شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

27 - أبواب المحصر
(بسم الله الرحمن الرحيم).
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. وَقَالَ عَطَاءٌ: الإِحْصَارُ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ يَحْبِسُهُ.
(باب) بيان أحكام (المحصر) بضم الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين آخره راء، ولأبي ذر: أبواب بالجمع والمحصر الممنوع من الوقوف بعرفة أو الطواف بالبيت كالمعتمر الممنوع منه (و) أحكام (جزاء الصيد) الذي يتعرض إليه المحرم، (وقوله تعالى) بالرفع على الاستئناف أو الجر عطفًا على المحصر أي: وبيان المراد من قوله تعالى: ({فإن أحصرتم}) منعتم يقال: حصره العدوّ وأحصره إذا حبسه ومنعه عن المضي مثل صده وأصدّه ({فما استيسر من الهدي}) أي فعليكم ما استيسر أو فاهدوا ما استيسر، والمعنى: إن منعتم عن المضي إلى البيت وأنتم محرمون بحج أو عمرة فعليكم إذا أردتم التحلل أن تتحللوا بذبح هدي يسر عليكم من بدنة أو بقرة أو شاة حيث أحصرتم عند الأكثر ({ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}) [البقرة: 196] حيث يحل ذبحه حلاً كان أو حرامًا أو لا تحلوا حتى تعلموا أن الهدي المبعوث به إلى الحرم بلغ محله أي مكانه الذي يجب أن
ينحر فيه، وسقط في رواية أبي ذر قوله: ولا تحلقوا الخ.
(وقال عطاء): هو ابن أبي رباح مما وصله ابن أبي شيبة (الإحصار من كل شيء بحسبه) والذي في اليونينية يحبسه بفتح التحتية وسكون المهملة وكسر الموحدة بعدها سين مهملة فلا يختص بمنع العدوّ فقط بل هو عام في كل حابس من عدوّ ومرض وغيرهما، وبه قال الحنفية ككثير من الصحابة وغيرهم، حتى أفتى ابن مسعود رجلاً لدغ بأنه محصر أخرجه ابن حزم بإسناد صحيح والطحاوي ولفظه عن علقمة قال: لدغ صاحب لنا وهو محرم بعمرة فذكرناه لابن مسعود فقال: يبعث بهدي

ويواعد أصحابه موعدًا فإذا نحر عنه حل قالوا: وإذا قامت الدلالة على أن شرعيته للحابس مطلقًا استفيد جوازه لمن سرقت نفقته ولا يقدر على المشي.
وقال مالك والشافعي وأحمد: لا إحصار إلا بالعدوّ لأن الآية وردت لبيان حكم انحصاره عليه الصلاة والسلام وأصحابه وكان بالعدوّ، وقال في سياق الآية: فإذا أمنتم فعلم

(3/281)


أن شرعية الإحلال في العدوّ كانت لتحصيل الأمن منه وبالإحلال لا ينجو من المرض فلا يكون الإحصار بالمرض في معناه فلا يكون النص الوارد في العدو واردًا في المرض فلا يلحق به دلالة ولا قياسًا لأن شرعية التحلل قبل أداء الأفعال بعد الشروع في الإحرام على خلاف القياس فلا يقاس عليه.
وفي الموطأ عن سالم عن أبيه قال: من حبس من دون البيت بمرض فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت، وأحتج الحنفية بأن الإحصار هو المنع والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبأن إجماع أهل اللغة على أن مدلول لفظ الإحصار بالعمرة المنع الكائن بالمرض، والآية وردت بذلك اللفظ، وبحث فيه المحقق الكمال بن الهمام بأنه ظاهر في أن الإحصار خاص بالمرض والمحصر خاص بالعدوّ. ويحتمل أن يراد كون المنع بالمرض من ما صدقات الإحصار فإن أراد الأول ورد عليه كون الآية لبيان حكم الحادثة التي وقعت للرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه -رضي الله عنهم-، واحتاج إلى جواب صاحب الأسرار وصاحبه كون النص الوارد لبيان حكم حادثة قد ينتظمها لفظًا، وقد ينتظم غيرها مما يعرف بحكمها دلالة، وهذه الآية كذلك إذ يعلم منه حكم من العدو بطريق الأولى لأن منع العدو حسي لا يتمكن معه من المضي بخلافه في المرض إذ يمكن بالمحمل والمركب والخدم فإذا جاز التحلل مع هذا فمع ذلك أولى.
وفي نهاية ابن الأثير يقال أحصره المرض أو السلطان إذا منعه من مقصده فهو محصر وحصره إذا حبسه فهو محصور، وقال تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 273] والمراد منعهم الاشتغال بالجهاد وهو أمر راجع إلى العدوّ أو المراد أهل الصفة منعهم تعلم القرآن أو شدة
الحاجة والجهد عن الضرب في الأرض للتكسب وليس هو بالمرض اهـ.
وزاد أبو ذر عن المستملي (قال أبو عبد الله): أي المؤلّف على عادته في ذكر تفسير ما يناسب ما هو بصدده (حصورًا) في قوله تعالى في يحيى بن زكريا {وحصورًا} [آل عمران: 39] معناه (لا يأتي النساء) وهو بمعنى محصور لأنه منع مما يكون من الرجال وقد ورد فعول بمعنى مفعول كثيرًا، وهذا التفسير نقله الطبري عن سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد وليس المراد أنه لا يأتي النساء لأنه كان هيوبًا لهن أو لما ذكر له لأن هذه نقيصة لا تليق بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام بل معناه أنه معصوم عن الفواحش والقاذورات والملاهي، روي أنه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب فقال: ما للعب خلقت.

