبي ليلى عنه. وحديث في الصلاة وفي التهجد حديث ابن عمر عن بلال في صلاة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أخرجه من حديثه عن مجاهد عنه وله متابع عنده عن نافع وعن سالم معًا وروى له الباقون إلا الترمذي.
(قال: سمعت مجاهدًا يقول: حدثني) بالإفراد (ابن أبي ليلى) عبد الرحمن (أن عليًّا -رضي الله عنه- حدثه: قال): (أهدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مائة بدنة فأمرني بلحومها فقسمتها) على المساكين (ثم أمرني بجلالها) بكسر الجيم (فقسمتها) أي على المساكين أيضًا. قال الشافعي في القديم: ويتصدق بالنعال وجلال البدن. وقال المهلب: ليس التصدق بجلال البدن فرضًا. وقال المرداوي: من الحنابلة في تنقيحه وله أن ينتفع بجلدها وجلها أو يتصدق به ومحرم بيعهما وشيء منهما. وقال المالكية: وخطام الهدايا كلها وجلالها كلحمها فحيث يكون اللحم مقصورًا على المساكين يكون الجلال والخطام كذلك وحيث يكون اللحم مباحًا للأغنياء والفقراء يكون الخطام والجلال كذلك تحقيقًا للتبعية فليس له أن يأخذ من ذلك ولا يأمر بأخذه في المنوع من أكل لحمه، فإن أمر أحدًا بأخذ شيء من ذلك أو أخذ هو شيئًا ردّه وإن أتلفه غرم قيمته للفقراء. وقال

(3/227)


العيني من الحنفية، وقال أصحابنا: يتصدق بجلال الهدي وزمامه لأنه عليه الصلاة والسلام أمر عليًّا بذلك، والظاهر أن هذا الأمر أمر استحباب.
(ثم) أمرني عليه الصلاة والسلام (بجلودها فقسمتها) وهذا لفظ رواية الحسن بن مسلم وأما لفظ رواية عبد الكريم فأخرجها مسلم من طريق ابن أبي خيثمة زهير بن معاوية عنه ولفظه: أمرني

رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن أقوم على بدنه وأن أتصدق بلحمها وجلودها وأجلتها وأن لا أعطي الجزار منها وقال: نحن نعطيه من عندنا.

123 - باب
{وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لاَ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:26 - 30].
هذا (باب) بالتنوين ({واذ بوّأنا لإبراهيم}) واذكر زمان جعلنا له ({مكان البيت}) مباءة مرجعًا يرجع إليه للعمارة والعبادة وذكر مكان البيت لأن البيت ما كان حينئذ ({أن لا تشرك بي شيئًا}) أن مفسرة لبوّأنا من حيث أنه تضمن معنى تعبدنا أي ابنه على اسمي وحدي ({وطهّر بيتي}) من الشرك ({للطائفين}) حوله ({والقائمين والركع السجود}) عبر عن الصلاة بأركانها ولم يذكر الواو بين الركع والسجود ذكرها بين القائمين والركع لكمال الاتصال بين الركوع والسجود إذ لا ينفك أحدهما عن الآخر في الصلاة فرضًا أو نفلاً وينفك القيام عن الركوع فلا يكون بينهما كمال الاتصال أو المراد بالقائمين المعتكفون لمشاهدة الكعبة وبالركع السجود المصلون ({وأذن}) ناد ({في الناس بالحج}) بدعوته والأمر به روي أنه قام على مقامه أو على الحجر أو على الصفا أو على أبي قبيس وقال: إن ربكم اتخذ بيتًا فحجوه فأجابه كل شيء من شجر وحجر، ومن كتب الله له الحج إلى يوم القيامة وهم في أصلاب آبائهم لبيك اللهم لبيك ({يأتوك رجالاً) مشاة جمع راحل ({وعلى كل ضامر}) أي وركبانًا على كل بعير مهزول أتعبه بعد السفر فهزله حال معطوف على حال ({يأتين}) صفة لضامر وجمعه باعتبار معناه ({من كل فج عميق}) طريق بعيد ({ليشهدوا) ليحضروا ({منافع لهم}) دينية ودنيوية ({ويذكروا اسم الله}) عند إعداد الهدايا والضحايا وذبحها ({في أيام معلومات}) عشر ذي الحجة أو يوم النحر وثلاثة بعده ويعضد الثاني قوله: ({على ما رزقهم من بهيمة الأنعام}) فإن المراد التسمية عند ذبح الهدايا والضحايا ({فكلوا منها}) من لحومها والأمر للاستحباب أو للإباحة، فالجاهلية يحرمون أكلها، وعند الأكثرين لا يجوز الأكل من الدم الواجب ({وأطعموا البائس}) الذي أصابه بؤس أي شدة ({الفقير}) المحتاج ({ثم ليقضوا}) يزيلوا ({تفثهم}) وسخهم بقص الشوارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الإحلال أو التفث المناسك ({وليوفوا نذورهم}) ما ينذرون بالبر في حجهم ({وليطوفوا}) طواف الركن أو طواف الوداع ({بالبيت العتيق}) القديم لأنه أول بيت وضع للناس أو المعتق من تسلط الجبابرة، فكم من جبار سار إليه ليهدمه فمنعه

الله، وأما الحجاج فإنه قصد إخراج ابن الزبير منه دون التسلط عليه وقيل لأنه تعتق فيه رقاب المذنبين من العذاب، لكن قال ابن عطية: وهذا يردّه التصريف اهـ.
وتعقبه أبو حيان فقال: لا يردّه لأنه فسره تفسير معنى وأما من حيث الإعراب فلأن العتيق فعيل بمعنى مفعل أي معتق رقاب المذنبين ونسبة الإعتاق إليه مجاز إذ بزيارته والطواف به يحصل الإعتاق وينشأ عن كونه معتقًا أن يقال تعتق فيه رقاب المذنبين.
({ذلك}) أي الأمر ذلك ({ومن يعظم حرمات الله}) بترك ما نهى الله عنه أو بتعظيم بيته والشهر الحرام والإحرام ({فهو}) أي التعظيم ({خير له عند ربه}) ثوابًا.
ورواية أبوي ذر والوقت ({يأتوك رجالاً}) إلى قوله: ({فهو خير له عند ربه}) فحذفا ما ثبت عند غيرهما مما ذكر من الآيات، وعزا في فتح الباري سياق الآيات كلها لرواية كريمة قال: والمراد منها هنا قوله تعالى: ({فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير}) ولذلك عطف عليها في الترجمة وما يأكل من البدن وما يتصدق أي بيان المراد من الآية اهـ.
واعترضه صاحب عمدة القاري بأن الذي في معظم النسخ باب بعد قوله تعالى: ({فهو خير له عند ربه}) [البقرة: 184] وقبل قوله

(3/228)


ما يأكل من البدن ثم قال: وأين العطف في هذا وكل واحد من البابين ترجمة مستقلة، والظاهر أن المؤلّف لم يجد في الترجمة الأولى حديثًا يطابقها على شرطه اهـ.
وهذا عجيب منه فإن قوله في معظم النسخ باب فيه إشعار بحذفه في بعض النسخ مما وقف هو عليه، ولا مانع أن يعتمده شيخ الصنعة الحافظ ابن حجر لما ترجح عنده بل صرح -رحمه الله- بأنه الصواب وهو رواية الحافظ أبي ذر مع ثبوت واو العطف قبل قوله: وما يأكل من البدن، ولغير أبي ذر كما في الفرع وغيره.

124 - باب مَا يَأْكُلُ مِنَ الْبُدْنِ وَمَا يُتَصَدَّقُ
وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: لاَ يُؤْكَلُ مِنْ جَزَاءِ الصَّيْدِ وَالنَّذْرِ وَيُؤْكَلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَأْكُلُ وَيُطْعِمُ مِنَ الْمُتْعَةِ.
(باب ما يأكل) صاحب الهدي (من البدن وما يتصدق) به منها، ولغير أبي ذر: وما يتصدق بضم أوله مبنيًا للمفعول.
(وقال عبيد الله) بن عمر العمري مما وصله ابن أبي شيبة بمعناه، والطبراني من طريق القطان بلفظه (أخبرني) بالإفراد (نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه قال: (لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر) بضم الياء من يؤكل أي لا يأكل المالك من الذي جعله جزاء لصيد الحرم ولا من المنذور بل يجب التصدق بهما وهو قول مالك ورواية عن أحمد، وزاد مالك إلا فدية الأذى،
وعن أحمد لا يؤكل إلا من هدي التطوّع والمتعة والقران وهو قول الحنفية بناء على أن دم التمتع والقران دم نسك لا دم جبران. (ويؤكل مما سوى ذلك) ولو عطب الهدي في الطريق وكان تطوعًا فله التصرف فيه ببيع وأكل وغيرهما لأن ملكه ثابت عليه وإن كان نذرًا لزمه ذبحه لأنه هدي معكوف على الحرم فوجب نحره مكانه كهدي المحصر وليس له التصرف فيه بما يزيل الملك أو يؤول إلى زواله كالوصية والرهن والهبة لأنه بالنذر زال ملكه عنه وصار للمساكين، وفارق ما لو قال: لله علي إعتاق هذا العبد حيث لا يزول ملكه عنه إلا بإعتاقه وإن امتنع التصرف فيه بأن الملك هنا ينتقل إلى المساكين فانتقل بنفس النذر كالوقف. وأما الملك في العبد فلا ينتقل إليه ولا إلى غيره بل ينتقل العبد عنه فإن لم يذبح الهدي المعطوب حتى تلف ضمنه لتفريطه كنظيره في الوديعة.
(وقال عطاء): هو ابن أي رباح مما وصله عبد الرزاق عن ابن جريج عنه (يأكل) من جزاء الصيد والنذر (وبطعم من المتعة) أي من الهدي المسمى بدم التمتع الواجب على المتمتع.
1719 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ حَدَّثَنَا عَطَاءٌ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- يَقُولُ "كُنَّا لاَ نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاَثِ مِنًى، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كُلُوا وَتَزَوَّدُوا، فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا". قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَقَالَ حَتَّى جِئْنَا الْمَدِينَةَ؟ قَالَ: لاَ. [الحديث 1719 - أطرافه في: 2980، 5424، 5567].
وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان البصري (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز قال (حدّثنا عطاء) هو ابن أبي رباح أنه (سمع جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- يقول: كنا لا نأكل من لحوم بدننا فوق ثلاث منى)، بإضافة ثلاث إلى منى أي الأيام الثلاثة التي يقام بها بمنى وهي الأيام المعدودات. وقال في المصابيح: والأصل ثلاث ليال منى كما في قولهم: حب رمان زيد فإن القصد إضافة الحب المختص بكونه للرمان إلى زيد، ومثله ابن قيس الرقيات فإن الملتبس بالرقيات ابن قيس لا قيس. قال الشيخ سعد الذين التفتازاني: وتحقيقه أن مطلق الحب مضاف إلى الرمان والحب المقيد بالإضافة إلى الرمان مضاف إلى زيد قال الدماميني وفيه نظر فتأمله. (فرخص لنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(كلوا وتزوّدوا) (فأكلنا وتزودنا) قال ابن جريج (قلت لعطاء: أقال) جابر (حتى جئنا المدينة؟ قال): عطاء (لا) أي لم يقل جابر حتى جئنا المدينة، ووقع في مسلم "نعم" بدل قوله "لا" وجمع بينهما بالحمل على أنه نسي فقال: لا ثم تذكر فقال: نعم.
وهذا الحديث ناسخ للنهي الوارد في حديث علي عند مسلم: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهانا أن نأكل من لحوم نسكنا بعد ثلاث وغيره وهو من نسخ السنة بالسنة، وحديث الباب أخرجه مسلم في الأضاحي والنسائي في الحج.

1720 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ قَالَ حَدَّثَنِي يَحْيَى قَالَ حَدَّثَتْنِي عَمْرَةُ قَالَتْ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- تَقُولُ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ وَلاَ نَرَى إِلاَّ الْحَجَّ، حَتَّى إِذَا دَنَوْنَا مِنْ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ هَدْيٌ إِذَا طَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ يَحِلُّ. قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله عنها-: فَدُخِلَ عَلَيْنَا يَوْمَ النَّحْرِ بِلَحْمِ بَقَرٍ، فَقُلْتُ مَا هَذَا؟ فَقِيلَ ذَبَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ أَزْوَاجِهِ" قَالَ يَحْيَى فَذَكَرْتُ هَذَا الْحَدِيثَ لِلْقَاسِمِ فَقَالَ: أَتَتْكَ بِالْحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ.
وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون الخاء المعجمة البجلي الكوفي القطواني بفتح القاف والطاء قال: (حدّثنا سليمان) ولأبي ذر: سليمان بن بلال (قال: حدثني) بالإفراد (يحيى) بن سعيد الأنصاري قال: (حدثتني) بالإفراد (عمرة) بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصارية المدنية (قالت: سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول):
(خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في حجة الوداع (لخمس بقين من ذي القعدة) سنة

(3/229)


عشر (ولا نرى) بضم النون أي لا نظن (إلا الحج) لأنهم كانوا لا يعرفون العمرة في أشهر الحج (حتى إذا دنونا من مكة) بسرف كما في رواية عن عائشة، وفي رواية جابر: بعد الطواف والسعي (أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ويحتمل تكرير أمره عليه الصلاة والسلام بذلك مرتين في الموضعين وأن العزيمة كانت آخرًا حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة (من لم يكن معه هدي إذا طاف بالبيت) أي يتم عمرته (ثم يحل) بفتح الياء وكسر الحاء فجواب إذا محذوف، ويجوز أن تكون إذا ظرفًا لقوله لم يكن، وجواب من لم يكن محذوف. وجوّز الكرماني زيادة (ثم) كقول الأخفش في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118] أن تاب جواب إذا، وثم زائدة. وفي بعض الأصول لفظ (إذا) ساقط فيكون التقدير: من لم يكن معه هدي طاف، وحينئذ فجواب من قوله طاف، وقوله ثم يحل عطف أي ثم بعد طوافه يحل، ولأبي ذر والأصيلي: إذا طاف بالبيت أن يحل أي يخرج من إحرام العمرة.
(قالت عائشة: -رضي الله عنها-) (فدخل علينا) وثبت لفظ علينا لأبي الوقت (يوم النحر بلحم بقر) بضم دال فدخل وكسر خائه ولغير أبي ذر: فدخل علينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم النحر بلحم بقر (فقلت ما هذا)؟ اللحم (فقيل: ذبح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن أزواجه) وسبق في باب ذبح الرجل البقر عن نسائه بغير أمرهن التعبير بنحر والذبح للبقر أولى من النحر لقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67].
(قال يحيى): بن سعيد المذكور بالسند السابق إليه (فذكرت هذا الحديث للقاسم) بن محمد بن أبي بكر الصديق (فقال: أتتك) أي عمرة (بالحديث على وجهه). وهذا الحديث قد سبق كما مرّ.

125 - باب الذَّبْحِ قَبْلَ الْحَلْقِ
(باب الذبح قبل الحلق).
1721 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَوْشَبٍ حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ أَخْبَرَنَا مَنْصُورٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَمَّنْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ وَنَحْوِهِ فَقَالَ: لاَ حَرَجَ، لاَ حَرَجَ".
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله بن حوشب) بفتح الحاء المهملة والشين المعجمة بينهما واو ساكنة وآخره موحدة بوزن جعفر نزيل الكوفة قال: (حدّثنا هشيم) بضم الهاء وفتح الشين المعجمة ابن بشير بوزن عظيم ابن القاسم بن دينار السلمي قال: (أخبرنا منصور) ولأبوي ذر والوقت عن المستملي: منصور بن زاذان بالزاي والذال المعجمتين (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمن حلق) رأسه (قبل أن يذبح) الهدي (ونحوه) كطواف الركن قبل الرمي (فقال): عليه الصلاة والسلام:
(لا حرج، لا حرج) مرتين ونفي الحرج يقتضي أن الأصل سبق الذبح على الحلق فتحصل المطابقة بين الترجمة وهذا الحديث والذي بعده.
1722 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: زُرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: لاَ حَرَجَ. قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: لاَ حَرَجَ. قَالَ: ذَبَحْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: لاَ حَرَجَ". وَقَالَ عَبْدُ الرَّحِيمِ الرَّازِيُّ عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ الْقَاسِمُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنِي ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ عَفَّانُ أُرَاهُ عَنْ وُهَيْبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ خُثَيْمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ حَمَّادٌ عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ وَعَبَّادِ بْنِ مَنْصُورٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس اليربوعي الكوفي قال: (أخبرنا أبو بكر) هو ابن عياش بتشديد المثناة التحتية وبالشين المعجمة الأسدي الكوفي (عن عبد العزيز بن رفيع) بضم الراء وفتح الفاء وسكون التحتية آخره عين مهملة الأسدي المكي سكن الكوفة (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن ابن عباس رضي الله عنهما) أنه قال: (قال رجل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زرت) أي طفت طواف الزيارة (قبل أن أرمي) جمرة العقبة (قال):
(لا حرج) عليك. (قال: حلقت) رأسي (قبل أن أذبح) الهدي (قال) (لا حرج) عليك. (قال: ذبحت) الهدي (قبل أن أرمي) الجمرة (قال): (لا حرج) عليك.
(وقال عبد الرحيم) بن سليمان الأشل (الرازي) مما وصله الإسماعيلي (عن ابن خثيم) بضم الخاء المعجمة وفتح المثلثة عبد الله بن عثمان المكي قال: (أخبرني) بالإفراد (عطاء عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
ولفظ الإسماعيلي أن رجلاً قال: يا رسول الله طفت بالبيت قبل أن أرمي قال "ارم ولا حرج" وعرف بهذا أن مراد المؤلّف أصل الحديث لا خصوص ما ترجم له من الذبح قبل الحلق كما نبه عليه في الفتح.
(وقال القاسم بن يحيى) بن عطاء الهلالي الواسطي المتوفى سنة سبع وتسعين ومائة (حدثني) بالإفراد (ابن خثيم) عبد الله المذكور (عن عطاء عن ابن عباس)

(3/230)


-رضي الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قال الحافظ ابن حجر: لم أقف على طريق القاسم بن يحيى هذه موصولة.
(وقال عفان): غير منصرف ابن مسمل الصفار البصري مما أخرجه أحمد عنه (أراه) بضم الهمزة أظنه (عن وهيب) بضم الواو وفتح الهاء مصغرًا قال: (حدّثنا ابن خثيم) عبد الله (عن سعيد بن جبير) الأسدي الكوفي (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
ولفظ رواية أحمد: جاءه رجل فقال: يا رسول الله حلقت ولم أنحر. قال: "لا حرج فانحر" وجاءه آخر فقال: يا رسول الله نحرت قبل أن أرمي. قال "فارم ولا حرج". قال الحافظ ابن حجر: والقائل أراه البخاري فقد أخرجه أحمد عن عفان بدونها، والمراد بهذا التعليق بيان الاختلاف فيه على ابن خثيم هل شيخه فيه عطاء أو سعيد بن جبير كما اختلف على عطاء هل شيخه فيه ابن عباس أو جابر، والذي تبين من صنيع المؤلّف ترجيح كونه عن ابن عباس ثم كونه عن عطاء وأن الذي يخالف ذلك شاذ.
(وقال حماد) هو ابن سلمة (عن قيس بن سعد) مما وصله النسائي والطحاوي والإسماعيلي وابن حبان (و) عن (عباد بن منصور) مما وصله الإسماعيلي كلاهما (عن عطاء عن جابر) هو ابن عبد الله الأنصاري (-رضي الله عنه-) وعن أبيه (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). ولفظ الإسماعيلي سئل عن رجل رمى قبل أن يحلق وحلق قبل أن يرمي وذبح قبل أن يحلق فقال عليه الصلاة والسلام: "افعل ولا حرج".
1723 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا عَبْدُ الأَعْلَى حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "سُئِلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: لاَ حَرَجَ. قَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، قَالَ: لاَ حَرَجَ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) الزمن العنزي البصري (قال: حدّثنا عبد الأعلى) هو ابن عبد الأعلى (قال: حدّثنا خالد) الحذاء (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس

-رضي الله عنهما- قال: سئل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي سأله رجل فحذف السائل وأقام المفعول مقامه (فقال: رميت بعدما أمسيت) والمساء من بعد الزوال إلى الغروب (فقال):
(لا حرج) عليك وخرج بالغروب ما بعده فلا يكفي الرمي بعده لعدم وروده كذا صرح به في الروضة، واعترض بأنهم قالوا: إذا أخر رمي يوم إلى ما بعده من أيام الرمي يقع أداء وقضيته أن وقته لا يخرج بالغروب.
وأجيب: يحمل ما هنا على وقت الاختيار وهناك على وقت الجواز، وقد صرّح الرافعي بأن وقت الفضيلة لرمي يوم النحر ينتهي بالزوال فيكون لرميه ثلاثة أوقات: وقت فضيلة ووقت اختيار ووقت جواز، ويبقى وقت الذبح للهدي إلى عصر آخر أيام التشريق كالأضحية، وأما الحلق أو التقصير والطواف فلا يؤقتان لأن الأصل عدم التأقيت. نعم، يكره تأخيرهما عن يوم النحر وتأخيرهما عن أيام التشريق أشد كراهة وخروجه من مكة قبل فعلهما أشد.
(قال: حلقت قبل أن أنحر. قال): (لا حرج) والرجل السائل عن التقديم والتأخير في النحر والحلق ونحوهما لم يسم، ويحتمل تعدده ثم إن أعمال يوم النحر في الحج أربعة: رمي جمرة العقبة والذبح والحلق أو التقصير والطواف وترتيبها على ما ذكر سنة فلو حلق أو قصر قبل الثلاثة الأخر فلا فدية عليه وإنما لم يجب ترتيبها لما ذكر.
ولحديث عبد الله بن عمرو بن العاصي في الصحيحين سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم النحر في حجة الوداع وهم يسألونه فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح فقال "اذبح ولا حرج" فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي. فقال "ارم ولا حرج".
ولمسلم أيضًا عنه سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأتاه رجل يوم النحر وهو واقف عند الجمرة فقال: يا رسول الله إني حلقت قبل أن أرمي فقال: "ارم ولا حرج" وأتاه آخر فقال: إني ذبحت قبل أن أرمي. فقال: "ارم ولا حرج" فأتاه رجل آخر فقال: إني أفضت إلى البيت قبل أن أرمي فقال: "ارم ولا حرج" قال: فما سئل عن شيء يومئذ قدّم ولا أخر إلا قال: افعل ولا حرج.
وقال المالكية: يجب الدم إذا قدم الحلق على الرمي لأنه وقع قبل حصول شيء من التحلل.
وروى ابن القاسم عن مالك، وبه أخذ أن في تقديم الإفاضة على الرمي الدم وحجه مجزئ، وعن مالك لا يجزئه وهو كمن لم يفض. وقال أصبغ: أحب إليّ أن يعيد وذلك في يوم النحر أكد ولو حلق قبل النحر أو نحر قبل الرمي فلا شيء عليه الأصح. وقال عبد الملك: إن حلق قبل النحر أهدى قال

(3/231)


الطبري: والعجب ممن يحمل قوله ولا حرج على نفي الإثم فقط يخص ذلك ببعض الأمور دون بعض، فإن كان الترتيب واجبًا بتركه دم فليكن في الجميع، وإلا فما وجه تخصيص بعض دون بعض مع تعميم الشارع الجميع بنفي الحرج اهـ.

