شرح القسطلاني
إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري بسم الله الرحمن الرحيم
60 - كتاب أحاديث الأنبياء
1 - باب خَلْقِ آدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ
{صَلْصَالٌ}: طِينٌ خُلِطَ بِرَمْلٍ، فَصَلْصَلَ كَمَا
يُصَلْصِلُ الْفَخَّارُ، وَيُقَالُ مُنْتِنٌ يُرِيدُونَ
بِهِ صَلَّ، كَمَا يُقَالُ صَرَّ الْبَابُ وَصَرْصَرَ
عِنْدَ الإِغْلاَقِ, مِثْلُ كَبْكَبْتُهُ يَعْنِي
كَبَبْتُهُ. {فَمَرَّتْ بِهِ}: اسْتَمَرَّ بِهَا الْحَمْلُ
فَأَتَمَّتْهُ. {أَنْ لاَ تَسْجُدَ}: أَنْ تَسْجُدَ.
وقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ
لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً}
[البقرة: 30]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {لَمَّا عَلَيْهَا
حَافِظٌ}: إِلاَّ عَلَيْهَا حَافِظٌ {فِي كَبَدٍ}: فِي
شِدَّةِ خَلْقٍ. {وَرِيَاشًا}: الْمَالُ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: الرِّيَاشُ وَالرِّيشُ وَاحِدٌ وَهْوَ مَا
ظَهَرَ مِنَ اللِّبَاسِ. {مَا تُمْنُونَ}: النُّطْفَةُ فِي
أَرْحَامِ النِّسَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: {إِنَّهُ عَلَى
رَجْعِهِ لَقَادِرٌ}: النُّطْفَةُ فِي الإِحْلِيلِ. كُلُّ
شَىْءٍ خَلَقَهُ فَهْوَ {شَفْعٌ}: السَّمَاءُ شَفْعٌ.
{وَالْوِتْرُ}: اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. {فِي أَحْسَنِ
تَقْوِيمٍ}: فِي أَحْسَنِ خَلْقٍ، {أَسْفَلَ سَافِلِينَ}:
إِلاَّ مَنْ آمَنَ. {خُسْرٍ}: ضَلاَلٌ، ثُمَّ اسْتَثْنَى
إِلاَّ مَنْ آمَنَ. {لاَزِبٍ}: لاَزِمٌ. {نُنْشِئَكُمْ}:
فِي أَىِّ خَلْقٍ نَشَاءُ. {نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ}:
نُعَظِّمُكَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: {فَتَلَقَّى
آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}: فَهْوَ قَوْلُهُ:
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}. {فَأَزَلَّهُمَا}:
فَاسْتَزَلَّهُمَا. وَ {يَتَسَنَّهْ}: يَتَغَيَّرْ.
{آسِنٌ}: مُتَغَيِّرٌ. و {الْمَسْنُونُ} الْمُتَغَيِّرُ.
{حَمَإٍ}: جَمْعُ حَمْأَةٍ وَهْوَ الطِّينُ
الْمُتَغَيِّرُ. {يَخْصِفَانِ}: أَخْذُ الْخِصَافِ {مِنْ
وَرَقِ الْجَنَّةِ} يُؤَلِّفَانِ الْوَرَقَ وَيَخْصِفَانِ
بَعْضَهُ إِلَى بَعْضٍ. {سَوْآتُهُمَا}: كِنَايَةٌ عَنْ
فَرْجَيهِمَا. {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} هَا هُنَا إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ، الْحِينُ عِنْدَ الْعَرَبِ: مِنْ
سَاعَةٍ إِلَى مَا لاَ يُحْصَى عَدَدُهُ. {قَبِيلُهُ}:
جِيلُهُ الَّذِي هُوَ مِنْهُمْ.
(باب) ذكر (خلق آدم) صلوات الله عليه وسلامه (و) ذكر خلق
(ذريته) وفي نسخة صحيحة كما في اليونينية: كتاب الأنبياء
وعددهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفًا أرسل منهم
ثلاثمائة
وثلاثة عشر كما صححه ابن حبان من حديث أبي ذر مرفوعًا
صلوات الله عليهم، وفي أخرى كتاب أحاديث الأنبياء عليهم
السلام باب: خلق آدم صلوات الله عليه وذريته.
({صلصال}) [الحجر: 26]. في قوله تعالى: {خلق الإنسان من
صلصال} هو (طين) يابس (خلط برمل فصلصل) أي صوّت (كما يصلصل
الفخار) يصوّت إذا نقر (ويقال منتن) بضم الميم (يريدون به
صل) فضوعف فاء الفعل فصار صلصل (كما يقال) ولأبي ذر وأبي
الوقت كما تقول (صرّ الباب) إذا صوّت (وصرصر عن الإغلاق)
فضوعف فيه كذلك (مثل كبكبته) بتضعيف الكاف (يعني كببته)
بتخفيف الموحدة الأولى وسكون الثانية.
({فمرّت به}) [الأعراف: 189]. في قوله تعالى: {فلما
تغشاها} أي جامع آدم حواء حملت حملاً خفيفًا فمرت به أي
(استمر بها الحمل فأتمته) أي وضعته.
({أن لا تسجد}) [الأعراف: 12]. في قوله تعالى {ما منعك أن
لا تسجد} أي (أن تسجد) فلا صلة مثلها في لئلا يعلم مؤكدة
معنى الفعل الذي دخلت عليه ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك
السجود، وقيل الممنوع عن الشيء مضطرًا إلى خلافه فكأنه قيل
ما اضطرك إلى أن لا تسجد قاله في الأنوار.
(باب قول الله تعالى) وسقط لأبي ذر وفي روايته وأبي الوقت
وقول الله تعالى: ({واذ قال ربك للملائكة إني جاعل في
الأرض خليفة}) [البقرة: 30]. أي قومًا يخلف بعضهم بعضًا
قرنًا بعد قرن وجيلاً بعد جيل كما قال تعالى: {هو الذي
جعلكم خلائف في الأرض}
[الأنعام: 165]. وأن المراد آدم لأنه خلف الجن وجاء بعدهم
أو لأنه خليفة الله في أرضه لإقامة حدوده وتنفيذ قضاياه
ورجح القول الأول بأنه لو كان المراد آدم نفسه لما حسن قول
الملائكة "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء".
(قال ابن عباس) في قوله تعالى: ({لما}) بتشديد الميم
({عليها حافظ}) [الطارق: 4] أي (إلا عليها حافظ) وهي قراءة
عاصم وحمزة وابن عامر فلما بمعنى إلا الاستثنائية وهي لغة
هذيل يقولون سألتك بالله لما فعلت بمعنى ألا فعلت، وهذا
وصله ابن أبي حاتم وزاد عليها حافظ من الملائكة. وقال
قتادة: هم حفظة يحفظون عملك ورزقك وأجلك وقيل هو الله رقيب
عليها.
({في كبد}) [البلد: 4].
(5/317)
أي (في شدة خلق) بفتح الخاء وسكون اللام
رواه ابن عيينة في تفسيره عن ابن عباس بإسناد صحيح وأخرجه
الحاكم في مستدركه وقيل لأنه يكابد مصائب الدنيا وشدائد
الآخرة، وقيل لم يخلق الله خلفًا يكابد ابن آدم وهو مع ذلك
أضعف خلق الله.
({ورياشًا}) بفتح الياء وألف بعدها جمع ريش فهو كشع وشعاب
وهي قراءة الحسن ولأبي ذر (وريشًا) بسكون الياء وإسقاط
الألف وهي القراءة المتواترة في قوله تعالى: {قد أنزلنا
عليكم لباسًا يواري سوآتكم وريشًا} [الأعراف: 26]. قال ابن
عباس: الرياش هو (المال). رواه عنه
ابن أبي حاتم من طريق عليّ بن أبي طلحة يقال تريش الرجل
إذا تموّل (وقال غيره): غير ابن عباس (الرياش) بالألف
(والريش) بإسقاطها (واحد وهو ما ظهر من اللباس) وعن ابن
الأعرابي: كل شيء يعيش به الإنسان من متاع أو مال أو مأكول
فهو ريش ورياش، وقال ابن السكيت: الرياش مختص بالثياب
والأثاث والريش قد يطلق على سائر الأموال.
({ما تمنون}) [الواقعة: 58]. قال الفراء هي (النطفة في
أرحام النساء). وقرئ تمنون بفتح التاء من منى النطفة بمعنى
أمناها وقراءة الجمهور بضمها من أمنى. قال القرطبي: ويحتمل
أن يختلف معناهما فيكون أمنى إذا أنزل عن جماع ومنى إذا
أنزل عن احتلام.
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي ({أنه على رجعه لقادر})
[الطارق: 8]. هو (النطفة في الإحليل). قادر على أن يردّها
فيه والضمير للخالق ويدل عليه خلق وقيل قادر على ردّ الماء
في الصلب الذي خرج منه، وسقط لأبي ذر لفظ: إنه ولقادر (كل
شيء خلقه فهو {شفع} السماء شفع) يعني أن كل شيء له مقابل
يقابله فهو بالنسبة إليه شفع كالسماء والأرض والبر والبحر
والجن والإنس ونحو هذا شفع. ({والوتر}) [الفجر: 3] (الله
عز وجل) وحدّه وهذا وصله الطبري عن مجاهد في قوله تعالى:
{ومن كل شيء خلقنا زوجين} [الذاريات: 49]. بنحوه وعن ابن
عباس فيما أخرجه الطبري أيضًا من طرق صحيحة الوتر يوم عرفة
والشفع يوم الذبح.
({في أحسن تقويم}) قال مجاهد فيما أخرجه الفريابي أي (في
أحسن خلق) بفتح الخاء منتصب القامة حسن الصورة ({أسفل
سافلين}) [التين: 4، 5]. بأن جعلناه من أهل النار أو كناية
عن الهرم والضعف فينقص عمل المؤمن عن زمن الشباب ويكون له
أجره لقوله تعالى: {إلا الدين آمنوا} قال مجاهد: (إلا من
آمن) أي لكن من آمن فالاستثناء منقطع، والمعنى ثم رددناه
أسفل سافلين رددناه إلى أرذل العمر فنقص عمله فنقصت
حسناته، لكن من آمن وعمل الصالحات ولازم عليها إلى زمن
الهرم والضعف فإنه يكتب له بعدة مثل الذي كان يعمل في
الصحة.
({خسر}) في قوله تعالى: {إن الإنسان لفي خُسر} [العصر: 2].
أي (ضلال ثم استثنى فقال: إلا من آمن) فليس في ضلال قال
مجاهد فيما أخرجه الفريابي وذكر بالمعنى وإلاّ فالتلاوة
{إلا الذين آمنوا} وثبت لأبي ذر لفظ فقال.
({لازب}) في قوله تعالى: {إنّا خلقناهم من طين لازب}
[الصافات: 11]. قال أبو عبيدة (لازم) بالميم. قال النابغة:
ولا تحسبون الشرّ ضربة لازب
أي لازم. وعن مجاهد فيما رواه الطبري لازق، وعن ابن عباس
من التراب والماء فيصير طينًا يلزق فلعل تفسيره باللازم
تفسير بالمعنى وأكثر أهل اللغة على أن الباء في اللازب بدل
من الميم فهما بمعنى، وقد قرئ لازم بالميم لأنه يلزم اليد
وقيل اللازب المنتن.
({ننشئكم}) يريد قوله تعالى: {وننشئكم فيما لا تعلمون}
[الواقعة: 61]. أي (في أي خلق نشاء) أي من الصور والهيئات.
وقال الحسن: أي نجعلكم قردة وخنازير كما فعلنا بأقوام
قبلكم.
({نسبح بحمدك}) [البقرة: 30]. يريد قوله: {ونحن نسبح
بحمدك} قال مجاهد: أي (نعظمك) بأن نبرئك من كل نقص فنقول:
سبحان الله وبحمده. (وقال أبو العالية): رفيع بن مهران
الرياحي فيما وصله الطبري بإسناد حسن في قوله تعالى:
({فتلقى آدم من ربه كلمات}) [البقرة: 37]. (فهو قوله)
تعالى: ({ربنا ظلمنا أنفسنا}) [الأعراف: 23]. الآية.
({فأزلهما}) [البقرة: 36]. أي (فاستزلهما) دعاهما إلى
الزلة وهي الخطيئة لكنها صغيرة وعبر عنها في طه بقوله
(وعصى) تعظيمًا للزلة وزجرًا لأولاده عنها ({ويتسنه}) في
قوله تعالى: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} [البقرة:
259]. أي لم (يتغير)
(5/318)
ولأبي ذر: يتسنه يتغير. ({آسن}) في قوله
تعالى: {من ماء غير آسن} [محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: 15]. معناه متغير و ({المسنون}) في قوله
تعالى: {من حمأ مسنون} [الحجر: 26]. معناه (المتغير) من
الطين ({حمأ}) بفتح الميم (جمع حمأة) بسكونها (وهو الطين
المتغير) المسود من طول مجاورة الماء. وقوله: {يتسنه} لم
يتغير ذكره بطريق التبعية للمسنون وهذا كله تفسير أبي
عبيدة لا من تفسير أبي العالية ويحتمل أنه كان في الأصل
بعد قوله: {ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23]. وقال غيره:
فأزلهما.
({يخصفان}) قال أبو عبيدة هو (أخذ الخصاف) بسكون خاء أخذ
وضم الذال والخصاف بكسر الخاء وجر الفاء في الفرع كأصله
وفي غيرهما أخذ الخصاف بفتح الخاء والذال وألف التثنية
ونصب الفاء على المفعولية {من ورق الجنة} قال ابن عباس: من
ورق التين (يؤلفان الورق ويخصفان) يلزقان (بعضه إلى بعض)
ليسترا به عورتهما ({سوآتهما} كناية عن فرجهما) ولأبي ذر:
فرجيهما بفتح الجيم وتحتية ساكنة والضمير لآدم وحواء
({ومتاع إلى حين}) (الأنبياء: 111]. المراد به (هاهنا إلى
يوم القيامة، والحين عند العرب: من ساعة إلى ما لا يحص
عدده). كذا رواه الطبري عن ابن عباس بنحوه.
