شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
50 - كتاب المكاتب
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(كتاب المكاتب) بضم الميم وفتح المثناة الفوقية الرقيق
الذي يكاتبه مولاه على مال يؤديه إليه فإذا أدّاه عتق فإن
عجز ردّ إلى الرقّ وبكسر التاء السيد الذي تقع منه
المكاتبة والكتابة بكسر الكاف عقد عتق بلفظها بعوض منجم
بنجمين فأكثر وهي خارجة عن قواعد المعاملات عند من يقول إن
العبد لا يملك لدورانها بين السيد ورقيقه ولأنها بيع ماله
بماله وكانت الكتابة متعارفة قبل الإسلام، فأقرّها الشارع
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وقال الروياني: إنها
إسلامية لم تكن في الجاهلية والأول هو الصحيح وأول من كوتب
في الإسلام بريرة ومن الرجال سلمان وهي لازمة من جهة السيد
إلا إن عجز العبد وجائزة له على الراجح، ولغير أبي ذر كما
في الفتح كتاب المكاتب بدل قوله في المكاتب والبسملة ثابتة
للكل.
1 - باب إِثْمِ مَنْ قَذَفَ مَمْلُوكَهُ
(باب إثم من قذف مملوكه) لم يذكر فيه حديثًا أصلاً ولعله
بيض له ليثبت فيه ما ورد في معناه فلم يقدر له ذلك. نعم
ترجم في كتاب الحدود وقذف العبد وساق فيه حديث من قذف
مملوكه وهو بريء مما قال جلد يوم القيامة، وقد سقطت هذه
(4/327)
الترجمة عند أبي ذر والنسفيّ وهو الأولى
لما لا يخفى.
1 - الْمُكَاتَبِ وَنُجُومِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ نَجْمٌ
وَقَوْلِهِ: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ
فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي
آتَاكُمْ} [النور: 33]. وَقَالَ رَوْحٌ عَنِ ابْنِ
جُرَيْجٍ قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَوَاجِبٌ عَلَىَّ إِذَا
عَلِمْتُ لَهُ مَالاً أَنْ أُكَاتِبَهُ؟ قَالَ: مَا
أُرَاهُ إِلاَّ وَاجِبًا. وَقَالَهُ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ
قُلْتُ لِعَطَاءٍ: أَتَأْثُرُهُ عَنْ أَحَدٍ؟
قَالَ: لاَ. ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّ مُوسَى بْنَ أَنَسٍ
أَخْبَرَهُ أَنَّ سِيرِينَ سَأَلَ أَنَسًا الْمُكَاتَبَةَ
-وَكَانَ كَثِيرَ الْمَالِ- فَأَبَى، فَانْطَلَقَ إِلَى
عُمَرَ -رضي الله عنه-، فَقَالَ: كَاتِبْهُ، فَأَبَى،
فَضَرَبَهُ بِالدِّرَّةِ وَيَتْلُو عُمَرُ:
{فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا}،
فَكَاتَبَهُ".
(باب المكاتب) بفتح التاء (ونجومه) بالجر عطفًا على سابقه
وبالرفع على الاستئناف (في كل سنة نجم) رفع بالابتداء
وخبره الجار والمجرور والجملة في موضع رفع على الخبرية
وسقط للنسفي قوله نجم فالجار والمجرور في موضع نصب على
الحال من قوله ونجومه ونجم الكتاب هو القدر المعين الذي
يؤدّيه المكاتب في وقت معين، وأصله أن العرب كانوا يبنون
أمورهم في المعاملة على طلوع النجم لأنهم لا يعرفون الحساب
فيقول أحدهم: إذا طلع النجم الفلاني أدّيت حقك فسميت
الأوقات نجومًا بذلك ثم سمي المؤدى في الوقت نجمًا،
(وقوله) تعالى بالجر عطفًا على السابق ({والذين يبتغون
الكتاب}) المكاتبة وهو أن يقول الرجل لمملوكه كاتبتك على
ألف مثلاً منجمًا إذا أدّيته فأنت حر ويبين عدد النجوم
وقسط كل نجم وهو إما أن يكون من الكتاب لأن السيد كتب على
نفسه عتقه إذا وفى بالمال أو لأنه مما يكتب لتأجيله أو من
الكتب بمعنى الجمع لأن العوض فيه يكون منجمًا بنجوم يضم
بعضها إلى بعض ({مما ملكلت أيمانكم}) عبدًا أو أمة
والموصول بصلته مبتدأ خبره ({فكاتبوهم}) أو مفعول بمضمر
هذا تفسيره والفاء لتضمن معنى الشرط واشترط الشافعي
التأجيل وقومًا مع التسمية بناء على أن الكتابة من الضم
وأقل ما يحصل به الضم نجمان، ولأنه أمكن لتحصيل القدرة على
الأداء وجوّز الحنفية والمالكية الكتابة حالاً ومؤجلاً
ومنجمًا وغير منجم لأن الله تعالى لم يذكر التنجيم.