1 م - باب إِذَا أُحْصِرَ الْمُعْتَمِرُ
هذا (باب) بالتنوين (إذا أحصر المعتمر).
1806 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ "أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ قَالَ: إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْتُ كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، مِنْ أَجْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ".
وبالسند قال: (حدثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) إمام الأئمة (عن نافع أن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- حين خرج) أي أراد أن يخرج (إلى مكة معتمرًا في الفتنة) حين نزل الحجاج لقتال ابن الزبير، ولا تنافي بين قوله معتمرًا وبين قوله في رواية الموطأ خرج إلى مكة يريد الحج فإنه خرج أوّلاً يريد الحج فلما ذكروا له أمر الفتنة أحرم بالعمرة ثم قال: ما شأنها إلا واحد فأضاف إليها الحج فصار قارنًا. (قال) جوابًا لقولهم: إنّا نخاف أن يحال بينك وبين البيت بسبب الفتنة (إن صددت) بضم الصاد مبنيًا للمفعول أي إن منعت (عن البيت صنعت) ولأبي الوقت: صنعنا (كما صنعنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حين صدّه المشركون عن البيت في الحديبية فإنه تحلل من العمرة ونحر وحلق (فأهلّ) أي فرفع ابن عمر صوته بالإهلال والتلبية (بعمرة) زاد في رواية جويرية: من ذي الحليفة، وفي روّاية أيوب الماضية: فيهل بالعمرة من الدار أي النزل الذي نزله بذي الحليفة أو المراد التي بالمدينة فيكون أهلّ بالعمرة من داخل بيته ثم أظهرها بعد أن استقر بذي الحليفة (من أجل أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أهل بعمرة عام الحديبية) سنة ست.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي، ومسلم في الحج.
1807 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ وَسَالِمَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- لَيَالِيَ نَزَلَ الْجَيْشُ بِابْنِ الزُّبَيْرِ فَقَالاَ: لاَ يَضُرُّكَ أَنْ لاَ تَحُجَّ الْعَامَ، وَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ الْبَيْتِ. فَقَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هَدْيَهُ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ. وَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْعُمْرَةَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَنْطَلِقُ، فَإِنْ خُلِّيَ بَيْنِي وَبَيْنَ الْبَيْتِ طُفْتُ، وَإِنْ حِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ فَعَلْتُ كَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَنَا مَعَهُ. فَأَهَلَّ بِالْعُمْرَةِ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا شَأْنُهُمَا وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ حَجَّةً مَعَ عُمْرَتِي. فَلَمْ يَحِلَّ مِنْهُمَا حَتَّى حَلَّ يَوْمَ النَّحْرِ وَأَهْدَى، وَكَانَ يَقُولُ: لاَ يَحِلُّ حَتَّى يَطُوفَ طَوَافًا وَاحِدًا يَوْمَ يَدْخُلُ مَكَّةَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد بن أسماء) بن عبيد الضبعي بضم المعجمة وفتح الموحدة

البصري قال: (حدّثنا جويرية) تصغير جارية ابن أسماء بن عبيد الضبعي وهو عم عبد الله بن محمد الراوي عنه (عن نافع) مولى ابن عمر (أن عبيد الله بن عبد الله) بتصغير عبد الأوّل ابن عمر بن الخطاب العدوي المدني

(3/282)


(و) شقيقه (سالم بن عبد الله) بن عمر (أخبراه) ضمير المفعول لنافع (أنهما كلّما) أباهما (عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- ليالي نزل الجيش) القادمون مع الحجاج من الشام لمكة (بابن الزبير) لمقاتلته وهو بها (فقالا) لأبيهما: (لا يضرك أن لا تحج العام إنا) ولغير أبي الوقت: وإنا (نخاف أن يحال بينك وبين البيت فقال) ابن عمر: (خرجنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) من المدينة حتى بلغنا الحديبية (فحال كفار قريش دون البيت فنحر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هديه وحلق رأسه) فحل من عمرته، (وأشهدكم أي قد أوجبت العمرة) على نفسي، ولأبوي ذر والوقت: عمرة بالتنكير، والظاهر أنه أراد تعليم غيره وإلا فليس التلفظ شرطًا وقوله (إن شاء الله) شرط وجزاؤه قوله (أنطلق) إلى مكة أو إن شاء الله تعالى يتعلق بإيجابه العمرة وقصد به التبرك لا التعليق لأنه كان جازمًا بالإحرام بقرينة الإشهاد، (فإن خلي بيني وبين البيت) بضم الخاء المعجمة وتشديد اللام المكسورة (طفت) به وأكملت النسك، (وإن حيل بيني وبينه) بكسر الحاء المهملة وسكون التحتية أي منعت من الوصول إليه لأطوف له (فعلت كما فعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا معه) من التحلل من العمرة وبالنحر والحلق (فأهلّ) أي ابن عمر (بالعمرة من ذي الحليفة) ميقات المدينة (ثم سار ساعة ثم قال):
(إنما شأنهما) أي الحج والعمرة (واحد) في جواز التحلل منهما بالإحصار (أشهدكم أني قد أوجبت حجة مع عمرتي فلم يحل منهما حتى حلّ يوم النحر وأهدى) بنصب يوم على الظرفية ولأبي ذر: حتى دخل من الدخول يوم بالرفع على الفاعلية (وكان يقول): (لا يحل حتى يطوف طوافًا واحدًا يوم يدخل مكة) أي فإن القارن لا يحتاج لطوافين خلافًا للحنفية كما مرّ.
1808 - حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ: "أَنَّ بَعْضَ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ قَالَ لَهُ: لَوْ أَقَمْتَ بِهَذَا".
وبه قال (حدّثنا) ولغير أبي الوقت: حدثني (موسى بن إسماعيل) التبوذكي المنقري قال: (حدّثنا جويرية) ابن أسماء (عن نافع أن بعض بني عبد الله) بن عمر بن الخطاب إما عبد الله أو عبيد الله أو سالم (قال: له) أي قال لأبيه عبد الله بن عمر لما أراد أن يعتمر في عام نزول الحجاج على ابن الزبير (لو أقمت بهذا) المكان أو في هذا العام لكان خيرًا أو نحوه أو أن (لو) للتمني فلا يحتاج إلى جواب، وإنما اقتصر في رواية موسى هذه هنا على الإسناد لنكتة ذكرها الحافظ ابن حجر وهي: أن قوله في الحديث الأوّل عن نافع أن عبد الله بن عمر حين خرج إلى مكة معتمرًا في الفتنة يشعر بأنه عن نافع عن ابن عمر بغير وساطة، لكن رواية جويرية التالية له تقتضي أن نافعًا حمل ذلك عن سالم وشقيقه عبيد الله عن أبيهما هكذا. قال البخاري عن عبد الله بن محمد ابن أسماء ووافقه الحسن بن سفيان وأبو يعلى كلاهما عن عبد الله أخرجه الإسماعيلي عنهما، وتابعهم معاذ بن المثنى