({قبيله}) في قوله تعالى: {إنه يراكم هو وقبيله} [الأعراف:
27] أي (جيله الذي هو منهم) كذا قاله أبو عبيدة. وعن مجاهد
فيما ذكره الطبري الجن والشياطين.
3326 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ
هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، ثُمَّ
قَالَ: اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ مِنَ
الْمَلاَئِكَةِ فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، تَحِيَّتُكَ
وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ: السَّلاَمُ عَلَيْكُمْ
فَقَالُوا: السَّلاَمُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ.
فَزَادُوهُ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ
الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ
يَنْقُصُ حَتَّى الآنَ». [الحديث 3326 - طرفه في: 6227].
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الله بن
محمد) المسندي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام الصنعاني
(عن معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين مهملة ساكنة هو ابن
راشد (عن همام) بفتح الهاء وتشديد الميم الأولى هو ابن
منبه (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(خلق الله) عز وجل (آدم) عليه الصلاة والسلام زاد عبد
الرزاق عن معمر على صورته والضمير لآدم أي أن الله أوجده
على الهيئة التي خلقه الله عليها لم ينتقل في النساء
أحوالاً ولا تردد في الأرحام أطوارًا بل خلقه كاملاً
سويًا، وعورض هذا التفسير بقوله في حديث آخر خلق آدم على
صورة الرحمن وهي إضافة تشريف وتكريم لأن الله تعالى خلقه
على صورة لم يشاكلها شيء من الصور في الكمال والجمال
(وطوله ستون ذراعًا) بقدر ذراع نفسه أو بقدر الذراع
المتعارف يومئذ عند المخاطبين، ورجح الأول بأن ذراع كل أحد
مثل ربعه فلو كان بالذراع المعهود لكانت يده قصيرة في جنب
طول جسده، وزاد أحمد من حديث سعيد بن المسيب عن أبي هريرة
مرفوعًا في سبعة أذرع عرضًا (ثم قال) تعالى له (اذهب فسلّم
على أولئك من الملائكة فاستمع ما يحيونك) من التحية وهذه
(تحيتك وتحية ذريتك) من بعدك. وفي الترمذي من حديث أبي
هريرة لما خلق الله آدم ونفخ فيه الروح عطس فقال: الحمد
لله فحمد الله بإذنه. الحديث إلى قوله: اذهب إلى أولئك
الملائكة إلى ملأ منهم جلوس، (فقال السلام عليكم. فقالوا:
السلام عليك ورحمة الله فزادوه ورحمة الله) وهذا أول
مشروعية السلام وتخصيصه بالذكر لأنه فتح لباب المودّة
وتأليف لقلوب الإخوان المؤدي إلى استكمال الإيمان كما في
حديث مسلم عن أبي هريرة مرفوعًا: "لا تدخلوا الجنة حتى
تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا ألا أدلكم على شيء إذا
فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم". (فكل من يدخل الجنة)
يدخلها وهو (على صورة آدم) عليه السلام في الحسن والجمال
والطول ولا يدخلها على صورته من السواد أو بوصف من العاهات
(فلم يزل الخلق ينقص) في الجمال والطول (حتى الآن) فانتهى
التناقص إلى هذه الأمة فإذا دخلوا الجنة عادوا إلى ما كان
عليه آدم من الجمال وطول القامة.
وفي كتاب مثير الغرام في زيارة القدس والخليل عليه السلام
لتاج الدين التدمري مما نقله عن ابن قتيبة في المعارف: أن
آدم عليه السلام كان أمرد وإنما نبتت اللحية لولده بعده
وكان طوالاً كثير الشعر جعدًا أجمل البرية.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في الاستئذان ومسلم في صفة الجنة
وصححه ابن حبان ورواه البزار والترمذي والنسائي من حديث
سعيد المقبري وغيره عن أبي هريرة مرفوعًا: "إن الله
(5/319)
خلق آدم من تراب فجعله طينًا، ثم ترك حتى
إذا كان حمأ مسنونًا خلقه وصوره، ثم تركه حتى إذا كان
صلصالاً كالفخار كان إبليس يمرّ به فيقول: خلقت لأمر عظيم
ثم نفخ الله فيه من روحه فكان أول ما جرى فيه الروح بصره
وخياشيمه فعطس فقال: الحمد لله. فقال الله: يرحمك ربك"
الحديث.
وفي حديث أبي موسى أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان مرفوعًا:
"إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو
آدم على قدر الأرض"، ففي هذا أن الله تعالى لما أراد إبراز
آدم من العدم إلى الوجود قلبه في ستة أطوار: طور التراب
وطور الطين اللازب وطور الحمأ وطور الصلصال وطور التسوية
وهو جعل الخزقة التي هي الصلصال عظمًا ولحمًا ودمًا ثم نفخ
فيه الروح، وقد خلق الله تعالى الإنسان على أربعة أضرب:
إنسان من غير أب ولا أم وهو آدم، وإنسان من أب لا غير وهو
حواء، وإنسان من أم لا غير وهو عيسى، وإنسان من أب وأم وهو
الذي خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب يعني من
صلب الأب وترائب الأم، وهذا الضرب يتم بعد ستة أطوار
أيضًا. النطفة ثم العلقة، ثم المضعة، ثم العظام، ثم كسوة
العظام لحمًا، ثم نفخ الروح فيه، وقد شرف الله تعالى هذا
الإنسان على سائر المخلوقات فهو صفوة العالم وخلاصته
وثمرته قال الله تعالى: {ولقد كرمنا بني آدم} [الإسراء:
70]. {وسخر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه}
[الجاثية: 13].
ولا ريب أن من خلقت لأجله وسببه جميع المخلوقات علويها
وسفليها خليق بأن يرفل في ثياب الفخر على من عداه، وتمتدّ
إلى اقتطاف زهرات النجوم يداه، وقد خلقه الله تعالى واسطة
بين شريف وهو الملائكة، ووضيع وهو الحيوان. ولذلك كان فيه
قوى العالمين وأهل لسكنى الدارين فهو كالحيوان في الشهوة
وكالملائكة في العلم والعقل والعبادة وخصه رتبة النبوة،
واقتضت الحكمة أن تكون شجرة النبوّة صنفًا منفردًا ونوعًا
واقعًا بين الإنسان والملك ومشاركًا لكل واحد منهما على
وجه فإنه كالملائكة في الاطّلاع على ملكوت السماوات
والأرض، وكالبشر في أحوال المطعم والمشرب، وإذا طهر
الإنسان من نجاسته النفسية وقاذوراته البدنية وجعل في جوار
الله كان حينئذٍ أفضل من الملائكة. قال تعالى: {والملائكة
يدخلون عليهم من كل باب} [الرعد: 23].
وفي الحديث: الملائكة خدم أهل الجنة.
قال ابن كثير: واختلف هل ولد لآدم في الجنة؟ فقيل: لا.
وقيل: ولد له فيها قابيل وأخته. قال: وذكروا أنه كان يولد
له في كل بطن ذكر وأنثى. وفي تاريخ ابن جرير أن حواء ولدت
لآدم أربعين ولدًا في عشرين بطنًا، وقيل مائة وعشرين بطنًا
في كل بطن ذكر وأنثى أوّلهم قابيل وأخته أقليمًا، وآخرهم
عبد المغيث وأخته أمة المغيث، وقيل: إنه لم يمت حتى رأى من
ذريته من ولده وولد ولده أربعمائة ألف نسمة والله أعلم.
وذكر السدي عن ابن عباس وغيره أنه كان يزوّج ذكر كل بطن
بأنثى الآخر، وأن هابيل أراد أن يتزوج أخت قابيل فأبى
فأمرهما آدم أن يقربا قربانًا فنزلت نار فأكلت قربان هابيل
وتركت قربان قابيل فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تتزوج أختي
فقال: {إنما يتقبل الله من المتقين} [المائدة: 27]. وضربه
فقتله وكانت مدة حياة آدم ألف سنة. وعن عطاء الخراساني مما
رواه ابن جرير أنه لما مات آدم بكت الخلائق عليه سبعة
أيام.
3327 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
جَرِيرٌ عَنْ عُمَارَةَ عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ أَوَّلَ
زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ
لَيْلَةَ الْبَدْرِ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ عَلَى
أَشَدِّ كَوْكَبٍ دُرِّيٍّ فِي السَّمَاءِ إِضَاءَةً، لاَ
يَبُولُونَ وَلاَ يَتَغَوَّطُونَ وَلاَ يَتْفِلُونَ وَلاَ
يَمْتَخِطُونَ، أَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ وَرَشْحُهُمُ
الْمِسْكُ وَمَجَامِرُهُمُ الأَلُوَّةُ، الأَلنْجُوجُ
عُودُ الطِّيبِ، وَأَزْوَاجُهُمُ الْحُورُ الْعِينُ عَلَى
خَلْقِ رَجُلٍ وَاحِدٍ عَلَى صُورَةِ أَبِيهِمْ آدَمَ
سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي مولاهم البلخي
الكوفي قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن عمارة)
بضم العين ابن القعقاع (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير
البجلي الكوفي (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن أول زمرة) أي جماعة (يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة
البدر) في الحسن والإضاءة (ثم الذين يلونهم) وفي باب ما
جاء في صفة الجنة من طريق الأعرج عن أبي هريرة: ثم الذين
على أثرهم (على أشد كوكب دري) بضم الدال وتشديد الراء
والتحتية من غير همز (في السماء إضاءة لا يبولون ولا
يتغوطون ولا يتفلون) بكسر الفاء وفي باب ما جاء في صفة
(5/320)
الجنة ولا يبصقون بالصاد (ولا يمتخطون
أمشاطهم الذهب ورشحهم المسك) أي عرقهم كالمسك في طيب ريحه
(ومجامرهم الألوة) بفتح الهمزة وضم اللام وتشديد الواو وهي
(الأنجوج) بهمزة مفتوحة فنون ساكنة وبعد الجيم المضمومة
واو ساكنة فجيم أخرى، ولأبي ذر: الألنجوج بلام مفتوحة بين
الهمزة والنون وهو (عود الطيب) الذي يبخر به.
فإن قلت: أي حاجة في الجنة إلى الامتشاط ولا تتلبد شعورهم
ولا تتسخ وأي حاجة إلى البخور وريحهم أطيب من المسك؟ أجيب:
بأن نعيم أهل الجنة وكسوتهم ليس عن دفع ألم اعتراهم فليس
أكلهم عن جوع ولا شربهم عن ظمأ ولا تطيبهم عن نتن وإنما هي
لذات متوالية ونعم متتابعة.
(وأزواجهم الحور العين) وهم (على خلق رجل واحد) بفتح الخاء
وسكون اللام (على صورة أبيهم آدم) في الطول (ستون ذرعًا في
السماء) في العلو والارتفاع.
وهذا موضع الترجمة وسبق هذا الحديث في باب: ما جاء في صفة
الجنة.
3328 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ "عَنْ أُمَّ سُلَيْمٍ
قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ
يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ، فَهَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ
الْغُسْلُ إِذَا احْتَلَمَتْ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ
الْمَاءَ. فَضَحِكَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَقَالَتْ:
تَحْتَلِمُ الْمَرْأَةُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَبِمَا يُشْبِهُ
الْوَلَدُ"؟.
وبه قال: (حدّثنا مسدّد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى)
بن سعيد القطان (عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي
سلمة) عبد الله المخزومي (عن أم سلمة) أم المؤمنين -رضي
الله عنها- (أن أم سليم) سهلة والدة أنس بن مالك (قالت: يا
رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق)، قالت ذلك اعتذارًا
عن تصريحها بما تنقبض عنه النفوس البشرية لا سيما بحضرته
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أي أن الله تعالى
بيّن لنا أن الحق ليس مما يستحيا منه وسؤالها هذا كان من
الحق (فهل على المرأة الغسل) بفتح الغين في الفرع كأصله
(إذا احتلمت)؟ وفي باب: إذا احتلمت المرأة من كتاب الغسل
إذا هي احتلمت (قال) عليه الصلاة والسلام:
(نعم). يجب عليها الغسل (إذا رأت الماء) أي المني بعد
استيقاظها من النوم (فضحكت أم سلمة. فقالت: تحتلم المرأة)
بغير همزة والواو (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فبما) بألف بعد الميم مع دخول الجار
وهو قليل (يشبه الولد)؟ أمه. وقال البيضاوي: هذا استدلال
على أن لها منيًّا كما للرجل منيّ والولد مخلوق منهما إذ
لو لم يكن لها ماء وكان الولد من مائه المجرد لم يكن
يشبهها لأن الشبه بسبب ما بينهما من المشاركة في المزاج
الأصلي المعين المعدّ لقبول التشكلات والكيفيات المعينة من
مبدعه تبارك وتعالى، فإن غلب ماء الرجل ماء المرأة وسبق
نزع الولد إلى جانبه ولعله يكون ذكرًا، وإن كان العكس نزع
الولد إلى جانبه ولعله يكون أنثى.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: فبما يشبه الولد؟ وسبق
الحديث في الطهارة.