وأجيب: بأن هذا احتجاج ضعيف لأن المطلق لا يعم مع أن العجز
عن الأداء في الحال يمنع صحتها كما في السلم فيما لا يوجد
عند المحل ({إن علمتم فيهم خيرًا}) أمانة وقدرة على أداء
المال بالاحترام كما فسّره بهما إمامنا الشافعي -رحمه
الله- وفسّره ابن عباس بالقدرة على الكسب والشافعي ضم
إليها الأمانة لأنه قد يضيع ما يكسبه فلا يعتق، وفي
المراسيل لأبي داود عن يحيى بن أبي كثير قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {فكاتبوهم إن
علمتم فيهم خيرًا} قال: إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم
كلاًّ على الناس، وقيل المراد الصلاح في الدين، وقيل المال
وهما ضعيفان ولو فقد الشرطان لم تستحب لكن لا تكره لأن
الخير شرط الأمر فلا يلزم من عدمه عدم الجواز. وقال ابن
القطان: يكره والصحيح الأول ({وآتوهم من مال الله الذي
آتاكم}) [النور: 33] أمر للموالي أن يبذلوا لهم شيئًا من
أموالهم وفي معناه حط شيء من مال الكتابة وهو للوجوب عند
الأكثر ويكفي أقل ما يتموّل، وذكر ابن السكن الماوردي من
طريق ابن إسحاق عن خاله عبد الله بن صبيح عن أبيه وكان جدّ
ابن إسحاق أبا أمه قال: كنت مملوكًا لحاطب فسألته الكتابة
فأبى ففيّ أنزلت {والذين يبتغون الكتاب} الآية. قال ابن
السكن: لم أر له ذكرًا إلا في هذا الحديث وصبيح ضبطه في
فتح الباري بفتح الصاد المهملة ولم يضبطه في الإصابة، لكنه
ذكره عقب صبيح بالتصغير والد أبي الضحى
مسلم بن صبيح والأمر في قوله فكاتبوهم للندب وبه قطع
جماهير العلماء لأن الكتابة معارضة تتضمن الإرفاق فلا تجب
كغيرها إذا طلبها الملوك وإلاّ لبطل أثر الملك واحتكم
المماليك على المالكين.
(وقال روح): بمهملتين أولاهما مفتوحة بينهما واو ساكنة ابن
عبادة مما وصله إسماعيل القاضي في أحكام القرآن وعبد
الرزاق والشافعي من وجهين آخرين (عن ابن جريج) عبد الملك
بن عبد العزيز المكي قال: (قلت لعطاء) هو ابن أبي رباح
(أواجب عليّ) إذا طلب مني مملوكي الكتابة (إذا علمت له
مالاً أن أكاتبه؟ قال: ما أراه) بضم الهمزة ولأبي ذر ما
أراه بفتحها (إلا واجبًا. وقال عمرو بن دينار) بفتح العين
(قلت لعطاء تأثره) ولأبي ذر: أتأثره بهمزة الاستفهام أي
أترويه (عن أحد قال) عطاء (لا) أرويه عن أحد وظاهر هذا أنه
من رواية عمرو بن دينار عن عطاء قال الحافظ ابن حجر: وليس
كذلك بل وقع في هذه الرواية تحريف لزم منه الخطأ، والصواب
ما رأيته في الأصل المعتمد من رواية النسفيّ عن البخاري
بلفظ وقاله أي الوجوب عمرو بن دينار وفاعل
(4/328)
قلت لعطاء تأثره ابن جريج لا عمرو، وحينئذٍ
فيكون قوله، وقال عمرو بن دينار معترضًا بين قوله ما أراه
إلا
واجبًا وبين قوله قلت لعطاء تأثره، ويؤيد ذلك ما أخرجه عبد
الرزاق والشافعي ومن طريقه البيهقي كما رأيته في المعرفة
له عن عبد الله بن الحرث كلاهما عن ابن جريج ولفظه قال:
قلت لعطاء أواجب عليّ إذا علمت أن فيه خيرًا أن أكاتبه؟
قال: ما أراه إلا واجبًا وقالها عمرو بن دينار، وقلت لعطاء
أتأثرها عن أحد. قال: لا. قال ابن جريج:
(ثم أخبرني) أي عطاء (أن موسى بن أنس) أي ابن مالك
الأنصاري قاضي البصرة (أخبره أن سيرين) بكسر السين المهملة
أبا عمرة والد محمد بن سيرين الفقيه المشهور وكان من سبي
عين التمر قرب الكوفة فاشتراه أنس في خلافة أبي بكر وذكره
ابن حبان في ثقات التابعين (سأل أنسًا) هو ابن مالك
الأنصاري (المكاتبة وكان كثير المال فأبى) أي امتنع أن
يكاتبه (فانطلق) سيرين (إلى عمر) بن الخطاب (-رضي الله
عنه-) فذكر له ذلك (فقال) عمر لأنس: (كاتبه فأبى فضربه
بالدرة) بكسر الدال وتشديد الراء آلة يضرب بها (ويتلو عمر)
-رضي الله عنه- ({فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرًا}) فأدّاه
اجتهاده إلى أن الأمر في الآية للوجوب وأنس إلى الندب
(فكاتبه) وقرأت في باب تعجيل الكتابة من المعرفة للبيهقي
عن أنس بن سيرين عن أبيه قال: اتبني أنس بن مالك على عشرين
ألف درهم فأتيته بكتابته فأبى أن يقبلها مني إلا نجومًا
فأتيت عمر بن الخطاب فذكرت ذلك له فقال: أراد أنس الميراث
وكتب إلى أنس أن أقبلها من الرجل فقبلها.