عن عبد الله بن محمد ابن أسماء أخرجه البيهقي، وقد عقب رواية عبد الله برواية موسى لينبه على الاختلاف في ذلك قال الحافظ: والذي يترجح عندي أن ابني عبد الله أخبرًا نافعًا بما كلما به أباهما وأشار عليه به من التأخير ذلك العام.
وأما بقية القصة فشاهدها نافع وسمعها من ابن عمر لملازمته إياه فالمقصود من الحديث موصول وعلى تقدير أن يكون نافع لم يسمع شيئًا من ذلك من ابن عمر فقد عرف الواسطة بينهما وهي ولدا عبد الله سالم وأخوه وهما ثقتان لا يطعن فيهما اهـ.
1809 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلاَّمٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-: "قَدْ أُحْصِرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَجَامَعَ نِسَاءَهُ، وَنَحَرَ هَدْيَهُ، حَتَّى اعْتَمَرَ عَامًا قَابِلاً".
وبه قال: (حدّثنا محمد) غير منسوب قال الحاكم هو الهذلي، وقال أبو مسعود الدمشقي هو محمد بن مسلم بن وارة وقال الكلاباذي قال لي السرخسي هو أبو حاتم محمد بن إدريس الرازي ذكر أنه وجده في أصل عتيق قال: (حدّثنا يحيى بن صالح) الحمصي قال: (حدّثنا معاوية بن سلام) بتشديد اللام الحبشي قال: (حدّثنا يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة (عن عكرمة) مولى ابن عباس (قال: قال ابن عباس -رضي الله عنهما-) ولأبي الوقت: فقال بفاء العطف على محذوف ثبت في كتاب الصحابة لابن السكن كما نبه عليه الحافظ ابن حجر وقال: إنه لم ينبه عليه من الشراح غيره ولفظه عن عكرمة قال: قال عبد الله بن رافع مولى أم

(3/283)


سلمة سألت الحجاج بن عمرو الأنصاري عمن حبس وهو محرم قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "من عرج أو كسر أو حبس فليجزي مثلها وهو في حل" قال فحدثت به أبا هريرة فقال: صدق وحدثته ابن عباس فقال: (قد أحصر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحلق رأسه وجامع نساءه ونحر هديه حتى) ولأبي ذر عن المستملي: ثم: (اعتمر عامًا قابلاً) عامًا نصب على الظرفية وقابلاً صفته.
والسبب في حذف البخاري ما ذكر أن الزائد ليس على شرطه لأنه قد اختلف في حديث الحجاج بن عمرو وعن يحيى بن أبي كثير مع كون عبد الله بن رافع ليس من شرط البخاري فاقتصر على ما هو من شرط كتابه. وبهذا الحديث تمسك من قال لا فرق بين الإحصار بالعدوّ وبغيره.

2 - باب الإِحْصَارِ فِي الْحَجِّ
(باب الإحصار في الحج).
1810 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَالِمٌ قَالَ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ -رضي الله عنهما- يَقُولُ: "أَلَيْسَ حَسْبُكُمْ سُنَّةَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، إِنْ حُبِسَ

أَحَدُكُمْ عَنِ الْحَجِّ طَافَ بِالْبَيْتِ وَبِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ حَلَّ مِنْ كُلِّ شَىْءٍ حَتَّى يَحُجَّ عَامًا قَابِلاً فَيُهْدِي أَوْ يَصُومُ إِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا". وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حَدَّثَنِي سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ... نَحْوَهُ.
وبالسند قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) المعروف بمردويه السمسار المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (سالم) هو ابن عبد الله بن عمر (قال: كان ابن عمر -رضي الله عنهما- يقول): (أليس حسبكم سنة رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بنصب سنة في اليونينة خبر ليس واسمها حسبكم أو الجملة الشرطية وهي قوله (إن حبس أحدكم عن الحج) بأن منع عن الوقوف بعرفة (طاف بالبيت وبالصفا والمروة) أي إذا أمكنه ذلك تفسير للسنة وهل لها حينئذٍ محل أو لا قولان. وقال القاضي عياض: بالنصب على الاختصاص أو على إضمار فعل أي تمسكوا ونحوه، وقال السهيلي: من نصب سنة فالكلام أمر بعد أمر كأنه قال: الزموا سنة نبيكم كما قال:
يا أيها المائح دلوي دونك
فدلوي منصوب عندهم بإضمار فعل أمر ودونك أمر آخر (ثم حل من كل شيء) حرم عليه (حتى يحج عاما قابلاً) نصب على الظرفية والصفة (فيهدي) بذبح شاة إذ التحلل لا يحصل إلا بنية التحلل والذبح والحلق (أو يصوم إن لم يجد هديًا) حيث شاء ويتوقف تحلله على الإطعام كتوقفه على الذبح لا على الصوم لأنه يطول زمنه فتعظم المشقّة في الصبر على الإحرام إلى فراغه.
(وعن عبد الله) بن المبارك بالسند السابق: (قال: أخبرنا معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين ساكنة، والظاهر أن ابن المبارك كان يحدث به تارة عن يونس وتارة عن معمر (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال: حدثني) بالإفراد (سالم عن) أبيه (ابن عمر نحوه).
وقد أخرجه الترمذي عن أبي كريب عن ابن المبارك عن معمر ولفظه: كان ينكر الاشتراط ويقول: أليس حسبكم سنة نبيكم. وأخرجه الإسماعيلي من وجه آخر عن عبد الرزاق بتمامه، وكذا أخرجه النسائي.
وأما إنكار ابن عمر الاشتراط فثابت في رواية يونس أيضًا إلا أنه حذف في رواية البخاري هذه فأخرجه البيهقي من طريق السراج عن أبي كريب عن ابن المبارك عن يونس.
وقرأت في كتاب معرفة السنن والآثار له ما لفظه قال أحمد: ابن شهاب إنما يرويه في رواية يونس بن يزيد عنه عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان ينكر الاشتراط في الحج، ولو بلغه حديث رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ضباعة بنت الزبير لم ينكره اهـ.
وحديث ضباعة أخرجه الشافعي عن ابن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مرّ بضباعة بنت الزبير فقال: "أما تريدين الحج" فقالت: إني شاكية فقال لها: "حجي واشترطى أن محلي حيث حبستني" وأخرجه البخاري في النكاح. وقول الأصيلي فيما حكاه عياض عنه لا يثبت في الاشتراط إسناد صحيح، تعقبه النووي بأن الذي قاله غلط فاحش لأن الحديث مشهور صحيح من طرق متعددة وهذا مذهب الشافعية، وقيس بالحج العمرة فإذا شرطه بلا هدي لم يلزمه هدي عملاً بشرطه، وكذا لو أطلق لعدم الشرط ولظاهر حديث ضباعة فالتحلل فيهما يكون بالنية فقط فإن شرطه بهدي لزمه عملاً بشرطه، ولو قال: إن مرضت فأنا حلال فمرض صار حلالاً بالمرض من غير نيّة، وعليه حملوا حديث من كسر أو عرج فقد حلّ وعليه الحج من قابل رواه أبو داود وغيره بإسناد صحيح، وأن شرط قلب الحج عمرة بالمرض أو نحوه جاز كما لو شرط التحلل به بل أولى، ولقول عمر