3329 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا
الْفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه-
قَالَ: "بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ مَقْدَمُ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
الْمَدِينَةَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ
ثَلاَثٍ لاَ يَعْلَمُهُنَّ إِلاَّ نَبِيٌّ، قَالَ مَا
أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ
يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ وَمِنْ أَىِّ شَىْءٍ
يَنْزِعُ الْوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ وَمِنْ أَىِّ شَىْءٍ
يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: خَبَّرَنِي بِهِنَّ
آنِفًا جِبْرِيلُ. قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ
عَدُوُّ الْيَهُودِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَّا
أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ
مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ. وَأَمَّا أَوَّلُ
طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ
حُوتٍ وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الْوَلَدِ فَإِنَّ الرَّجُلَ
إِذَا غَشِيَ الْمَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ
الشَّبَهُ به، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ
لَهَا. قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ. ثُمَّ
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ
بُهُتٌ، إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلاَمِي قَبْلَ أَنْ
تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ. فَجَاءَتِ الْيَهُودُ،
وَدَخَلَ عَبْدُ اللَّهِ الْبَيْتَ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّ
رَجُلٍ فِيكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ؟ قَالُوا:
أَعْلَمُنَا وَابْنُ أَعْلَمِنَا، وَأَخْبَرُنَا وَابْنُ
أَخْيَرِنَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَفَرَأَيْتُمْ إِنْ أَسْلَمَ عَبْدُ
اللَّهِ؟ قَالُوا: أَعَاذَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ.
فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَقَالَ: أَشْهَدُ
أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ. فَقَالُوا: شَرُّنَا وَابْنُ
شَرِّنَا. وَوَقَعُوا فِيهِ". [الحديث 3329 - أطرافه في:
3911، 3938، 4480].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سلام) بتخفيف اللام السلمي
مولاهم البيكندي قال: (أخبرنا الفزاري) بفتح الفاء والزاي
مروان بن معاوية بن الحرث بن أسماء الكوفي نزيل مكة (عن
حميد) الطويل (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: بلغ عبد
الله بن سلام) بتخفيف اللام الإسرائيلي وعبد الله نصب
بقوله (مقدم) وهو رفع على الفاعلية مصدر ميمي بمعنى القدوم
(رسول الله) ولأبي ذر: النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- المدينة) نصب على الظرفية (فأتاه فقال: إني
سائلك عن ثلاث) من المسائل (لا يعلمهن إلاّ نبي. أوّل)
ولأبي ذر قال: قال ما أوّل (أشراط الساعة) أي علاماتها
(وما أول طعم يأكله أهل الجنة) فيها (ومن أي شيء ينزع
الولد إلى أبيه) أي يشبه أباه (ومن أي شيء ينزع إلى
أخواله) يشبههم (فقال رسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(خبرني) بتشديد الموحدة (بهن) بالمسائل المذكورة (آنفًا
جبريل) عليه السلام (قال) أنس (فقال عبد الله) بن سلام
(ذاك) يعني جبريل (عدو اليهود من الملائكة، فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مجيبًا له: (أما أول
أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما
أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت) وهي القطعة
المنفردة المتعلقة بالكبد وهي أطيبها وهي في غاية اللذة،
وقيل هي أهنأ طعام وأمرؤه، وقيل: إن الحوت هو الذي عليه
الأرض والإشارة بذلك إلى نفاد الدنيا. (وأما الشبه في
الولد فإن الرجل
(5/321)
إذا غشي المرأة) أي جامعها (فسبقها ماؤه
كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها) ضبب على قوله ماؤها في
الفرع، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: استبقت بهمزة وصل
وتسكين السين المهملة وفوقية مفتوحة وبعد القاف تاء تأنيث،
ولأبي ذر عن الكشميهني سبقت بفتح السين وإسقاط الألف
والفوقية (كان الشبه لها) وفي حديث عائشة عن مسلم: إذا علا
ماء الرجل ماء المرأة أشبه أعمامه وإذا علا ماء المرأة ماء
الرجل أشبه أخواله، والمراد بالعلو هنا السبق فقد علا شأنه
فهو علو معنوي، وقيل غير ذلك مما يأتي إن شاء الله تعالى
بعونه وكرمه قبيل كتاب المغازي.
(قال) ابن سلام: (أشهد أنك رسول الله. ثم قال: يا رسول
الله وإن اليهود قوم بُهت) بضم الموحدة وسكون الهاء وتضم
جمع بهيت كقضيب وقضب وهو الذي تبهت العقول له بما يفتريه
من الكذب أي كذابون ممارون لا يرجعون إلى الحق (إن علموا
بإسلامي قبل أن تسألهم) عني (بهتوني) كذبوا علّي (عندك
فجاءت اليهود) إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (ودخل عبد الله) بن سلام (البيت، فقال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لليهود: (أي
رجل فيكم عبد الله بن سلام؟ قالوا: أعلمنا وابن أعلمنا
وأخيرنا وابن أخيرنا) أفعل تفضيل من الخير وفيه استعمال
أفعل التفضيل بلفظ الأخير، ولغير أبي ذر أخبرنا وابن
أخيرنا بالموحدة في الأولى من الخبرة وبالتحتية في
الثانية، (فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-): (أفرأيتم) أي أخبرني (إن أسلم عبد الله)؟
تسلموا (قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عبد الله) من
البيت (إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن
محمدًا رسول الله. فقالوا: شرّنا وابن شرّنا ووقعوا فيه).
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: وأما الشبه لأن الترجمة
في خلق آدم وذريته.
3330 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَهُ، يَعْنِي: «لَوْلاَ
بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ
حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى زَوْجَهَا».
وبه قال: (حدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة وسكون المعجمة
المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال:
(أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن همام) هو ابن منبه (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- نحوه) فيه حذف قيل لعله روي قبل هذا عن محمد بن
رافع عن عبد الرزاق عن معمر عن همام عن أبي هريرة عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لولا بنو إسرائيل لم
يخبث الطعام ولم يخنز اللحم ولولا حواء لم تخن أنثى زوجها
الدهر، ثم رواه عن بشر بن محمد عن عبد الله عن معمر عن
همام عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ثم قال نحوه أي نحو الحديث المذكور ثم فسر ذلك
بقوله:
(يعني لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم) بخاء معجمة ساكنة
فنون مفتوحة فزاي لم ينتن وأصل ذلك فيما روي عن قتادة أنس
بني إسرائيل ادّخروا لحم السلوى وكانوا نهوا عن ذلك
فعوقبوا بذلك فاستمر نتن اللحم من ذلك الوقت. (ولولا حواء)
بالهمزة ممدودًا (لم تخن أنثى زوجها) حيث زينت لزوجها آدم
عليه السلام الأكل من الشجرة فسرى في أولادها مثل ذلك فلا
تكاد امرأة تسلم من خيانة زوجها بالفعل أو القول.
3331 - حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ وَمُوسَى بْنُ حِزَامٍ
قَالاَ: حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ
عَنْ مَيْسَرَةَ الأَشْجَعِيِّ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
"اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ خُلِقَتْ
مِنْ ضِلَعٍ، وَإِنَّ أَعْوَجَ شَىْءٍ فِي الضِّلَعِ
أَعْلاَهُ، فَإِنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وَإِنْ
تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أَعْوَجَ، فَاسْتَوْصُوا
بِالنِّسَاءِ". [الحديث 3331 - طرفاه في: 5184، 5186].
وبه قال: (حدّثنا أبو كريب) بضم الكاف مصغرًا محمد بن
العلاء (وموسى بن حزام) بالحاء المهملة المكسورة والزاي
الترمذي العابد (قالا: حدّثنا حسين بن عليّ) بضم الحاء
وفتح السين مصغرًا ابن الوليد الجعفي (عن زائدة) بن قدامة
الثقفي (عن ميسرة) ضد الميمنة ابن عمار (الأشجعي) بالشين
المعجمة (عن أبي حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمان
الأشجعي الغطفاني (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(استوصوا) قال البيضاوي: الاستيصاء قبول الوصية والمعنى
أوصيكم (بالنساء) خيرًا وقال الطيبي: الأظهر أن السين
للطلب مبالغة أي اطلبوا الوصية من أنفسكم في حقهن بخير كما
في
قوله تعالى: {وكانوا من قبل يستفتحون} [البقرة: 89]. قال
في الكشاف: السين للمبالغة أي يسألون أنفسهم الفتح عليهم
كالسين في استعجب ويجوز أن يكون الخطاب العام أي يستوصي
بعضكم من بعض في حق النساه، (فإن المرأة خلقت من ضلع) أي
أعوج بكسر الضاد المعجمة وفتح اللام وتسكن
(5/322)
واحد الأضلاع استعير للعوج صورة أو معنى أي
فلا يتهيأ الانتفاع بها إلا بمداراتها والصبر على
اعوجاجها، وقيل: أراد به أن أول النساء حواء أخرجت من ضلع
آدم الأيسر، وقيل من القصيرى كما تخرج النخلة من النواة
وجعل مكانها لحم، وهذا مروي عن ابن عباس فيما رواه ابن
إسحاق في المبتدأ بلفظ: إن حواء خلقت من ضلع آدم الأقصر
الأيسر وهو نائم، وكأن المعنى أن النساء خلقن من أصل خلق
من شيء معوج، وقوله: أعوج هو أفعل التفضيل فاستعماله في
العيوب شاذ، وإنما يمتنع عند الالتباس بالصفة فإذا تميز
عنه بالقرينة جاز.
(وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه) ذكره تأكيدًا لمعنى الكسر
أو إشارة إلى أنها خلقت من أعوج أجزاء الضلع مبالغة في
إثبات هذه الصفة لهن أو ضرب مثلاً لأعلى المرأة لأن أعلاها
رأسها وفيه لسانها، وهو الذي يحصل منه الأذى. والأصل
التعبير بأعلاها لأن الضلع مؤنثة، وإنما أعاد الضمير
مذكرًا على تأويله بالعضو، وقول الزركشي: تأنيثه غير حقيقي
فلذا جاز التذكير، تعقبه في المصابيح فقال: هذا غلط لأن
معاملة المؤنث غير الحقيقي معاملة المذكر إنما هو بالنسبة
إلى ظاهره إذا أسند إليه مثل طلع الشمس، وأما مضمره فحكمه
حكم المؤنث الحقيقي في وجوب التأنيث تقول: الشمس طلعت وهي
طالعة ولا تقول طلع وهو طالع. نعم قد يؤول في بعض المواضع
بالمذكر فينزل منزلته مثل:
فلا مزنة ودقت ودقها ... ولا أرض أبقل أبقالها
فأول الأرض بالمكان فذكّر وكذا ما نحن فيه.
(فإن ذهبت تقيمه كسرته وإن تركته) أي وإن لم تقمه (لم يزل
أعوج) فلا يقبل الإقامة وهذا ضرب مثل لما في أخلاق النساء
من الاعوجاج فإن أريد منهن الاستقامة ربما أفضى ذلك إلى
الطلاق. وفي مسلم من حديث أبي هريرة: إن ذهبت تقيمها
كسرتها وكسرها طلاقها، (فاستوصوا بالنساء) أيها الرجال.
وفي الحديث الندب إلى المداراة لاستمالة النفوس وتألف
القلوب وفيه سياسة النساء بأخذ العفو عنهن والصبر على
عوجهن فإن من رام تقويمهن فاته الانتفاع بهن مع أنه لا غنى
للإنسان عن امرأة يسكن إليها ويستعين بها على معاشه. وفي
صحيح ابن حبان مرفوعًا من حديث أبي هريرة: إن المرأة خلقت
من ضلع أعوج فإن أقمتها كسرتها فدارها تعش بها.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في النكاح وعشرة النساء ومسلم في
النكاح.
3332 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ: "حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهْوَ الصَّادِقُ
الْمَصْدُوقُ: إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ فِي بَطْنِ
أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ
يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً
مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَبْعَثُ اللَّهُ إِلَيْهِ مَلَكًا
بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَجَلُهُ،
وَرِزْقُهُ، وَشَقِيٌّ أَم سَعِيدٌ. ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ
الرُّوحُ. فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ
النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ
ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ
بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلُ الْجَنَّةَ،
وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ
حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ،
فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ
أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُ النَّارَ».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال: (حدّثنا أبي) حفص بن
غياث بن طلق قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران قال:
(حدّثنا زيد بن وهب) الجهني قال: (حدّثنا عبد الله) بن
مسعود -رضي الله عنه- قال: (حدّثنا رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو الصادق) في قوله
(المصدوق) فيما وعده به الله عز وجل.