وقال الربيع، قال الشافعي: روي عن عمر بن الخطاب أن
مكاتبًا لأنس جاءه فقال: إني أتيت بمكاتبتي إلى أنس فأبى
أن يقبلها فقال: أنس يريد الميراث ثم أمر أنسًا أن يقبلها
أحسبه قال فأبى فقال آخذها فأضعها في بيت المال فقبلها
أنس، وروى ابن أبي شيبة من طريق عبيد الله بن أبي بكر بن
أنس قال: هذه مكاتبة أنس عندنا هذا ما كاتب أنس غلامه
سيرين كاتبه على كذا وكذا ألفًا وعلى غلامين يعملان مثل
عمله.
2560 - وَقَالَ اللَّيْثُ: حَدَّثَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ قَالَ عُرْوَةُ قَالَتْ عَائِشَةُ -رضي الله
عنها-: "إِنَّ بَرِيرَةَ دَخَلَتْ عَلَيْهَا
تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا وَعَلَيْهَا خَمْسَةُ
أَوَاقٍ نُجِّمَتْ عَلَيْهَا فِي خَمْسِ سِنِينَ؛
فَقَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ -وَنَفِسَتْ فِيهَا- أَرَأَيْتِ
إِنْ عَدَدْتُ لَهُمْ عَدَّةً وَاحِدَةً أَيَبِيعُكِ
أَهْلُكِ فَأُعْتِقَكِ فَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي؟
فَذَهَبَتْ بَرِيرَةُ إِلَى أَهْلِهَا فَعَرَضَتْ ذَلِكَ
عَلَيْهِمْ، فَقَالُوا: لاَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ لَنَا
الْوَلاَءُ. قَالَتْ عَائِشَةُ: فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَذَكَرْتُ
ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اشْتَرِيهَا فَأَعْتِقِيهَا،
فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. ثُمَّ قَامَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فَقَالَ: مَا بَالُ رِجَالٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا
لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا
لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ، شَرْطُ
اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ".
(وقال الليث) بن سعد الإمام مما وصله الذهلي في الزهريات
عن أبي صالح كاتب الليث عن الليث قال: (حدّثني) بالإفراد
(يونس) بن يزيد (عن ابن شهاب) الزهري لكن قال في الفتح
المحفوظ رواية الليث له عن شهاب نفسه بغير واسطة أنه قال:
(قال عروة) بن الزبير: (قالت عائشة -رضي الله عنها-: إن
بريرة) بفتح الموحدة وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها فلما
كاتبها أهلها (دخلت عليها تستعينها في) شأن (كتابتها
وعليها خمسة أواق) كجوار ولأبي ذر خمس أواقي بإسقاط تاء
التأنيث من خمس إثبات التحتية في أواقي (نجمت) بضم النون
مبنيًّا للمفعول صفة لأواقي أي وزعت وفرقت (عليها في خمس
سنين) المشهور ما في رواية هشام بن عروة الآتية إن شاء
الله تعالى بعد بابين أنها كاتبت على تسع أواق في كل عام
أوقية، ومن ثم جزم الإسماعيلي أن هذه الرواية المعلقة غلط
لكن جمع بينهما بأن التسع أصل والخمس كانت بقيت عليها، وبه
جزم القرطبي والمحب الطبري، وعورض بأن في رواية قتيبة، ولم
تكن أدت من كتابتها شيئًا.
وأجيب: بأنها كانت حصلت أربع الأواقي قبل أن تستعين بعائشة
ثم جاءتها وقد بقي عليها خمس أواق أو الخمس هي التي كانت
استحقت عليها بحلول نجومها من جملة التسع الأواقي المذكورة
في حديث هشام، ويؤيده قوله في رواية عمرة عن عائشة السابقة
في أبواب المساجد فقال أهلها إن شئت أعطيت ما تبقى.
(فقالت لها عائشة ونفست) بكسر الفاء أي رغبت (فيها)
والجملة حالة (أرأيت) أي أخبرينى (إن عددت) الخمس الأواقي
(لهم عدة واحدة أيبيعك أهلك فأعتقك) بضم الهمزة والنصب أي
بأن مضمرة بعد الفاء (فيكون) نصب عطفًا على السابق (ولاؤك
لي فذهبت بريرة إلى أهلها فعرضت ذلك) الذي قالت عائشة
(عليهم فقالوا: لا) نبيعك (إلا أن يكون لنا الولاء. قالت
عائشة: فدخلت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فذكرت ذلك) الذي قالوه (له فقال لها) أي لعائشة
(رسول الله
(4/329)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اشتريها فأعتقيها) بهمزة قطع (فإنما الولاء لمن أعتق ثم
قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) زاد
في الشروط في الناس فحمد الله وأثنى عليه يحتمل أنه أراد
بقام ضد قعد فيكون دليلاً للخطبة من قيام، ويحتمل أن يكون
المراد بقام إيجاد الفعل كقولهم قام بوظيفته والمعنى قام
بأمر الخطبة (فقال: ما بال) ما حال (رجال يشترطون شروطًا
ليست في كتاب الله) أي في حكم الله الذي كتبه على عباده
وشرعه لهم (من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله) عز وجل (فهو
باطل شرط الله) الذي شرطه وجعله شرعًا (أحق) أي هو الحق
(وأوثق) بالمثلثة أي أقوى وما سواه واهٍ فأفعل التفضيل
فيهما ليس على بابه.