وقال أبو حنيفة: عليه دم وإن كان قارنًا فدمان. وقال محمد وأبو يوسف: لا شيء عليه لقوله عليه الصلاة والسلام "لا حرج" واحتجوا لأبي حنيفة بما رواه ابن أبي شيبة في مصنفه من حديث ابن عباس أنه قال: من قدم شيئًا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دمًا. وأجابوا عن حديث الباب بأن المراد بالحرج المنفي هو الإثم ولا يستلزم ذلك نفي الفدية.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف من أربعة طرق ومن ستة أوجه كما ترى.
1724 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- قَالَ "قَدِمْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ بِالْبَطْحَاءِ فَقَالَ: أَحَجَجْتَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: بِمَا أَهْلَلْتَ؟ قُلْتُ: لَبَّيْكَ بِإِهْلاَلٍ كَإِهْلاَلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قَالَ: أَحْسَنْتَ، انْطَلِقْ فَطُفْ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. ثُمَّ أَتَيْتُ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ بَنِي قَيْسٍ فَفَلَتْ رَأْسِي، ثُمَّ أَهْلَلْتُ بِالْحَجِّ، فَكُنْتُ أُفْتِي بِهِ النَّاسَ حَتَّى خِلاَفَةِ عُمَرَ -رضي الله عنه-، فَذَكَرْتُهُ لَهُ فَقَالَ: إِنْ نَأْخُذْ بِكِتَابِ اللَّهِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُنَا بِالتَّمَامِ، وَإِنْ نَأْخُذْ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يَحِلَّ حَتَّى بَلَغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ".
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو عبد الله بن عثمان بن جبلة عن أبي روّاد واسم أبي روّاد ميمون قال: (أخبرني) بالإفراد (أبي) هو عثمان (عن شعبة) بن الحجاج (عن قيس بن مسلم) الجدلي بفتح الجيم (عن طارق بن شهاب) هو ابن عبد شمس البجلي الأحمسي الكوفي قال أبو داود: رأى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولم يسمع منه (عن أبي موسى) الأشعري (-رضي الله عنه- قال: قدمت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو بالبطحاء) بطحاء مكة (فقال) لي:
(أحججت)؟ قلت: نعم. قال: (بما) بإثبات ألف ما الاستفهامية مع دخول الجار عليها وهو
قليل، ولابن عساكر: بم بحذفها (أهللت قلت: لبيك بإهلال كإهلال النبي) وفي باب من أحرم في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قلت: أهللت كإهلال النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: أحسنت) وفيه استحباب الثناء على من فعل جميلاً "انطلق فطف بالبيت وبالصفا والمروة" فأمره بالفسخ إلى العمرة ولم يذكر الحلق لأنه عندهم معلوم. (ثم أتيت امرأة من نساء بني قيس) أي فطفت ثم أتيت المرأة (ففلت رأسي) استخرجت القمل منه والفاء الأولى للتعقيب والثانية من نفس الكلمة واللام مخففة، (ثم أهللت بالحج) أي بعد أن تحللت من العمرة فصار متمتعًا لأنه لم يكن معه هدي، (فكنت أفتي به الناس) أي بالتمتع بالعمرة إلى الحج الذي دل عليه السياق (حتى) أي إلى (خلافة عمر -رضي الله عنه- فذكرته له فقال: إن نأخذ بكتاب الله فإنه يأمرنا بالتمام) زاد في باب: من أحرم في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] (وأن نأخذ بسنّة رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يحل) من إحرامه (حتى بلغ الهدي محله) بكسر الحاء وهذا موضع الترجمة لأن بلوغ الهدي محله يدل على ذبح الهدي، فلو تقدم الحلق عليه لصار متحللاً قبل بلوغ الهدي محله وهذا هو الأصل وهو تقديم الذبح على الحلق وأما تأخيره فهو رخصة والله أعلم.

126 - باب مَنْ لَبَّدَ رَأْسَهُ عِنْدَ الإِحْرَامِ وَحَلَقَ
(باب من لبد رأسه) بتشديد الموحدة أي شعره وهو أن يجعل فيه ما يمنعه من الانتتاف كالصمغ في الغاسول ثم يلطخ به رأسه (عند الإحرام وحلق) أي رأسه بعد ذلك عند الإحلال، والجمهور على أن من لبد رأسه وجب عليه الحلق كما فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبذلك أمر عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- الناس والصحيح عند الشافعية أنه مستحب.
1725 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ حَفْصَةَ -رضي الله عنهم- أَنَّهَا قَالَتْ "يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا شَأْنُ النَّاسِ حَلُّوا بِعُمْرَةٍ وَلَمْ تَحْلِلْ أَنْتَ مِنْ عُمْرَتِكَ قَالَ: إِنِّي لَبَّدْتُ رَأْسِي وَقَلَّدْتُ هَدْيِي، فَلاَ أَحِلُّ حَتَّى أَنْحَرَ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر عن حفصة) أم المؤمنين (-رضي الله عنهم- أنها قالت: يا رسول الله ما شأن الناس حلوا) من الحج (بعمرة ولم تحلل) بكسر اللام الأولى (أنت من عمرتك؟) التي مع حجتك، وقيل: من بمعنى الباء أي بعمرتك، وضعفه ابن دقيق العيد من جهة أنه أقام حرفًا مقام حرف وهي طريقة كوفية. وأجيب: بأنه ورد في قوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي بأمر الله (قال):
(إني لبدت رأسي وقلدت هدي) بوضع القلادة في عنقه: (فلا أحل) بفتح الهمزة وكسر الحاء من إحرامي: (حتى أنحر) الهدي يوم النحر.
وليس في هذا الحديث ذكر الحلق المذكور في الترجمة، فقيل: إنه معلوم من حاله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه في حجة الوداع حلق رأسه كما

(3/232)


سيأتي صريحًا إن شاء الله تعالى في أول الباب التالي، وقد سبق هذا الحديث في باب التمتع والقران وقد أخرجه الجماعة إلا الترمذي.

127 - باب الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ عِنْدَ الإِحْلاَلِ
(باب الحلق والتقصير عند الإحلال) من الإحرام وهو نسك لا استباحة محظور للدعاء لفاعله بالرحمة كما سيأتي قريبًا إن شاء الله تعالى والدعاء ثواب والثواب إنما يكون على العبادات لا على المباحات ولتفضيله أيضًا على التقصير إذ المباحات لا تتفاضل ولا تحلل للحج والعمرة بدونه كسائر أركانهما إلا لمن لا شعر برأسه فيتحلل منهما بدونه، والحلق أفضل للرجال كما سيأتي فلا يؤمر به بعد نبات شعره ولا يفدي عاجز عن أخذه لجراحة أو نحوها بل يصبر إلى قدرته ولا يسقط عنه، ويستحب لمن لا شعر برأسه أن يمر الموسى عليه تشبيهًا بالحالقين وليس بفرض عند الحنفية بل هو واجب وقيل مستحب، وأقل ما يجزئ عند الشافعية ثلاث شعرات. وعند أبي حنيفة ربع الرأس،

وعند أبي يوسف النصف، وعند أحمد أكثرها، وعند المالكية تجميع شعر رأسه ويستوعبه بالتقصير من قرب أصله.
قال العلامة الكمال بن الهمام: اتفق الأئمة الثلاثة أبو حنيفة ومالك والشافعي أن قال كل منهم بأنه يجزئ في الحلق القدر الذي قال: إنه يجزئ في الوضوء ولا يصح أن يكون هذا منهم بطريق القياس لأنه يكون قياسًا لأنه بلا جامع يظهر أثره، وذلك لأن حكم الأصل على تقدير القياس وجوب المسح ومحله المسح وحكم الفرع وجوب الحلق ومحله الحلق للتحلل ولا يظن أن محل الحكم الرأس إذ لا يتحد الفرع والأصل وذلك أن الأصل والفرع، هما محلا الحكم المشبه به والمشبه والحكم هو الوجوب مثلاً ولا قياس يتصور مع اتحاد محله إذ لا اثنينية، وحينئذٍ فحكم الأصل وهو وجوب المسح ليس فيه معنى يوجب جواز قصره على الربع وإنما فيه نفس النص الوارد فيه وهو قوله تعالى: {وامسحوا برؤوسكم} بناء إما على الإجمال والتحاق حديث الغيرة بيانًا أو على عدمه، والمفاد بسبب الباء إلصاق اليد كلها بالرأس لأن الفعل حينئذٍ يصير متعديًا إلى الآلة بنفسه فيشملها، وتمام اليد يستوعب الربع عادة فيتعين قدره لا أن فيه معنى ظهر أثره في الاكتفاء بالربع أو بالبعض مطلقًا أو تعين الكل وهو متحقق في وجوب حلقها عند التحلل من الإحرام ليتعدى الاكتفاء بالربع من المسح إلى الحلق وكذا الآخران، وإذا انتفت صحة القياس فالموجع في كل من المسحة وحلق التحلل ما يفيد نصه الوارد فيه والوارد في المسح دخلت فيه الباء على الرأس التي هي الحل فأوجب عند الشافعي التبعيض وعندنا وعند مالك لا بل الإلصاق غير أنا لاحظنا "تعدي الفعل للآلة فيجب قدرها من الرأس، ولم يلاحظها مالك -رحمه الله- فاستوعب الكل أو جعلها صلة كما في {فامسحوا بوجوهكم} [المائدة: 6] في آية التيمم فاقتضى وجوب استيعاب المسح، وأما الوارد في الحلق فمن الكتاب قوله تعالى: {لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رؤوسكم] [الفتح: 27] من غير باء ففيها إشارة إلى طلب تحليق الرؤوس أو تقصيرها وليس فيها ما هو الموجب بطريق التبعيض على اختلافه عندنا وعند الشافعي وهو دخول الباء على المحل، ومن السنة فعله عليه الصلاة والسلام وهو الاستيعاب فكان مقتضى الدليل الاستيعاب كما هو قول مالك وهو الذي أدين الله به والله أعلم.
1726 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَبِي حَمْزَةَ قَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ "حَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي حَجَّتِهِ". [الحديث 1726 - طرفاه في: 4410، 4411].
وبالسند قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب بن أبي حمزة) بالحاء المهملة والزاي المعجمة (قال نافع) مولى ابن عمر: (كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول):
(حلق رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) رأسه (في حجته) أي حجة الوداع، وهذا طرف من حديث طويل رواه مسلم من حديث نافع أن ابن عمر أراد الحج عام نزول الحجاج بابن الزبير الحديث، وفيه: ولم يحلل من شيء حرم منه حتى كان يوم النحر فنحر وحلق.
1727 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمِ الْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: وَالْمُقَصِّرِينَ". وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي نَافِعٌ "رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ". قَالَ: وَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ حَدَّثَنِي نَافِعٌ "وَقَالَ فِي الرَّابِعَةِ وَالْمُقَصِّرِينَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) في حجة الوداع أو في الحديبية أو في الموضعين جمعًا بين الأحاديث:
(اللهم ارحم المحلقين) (قالوا) أي الصحابة: قال الحافظ ابن حجر ولم أقف في شيء من الطرق على الذين تولوا السؤال في ذلك بعد

(3/233)


البحث الشديد اهـ.
وفي رواية ابن سعد في الطبقات في غزوة الحديبية كما سيأتي إن شاء الله تعالى قريبًا أن عثمان وأبا قتادة هما اللذان قصرا ولم يحلقا في عام الحديبية. قال شيخ الإسلام الجلال بن البلقيني: فيحتمل أن يكونا هما اللذان قالا: (والمقصرين) أي: قل وارحم المقصرين (يا رسول الله قال): -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (اللهم ارحم المحلقين) (قالوا) قل (و) ارحم (المقصرين يا رسول الله قال): (و) ارحم (المقصرين) بالنصب فالعطف على محذوف ومثله يسمى التلقيني كقوله تعالى: ({إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة: 124] قال الزمخشري في كشافه: ومن ذريتي عطف على الكاف كأنه قال: وجاعل بعض ذريتي كما يقال: سأكرمك فتقول وزيدًا اهـ.
وتعقبه أبو حيان فقال: لا يصح العطف على الكاف. لأنها مجرورة فالعطف عليها لا يكون إلا بإعادة الجار ولم يعدو لأن من لا يمكن تقدير الجار مضافًا إليها لأنها حرف فتقديرها بأنها مرادفة لبعض حتى يقدّر جاعل مضافًا إليها لا يصح، ولا يصح أن يكون تقدير العطف من باب العطف على موضع الكاف لأنه نصب فيجعل من في موضع نصب لأن هذا ليس مما يعطف فيه على الموضع على مذهب سيبويه لفوات المجوّز وليس نظير سأكرمك فتفول وزيدًا لأن الكاف هنا في موضع نصب، والذي يقتضيه المعنى أن يكون (ومن ذريتي) متعلقًا بمحذوف التقدير واجعل من ذريتي إمامًا لأن إبراهيم فهم من قوله (إني جاعلك للناس إمامًا) الاختصاص فسأل الله أن يجعل من ذريته إمامًا اهـ.
(وقال الليث) بن سعد الإمام (حدثني) بالإفراد (نافع) مولى ابن عمر مما وصله مسلم (رحم الله المحلقين مرة أو مرتين) شك الليث إذ الأكثرون على وفاق ما رواه مالك، لأن في معظم الروايات عنه إعادة الدعاء للمحلقين مرتين وعطف المقصرين عليه في الثالثة، وانفرد يحيى بن بكير دون رواة الموطأ بإعادة ذلك ثلاثًا كما نبه عليه أبو عمر في التقصي ولم ينبه عليه في التمهيد. (قال:

وقال عبيد الله): بضم العين مصغرًا وهو العمري مما وصله مسلم (حدثني) بالإفراد (نافع قال) ولغير أبي الوقت: وقال: (في الرابعة والمقصرين) أي وارحم المقصرين.
1728 - حَدَّثَنَا عَيَّاشُ بْنُ الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا عُمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ "قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ. قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ، قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا وَلِلْمُقَصِّرِينَ، قَالَهَا ثَلاَثًا قَالَ: وَلِلْمُقَصِّرِينَ".
وبه قال: (حدّثنا عياش بن الوليد) بالمثناة التحتية المشدّدة والشين المعجمة الرقام ووقع في رواية ابن السكن عباس بالموحدة والمهملة قال أبو عليّ الجياني: والأوّل أرجح بل هو الصواب قال: (حدّثنا عمارة بن القعقاع) بتخفيف الميم بعد ضم العين ابن القعقاع بقافين مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة وبعد الألف مهملة أخرى ابن شبرمة (عن أبي زرعة) هرم أو عبد الله أو عبد الرحمن بن عمرو البجلي (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في حجة الوداع. قال في الفتح: أو في الحديبية، وصحح النووي الأوّل، والثاني ابن عبد البر، وجزم به إمام الحرمين في النهاية، وجوّز النووي وقوعه في الموضعين. قال في الفتح: ولم يقع في شيء من الطرق التصريح بسماع أي هريرة -رضي الله عنه- لذلك من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولو وقع لقطعنا بأنه كان في حجة الوداع لأنه شهدها ولم يشهد الحديبية.
(اللهم اغفر للمحلقين) قال في حديث ابن عمر: ارحم، وقال هنا: اغفر، فيحتمل أن يكون بعض الرواة رواه بالمعنى أو قالهما جميعًا (قالوا): أي الصحابة يا رسول الله ضم إليهم المقصرين وقل اللهم اغفر للمحلقين (وللمقصرين، قال): (اللهم اغفر للمحلقين) (قالوا وللمقصرين، قال): (اللهم اغفر للمحلقين) (قالوا: وللمقصرين قالها ثلاثًا) أي قال: اغفر للمحلقين ثلاث مرات، وفي الرابعة: (قال): (وللمقصرين) وفيه تفضيل الحلق للرجال على التقصير الذي هو أخذ أطراف الشعر لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] إذ العرب تبدأ بالأهم والأفضل نعم إن اعتمر قبل الحج في وقت لو حلق فيه جاء يوم النحر ولم يسودّ رأسه من الشعر فالتقصير له أفضل كذا نقله الأسنوي عن نص الشافعي في الإملاء قال: وقد تعرض النووي في شرح مسلم للمسألة، لكنه أطلق أنه يستحب للمتمتع أن يقصر في العمرة

(3/234)


ويحلق في الحج ليقع الحلق في أكمل العبادتين.
قال الزركشي: ويؤخذ مما قاله الشافعي أن مثله يأتي فيما لو قدّم الحج على العمرة قال: وإنما لم يؤمر في ذلك بحلق بعض رأسه في الحج ويحلق بعضه في العمرة لأنه يكره القزع. نعم، لو خلق له رأسان فحلق أحدهما في العمرة والآخر في الحج لم يكره لانتفاء القزع ويكون ذلك مستثنى من كلام الشافعي، وأما المرأة فالتقصير لها أفضل لحديث أبي داود بإسناد حسن: ليس على النساء حلق إنما عليهن التقصير فيكره لها الحلق لنهيها عن التشبه بالرجال. وفي الحديث من الفوائد: أن التقصير مجزئ عن الحلق وإن لبد رأسه ولا عبرة بكون التلبيد لا يفعله إلا العازم على الحلق غالبًا لكن لو

نذر الحلق وجب عليه لأنه في حقه قربة بخلاف المرأة والخنثى ولم يجزه عنه القص ونحوه مما لا يسمى حلقًا كالنتف والإحراق إذ الحلق استئصال الشعر بالموسى، وإذا استأصله بما لا يسمى حلقًا هل يبقى الحلق في ذمته حتى يتعلق بالشعر المستخلف تداركًا لما التزمه أولاً لأن النسك إنما هو إزالة شعر اشتمل عليه الإحرام المتجه الثاني لكن يلزمه لفوات الوصف دم.
1729 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ "حَلَقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَطَائِفَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد ابن أسماء) بن عبيد بن مخراق البصري ابن أخي جويرية ابن أسماء قال: (حدّثنا جويرية ابن أسماء) بضم الجيم وفتح الواو وتخفيف المثناة التحتية الثانية مصغرًا (عن نافع) مولى ابن عمر (أن عبد الله) زاد أبو الوقت ابن عمر (قال): "حلق النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وطائفة من أصحابه وقصر بعضهم".
قال الجلال البلقيني بن في رواية ابن سعد في الطبقات في غزوة الحديبية البعض الذي قصر، ولفظه عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى أصحابه حلقوا رؤوسهم عام الحديبية غير عثمان وأبي قتادة، فاستغفر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للمحلقين ثلاث مرات وللمقصرين مرة.
قال صاحب المصابيح: إن ثبت أن ما أورده البخاري في هذا الباب كان في عام الحديبية حسن التفسير بذلك إذ لا يلزم من كون عثمان وأبي قتادة قصرًا في عام الحديبية أن يكونا قصرًا في غيره.
1730 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ -رضي الله عنهم- قَالَ "قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِشْقَصٍ".
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن الحسن بن مسلم) هو ابن يناق (عن طاوس) هو ابن كيسان اليماني الحميري (عن ابن عباس عن معاوية) بن أبي سفيان (-رضي الله عنهم- قال): (قصرت عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي: أخذت من شعر رأسه (بمشقص) بميم مكسورة فشين معجمة ساكنة فقاف مفتوحة فصاد مهملة سهم فيه نصل عريض. وقال القزاز نصل عريض يرمى به الوحش، وقال صاحب المحكم هو الطويل من النصال وليس بعريض. زاد مسلم: وهو على المروة وهو يعين كونه في عمرة، ويحتمل أن يكون في عمرة القضية أو الجعرانة، ورجح النووي الثاني وصوّبه المحب الطبري وابن القيم وتعقبه في فتح الباري بأنه جاء أنه حلق في الجعرانة. قال: واستبعاد بعضهم أن معاوية قصر عنه في عمرة الحديبية لكونه لم يكن أسلم ليس ببعيد، وقوله في رواية أحمد: قصرت عن رأس رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند المروة يردّ على من قال: إن في رواية معاوية هنا حذفًا تقديره قصرت أنا شعري

عن أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ولا يقال إن ذلك كان في حجة الوداع لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يحل حتى بلغ الهدي محله فكيف يقصر عنه على المروة.
وفي هذا الحديث رواية صحابي عن صحابي، ورواته كلهم مكيون سوى أبي عاصم فبصري.

128 - باب تَقْصِيرِ الْمُتَمَتِّعِ بَعْدَ الْعُمْرَةِ
(باب تقصير المتمتع بعد العمرة) أي عند الإحلال منها.
1731 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَخْبَرَنِي كُرَيْبٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "لَمَّا قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَّةَ أَمَرَ أَصْحَابَهُ أَنْ يَطُوفُوا بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، ثُمَّ يَحِلُّوا وَيَحْلِقُوا أَوْ يُقَصِّرُوا".
وبالسند قال (حدّثنا محمد بن أبي بكر) المقدمي البصري قال: (حدّثنا فضيل بن سليمان) بضم الفاء تصغير فضل النميري البصري قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) الأسدي قال: (أخبرني) بالإفراد (كريب) هو ابن أبي مسلم الهاشمي مولاهم المدني أبي رشدين مولى ابن عباس (عن عباس -رضي الله عنهما- قال):
(لما قدم) ولأبي ذر والوقت: قال قدم: (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مكة أمر أصحابه) الذين لم يسوقوا

(3/235)


الهدي (أن يطوفوا بالبيت وبالصفا والمروة ثم يحلوا) بفتح الياء وكسر الحاء (ويحلقوا أو يقصروا) فيه التخيير بين الحلق والتقصير للمتمتع، لكن إن كان يطلع شعره في الحج فالأولى له الحلق وإلا فالتقصير ليقع الحلق في أكمل العبادتين وقد مرّ البحث فيه.