(إن أحدكم) بكسر همزة إن في الفرع كأصله على معنى حدّثنا
فقال: إن أحدكم أو إن وما بعدها محكيان بحدّثنا على ما عرف
من مذهبهم في جواز الحكاية بما فيه من معنى القول لا
حروفه، وقول أبي البقاء: لا يجوز إلا الفتح لأن قبله
حدّثنا منقوص بما ذكر، ولأبي ذر عن الكشميهني: وإن خلق
أحدكم (يجمع) بضم أوله وسكون ثانيه مبنيًّا للمفعول أي يضم
(في بطن أمه أربعين يومًا) بلياليها بعد الانتشار، وزاد
أبو عوانة نطفة، فبين أن الذي يجمع هو النطفة وهو المني،
وذلك أن ماء الرجل إذا لاقى ماء المرأة بالجماع وأراد الله
أن يخلق من ذلك الجنين هيّأ أسباب ذلك لأن في رحم المرأة
قوتين قوة انبساط عند ورود مني الرجل حتى ينتشر في جسد
المرأة وقوة انقباض بحيث لا يسيل من فرجها مع كونه
منكوسًا، ومع كون المني ثقيلاً بطبعه وفي مني الرجل قوة
الفعل وفي مني المرأة قوة الانفعال فعند الامتزاج يصير مني
الرجل كالأنفحة للبن. وفي النهاية يجوز أن يريد بالجمع مكث
النطفة في الرحم لتتخمر فيه حتى تتهيأ للتصوير (ثم يكون)
أي يصير (علقة) دمًا غليطًا جامدًا (مثل ذلك) الزمان،
والمعنى أنها تصير بتلك الصفة مدة الأربعين (ثم يكون)
(5/323)
يصير (مضغة) قطعة لحم سميت بذلك لأنها بقدر
ما يمضعه الماضغ (مثل ذلك) الزمان (ثم يبعث الله إليه) في
الطور الرابع حتى يتكامل بنيانه وتتشكل أعضاؤه (ملكًا) وهو
الموكّل بالرحم أي يأمره (بأربع كلمات) يكتبها من القضايا
المقدرة في الأزل (فيكتب) الملك الكتابة المعهودة في صحيفة
أو بين عينيه (عمله) هل هو صالح أو فاسد (وأجله) أهو طويل
أو قصير (ورزقه) أهو حلال أو حرام قليل أو كثير والثلاثة
نصب بيكتب ولأبي ذر فيكتب بضم التحتية وفتح الفوقية
مبنيًّا للمفعول عمله وأجله ورزقه يرفع الثلاثة على
النيابة عن الفاعل (و) هو (شقي) باعتبار ما يختم له (أم
سعيد) باعتبار ما يختم له. كما دل عليه الحديث، والمراد أن
الملك يكتب إحدى الكلمتين كأن يكتب مثلاً عمل هذا الجنين
صالح وأجله ثمانون سنة ورزقه حلال وهو سعيد. قال الحافظ
ابن حجر: وحديث ابن مسعود بجميع طرقه يدل على أن الجنين
يتقلب في مائة وعشرين يومًا في ثلاثة أطوار كل طور منها في
أربعين (ثم) بعد تمامها (ينفخ فيه الروح
فإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار) من المعاصي والباء زائدة
والأصل يعمل عمل أهل النار لأن قوله عمل إما مفعول مطلق أو
مفعول به وكلاهما مستغن عن الحرف فزيادة الباء للتأكيد أو
ضمن يعمل معنى يتلبس في عمله بعمل أهل النار (حتى ما يكون)
رفع على أن حتى ابتدائية ويجوز النصب بحتى وما نافية غير
مانعة لها من العمل (بينه وبينها) أي النار (إلاّ ذراع)
تمثيل بقرب حالة الموت وضابط الحسي الغرغرة التي جعلت
علامة لعدم قبول التوبة (فيسبق عليه الكتاب) الذي كتبه
الملك عليه وهو في بطن أمه عقب ذلك من غير مهلة (فيعمل
بعمل أهل الجنة) عند ذلك (فيدخل الجنة) وموضع عليه نصب على
الحال أي يسبق المكتوب واقعًا عليه. والمراد بسبق الكتاب
سبق ما تضمنه على حذف مضاف أو المراد المكتوب، والمعنى أنه
يتعارض عمله في اقتضاء الشقاوة والمكتوب في اقتضاء السعادة
فيتحقق مقتضى المكتوب فعبّر عن ذلك بالسبق لأن السابق يحصل
مراده دون المسبوق.
(وأن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة) من الطاعات (حتى ما يكون
بينه وبينها إلاّ ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل
النار فيدخل النار). وفي الحديث إن الأعمال حسنها وسيئها
إمارات وليست بموجبات، وإن مصير الأمور في العاقبة إلى ما
سبق به القضاء وجرى به القدر في الابتداء إلى غير ذلك مما
يتعلق بالأصول والفروع مما يأتي إن شاء الله تعالى الإلمام
بشيء منه في القدر بعون الله تعالى.
3333 - حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ
بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ
أَنَسٍ بْنِ مَالِك عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله
عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ فِي الرَّحِمِ مَلَكًا
فَيَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ يَا
رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْلُقَهَا قَالَ:
يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ يَا رَبِّ شَقِيٌّ أَمْ
سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ؟ فَمَا الأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ
كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو النعمان) محمد بن الفضل السدوسي قال:
(حدّثنا حماد بن زيد) اسم جده درهم الأزدي الجهضمي (عن
عبيد الله) بضم العين مصغرًا (ابن أبي بكر بن أنس) أبي
معاذ (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إن الله وكّل) بتشديد الكاف (في الرحم ملكًا فيقول) عند
وقوع النطفة التماسًّا لإتمام الخلقة (يا رب) بحذف ياء
المتكلم هذه (نطفة) أي مني (يا رب) هذه (علقة) قطعة من دم
جامدة (يا رب) هذه (مضغة) قطعة لحم مقدار ما يمضع وفائدة
ذلك أنه يستفهم هل يتكوّن منها أم لا؟ (فإذا أراد) سبحانه
وتعالى (أن يخلقها قال) الملك: (يا رب أذكر) هو (يا رب) هو
(أنثى يا رب) هو (شقي) عاص لك (أم سعيد) مطيع لك (فما
الرزق) الذي يعيش به (فما الأجل)؟ أي مدة حياته إلى وقت
موته (فيكتب كذلك) بضم التحتية وفتح الفوقية مبنيًا
للمفعول (في بطن أمه). ظرف ليكتب.
وهذا الحديث سبق في الحيض.
3334 - حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا خَالِدُ
بْنُ الْحرثِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ
الْجَوْنِيِّ عَنْ أَنَسٍ يَرْفَعُهُ: «إِنَّ اللَّهَ
يَقُولُ لأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ أَنَّ
لَكَ مَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَىْءٍ كُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟
قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقَدْ سَأَلْتُكَ مَا هُوَ
أَهْوَنُ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلْبِ آدَمَ: أَنْ لاَ
تُشْرِكَ بِي. فَأَبَيْتَ إِلاَّ الشِّرْكَ». [الحديث 3334
- طرفاه في: 6538، 6557].
وبه قال: (حدّثنا قيس بن حفص) الدارمي البصري قال: (حدّثنا
خالد بن الحرث) الهجيمي البصري قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن أبي عمران) عبد الملك بن حبيب (الجوني) بفتح
الجيم بعد الواو الساكنة نون (عن أنس يرفعه) إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(إن الله) عز وجل (يقول) يوم القيامة (لأهون أهل النار
عذابًا) قيل هو أبو طالب (لو أن لك ما في الأرض من شيء كنت
تفتدي به) بالفاء من الافتداء
(5/324)
وهو خلاص نفسه مما وقع فيه بدفع ما يملكه
(قال: نعم. قال) الله تعالى (فقد سألتك ما هو أهون من هذا
وأنت في صلب آدم) حين أخذت الميثاق (أن لا تشرك بي فأبيت)
إذ أخرجتك إلى الدنيا. (إلا الشرك).
هذا الحديث أخرجه أيضًا في صفة الجنة والنار أواخر الرقاق
ومسلم في التوبة.
3335 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لاَ تُقْتَلُ
نَفْسٌ ظُلْمًا إِلاَّ كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ
كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا، لأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ
الْقَتْلَ». [الحديث 3335 - طرفاه في: 6867، 7321].
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) النخعي الكوفي قال:
(حدّثنا أبي) حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان (قال:
حدثني) بالإفراد (عبد الله بن مرّة) بضم الميم وتشديد
الراء (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن عبد الله) هو ابن
مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لا تقتل نفس) بضم الفوقية الأولى وفتح الثانية مبنيًا
للمفعول من بني آدم (ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول)
قابيل حيث قتل أخاه هابيل (كفل) بكسر الكاف وإسكان الفاء
نصيب (من دمها لأنه أول من سنّ القتل) على وجه الأرض من
بني آدم.
ومطابقة الحديث للترجمة من حيث إن القاتل قابيل ولد آدم من
صلبه فهو داخل في لفظ الذرية في الترجمة، والحديث أخرجه
أيضًا في الدّيات والاعتصام، ومسلم في الحدود، والترمذي في
العلم، والنسائي في التفسير، وابن ماجه في الدّيات.
2 - باب الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه (الأرواح جنود مجندة)
ومناسبته لسابقه من حيث إن بني آدم مركبة من الأجساد
والأرواح.
3336 - قَالَ: وقَالَ اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ
عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ:
«سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا
تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا
اخْتَلَفَ».
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ: حَدَّثَنِي يَحْيَى بْنُ
سَعِيدٍ بِهَذَا.
(قال) أي المؤلّف فيما وصله في الأدب المفرد عن عبد الله
بن صالح. (وقال الليث) بن سعد الإمام (عن يحيى بن سعيد)
الأنصاري (عن عمرة) بنت عبد الرَّحمن (عن عائشة -رضي الله
عنها-) أنها (قالت: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(الأرواح) التي يقوم بها الجسد وتكون بها الحياة (جنود
مجندة) أي جموع مجمعة وأنواع مختلفة (فما تعارف منها)
توافق في الصفات وتناسب في الأخلاق (ائتلف وما تناكر منها)
لم يوافق ولم يناسب (اختلف). والمراد الإخبار عن مبدأ كون
الأرواح وتقدمها الأجساد أي أنها خلقت أول خلقتها على
قسمين من ائتلاف واختلاف إذا تقابلت وتواجهت، ومعنى
تقابلها ما جعله الله عليها من السعادة والشقاوة والأخلاق
في مبدأ الخلق، فإذا تلاقت الأجساد التي فيها الأرواح في
الدنيا ائتلفت على حسب ما خلقت عليه، ولذا ترى الخيّر يحب
الأخيار ويميل إليهم، والشرّير يحب الأشرار ويميل إليهم.
وقال الطيبي: الفاء في فما تعارف للتعقيب أتبعت المجمل
بالتفصيل فدلّ قوله: ما تعارف على تقدّم اختلاط في الأزل
ثم تفرق بعد ذلك في أزمنة متطاولة ثم ائتلاف بعد التعارف
كمن فقد أنيسه وإلفه ثم اتصل به، وهذا التعارف إلهامات
يقذفها الله تعالى في قلوب العباد من غير إشعار منهم
بالسابقة.
وفي حديث ابن مسعود عند العسكري مرفوعًا "الأرواح جنود
مجندة تلتقي فتشامّ كما تشامّ الخيل فما تعارت منها ائتلف
وما تناكر منها اختلف، فلو أن رجلاً مؤمنًا جاء إلى مجلس
فيه مائة منافق وليس فيه إلا مؤمن واحد لجاء حتى يجلس
إليه، ولو أن منافقًا جاء إلى مجلس فيه مائة مؤمن وليس فيه
إلا منافق واحد لجاء حتى يجلس إليه".
وللديلمي بلا سند عن معاذ بن جبل مرفوعًا: "لو أن رجلاً
دخل مدينة فيها ألف منافق ومؤمن واحد لشم روحه روح ذلك
المؤمن وعكسه".
ولأبي نعيم في الحلية في ترجمة أويس أنه لما اجتمع به هرم
بن حيان العبدي ولم يكن لقيه
وخاطبه أويس باسمه قال له هرم: من أين عرفت اسمي واسم أبي
فوالله ما رأيتك ولا رأيتني؟ قال: عرفت روحي روحك حين كلمت
نفسي نفسك، وإن المؤمنين يتعارفون بروح الله وإن نأت بهم
الدار. وقال بعضهم: أقرب القرب مودة القلوب وإن تباعدت
الأجسام، وأبعد العبد تنافر التداني. ولبعضهم:
إن القلوب لأجناد مجندة ... قول الرسول فمن ذا فيه يختلف
فما تعارف منها فهو مؤتلف ... وما تناكر منها فهو مختلف
والآخر:
بيني وبينك في المحبة نسبة ... مستورة في سرّ هذا العالم
(5/325)
نحن الذين تحاببت أرواحنا ... من قبل خلق
الله طينة آدم
وهذا الحديث أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة في الأدب.
(وقال يحيى بن أيوب) الغافقي البصري مما وصله الإسماعيلي
(حدثني) بالإفراد (يحيى بن سعيد) الأنصاري (بهذا) الحديث
السابق وليس يحيى بن أيوب من شرط المؤلّف فلذا أخرج له في
الاستشهاد، وأورده من الطريقين بلا إسناد فصار أقوى مما لو
ساقه بإسناده قاله الإسماعيلي. قال ابن حجر: ويشهد للمتن
حديث أبي هريرة عند مسلم.
3 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ
أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} [هود: 25]
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {بَادِئَ الرَّأْيِ}: مَا ظَهَرَ
لَنَا. {أَقْلِعِي}: أَمْسِكِي. {وَفَارَ التَّنُّورُ}:
نَبَعَ الْمَاءُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: وَجْهُ الأَرْضِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ {الْجُودِيُّ}: جَبَلٌ بِالْجَزِيرَةِ.
{دَأْبٌ}: مِثْلُ حَالٌ.
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ
قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
إِلَى آخِرِ السُّورَةِ [نوح: 1 - 28]. {وَاتْلُ
عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ
إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي
بِآيَاتِ اللَّهِ} -إِلَى قَوْلِهِ- {مِنَ
الْمُسْلِمِينَ}.
(باب) قول الله عز وجل ({ولقد}) جواب قسم محذوف تقديره
والله لقد ({أرسلنا}) أي بعثنا ({نوحًا إلى قومه})
[الأعراف: 59] وهو ابن خمسين سنة. وقال مقاتل: ابن مائة
سنة، وعند ابن جرير ثلاثمائة وخمسين سنة. وقال ابن عباس:
سمي نوحًا لكثرة نوحه على نفسه، واختلف في سبب نوحه فقيل
لدعوته على قومه بالهلاك، وقيل لمراجعته ربه في شأن ابنه
كنعان وهو نوح بن لامك بن متوشلح بن اخنوخ وهو إدريس وهو
أول نبي بعثه الله بعد إدريس، وقال القرطبي: أوّل نبي بعثه
الله بعد آدم بتحريم البنات والعمات والخالات، وكان مولده
فيما ذكره
ابن جرير بعد وفاة آدم بمائة وستة وعشرين عامًا ومات وعمره
ألف سنة وأربعمائة سنة ودفن بالمسجد الحرام، وقيل غير ذلك.