وهذا الحديث قد سبق في كتاب الصلاة في باب ذكر البيع
والشراء على المنبر في المسجد، وأورده في عدة مواضع بوجوه
مختلفة وطرق متباينة، وقد أفرد بعض الأئمة فوائده فزادت
على ثلاثمائة.
2 - باب مَا يَجُوزُ مِنْ شُرُوطِ الْمُكَاتَبِ، وَمَنِ
اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِيهِ ابْنُ
عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
(باب ما يجوز من شروط المكاتب) بفتح التاء (ومن اشترط
شرطًا ليس في كتاب الله) عز وجل (فيه) أي في الباب (ابن
عمر) بن الخطاب ولأبي ذر فيه عن ابن عمر بن الخطاب (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأبي ذر وكأنه أشار
إلى حديث ابن عمر الآتي إن شاء الله تعالى في الباب
الثاني.
2561 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله
عنها- أَخْبَرَتْهُ: "أَنَّ بَرِيرَةَ جَاءَتْ
تَسْتَعِينُهَا فِي كِتَابَتِهَا، وَلَمْ تَكُنْ قَضَتْ
مِنْ كِتَابَتِهَا شَيْئًا. قَالَتْ لَهَا عَائِشَةُ:
ارْجِعِي إِلَى أَهْلِكِ فَإِنْ أَحَبُّوا أَنْ أَقْضِيَ
عَنْكِ كِتَابَتَكِ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي فَعَلْتُ،
فَذَكَرَتْ ذَلِكَ بَرِيرَةُ لأَهْلِهَا فَأَبَوْا
وَقَالُوا إِنْ شَاءَتْ أَنْ تَحْتَسِبَ عَلَيْكِ
فَلْتَفْعَلْ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لَنَا. فَذَكَرَتْ
ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ابْتَاعِي فَأَعْتِقِي، فَإِنَّمَا
الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. قَالَ: ثُمَّ قَامَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَا
بَالُ أُنَاسٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي
كِتَابِ اللَّهِ؟ مَنِ اشْتَرَطَ شَرْطًا لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ لَهُ، وَإِنْ شَرَطَ مِائَةَ
مَرَّةٍ، شَرْطُ اللَّهِ أَحَقُّ وَأَوْثَقُ".
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد أبو رجاء البغلاني قال:
(حدّثنا الليث) بن سعد الإمام زاد في نسخة عن عقيل بضم
العين ابن خالد بن عقيل بفتح العين (عن ابن شهاب) الزهري
(عن عروة) بن الزبير (أن عائشة -رضي الله عنها- أخبرته أن
بريرة جاءت) إليها (تستعينها في) مال (كتابتها ولم تكن قضت
من كتابتها شيئًا قالت لها عائشة ارجعي إلى أهلك) ساداتك
(فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك) وللكشميهني عن كتابتك
(ويكون) نصب عطفًا على المنصوب السابق (ولاؤك لي) وجواب
الشرط قوله: (فعلت) وظاهره أن عائشة طلبت أن يكون الولاء
لها إذا أدّت جميع مال الكتابة وليس
ذلك مرادًا وكيف تطلب ولاء من أعتقه غيرها، وقد أزال هذا
الإشكال ما وقع في رواية أبي أسامة عن هشام حيث قال بعد
قوله أن أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك ويكون ولاؤك لي فعلت
فتبين أن غرضها أن تشتريها شراء صحيحًا ثم تعتقها إذ العتق
فرع ثبوت اللك (فذكرت ذلك) الذي قالته عائشة بريرة (لأهلها
فأبوا) فامتنعوا أن يكون الولاء لعائشة (وقالوا: وإن شاءت)
أي عائشة (أن تحتسب) الأجر (عليك) عند الله (فلتفعل ويكون)
نصب عطفًا على أن تحتسب (ولاؤك لنا) لا لها (فذكرت) بريرة
(ذلك لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفي
الشروط فذهبت بريرة إلى أهلها فقالت لهم فأبوا عليها فجاءت
من عندهم ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
جالس فقالت: إني قد عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون
الولاء لهم فسمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فأخبرت عائشة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فقال لها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): وسقط لفظ لها في
رواية أبي ذر.