129 - باب الزِّيَارَةِ يَوْمَ النَّحْرِ
وَقَالَ أَبُو الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهم- "أَخَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الزِّيَارَةَ إِلَى اللَّيْلِ" وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي حَسَّانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَزُورُ الْبَيْتَ أَيَّامَ مِنًى".
(باب الزيارة) أي زيارة الحاج البيت للطواف به وهو طواف الإفاضة ويسمى طواف الصدر والركن (يوم النحر وقال أبو الزبير) بضم الزاي وفتح الموحدة وسكون التحتية محمد بن مسلم بن تدرس بلفظ المخاطب من المضارع من الدراسة، وقد وثقه الجمهور وضعفه بعضهم لكثرة التدليس وغيره، ولم يرو له المؤلّف سوى حديث واحد في البيوع قرنه بعطاء عن جابر وعلق له عدّة أحاديث، واحتج به مسلم والباقون وسمع من ابن عباس، وفي سماعه من عائشة نظر مما وصله الترمذي وأبو داود وأحمد (عن عائشة وابن عباس -رضي الله عنهم-) أنهم قالا: (أخر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. الزيارة) أي طوافها (إلى الليل) أي أخره إلى ما بعد الزوال، وأما الحمل على ما بعد الغروب فبعيد

جدًّا، فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أنه عليه الصلاة والسلام طاف يوم النحر نهارًا، أو يحمل على ما رواه ابن حبان أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رمى جمرة العقبة ونحر ثم تطيب للزيارة ثم أفاض وطاف بالبيت طواف الزيارة ثم رجع إلى منى فصلّى الظهر بها والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بها، ثم ركب إلى البيت ثانيًا وطاف به طوافًا آخر بالليل، وروى البيهقي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يزور البيت كل ليلة من ليالي منى.
(ويذكر) بضم أوله وفتح ثالثه (عن أبي حسان) بالصرف وعدمه مسلم بن عبد الله العدوي البصري المشهور بالأجرد والأعرج أيضًا مما وصله الطبراني في الكبير والبيهقي كما قاله الحافظ ابن حجر (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يزور البيت) العتيق (أيام منى) أي بعد اليوم الأول أيام التشريق.
1732 - وَقَالَ لَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّهُ طَافَ طَوَافًا وَاحِدًا، ثُمَّ يَقِيلُ، ثُمَّ يَأْتِي مِنًى" يَعْنِي يَوْمَ النَّحْرِ. وَرَفَعَهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ.
(وقال لنا أبو نعيم) الفضل بن دكين مما وصله الإسماعيلي: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن عبيد الله) بضم العين ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) (إنه طاف طوافًا واحدًا) للإفاضة (ثم يقيل) بفتح المثناة التحتية وكسر القاف من القيلولة أي بمكة (ثم يأتي منى) يحتمل أن يكون في وقت الظهر لأن النهار كان طويلاً، وقد ثبت أنه صلّى الظهر بمنى (يعني يوم النحر).
قال أبو نعيم (ورفعه) أي الحديث (عبد الرزاق) إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما وصله الإسماعيلي في مستخرجه (قال: أخبرنا عبيد الله) العمري.
1733 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ رَبِيعَةَ عَنِ الأَعْرَجِ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "حَجَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَفَضْنَا يَوْمَ النَّحْرِ، فَحَاضَتْ صَفِيَّةُ، فَأَرَادَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْهَا مَا يُرِيدُ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِهِ. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا حَائِضٌ. قَالَ: حَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَاضَتْ يَوْمَ النَّحْرِ. قَالَ: اخْرُجُوا".
وَيُذْكَرُ عَنِ الْقَاسِمِ وَعُرْوَةَ وَالأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَفَاضَتْ صَفِيَّةُ يَوْمَ النَّحْرِ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة وفتح الكاف قال: (حدّثنا الليث) بن سعد (عن جعفر بن ربيعة) بن شرحبيل ابن حسنة القرشي (عن الأعرج) عبد الرحمن بن هرمز (قال: حدثني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (أن عائشة -رضي الله عنها- قالت):

(حججنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حجة الوداع (فأفضنا يوم النحر) طفنا طواف الإفاضة (فحاضت صفية) بنت حيي أم المؤمنين -رضي الله عنها- أي بعدما أفاضت (فأراد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منها) قبيل وقت النفر (ما يريد الرجل من أهله) قالت عائشة: (فقلت يا رسول الله إنها حائض قال): عليه الصلاة والسلام (حابستنا هي) عن السفر حتى تطوف طواف الإفاضة، والجملة اسمية مقدمة الخبر على المبتدأ ولا يجوز العكس إلا أن يقال همزة الاستفهام مقدرة قبل حابستنا فيجوز الأمر أن حينئذ. (قالوا: يا رسول الله أفاضت يوم النحر). قبل أن تحيض، واستشكل إرادته عليه الصلاة والسلام منها الوقاع مع عدم تحققه لحلها من الإحرام كما أشعر ذلك بقوله: أحابستنا هي.
وأجيب: بأنه عليه الصلاة والسلام كان يعلم إفاضة نسائه فظن أن صفية أفاضت معهن فلما قيل له إنها حائض خشي أن يكون الحيض تقدم على الإفاضة فلم تطف فقال أحابستنا هي فلما قيل له إنها طافت قبل أن تحيض.
(قال) (أخرجوا) أي ارحلوا ورخص لها في ترك طواف الوداع وهو غير

(3/236)


واجب عند المالكية بل مندوب إليه ولا دم في تركه فلو حاضت المرأة تركته لهذا الحديث. وقال الشافعية: هو واجب على من أراد سفرًا فلو لم يطفه جبر بالدم لتركه نسكًا واجبًا. فإن عاد بعد خروجه قبل مسافة القصر وطافه سقط عنه الدم لأنه في حكم المقيم لا أن عاد بعدها فلا يسقط عنه لاستقراره بالسفر الطويل ولا يلزم الطواف حائضًا طهرت خارج مكة ولو في الحرم بخلاف ما لو طهرت قبل خروجها.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في الحج.
(ويذكر) بضم أوله وفتح ثالثه (عن القاسم) بن محمد مما أخرجه مسلم (وعروة) بن الزبير مما وصله المصنف في المغازي (والأسود) مما وصله المؤلّف في باب الادلاج من المحصب الثلاثة (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها قالت: (أفاضت صفية يوم النحر) فلم ينفرد أبو سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة بذلك وإنما لم يجزم به بل قال ويذكر لأنه أورده بالمعنى.

130 - باب إِذَا رَمَى بَعْدَ مَا أَمْسَى، أَوْ حَلَقَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ، نَاسِيًا أَوْ جَاهِلاً
هذا (باب) بالتنوين (إذا رمى) الحاج جمرة العقبة (بعدما أمسى) أي دخل في المساء ليلاً أو بعد الزوال (أو حلق) شعر رأسه (قبل أن يذبح) الهدي حال كونه (ناسيًا أو جاهلاً) لأخرج عليه.
1734 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قِيلَ لَهُ فِي الذَّبْحِ وَالْحَلْقِ وَالرَّمْيِ وَالتَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ فَقَالَ: لاَ حَرَجَ".

وبالسند قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو وفتح الهاء ابن خالد البصري قال: (حدّثنا ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه) طاوس بن كيسان (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قيل له) في حجة الوداع بمنى (في الذبح والحلق والرمي والتقديم) كتقديم بعض هذه الثلاثة على بعض (والتأخير)، لها عن بعض (فقال): عليه الصلاة والسلام.
(لا حرج) لا إثم ولا فدية.
وتقدم البحث في ذلك في باب: الذبح قبل الحلق وأوجب المالكية الدم إذا قدم الحلق على الرمي وكذا إذا قدم الإفاضة على الرمي عند ابن القاسم فيكون المراد نفي الإثم لا نفي الفدية، ولم يقع في هذا الحديث ذكر النسيان والجهل المترجم بهما فقيل: يحتمل أنه أشار إلى قوله في الحديث الآتي في الباب التالي إن شاء الله تعالى فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح قال: "اذبح ولا حرج" الحديث. فإن عدم الشعور أعم من أن يكون بجهل أو نسيان فكأنه أشار إليه لأن أصل الحديث واحد وإن كان المخرج متعددًا، وقد أخرج الحديث مسلم في الحج وكذا النسائي.
1735 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُسْأَلُ يَوْمَ النَّحْرِ بِمِنًى فَيَقُولُ: لاَ حَرَجَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ. وَقَالَ: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ، فَقَالَ: لاَ حَرَجَ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) البصري قال: (حدّثنا خالد) الحذاء (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يسأل يوم النحر بمنى) في حجة الوداع عن التقديم والتأخير في أفعال يوم النحر (فيقول) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(لا حرج) (فسأله رجل) لم يسم (فقال حلقت) شعر رأسي (قبل أن أذبح) هديي (قال): عليه الصلاة والسلام (اذبح ولا حرج) عليك (قال): ولغير أبي الوقت: وقال: (رميت) جمرة العقبة (بعدما أمسيت) أي دخلت في المساء أي بعد الزوال إلى الغروب واشتداد الظلام فلم يتعين أن رمي المذكور كان بالليل (فقال): عليه الصلاة والسلام: (لا حرج) عليك. وقد سبق في باب الذبح قبل الحل أن الرافعي صرّح بأن وقت الفضيلة لرمي يوم النحر ينتهي إلى الزوال وأن للرمي وقت فضيلة ووقت اختيار ووقت جواز.

131 - باب الْفُتْيَا عَلَى الدَّابَّةِ عِنْدَ الْجَمْرَةِ
(باب الفتيا على الدابة عند الجمرة) الكبرى، وسبق في كتاب العلم باب الفتيا وهو واقف على الدابة أو على غيرها وبعدها بأبواب كثيرة باب السؤال والفتيا عند رمي الجمار ولكن وجه يظهر بالتأمل.

1736 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَجَعَلُوا يَسْأَلُونَهُ، فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، قَالَ: اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ. فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، قَالَ: ارْمِ وَلاَ حَرَجَ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَىْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام الأعظم (عن ابن شهاب) الزهري (عن عيسى بن طلحة) القرشي التيمي التابعي (عن عبد الله بن عمرو) هو ابن العاصي -رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقف) أي على ناقته كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث الأخير من هذا الباب (في حجة الوداع) زاد في كتاب العلم: بمنى للناس (فجعلوا يسألونه فقال رجل) لم يسم (لم أشعر) لم يفطن وهو أعم من الجهل والنسيان، ولم يفصح في رواية

(3/237)


مالك بمتعلق الشعور وقد بينه يونس عند مسلم ولفظه لم أشعر أن النحر قبل الحلق (فحلقت) شعر رأسي والفاء سببية جعل الحلق مسببًا عن عدم شعوره كأنه يعتذر لتقصيره (قبل أن أذبح) هديي (قال): عليه الصلاة والسلام.
(اذبح) هديك (ولا حرج) عليك (فجاء) رجل (آخر فقال): يا رسول الله (لم أشعر) أي أن الرمي قبل النحر (فنحرت) هديي (قبل أن أرمي) الجمرة (قال): عليه الصلاة والسلام (ارم) الجمرة (ولا حرج) عليك (فما سئل) النبي (يومئذ عن شيء) من الرمي والنحر والحلق والطواف (قدم ولا أخر) بضم القاف والهمزة فيهما أي لا قدم فحذف لفظة لا والفصيح تكرارها في الماضي قال تعالى: {وما أدري ما يفعل بي ولا بكم} [الأحقاف: 9] ولمسلم ما سئل عن شيء قدم أو أخر (إلا قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (افعل) ذلك التقديم والتأخير متى شئت (ولا حرج) عليه مطلقًا لا في الترتيب ولا في ترك الفدية، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة. وقال مالك وأبو حنيفة، الترتيب واجب يجبر بدم لما روي عن ابن عباس من قدم شيئًا في حجه أو أخره فليهرق دمًا وتأولا لا حرج لا إثم لأن الفعل صدر من غير قصد بل جهلاً أو نسيانًا كما يدل عليه قوله: لم أشعر، واحتج به من قال أن الرخصة تختص بالجاهل والناسي لا بمن تعمد.
وأجيب: بأن الترتيب لو كان واجبًا لما سقط بالسهو كالترتيب بين السعي والطواف فإنه لو سعى قبل أن يطوف وجب إعادة السعي، وقول ابن التين هذا الحديث لا يقتضي رفع الحرج في غير المسألتين المنصوص عليهما لأن قوله: (لا حرج) وقع جوابًا للسؤال فلا يدخل فيه غيره وكأنه غفل عن قوله في بقية الحديث فما سئل عن شيء قدم ولا أخر إلا قال (افعل) أو حمل ما أبهم فيه على ما ذكر، ويرده قوله في رواية ابن جريج التالية وأشباه ذلك. وليس في هذا الحديث ذكر الدابة المترجم بها بل قال الإسماعيلي: إنها لم تكن في شيء من الروايات عن مالك، لكن في رواية يحيى

القطان عنه أنه جلس في حجة الوداع فقام رجل قال الإسماعيلي: فإن ثبت في شيء من الطرق أنه كان على دابة فيحمل قوله جلس أي على دابته اهـ.
والدابة تطلق على المركوب من ناقة وفرس وغيرهما.
وفي هذا الحديث رواية التابعي عن التابعي عن الصحابيّ، ورواته كلهم مدنيون إلا شيخ المؤلّف.
1737 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنه- حَدَّثَهُ "أَنَّهُ شَهِدَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا، ثُمَّ قَامَ آخَرُ فَقَالَ: كُنْتُ أَحْسِبُ أَنَّ كَذَا قَبْلَ كَذَا، حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ، نَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ لَهُنَّ كُلِّهِنَّ، فَمَا سُئِلَ يَوْمَئِذٍ عَنْ شَىْءٍ إِلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ".
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن يحيى بن سعيد) قال: (حدّثنا أبي) هو يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاصي الأموي قال: (حدّثنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز قال: (حدثني) ولأبوي ذر والوقت أخبرني بالإفراد فيهما (الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن عيسى بن طلحة) التابعي (عن عبد الله بن عمرو بن العاصي) ولأبي ذر: أن عبد الله بن عمرو بن العاصي (-رضي الله عنه-) أنه (حدثه).
(أنه شهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي حضره حال كونه (يخطب يوم النحر) بمنى على راحلته (فقام إليه رجل) لم يعرف اسمه (فقال) يا رسول الله (كنت أحسب) أي أظن (أن كذا قبل كذا) الكاف للتشبيه وذا للإشارة (ثم قام) إليه رجل (آخر فقال: كنت أحسب أن كذا قبل كذا حلقت قبل أن أنحر نحرت قبل أن أرمي) أي قال الأول كنت أظن أن الحلق قبل النحر فحلقت قبل أن أنحر وقال الآخر كنت أظن أن النحر قبل الرمي فنحرت قبل أن أرمي (وأشباه ذلك) أي من الأشياء التي كان يحسبها على خلاف الأصل، وفي رواية محمد بن أبي حفصة عن الزهري عند مسلم حلقت قبل أن أرمي وقال آخر: أفضت إلى البيت قبل أن أرمي.
وحاصل ما في حديث عبد الله بن عمر السؤال عن أربعة أشياء: الحلق قبل الذبح والذبح قبل الرمي والحلق قبل الرمي والإفاضة قبل الرمي، وفي حديث عليّ السؤال عن الإفاضة قبل الحلق، وفي حديثه عند الطحاوي السؤال عن الرمي والإفاضة قبل الحلق، وفي حديث جابر المعلق عند المؤلّف فيما سبق السؤال عن الإفاضة قبل الذبح، وفي حديث أسامة بن شريك عند أبي داود السؤال عن السعي قبل الطواف وهو محمول

(3/238)


على من سعى بعد طواف القدوم، ثم طاف طواف الإفاضة فإنه يصدق عليه أنه سعى قبل الطواف أي طواف الركن.

قال في الفتح: وقد بقيت عدّة صور لم يذكرها الرواة إما اختصارًا وإما لكونها لم تقع وبلغت بالتقسيم أربعًا وعشرين صورة منها صورة الترتيب المتفق عليها.
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): (افعل) ما ذكر من التقديم والتأخير (ولا حرج لهن) متعلق يقال أي قال لأجل هذه الأفعال (كلهن) بجر اللام افعل أو لهن متعلق بمحذوف أي قال يوم النحر لهن أو متعلق بقوله: لا حرج أي لا حرج لأجلهن عليك قاله الكرماني. قال في الفتح: ويحتمل أن تكون اللام بمعنى عن أبي قال عنهن كلهن إفعل ولا حرج، (فما سئل يومئذ عن شيء) مما قدم أو أخر (إلا قال): (افعل ولا حرج) وهو ظاهر في رفع الإثم والفدية معًا، وقول الطحاوي: إنه يحتمل أن يكون قوله لا حرج أي لا إثم في ذلك الفعل وهو كذلك لمن كان ناسيًا أو جاهلاً وأما من تعمد المخالفة فتجب عليه الفدية فيه نظر لأن وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ولو كان واجبًا لبينه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حينئذٍ لأنه وقت الحاجة فلا يجوز تأخيره، وقد أجمع العلماء على الإجزاء في التقديم والتأخير كما قاله ابن قدامة في المغني إلا أنهم اختلفوا في وجوب الدم في بعض المواضع كما تقدم تقريره.
وفي هذا الحديث التحديث والإخبار والعنعنة وشيخه بغدادي وأبوه كوفي ورواية التابعي عن الصحابي.
1738 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ قَالَ أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ حَدَّثَنِي عِيسَى بْنُ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ -رضي الله عنهما- قَالَ "وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى نَاقَتِهِ .. فَذَكَرَ الْحَدِيثَ". تَابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر وابن عساكر: حدثني (إسحاق) غير منسوب، لكن قال الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح وقع في رواية الأصيلي ورواية أبي علي بن شبويه معًا حدّثنا إسحاق بن منصور يعني ابن بهرام الكوسج المروزي صاحب مسائل أحمد بن حنبل قال: (أخبرنا يعقوب بن إبراهيم) بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري المدني نزيل بغداد المتوفى فيما نقله المزي فى التهذيب عن البخاري بنيسابور يوم الاثنين ودفن يوم الثلاثاء لعشر خلون من جمادى الأولى سنة إحدى وخمسين ومائتين قال: (حدّثنا أبي) إبراهيم (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب) الزهري قال: (حدثني) بالإفراد (عيسى بن طلحة بن عبيد الله) بضم العين مصغرًا التيمي المدني (أنه سمع عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال) (وقف رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ناقته) زاد في الحديث الأول من هذا الباب حجة الوداع وفي الثاني يوم النحر وفي كتاب العلم عند الجمرة (فذكر الحديث) نحو ما سبق.
(تابعه) أي تابع صالح بن كيسان (معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين ساكنة ابن راشد في روايته (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب فيما وصله مسلم بلفظ: رأيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على ناقته بمنى، وقوله بمنى لا يضاد قوله عند الجمرة.

وفي هذا الحديث رواية ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض صالح والزهري وعيسى.

132 - باب الْخُطْبَةِ أَيَّامَ مِنًى
(باب) مشروعية (الخطبة أيام منى) الأربعة يوم النحر والثلاثة بعده.
1739 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ غَزْوَانَ حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَطَبَ النَّاسَ يَوْمَ النَّحْرِ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: يَوْمٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَىُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: بَلَدٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَأَىُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا شَهْرٌ حَرَامٌ. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا. فَأَعَادَهَا مِرَارًا. ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنَّهَا لَوَصِيَّتُهُ إِلَى أُمَّتِهِ فَلْيُبْلِغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ". [الحديث 1739 - طرفه في: 7079].
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدثني) بالإفراد (يحيى بن سعيد) القطان قال: (حدّثنا فضيل بن غزوان) بضم الفاء وفتح الضاد المعجمة وغزوان بفتح الغين المعجمة وسكون الزاي وبالنون في آخره قال: (حدّثنا عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خطب الناس يوم النحر) فيه أن السنة أن يخطب الإمام يوم النحر خطبة فردة يعلم الناس بها المبيت والرمي في أيام التشريق والنفر وغير ذلك مما يحتاجون إليه مما بين أيديهم وما مضى لهم في يومهم ليأتي به من لم يفعله أو يعيده من فعله على غير وجهه، وهذه الخطبة هي الثالثة من خطب الحج الأربعة وكلها بعد الصلاة إلا عرفة فقبلها وهي خطبتان بخلاف الثالثة الباقية ففرادى وهذا مذهب الشافعي وأحمد، وما ذكر من كون خطبة يوم النحر بعد صلاة الظهر. قال في المجموع: كذا قاله الشافعي والأصحاب واتفقوا عليه وهو مشكل لأن المعتمد فيها الأحاديث وهي مصوحة بأنها كانت ضحوة يوم النحر كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وقال المالكية والحنفية: خطب الحج ثلاثة

(3/239)


سابع ذي الحجة ويوم عرفة بها وثاني يوم النحر بمنى ووافقهم الشافعي إلا أنه قال: بدل ثاني يوم النحر ثالثه لأنه أول النفر وزاد الرابعة يوم النحر قال وبالناس حاجة إليها ليعلموا أعمال ذلك اليوم من الرمي والذبح والحلق والطواف، واعترضه الطحاوي بأن الخطبة المذكورة ليست من متعلقات الحج لأنه لم يذكر فيها شيئًا من أمور الحج وإنما ذكر فيها وصايا عامة لا على أنها خطبة وشعيرة من شعائر الحج ولم ينقل أحد أنه علمهم فيها شيئًا مما يتعلق بيوم النحر فعرفنا أنها لم تقصد لأجل الحج.