وعن أبي أمامة أن رجلاً قال: يا رسول الله أنبي كان آدم؟
قال: (نعم). قال: فكم كان بينه وبين نوح؟ قال: "عشرة
قرون". رواه ابن حبان وصححه. قال ابن كثير: وهو على شرط
مسلم ولم يخرجوه.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما رواه ابن أبي حاتم
في قوله تعالى: ({بادي الرأي}) [هود: 27] أي (ما ظهر لنا).
من غير روية وتأمل بل من أوّل وهلة. ({أقلعي}) قال ابن
عباس أي (أمسكي) ومنه اقلعت الحمى وهذا مجاز لأنها موات،
وقيل جعل فيها ما تميز به والذي قال إنه مجاز قال لو فتش
كلام العرب والعجم ما وجد فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها
وبلاغة وصفها واشتمال المعاني فيها ({وفار التنور}) [هود:
40] قال ابن عباس فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن
طلحة أي (نبع الماء) فيه وارتفع كالقدر يفور، والتنور أشرف
موضع في الأرض وأعلاه أو التنور الذي يخبز فيه ابتدأ منه
النبوع على خرق العادة، وكان في الكوفة في موضع مسجدها أو
في الهند قيل: وكان من حجارة كانت حوّاء تخبز فيه فصار إلى
نوح.
(وقال عكرمة) مولى ابن عباس فيما وصله ابن جرير: التنور
(وجه الأرض) وهو قول الزهري أيضًا. (وقال مجاهد) فيما وصله
ابن أبي حاتم ({الجودي}) في قوله تعالى: {واستوت على
الجوديّ} [هود: 44] هو (جبل بالجزيرة) المعروفة بابن عمر
في الشرق فيما بين دجلة والفرات وزاد ابن أبي حاتم تشامخت
الجبال يوم الغرق وتواضع هو لله تعالى فلم يغرق وأرسيت
عليه سفينة نوح، وروي أنه ركب السفينة عاشر رجب ونزل عاشر
المحرم فصام ذلك اليوم وصار سنة، وذكر ابن جرير وغيره أن
الطوفان كان في ثالث عشر آب في شدة القيظ.
وقد روي أن نوحًا لما يئس من صلاح قومه دعا عليهم دعوة غضب
الله عليهم فلبى دعوته وأجاب طلبته قال تعالى: {ولقد
نادانا نوح فلنعم المجيبون} [الصافات: 75] وأمره أن يغرس
شجرًا ليعمل منه السفينة فغرسه وانتظره مائة سنة ثم نجره
في مائة سنة أخرى وأمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعًاً
وعرضها خمسين ذراعًا. وقال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع
في عرض خمسين. وقال الحسن البصري: ستمائة في عرض ثلاثمائة.
وعن ابن عباس ألف ومائتا ذراع في عرض ستمائة. وكانت ثلاث
طبقات كل واحد عشرة أذرع، فالسفلى للدواب والوحوش والوسطى
للناس والعليا للطيور وكان لها غطاء من فوقها مطبق عليها،
وفتحت أبواب السماء بماء منهمر وفجرت الأرض عيونًا، وأمره
الله تعالى أن يحمل في السفينة من كل زوجين اثنين من
الحيوانات وسائر ما له روح من المأكولات وغيرها لبقاء
نسلها ومن آمن ومن أهل بيته إلا من كان كافرًا، وارتفع
الماء على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعًاً، وقيل:
ثمانين ذراعًاً، وعم الأرض
(5/326)
كلها طولها وعرضها ولم يبق على وجه الأرض
أحد واستجاب الله دعوته حيث قال: {رب لا تذر على الأرض من
الكافرين ديارًا} فلم تبق منهم عين تطرف وهذا كما قاله
الحافظ
عماد الدين بن كثير يردّ على من زعم من المفسرين وغيرهم أن
عوج بن عنق ويقال ابن عناق كان موجودًا من قبل نوح وإلى
زمان موسى، ويقولون: كان كافرًا متمرّدًا جبارًا عنيدًا،
ويقولون عنق أمه بنت آدم من زنا لأنه كان يأخذ لطوله السمك
من قرار البحر ويشويه في عين الشمس، وإنه كان يقول لنوح
وهو في السفينة ما هذه القصعة التي بك ويستهزئ به، ويذكرون
أن طوله كان ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثًا وثلاثين
ذراع إلى غير ذلك من الهذيانات التي لولا أنها مسطرة في
كثير من كتب التفاسير وغيرها من التواريخ وغيرها من أيام
الناس لما تعرضنا لحكايتها لسقاطتها وركاكتها ثم انها
مخالفة للمعقول والمنقول.
أما المعقول: فكيف يسوغ أن الله يهلك ولد نوح لكفره وأبوه
نبي الأمة وزعيم أهل الإيمان ولا يهلك عوج بن عنق وهو أظلم
وأطعن على ما ذكروا ولا يرحم منهم أحدًا ويترك هذا الجبار
العنيد، الفاجر الشديد، الكافر الشيطان المريد على ما
ذكروا.
وأما المنقول فقال الله تعالى: {ثم أغرقنا الآخرين}
[الشعراء: 66] وقال: {رب لا تذر على الأرض من الكافرين
ديارًا} [نوح: 26] ثم هذا الطول الذي ذكروا مخالف لما في
الصحيحين عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أن الله تعالى خلق آدم طوله ستون ذراعًاً ثم لم
يزل الخلق ينقص حتى الآن، فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم
الذي لا ينطق عن الهوى وإن هو إلا وحي يوحى أنه لم يزل
ينقص حتى الآن أي لم يزل الناس في نقصان طولهم من آدم إلى
يوم إخباره وهلم جرًّا إلى يوم القيامة، وهذا يقتضي أنه لم
يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه، وكيف يترك ويصار إلى
قول الكذبة الكفرة من أهل الكتاب الذين بدّلوا كتب الله
المنزلة وحرّفوها وأوّلوها ووضعوها على غير مواضعها عليهم
لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، وما أظن هذا الخبر
عن عوج بن عنق إلاّ اختلاقًا من بعض زنادقتهم وكفارهم
الذين كانوا أعداء الأنبياء والله أعلم.
({دأب}) في قوله تعالى: {مثل دأب قوم نوح} [غافر: 32] قال
مجاهد فيما وصله الفريايى هو (مثل حال). ولأبي ذر وابن
عساكر: دأب حال فأسقط لفظ مثل ({واتل عليهم نبأ نوح}) أي
خبره مع قومه ({إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم})
عظم وشق عليكم ({مقامي}) أي إقامتي بينكم مدة مديدة ألف
سنة إلا خمسين عامًا أو قيامي على الدعوة ({وتذكيري})
إياكم ({بآيات الله}) بحججه (إلى قوله {من المسلمين})
[يونس: 71] أي المنقادين لحكمه، وهذه الآية ثبتت في الفرع
وعليها رقم أبي ذر وابن عساكر.
(باب قول الله تعالى): سقط هذا لأبي ذر وابن عساكر ({إنّا
أرسلنا نوحًا إلى قومه أن أنذر}) أي بأن أنذر أي بالإنذار
أو بأن قلنا له أنذر ({قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم})
[نوح: 1] عذاب الآخرة أو الطوفان (إلى آخر السورة) وسقط
لأبي ذر من قوله (أن أنذر) إلى قوله {أليم}.
3337 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
عَنْ يُونُسَ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ سَالِمٌ: وَقَالَ
ابْنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما-: «قَامَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّاسِ
فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ
ذَكَرَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: إِنِّي لأُنْذِرُكُمُوهُ،
وَمَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَنْذَرَهُ قَوْمَهُ، لَقَدْ
أَنْذَرَ نُوحٌ قَوْمَهُ، وَلَكِنِّي أَقُولُ لَكُمْ فِيهِ
قَوْلاً لَمْ يَقُلْهُ نَبِيٌّ لِقَوْمِهِ: تَعْلَمُونَ
أَنَّهُ أَعْوَرُ، وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) هو لقب عبد الله بن عثمان العتكي
مولاهم المروزي (قال: أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي
(عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن
شهاب أنه قال (قال سالم): هو ابن عبد الله بن عمر (وقال
ابن عمر -رضي الله عنهما-: قام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الناس فأثنى على الله بما هو أهله
ثم ذكر الدجال) بتشديد الجيم بوزن فعال من أبنية المبالغة
الكثير الكذب وهو من الدجل وهو الخلط والتلبيس والتمويه
(فقال):
(إني لأنذركموه) أخوّفكموه والجملة مؤكدة بأن واللام
وكونها اسمية (وما من نبي إلا أنذره قومه لقد أنذر نوح
قومه) خصه بعد التعميم لأنه أوّل نبي أنذر قومه أو أوّل
مشرع من الرسل أو أبو البشر الثاني وذريته هم الباقون في
الدنيا لا غيرهم (ولكني أقول لكم فيه) سقط لفظ لكم لابن
عساكر (قولا لم يقله نبي لقومه) مبالغة في التحذير (تعلمون
أنه) أي الدجال (أعور) عين اليمنى أو اليسرى (وإن الله) عز
وجل
(5/327)
(ليس بأعور). تعالى الله عن كل نقص وجل عن
أن يشبه بالمحدثات.
3338 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ
عَنْ يَحْيَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سَمِعْتُ أَبَا
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلاَ
أُحَدِّثُكُمْ حَدِيثًا عَنِ الدَّجَّالِ مَا حَدَّثَ بِهِ
نَبِيٌّ قَوْمَهُ: إِنَّهُ أَعْوَرُ، وَإِنَّهُ يَجِيءُ
مَعَهُ بِمِثَالِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَالَّتِي
يَقُولُ إِنَّهَا الْجَنَّةُ هِيَ النَّارُ، وَإِنِّي
أُنْذِرُكُمْ كَمَا أَنْذَرَ بِهِ نُوحٌ قَوْمَهُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا
شيبان) بفتح الشين المعجمة وبعد التحتية الساكنة موحدة
مفتوحة ابن عبد الرحمن النحوي (عن يحيى) بن أبي كثير (عن
أبي سلمة) بن عبد الرَّحمن بن عوف أنه قال: (سمعت أبا
هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ألا) بالتخفيف (أحدثكم حديثًا عن الدجال ما حدّث به نبي
قومه: إنه) أي الدجال (أعور وإنه يجيء معه) إذا ظهر (بمثال
الجنة و) مثال (النار) ولابن عساكر: معه تمثال بمثناة
مكسورة بدل الموحدة أي صورة الجنة والنار يبتلي الله تعالى
به عباده بما أقدره عليه من مقدوراته كإحياء الميت الذي
يقتله وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت
بقدرة الله تعالى ومشيئته، ثم يعجزه الله تعالى فلا يقدر
على قتل ذلك الرجل ولا غيره فيقتله عيسى عليه السلام
(فالتي يقول إنها الجنة هي النار) وبالعكس (وإني) بالواو
أو لابن عساكر فإني (أنذركم) أخوّفكم منه (كما أنذر به نوح
قومه). وكذا غيره من الأنبياء كما مرّ، وذلك لأن فتنته
عظيمة جدًا تدهش العقول وتحير
الألباب مع سرعة مروره في الأرض فلا يمكث بحيث يتأمل
الضعفاء دلائل الحدوث والنقص فيصدقون بصدقه في هذه الحالة،
فلذا حذرت الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قومهم من فتنته
ونبهوا عليه.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الفتن.
3339 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ زِيَادٍ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ
عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«يَجِيءُ نُوحٌ وَأُمَّتُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَىْ رَبِّ. فَيَقُولُ
لأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ، مَا
جَاءَنَا مِنْ نَبِيٍّ. فَيَقُولُ لِنُوحٍ مَنْ يَشْهَدُ
لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَأُمَّتُهُ، فَنَشْهَدُ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ،
وَهْوَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ
عَلَى النَّاسِ} [البقرة: 143] وَالْوَسَطُ الْعَدْلُ».
[الحديث 3339 - طرفاه في: 4487، 7349].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
عبد الواحد بن زياد) العبدي مولاهم البصري قال: (حدّثنا
الأعمش) سليمان بن مهران (عن أبي صالح) ذكوان الزيات (عن
أبي سعيد) سعد بن مالك الأنصاري -رضي الله عنه- أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يجيء نوح وأمته) يوم القيامة (فيقول الله تعالى) له (هل
بلغت)؟ رسالتي إلى قومك (فيقول: نعم). بلغتها (أي رب.
فيقول) عز وجل (لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا. ما جاءنا من
نبيّ. فيقول) تعالى (لنوح: من يشهد لك) أنك بلغتهم (فيقول)
يشهد لي (محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأمته
فنشهد) له (أنه قد بلغ) أمته (وهو قوله جل ذكره {وكذلك
جعلناكم أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس} [البقرة: 143]
والوسط) هو (العدل). وهذا من نفس الحديث لا مدرج فيه.
وهذا الحديث سيأتي ذكره في تفسير سورة البقرة.
3340 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ حَدَّثَنَا أَبُو حَيَّانَ عَنْ
أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: «كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي دَعْوَةٍ، فَرُفِعت إِلَيْهِ الذِّرَاعُ
-وَكَانَتْ تُعْجِبُهُ. فَنَهَسَ مِنْهَا نَهْسَةً
وَقَالَ: أَنَا سَيِّدُ الْقَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
هَلْ تَدْرُونَ بِمَنْ يَجْمَعُ اللَّهُ الأَوَّلِينَ
وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُبْصِرُهُمُ
النَّاظِرُ، وَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَتَدْنُو مِنْهُمُ
الشَّمْسُ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: أَلاَ تَرَوْنَ
إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ، إِلَى مَا بَلَغَكُمْ؟ أَلاَ
تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ؟
فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ: أَبُوكُمْ آدَمُ:
فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو
الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ
مِنْ رُوحِهِ، وَأَمَرَ الْمَلاَئِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ،
وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ. أَلاَ تَشْفَعُ لَنَا إِلَى
رَبِّكَ؟ أَلاَ تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا؟
فَيَقُولُ: رَبِّي غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ
مِثْلَهُ، وَلاَ يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ،
وَنَهَانِي عَنِ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ. نَفْسِي
نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ.