(3/284)


لأبي أمية سويد بن غفلة: حج واشترط وقل اللهم الحج أردت وله عمدت فإن تيسر وإلا فعمرة رواه البيهقي بإسناد حسن، ولقول عائشة لعروة هل تستثني إذا حججت فقال: ماذا أقول؟ قالت: قل اللهم الحج أَردت وله عمدت فإن يسرته فهو الحج وإن حبسني حابس فهو عمرة رواه الشافعي والبيهقي بإسناد صحيح على شرط الشيخين فله في ذلك إذا وجد العذر أن يقلب حجه عمرة وتجزئه عن عمرة الإسلام ولو شرط أن يقلب حجه عمرة عند العذر فوجد العذر انقلب حجه عمرة وأجزأته عن عمرة الإسلام كما صرح به البلقيني بخلاف عمرة التحلل في الإحصار لا تجزئ عن عمرة الإسلام لأنها في الحقيقة ليمست عمرة وإنما هي أعمال عمرة.

3 - باب النَّحْرِ قَبْلَ الْحَلْقِ فِي الْحَصْرِ
(باب النحر قبل الحلق في الحصر).
1811 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُرْوَةَ عَنِ الْمِسْوَرِ -رضي الله عنه- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحَرَ قَبْلَ أَنْ يَحْلِقَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ بِذَلِكَ".
وبالسند قال (حدّثنا محمود) هو ابن غيلان المروزي العدوي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن عروة) بن الزبير بن العوّام (عن المسور) بكسر الميم وفتح الواو بينهما سين مهملة ساكنة ابن مخرمة بن نوفل القرشي الزهري له ولأبيه صحبة (-رضي الله عنه-) وعن أبيه (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحر) الهدي بالحديبية (قبل أن يحلق وأمر أصحابه) الذين كانوا معه (بذلك).
قال: في الفتح: ولم يتعرض المصنف لما يجب على من حلق قبل أن ينحر، وقد روى ابن أبي شيبة من طريق الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال: عليه دم قال إبراهيم: حدثني سعيد بن جبير عن ابن عباس مثله.

فإن قلت: قوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] يقتضي تأخر الحلق عن النحر فكيف يكون متقدمًا.
أجيب: بأن ذلك في غير الإحصار أما نحر هدي المحصر فحيث أحصر وهناك قد بلغ محله فقد ثبت أنه عليه الصلاة والسلام تحلل بالحديبية ونحر بها بعد الحلق وهي من الحل لا من الحرم. وفي الحديث أن المحصر إذا أراد التحلل يلزمه دم يذبحه وقال المالكية: لا هدي عليه إذا تحلل وهو مذهب ابن القاسم.
وأجاب عن قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] بأن أحصر الرباعي في المحصر بالمرض وحصر الثلاثي في الحصر بالعدوّ قال القاضي: ونقل بعض أئمة اللغة يساعدهم اهـ.
والحديث حجة عليهم لأنه نقل فيه حكم وسبب فالسبب المحصر والحكم النحر فاقتضى الظاهر تعلق الحكم بذلك السبب قاله التيمي، وأما أحصر وحصر فسبق البحث فيهما قريبًا.
1812 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحِيمِ أَخْبَرَنَا أَبُو بَدْرٍ شُجَاعُ بْنُ الْوَلِيدِ عَنْ عُمَرَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْعُمَرِيِّ. قَالَ: وَحَدَّثَ نَافِعٌ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ وَسَالِمًا كَلَّمَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- فَقَالَ: "خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مُعْتَمِرِينَ فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ دُونَ الْبَيْتِ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُدْنَهُ وَحَلَقَ رَأْسَهُ".
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر وابن عساكر: حدثني بالإفراد (محمد بن عبد الرحيم) صاعقة قال: (أخبرنا أبو بدر شجاع بن الوليد) بن قيس الكوفي (عن عمر بن محمد) هو عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب نزيل عسقلان المتوفى قبل سنة خمسين ومائة (العمري قال: وحدث نافع) بن عبد الله المدني مولى ابن عمر بن الخطاب (أن عبد الله) بن عبد الله بن عمر (و) أخاه (سالمًا كلما) أباهما (عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-) ليالي نزل الجيش بابن الزبير بمكة فقالا: لا يضرك أن تحج العام وإنا نخاف أن يحال بينك وبين البيت (فقال) (خرجنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) إلى ذي الحليفة (معتمرين) بكسر الراء (فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بدنه) بضم الموحدة وسكون الدال (وحلق رأسه) فتحلل.

4 - باب مَنْ قَالَ لَيْسَ عَلَى الْمُحْصَرِ بَدَلٌ
وَقَالَ رَوْحٌ عَنْ شِبْلٍ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- إِنَّمَا الْبَدَلُ عَلَى مَنْ نَقَضَ حَجَّهُ بِالتَّلَذُّذِ، فَأَمَّا مَنْ حَبَسَهُ عُذْرٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَحِلُّ وَلاَ يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ وَهُوَ مُحْصَرٌ نَحَرَهُ إِنْ كَانَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ، وَإِنِ اسْتَطَاعَ أَنْ يَبْعَثَ بِهِ لَمْ يَحِلَّ حَتَّى

يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ. وَقَالَ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: يَنْحَرُ هَدْيَهُ وَيَحْلِقُ فِي أَىِّ مَوْضِعٍ كَانَ وَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ، لأَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ بِالْحُدَيْبِيَةِ نَحَرُوا وَحَلَقُوا وَحَلُّوا مِنْ كُلِّ شَىْءٍ قَبْلَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ أَنْ يَصِلَ الْهَدْيُ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ لَمْ يُذْكَرْ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ أَحَدًا أَنْ يَقْضُوا شَيْئًا وَلاَ يَعُودُوا لَهُ. وَالْحُدَيْبِيَةُ خَارِجٌ مِنَ الْحَرَمِ.
(باب من قال: ليس على المحصر بدل) أي قضاء لما أحصر فيه من حج أو عمرة (وقال: روح)
بفتح الراء وسكون الواو آخره مهملة ابن عبادة بضم العين وتخفيف الموحدة مما وصله إسحاق بن راهويه في تفسيره (عن شبل) بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة ابن عباد بفتح العين وتشديد الموحدة المكي من صغار التابعين وثقه أحمد وابن معين والدارقطني وأبو داود وزاد: كان يُرمى بالقدر وله في البخاري حديثان (عن ابن أبي نجيح) بفتح النون وكسر الجيم عبد الله (عن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) موقوفًا (إنما البدل) أي القضاء (على من نقض) بالضاد المعجمة ولأبي ذر: نقص بالصاد المهملة (حجه بالتلذذ) بمعجمتين أي بالجماع (فأما من حبسه عذر) بضم