(ابتاعي) ها (فاعتقي) ها بهمزة قطع (فإنما الولاء لمن أعتق
قال: ثم قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال: ما بال أناس يشترطون شروطًا ليست في كتاب
الله) قال ابن خزيمة: أي ليس في حكم الله جوازها أو وجوبها
لا أن كل من شرط شرطًا لم ينطق به الكتاب باطل لأنه قد
يشترط في البيع الكفيل فلا يبطل الشرط ويشترط في الثمن
شروط من أوصافه أو نجومه ونحو ذلك فلا يبطل فالشروط
المشروعة صحيحة وغيرها باطل (من اشترط شرطًا ليس في كتاب
الله) عز وجل (فليس له وإن شرط) ولأبي ذر وإن اشترط (مائة
مرة) ولأبي ذر عن المستملي مائة شرط توكيد لأن العموم في
قوله من اشترط دال على بطلان جميع الشروط المذكورة فلا
حاجة إلى تقييدها بالمائة فلو زادت عليها كان الحكم كذلك
لما دلّت عليه الصيغة (شرط الله أحق وأوثق) ليس أفعل
التفضيل فيهما على بابه فالمراد أن شرط الله هو الحق
والقوي وما سواه واهٍ كما مرّ.
2562 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: "أَرَادَتْ عَائِشَةُ
أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ تَشْتَرِيَ جَارِيَةً
لِتُعْتِقَهَا، فَقَالَ أَهْلُهَا: عَلَى أَنَّ وَلاَءَهَا
لَنَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: لاَ يَمْنَعُكِ ذَلِكِ، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ
لِمَنْ أَعْتَقَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك)
(4/330)
هو ابن أنس إمام دار الهجرة (عن نافع عن
عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: أرادت عائشة
أُم المؤمنين -رضي الله عنها-) وسقط لأبي ذر أُم المؤمنين
(أن تشتري جارية) هي بريرة (لتعتقها) بضم التاء والنصب وفى
نسخة رقم عليها في الفرع وأصله علامة السقوط تعتقها بضم
أوّله مع إسقاط اللام والرفع (فقال) ولأبي ذر: قال (أهلها)
نبيعكها (على أن ولاءها لنا قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لعائشة:
(لا يمنعك) ولأبي ذرة لا يمنعنك بنون التوكيد الثقيلة
(ذلك) الشرط الذي شرطوه من شرائها وعتقها (فإنما الولاء
لمن أعتق) وليس في حديثي الباب إلا ذكر شرط الولاء وجمع في
الترجمة بين حكمين وكأنه فسر الأول بالثاني وإن ضابط
الجواز ما كان في كتاب الله أي في حكمه من كتاب أو
سُنّة أو إجماع، وقد اشترط لصحة الكتابة شروط أن يكاتب
السيد المختار المتأهل للتبرع جميع العبد فلا يصحّ كتابة
بعضه لأنه حينئذٍ لا يستقل بالتردّد لاكتساب النجوم إلا أن
يكون باقيه حرًّا أو يكاتبه مالكاه معًا ولو بوكالة إن
اتفقت النجوم جنسًا وأجلاً وعددًا فتصح لأنها حينئذٍ تفيد
الاستقلال وليس له في الثانية أن يدفع لأحد المالكين شيئًا
لم يدفع مثله للآخر في حال دفعه إليه، فإن أذن أحدهما في
دفع شيء للآخر ليختص به لم يصح القبض وتصح كتابة بعضه
أيضًا في صور: منها إذا أوصى بكتابة عبد فلم يخرج من الثلث
إلا بعضه ولم تجز الورثة وأن يقول مع لفظ الكتابة إذا
أدّيت النجوم إليّ فأنت حر أو ينويه فلا يكفي لفظ الكتابة
بلا تعليق ولا نيّة لأنه يقع على هذا العقد وعلى المخارجة
فلابدّ من تمييزه بذلك وأن يقول المكاتب قبلت وبه تتم
الصيغة، وأن تكون عوضًا معلومًا فلا تصح بمجهول وأن يكون
العوض أقل من نجمين كما جرى عليه الصحابة فمن بعدهم فلا
تجوز بعوض
حال، فإن كاتبه على دينار الآن وخدمة شهر لم يجز لعدم
تنجيم الدينار أو على خدمة شهر من الآن ودينار عند تقضيه
أو قبله أو بعده في زمن معلوم جاز لأن المنفعة مستحقة في
الحال والمدة لتقديرها وللتوفية فيها والدينار إنما تستحق
المطالبة به في وقت آخر، وإذا اختلف الاستحقاق حصل التنجيم
ولا بأس بكون المنفعة حالّة لأن التأجيل إنما يشترط لحصول
القدرة وهو قادر على الاشتغال بالخدمة في الحال فالتنجيم
إنما هو شرط في غير المنفعة التي عليه الشروع فيها في
الحال.
3 - باب اسْتِعَانَةِ الْمُكَاتَبِ وَسُؤَالِهِ النَّاسَ
(باب) جواز (استعانة المكاتب) أي طلبه العون من غيره
ليعينه بشيء يضمه إلى مال الكتابة (وسؤاله الناس).
2563 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
-رضي الله عنها- قَالَتْ: "جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ:
إِنِّي كَاتَبْتُ أَهْلِي عَلَى تِسْعِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ
عَامٍ وَقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي. فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنْ
أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ عَدَّةً
وَاحِدَةً وَأُعْتِقَكِ فَعَلْتُ وَيَكُونَ وَلاَؤُكِ لِي.
فَذَهَبَتْ إِلَى أَهْلِهَا، فَأَبَوْا ذَلِكَ عَلَيْهَا،
فَقَالَتْ: إِنِّي قَدْ عَرَضْتُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ،
فَأَبَوْا إِلاَّ أَنْ يَكُونَ الْوَلاَءُ لَهُمْ.
فَسَمِعَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ:
خُذِيهَا فَأَعْتِقِيهَا وَاشْتَرِطِي لَهُمُ الْوَلاَءَ،
فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. قَالَتْ
عَائِشَةُ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّاسِ فَحَمِدَ اللَّهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَمَا
بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ
فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَأَيُّمَا شَرْطٍ لَيْسَ فِي
كِتَابِ اللَّهِ فَهْوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ
شَرْطٍ، فَقَضَاءُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ
أَوْثَقُ، مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُكُمْ
أَعْتِقْ يَا فُلاَنُ وَلِيَ الْوَلاَءُ إِنَّمَا
الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".
وبه قال: (حدّثنا عبيد بن إسماعيل) بضم العين مصغرًا من
غير إضافة الهباري بفتح الهاء والموحدة المشددة القرشي
قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن هشام) ولأبي
ذر: عن هشام بن
عروة (عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي
الله عنها-) أنها (قالت: جاءت بريرة فقالت إني كاتبت أهلي
على تسع أواق) وفي نسخة في اليونينية أوقية (في كل عام
وقية) ولأبي ذر أوقية بزيادة همزة مضمومة قبل الواو وهي
أربعون درهمًا (فأعينيني) بصيغة الأمر للمؤنث من الإعانة
أي على مال كتابتي ولأبي ذر عن الكشميهني فأعيتني بصيغة
الخبر الماضي من الإعياء أي أعجزتني الأواقي عن تحصيلها
(فقالت عائشة) لبريرة: (إن أحب أهلك أن أعدها) أي الأواقي
(لهم عدة واحدة وأعتقك) نصب عطفًا على أن أعدّها (فعلت
ويكون) بالنصب أيضًا ولأبي ذر فيكون بالفاء (ولاؤك لي
فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها) فجاءت إلى عائشة (فقالت:
إني عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم) أي إلا
بأن فحذف منه حرف الجر أي بشرط ذلك والاستثناء مفرغ لأن في
أبى معنى النفي قال الزمخشري في قوله تعالى: {ويأبى الله
إلا أن يتم نوره} قد أجرى أبي مجرى لم يرد ألا ترى كيف
قوبل {يريدون أن يطفئوا نور الله} [التوبة: 32] بقوله
{ويأبى الله إلا أن يتم نوره} [التوبة: 32] فقوله: {ويأبى
الله} واقع موقع لم يرد قالت عائشة: (فسمع بذلك رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فسألني فأخبرته
فقال):
(خذيها) اشتريها (فأعتقيها) بهمزة قطع (واشترطي لهم الولاء
فإنما الولاء
(4/331)
لمن أعتق) ولأبي ذر: فإن الولاء. واستشكل
قوله واشترطي لهم الولاء لأنه يفسد البيع ومتضمن للخداع
والتغرير، وكيف أذن لأهله بما لا يصح ومن ثم أنكر يحيى بن
أكثم فيما رواه الخطابي عنه ذلك، وعن الشافعي في الأم
الإشارة إلى تضعيف رواية هشام المصرّحة بالاشتراط لكونه
انفرد بها دون أصحاب أبيه.
وقال في المعرفة فيما قرأته فيها حديث يحيى عن عمرة عن
عائشة أثبت من حديث هشام، وأحسبه غلط في قوله واشترطي لهم
الولاء، وأحسب حديث عمرة أن عائشة شرطت لهم الولاء بغير
أمر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهي ترى
ذلك يجوز فأعلمها رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنها إن أعتقتها فالولاء لها. وقال: لا يمنعك
عنها ما تقدم من شرطك ولا أرى أنه أمرها أن تشترط لهم ما
لا يجوز ثم قال بعد سياقه لحديث نافع عن ابن عمر السابق في
الباب الذي قبل هذا ولعل هشامًا أو عروة حين سمع أن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "لا يمنعك ذلك"
رأى أنه أمرها أن تشترط لهم الولاء فلم يقف من حفظه على ما
وقف عليه ابن عمر انتهى.
وقد أثبت رواية هشام جماعة وقالوا هشام ثقة حافظ والحديث
متفق على صحته فلا وجه لردّه، واختلفوا في تأويلها فقيل
لهم بمعنى عليهم كقوله تعالى: {لهم اللَّعنة} [الرعد: 25]
أي عليهم، وهذا رواه البيهقي في المعرفة من طريق أبي حاتم
الرازي عن حرملة عن الشافعي، وقال النووي تأويل اللام
بمعنى على هنا ضعيف لأنه عليه الصلاة والسلام أنكر
الاشتراط، ولو كانت بمعنى على لم ينكره، وقيل الأمر هنا
للإباحة وهو على جهة التنبيه على أن ذلك لا ينفعهم فوجوده
وعدمه سواء فكأنه يقول: اشترطي أو لا تشترطي فذلك لا
يفيدهم، وقال النووي: أقوى الأجوبة
أن هذا الحكم خاص بعائشة، في هذه القضية، وتعقبه ابن دقيق
العيد: بأن التخصيص لا يثبت إلا بدليل وبأن الشافعي نص على
خلاف هذه المقالة ويأتي مزيد لذلك إن شاء الله تعالى في
الشروط.