فَيَأْتُونَ نُوحًا فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ
أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى أَهْلِ الأَرْضِ؛ وَسَمَّاكَ
اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا. أَمَا تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ
فِيهِ؟ أَلاَ تَرَى إِلَى مَا بَلَغَنَا؟ أَلاَ تَشْفَعُ
لَنَا إِلَى رَبِّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّي غَضِبَ الْيَوْمَ
غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلاَ يَغْضَبُ
بَعْدَهُ مِثْلَهُ. نَفْسِي نَفْسِي، ائْتُوا النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فَيَأْتُونِي،
فَأَسْجُدُ تَحْتَ الْعَرْشِ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ
ارْفَعْ رَأْسَكَ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، وَسَلْ تُعْطَهُ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ: لاَ أَحْفَظُ سَائِرَهُ».
[الحديث 3340 - طرفاه في: 3361، 4712].
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر عن المستملي: حدّثنا
(إسحاق بن نصر) هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي قال:
(حدّثنا محمد بن عبيد) بضم العين مصغرًا الطنافسي الأحدب
الكوفي قال: (حدّثنا أبو حيان) بالحاء المهملة وتشديد
الياء التحتية يحيى بن سعيد بن حيان التيمي (عن أبي زرعة)
هرم بن عمرو البجلي (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه
(قال: كنا مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
في دعوة) بفتح الدال وكسرها في اليونينية طعام مدعوّ إليه
ضيافة (فرفع إليه الذراع) بضم الراء مبنيًّا للمفعول قال
السفاقسي الصواب رفعت لأن الذراع مؤنثة. قال في المصابيح:
وهذا خبط لأن هذا إسناد إلى ظاهر غير الحقيقي فيجوز
التأنيث وعدمه، بل أقول: لو كان التأنيث هنا حقيقيًّا لم
يجب اقتران الفعل بعلامة التأنيث لوجود الفاصل كقولك قام
في الدار هند، (وكانت) أي الذراع (تعجبه) لأنها أعجل نضجًا
وأخف على المعدة وأسرع هضمًا مع لذتها وحلاوة مذاقها ولذا
اسم فيها (فنهس منها نهسة) بسين مهملة فيهما أخذ لحمها من
العظم بأطراف أسنانه، ولأبي ذر والأصيلي فنهش منها نهشة
بالشين المعجمة فيهما أخذه بأضراسه (وقال):
(أنا سيد القوم) وضبب على القوم في الفرع أصله وفي الهامش
مصححًا عليه سيد الناس (يوم القيامة) خصه بالذكر لارتفاع
سؤدده وتسليم الجميع له فيه إذا كان سيدهم في يوم القيامة
ففي الدنيا أولى، وقوله: لا تخيروا بين الأنبياء أي
تخييرًا يؤدّي إلى تنقيص أو لا تخيروا في ذات النبوّة
والرسالة إذ الأنبياء فيهما على حد واحد والتفاضل بأمور
أخر أو خصه لأن القصة قصة يوم القيامة (هل تدرون بمن)
وللكشميهني بم
(5/328)
وللحموي والمستملي ثم بالمثلثة بدل الموحدة
وتشديد الميم (يجمع الله الأوّلين والآخرين في صعيد واحد)
أرض مستوية واسعة (فيبصرهم الناظر) أي يحيط بهم بصر الناظر
بحيث لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض وعدم الحجاب
(ويسمعهم الداعي) بضم الياء من الإِسماع (وتدنو منهم
الشمس) فيبلغهم من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون
(فيقول بعض الناس) لبعض: (ألا ترون إلى ما أنتم فيه) من
الغم والكرب (إلى ما بلغكم) بدل من قوله إلى ما أنتم فيه
(ألا) بالتخفيف كالسابقة للعرض أو التحضيض (تنظرون إلى من
يشفع لكم إلى ربكم)؟ حتى يريحكم من مكانكم هذا (فيقول بعض
الناس: أبوكم آدم فيأتونه فيقولون) له: (يا آدم أنت أب
البشر) كتب بغير واو بعد الموحدة من أب ولا ذر أبو البشر
بإثبات الواو (خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه) الإضافة
إليه تعالى إضافة تعظيم للمضاف
وتشريف (وأمر الملائكة فسجدوا لك وأسكنك الجنة) زاد في
رواية همام في التوحيد وعلمك أسماء كل شيء وضع شيء موضع
أشياء أي المسميات لقوله تعالى: {وعلم آدم الأسماء كلها}
[البقرة: 31] أي أسماء المسميات أراد التقصي واحدًا
فواحدًا حتى يستغرق المسميات كلها (ألا تشفع لنا إلى ربك.
ألا ترى ما نحن فيه وما بلغنا)؟ بفتح الغين من الكرب
والعرق (فيقول) آدم عليه السلام: (ربي غضب) اليوم (غضبًا
لم يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله) والمراد من الغضب
لازمه وهو إرادة إيصال الشر إلى المغضوب عليه. وقال
النووي: المراد ما يظهره تعالى من انتقامه فيمن عصاه وما
يشاهده أهل الجمع من الأهوال التي لم تكن ولا يكون مثلها
ولا ريب أنه لم يتقدّم قبل ذلك اليوم مثله ولا يكون بعده
مثله (ونهاني عن الشجرة) أي عن أكلها (فعصيته) ولأبي ذر
فعصيت بحذف الضمير (نفسي نفسي) مرّتين أي نفسي التي تستحق
أن يشفع لها لأن المبتدأ والخبر إذا كانا متحدين فالمراد
بعض لوازمه أو قوله نفسي مبتدأ والخبر محذوف وعند سعيد بن
منصور من رواية ثابت إني أخطأت وأنا في الفردوس فإن يغفر
لي اليوم فحسبي (اذهبوا إلى غيري اذهبوا إلى نوح) بيان
لقوله اذهبوا إلى غيري (فيأتون نوحًا فيقولون) له: (يا نوح
أنت أول الرسل إلى أهل الأرض) استشكلت الأولية هنا بأن آدم
نبي مرسل وكذا شيث وإدريس وهم قبل نوح وأجيب بأن الأولية
مقيدة بقوله إلى أهل الأرض لأن آدم ومن بعده لم يرسلوا إلى
أهل الأرض.
واستشكل بقوله من حديث جابر: أعطيت خمسًا. وفيه: وكان
النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس كافة. وأجيب:
بأن بعثة نوح إلى أهل الأرض باعتبار الواقع لصدق أنهم قومه
بخلاف عموم بعثة نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لقومه ولغير قومه، ويأتي إن شاء الله تعالى
مزيد لذلك في محاله بعون الله وقوّته.
(وسماك الله) في سورة الإسراء (عبدًا شكورًا) تحمد الله
تعالى على مجامع حالاته (أما) بتخفيف الميم ولأبي ذر عن
الكشميهني ألا (ترى إلى ما نحن فيه. ألا ترى إلى ما
بلغنا). بفتح الغين (ألا تشفع لنا إلى ربك)؟ حتى يريحنا من
مكاننا (فيقول) نوح عليه السلام: (ربي غضب اليوم غضبًا لم
يغضب قبله مثله ولا يغضب بعده مثله نفسي نفسي) مرتين
(ائتوا النبي) محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
المعروف أن نوحًا يدلهم على إبراهيم وإبراهيم على موسى
وموسى على عيسى وعيسى على النبي محمد "-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" قال نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: (فيأتوني فأسجد تحت العرش): زاد أحمد في مسنده
قدر جمعة (فيقال: يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفع) أي تقبل
شفاعتك (وسل تعطه).
(قال محمد بن عبيد) مصغرًا من غير إضافة لشيء الأحدب: (لا
أحفظ سائره) أي باقي الحديث لأنه مطوّل معلوم من رواية
غيره.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير، ومسلم في الإِيمان،
والترمذي في الزهد والأطعمة، والنسائي في الوليمة مختصرًا
وفي التفسير مطوّلاً، وابن ماجه في الأطعمة.
3341 - حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ نَصْرٍ
أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي
إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ - رضي الله عنه-: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَرَأَ: {فَهَلْ مِنْ
مُدَّكِرٍ} مِثْلَ قِرَاءَةِ الْعَامَّةِ". [الحديث 3341 -
أطرافه في: 3345، 3376، 4869، 4870، 4871، 4872، 4873،
4874].
وبه قال: (حدّثنا نصر بن علي
(5/329)
بن نصر) الجهضمي الأزد البصري وسقط لأبي ذر
ابن نصر قال: (أخبرنا أبو أحمد) محمد بن عبد الله بن
الزبير بن عمير بن درهم الزبير (عن سفيان) الثور (عن أبي
إسحاق) عمرو بن عبد الله السبيعي (عن الأسود بن يزيد)
النخعي (عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه- أن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قرأ {فهل من
مدكر}) [القمر: 15] بالإدغام والدال المهملة (مثل قراءة
العامة). لا بفك الإدغام ولا بالمعجمة كما قريء في الشواذ
وأصله مذتكر بذال معجمة مفتعل من الذكر فاجتمع حرفان
متقاربان في المخرج والأول ساكن وألفينا الثاني مهموسًا
فأبدلناه بمجهور يقاربه في المخرج وهو الدال المهملة ثم
قلبت الذال دالاً وأدغمت في الدال المهملة.
فإن قلت: ما وجه المطابقة بين الحديث والترجمة؟ أجيب: من
قوله في الآية الثانية وتذكيري بآيات الله والآية في شأن
سفينة نوح والضمير في قوله: {ولقد تركناها} [القمر: 15]
آية يعتبر بها إذ شاع خبرها واستمر، أو تركت حتى نظر إليها
أوائل هذه الأمة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير وأحاديث الأنبياء،
ومسلم في الصلاة، وأبو داود في الحروف، والترمذي في
القراءات، والنسائي في التفسير.
4 - باب {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ
قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ} -إِلَى- {وَتَرَكْنَا
عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات: 23]. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: يُذْكَرُ بِخَيْرٍ. {سَلاَمٌ عَلَى آلِ يَاسِينَ
* إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ
عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 130]. يُذْكَرُ عَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ إِلْيَاسَ هُوَ
إِدْرِيسُ.
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى: ({وإن إلياس لمن
المرسلين}) هو إلياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى بعث
بعده. وقال عبد الله بن مسعود فيما وصله ابن أبي حاتم هو
إدريس وفي مصحفه وإن إدريس لمن المرسلين ({إذ قال لقومه
ألا تتقون}) ألا تخافون الله في عبادتكم غيره {أتدعون
بعلاً} أي أتعبدون صنمًا أو تطلبون الخير منه {وتذرون أحسن
الخالقين الله ربكم ورب آبائكم الأولين} والمستحق للعبادة
وحده لا شريك له {فكذبوه فإنهم لمحضرون} للعذاب يوم الحساب
{إلا عباد الله المخلصين} من قومه أي الموحدين منهم وهو
مستثنى من الواو في فكذبوه وهو استثناء متصل، وفيه دلالة
على أن في قومه من لم يكذبه فلذلك استثنوا، ولا
يجوز أن يكون مستثنى من المحضرين لفساد المعنى لأنه يلزم
حينئذٍ أن يكونوا مندرجين فيمن كذب، لكنهم لم يحضروا
لكونهم عباد الله المخلصين وهو بين الفساد ولا يقال هو
مستثنى منه استثناء منقطعًا لأنه يصير المعنى لكن عباد
الله المخلصين من غير هؤلاء لم يحضروا ولا حاجة إلى هذا
بوجه إذ به يفسد نظم الكلام ({وتركنا عليه في الآخرين})
[الصافات: 123 - 124 - 125 - 126 - 127 - 128 - 129] أي
ثناء جميلاً.
(قال ابن عباس) فيما وصله ابن جرير (يذكر بخير) أي في
الآخرين، ولأبي ذر بعد قوله: {ألا تتقون} إلى قوله {وتركنا
عليه في الآخرين} إسقاط {أتدعون بعلاً} إلى آخر قوله
{المخلصين} ({سلام على آل ياسين}) بفتح الهمزة ومدها وكسر
اللام وفصلها من الياء وهي قراءة نافع وابن عامر ويعقوب
أضافوا آل الذي هو بمعنى أهل إلى ياسين كآل إبراهيم، فهي
على هذه القراءة كلمتان فيكون ياسين أبا إلياس وقراءة
الباقين بكسر الهمزة وسكون اللام ووصلها بالياء كلمة واحدة
جمع لإِلياس وجمع باعتبار أصحابه كالمهلبين في المهلب
({إنّا كذلك نجزي المحسنين}) أي إنما خصصناه بأن يذكر بخير
لأجل كونه محسنًا ثم علل كونه محسنًا بقوله: ({إنه من
عبادنا المؤمنين}) [الصافات: 130 - 131 - 132].
(يذكر) بضم أوله بصيغة التمريض (عن ابن مسعود) -رضي الله
عنه- فيما وصله عبد بن حميد وابن أبي حاتم بإسناد حسن
(وابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله ابن جويبر في
تفسيره بإسناد ضعيف (إن الياس هو إدريس) فيكون له اسمان،
وفي مصحف ابن مسعود {وإن إدريس لمن المرسلين} وسبق أن
الياس من ولد هارون أخي موسى عليهم السلام فعلى هذا فليس
إدريس جدًّا لنوح لأنه من بني إسرائيل، والصحيح أن الياس
غير إدريس لأن الله تعالى ذكره في سورة الأنعام حيث قال:
(ونوحًا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان} إلى أن قال:
{وعيسى والياس} [الأنعام: 84 و95] فدلّ على أن الياس من
ذرية نوح وإدريس جد أبي نوح كما يأتي قريبًا إن شاء الله
تعالى.