وأجيب: بأن البخاري أراد أن يبين أن الراوي قد سماها خطبة كما سمى التي وقعت في عرفات خطبة، وقد اتفقوا على خطبة يوم عرفة فألحق المختلف فيه بالمتفق عليه قاله ابن المنير في الحاشية، وقد جزم الصحابة ابن عباس وأبو بكر وأبو أمامة عند أبي داود بتسميتها خطبة فلا يلتفت لتأويل غيرهم.
وقد ثبت في حديث عبد الله بن عمرو بن العاصي السابق وغيره أنه شهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب يوم النحر وفي حديث عبد الرحمن بن معاذ عند أبي داود والنسائي قال: خطبنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ونحن بمنى ففتحنا أسماعنا حتى كنا نسمع ما يقول ونحن في منازلنا فطفق يعلمهم مناسكهم حتى بلغ الجمار فوضع إصبعيه ثم قال: بحصى الخذف ثم أمر المهاجرين فنزلوا في مقدم المسجد وأمر الأنصار أن ينزلوا من وراء المسجد ثم نزل الناس بعد، (فقال:) عليه الصلاة والسلام في خطبته المذكورة.
(يا أيها الناس) خطابًا للحاضرين معه حينئذ (أي يوم هذا) استفهام تقريري (قالوا: يوم حرام) قال: (فأي بلد هذا) قالوا: بلد حرام قال: (فأي شهر هذا؟) قالوا: (شهر حرام) وليس الحرام عين اليوم والبلد والشهر وإنما المراد ما يقع فيه من القتال، وقال البيضاوي: يريد بذلك تذكارهم حرمة ما ذكر وتقريرها في نفوسهم ليبنى عليها ما أراد تقريره حيث (قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم) جمع عرض بكسر العين وهو ما يمدح به الإنسان ويذم، وقيل الحسب أو الأخلاق النفسانية. قال في شرح المشكاة: والتحقيق ما ذكره صاحب النهاية العرض موضع المدح والذم من الإنسان سواء كان في نفسه أو في سلفه ولما كان موضع العرض النفس قال: من قال العرض النفس إطلاقًا للمحل على الحال، وحيث كان نسبة الشخص إلى الأخلاق الحميدة والذم نسبته إلى الذميمة سواء كانت فيه أم لا قال من قال العرض الخلق إطلاقًا لاسم اللازم على الملزوم: (عليكم حرام) أي أن انتهاك دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، وهذا أولى من قول من قال: فإن سفك دمائكم وأخذ أموالكم وثلب أعراضكم لأن ذلك إنما يحرم إذا كان بغير حق فلا بدّ من التصريح به فلفظ انتهاك أولى لأن موضوعها لتناول الشيء بغير حق كما مرّ في باب العلم (كحرمة يومكم هذا) يوم النحر (في بلدكم هذا في شهركم هذا) ذي الحجة وإنما شبهها في الحرمة بهذه الأشياء لأنهم كانوا لا يرون استباحتها وانتهاك حرمتها بحال.
وقال ابن المنير: قد استقر في القواعد أن الأحكام لا تتعلق بأفعال المكلفين فمعنى التحريم اليوم والبلد والشهر تحريم أفعال الاعتداء فيها على النفس والمال والعرض فما معنى إذن تشبيه الشيء بنفسه.
وأجاب: بأن المراد أن هذه الأفعال في غير هذ البلد وهذا الشهر وهذا اليوم مغلظة الحرمة عظيمة عند الله فلا يستسهل المعتدي كونه تعدي في غير البلد الحرام والشهر الحرام، بل ينبغي له أن

يخاف خوف من فعل ذلك في البلد الحرام وإن كان فعل العدوان في البلد الحرام أغلظ فلا ينفي كون ذلك في غيره غليطًا أيضًا وتفاوت ما بينهما في الغلظ لا ينفع المعتدي في غير البلد الحرام، فإن فرضناه تعدّي في البلد الحرام فلا يستسهل حرمة البلد بل ينبغي أن يعتقد أن فعله أقبح الأفعال وأن عقوبته بحسب ذلك فيراعي الحالتين.
(فأعادها) أي المذكورات (مرارًا) وأقله ثلاث مرات وهي عادته عليه الصلاة والسلام (ثم رفع رأسه) زاد الإسماعيلي من هذا الوجه: إلى السماء (فقال): (اللهم هل بلغت؟ اللهم هل بلغت؟) مرتين أي بلغت ما أمرتني به وإنما قال ذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان التبليغ فرضًا عليه.

(3/240)


(قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: فوالذي نفسي بيده إنها لوصيته إلى أمته) بفتح لام لوصيته وهي للتأكيد والضمير فيه للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وفي أنها لقوله: (فليبلغ الشاهد) الحاضر ذلك المجلس (الغائب) عنه والضمير وإن كان مقدّمًا في الذكر فالقرينة تدل على أنه مؤخر فى المعنى، وقول ابن عباس معترض بين قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (هل بلغت)؟ وبين قوله (فليبلغ الشاهد) الغائب (لا ترجعوا بعدي) بعد فراقي من موقفي هذا أو بعد حياتي وفيه استعمال رجع كصار معنى وعملاً قال ابن مالك وهو مما خفي على أكثر النحويين أي لا تصيروا بعدي (كفارًا) أي كالكفار أو لا يكفر بعضهم بعضًا فتستحلوا القتال أو لا تكن أفعالكم شبيهة بأفعال الكفار (يضرب بعضكم رقاب بعض) برفع يضرب جملة مستأنفة مبينة لقوله لا ترجعوا بعدي كفارًا ويجوز الجزم. قال أبو البقاء: على شرط مضمر أي أن ترجعوا بعدي.
ورواة هذا الحديث ما بين مدني وبصري وكوفي، وأخرجه المؤلّف أيضًا في الفتن وكذا الترمذي.
1740 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرٌو قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ زَيْدٍ قَالَ سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَخْطُبُ بِعَرَفَاتٍ. تَابَعَهُ ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرٍو. [الحديث 1740 - أطرافه في: 1812،1841، 1843، 5804، 5853].
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) بن الحرث الحوضي البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (قال أخبرني) بالإفراد (عمرو) بفتح العين وسكون الميم ابن دينار (قال: سمعت جابر بن زيد) أبا الشعثاء الأزدي اليحمدي (قال: سمعت ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب بعرفات). ولا مطابقة بينه وبين الترجمة على ما لا يخفى، لكن يحتمل أنه قصد التنبيه على إلحاق المختلف فيه بالمتفق عليه كما مرّ. وهذا الحديث طرف من حديث ذكره المؤلّف فيما يأتي إن شاء الله تعالى في باب: لبس الخفين للمحرم عن أبي الوليد عن شعبة بهذا الإسناد، ولفظه: يخطب بعرفات من لم يجد النعلين فليلبس الخفين ومن لم يجد إزارًا فليلبس سراويل للمحرم.

وفي هذا الحديث رواية التابعي، عن التابعي عن الصحابي، وأخرجه المؤلّف في الباب المذكور وفي اللباس أيضًا، ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجة في الحج، والنسائي أيضًا في الزينة.
(تابعه) أي تابع شعبة بن الحجاج (ابن عيينة) سفيان (عن عمرو) أي ابن دينار المذكور والمراد أنه تابعه في رواية أصل هذا الحديث فإن أحمد أخرجه في مسنده عن سفيان بن عيينة بلفظ: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب يقول من لم يجد فذكره فلم يقل عرفات ولا غيرهما.
1741 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا قُرَّةُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، وَرَجُلٌ أَفْضَلُ فِي نَفْسِي مِنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ حُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ "خَطَبَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قُلْنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: أَلَيْسَ ذُو الْحَجَّةِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الْحَرَامِ؟ قُلْنَا: بَلَى. قَالَ: فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلاَ هَلْ بَلَّغْتُ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ".
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر وابن عساكر: حدّثنا (عبد الله بن محمد) المسندي الجعفي قال: (حدّثنا أبو عامر) عبد الملك بن عمرو العقدي قال: (حدّثنا قرة) بضم القاف وتشديد الراء ابن خالد السدوسي (عن محمد بن سيرين قال: أخبرني) بالإفراد (عبد الرحمن بن أبي بكرة عن) أبيه (أبي بكرة) نفيع بن الحرث بن كلدة (ورجل) بالرفع عطفًا على عبد الرحمن دخل في الولايات وكان الرجل المذكور وهو (حميد بن عبد الرحمن) الحميري فيما قاله الحافظ ابن حجر زاهدًا أو هو ابن عوف القرشي الزهري كما قاله الكرماني، وكل واحد منهما سمع من أبي بكرة وسمع منه محمد بن سيرين وحميد مرفوع خبر مبتدأ محذوف أو بدل من رجل أو عطف بيان (عن أبي بكرة) نفيع (-رضي الله عنه- قال: خطبنا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم النحر) أي بمنى عند الجمرة (قال):
(أتدرون أي يوم هذا)؟ (قلنا الله ورسوله أعلم) فيه مراعاة الأدب وتحرز عن التقدم بين يدي الله ورسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- توقف فيما لا يعلم الغرض من السؤال عنه، (فسكت) عليه الصلاة والسلام (حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه).
قال الطيبي: فيه إشارة إلى تفويض الأمور بالكلية إلى الشارع وعزل لما ألفوه من المتعارف المشهور، وفي حديث ابن عباس فقال: يا أيها الناس أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام إلى آخره، ففيه

أنهم أجابوه. وفي حديث أبي بكرة أنهم سكتوا وفوضوا إليه الأمر، فقيل في التوفيق بينهما أن في حديث أبي بكرة فخامة

(3/241)


ليست في حديث ابن عباس لزيادة لفظ: أتدرون؟ فلهذا سكتوا فيه وفوّضوا الأمر إليه بخلاف حديث ابن عباس فالسكت فيه كان أوّلاً والجواب بالتعيين كان آخرًا، وهذا يفهم أنهما واقعتان وهو مردود لأن الخطبة يوم النحر إنما شرعت مرة واحدة.
وأجيب: بأن السؤال وقع في الخطبة المذكورة مرتين بلفظين فلم يجيبوا عند قوله: أتدرون لما ذكر، وأجابوا في المرة الأخرى العارية عن ذلك أو كان السؤال واحدًا وأجاب بعضهم دون بعض، أو أن في حديث ابن عباس اختصارًا.
(قال) عليه الصلاة والسلام: (أليس يوم النحر) بنصب اليوم خبر ليس أي أليس اليوم يوم النحر ويجوز الرفع على أنه اسمها والخبر محذوف أي أليس يوم النحر هذا اليوم (قلنا: بلى. قال) عليه الصلاة والسلام: (أي شهر هذا) (قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال) عليه الصلاة والسلام: (أليس ذو الحجة) بالرفع اسم ليس وخبرها محذوف أي: ليس ذو الحجة هذا الشهر. قال ابن مالك: والأصل أليسه ذو الحجة فحذف الضمير المتصل كقوله:
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
فإنه خرج على أن الغالب اسم ليس والخبر محذوف: قال ابن مالك: وهو في الأصل ضمير متصل عائد على الأشرم أي ليسه الغالب كما تقول الصديق كأنه زيد ثم حذف لاتصاله. قال في المغني ومقتضى كلامه أنه لولا تقديره متصلاً لم يجز حذفه وفيه نظر. قال صاحب تحفة الغريب: أما أن ذلك مقتضى كلامه فظاهر لأنه علل حذفه بالاتصال فقال ثم حذف لاتصاله، وأما أن فيه نظرًا فليس معناه أنه مشكل، وإنما المراد محل نظر وتثبت فيبحث عن النقل فيه هل هو كذلك عند العرب أو لا والله أعلم.
وفي رواية أبوي ذر والوقت قال: ذو الحجة فأسقطا الفاء من فقال، ولفظ أليس والتقدير هو ذو الحجة.
وفي بعض الأصول قال: أليس ذا الحجة بالنصب خبر ليس (قلنا بلى. قال): (أي بلد هذا) بالتذكير (قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال): (أليست بالبلدة الحرام) بتأنيث البلدة وتذكير الحرام الذي هو صفتها واستشكل.
وأجيب: بأنه اضمحل منه معنى الوصفية وصار اسمًا، وسقط لفظ الحرام في رواية غير ابن عساكر والجار والمجرور الذي هو بالبلدة في موضع رفع أو نصب كما مرّ والمراد مكة، وقيل: إنها اسم خاص لها قال تعالى: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ} [النمل: 91] كذا قاله الزركشي وغيره، لكن لا دلالة في الآية على ما ادعوه من الاختصاص قاله في المصابيح.

وقال التوربشتي: وجه تسميتها بالبلدة وهي تقع على سائر البلدان أنها البلدة الجامعة للخير المستحقة أن تسمى بهذا الاسم لتفوّقها سائر مسميات أجناسها تفوق الكعبة في تسميتها بالبيت سائر مسميات أجناسها حتى كأنها هي المحل المستحق للإقامة بها.
وقال ابن جني: من عادة العرب أن يوقعوا على الشيء الذي يخصونه بالمدح اسم الجنس ألا تراهم كيف سموا الكعبة بالبيت وكتاب سيبويه بالكتاب.
(قلنا بلى: قال) عليه الصلاة والسلام (فإن دماءكم وأموالكم) زاد في الرواية السابقة: وأعراضكم (عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا إلى يوم تلقون ربكم) بجر يوم من غير تنوين ويجوز فتحه وكسره مع التنوين والأول هو المروي، وشبه الأموال والدماء والأعراض في الحرمة باليوم وبالشهر وبالبلد لاشتهار الحرمة فيها عندهم وإلا فالشبه إنما يكون دون المشبه به، ولهذا قدم السؤال عنها مع شهرتها لأن تحريمها أثبت في نفوسهم إذ هي عادة سلفهم وتحريم الشرع طارئ وحينئذٍ فإنما شبه بما هو أعلى منه باعتبار ما هو مقرر عندهم وقد سبق هذا في باب العلم وذكر هنا لبعد العهد به. (ألا هل بلغت؟) (قالوا نعم) بلغت (قال:) عليه الصلاة والسلام (اللهم اشهد) أني أدّيت ما أوجبته عليّ من التبليغ (فليبلغ الشاهد) الحاضر هذا المجلس (الغائب) عنه ما ذكر فيه أو جميع الأحكام التي سمعها، ولأبي ذر: وليبلغ بالواو بدل الفاء (فرب مبلغ) بفتح اللام المشددة اسم مفعول بلغه كلامي بواسطة (أوعى) احفظ وافهم لمعنى كلامي

(3/242)


(من سامع) سمعه مني.
قال النووي: وفيه تصريح بوجوب نقل العلم على الكفاية وإشاعة السنن والأحكام: وقال المهلب: فيه إنه يأتي في آخر الزمان من يكون له من الفهم في العلم ما ليس لمن تقدم إلا أن ذلك يكون في الأقل لأن رب موضوعة للتقليل اهـ.
وفيه شيء، فقد قال ابن هشام في مغنيه: وليس معناه التقليل دائمًا خلافًا للأكثرين ولا التكثير دائمًا خلافًا لابن درستويه وجماعة بل ترد للتكثير كثيرًا وللتقليل قليلاً، فمن الأول {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] وفي الحديث: يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة. وقال الشاعر:
فيارب يوم قد لهوت وليلة ... بآنسة كأنها خط تمثال
وتوجيه ذلك أن الآية والحديث مسوقان للتخويف والبيت مسوق للافتخار ولا يناسب واحد منها التقليل، ومن الثاني قول أبي طالب في النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ... ثمال اليتامى عصمة للأرامل
لكن الظاهر أن المراد بها هنا في حديث الباب التقليل بدليل قوله في الرواية السابقة في العلم

عسى أن يبلغ من هو أوعى له منه (فلا) بالفاء ولأبي الوقت: ولا (ترجعوا) أي لا تصيروا (بعدي كفارًا) أي كالكفار (يضرب بعضكم رقاب بعض) برفع يضرب ويجوز جزمه كما مرّ في الحديث السابق.
وفي هذا الحديث رواية ثلاثة من التابعين وهم: محمد بن سيرين، وعبد الرحمن بن أبي بكرة، وحميد بن عبد الرحمن، وفيه التحديث والإخبار والعنعنة والقول، ويأتي إن شاء الله في التفسير وبدء الخلق والفتن.
1742 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا عَاصِمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ "قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِنًى: أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَقَالَ: فَإِنَّ هَذَا يَوْمٌ حَرَامٌ. أَفَتَدْرُونَ أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بَلَدٌ حَرَامٌ. أَفَتَدْرُونَ أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: شَهْرٌ حَرَامٌ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَيْكُمْ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا". وَقَالَ هِشَامُ بْنُ الْغَازِ: أَخْبَرَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "وَقَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ بَيْنَ الْجَمَرَاتِ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي حَجَّ بِهَذَا، وَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْحَجِّ الأَكْبَرِ. فَطَفِقَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ. وَوَدَّعَ النَّاسَ فَقَالُوا: هَذِهِ حَجَّةُ الْوَدَاعِ". [الحديث 1742 - أطرافه في: 4403، 6043، 6166، 6785، 6868، 7077].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي قال: (حدّثنا يزيد بن هارون) السلمي الواسطي قال: (أخبرنا عاصم بن محمد بن زيد عن أبيه) محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب (عن ابن عمر) جد محمد بن زيد (-رضي الله عنهما- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (بمنى) أي فيها في خطبته التي خطبها يوم النحر:
(أتدرون أي يوم هذا)؟ برفع أي والجملة مقول القول (قالوا: الله ورسوله أعلم) بذلك (فقال) عليه الصلاة والسلام، ولأبي الوقت: قال: (فإن هذا يوم حرام) حرم الله فيه القتل (أفتدرون أي بلد هذا) بالتذكير (قالوا: الله ورسوله أعلم قال) عليه الصلاة والسلام أنه (بلد حرام) بالتذكير لا يجوز فيه القتل (أفتدرون أي شهر هذا)؟ (قالوا: الله ورسوله أعلم قال) عليه الصلاة والسلام: إنه (شهر حرام) يحرم فيه القتل (قال) عليه الصلاة والسلام (فإن الله حرم عليكم دماءكم وأموالكم وأعراضكم كحرمة يومكم هذا) يوم النحر (في شهركم هذا) ذي الحجة (في بلدكم هذا) مكة.
وفي هذا الحديث كسابقه من الفوائد مشروعية ضرب المثل وإلحاق النظير بالنظير ليكون أوضح للسامع، وجواز تحمل الحديث لمن لم يفهم معناه ولا فقهه إذا ضبط ما يحدث به، وجواز وصفه

بكونه من أهل العلم بذلك، وأخرجه البخاري أيضًا في الدّيات والفتن والأدب والحدود والمغازي ومسلم في الإيمان.
(وقال هشام بن الغاز): بفتح الغين المعجمة وتخفيف الزاي من الغزو بحذف الياء وإثباتها ابن ربيعة الجرشي بضم الجيم وفتح الراء وبالمعجمة مما وصله ابن ماجة ولفظه: حدّثنا المؤمل بن الفضل عن الوليد بن مسلم عن هشام بن الغاز قال: حدّثنا نافع عن ابن عمر أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقف يوم النحر عليّ الحجة التي حج فيها فقال: أي يوم هذا؟ فقالوا: يوم النحر، فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
ورواه ابن ماجة وغيره (أخبرني) بالإفراد ولأبي الوقت أخبرنا (نافع) مولى ابن عمر بن الخطاب (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) قال: (وقف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم النحر بين الجمرات) بفتح الجيم والميم جمع جمرة وفيه تعيين موضع وقوفه عليه الصلاة والسلام كما أن في الرواية السابقة تعيين الزمان كحديثي ابن عباس تعيين اليوم كتعيين الوقت منه في رواية رافع بن عمرو المزني عند أبي داود والنسائي ولفظه: رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يخطب الناس بمنى حين ارتفع

(3/243)


الضحى (في الحجة) ولأبي ذر عن الكشميهني في حجته (التي حج) وللطبراني في حجة الوداع (بهذا) قال البرماوي كالكرماني أي وقف متلبسًا بهذا الكلام المذكور، واستغربه الحافظ ابن حجر فقال بهذا أي بالحديث الذي تقدم من طريق محمد بن زيد عن جده قال: وأراد المصنف بذلك أصل الحديث وأصل معناه، لكن السياق مختلف فإن في طريق محمد بن زيد أنهم أجابوا بالتفويض، وفي هذا عند ابن ماجة وغيره في أجوبتهم قالوا يوم النحر قالوا بلد حرام قالوا شهر حرام اهـ.
واعترضه العيني بأن في الطريقين اختلافًا يعني التفويض والجواب بيوم النحر قال: وكأن في طريق هشام ورد التفويض والجواب، وفي تعليق البخاري عنه اللفظ هو التفويض فلذلك فسر الكرماني لفظة بهذا بقوله وقف متلبسًا بهذا الكلام المذكور وأراد بالكلام المذكور المفويض قال: وهذا هو الوجه فلا ينسب إلى الاستغراب لأن الباء في بهذا تتعلق بقوله وقف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن تأمل سر التراكيب لم يزغ عن طريق الصواب اهـ.
(وقال) عليه الصلاة والسلام: (هذا) أي يوم النحر (يوم الحج الأكبر) واختلف في المراد بالحج الأصغر فالجمهور على أنه العمر. وصل ذلك عبد الرزاق من طريق عبد الله بن شداد أحد كبار التابعين، ووصله الطبري عن جماعة منهم عطاء والشعبي، وقيل يوم الحج الأصغر يوم عرفة، ويوم الحج الأكبر يوم النحر لأنه فيه تتكمل بقية المناسك. وعن مجاهد الأكبر القران والأصغر الإفراد والذي تحصل من اختلافهم في يوم الحج الأكبر خمسة أقوال.
أحدها: أنه يوم النحر رواه الترمذي مرفوعًا وموقوفًا. ورواه أبو داود عن ابن عمر مرفوعًا كما مرّ وهو قول عليّ وعبد الله بن أبي أوفى والشعبي.