(3/285)


العين وسكون الذال المعجمة وهو ما يطرأ على المكلف يقتضي التسهيل قال البرماوي كالكرماني ولعله المراد به هنا نوع منه كالمرض ليصح عطف (أو غير ذلك) عليه أي من مرض أو نفاد نفقة ولأبي ذر: حبسه عدوّ من العداوة (فإنه يحل) من إحرامه (ولا يرجع) أي لا يقضي وهذا في النفل. أما الفرض فإنه ثابت في ذمته فيرجع لأجله في سنة أخرى، والفرق بين حج النفل الذي يفسد بالجماع الواجب قضاؤه وبين النفل الذي يفوت عنه بسبب الإحصار التقصير وعدمه وقال الحنفية: إذا تحلل لزمه القضاء سواء كان فرضًا أو نفلاً (وإذا كان معه هدي وهو محصر نحره) حيث أحصر من حل أو حرم (إن كان لا يستطيع أن يبعث) زاد في رواية أبوي ذر والوقت: به أي بالهدي إلى الحرم (وإن استطاع أن يبعث به لم يحل حتى يبلغ الهدي محله) يوم النحر وقال أبو حنيفة: لا يذبحه إلا في الحرم لأن دم الإحصار قربة والإراقة لم تعرف قربة إلا في زمان أو مكان فلا تقع قربة دونه فلا يقع به التحلل وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] فإن الهدي اسم لما يهدى إلى الحرم.
(وقال: مالك) إمام الأئمة (وغيره ينحر هديه ويحلق) رأسه (في أي موضع) ولابن عساكر: في المواضع (كان) الحصر وهو مذهب الشافعية فلا يلزمه إذا أحصر في الحل أن يبعث به إلى الحرم (ولا قضاء عليه لأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه بالحديبية نحروا وحلقوا وحلّوا من كل شيء) من محظورات الإحرام (قبل الطواف وقبل أن يصل الهدي إلى البيت) أي: ولا طواف ولا وصول هدي إلى البيت (ثم لم يذكر) بضم أوّله وفتح الكاف مبنيًا للمفعول (أن النبي "-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" أمر أحدًا) من أصحابه ممن كان معه (أن يقضوا شيئًا ولا يعودوا له) وكلمة "لا" زائدة كهي في قوله: ما منعك أن لا تسجد (والحديبية خارج من الحرم) وهذا يشبه ما قرأته في كتاب المعرفة للبيهقي عن الشافعي وعبارته قال الشافعي: قال الله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا

{رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] قال: فلم أسمع ممن حفظت عنه من أهل العلم بالتفسير مخالفًا في أن الآية نزلت بالحديبية حين أحصر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فحال المشركون بينه وبين البيت، وأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نحر بالحديبية وحلق ورجع حلالاً ولم يصل إلى البيت ولا أصحابه إلا عثمان بن عفان وحده، ثم قال: ونحر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الحل، وقيل نحر في الحرم قال الشافعي: وإنما ذهبنا إلى أنه نحر في الحل وبعض الحديبية في الحل وبعضها في الحرم لأن الله تعالى يقول: {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] والحرم كله محله عند أهل العلم.
قال الشافعي: فحيثما أحصر ذبح شاة وحل قال الشافعي: فيمن أحصر بعدوّ لا قضاء عليه فإن كان لم يحج حجة الإسلام فعليه حجة الإسلام من قبل قول الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} ولم يذكر قضاء قال الشافعي: والذي أعقل من أخبار أهل المغازي شبيه بما ذكرت من ظاهر الآية، وذلك أنا قد علمنا في متواطئ أحاديثهم أنه قد كان مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عام الحديبية رجال معروفون بأسمائهم، ثم اعتمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عمرة القضية وتخلف بعضهم بالمدينة من غير ضرورة في نفس ولا مال علمته، ولو لزمهم القضاء لأمر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إن شاء الله بأن لا يتخلفوا عنه.
1813 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: حِينَ خَرَجَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا فِي الْفِتْنَةِ: "إِنْ صُدِدْتُ عَنِ الْبَيْتِ صَنَعْنَا كَمَا صَنَعْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَأَهَلَّ بِعُمْرَةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ -ثُمَّ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ نَظَرَ فِي أَمْرِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلاَّ وَاحِدٌ. فَالْتَفَتَ إِلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: مَا أَمْرُهُمَا إِلاَّ وَاحِدٌ، أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ أَوْجَبْتُ الْحَجَّ مَعَ الْعُمْرَةِ، ثُمَّ طَافَ لَهُمَا طَوَافًا وَاحِدًا. وَرَأَى أَنَّ ذَلِكَ مُجْزِيًا عَنْهُ، وَأَهْدَى".
وبالسند قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: حين خرج) أي حين أراد أن يخرج (إلى مكة معتمرًا في الفتنة) حين نزول الحجاج لقتال ابن الزبير (إن صددت) أي منعت (عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فأهلّ) أي فرفع ابن عمر صوته بالإهلال (بعمرة) من ذي الحليفة أو من المدينهّ وأظهرها بذي الحليفة (من أجل أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان أهلّ بعمرة عام الحديبية ثم إن

(3/286)


عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال: ما أمرهما) أي الحج والعمرة في جواز التحلل منهما بالإحصار (إلا واحد فالتفت إلى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة ثم طاف لهما طوافًا واحدًا ورأى أن ذلك مجزيًا عنه وأهدى) بضم الميم وسكون الجيم وكسر الزاي بغير همزة في اليونينية

وكشطها في الفرع وأبقى الياء صورتها منصوبًا على أن أنّ تنصب الجزأين أو خبر كان محذوفة أي ورأى أن ذلك يكون مجزيًا عنه، ولأبي ذر: مجزئ بالهمزة والرفع خبر أن.
وقوله في الفتح: والذي عندي أن النصب من خطأ الكاتب فإن أصحاب الموطأ اتفقوا على روايته بالرفع على الصواب، تعقبه في عمدة القاري بأنه إنما يكون خطأ لو لم يكن له وجه في العربية واتفاق أصحاب الموطأ على الرفع لا يستلزم كون النصب خطأ على أن دعوى اتفاقهم على الرفع لا دليل عليه، والإجزاء هو الأداء الكافي لسقوط التعبد، ووجه ذكر حديث ابن عمر في هذا الباب شهرة قصة صد المشركين للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأصحابه -رضي الله عنهم- بالحديبية وأنهم لم يؤمروا بالقضاء في ذلك.
وهذا الحديث سبق في باب إذا أحصر المعتمر قريبًا.