(قالت عائشة: فقام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- في الناس) خطيبًا (فحمد الله وأثنى عليه ثم
قال: أما بعد فما) بالفاء في اليونينية (بال) أي ما حال
(رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله فأيما شرط ليس)
ولأبي ذر كان ليس (في كتاب الله) أي في حكمه من كتاب أو
سُنّة أو إجماع (فهو باطل وإن كان مائة شرط) قال القرطبي:
خرج مخرج التكثير يعني أن الشروط غير المشروعة باطلة ولو
كثرت (فقضاء الله أحق) أي بالاتباع من الشروط المخالفة له
(وشرط الله أوثق) باتباع حدوده التي حدّها وليست المفاعلة
هنا على حقيقتها إذ لا مشاركة بين الحق والباطل (ما) بغير
فاء في اليونينية (بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق يا فلان
ولي الولاء إنما الولاء لمن أعتق) ويستفاد من التعبير
بإنما إثبات الحكم للمذكور ونفيه عما عداه فلا ولاء لمن
أسلم على يديه رجل، وفيه جواز سعي المكاتب وسؤاله واكتسابه
وتمكين السيد له من ذلك، لكن محل الجواز إذا عرفت جهة حل
كسبه وأن للمكاتب أن يسأل من حين الكتابة ولا يشترط في ذلك
عجزه خلافًا لمن شرطه وأنه لا بأس بتعجيل مال الكتابة إلى
غير ذلك مما سيأتي إن شاء الله تعالى في محاله.
4 - باب بَيْعِ الْمُكَاتَبِ إِذَا رَضِيَ.
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: هُوَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ
شَىْءٌ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَقِيَ عَلَيْهِ
دِرْهَمٌ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: هُوَ عَبْدٌ إِنْ عَاشَ
وَإِنْ مَاتَ وَإِنْ جَنَى مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَىْءٌ.
(باب) جواز (بيع المكاتب إذا رضي) وللحمُوي والمستملي: بيع
المكاتبة قال في الفتح: والأوّل أصح لقوله إذا رضي، (وقالت
عائشة) رضي الله عنها مما وصله ابن أبي شيبة وابن سعد (هو)
أي المكاتب (عبد ما بقي عليه شيء) من مال الكتابة، (وقال
زيد بن ثابت) مما وصله الشافعي وسعيد بن منصور (ما بقي
عليه درهم، وقال ابن عمر) -رضي الله عنهما- مما وصله ابن
أبي شيبة (هو عبد إن عاش وإن مات وإن جنى ما بقي عليه
شيء).
2564 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ
عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ: "أَنَّ بَرِيرَةَ
جَاءَتْ تَسْتَعِينُ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ -رضي
الله عنها- فَقَالَتْ لَهَا: إِنْ أَحَبَّ أَهْلُكِ أَنْ
أَصُبَّ لَهُمْ ثَمَنَكِ صَبَّةً وَاحِدَةً فَأُعْتِقَكِ
فَعَلْتُ. فَذَكَرَتْ بَرِيرَةُ ذَلِكَ لأَهْلِهَا
فَقَالُوا: لاَ، إِلاَّ أَنْ يَكُونَ وَلاَؤُكِ لَنَا.
قَالَ مَالِكٌ قَالَ يَحْيَى: فَزَعَمَتْ عَمْرَةُ أَنَّ
عَائِشَةَ ذَكَرَتْ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: اشْتَرِيهَا
وَأَعْتِقِيهَا، فَإِنَّمَا الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ".
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك) الإمام (عن يحيى بن سعيد (1) عن عمرة بنت عبد
الرحمن) الأنصارية المدنية (أن بريرة جاءت تستعين عائشة أم
المؤمنين -رضي الله عنها- فقالت لها إن أحب أهلك أن أصبّ
لهم ثمنك صبة واحدة فأعتقك) بضم الهمزة والنصب عطفًا على
أن أصبّ بالفاء، ولأبي ذر:
_________
(1) بياض بالأصل.
(4/332)
وأعتقك (فعلت فذكرت بريرة ذلك لأهلها فقالوا: لا إلاّ أن
يكون ولاؤك) وللحموي والمستملي: الولاء (لنا. قال مالك)
الإمام بالإسناد السابق (قال يحيى) بن سعيد: (فزعمت عمرة
أن عائشة) الزعم يستعمل بمعنى القول المحقق أي قالت إن
عائشة (ذكرت ذلك لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فقال) لها:
(اشتريها وأعتقيها فإنما الولاء لمن أعتق) وظاهر هذا
الحديث جواز بيع رقبة المكاتب إذا رضي بذلك ولو لم يعجز
نفسه واختاره المؤلّف وهو مذهب الإمام أحمد ومنعه أبو
حنيفة والشافعي في الأصح وبعض المالكية، وأجابوا عن قصة
بريرة بأنها عجزت نفسها لأنها استعانت بعائشة في ذلك،
وعورض ليس في استعانتها ما يستلزم العجز ولا سيما مع القول
بجواز كتابة من لا مال عنده ولا حِرفة له. قال ابن عبد
البر: ليس في شيء من طرق حديث بريرة أنها عجزت عن أداء
النجوم ولا أخبرت بأنها قد حلّ عليها شيء لم يرد في شيء من
طرقه استفصال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لها عن شيء من ذلك انتهى.