الثاني: أنه يوم عرفة رواه ابن مردويه في تفسيره من رواية ابن جريج عن محمد بن قيس عن المسور بن مخرّمة قال: خطبنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو بعرفات فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد. فإن هذا اليوم الحج الأكبر وتؤوّل على معنى أن الوقوف هو المهم من أفعاله لأن الحج يفوت بفواته.
الثالث: أنه أيام الحج كلها قاله الثوري وقد يعبر عن الزمان باليوم كقولهم: يوم بعاث ويوم الجمل ويوم صفين.
الرابع: أن الأكبر القران والأصغر الإفراد قاله مجاهد كما مرّ.
الخامس: حج أبي بكر -رضي الله عنه- بالناس رواه ابن مردويه في تفسيره من رواية الحسن عن سمرة بلفظ قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يوم الحج الأكبر يوم حج أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- بالناس، وقد استنبط حميد بن عبد الرحمن من قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ} [التوبة: 3] ومن مناداة أبي هريرة بذلك بأمر الصديق يوم النحر أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر.
(فطفق) أي جعل أو شرع (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول): (اللهم اشهد) جملة وقعت خبر الطفق (وودّع) ولأبي ذر والوقت وابن عساكر: فودع (الناس) بفاء العطف بدل واوه لأنه عليه الصلاة والسلام علم أنه لا يتفق له بعد هذا وقفة أخرى ولا اجتماع آخر مثل ذلك وسبب ذلك أنزلت عليه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] في وسط أيام التشريق وعرف أنه الوداع، فأمر براحلته القصواء فرحلت له وركب عليها ووقف بالعقبة واجتمع الناس إليه الحديث. ورواه البيهقي بسند فيه ضعف (فقالوا): أي الصحابة (هذه) الحجة (حجة الوداع) بفتح الواو. قال في الصحاح: التوديع عند الرحيل والاسم الوداع بالفتح. وقال في القاموس: وهو تخليف المسافر الناس خافضين وهم يودعونه إذا سافر تفاؤلاً بالدعة التي يصير إليها إذا قفل أي يتركونه وسفره.

133 - باب هَلْ يَبِيتُ أَصْحَابُ السِّقَايَةِ أَوْ غَيْرُهُمْ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى؟
هذا (باب) بالتنوين (هل يبيت أصحاب السقاية) سقاية العباس أو غيرها (أو غيرهم) ممن له عذر من مرض أو شغل كالحطابين والرعاء (بمكة ليالي منى)؟ بنصب ليالي على الظرفية والباء في بمكة تتعلق بقوله يبيت.
1743 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ مَيْمُونٍ حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "رَخَّصَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ... ".
وبه قال (حدّثنا محمد بن عبيد بن ميمون) بتصغير عبد المعروف بابن أبي عباد القرشي التيمي مولاهم المدني وقيل الكوفي قال: (حدّثنا عيسى بن يونس) الهمداني الكوفي (عن عبيد الله) بن

عمر العمري (عن

(3/244)


نافع) مولى ابن عمر بن الخطاب (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) قال: (رخص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي في البيتوتة ليالي منى بمكة لأهل السقاية فالمفعول محذوف واقتصر عليه ليحل على ما بعده، ولفظه عند الإسماعيلي من طريق إبراهيم بن موسى بن عيسى بن يونس المذكور أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص للعباس أن يبيت بمكة أيام منى من أجل سقايته وقد أخرج المؤلّف هذا الحديث في باب سقاية العباس.
1744 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَذِنَ ... ".
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن موسى) البلخي الملقب بخت بفتح الخاء المعجمة وتشديد المثناة الفوقية قال: (حدّثنا محمد بن بكر) البرساني البصري قال: (أخبرنا ابن جريج) بن عبد العزيز قال: (أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بن عمر (عن نافع عن ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أذِن) كذا اقتصر عليه أيضًا وأحال به على ما بعده ولفظه عند أحمد في مسنده عن محمد بن بكر البرساني أذن للعباس بن عبد المطلب أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية.
1745 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّ الْعَبَّاسَ -رضي الله عنه- اسْتَأْذَنَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَبِيتَ بِمَكَّةَ لَيَالِيَ مِنًى مِنْ أَجْلِ سِقَايَتِهِ، فَأَذِنَ لَهُ". تَابَعَهُ أَبُو أُسَامَةَ وَعُقْبَةُ بْنُ خَالِدٍ وَأَبُو ضَمْرَةَ.
وبه قال: (ح حدّثنا) ولأبي الوقت: وحدثني بالواو والإفراد (محمد بن عبد الله بن نمير) بضم النون وفتح الميم الهمداني الكوفي قال: (حدّثنا أبي) عبد الله قال: (حدّثنا عبيد الله) العمري قال: (حدثني) بالإفراد (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-: أن العباس -رضي الله عنه- استأذن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليبيت بمكة ليالي منى من أجل سقايته) المعروفة بالمسجد الحرام (فأذن) عليه الصلاة والسلام الله) في المبيت.
(تابعه) أي تابع محمد بن عبد الله بن نمير (أبو أسامة) حماد بن أسامة الليثي فيما أخرجه مسلم (وعقبة بن خالد) أبو مسعود السكوني مما أخرجه ابن أبي شيبة في مسنده عنه (وأبو ضمرة) بفتح الضاد المعجمة وسكون الميم أنس بن عياض مما أخرجه المؤلّف في باب سقاية الحاج. قال في الفتح: والنكتة في استظهار البخاري بهذه المتابعات بعد إيراده له من ثلاث طرق لشك وقع في رواية يحيى بن سعيد القطان في وصله، فقد أخرجه أحمد عن يحيى عن عبيد الله عن نافع قال: ولا أعلمه إلا عن ابن عمر. قال الإسماعيلي: وقد وصله أيضًا بغير شك موسى بن عقبة والدراوردي وعليّ بن مسهر ومحمد بن فليح كلهم عن عبيد الله وأرسله ابن المبارك عن عبيد الله.

قال الحافظ ابن حجر: والظاهر أن عبيد الله ربما كان يشك في وصله بدليل رواية يحيى بن سعيد القطان وكأنه كان في أكثر أحواله يجزم بوصله بدليل رواية الجماعة اهـ.
وفي الحديث دليل على وجوب المبيت ليالي أيام التشريق بمنى لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص للعباس في ترك المبيت لأجل سقايته فدلّ على أنه لا يجوز لغيره لأن التعبير بالرخصة يقتضي أن مقابلها عزيمة وأن الإذن وقع للعلة المذكورة وإذا لم توجد العلة المذكورة أو ما في معناها لم يحصل الإذن وهذا مذهب الشافعية. وقال من الحنابلة صاحب الرعايتين والحاويين، والمراد مبيت معظم الليل كما لو حلف لا يبيت بمكان لا يحنث إلا بمبيته معظم الليل وإنما اكتفى بساعة في نصفه الثاني بمزدلفة كما سبق لأن نص الشافعي وقع فيها بخصوصها إذ بقية المناسك يدخل وقتها بالنصف وهي كثيرة المشقّة فسومح في التخفيف لأجلها، وفي قول للشافعي ورواية عن أحمد قال المرداوي: وهو الصحيح من المذهب، وقطع به ابن أبي موسى في الإرشاد والقاضي في الخلاف وابن عقيل في الفصول وأبو الخطاب في الهداية وهو مذهب الحنفية أنه سنة، واستدلوا بأنه لو كان واجبًا لما رخص عليه الصلاة والسلام للعباس فيه ووجوب الدم بتركه مبني على هذا الخلاف فيجب بتركه دم عند الشافعية كنظيره في ترك مبيت مزدلفة وفي ترك مبيت الليلة الواحدة من ليالي منى يجب مدّ الليلتين مدّان من الطعام وفي ترك الثلاث مع ليلة مزدلفة دمان لاختلاف المبيتين مكانًا ويسقط المبيت بمنى ومزدلفة والدم عن أهل السقاية سواء كانوا من آل العباس أم من غيرهم مطلقًا سواء أخرجوا قبل الغروب أو بعده، ولو كانت السقاية محدثة كما صححه النووي ونقله الرافعي عن البغوي، ونقل المنع عن ابن كج قال في المهمات:

(3/245)


والصحيح المنع فقد نقله صاحبا الحاوي والبحر وغيرهما عن نص الشافعي وهو المشهور كما أشعر به كلام الرافعى، وذكر الأذرعي نحوه وما صححه النووي كما قاله الزركشي هو ما نص عليه الشافعي من إلحاق الخائف على نفس أو نحوها مما يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى. قال في الفتح: والمعروف عن أحمد اختصاص العباس بذلك وعليه اقتصر صاحب المغني، لكن قال في التنقيح: وإن دفع من مزدلفة غير سقاة ورعاة قبل نصف الليل فعليه دم إن لم يعد نصًا إليها ليلاً ولو بعد نصفه اهـ.
ومقتضاه العموم وكذا يسقط المبيت بها والرمي عن الرعاء بكسر الراء والمدان خرجوا منها قبل الغروب لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص لرعاء الإبل أن يتركوا المبيت رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وقيس بمنى مزدلفة فإن لم يخرجوا قبل الغروب بأن كانوا بهما بعده لزمهم مبيت تلك الليلة والرمي من الغد. وصورة الخروج قبل الغروب من مزدلفة أن يأتيها قبل الغروب ثم يخرج منها حينئذٍ على خلاف العادة، وإنما لم يقيد الخروج قبل الغروب في حق أهل السقاية لأن عملهم بالليل بخلاف الرعي وألحق بأهل السقاية أيضًا الخائف على نفس أو مال أو فوت أمر يطلبه كآبق أو ضياع مريض، وكذا من اشتغل بتدارك الحج بأن انتهى إلى عرفة ليلة النحر واشتغل بالوقوف بها عن مبيت مزدلفة لاشتغاله بالأهم، وكذا من أفاض من عرفة إلى مكة ليطوف للإفاضة بعد نصف الليل ففاته المبيت

لاشتغاله بالصواف كاشتغاله بالوقوف. وقال المالكية: ويلزم المبيت بمنى لياليها الثلاث والمتعجل ليلتين. وقال ابن حبيب عن ابن الماجشون، وابن عبد الحكم عن مالك: من أقام بمكة أكثر ليله ثم أتى منى فبات فيها باقي ليله فلا شيء عليه إلا أن يبيت ليلة كاملة فيلزمه الدم ولو كان له عذر من مرض أو غيره لم يسقط عنه الدم حكاه الباجي، وما حكاه عن ابن عبد الحكم وابن حبيب خلاف ما في المدوّنة والمشهور لزوم الدم إذا بات بغير منى جل ليلة. وقال المرداوي عن الحنابلة في تنقيحه: وفي ترك مبيت ليلة دم، وقال في شرح المقنع: فيه ما في حلق شعرة وهو مدّ من طعام قال وهو إحدى الروايات لأنها ليست نسكًا بمفردها بخلاف المبيت بمزدلفة قاله القاضي وغيره وقال لا تختلف الرواية أنه لا يجب دم.

134 - باب رَمْيِ الْجِمَارِ
وَقَالَ جَابِرٌ: رَمَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ النَّحْرِ ضُحًى، وَرَمَى بَعْدَ ذَلِكَ بَعْدَ الزَّوَالِ.
(باب) وقت (رمي الجمار) واحدها جمرة وهي في الأصل النار المتقدة والحصاة واحدة جمرات المناسك وهي المرادة هنا وهي ثلاث الجمرة الأولى والوسطى وجمرة العقبة يرمين بالجمار قاله في القاموس، وقال القرافي من المالكية: الجمار اسم للحصى لا للمكان والجمرة اسم للحصاة وإنما سمي الوضع جمرة باسم ما جاوره وهو اجتماع الحصى فيه، والأولى منها هي التي تلي مسجد الخيف أقرب ومن بابه الكبير إليها ألف ذراع ومائتا ذراع وأربعة وخمسون ذراعًا وسدس ذراع، ومنها إلى الجمرة الوسطى مائتا ذراع وخمسة وسبعون ذراعًا ومن الوسطى إلى جمرة العقبة مائتا ذراع وثمانية أذرع كل ذلك بذراع الحديد.
(وقال جابر): هو ابن عبد الله الأنصاري مما وصله مسلم (رمى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي رمي جمرة العقبة (يوم النحر ضحى)، بالتنوين على أنه مصروف وهو مذهب نحاة البصرة سواء قصد التعريف أو التنكير قال في الصحاح: تقول لقيته ضحى وضحى إذا أردت به ضحى يومك، تنوّنه. وقال في القاموس: الضحو والضحوة والضحية كعشية ارتفاع النهار والضحى فويقه ويذكر ويصغر ضحيا بلا هاء والضحاء بالمد إذا قرب انتصاف النهار وبالضم والقصر وأتيتك ضحوة ضحى وأضحى صار فيها اهـ.
ويدخل وقت الرمي يوم النحر بنصف ليلة النحر لما روى أبو داود بإسناد صحيح على شرط مسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرسل أم سلمة ليلة النحر فرمت قبل الفجر ثم أفاضت ويبقى الرمي إلى آخر يوم النحر.
(ورمى) عليه الصلاة والسلام (بعد ذلك) الجمار أيام التشريق (بعد الزوال) ويمتدّ وقته المختار إلى الغروب ويندب تقديمه على صلاة الظهر كما في المجموع عن الأصحاب ولا يجوز تقديمه على الزوال.

1746 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ وَبَرَةَ قَالَ "سَأَلْتُ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما-: مَتَى أَرْمِي الْجِمَارَ؟ قَالَ: إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِهْ. فَأَعَدْتُ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةَ، قَالَ: كُنَّا نَتَحَيَّنُ، فَإِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ رَمَيْنَا".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم)

(3/246)


الفضل بن دكين قال: (حدّثنا مسعر) بميم مكسورة فسين ساكنة مفتوحة مهملتين فراء ابن كدام (عن وبرة) بالواو والموحدة والراء المفتوحات ابن عبد الرحمن المسلي بضم الميم وسكون السين المهملة بعدها لام (قال: سألت ابن عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنهما- متى أرمي الجمار)؟ أيام التشريق غير يوم النحر (قال: إذا رمى إمامك) يعني أمير الحاج (فارمه) بهاء ساكنة للسكت والهمزة وصل، وزاد ابن عيينة عن مسعر بهذا الإسناد فقلت له: أرأيت إن أخر إمامي الرمي أخرجه ابن أبي عمر في مسنده عنه ومن طريقه الإسماعيلي قال وبرة: (فأعدت عليه) أي على ابن عمر (المسألة، قال: كنا نتحين) بوزن نتفعل من الحين وهو الزمان أي نراقب الوقت (فإذا زالت الشمس رمينا) أي الجمار الثلاث في أيام التشريق وكأن ابن عمر خاف على وبرة أن يخالف الأمير فيحصل له منه ضرر، فلما أعاد عليه المسألة لم يسعه الكتمان فأعلمه بما كانوا يفعلونه في زمن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ويشترط أن يبدأ بالجمرة الأولى ثم الوسطى ثم جمرة العقبة للاتباع رواه البخاري كما سيأتي مع قوله عليه الصلاة والسلام "خذوا عني مناسككم" ولأنه نسك متكرر فيشترط فيه الترتيب كما في السعي فلا يعتدّ برمي الثانية قبل تمام الأولى ولا بل الثالثة قبل تمام الأوليين. وقال الحنفية: بسقوط الترتيب فلو بدأ بجمرة العقبة ثم بالوسطى ثم بالتي تلي مسجد الخيف جاز لأن كل جمرة قربة بنفسها فلا يكون بعضها تابعًا للآخر اهـ.
وإذا ترك رمي يوم النحر ورمي أيام التشريق ولو سهوًا لزمه دم.
ورواة هذا الحديث كلهم كوفيون وأخرجه أبو داود.

135 - باب رَمْيِ الْجِمَارِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي
(باب رمي الجمار من بطن الوادي) أي جمار العقبة يوم النحر وجمرة العقبة هي أسبل الجبل على يمين السائر إلى مكة.
1747 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ "رَمَى عَبْدُ اللَّهِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ، إِنَّ نَاسًا يَرْمُونَهَا مِنْ فَوْقِهَا، فَقَالَ: وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ قال حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ بِهَذَا. [الحديث 1747 - أطرافه في: 1748، 1749، 1750].

وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبديّ قال ابن معين: لم يكن بالثقة، وقال أبو حاتم: صدوق ووثقه أحمد بن حنبل وروى عنه البخاري ثلاثة أحاديث في العلم والبيوع والتفسير وقد توبع عليها (قال: أخبرنا سفيان) الثوري (عن الأعمش) سليمان بن مهران (عن إبراهيم) النخعي (عن عبد الرحمن بن يزيد) النخعي (قال: رمى عبد الله) أي ابن مسعود -رضي الله عنه- جمرة العقبة (من بطن الوادي) فتكون مكة عن يساره وعرفة عن يمينه ويكون مستقبل الجمرة ولفظ الترمذي: لما أتى عبد الله جمرة العقبة استبطن الوادي (فقلت: يا عبد الرحمن) هي كنية عبد الله بن مسعود (أن ناسًا يرمونها) أي جمرة العقبة يوم النحر (من فوقها؟ فقال): ابن مسعود (والذي لا إله غيره هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح ميم مقام اسم مكان من قام يقوم أي هذا موضع قيام النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وخص سورة البقرة لمناسبتها للحال لأن معظم المناسك مذكور فيها خصوصًا ما يتعلق بوقت الرمي وهو قول الله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] وهو من باب التلميح فكأنه قال من هنا رمى من أنزلت عليه أمور المناسك وأخذ عنه أحكامها وهو أولى وأحق بالاتباع ممن رمى الجمرة من فوقها.
(وقال عبد الله بن الوليد) العدني مما وصله ابن منده (قال: حدّثنا سفيان) الثوري (عن الأعمش) وفي نسخة: وهي التي في الفرع وأصله لا غير حدّثنا الأعمش (بهذا) الحديث المذكور عن ابن مسعود وفائدة ذكر هذا بيان سماع سفيان الثوري له عن الأعمش.
ورواة هذا الحديث كلهم كوفيون إلا شيخه فبصري وسفيان مكي، وفيه رواية الرجل عن خاله لأن عبد الرحمن خال إبراهيم، وفيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض الأعمش وإبراهيم وعبد الرحمن، وأخرجه المؤلّف أيضًا عن مسدّد وعن حفص بن عمر ومسلم والنسائي وابن ماجة في الحج.

136 - باب رَمْيِ الْجِمَارِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ: ذَكَرَهُ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب رمي الجمار) الثلاث (بسبع حصيات ذكره) أي السبع (ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في حديثه الآتي قريبًا إن شاء الله تعالى موصولاً في باب إذا رمى الجمرتين.
1748 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- "أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى الْجَمْرَةِ الْكُبْرَى جَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ، وَرَمَى بِسَبْعٍ وَقَالَ: هَكَذَا رَمَى الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبالسند قال: (حدّثنا حفص بن عمر)

(3/247)


الحوضي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الحكم) بفتحتين ابن عتيبة بضم العين وفتح المثناة الفوقية وسكون التحتية وفتح الموحدة (عن إبراهيم) النخعي

(عن عبد الرحمن بن يزيد) خال إبراهيم المذكور (عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه انتهى إلى الجمرة الكبرى) وهي جمرة العقبة (جعل البيت عن يساره ومنى عن يمينه) واستقبل الجمرة (ورمى) الجمرة (بسبع) من الحصيات فلا يجزئ بست، وهذا قول الجمهور خلافًا لعطاء في الأجزاء بالخمس ومجاهد بالست، وبه قال أحمد لحديث النسائي عن سعد بن مالك قال: رجعنا في الحجة مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبعضنا يقول: رميت بسبع، وبعضنا يقول رميت بست فلم يعب بعضهم على بعض.
وحديث أبي داود والنسائي أيضًا عن أبي مجلز قال: سألت ابن عباس عن شيء من أمر الجمار قال: لا أدري في رماها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بست أو بسبع.
وأجيب: بأن حديث سعيد ليس بمسند، وحديث ابن عباس ورد على الشك وشك الشاك لا يقدح في جزم الجازم وحصى الرمي جميعه سبعون حصاة لرمي يوم النحر سبع ولكل يوم من أيام التشريق إحدى وعشرون لكل جمرة سبع، فإن نفر في اليوم الثاني قبل الغروب سقط رمي اليوم الثالث وهو إحدى وعشرون حصاة ولا دم عليه ولا إثم فيطرحها وما يفعله الناس من دفنها لا أصل له وهذا مذهب الأئمة الأربعة وعليه أصحاب أحمد، لكن روي عنه أنه ستون فيرمي كل جمرة بستة، وعنه أيضًا خمسون فيرمي كل جمرة بخمسة وإذا ترك رمي يوم أو يومين عمدًا أو سهوًا تداركه في باقي الأيام فيتدارك الأول في الثاني أو الثالث والثاني أو الأوليين في الثالث ويكون ذلك أداء، وفي قول قضاء لمجاوزته للوقت المضروب له وعلى الأداء يكون الوقت المضروب وقت اختيار كوقت الاختيار للصلاة وجملة الأيام في حكم الوقت الواحدة ويجوز تقديم رمي التدارك على الزوال ويجب
الترتيب بينه وبين رمي يوم التدارك بعد الزوال وعلى القضاء لا يجب الترتيب بينهما ويجوز التدارك بالليل لأن القضاء لا يتأقت، وقيل لا يجوز لأن الرمي عبادة النهار كالصوم ذكره كله الرافعي في الشرح وتبعه في الروضة والمجموع.
وحكي في الشرح الصغير عن القاضي وجهين في التدارك قبل الزوال أصحهما المنع لأن ما قبل الزوال لم يشرع فيه رمي قضاء ولا أداء قال: ويجري الوجهان في التدارك ليلاً وإن جعلناه أداء ففيما قبل الزوال والليل الخلاف. قال الإمام: والوجه القطع بالمنع فإن تعيين الوقت بالأداء أليق ولا دم مع التدارك وفي قول يجب وإن لم يتدارك المتروك فعليه دم في ترك يوم كذا في اليومين والثلاثة لأن الرمي فيها كالشيء الواحد، ولو ترك رمي ثلاث حصيات لزمه دم كما يجب في حلق ثلاث شعرات لمسمى الجمع وفي الحصاة مدّ طعام والحصاتين مدان لعسر تبعيض الدم.
(قال): أي ابن مسعود (هكذا رمى الذي أنزلت عليه سورة البقرة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).

137 - باب مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ
(باب من رمى جمرة العقبة فجعل) بالفاء ولأبي الوقت: وجعل (البيت) الحرام (عن يساره).

1749 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا الْحَكَمُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ "أَنَّهُ حَجَّ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- فَرَآهُ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْكُبْرَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، فَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ ثُمَّ قَالَ: هَذَا مَقَامُ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ".
وبالسند قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا الحكم) بن عتبة (عن إبراهيم) النخعي (عن) خاله (عبد الرحمن بن يزيد) النخعي (أنه حج مع ابن مسعود -رضي الله عنه- فرآه يرمي الجمرة الكبرى) جمرة العقبة (بسبع حصيات فجعل) بالفاء ولأبي الوقت: وجعل (البيت) الحرام (عن يساره ومنى عن يمينه ثم قال: هذا مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهذا إنما يندب في رمي يوم النحر أما رمي التشريق فمن فوقها.
وقد امتازت جمرة العقبة عن الجمرتين الأخريين بأربعة أشياء: اختصاصها بيوم النحر وأن لا يوقف عندها وترمى ضحى ومن أسفلها استحبابًا، وقد اتفقوا على أنه من حيث رماها جاز سواء استقبلها أو جعلها عن يمينه أو يساره أو من فوقها أو من أسفلها أو وسطها والاختلاف في الأفضل.
وفي الحديث جواز أن يقال سورة البقرة وسورة آل عمران ونحو ذلك وهو قول كافة العلماء إلا ما حكي عن بعض

(3/248)


التابعين من كراهة ذلك وأنه ينبغي أن يقال السورة التي يذكر فيها كذا.