5 - باب ذِكْرِ إِدْرِيسَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ. وَهوَ
جَدُّ أَبِي نُوحٍ، وَيُقَالُ جَدُّ نُوحٍ عَلَيْهِمَا
السَّلاَمُ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَاهُ
مَكَانًا عَلِيًّا}
(باب ذكر إدريس عليه) الصلاة و (السلام) بكسر ذال ذكر
وضمها في اليونينية وسقط لفظ باب لأبي ذر (وهو جد أبي نوح)
لأنه نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس.
(5/330)
(ويقال جد نوح عليهما السلام) مجازًا لأن
جد الأب جد، وقوله: وهو جد وقوله: وهو جد الخ ... ثابت
لابن عساكر. وكان إدريس عليه السلام أول نبي أعطي النبوة
بعد آدم وشيث عليهما السلام، وأول من خط بالقلم وأدرك من
حياة آدم ثلاثمائة سنة وثمان سنين.
وقال ابن كثير: وقد قالت طائفة أنه المشار إليه في حديث
معاوية بن الحكم السلمي لما سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الخط بالرمل فقال: "إنه كان نبي
يخط بالرمل فمن وافق خطه فذاك". وزعم كثير من المفسرين أنه
أول من تكلم في ذلك ويسمونه هرمس الهرامسة ويكذبون عليه في
أشياء كثيرة كما كذبوا على غيره من الأنبياء.
(وقول الله) عز وجل بالجر عطفًا على سابقه المجرور
بالإضافة: ({ورفعناه مكانًا عليًّا}) [مريم: 57] السماء
السادسة أو الرابعة أو الجنة أو شرف النبوّة والزلفى وعن
ابن أبي نجيح عن مجاهد أنه رفع إلى السماء ولم يمت كما رفع
عيسى. قال في البداية والنهاية: إن أراد أنه لم يمت إلى
الآن ففيه نظر وإن أراد أنه رفع حيًّا إلى السماء ثم قبض،
فلا ينافي ما ذكره كعب أنه قبض في السماء الرابعة. وعن ابن
عباس أنه قبض في السادسة وصحح ابن كثير أنه قبض في
الرابعة.
3342 - قَالَ عَبْدَانُ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ. ح.
حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ
حَدَّثَنَا يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ
أَنَسٌ بْن مَالِكٍ: «كَانَ أَبُو ذَرٍّ -رضي الله عنه-
يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي وَأَنَا
بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ
غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ
ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهَا فِي
صَدْرِي، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى
السَّمَاءِ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا
قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ: افْتَحْ. قَالَ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا جِبْرِيلُ، قَالَ: مَعَكَ
أَحَدٌ؟ قَالَ: مَعِيَ مُحَمَّدٌ، قَالَ: أُرْسِلَ
إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَافْتَحْ. فَلَمَّا عَلَوْنَا
السَّمَاءَ إِذَا رَجُلٌ عَنْ يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ وَعَنْ
يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ
ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ
مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ.
قُلْتُ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا آدَمُ،
وَهَذِهِ الأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ
نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ
الْجَنَّةِ، وَالأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ
النَّارِ. فَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ وَإِذَا
نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى. ثُمَّ عَرَجَ بِي
جِبْرِيلُ حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ فَقَالَ
لِخَازِنِهَا: افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ
مَا قَالَ الأَوَّلُ، فَفَتَحَ. قَالَ أَنَسٌ: فَذَكَرَ
أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَوَاتِ إِدْرِيسَ وَمُوسَى
وَعِيسَى وَإِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يُثْبِتْ لِي كَيْفَ
مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ
آدَمَ فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَإِبْرَاهِيمَ فِي
السَّادِسَةِ. وَقَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا مَرَّ جِبْرِيلُ
بِإِدْرِيسَ قَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ
وَالأَخِ الصَّالِحِ، فَقُلْتُ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا
إِدْرِيسُ. ثُمَّ مَرَرْتُ بِمُوسَى فَقَالَ: مَرْحَبًا
بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ الصَّالِحِ. وَقُلْتُ:
مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا مُوسَى. ثُمَّ مَرَرْتُ بِعِيسَى
فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالأَخِ
الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: عِيسَى. ثُمَّ
مَرَرْتُ بِإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ: مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ وَالاِبْنِ الصَّالِحِ. قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟
قَالَ: هَذَا إِبْرَاهِيمُ -قَالَ: وَأَخْبَرَنِي ابْنُ
حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ
الأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولاَنِ: قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ثُمَّ عُرِجَ بِي
حَتَّى ظَهَرْتُ
لِمُسْتَوًى أَسْمَعُ صَرِيفَ الأَقْلاَمِ. قَالَ ابْنُ
حَزْمٍ وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنهما-: قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَفَرَضَ
اللَّهُ عَلَىَّ خَمْسِينَ صَلاَةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ
حَتَّى أَمُرَّ بِمُوسَى فَقَالَ مُوسَى: مَا الَّذِي
فُرِضَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ عَلَيْهِمْ
خَمْسِينَ صَلاَةً، قَالَ: فَرَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ
أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ، فَرَاجَعْتُ
رَبِّي فَوَضَعَ شَطْرَهَا. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى
فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ فَوَضَعَ
شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ
فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لاَ تُطِيقُ
ذَلِكَ، فَرَجَعْتُ فَرَاجَعْتُ رَبِّي فَقَالَ: هِيَ
خَمْسٌ وَهْيَ خَمْسُونَ، لاَ يُبَدَّلُ الْقَوْلُ
لَدَىَّ، فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ: رَاجِعْ
رَبَّكَ، فَقُلْتُ: قَدِ اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي. ثُمَّ
انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى السِّدْرَةَ الْمُنْتَهَى،
فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ. ثُمَّ
أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ
اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ».
(قال عبدان): هو لقب عبد الله بن عثمان بن جبلة المروزي،
وهذا التعليق وصله الجوزقي من طريق محمد بن الليث عن عبدان
ولأبي ذر: وحدّثنا عبدان، ولابن عساكر: حدّثنا بغير واو
قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك قال: (أخبرنا يونس) بن
يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (ح) لتحويل
الإسناد.
(حدّثنا) ولابن عساكر عن الزهري قال أنس بن مالك: وحدّثنا
ولأبي ذر وأخبرنا (أحمد بن صالح) أبو جعفر المصري قال:
(حدّثنا عنبسة) بفتح العين المهملة وسكون النون وبعد
الموحدة المفتوحة سين مهملة ابن خالد قال: (حدّثنا يونس)
بن يزيد وهو عم عنبسة (عن ابن شهاب) الزهري أنه (قال): قال
أنس ولأبي ذر وابن عساكر (قال أنس بن مالك: كان أبو ذر)
جندب بن جنادة (-رضي الله عنه- يحدث أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(فرج) بضم الفاء مبنيًا للمفعول أي فتح (سقف بيتي) ولأبي
ذر: عن سقف بيتي (وأنا بمكة) جملة حالية (فنزل جبريل) عليه
السلام من الموضع الذي فتحه من السقف مبالغة في المفاجأة
(ففرج) بفتحات أي شق (صدري) في رواية للمصنف إلى مراق
البطن (ثم غسله بماء زمزم) لأنه أفضل المياه أو يقوّي
القلب (ثم جاء بطست) بسين مهملة مؤنثة (من ذهب) وكان ذلك
قبل تحريم الذهب (ممتلئ) صفة لطست وذكر على معنى الإناه
(حكمة وإيمانًا) بنصبهما على التمييز تمثيل لينكشف
بالمحسوس ما هو معقول وتمثيل المعاني جائز كما أن سورة
البقرة تجيء يوم القيامة كأنها ظلة ولابن عساكر الحكمة
والإيمان (فافرغها) أي الطست والمراد ما فيها (في صدري ثم
أطبقه) وختم عليه حتى لا يجد العدو إليه سبيلاً (ثم أخد
بيدي) جبريل (فعرج بي إلى السماء فلما جاء إلى السماء
الدنيا قال جبريل لخازن السماء) الدنيا: (افتح) بابها
(قال) الخازن: (من هذا)؟ الذي قال افتح (قال: هذا جبريل)
ولم يقل أنا لأن قائلها يقع في العناء وسقط لفظ هذا لأبي
ذر (قال: معك) ولابن عساكر قال: ما معك (أحد؟ قال): نعم
(معي محمد) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال:
أرسل إليه) ليعرج به (قال: نعم) أرسل إليه (فافتح فلما
علونا السماء) زاد أبو ذر الدنيا وهي صفة للسماء والظاهر
أنه كان معهما غيرهما من الملائكة (إذا رجل عن يمينه
أسودة) أشخاص (وعن يساره أسودة) أشخاص أيضًا (فإذا نظر
قبل) أي جهة (يمينه ضحك) سرورًا (وإذا نظر قبل شماله بكى)
حزنًا (فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح) أي أصبت
رحبًا لا ضيقًا أيها النبي التام في نبوته والابن البارّ
في بنوّته (قلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا آدم وهذه
الأسودة) التي (عن يمينه وعن شماله نسم بنيه) بفتح النون
والسين المهملة أي أرواحهم (فأهل اليمين منهم أهل الجنة)
والجنة فوق السماء السابعة في جهة يمينه (والأسودة التي عن
شماله أهل النار). والنار في سجين الأرض
(5/331)
السابعة في جهة شماله فيكشف له عنهما حتى
ينظر إليهم (فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله
بكى، ثم عرج به جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال
لخازنها: افتح) بابها (فقال لها خازنها مثل ما قال الأول
ففتح) بابها (قال أنس) -رضي الله عنه-: (فذكر) أبو ذر
(أنه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (وجد في
السماوات إدريس، وموسى، وعيسى وإبراهيم) عليهم الصلاة
والسلام (ولم يثبت) أبو ذر (لي كيف منازلهم) أي لم يعين
لكل نبي سماء (غير أنه ذكر أنه وجد) ولأبي ذر: أنه قد وجد
(آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السادسة وقال أنس: فلما
مرّ جبريل بإدريس قال: مرحبًا بالنبي الصالح والأخ الصالح)
ولم يقل والابن لأنه لم يكن من آبائه (فقلت) لجبريل: (من
هذا قال: هذا إدريس) وهذا موضع الترجمة.
وفي حديث مالك بن صعصعة عند الشيخين أن إدريس في السماء
الرابعة ولا ريب أنه
موضع عليّ وإن كان غيره من الأنبياء أرفع مكانًا منه. (ثم
مررت بموسى. فقال: مرحبًا بالنبي
الصالح والأخ الصالح قلت) أي لجبريل ولأبي ذر فقلت بالفاء
قبل القاف وله أيضًا فقال: أي
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهو من
الالتفات (من هذا؟ قال): ولأبي ذر فقال: (هذا موسى ثم مررت
بعيسى
فقال: مرحبًا بالنبي الصالح قلت) لجبريل: (من هذا؟ قال):
هذا (عيسى) وليست ثم هنا على بابها
في الترتيب فقد اتفقت الروايات على أن المرور بعيسى كان
قبل المرور بموسى (ثم مررت بإبراهيم
فقال: مرحبًا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت من هذا) يا
جبريل: (قال: هذا إبراهيم) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-
وقالوا: مرحبًا بالنبي الصالح ولم يقولوا بالنبي الصادق
مثلاً لأن لفظ الصالح عام لجميع الخصال
الحميدة، فأرادوا وصفه بما يعم كل الفضائل.
(قال): أي ابن شهاب (وأخبرني) بالإفراد (ابن حزم) بالحاء
المهملة المفتوحة وسكون الزاي أبو بكر بن محمد بن عمرو بن
حزم الأنصاري قاضي المدينة (أن ابن عباس وأبا حيّة
الأنصارى) بتشديد المثناة التحتية ولأبي ذر وابن عساكر:
وأبا حيّة بالموحدة بدل التحتية وهو الصواب، ورواية ابن
حزم عن أبي حيّة منقطعة لأنه استشهد بأحد قبل مولد ابن حزم
بمدة كما مرّ ذلك مع زيادة في أول كتاب الصلاة (كانا) أي
ابن عباس وأبو حيّة (يقولان: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم عرج بي حتى) بضم العين وكسر الراء
مبنيًا للمفعول ولأبي ذر: ثم عرج بي جبريل حتى (ظهرت) أي
علوت (لمستوى) بفتح الواو أي موضع شرف يستوي عليه وهو
المصعد. وقال التوربشتي: اللام للعلة أي علوت لاستعلاء
مستوى أو لرؤيته أو لمطالعته، ويحتمل أن يكون متعلقًا
بالمصدر أي ظهرت
ظهور المستوى، ويحتمل أن يكون بمعنى، إلى يقال: أوحى لها
أي إليها والمعنى أني قمت مقامًا بلغت فيه من رفعة المحل
إلى حيث اطلعت على الكوائن وظهر لي ما يراد من أمر الله
تعالى وتدبيره في خلقه وهذا والله هو المنتهى الذي لا تقدم
لأحد عليه، وللحموي والمستملي بمستوى بالموحدة بدل اللام
(أسمع) فيه (صريف الأقلام) أي تصويتها حالة كتابة الملائكة
ما يقضيه الله تعالى.