5 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] وَهُوَ مُخَيَّرٌ، فَأَمَّا الصَّوْمُ فَثَلاَثَةُ أَيَّامٍ
(باب) تفسير (قول الله تعالى) ({فمن كان منكم مريضًا}) مرضًا يحوجه إلى الحلق ({أو به أذى من رأسه}) كجراحة وقمل ({ففدية}) فعليه فدية إن حلق ({من صيام أو صدقة أو نسك}) [البقرة: 196] بيان لجنس الفدية وأما قدرها فيأتي إن شاء الله تعالى بيانه قريبًا في حديث الباب (وهو) أي المريض ومن به أذى من رأسه (مخير) بين الثلاثة الأشياء المذكورة في الآية (فأما الصوم فثلاثة أيام) كما في الحديث مع الأخيرين.
1814 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ قَيْسٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "لَعَلَّكَ آذَاكَ هَوَامُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: احْلِقْ رَأْسَكَ، وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ أَوِ انْسُكْ بِشَاةٍ". [الحديث 1814 - أطرافه في: 1815، 1816، 1817، 1818، 4159، 4190، 4191، 4517، 5665، 5703، 6708].
وبالسند قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن حميد بن قيس) المكي الأعرج القاري قال عبد الله بن حنبل: عن أبيه ليس بالقوي، ووثقه أحمد من رواية أبي طالب عنه، وكذا ابن معين وابن سعد وأبو زرعة وأبو حاتم الرازيان وأبو داود والنسائي وغيرهم (عن مجاهد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة) بضم العين وسكون الجيم وفتح الراء ابن أمية البلوي حليف الأنصار شهد الحديبية ونزلت فيه قصة الفدية. وأخرج ابن سعد بسند جيد

عن ثابت بن عبيد أن يد كعب قطعت في بعض المغازي ثم سكن الكوفة. وتوفي بالمدينة سنة إحدى وخمسين، وله في البخاري حديثان (-رضي الله عنه- عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال) له وهو محرم معه بالحديبية والقمل يتناثر على وجهه:
(لعلك آذاك هوامك) بتشديد الميم جمع هامة بتشديدها وهي الدابة، والمراد بها هنا القمل كما في كثير من الروايات (قال: نعم يا رسول الله) آذاني (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: احلق رأسك) بكسر اللام والمراد الإزالة وهي أعم من أن تكون بالموسى أو مقص أو النورة (وصم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين) وفي الرواية الآتية إن شاء الله تعالى في الباب التالي: أو تصدق بفرق بين سنة فبين قدر الإطعام (أو انسك بشاة) أي تقرب بشاة، ولأبي ذر عن الكشميهني: أو انسك شاة بغير موحدة أي اذبح شاة وهذا دم تخيير استفيد من التعبير بأو المكررة. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: ما كان في القرآن أو فصاحبه بالخيار.
وفي حديث أبي داود من طريق الشعبي عن ابن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال له: "إن شئت فانسك نسيكة وإن شئت فصم ثلاثة أيام وإن شئت فاطعم" الحديث. وفي الموطأ: أي ذلك فعلت أجرأ.

6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة: 196] وَهْيَ إِطْعَامُ سِتَّةِ مَسَاكِينَ
(باب) تفسير الصدقة المذكورة في (قول الله تعالى) ({أو صدقة}) [البقرة: 196] لأنها مبهمة فسرها بقوله (وهي إطعام ستة مساكين).
1815 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سَيْفٌ قَالَ: حَدَّثَنِي مُجَاهِدٌ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى أَنَّ كَعْبَ بْنَ عُجْرَةَ حَدَّثَهُ قَالَ: "وَقَفَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْحُدَيْبِيَةِ وَرَأْسِي يَتَهَافَتُ قَمْلاً، فَقَالَ: يُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَاحْلِقْ رَأْسَكَ -أَوْ قَالَ: احْلِقْ- قَالَ: فِيَّ نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} إِلَى آخِرِهَا. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: صُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ تَصَدَّقْ بِفَرَقٍ بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوِ انْسُكْ بِمَا تَيَسَّرَ".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سيف) هو ابن سليمان المكي (قال: حدثني) بالإفراد (مجاهد) المفسر (قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى أن كعب بن عجرة) -رضي الله عنه- (حدثه قال): (وقف عليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً) أي يتساقط شيئًا فشيئًا، والجملة حالية وانتصاب قملاً على التمييز

(3/287)


وفي رواية أيوب عن مجاهد في المغازي: أتى عليّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأنا أوقد تحت برمة والقمل يتناثر على رأسي، زاد في رواية ابن عون عن مجاهد

في الكفارات فقال: ادن فدنوت، ولأحمد من وجه آخر في هذه الطريق وقع القمل في رأسي ولحيتي حتى حاجبي وشاربي فأرسل إليّ النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: (لقد أصابك بلاء) ولأبي داود: أصابني هوام حتى تخوّفت على بصري، وفي رواية أبي وائل عن كعب عند الطبري: فحك رأسي بأصبعه فانتثر منه القمل. زاد الطبراني من طريق الحجم أن هذا لأذى قلت شديد يا رسول الله، ولابن خزيمة رآه وقمله يسقط على وجهه (فقال):
(يؤذيك هوامك) بحذف همزة الاستفهام (قلت نعم) يا رسول الله (قال): (فاحلق رأسك) -أو قال- (احلق) بحذف المفعول وهو شك من الراوي (قال): أي كعب (فيّ نزلت) هذه الآية ({فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه}) [البقرة: 196] إلى آخرها، (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) (صم ثلاثة أيام أو تصدق بفرق) بفتح الفاء والراء وقد تسكن قاله: ابن فارس وقال الأزهري: بالفتح في كلام العرب والمحدثون يسكنونه، والمنقول جواز كل منهما، والذي في اليونينية: الفتح وهو مكيال معروف بالمدينة وهو ستة عشر رطلاً (بين ستة) من المساكين (أو انسك) بصيغة الأمر وللأربعة أو نسك (بما) بالموحدة قبل ما ولأبوي ذر والوقت مما (تيسر) من أنواع الهدي.