138 - باب يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ. قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
هذا: (باب) بالتنوين (يكبر) الحاج إذا رمى الجمرات الثلاث في يوم النحر وغيره (مع كل حصاة. قاله) أي التكبير مع كل حصاة (ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كما سيأتي في باب إذا رمى الجمرتين.
1750 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ عَبْدِ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ "سَمِعْتُ الْحَجَّاجَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: السُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا الْبَقَرَةُ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا آلُ عِمْرَانَ، وَالسُّورَةُ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا النِّسَاءُ. قَالَ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ أَنَّهُ كَانَ مَعَ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- حِينَ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، فَاسْتَبْطَنَ الْوَادِيَ، حَتَّى إِذَا حَاذَى بِالشَّجَرَةِ اعْتَرَضَهَا فَرَمَى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ قَالَ: مِنْ هَا هُنَا -وَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ- قَامَ الَّذِي أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْبَقَرَةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد (عن عبد الواحد) بن زياد البصري (قال: حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران (قال: سمعت الحجاج) بن يوسف الثقفي نائب عبد الملك بن مروان حال كونه (يقول على المنبر السورة التي يذكر فيها البقرة، والسورة التي يذكر فيها آل عمران، والسورة التي يذكر فيها النساء). ولم يقل سورة البقرة وسورة آل عمران وسورة النساء، وللنسائي: لا تقولوا سورة البقرة قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة.
(قال: فذكرت ذلك) الذي سمعته من الحجاج (لإبراهيم) النخعي استيضاحًا للصواب لا قصدًا للرواية عن الحجاج لأنه لم يكن أهلاً لذلك (فقال): إبراهيم (حدثني) بالإفراد (عبد الرحمن بن يزيد أنه كان مع ابن مسعود -رضي الله عنه- حين رمى جمرة العقبة فاستبطن الوادي) أي دخل في بطنه (حتى إذا حاذى بالشجرة) التي كانت هناك أي قابلها والباء زائدة والذال من حاذى معجمة (اعترضها) أتاها من عرضها (فرمى) أي الجمرة وفي نسخة: فرماها (بسبع حصيات). ولابن عساكر: سبع بإسقاط حرف الجر (يكبر مع كل حصاة، ثم قال): أي ابن مسعود (من هاهنا) من بطن الوادي (والذي لا الله غيره قام الذي أنزلت عليه سورة البقرة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وكيفية التكبير أن يقول الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد نقله الماوردي عن الشافعي.

139 - باب مَنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَلَمْ يَقِفْ، قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب من رمى جمرة العقبة ولم يقف)، عندها (قاله) أي عدم الوقوف عند جمرة العقبة (ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الحديث الآتي في الباب التالي إن شاء الله تعالى.

140 - باب إِذَا رَمَى الْجَمْرَتَيْنِ يَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ وَيُسْهِلُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا رمى) الحاج (الجمرتين) الأولى التي تلي مسجد الخيف والوسطى (يقوم) أي يقف عندهما طويلاً بقدر سورة البقرة في الأولى كما رواه البيهقي من فعل ابن عمر وكذا بعد رمي الثانية (ويسهل) بضم أوله وسكون السين المهملة وكسر الهاء مضارع أسهل أي يقصد السهل من الأرض فينزل إليه من بطن الوادي حال كونه (مستقبل القبلة) وفي رواية أبي ذر يقوم مستقبل القبلة ويسهل بالتقديم والتأخير.
1751 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا طَلْحَةُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّهُ كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ حَتَّى يُسْهِلَ فَيَقُومَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلاً، وَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَرْمِي الْوُسْطَى، ثُمَّ يَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيَسْتَهِلُ وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، فَيَقُومُ طَوِيلاً وَيَدْعُو، وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ

وَيَقُومُ طَوِيلاً، ثُمَّ يَرْمِي جَمْرَةَ ذَاتِ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي، وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُهُ". [الحديث 1751 - طرفاه في: 1752، 1753].
وبالسند قال (حدّثنا) ولابن عساكر: حدثني بالإفراد (عثمان بن أبي شيبة) أخو أبي بكر قال: (حدّثنا طلحة بن يحيى) بن النعمان الزرقي الأنصاري المدني نزيل بغداد وثقه ابن معين، وقال أحمد مقارب الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي، وقال يعقوب: ابن أبي شيبة ضعيف جدًّا اهـ.
لكن ليس له في البخاري إلا هذا الحديث بمتابعة سليمان بن بلال كلاهما عن يونس بن يزيد كما يأتى في الباب التالي إن شاء الله تعالى قال: (حدثنا يونس) بن يزيد الأيلى (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سالم) هو ابن عمر بن الخطاب (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- أنه كان يرمي الجمرة الدنيا) بضم الدال وهو الذي في اليونينية فقط وكسرها أي القريبة إلى جهة مسجد الخيف (بسبع حصيات يكبر على إثر كل حصاة) من السبع وإثر بكسر الهمزة وسكون المثلثة أي عقب كل حصاة (ثم يتقدم) عنها (حتى يسهل) ينزل إلى السهل من بطن الوادي بحيث لا يصيبه المتطاير من الحصى الذي يرمى به (فيقوم) بالنصب حال كونه (مستقبل القبلة) مستدبر الجمرة (فيقوم) بالرفع (طويلاً) وفي رواية سليمان بن بلال قيامًا طويلاً فزاد قيامًا (ويدعو) بقدر سورة البقرة رواه البيهقي مع حضور قلبه وخشوع جوارحه (ويرفع يديه) في الدعاء (ثم يرمي) الجمرة (الوسطى ثم
يأخذ) عنها (ذات الشمال) بكسر الشين المعجمة أي يمشي إلى جهة شماله، ولأبي الوقت: بذات بزيادة الموحدة (فيستهل) بفتح المثناة التحتية وسكون السين المهملة ومثناة فوقية مفتوحة وكسر الهاء وتخفيف اللام أي ينزل إلى السهل من بطن

(3/249)


الوادي كما فعل في الأولى، ولأبي ذر وابن عساكر فيسهل بضم التحتية وإسقاط الفوقية (ويقوم) حال كونه (مستقبل القبلة) في مكان لا يصيبه الرمي (فيقوم) بالفاء، ولأبي ذر: ويقوم قيامًا (طويلاً) كما وقف في الأولى (ويدعو) ولأبوي ذر والوقت: ثم يدعو (ويرفع يديه) في دعائه (ويقوم) قيامًا (طويلاً ثم يرمي جمرة ذات العقبة) في رواية عثمان بن عمر ثم يأتي الجمرة التي عند العقبة (من بطن الوادي، ولا يقف عندها) للدعاء برفع الفاء ولأبي ذر ولا يقف بجزمها على النهي (ثم ينصرف) عقب رميها (فيقول): أي ابن عمر، ولأبوي ذر والوقت: ويقول بالواو بدل الفاء "هكذا رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعله" أي جمع ما ذكر.

141 - باب رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ جَمْرَةِ الدُّنْيَا وَالْوُسْطَى
(باب رفع اليدين) في الدعاء (عند الجمرتين الدنيا) بضم الدال وكسرها القريبة من مسجد الخيف، والذي في الفرع وأصله عند الجمرة الدنيا ليس إلا (والوسطى) التي بينها وبين جمرة العقبة.
1752 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدَّثَنِي أَخِي عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ يُونُسَ بْنِ يَزِيدَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كَانَ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الدُّنْيَا

بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ يُكَبِّرُ عَلَى إِثْرِ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَتَقَدَّمُ فَيُسْهِلُ، فَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلاً، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ الْوُسْطَى كَذَلِكَ، فَيَأْخُذُ ذَاتَ الشِّمَالِ فَيُسْهِلُ، وَيَقُومُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ قِيَامًا طَوِيلاً، فَيَدْعُو وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ. ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَةَ ذَاتَ الْعَقَبَةِ مِنْ بَطْنِ الْوَادِي وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا، وَيَقُولُ: هَكَذَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَفْعَلُ".
وبالسند قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) بن أبي أويس (قال: حدثني) بالإفراد (أخي) عبد الحميد بن عبد الله (عن سليمان) بن بلال (عن يونس بن يزيد) الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن سالم بن عبد الله) بن عمر بن الخطاب (أن) أباه (عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- كان يرمي الجمرة الدنيا بسبع حصيات يكبر) ولأبي الوقت: ثم يكبر (على إثر كل حصاة) منها بكسر الهمزة وسكون المثلثة أي عقبها (ثم يتقدم) عن الجمرة (فيسهل)، بضم الياء وكسر الهاء بعد سكون السين ينزل السهل من الأرض وهو المكان المصطحب الذي لا ارتفاع فيه (فيقوم) حال كونه (مستقبل القبلة قيامًا طويلاً، فيدعو) مع حضور قلبه وخشوع جوارحه قدر سورة البقرة (ويرفع يديه). في الدعاء كغيره.
قال أبو موسى الأشعري: كما عند البخاري دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم رفع يديه حتى رأيت بياض إبطيه، وعنده أيضًا من حديث ابن عمر: رفع في يديه فقال: "اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" لكن في حديث أنس لم يكن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرفع يديه في شيء من دعائه إلا في الاستسقاء وهو حديث صحيح ويجمع بينه وبين ما سبق أن الرفع في الاستسقاء يخالف غيره بالمبالغة إلى أن تصير اليدان في حذو الوجه مثلاً وفي الدعاء إلى حذو المنكبين، ولا يعكر على ذلك أنه ثبت في كل منهما حتى يرى بياض إبطيه بل يجمع بأن يكون رؤية البياض في الاستسقاء أبلغ منها في غيره.
وأما ما روي عن مالك من ترك رفع اليدين عند الدعاء بعد رمي الجمار فقال ابن قدامة وابن المنذر: إنه شيء تفرد به، وتعقبه ابن المنير بأن الرفع هنا لو كان سنة ثابتة ما خفي عن أهل المدينة.
وأجيب: بأن الراوي لذلك ابن عمر وهو أعلم أهل المدينة من الصحابة في زمنه وابنه سالم أحد الفقهاء السبعة من أهل المدينة والراوي عنه ابن شهاب عالم المدينة ثم الشام. وقال ابن فرحون من المالكية في مناسكه وفي رفع يديه في الدعاء قولان. قال ابن حبيب: وإذا دعا راغبًا بسط يديه فجعل بطونهما إلى السماء، وإذا دعا راهبًا جعل بطونهما مما يلي الأرض وذلك في كل دعاء، (ثم يرمي الجمرة الوسطى كذلك فيأخذ ذات الشمال فيسهل ويقوم) حال كونه (مستقبل القبلة قيامًا طويلاً فيدعو ويرفع يديه) عند دعائه (ثم يرمي الجمرة ذات العقبة من بطن الرادي ولا يقف عندها)، للدعاء (ويقول): أي ابن عمر: (هكذا رأيت رسول الله) ولأبي ذر: رأيت النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يفعل). بحذف ضمير المفعول الثابت في رواية الباب السابق.

142 - باب الدُّعَاءِ عِنْدَ الْجَمْرَتَيْنِ
(باب الدعاء عند الجمرتين) الدنيا والوسطى.
1753 - وَقَالَ مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ إِذَا رَمَى الْجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى يَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ تَقَدَّمَ أَمَامَهَا فَوَقَفَ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ، رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو، وَكَانَ يُطِيلُ الْوُقُوفَ. ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الثَّانِيَةَ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ كُلَّمَا رَمَى بِحَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْحَدِرُ ذَاتَ الْيَسَارِ مِمَّا يَلِي الْوَادِيَ، فَيَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ رَافِعًا يَدَيْهِ يَدْعُو. ثُمَّ يَأْتِي الْجَمْرَةَ الَّتِي عِنْدَ الْعَقَبَةِ فَيَرْمِيهَا بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، يُكَبِّرُ عِنْدَ كُلِّ حَصَاةٍ، ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَلاَ يَقِفُ عِنْدَهَا". قَالَ الزُّهْرِيُّ سَمِعْتُ سَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ يُحَدِّثُ مِثْلَ هَذَا عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَفْعَلُهُ.
(وقال محمد) هو ابن بشار كما قاله ابن السكن أو ابن المثنى أو هو الذهلي (حدّثنا عثمان بن عمر) بضم العين وفتح الميم ابن فارس العبدي البصري مما وصله الإسماعيلي عن ابن ناجية عن ابن المثنى وغيره عن عثمان بن عمر قال: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهر) محمد بن مسلم:
(أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان إذا رمى الجمرة) الأولى "التي تلي مسجد منى يرميها بسبع حصيات يكبر كلما رمى بحصاة" منها (ثم تقدم)

(3/250)


عليه الصلاة والسلام (أمامها فوقف) حالة كونه (مستقبل القبلة) حال كونه (رافعًا يديه) حال كونه (يدعو وكان) عليه الصلاة والسلام (يطيل الوقوف) للدعاء زاد البيهقي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح قدر سورة البقرة (ثم يأتي الجمرة الثانية) وهي الوسطى (فيرميها بسبع حصيات) حال كونه (يكبر كلما رمى بحصاة) منها (ثم ينحدر ذات اليسار) أي في الناحية التي هي ذات اليسار (مما يلي الوادي فيقف) بالسهل من الأرض الذي لا ارتفاع فيه حال كونه (مستقبل القبلة) حال كونه (رافعًا يديه) حال كونه (يدعو ثم يأتي الجمرة) الأخيرة (التي عند العقبة فيرميها بسبع حصيات يكبر عند كل حصاة) منها (ثم ينصرف) بعد أن يفرغ من رميها (ولا يقف عندها).
قال الزهري محمد بن مسلم بن شهاب بالإسناد السابق أول حديث هذا الباب (سمعت سالم بن عبد الله يحدث مثل) ولأبوي ذر والوقت: بمثل (هذا عن أبيه) عبد الله بن عمر بن الخطاب (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وكان) ولأبي الوقت قال: وكان (ابن عمر يفعله) بإثبات ضمير المفعول المحذوف في سابقه وهذا من تقديم المتن على بعض السند فإنه ساق السند من أوله إلى أن قال عن الزهري أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثم بعد أن ذكر المتن كله ساق تتمة السند فقال: قال الزهري الخ. وقد صرح جماعة بجواز ذلك منهم الإمام أحمد ولا يمنع التقديم في ذلك الوصل بل يحكم باتصاله. قال الحافظ ابن حجر: ولا خلاف بين أهل الحديث أن الإسناد بمثل هذا السياق موصول. قال:

وأغرب الكرماني فقال هذا الحديث من مراسيل الزهري ولا يصير بما ذكره آخرًا مسندًا لأنه قال يحدّث بمثله لا بنفسه كذا قال، وليس مراد المحدّث بقوله في هذا بمثله إلا نفسه وهو كما لو ساق المتن بإسناد ثم عقبه بإسناد آخر ولم يعد المتن بل قال بمثله ولا نزاع بين أهل الحديث في الحكم بوصل مثل هذا وكذا عند أكثرهم لو قال بمعناه خلافًا لمن يمنع الرواية بالمعنى.
وقد أخرج الحديث المذكور الإسماعيلي عن ابن ناجية عن محمد بن المثنى وغيره عن عثمان بن عمر وقال في آخره قال الزهري: سمعت سالمًا يحدّث بهذا عن أبيه عن النبى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعرف أن المراد بقوله مثله نفسه وإذا تكلم المرء في غير فإنه أتى بهذه العجائب اهـ.
وتعقبه العيني فقال: من أين هذا التصرف وكيف يصح احتجاجه في دعواه بحديث الإسماعيلي، فإن الزهري فيه صرح بالسماع عن سالم وسالم صرح بالتحديث عن أبيه، وأبوه صرح عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فكيف يدل هذا على أن المراد بقوله بمثله نفسه، وهذا شيء عجيب لأن بين قوله يحدث بهذا عن أبيه وبين قوله يحدث مثل هذا عن أبيه فرقًا عظيمًا لأن مثل الشيء غيره فكيف يكون نفسه تيقظ فإنه موضع التأمل اهـ.
واختلف في جواز تقديم بعض المتن على بعض السند وتقديم بعض المتن على بعضه، لكن منع البلقيني مجيء الخلاف في الأول وفرق بأن تقديم بعض المتن على بعض قد يؤدي إلى خلل في المقصود في العطف وعود الضمير ونحو ذلك بخلاف تقديم المتن على بعض السند، وسبقه إلى الإشارة إلى ذلك النووي فقال في إرشاده: والصحيح أو الصواب جواز هذا وليس كتقديم بعض المتن على بعض فإنه قد يتغير به المعنى بخلاف هذا.

143 - باب الطِّيبِ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ، وَالْحَلْقِ قَبْلَ الإِفَاضَةِ
(باب) استعمال (الطيب بعد رمي الجمار)، يوم النحر (والحلق) لشعر الرأس (قبل) طواف (الإفاضة).
1754 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْقَاسِمِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَاهُ -وَكَانَ أَفْضَلَ أَهْلِ زَمَانِهِ- يَقُولُ: سَمِعْتُ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- تَقُولُ "طَيَّبْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدَىَّ هَاتَيْنِ حِينَ أَحْرَمَ، وَلِحِلِّهِ حِينَ أَحَلَّ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ. وَبَسَطَتْ يَدَيْهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عبد الرحمن بن القاسم وكان أفضل أهل زمانه) وسقط قوله وكان أفضل أهل زمانه في رواية غير أبوي ذر والوقت (أنه سمع أباه) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق (وكان أفضل أهل زمانه) وهو أحد الفقهاء السبعة (يقول: سمعت عائشة -رضي الله عنها- تقول):

(طيبت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بيدي هاتين حين أحرم) أي أراد الإحرام (ولحله حين أحل) أي بعد أن أحل من الإحرام بعد أن رمى وحلق (قبل أن يطوف) بالبيت طواف الإفاضة (وبسطت يديها).
قال الحافظ

(3/251)


ابن حجر: ومطابقة الحديث للترجمة من جهة أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما أفاض من مزدلفة لم تكن عائشة مسايرته، وقد ثبت أنه استمر راكبًا إلى أن رمى جمرة العقبة فدلّ ذلك على أن تطييبها له وقع بعد الرمي، وأما الحلق قبل الإفاضة فلأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حلق رأسه الشريف بمنى لما رجع من الرمي، وأخذه المؤلّف من حديث الباب من جهة التطييب فإنه لا يقع إلا بعد التحلل والتحلل الأول يقع باثنين من ثلاثة رمي جمرة العقبة والحلق أو التقصير وطواف الإفاضة، واحتجوا لذلك بحديث: إذا رميتم وحلقتم فقد حلّ لكم الطيب والثياب وكل شيء إلا النساء رواه البيهقي وغيره وضعفوه، والذي صح في ذلك ما رواه النسائي بإسناد جيد كما في شرح المهذّب أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء" وقضيته حصول التحلل الأول بالرمي وحده وهو يدل على أن للحج تحللين فمن قال: إن الحلق نسك كما هو قول الجمهور، والصحيح عند الشافعية يوقف استعمال الطيب وغيره من محرمات الإحرام عليه. وقال المالكية: إذا رمى وحلق ونحر حل له كل شيء إلا النساء والصيد والطيب فإن تطيب قبل طواف الإفاضة فلا شيء عليه على المشهور اهـ.
وفي الحديث: استحباب التطيب بين التحللين والدهن ملحق بالطيب.

144 - باب طَوَافِ الْوَدَاعِ
(باب) حكم (طواف الوداع) ويسمى طواف الصدر بفتح الدال لأنه يصدر عن البيت أي يرجع إليه وليس هو من المناسك بل هو عبادة مستقلة لاتفاقهم على أن قاصد الإقامة بمكة لا يؤمر به ولو كان منها لأمر به، وهذا ما صححه النووي والرافعي ونقلاه عن صاحبي التتمة والتهذيب وغيرهما ونقلاً عن الإمام والغزالي أنه منها ويختص بمن يريد الخروج من ذوي النسك.
قال السبكي: وهذا هو الذي تظاهرت عليه نصوص الشافعي والأصحاب ولم أر من قال أنه ليس منها إلا المتولي فجعله تحية للبقعة مع أنه يمكن تأويل كلامه على أنه ليس ركنًا منها كما قال غيره أنه ليس بركن ولا شرط. قال: وأما استدلال الرافعي والنووي بأنه لو كان منها لأمر به قاصد الإقامة بمكة فممنوع لأنه شرع للمفارقة ولم تحصل كما أن طواف القدوم لا يشرع للمحرم من مكة ويلزمهما القول بأنه لا يجبر بدم ولا قائل به، وذكر نحوه الأسنوي فمن أراد الخروج من مكة إلى مسافة القصر أو دونها وجب عليه طواف الوداع سواء كان مكيًا أو آفاقيًا تعظيمًا للحرم وهذا مذهب الشافعية والحنفية والحنابلة. وقال المالكية: مندوب إليه ولا دم في تركه.
1755 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "أُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِمْ بِالْبَيْتِ، إِلاَّ أَنَّهُ خُفِّفَ عَنِ الْحَائِضِ".