لكن قال الشافعي مما رأيته في المعرفة: إذا رضي أهلها
بالبيع ورضيت المكاتبة بالبيع فإن ذلك ترك الكتابة.
5 - باب إِذَا قَالَ الْمُكَاتَبُ اشْتَرِنِي
وَأَعْتِقْنِي، فَاشْتَرَاهُ لِذَلِكَ
هذا (باب) بالتنوين (إذا قال المكاتب) لأحد (اشتري) من
سيدي ولأبي ذر اشترني (وأعتقني فاشتراه لذلك) جاز وحذف
جواب إذا.
2565 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ
الْوَاحِدِ بْنُ أَيْمَنَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي
أَيْمَنُ قَالَ: "دَخَلْتُ عَلَى عَائِشَةَ -رضي الله
عنها- فَقُلْتُ: كُنْتُ لِعُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ
وَمَاتَ وَوَرِثَنِي بَنُوهُ، وَإِنَّهُمْ بَاعُونِي مِنَ
ابْنِ أَبِي عَمْرٍو فَأَعْتَقَنِي ابْنُ أَبِي عَمْرٍو،
وَاشْتَرَطَ بَنُو عُتْبَةَ الْوَلاَءَ. فَقَالَتْ:
دَخَلَتْ بَرِيرَةُ وَهْيَ مُكَاتَبَةٌ فَقَالَتِ:
اشْتَرِينِي وَأَعْتِقِينِي، قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ:
لاَ يَبِيعُونِي حَتَّى يَشْتَرِطُوا وَلاَئِي، فَقَالَتْ:
لاَ حَاجَةَ لِي بِذَلِكَ. فَسَمِعَ بِذَلِكَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أَوْ بَلَغَهُ-
فَذَكَرَ لِعَائِشَةَ فَذَكَرَتْ عَائِشَةُ مَا قَالَتْ
لَهَا، فَقَالَ: اشْتَرِيهَا وَأَعْتِقِيهَا وَدَعِيهِمْ
يَشْتَرِطُونَ مَا شَاءُوا، فَاشْتَرَتْهَا عَائِشَةُ
فَأَعْتَقَتْهَا، وَاشْتَرَطَ أَهْلُهَا الْوَلاَءَ،
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
الْوَلاَءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنِ اشْتَرَطُوا مِائَةَ
شَرْطٍ".
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
عبد الواحد بن أيمن) المخزومي مولاهم المكي (قال: حدّثني)
بالإفراد (أبي أيمن) الحبشي المكي (قال: دخلت على عائشة
-رضى الله عنها- فقلت) لها (كنت لعتبة بن أبي لهب) أي ابن
عبد المطلب بن هاشم ابن عمّ النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسلم عام الفتح، ولأبوي ذر والوقت
والأصيلي: كنت غلامًا لعتبة بن أبي لهب (ومات) لعله في
خلافة أبي بكر -رضي الله عنه-، (وورثني بنوه) العباس وهاشم
وغيرهما (وإنهم باعوني من ابن أبي عمرو) بفتح العين
وللكشميهني باعوني من عبد الله بن أبي عمرو بن عمر بضم
العين ابن عبد الله المخزومي (فأعتقني ابن أبي عمرو واشترط
بنو عتبة) عليه (الولاء) لهم عليّ (فقالت) عائشة (دخلت)
عليّ (بربرة وهي مكاتبة فقالت: اشتريني وأعتقيني) بواو
العطف ولأبي ذر فأعتقينى (قالت) عائشة فقلت لها (نعم.
قالت) بريرة (لا يبيعوني) تعني أهلها (حتى يشترطوا) عليك
أن يكون (ولائي) لهم (فقالت) عائشة فقلت: (لا حاجة لي
بذلك) على أن يكون الولاء لهم (فسمع بذلك النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) قالت: (بلغه) شك من الراوي
(فذكر ذلك) أي الذي سمعه أو بلغه (لعائشة) وسقط من
اليونينية ذلك من قوله فذكر وثبت في فرعها (فذكرت عائشة)
له عليه الصلاة والسلام (ما قالت لها) بريرة (فقال) عليه
الصلاة والسلام لها:
(اشتريها وأعتقيها) بهمزة قطع بعد واو العطف ولأبي ذر
فأعتقيها (ودعيهم يشترطون ما شاؤوا) ولأبي ذر: يشترطوا
بإسقاط النون منصوبًا بأن مقدرة (فاشترتها عائشة فأعتقتها)
فيه دليل على أن عقد الكتابة الذي كان عقد لها مواليها
الفسخ بابتياع عائشة لها (واشترط أهلها الولاء فقال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الولاء لمن أعتق وإن
اشترطوا مائة شرط).
وفي هذا الحديث جواز كتابة الأمة كالعبد وجواز سعي
المكاتبة والسؤال لمن احتاج إليه من دين أو غرم أو نحوهما
وغمر ذلك مما سيأتي إن شاء الله تعالى في محاله. |