7 - باب الإِطْعَامُ فِي الْفِدْيَةِ نِصْفُ صَاعٍ
(باب الإِطعام) بالجر على الإضافة ولأبي ذر: بالتنوين الإطعام (في الفدية) المذكورة والإطعام بالرفع مبتدأ خبره (نصف صاع) أي لكل مسكين.
1816 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الأَصْبِهَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْقِلٍ قَالَ: "جَلَسْتُ إِلَى كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رضي الله عنه- فَسَأَلْتُهُ عَنِ الْفِدْيَةِ، فَقَالَ: نَزَلَتْ فِيَّ خَاصَّةً وَهْيَ لَكُمْ عَامَّةً. حُمِلْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي، فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى الْوَجَعَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى. أَوْ مَا كُنْتُ أُرَى الْجَهْدَ بَلَغَ بِكَ مَا أَرَى. تَجِدُ شَاةً؟ فَقُلْتُ: لاَ. فَقَالَ: فَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ نِصْفَ صَاعٍ".
وبالسند قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد الرحمن بن الأصبهاني) بفتح الهمزة والموحدة ويجوز كسر الهمزة وإبدال الموحدة فاء وهو عبد الرحمن بن عبد الله (عن عبد الله بن معقل) بفتح الميم وكسر القاف بينهما مهملة ساكنة ابن مقرن بفتح القاف وكسر الراء المشددة التابعي الكوفي وليس له في البخاري إلا هذا الحديث وآخر (قال: جلست إلى كعب بن عجرة -رضي الله عنه-) أي انتهى جلوسي إليه، وفي رواية مسلم من طريق غندر عن شعبة: وهو في المسجد، وفي رواية أح مد عن بهز: قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد، وزاد في رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني يعني مسجد الكوفة (فسألته عن الفدية) المذكورة في قوله تعالى: {ففدية من صيام} (فقال: نزلت) أي الآية المرخصة

لحلق الرأس (في) بكسر الفاء وتشديد الياء (خاصة وهي لكم عامة) فيه دليل على أن العام إذا ورد على سبب خاص فهو على عمومه لا يخص السبب، ويدل عليه أيضًا على تأكده من السبب حيث لا يسوغ إخراجه بالتخصيص ولهذا قال: نزلت فيّ خاصة (حُملت) بضم الحاء المهملة وكسر الميم المخففة مبنيًّا للمفعول (إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- والقمل بتناثر على وجهي) جملة حالية (فقال) عليه الصلاة والسلام:
(ما كنت أرى) بضم الهمزة أي ما كنت أظن (الوجع بلغ بك ما أرى) بفتح الهمزة أي أبصر بعيني (أو ما كنت أرى) بضم الهمزة أي أظن (الجهد بلغ بك ما أرى) بفتح الجيم أي المشقّة. وقال النووي كعياض عن ابن دريد ضم الجيم لغة في المشقّة أيضًا. وقال صاحب العين: بالضم الطاقة وبالفتح المشقّة وحينئذٍ يتعين الفتح هنا بخلاف قوله في حديث بدء الوحي الماضي حتى بلغ مني الجهد فإنه محتمل للمعنيين كما سبق والشك من الراوي هل قال: الوجع أو الجهد، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: يبلغ بصيغة المضارع ثم قال عليه الصلاة والسلام لكعب: (تجد) أي هل تجد (شاة) قال كعب: (فقلت لا) أجد (فقال) بفاء قبل القاف ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر قال: (فصم ثلاثة أيام) بيان لقوله تعالى أو صيام (أو أطعم ستة مساكين) بكسر العين وهو بيان لقوله أو صدقة (لكل مسكين نصف صاع) بنصب نصف. زاد مسلم: نصف صاع كررها مرتين، والصاع أربعة أمداد والمد رطل وثلث فهو موافق لرواية الفرق الذي هو ستة عشر رطلاً،

(3/288)


وللطبراني عن أحمد الخزاعي عن أبي الوليد شيخ البخاري: فيه لكل مسكين نصف صاع تمر، ولأحمد عن بهز عن شعبة نصف صاع طعام، ولبشر بن عمر عن شعبة نصف صاع حنطة. ورواية الحكم عن ابن أبي ليلى تقتضي أنه نصف صاع من زبيب.
قال الحافظ ابن حجر: المحفوظ عن شعبة نصف صاع من طعام والاختلاف عليه في كونه تمرًا أو حنطة لعله من تصرفات الرواة، وأما الزبيب فلم أره إلا في رواية الحكم وقد أخرجها أبو داود وفي إسنادها ابن إسحاق وهو حجة في المغازي لا في الأحكام إذا خالف، والمحفوظ رواية التمر فقد وقع الجزم بها عند مسلم من طريق أبي قلابة ولم يختلف فيه على أبي قلابة وعرف بذلك قوة قول من قال: لا فرق في ذلك بين التمر والحنطة وأن الواجب ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع اهـ.
واستشكل قوله: تجد شاة؟ فقلت: لا. فقال: فصم ثلاثة أيام لأن الفاء تدل على الترتيب والآية وردت للتخيير.
وأجيب بأن التمييز إنما يكون عند وجود الشاة وأما عند عدمها فالتخيير بين أمرين لا بين الثلاثة. وقال النووي: ليس المراد أن يصوم لا يجزئ إلا لعادم الهدي بل هو محمول على أنه سأل عن النسك، فإن وجده أخبره بأنه مخير بين الثلاث وإن عدمه فهو مخير بين اثنين.