وبالسند قال: (حدّثنا مسدد) قال (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه) طاوس (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال):
(أمر الناس) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول والناس رفع نائب الفاعل أي: أمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الناس أمر وجوب أو ندب إذا أرادوا سفرًا (أن يكون آخر عهدهم) طواف الوداع (بالبيت)، برفع آخر اسم كان والجار والمجرور ومتعلقه خبرها، ولأبي ذر آخر بالنصب خبرها، وقد روى هذا الحديث مسلم عن سفيان أيضًا عن سليمان الأحول عن طاوس فصرح فيه بالرفع ولفظه عن ابن عباس: كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "لا ينفرن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت" أي الطواف به كما رواه أبو داود "إلا أنه خفف عن الحائض" فلم يجب عليها واستفيد الوجوب على غيرها من الأمر المؤكد والتعبير في حق الحائض بالتخفيف والتخفيف لا يكون إلا من أمر مؤكد.
قال في فتح القدير: لا يقال أمر ندب بقرينة المعنى وهو أن المقصود الوداع لأنا نقول ليس هذا يصلح صارفًا عن الوجوب لجواز أن يطلب حتمًا لما في عدمه من شائبة عدم التأسف على الفراق وعدم المبالاة به على أن معنى الوداع ليس مذكورًا في النصوص، بل أن يجعل آخر عهدهم بالطواف فيجوز أن يكون معلولاً بغيره مما لم نقف عليه ولو سلم فإنما تعتبر دلالة القرينة إذا لم يقم منها ما يقتضي خلاف مقتضاها وهنا كذلك فإن لفظ الترخيص يفيد أنه حتم في حق من لم يرخص له لأن معنى عدم الترخيص في الشيء هو تحتيم طلبه إذ الترخيص

(3/252)


فيه هو إطلاق تركه فعدمه عدم إطلاق تركه ولا وداع على مريد الإقامة وإن أراد السفر بعده قاله الإمام ولا على مريد السفر قبل فراغ الأعمال ولا على مقيم بمكة الخارج للتنعيم ونحوه لأنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر عبد الرحمن أخا عائشة بأن يعمرها من التنعيم ولم يأمرها بوداع فلو نفر من منى ولم يطف للوداع جبر بدم لتركه نسكًا واجبًا ولو أراد الرجوع إلى بلده من منى لزمه طواف الوداع وإن كان قد طافه قبل عوده من مكة إلى منى كما صرح به في المجموع، فإن عاد بعد خروجه من مكة أو منى بلا وداع قبل مسافة القصر وطاف للوداع سقط عنه الدم لأنه في حكم المقيم لا إن عاد بعدها فلا يسقط لاستقراره بالسفر الطويل ولا يلزم الطواف حائضًا طهرت خارج مكة ولو في الحرم.
وهذا الحديث يأتي قريبًا إن شاء الله تعالى وسبق في الطهارة، وأخرجه مسلم والنسائي في الحج.
1756 - حَدَّثَنَا أَصْبَغُ بْنُ الْفَرَجِ أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ -رضي الله عنه- حَدَّثَهُ "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ رَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ". تابعه الليث حدثني عن سعيد عن قتادة أن أنس بن مالك -رضي الله عنه- حدثه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. [الحديث 1756 - طرفه في: 1764].

وبه قال: (حدّثنا أصبغ بن الفرج) بالغين المعجمة بعد الموحدة في الأول وآخر الآخر جيم قال: (أخبرنا ابن وهب) عبد الله (عن عمرو بن الحرث) بفتح العين وسكون الميم (عن قتادة) بن دعامة (أن أنس بن مالك -رضي الله عنه- حدثه).
(أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء) بعد أن رمى الجمار ونفر من منى (ثم رقد رقدة بالمحصب) متعلق بقوله صلّى، وقوله: ثم رقد عطف عليه (ثم ركب إلى البيت فطاف به) طواف الوداع.
(تابعه) أي تابع عمرو بن الحرث في روايته لهذا الحديث عن قتادة (الليث) بن سعد فيما ذكره البزار والطبراني من طريق عبد الله بن صالح كاتب الليث قال: (حدثني) بالإفراد (خالد) هو ابن يزيد السكسكي (عن سعيد) هو ابن أبي هلال (عن قتادة) بن دعامة (أن أنس بن مالك رضي الله عنه حدثه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). وقد ذكر البزار والطبراني أن خالد بن يزيد تفرد بهذا الحديث عن سعيد وأن الليث تفرد به عن خالد وأن سعيد بن أبي هلال لم يرو عن قتادة عن أنس غير هذا الحديث حكاه في فتح الباري.

145 - باب إِذَا حَاضَتِ الْمَرْأَةُ بَعْدَ مَا أَفَاضَتْ
هذا (باب) بالتنوين (إذا حاضت المرأة بعدما أفاضت) أي بعدما طافت طواف الإفاضة هل يجب عليها طواف أم لا، وإذا وجب هل يجبر بدم أم لا؟.
1757 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- "أَنَّ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَىٍّ زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَاضَتْ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: أَحَابِسَتُنَا هِيَ؟ قَالُوا: إِنَّهَا قَدْ أَفَاضَتْ، قَالَ: فَلاَ إِذًا".
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه) القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهم- (عن عائشة -رضي الله عنها- أن صفية بنت حيي زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) -رضي الله عنها- (حاضت) بعد أن أفاضت يوم النحر (فذكرت) بسكون الراء أي قالت عائشة فذكرت، ولأبوي ذر والوقت: فذكر مبنيًا للمفعول (ذلك لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال):
(أحابستنا هي)؟ أي مانعتنا من السفر لأجل طواف الإفاضة بسبب الحيض ظنًا منه عليه الصلاة والسلام أنها لم تطفه وهمزة الاستفهام ثابتة للكشميهني (قالوا: إنها قد أفاضت) أي طافت طواف الإفاضة (قال): عليه الصلاة والسلام (فلا) حبس علينا (إذا) لأنها قد فعلت الذي قد وجب عليها وهو طواف الإفاضة.

وهذا موضع الترجمة لأن حاصل المعنى أن طواف الوداع ساقط عنها، وحديث النسائي وأبي داود عن الحرث بن عبد الله بن أويس الثقفي قال: أتيت عمر -رضي الله عنه- فسألته عن المرأة تطوف بالبيت يوم النحر ثم تحيض قال ليكن آخر عهدها بالبيت فقال الحرث: كذلك أفتاني رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجاب عنه الطحاوي بأنه منسوخ بحديث عائشة هذا وغيره.
1758، 1759 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ "أَنَّ أَهْلَ الْمَدِينَةِ سَأَلُوا ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ امْرَأَةٍ طَافَتْ ثُمَّ حَاضَتْ، قَالَ لَهُمْ: تَنْفِرُ، قَالُوا: لاَ نَأْخُذُ بِقَوْلِكَ وَنَدَعَ قَوْلَ زَيْدٍ، قَالَ: إِذَا قَدِمْتُمُ الْمَدِينَةَ فَاسألُوا. فَقَدِمُوا الْمَدِينَةَ فَسَأَلُوا، فَكَانَ فِيمَنْ سَأَلُوا أُمُّ سُلَيْمٍ، فَذَكَرَتْ حَدِيثَ صَفِيَّةَ". رَوَاهُ خَالِدٌ وَقَتَادَةُ عَنْ عِكْرِمَةَ.
وبه قال (حدّثنا) بالجمع (أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدثنا حماد) هو ابن زيد (عن أيوب) السختياني (عن عكرمة) مولى ابن عباس (أن أهل المدينة)، وعند الإسماعيلي من طريق عبد الوهاب الثقفي أن ناسًا من أهل المدينة وهو يفيد أن المراد من قوله وإن أهل المدينة بعضهم (سألوا ابن عباس -رضي الله عنهما- عن امرأة طافت) طواف الإفاضة (ثم حاضت قال): ابن عباس (لهم) أي للذين سألوه (تنفر) هذه المرأة التي طافت ثم حاضت (قالوا):

(3/253)


أي السائلون لابن عباس (لا نأخذ بقولك وندع قول زيد) هو ابن ثابت وندع بالواو والنصب جواب النفي وللحموي والمستملي: فندع بالفاء بدل الواو والنصب أيضًا كذلك، وفي رواية عبد الوهاب الثقفي: أفتيتنا أو لم تفتنا زيد بن ثابت يقول لا تنفر أي حتى تطوف طواف الوداع.
(قال) ابن عباس: (إذا قدمتم المدينة فاسألوا) عن ذلك من بها والذي في اليونينية فسلوا (فقدموا المدينة فسألوا فكان فيمن سألوا أم سليم)، برفع أم وهي أم أنس (فذكرت) أي أم سليم (حديث صفية) المعروف.
(رواه) أي الحديث المذكور (خالد) الحذاء فيما وصله البيهقي (وقتادة) فيما وصله أبو داود الطيالسي في مسنده كلاهما (عن عكرمة) عن ابن عباس.
1760 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ "رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ إِذَا أَفَاضَتْ".
وبه قال: (حدّثنا مسلم) هو ابن إبراهيم الفراهيدي قال: (حدّثنا وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد قال: (حدّثنا ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال):
(رخص للحائض) بضم الراء مبنيًا للمفعول وللنسائي: رخص رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للحائض (أن تنفر) بكسر الفاء (إذا أفاضت) طافت للإفاضة قبل أن تحيض.

1761 - قَالَ وَسَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: إِنَّهَا لاَ تَنْفِرُ. ثُمَّ سَمِعْتُهُ يَقُولُ بَعْدُ: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَخَّصَ لَهُنَّ".
(قال): طاوس بالإسناد المذكور (وسمعت ابن عمر) بن الخطاب -رضي الله عنهما- (يقول) (إنها لا تنفر) أي حتى تطهر وتطوف للوداع (ثم سمعته) أي ابن عمر (يقول: بعد) بضم الدال أي بعد أن قال: لا تنفر ({إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص لهن" أي للحيض في ترك طواف الوداع بعد أن طفن طواف الإفاضة.
قال في الفتح: وهذا من مراسيل الصحابة لأن ابن عمر لم يسمعه من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ويبين ذلك ما رواه النسائي والطحاوي عن طاوس أنه سمع ابن عمر يسأل عن النساء إذا حضن قبل النفر وقد أفضن يوم النحر فقال إن عائشة كانت تذكر أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رخص لهن قبل موته بعام وفي رواية الطحاوي قبل موت ابن عمر بعام.
1762 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلاَ نُرَى إِلاَّ الْحَجَّ، فَقَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَطَافَ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَلَمْ يَحِلَّ، وَكَانَ مَعَهُ الْهَدْيُ فَطَافَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنْ نِسَائِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَحَلَّ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ الْهَدْيُ، فَحَاضَتْ هِيَ، فَنَسَكْنَا مَنَاسِكَنَا مِنْ حَجِّنَا. فَلَمَّا كَانَ لَيْلَةُ الْحَصْبَةِ لَيْلَةُ النَّفْرِ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ أَصْحَابِكَ يَرْجِعُ بِحَجٍّ وَعُمْرَةٍ غَيْرِي. قَالَ: مَا كُنْتِ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ لَيَالِيَ قَدِمْنَا؟ قُلْتُ: لاَ. قَالَ: فَاخْرُجِي مَعَ أَخِي كِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهِلِّي بِعُمْرَةٍ، وَمَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا. فَخَرَجْتُ مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِلَى التَّنْعِيمِ فَأَهْلَلْتُ بِعُمْرَةٍ. وَحَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَقْرَى حَلْقَى، إِنَّكِ لَحَابِسَتُنَا، أَمَا كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: فَلاَ بَأْسَ انْفِرِي. فَلَقِيتُهُ مُصْعِدًا عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَا مُنْهَبِطَةٌ، أَوْ أَنَا مُصْعِدَةٌ وَهُوَ مُنْهَبِطٌ". وَقَالَ مُسَدَّدٌ "قُلْتُ: لاَ". تَابَعَهُ جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ فِي قَوْلِهِ "لاَ".
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن إبراهيم) النخعي (عن الأسود) بن يزيد (عن (عائشة -رضي الله عنها- قالت) (خرجنا) من المدينة (مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في حجة الوداع (ولا نرى) بضم النون أي لا نظن وفي نسخة ولا نرى بفتحها (إلا الحج) أي لا نعرف غيره ولم يكونوا يعرفون العمرة في أشهر الحج (فقدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مكة (فطاف بالبيت وبين الصفا والمروة) هو من باب:
علفتها تبنًا وماء باردًا.
أو على طريق المجاز (ولم يحل) بفتح أول أي من إحرامه (وكان معه الهدي فطاف) ولأبي

الوقت: وطاف بالواو بدل الفاء (من كان معه من نسائه وأصحابه وحلّ منهم من لم يكن معه الهدي) منهم (فحاضت هي) أي عائشة وكان ابتداء حيضها بسرف يوم السبت لثلاث خلون من ذي الحجة (فنسكنا مناسكنا من حجنا فلما كانت ليلة الحصبة) بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: ليلة الحصباء بالمد (ليلة النفر) من منى برفع ليلة في الموضعين جميعًا على أن كان تامة وليلة النفر بدل أو خبر مبتدأ مضمر أي هي ليلة النفر.
قال في التنقيح: وجوّز رفع الأولى ونصب الثانية وعكسه ولم يبين وجهه.
قال في المصابيح ولا يمكن أن يكون نصب ليلة النفر على أنه خبر كان إذ لا معنى له وإنما كان تامة وليلة النفر منصوب بمحذوف تقديره أعني ليلة النفر وأما نصب الأولى ورفع الثانية فوجهه أن تجعل كان ناقصة واسمها ضمير يعود إلى الرحيل المفهوم من السياق وليلة الحصبة خبرها وليلة النفر خبر مبتدأ مضمر أي هي ليلة النفر اهـ.
والذي في اليونينية رفعهما، ولأبي ذر: ليلة الحصبة ليلة النفر بنصبهما.
(قالت): عائشة (يا رسول الله كل أصحابك يرجع بحج) منفرد عن العمرة (وعمرة) منفردة عن الحج (غيري) فإني أرجع بحج ليس لي عمرة منفردة عن الحج (قال): علية الصلاة والسلام:
(ما كنت تطوفي) بحذف النون تخفيفًا وقيل حذفها من غير ناصب

(3/254)


أو جازم لغة فصيحة ولأبي ذر: تطوفين بإثباتها (بالبيت ليالي قدمنا)؟ مكة (قلت: لا). قال الحافظ ابن حجر: وكذا للأكثر، وفي رواية أبي ذر عن المستملي: قلت بلى وهي محمولة على أن المراد ما كنت أطوف (قال): (فأخرجي مع أخيك) عبد الرحمن بن أبي بكر (إلي التنعيم فأهلي بعمرة) لما سألها أكانت متمتعة؟ قالت: لا. ونفى التمتع وإن كان لا يلزم منه الحاجة إلى العمرة لجواز القران وهي كانت قارنة كما عند أكثر كما هو صريح رواية مسلم، وإنما أمرها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالعمرة تطييبًا لقلبها حيث أرادت عمرة منفردة (وموعدك مكان كذا وكذا) سبق في باب قول الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] ثم أتينا هاهنا أي المحصب ومكان نصب على الظرفية قالت عائشة: (فخرجت مع عبد الرحمن إلى التنعيم فأهللت بعمرة وحاضت صفية بنت حيي) في أيام منى ليلة النفر (فقال:
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (عقرى حلقى)، بفتح أولهما وسكون ثانيهما مع القصر من غير تنوين ويجوز التنوين لغة، وصوّبه أبو عبيد لأن المراد الدعاء بالعقر والحلق كرعيًا وسقيًا ونحو ذلك من المصادر التي يدعى بها وعلى الأول هو نعت لا دعاء، ثم معنى عقرى أي عقرها الله أي جرحها أو جعلها عاقرًا لا تلد أو عقر قومها ومعنى حلقى حلق شعرها وهو زينة المرأة أو أصابها وجع في حلقها أو حلق قومها بشؤمها أي أهلكهم وحكى القرطبي أنها كلمة تقولها اليهود للحائض فهذا أصل هاتين الكلمتين ثم اتسع العرب في قولهما بغير إرادة حقيقتهما كما قالوا قاتله الله ونحو ذلك. وقول الزركشي كان بطال: فيه توبيخ الرجل أهله على ما يدخل على الناس بسببها كما وبخ الصديق عائشة

-رضي الله عنهما- في قصة العقد، تعقبه ابن المنير بأنه لا يمكن أن يحمل على التوبيخ لأن الحيض ليس من صنيعها، وقد جاء في الحديث الآخر أن هذا الأمر كتبه الله تعالى على بنات آدم، وإنما هذا القول يجري على سبيل التعجب ولم يقصد معناه، وقول القرطبي وغيره: شتان بين قوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعائشة لما حاضت معه في الحج هذا شيء كتبه الله على بنات آدم لما يشعر به من الميل إليها والحنوّ عليها بخلاف صفية. تعقبه الحافظ ابن حجر بأنه ليس فيه دليل على اتضاع قدر صفية عنده، لكن اختلف الكلام باختلاف المقام فعائشة دخل عليها وهي تبكي أسفًا على ما فاتها من النسك فسلاّها بذلك، وصفية أراد منها ما يريد الرجل من أهله فأبدت له المانع فناسب كلاً منهما ما خاطبها به في تلك الحالة.
(إنك لحابستنا) عن السفر بسبب الحيض المانع من طواف الإفاضة (أما كنت طفت يوم النحر)؟ طواف الإفاضة (قالت: بلى) طفت (قال): عليه الصلاة والسلام: (فلا بأس انفري). بكسر الفاء، وفي رواية أبي سلمة قال: أخرجي أي من منى إلى المدينة. قالت عائشة: (فلقيته) عليه الصلاة والسلام بالمحصب حال كونه (مصعدًا) بضم الميم وكسر العين أي صاعدًا (على أهل مكة وأنا) أي والحال أني (منهبطة) عليهم (أو أنا) أي والحال إني (مصعدة) عليهم (وهو) أي والحال أنه (منهبط) عليهم بالشك من الراوي وسقطت الهمزة من قوله أو أنا مصعدة من رواية ابن عساكر كما رأيته في الفرع، وأصله حيث رقم على الهمزة علامة السقوط له، والظاهر أن العلامة البدر بن الدماميني شرح عليها فقال: جمعت بين جعل أول الحالين للأخير من صاحبي الحال وثانيهما للأول وبين العكس وصرح قوم بأولوية الوجه الأول لاشتماله على فصل واحد بخلاف الثاني لاشتماله على فصلين اهـ.
أي: جمعت بين جعل أول الحالين الذي هو مصعدًا للأخير من صاحبي الحال الذي هو ضمير المفعول في لقيته وثانيهما الذي هو وأنا منهبطة لصاحب الحال الأول الذي هو ضمير الفاعل وهو التاء وبين العكس بأن جعلت الثاني من الحالين الذي هو وهو منهبط للأخير من صاحبي الحال الذي هو ضمير المفعول والأول الذي هو مصعدة للأول الذي هو ضمير الفاعل، وقوله: لاشتماله أي الأول على فصل واحد وهو وأنا بخلاف الثاني لاشتماله على فصلين هما أنا وهو.
فإن قلت: قوله وصرح قوم بأولوية الوجه الأول مخالف لقول صاحب المغني حيث قال: ويجب

(3/255)


كون الأولى من المفعول والثانية من الفاعل تقليلاً للفصل فصرح بالوجوب.
أجيب: بأن الرضى قال وإن كون الأولى من المفعول والثانية من الفاعل جائز على ضعف لا واجب، ثم إن قولها فلقيته مصعدًا وأنا منهبطة وأنا مصعدة وهو منهبط مشكل على هذه الرواية لأن وقوع الإصعاد والإهباط في زمان واحد ومكان واحد من شخص واحد محال فيحمل على تعدّد الزمان والمكان.

(وقال مسدد): مما رواه في مسنده في رواية أبي خليفة عنه قال: حدّثنا أبو عوانة ولفظه: ما كنت طفت ليالي قدمنا (قلت: لا) وهذا التعليق كما قاله في الفتح ثبت في غير رواية أبي ذر وسقط له.
(تابعه) ولأبي ذر: وتابعه أي تابع مسدّدًا (جرير) هو ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (في قوله: لا) وهذا سبق موصولاً في باب: التمتع والقران عن عثمان بن أبي شيبة عنه.

146 - باب مَنْ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ بِالأَبْطَحِ
(باب من صلى العصر يوم النفر) من منى (بالأبطح) وهو المحصب.
1763 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ قَالَ "سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ: أَخْبِرْنِي بِشَىْءٍ عَقَلْتَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ؟ قَالَ: بِمِنًى. قُلْتُ: فَأَيْنَ صَلَّى الْعَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ؟ قَالَ: بِالأَبْطَحِ، افْعَلْ كَمَا يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ".
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) العنزي الزمن البصري قال: (حدّثنا إسحاق بن يوسف) الأزرق الواسطي قال: (حدثنا الثوري عن عبد العزيز بن رفيع) بضم الراء وفتح الفاء آخره عين مهملة مصغرًا (قال: سألت أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (أخبرني بشيء عقلته عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أين صلّى الظهر يوم التروية؟) ثامن ذي الحجة (قال): (بمنى) (قلت: فأين صلّى العصر يوم النفر؟) من منى (قال): صلّى (بالأبطح) وهو المحصب وهذا موضع الترجمة. (افعل كما يفعل أمراؤك) أي صل حيث يصلون وفيه دليل على الجواز.
1764 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمُتَعَالِ بْنُ طَالِبٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ أَنَّ قَتَادَةَ حَدَّثَهُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- حَدَّثَهُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ "صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَرَقَدَ رَقْدَةً بِالْمُحَصَّبِ، ثُمَّ رَكِبَ إِلَى الْبَيْتِ فَطَافَ بِهِ".
وبه قال: (حدّثنا عبد المتعال) بحذف الياء (ابن طالب) الأنصاري البغدادي (قال: حدّثنا ابن وهب) عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو بن الحرث) بفتح العين (أن قتادة) بن دعامة (حدثه عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-) ولأبي ذر: أن أنس بن مالك (حدثه عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (أنه صلّى الظهر والعصر والمغرب والعشاء ورقد رقدة بالمحصب) يتعلق بقوله صلّى وقوله ورقد عطف عليه (ثم ركب إلى البيت فطاف به) للوداع. وقوله صلى الظهر لا ينافي أنه عليه الصلاة والسلام لم يرم إلا بعد الزوال لأنه رمي منفر فنزل المحصب فصلّى به الظهر.