8 - باب النُّسُكُ شَاةٌ
هذا (باب) بالتنوين (النسك) المذكور في قوله تعالى: {ففدية من صيام أو صدقة أو نسك} [البقرة: 196] (شاة) وأما ما رواه أبو داود والطبراني وعبد بن حميد وسعيد بن منصور من طرق تدور على نافع أن كعبًا لما أصابه الأذى فحلق فأهدى بقرة فاختلف على نافع في الواسطة الذي بينه وبين كعب، وقد عارضه ما هو أصح منه من أن الهدي الذي أمر به كعب وفعله في النسك إنما هو شاة بل قال الحافظ زين الدين العراقي: لفظ البقرة منكر شاذ.
1817 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ حَدَّثَنَا رَوْحٌ حَدَّثَنَا شِبْلٌ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رضي الله عنه- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ القملُ، فَقَالَ: أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالْحُدَيْبِيَةِ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْفِدْيَةَ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً، أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ".
وبالسند قال: (حدّثنا إسحاقُ) هو ابن راهويه كما جزم به أبو نعيم قال: (حدثنا روح) هو ابن عبادة قال: (حدّثنا شبل) بكسر الشين المعجمة وسكون الموحدة بن عباد المكي (عن ابن أبي نجيح) عبد الله المكي (عن مجاهد قال: حدثني) بالإفراد (عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رآه وأنه) وفي نسخة ودوابه (يسقط على وجهه) أي القمل فالفاعل محذوف وضمير النصب من قوله رآه عائد على كعب ومن أنه عائد على القمل، وكذا ضمير الرفع المستتر في قوله: يسقط عائد أيضًا على القمل، والضمير من وجهه عائد على كعب والواو للحال. قال الحافط ابن حجر: ولابن السكن وأبي ذر. ليسقط بزيادة لام (فقال):
(أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم فأمره) عليه الصلاة والسلام (أن يحلق) رأسه (وهو بالحديبية ولم يتبين لهم) أي لم يظهر لمن كان معه عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت (أنهم يحلون) من إحرامهم (بها) أي بالحديبية. (وهم) أي الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومن معه ولأبي ذر عن الحموي والكشميهني: هو أي الرسول عليه الصلاة والسلام (على طمع أن يدخلوا مكة) وهذه الزيادة ذكرها الراوي لبيان أن الحلق كان محظور بسبب الأذى لا لقصد التحلل بالحصر وهو ظاهر، (فأنزل الله) عز وجل (الفدية) المتعلقة بالحلق للأذى في قوله تعالى: {فمن كان منكم مريضًا أو به أذى من رأسه} الآية (فأمره) أي كعبًا (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يطعم فرقًا) بفتح الراء والمحدثون يسكنونها وهو ستة عشر رطلاً (بين ستة) من المساكين (أو يهدي شاة) بضم أوله منصوبًا عطفًا على أن يطعم (أو يصوم ثلاثة أيام) بالنصب عطفًا على سابقه.

1818 - وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا وَرْقَاءُ عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي لَيْلَى عَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ -رضي الله عنه- "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَآهُ وَقَمْلُهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ". مِثْلَهُ.
(وعن محمد بن يوسف) الفريابي وهو عطف على قوله: حدّثنا روح فيكون إسحاق رواه عن روح بإسناده وعن محمد بن يوسف قال: (حدّثنا ورقاء) بن عمر بن كليب اليشكري (عن ابن أبي نجيح) عبد الله (عن مجاهد قال: أخبرنا) ولأبوي ذر والوقت: حدثني من التحديث بالإفراد (عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رآه وقمله يسقط على وجهه مثله) بالنصب أي مثل الحديث المذكور، والواو في قوله وقمله للحال. وفي الحديث أن

(3/289)


السنة مبينة لمجمل القرآن لإطلاق الفدية فيه وتقييدها بالسنة وتحريم حلق الرأس على المحرم والرخصة له في حلقها إذا آذاه القمل أو غيره من الأوجاع.
واستنبط منه بعض المالكية إيجاب الفدية على من تعمد حلق رأسه بغير عذر فإن إيجابها على المعذور من التنبيه بالأدنى على الأعلى، لكن لا يلزم من ذلك التسوية بين المعذور وغيره، ومن ثم قال الشافعي: لا يتخير العامد بل يلزمه الدم.

9 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {فَلاَ رَفَثَ} [البقرة: 197]
(باب قول الله تعالى: ({فلا رفث}).
1819 - حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ، رَجَعَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
وبالسند قال: (حدّثنا سليمان بن حرب) الواشحي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمان مولى عزة الأشجعية، ولغير أبي الوقت: سمعت أبا حازم وفيه تصريح منصور بسماعه له من أبي حازم في رواية شعبة، وقد انتفى بذلك تعليل من أعله بالاختلاف على منصور لأن البيهقي أورده من طريق إبراهيم بن طهمان عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي حازم زاد فيه رجلاً، فإن كان إبراهيم حفظه فلعله حمله عن هلال ثم لقي أبا حازم فسمعه منه فحدث به على الوجهين، وصرح أبو حازم بسماعه له من أبي هريرة كما تقدم في أوائل الحج من طريق شعبة عن سيار عن أبي حازم (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من حج) أي قصد (هذا البيت) الحرام لحج أو عمرة، ولمسلم، من أتى هذا البيت لحاضر
فالظاهر أنه عليه الصلاة والسلام قاله: وهو بمكة (فلم يرفث) بتثليث الفاء والضم المشهور في الرواية واللغة وبالفتح الاسم وبالسكون المصدر والمعنى فلم يجامع أو لم يأت بفحش من الكلام ولم يفسق لم يخرج عن حدود الشرع بالسباب وارتكاب المحظورات، والفاء في قوله فلم والواو في قوله ولم عطف على الشرط في قوله: من حج، وجوابه قوله: (رجع) حال كونه (كما) أي مشابهًا لنفسه في البراءة من الذنوب صغائرها أو كبائرها في يوم (ولدته أمه) إلا في حق آدمي إذ هو محتاج لاسترضائه: نعم إذا رضي تعالى عن عبده أرضى عنه خصماءه، وفي نسخة: كيوم ولدته أمه.

10 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197]
(باب) قول الله عز وجل: ({ولا فسوق ولا جدال في الحج}) [البقرة: 197] برفع فسوق منونًا كلا رفث لابن كثير وأبي عمرو ويعقوب، ووافقهم أبو جعفر وزاد رفع جدال على أن لا ملغاة وما بعدها رفع بالابتداء وسوّغ الابتداء بالنكرة تقدم النفي عليها وفي الحج خبر المبتدأ الثالث وحذف خبر المبتدأ الأول والثاني لدلالة الثالث عليهما، وقرأ الباقون بالفتح في الثلاثة على أن لا هي التي للتبرئة وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أو بناء الجمهور على الثاني.
1820 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ رَجَعَ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ».
وبالسند قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا سفيان) هو الثوري كما نص عليه البيهقي (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن أبي حازم) بالحاء والزاي سلمان (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال النبي): ولأبي الوقت: قال رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق) قال في القاموس: الفسق الترك لأمر الله والعصيان والخروج عن طريق الحق أو الفجور كالفسوق وفسق جار وعن أمر ربه خرج والرطبة عن قشرها خرجت كانفسقت، قيل: ومنه الفاسق لانسلاخه عن الخير (رجع) والحال أنه (كيوم ولدته أمه) عاريًا من الذنوب أو رجع بمعنى صار والظرف خبره وميمه مفتوحة ويجوز كسرها وهو الذي في اليونينية، ولم يذكر في الحديث الجدال اعتمادًا على ما في الآية أو لأن المجادلة ارتفعت بين العرب وقريش في موضع الوقوف بعرفة والمزدلفة فأسلمت قريش وارتفعت المجادلة ووقف الكل بعرفة.