147 - باب الْمُحَصَّبِ
(باب المحصب) بضم الميم وفتح الحاء والصاد المشددة المهملتين ثم موحدة اسم لمكان متسع بين مكة ومنى وهو أقرب إلى منى ويقال له الأبطح والبطحاء وخيف بني كنانة، وحدّه ما بين الجبلين إلى القبرة والمراد حكم النزُول به.
1765 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "إِنَّمَا كَانَ مَنْزِلٌ يَنْزِلُهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَكُونَ أَسْمَحَ لِخُرُوجِهِ". يَعْنِي بِالأَبْطَحِ.
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت) "إنما كان" الحصب "منزل" بالرفع قال ابن مالك: في رفعه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تجعل "ما" بمعنى الذي واسم كان ضمير يعود على المحصب وخبرها محذوف والتقدير أن الذي كأنه هو يعني أن المنزل الذي كان المحصب إياه منزل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فمنزل خبر إنّ.
الثاني: أن تكون "ما" كافة ومنزل اسم كان وخبرها ضمير محذوف عائد على المحصب وفي هذا الوجه تعريف الخبر وتنكير الاسم إلا أنه نكرة مخصصة بصفتها فسهل لذلك.
الثالث: أن يكون منزل منصوبًا في اللفظ إلا أنه كتب بلا ألف على لغة ربيعة فإنهم يقفون على المنصوب المنون بالسكون اهـ.
وتعقبه البدر الدماميني: بأن الوجه الثالث ليس توجيهًا للرفع بوجه وقد قال أولاً في رفعه أي رفع منزل ثلاثة أوجه وعد الثالث وهو مقتض للنصب لا للرفع، ثم كيف يتجه هذا مع ثبوت الرواية بالرفع وهل هذا إلا مقتض للنصب، لأن الراوي اعتمد على صورة الخط فظنه مرفوعًا فيظن به كذلك ولم يستند فيه إلى رواية فما هذا الكلام، ولأبي ذر: إنما كان أي المحصب منزلاً بالنصب.
(ينزله النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليكون) النزول به (أسمح) أسهل (لخروجه) راجعًا إلى المدينة ليستوي في ذلك البطيء والعتدل ويكون مبيتهم وقيامهم في السحر ورحيلهم بأجمعهم إلى المدينة (تعني) عائشة (بالأبطح) يتعلق بقوله ينزه، ولأبي ذر عن الكشميهني: تعني الأبطح بإسقاط حرف الجر.
1766 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ عَمْرٌو عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "لَيْسَ التَّحْصِيبُ بِشَىْءٍ، إِنَّمَا هُوَ مَنْزِلٌ نَزَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه

(3/256)


قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال عمرو) هو ابن دينار وسقط: قال عمر لابنُ عساكر (عن عطاء) هو ابن أبي رباح. قال الحافظ ابن حجر: قال الدارقطني: هذا الحديث سمعه سفيان من الحسن بن صالح عن عمرو بن دينار يعني أنه دلسه هنا

عن عمرو، وتعقب بأن الحميدي أخرجه في مسنده عن سفيان قال: حدّثنا عمرو وكذلك أخرجه الإسماعيلي من طريق أبي خيثمة عن سفيان فانتفت تهمة تدليسه (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال): (ليس التحصيب) أي النزول في المحصب وهو الأبطح (بشيء) من أمر المناسك الذي يلزمه فعله (إنَّما هو منزل نزله رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) للاستراحة بعد الزوال فصلّى فيه العصرين والمغربين وبات فيه ليلة الرابع عشر لكن لما نزل به عليه الصلاة والسلام كان النزول به مستحبًا اتباعًا له لتقريره على ذلك وقد فعله بالخلفاء عده رواه مسلم عن ابن عمر بلفظ: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأبو بكر وعمر ينزلون الأبطح قال نافع: وقد حصب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والخلفاء بعده، وهذا مذهب الشافعية والمالكية والجمهور.

148 - باب النُّزُولِ بِذِي طُوًى قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ وَالنُّزُولِ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ
(باب النزول بذي طوى) بتثليث الطاء غير مصروف ويجوز صرفه موضع بأسفل مكة (قبل أن يدخل مكة والنزول) بالجر عطفًا على النزول السابق (بالبطحاء) التي بذي الحليفة احترز به عن البطحاء التي بين مكة ومنى (إذا رجع) الحاج (من مكة) إلى المدينة.
1767 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كَانَ يَبِيتُ بِذِي طُوًى بَيْنَ الثَّنِيَّتَيْنِ، ثُمَّ يَدْخُلُ مِنَ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ. وَكَانَ إِذَا قَدِمَ مَكَّةَ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا لَمْ يُنِخْ نَاقَتَهُ إِلاَّ عِنْدَ بَابِ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يَدْخُلُ فَيَأْتِي الرُّكْنَ الأَسْوَدَ فَيَبْدَأُ بِهِ، ثُمَّ يَطُوفُ سَبْعًا: ثَلاَثًا سَعْيًا، وَأَرْبَعًا مَشْيًا. ثُمَّ يَنْصَرِفُ فَيُصَلِّي سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَنْطَلِقُ قَبْلَ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى مَنْزِلِهِ فَيَطُوفُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. وَكَانَ إِذَا صَدَرَ عَنِ الْحَجِّ أَوِ الْعُمْرَةِ أَنَاخَ بِالْبَطْحَاءِ الَّتِي بِذِي الْحُلَيْفَةِ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُنِيخُ بِهَا".
وبالسند قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) بن عبد الله بن المنذر الحزامي بالزاي أحد الأئمة وثقه ابن معين وابن وضاح والنسائي وأبو حاتم والدارقطني وتكلم فيه أحمد من أجل القران. وقال الساجي: عنده مناكير، وتعقب ذلك الخطيب، وقد اعتمده البخاري وانتقى من حديثه وروى له الترمذي والنسائي قال: (حدّثنا أبو ضمرة) بفتح المعجمة وسكون الميم أنس بن عياض الليثي قال: (حدّثنا موسى بن عقبة) بضم العين وسكون القاف الأسدي مولى آل الزبير الإمام في المغازي (عن نافع) مولى ابن عمر (أن ابن عمر) ولابن عساكر عن ابن عمر (-رضي الله عنهما-) (كان يبيت بذي طوى) بتثليث الطاء غير مصروف ويجوز صرفه وللمستملي والحموي بذي الطوى التي (بين الثنيتين) تثنية ثنية وهي طريق العقبة (ثم يدخل من الثنية التي بأعلى مكة وكان إذا قدم حاجًا) ولغير أبي ذر: إذا قدم مكة حاجًا (أو معتمرًا) بات بذي طوى وإذا أصبح ركب (لم ينخ ناقته إلا عند باب المسجد)

الحرام (ثم يدخل فيأتي الركن الأسود فيبدأ به ثم يطوف سبعًا) أي سبع مرات (ثلاثًا) (سعبًا) نصب على الحال أو صفة لثلاثًا (وأربعًا مشيًا) كذلك (ثم ينصرف فيصلّي سجدتين) من باب إطلاق اسم الجزء على الكل أي ركعتين بسجداتهما، ولأبي ذر عن الكشميهني: ركعتين والمراد ركعتا الطواف (ثم (ينطلق قبل أن يرجع إلى منزله فيطوف بين الصفا والمروة) سبعًا (وكان إذا صدر) أي رجع متوجهًا نحو المدينة (عن الحج والعمرة أناخ) راحلته (بالبطحاء التي بذي الحليفة التي كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينيخ بها) وهذا النزول ليس من المناسك.
1768 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: سُئِلَ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنِ الْمُحَصَّبِ، فَحَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ، قَالَ "نَزَلَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعُمَرُ وَابْنُ عُمَرَ".
وَعَنْ نَافِعٍ "أَنَّ ابْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- كَانَ يُصَلِّي بِهَا -يَعْنِي الْمُحَصَّبَ- الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ -أَحْسِبُهُ قَالَ: وَالْمَغْرِبَ- قَالَ خَالِدٌ: لاَ أَشُكُّ فِي الْعِشَاءِ، وَيَهْجَعُ هَجْعَةً، وَيَذْكُرُ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن عبد الوهاب) الحجبي قال: (حدّثنا خالد بن الحرث) الهجيمي (قال: سئل عبيد الله) بالتصغير ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (عن المحصب) يضم الميم وتشديد الصاد المفتوحة، ولأبي ذر وابن عساكر: عن التحصيب بالمثناة الفوقية وسكون الحاء وكسر الصاد وهو النزول بالمحصب لما ذكر (فحدّثنا عبيد الله) العمري المذكور (عن نافع) مولى ابن عمر (قال): (نزل بها) أي بمنزلة المحصب (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وهذا من مراسلات نافع (وعمر) منقطع (وابن عمر) موصول، ويحتمل أن يكون نافع سمع ذلك من ابن عمر فيكون الجميع موصولاً.
(وعن نافع) بالإسناد السابق (أن ابن عمر -رضي الله عنهما- كان يصلّى بها يعني المحصب) فسر الضمير المؤنث بالمذكر على إرادة البقعة ولأن من أسمائها البطحاء (الظهر والعصر أحسبه) أي

(3/257)


أظنه (قال: والمغرب. قال خالد) هو ابن الحرث (لا أشك في العشاء) يعني أن الشك إنما هو في المغرب.
وأخرج الإسماعيلي عن أيوب وعن عبيد الله بن عمر جميعًا عن نافع أن ابن عمر كان يصلّي بالأبطح الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير شك في المغرب ولا في غيرها (ويهجع هجعة) أي ينام نومة (ويذكر) أي ابن عمر (ذلك) التحصيب (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)، ووسع مالك لمن لا يقتدي به في تركه وكان يفتي بالترك سرًّا لئلا يشتهر ذلك فتترك السنة.

149 - باب مَنْ نَزَلَ بِذِي طُوًى إِذَا رَجَعَ مِنْ مَكَّةَ
(باب من نزل بذي طوى إذا رجع من مكة) إلى مقصده.

1769 - وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى حَدَّثَنَا حَمَّادٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- "أَنَّهُ كَانَ إِذَا أَقْبَلَ بَاتَ بِذِي طُوًى، حَتَّى إِذَا أَصْبَحَ دَخَلَ، وَإِذَا نَفَرَ مَرَّ بِذِي طُوًى وَبَاتَ بِهَا حَتَّى يُصْبِحَ. وَكَانَ يَذْكُرُ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ".
(وقال محمد بن عيسى) بن الطباع البصري: (حدّثنا حماد) هو ابن سلمة فيما جزم به الإسماعيلي أو هو ابن يزيد كما جزم به المزي، وقال الحافظ ابن حجر: إنه الظاهر (عن أيوب) السختياني (عن نافع عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) (أنه كان إذا أقبل) من المدينة إلى مكة (بات بذي طوى إذا أصبح دخل) مكة (وإذا نفر) من منى (مر بذي صوى) وللكشميهني: مرّ من ذي طوى (وبات بها حتى يصبح وكان يذكر أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يفعل ذلك) وليس هذا من مناسك الحج كما مر وإنما يؤخذ منه أماكن نزوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليتأسى به فيها إذ لا يخلو شيء من أفعاله عن حكمة.

150 - باب التِّجَارَةِ أَيَّامَ الْمَوْسِمِ وَالْبَيْعِ فِي أَسْوَاقِ الْجَاهِلِيَّةِ
(باب) جواز (التجارة أيام الموسم) بفتح الميم وسكون الواو وكسر السين المهملة. قال في القاموس: موسم الحج مجتمعه (و) جواز (البيع في أسواق الجاهلية) وهي أربعة: عكاظ وذو الجاز ومجنة بفتح الميم والجيم والنون المشددة على أميال يسيرة من مكة بناحية مرّ الظهران، ويقال هي على بريد من مكة وهي لكنانة. وحباشة بضم المهملة وتخفيف الموحدة وبعد الألف شين معجمة وكانت بأرض بارق من مكة إلى جهة اليمن على ست مراحل ولا ذكر للأخيرين في هذا الحديث. نعم أخرج أحمد عن جابر أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لبث ثلاث عشرة سنة يتبع الناس في منازلهم في الموسم بمجنة وإنما لم يذكر سوق حباشة في الحديث لأنه لم يكن في مواسم الحج وإنما كان يقام في شهر رجب.
1770 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْهَيْثَمِ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- "كَانَ ذُو الْمَجَازِ وَعُكَاظٌ مَتْجَرَ النَّاسِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا جَاءَ الإِسْلاَمُ كَأَنَّهُمْ كَرِهُوا ذَلِكَ حَتَّى نَزَلَتْ [البقرة: 198]: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ". [الحديث 1770 - أطرافه في: 2050، 2098، 4519].
وبالسند قال: (حدّثنا عثمان بن الهيثم) بفتح الهاء وسكون التحتية وفتح المثلثة المؤذن البصري قال: (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك المكي (قال عمرو بن دينار): بفتح العين (قال ابن عباس -رضي الله عنهما-) وفي رواية إسحاق بن راهويه في مسنده عن عيسى بن يونس عن ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار عن ابن عباس (كان ذو المجاز) بفتح الميم والجيم المخففة وبعد الألف زاي وكانت بناحية عرفة إلى جانبها، وعند ابن الكلبي مما ذكره الأزرقي أنه كان لهذيل على فرسخ من عرفة. وقول البرماوي كالكرماني موضع بمنى كان له سوق في الجاهلية رده الحافظ ابن حجر بما

رواه الطبري عن مجاهد أنهم كانوا لا يبيعون ولا يبتاعون بعرفة ولا منى، لكن روى الحاكم في مستدركه من حديث ابن عباس أن الناس في أول الحج كانوا يبتاعون بمنى وعرفة وسوق ذي المجاز ومواسم الحج فخافوا البيع وهم حرم فأنزل الله تعالى: ({فليس عليكم جناح}) اهـ.
(وعكاظ) بضم العين المهملة وتخفيف الكاف وبعد الألف ظاء معجمة كغراب. قال الرشاطي: هي صحراء مستوية لا علم فيها ولا جبل إلا ما كان من الأنصاب التي كانت بها في الجاهلية، وعن ابن إسحاق أنها فيما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال له الفتق بضم الفاء والفوقية بعدها قاف، وعن ابن الكلبي أنها كانت وراء قرن المنازل بمرحلة على طريق صنعاء وكانت لقيس وثقيف (متجر الناس) بفتح الميم والجيم بينهما مثناة فوقية أي مكان تجارتهم (في الجاهلية) وفي رواية ابن عيينة: أسواقًا في الجاهلية (فلما جاء الإسلام كأنهم) أي المسلمين (كرهوا ذلك).
قال في المصابيح: فإن قلت: أتى جواب لما هنا جملة اسمية وإنما أجازوه إذا كانت مصدرة بإذا الفجائية، وزاد ابن مالك جواز وقوعها جوابًا إذا تصدرت بالفاء نحو: {فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد} [لقمان: 32] والفرض أن ليس هنا إذا ولا الفاء وأجاب بأن الجواب محذوف لدلالة الجملة

(3/258)


الواقعة بعده عليه أي: فلما جاء الإسلام تركوا التجارة فيها كأنهم كرهوا ذلك اهـ.
وقال الزمخشري: وكان ناس من العرب يتأثمون أن يتجروا أيام الحج وإذا دخل العشر كفوا عن البيع والشراء فلم يقم لهم سوق ويسمون من يخرج بالتجارة الداج ويقولون هؤلاء الداج وليسوا بالحاج.
وفي رواية ابن عيينة كأنهم تأثموا أي خافوا الوقوع في الإثم للاشتغال في أيام النسك بغير العبادة (حتى نزلت) آية ({ليس عليكم جناح أن تبتغوا}) في ({أن تبتغوا}) أي تطلبوا ({فضلاً من ربكم}) [البقرة: 198] عطاء ورزقًا منه يريد الربح بالتجارة زاد أبي في قراءته (في مواسم الحج) الجار متعلق بجناح والمعنى أن الجناح منتف ويبعد تعلقه بليس لأنه لم يرد أن ينفي الجناح مطلقًا ويجعل انتفاء التجارة ظرفًا للنفي فيبعد لهذا أن يكون متعلقًا به، وقد كان أهل الجاهلية يصبحون بعكاظ يوم هلال ذي القعدة ثم يذهبون منه إلى مجنة بعد مضي عشرين يومًا من ذي القعدة فإذا رأوا هلال ذي الحجة ذهبوا من مجنة إلى ذي المجاز فلبثوا به ثمان ليال ثم يذهبون إلى عوفة ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى أن كان أوّل ما ترك منها سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة لما خرج الحروري بمكة مع أبي حمزة المختار بن عوف خاف الناس أن ينتهبوا وخابوا الفتنة فتركت إلى الآن، ثم ترك مجنة وذو المجاز بعد ذلك واستغنوا بالأسواق بمكة ومنى وعوفة وآخر ما ترك سوق حباشة في زمن داود بن عيسى بن موسى العباسي في سنة سبع وتسعين ومائة.

151 - باب الإِدْلاَجِ مِنَ الْمُحَصَّبِ
(باب الإدلاج) بهمزة وصل وتشديد الدال على صيغة الافتعال بالتاء إلا أنها قلبت دالاً مثل ادّخر ادّخارًا أي السير في آخر الليل (من المحصب) بعد المبيت به، وفي رواية لأبي ذر كما في فتح الباري: الإدلاج بهمزة قطع مكسورة على صيغة الأفعال مصدر أدلج إدلاجًا وسكون الدال أي المسير في أوّل الليل والأول هو الصواب لأنه المراد لا الثاني على ما لا يخفى. نعم، قيل إن كلاً من الفعلين يستعمل في مسير الليل كيف كان والأكثرون على الأول.
1771 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "حَاضَتْ صَفِيَّةُ لَيْلَةَ النَّفْرِ فَقَالَتْ: مَا أُرَانِي إِلاَّ حَابِسَتَكُمْ. قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: عَقْرَى حَلْقَى أَطَافَتْ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قِيلَ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْفِرِي".
وبالسند قال: (حدّثنا عمر بن حفص) هو ابن غياث النخعي الكوفي قال: (حدّثنا أبي) حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال (حدثني) بالإفراد (إبراهيم) النخعي (عن الأسود) بن يزيد (عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: حاضت صفية) بنت حيي أم المؤمنين -رضي الله عنها- بعد أن طافت طواف الإفاضة يوم النحر (ليلة النفر) (فقالت: أراني) بضم الهمزة ما أظن نفسي (إلا حابستكم) عن الرحلة إلى المدينة لانتظار طهري وطوافي للوداع فظنت أن طواف الوداع لا يسقط عن الحائض. قال الزمخشري في الفائق: مفعولاً أرى الضمير والمستثنى وإلا لغو. قال الأشرف: يمكن على أن لا يجعل الاستثناء لغوًا والمعنى ما أراني على حالة أو صفة إلا على حالة أو صفة كوني حابستكم، وتعقبه الطيبي فقال: لم يرد باللغو أن إلا زائدة بل أن المستثنى معمول الفعل المذكور ولذلك سمي مفرقًا (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(عقرى حلقى)، بفتح أوّلهما من غير تنوين وجوّزه أهل اللغة (أطافت يوم النحر؟) طواف الإفاضة (قيل: نعم). طافت (قال): بكسر الفاء أي ارحلي.
ورواة هذا الحديث إلى عائشة كوفيون وفيه ثلاثة من التابعين، وأخرجه مسلم في الحج وكذا النسائي وابن ماجة.
1772 - قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَزَادَنِي مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا مُحَاضِرٌ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لاَ نَذْكُرُ إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا قَدِمْنَا أَمَرَنَا أَنْ نَحِلَّ. فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ النَّفْرِ حَاضَتْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: حَلْقَى عَقْرَى، مَا أُرَاهَا إِلاَّ حَابِسَتَكُمْ. ثُمَّ قَالَ: كُنْتِ طُفْتِ يَوْمَ النَّحْرِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. قَالَ: فَانْفِرِي. قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَمْ أَكُنْ حَلَلْتُ. قَالَ: فَاعْتَمِرِي مِنَ التَّنْعِيمِ. فَخَرَجَ مَعَهَا أَخُوهَا، فَلَقِينَاهُ مُدَّلِجًا. فَقَالَ مَوْعِدُكِ مَكَانَ كَذَا وَكَذَا".
(قال أبو عبد الله): أي المؤلّف (وزادني) في الحديث المذكور (محمد) وفي رواية ابن السكن: محمد بن سلام، وقال الغساني: هو ابن يحيى الذهلي قال: (حدّثنا محاضر) بضم الميم وكسر الضاد المعجمة ابن المورع بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء المشددة ثم عين مهملة الهمداني اليامي الكوفي. قال النسائي: ليس به بأس، وقال أحمد: كان مغفلاً ولم يكن من أصحاب الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بمتين يكتب حديثه، وقال أبو ررعة صدوق وقد أخرج له المؤلّف حديثين بصورة التعليق الموصول عن بعض شيوخه عنه أحدهما هذا والآخر في البيوع وعلق له غيرهما وروى له مسلم حديثًا واحدًا في كتاب الأحكام عن خالد الحذاء مقرونًا بغيره وروى له الترمذي (قال: حدّثنا الأعمش عن إبراهيم) النخعي (عن الأسود عن عائشة -

(3/259)


رضي الله عنها- قالت: خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا نذكر إلا الحج) بالنون ونصب الحج (فلما قدمنا) مكة (أمرنا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أن نحل) بفتح أوّله وكسر ثانيه أي من إحرامنا (فلما كانت ليلة) يوم (النفر) من منى (حاضت صفية بنت حيي) -رضي الله عنها- (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
(حلقى عقرى) في السابقة تقديم المؤخر (ما أراها) بضم الهمزة أي ما أظن صفية (إلا حابستكم) ثم قال: (كنت طفت) بحذف همزة الاستفهام (يوم النحر؟) طواف الإفاضة (قالت) صفية: (نعم) طفت (قال): (فانفري). بكسر الفاء ارحلي. قالت عائشة: (قلت يا رسول الله إني لم أكن حللت) أي حين قدمت مكة لأني لم أكن تمتعت بل كنت قارنة (قال): لها عليه الصلاة والسلام: (فاعتمري من التنعيم) وإنما أمرها بالاعتمار لتطييب قلبها حيث أرادت أن يكون لها عمرة مستقلة كسائر أمهات المؤمنين (فخرج معها أخوها)، عبد الرحمن بن أبي بكر قالت عائشة (فلقيناه) أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعد ما قضيت العمرة ورجعنا إلى المنزل حال كونه (مدلجًا). بتشديد الدال أي سائرًا من آخر الليل إلى مكة لطواف الوداع (فقال) عليه الصلاة والسلام لها: (موعدك مكان كذا وكذا) بنصب مكان على الظرفية، وفي بعض النسخ: مكان بالرفع خبر موعدك. والمراد موضع المنزلة أي أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما لقيها قال لعائشة: موضع المنزلة كذا وكذا يعني تكون الملاقاة هناك حتى إذا عاد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من طوافه يجتمع بها هناك للرحيل.