(قال ابن حزم) عن شيخه (وأنس بن مالك) عن أبي ذر: (قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ففرض الله
عليّ) بتشديد التحتية أي وعلى أمتي (خمسين صلاة) في كل يوم
وليلة (فرجعت بذلك حتى أمر بموسى) بهمزة مفتوحة فميم
مضمومة فراء مشدّدة (فقال لي موسى: ما الذي فرض) أي ربك
(على أمتك؟ قلت) له: (فرض) ربي (عليهم خمسين صلاة) في كل
يوم وليلة، ولأبي ذر وابن عساكر: فرض بضم الفاء مبنيًّا
للمفعول في الموضعين خمسون صلاة بالرفع نائبًا عن الفاعل
(قال) موسى: (فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك) وسقط لفظ
ذلك لأبي ذر (فرجعت) من عند موسى (فراجعت ربي فوضع شطرها
فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك فذكر مثله فوضع شطرها) أي
جزءًا منها. وفي رواية ثابت أن التخفيف كان خمسًا خمسًا
وحمل باقي الروايات عليها متعين على ما لا يخفى (فرجعت إلى
موسى فأخبرته) سقط لابن عساكر لفظ
(5/332)
فأخبرته (فقال) موسى: (راجع ربك) ولابن
عساكر فقال ذلك أي راجع ربك ففعلت أي فرجعت فراجعت ربي
فوضع شطرها فرجعت إلى موسى فأخبرته بذلك فقال: راجع ربك
(فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعت ربي، فقال) جل وعلا: (هي
خمس) بحسب الفعل (وهي خمسون) بحسب الثواب {من جاء بالحسنة
فله عشر أمثالها} [الأنعام: 160] (لا يبدل القول لدي)
يحتمل أن يراد أني ساويت بين الخمس والخمسين في الثواب،
وهذا القول غير مبدل أو جعلت الخمسين خمسًا ولا تبديل فيه،
وإنما وقعت المراجعة للعلم بأن ذلك غير واجب قطعًا لأن ما
كان واجبًا قطعًا لا يقبل التخفيف أو الفرض خمسين. ثم
نسخها بخمس رحمة لهذه الأمة المحمدية. واستشكل بأنه نسخ
قبل البلاغ. وأجيب: بأنه نسخ بعده بالنسبة إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فرجعت إلى موسى
فقال: راجع ربك. فقلت: قد استحييت من ربي) أن أراجعه بعد
قوله تعالى: لا يبدل القول لدي (ثم انطلق) جبريل (حتى أتى
السدرة المنتهى) وفي نسخة إلى السدرة المنتهى، ولابن
عساكر: حتى أتى بي سدرة المنتهى، ولأبي ذر: بي السدرة
المنتهى وهي في أعلى السماوات وسميت بالمنتهى لأن علم
الملائكة ينتهي إليها ولم يجاوزها أحد إلا نبينا -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فغشيها ألوان لا أدري ما هي)
هو كقوله تعالى: {إذ يغشى السدرة ما يغشى} [النجم: 16]
فالإبهام للتفخيم والتهويل وإن كان معلومًا (ثم أدخلت)
ولأبي ذر: ثم أدخلت الجنة (فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ) بفتح
الجيم والنون بعدها ألف فموحدة مكسورة فذال معجمة جمع
جنبذة وهي القبة (وإذا ترابها المسك). رائحة.
واستنبط من هذا الحديث فوائد كثيرة يأتي إن شاء الله تعالى
في سورة هود الإِلمام بشيء منها في بابه بعون الله تعالى،
وقد مرّ الحديث أوّل الصلاة.
6 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى عَادٍ
أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}
[هود: 50] وَقَوْلِهِ: {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ
بِالأَحْقَافِ} -إِلَى قَوْلِهِ- {كَذَلِكَ نَجْزِي
الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 21] فِيهِ عَنْ
عَطَاءٍ وَسُلَيْمَانَ عَنْ عَائِشَةَ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَوْلِ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ
صَرْصَرٍ} [الحاقة: 6] شَدِيدَةٍ: {عَاتِيَةٍ}. قَالَ
ابْنُ عُيَيْنَةَ: عَتَتْ عَلَى الْخُزَّانِ: {سَخَّرَهَا
عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ
حُسُومًا} مُتَتَابِعَةً {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا
صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ}:
أُصُولُهَا. {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}:
بَقِيَّةٍ
(باب قول الله تعالى) في سورة هود ({وإلى عاد أخاهم
هودًا}) [الأعراف: 65] عطف على قوله: {لقد أرسلنا نوحًا
إلى قومه} [الأعراف: 59] كقولك: ضرب زيد عمرًا وبكر خالدًا
وليس هو من باب ما فصل فيه بين حرف العطف والمعطوف بالجار
والمجرور نحو ضربت زيدًا وفي السوق عمرًا فيجيء الخلاف
المشهور، وقيل بل هو على إضمار فعل أي: وأرسلنا هودًا وهذا
أوفق لطول الفصل وهودًا بدل أو عطف بيان لأخيهم، وكان هود
أخاهم في النسب لا في الدين لأنه كان من قبيلة عاد وهم
قبيلة من العرب بناحية اليمن كما يقال للرجل: يا أخا تميم،
والمراد رجل منهم وهو هود بن تارخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح
({قال يا قوم اعبدوا الله}) [هود: 50] أي وحدوه وسقط قوله
قال يا قوم الخ ... لأبي ذر.
(وقوله) بالجر عطفًا على المجرور السابق ({إذ أنذر قومه
بالأحقاف}) [الأحقاف: 21] جمع حقف وهو رمل مستطيل مرتفع
فيه انحناء من احقوقف الشيء إذا اعوج وكان قوم هود يسكنون
بين رمال مشرفة على البحر بالشحر من اليمن، وكانوا كثيرًا
ما يسكنون الخيام ذوات الأعمدة الضخام كما قال تعالى: {ألم
تر كيف فعل ربك بعاد * إرم ذات العماد} [الفجر: 6 - 7] وهي
عاد الأولى وأما عاد الثانية فمتأخرة وأما عاد الأولى:
فمنهم {عاد * إرم ذات العماد * التي لم يخلق مثلها في
البلاد} [الفجر: 6 - 7 - 8] أي مثل قبيلته، وقيل مثل
العمد، ومن زعم أن إرم مدينة تدور في الأرض فقد أبعد
النجعة وقال ما لا دليل عليه ولا برهان يعول عليه (إلى
قوله: {كذلك نجزي القوم المجرمين}) [الأحقاف: 25] تخويف
لكفار مكة أي ما سبق من قصتهم حكمنا فيمن كذب رسلنا وخالف
أمرنا.
(فيه) أي في هذا الباب (عن عطاء) هو ابن أبي رباح فيما
وصله المؤلّف في باب ما جاء في قوله تعالى: {هو الذي أرسل
الرياح} [الفرقان: 48] (و) عن (سليمان) بن يسار فيما وصله
أيضًا في سورة الأحقاف كلاهما (عن عائشة) -رضي الله عنها-
(عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولفظ
الأولى كان إذا رأى مخيلة أقبل وأدبر وفي آخره ولا أدري
لعله كما قال قوم: {فلما رأوه عارضًا مستقبل
أوديتهم} [الأحقاف: 24] الآية. وفي الثانية قالت: ما رأيت
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ضاحكًا حتى
أرى منه لهواته إنما كان يتبسم قالت: وكان إذا رأى غيمًا
أو ريحًا عرف في وجهه؛ الحديث.
(وقول الله عز وجل) بالجر عطفًا على السابق ولغير أبي ذر
وابن عساكر باب قول الله
(5/333)
عز وجل: ({وأما عاد}) عطف على قوله تعالى:
{فأما ثمود فأهلكوا بالطاغية) وأما عاد ({فأهلكوا بريح
صرصر} شديدة) أي شديدة الصوت في الهبوب لها صرصرة وقيل
باردة ({عاتية} قال ابن عيينة) في تفسيره (عتت على الخزان)
وما خرج منها إلا مقدار الخاتم وعند ابن أبي حاتم عن علي
-رضي الله عنه- قال لم ينزل الله شيئًا من الريح إلا بوزن
على يد ملك إلا يوم عاد فإنه أذن أذن لها دون الخزان فعتت
على الخزان أو المراد عتت على عاد فلم يقدروا على ردها
عنهم بقوّة ولا حيلة ({سخرها}) سلطها ({عليهم سبع ليال
وثمانية أيام}) قيل كان أوّلها الجمعة وقيل من صبيحة
الأربعاء إلى غروب الأربعاء الآخر وقال وهب: العرب تسميها
أيام العجوز لإتيانها في عجز الشتاء وهي ذات برد ورياح
شديدة ({حسومًا}) أي (متتابعة) دائمة ليس لها فتور ولا
انقطاع من حسمت الدابة إذا تابعت بين كيّها أو محسمات حسمت
كل خير واستأصلته أو قاطعات قطعت دابرهم ({فترى القوم}) إن
كنت حاضرهم ({فيها}) في تلك الأيام والليالي أو في الليالي
أو في مهابها ({صرعى}) موتى جمع صريع ({كأنهم أعجاز نخل
خاوية}) أي (أصولها) وخاوية أي متأكلة أجوافها شبههم بجذوع
نخل خالية الأجواف ليس لها رؤوس وقيل إن الريح أخرجت ما في
بطونهم وكانت تحمل الرجل فترفعه في الهواء ثم تلقيه فتشدخ
رأسه فيصير جثة بلا رأس ({فهل ترى لهم من باقية}) [الحاقة:
6 - 7 - 8] أي من (بقية). أو من نفس باقية قيل إنهم لما
أصبحوا موتى في اليوم الثامن كما وصفهم الله تعالى حملتهم
الريح فألقتهم في البحر فلم يبق منهم أحد.
3343 - حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ عَرْعَرَةَ حَدَّثَنَا
شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نُصِرْتُ بِالصَّبَا،
وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن
عرعرة) بن البرند بكسر الموحدة والراء وسكون النون ابن
النعمان الناجي السامي بالسين المهملة القرشي البصري قال:
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الحكم) بفتحتين ابن عتيبة بضم
العين مصغرًا (عن مجاهد) هو ابن جبر (عن ابن عباس -رضي
الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(نصرت) يوم الأحزاب (بالصبا) بفتح الصاد المهملة والموحدة
مقصورًا أرسلها الله تعالى على الأحزاب لما حاصروا المدينة
فسفت التراب في وجوههم وقلعت خيامهم فانهزموا من غير قتال،
وعن عكرمة: قالت الجنوب للشمال ليلة الأحزاب انطلقي ننصر
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالت
الشمال: إن الحرّة لا تسري فكانت الريح التي أرسلت عليهم
الصبا رواه ابن جرير. (وأهلكت عاد) قوم هود عليه الصلاة
والسلام (بالدبور) بفتح الدال الريح التي تجيء من قبل وجهك
إذا استقبلت
القبلة فهي تأتي من دبرها. وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد عن
ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما فتح الله على عاد من
الريح التي أهلكوا فيها إلا مثل موضع الخاتم فمرّت بأهل
البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم بين السماء والأرض"،
فلما رأى أهل الحاضرة من عاد الريح وما فيها قالوا هذا
عارض ممطرنا فألقت أهل البادية ومواشيهم على أهل الحاضرة
فهلكوا جميعًا، وروي أن هودًا عليه الصلاة والسلام لما أحس
بالريح خطّ على نفسه وعلى المؤمنين خطًا إلى جنب عين تنبع
وكانت الريح التي تصيبهم ريحًا طيبة هادئة والريح التي
تصيب قوم عاد ترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء
وتضربهم على الأرض وأثر المعجزة إنما ظهر في تلك الريح من
هذا الوجه.
3344 - قَالَ: وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ
أَبِيهِ عَنِ ابْنِ أَبِي نُعْمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي
الله عنه- قَالَ: "بَعَثَ عَلِيٌّ -رضي الله عنه- إِلَى
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بِذُهَيْبَةٍ، فَقَسَمَهَا بَيْنَ الأَرْبَعَةِ،
الأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ الْحَنْظَلِيِّ ثُمَّ
الْمُجَاشِعِيِّ، وَعُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ الْفَزَارِيِّ،
وَزَيْدٍ الطَّائِيِّ ثُمَّ أَحَدِ بَنِي نَبْهَانَ،
وَعَلْقَمَةَ بْنِ عُلاَثَةَ الْعَامِرِيِّ أَحَدِ بَنِي
كِلاَبٍ، فَغَضِبَتْ قُرَيْشٌ وَالأَنْصَارُ قَالُوا:
يُعْطِي صَنَادِيدَ أَهْلِ نَجْدٍ وَيَدَعُنَا. قَالَ:
إِنَّمَا أَتَأَلَّفُهُمْ. فَأَقْبَلَ رَجُلٌ غَائِرُ
الْعَيْنَيْنِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ نَاتِئُ
الْجَبِينِ كَثُّ اللِّحْيَةِ مَحْلُوقٌ فَقَالَ: اتَّقِ
اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ، فَقَالَ: مَنْ يُطِعِ اللَّهَ
إِذَا عَصَيْتُ؟ أَيَأْمَنُنِي اللَّهُ عَلَى أَهْلِ
الأَرْضِ وَلاَ تَأْمَنُونِي؟ فَسَأَلَهُ رَجُلٌ قَتْلَهُ
-أَحْسِبُهُ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ- فَمَنَعَهُ،
فَلَمَّا وَلَّى قَالَ: إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا -أَوْ
فِي عَقِبِ هَذَا- قَوْمٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ
يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ
مُرُوقَ السَّهْمِ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ
الإِسْلاَمِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ، لَئِنْ أَنَا
أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ". [الحديث
3344 - أطرافه في: 3610، 4351، 4667، 5058، 6163، 6931،
6933، 7432، 5762].
(قال) أي المؤلّف ولغير أبي ذر وقال (وقال ابن كثير)
العبدي البصري، ووصله في تفسير
براءة فقال: حدّثنا محمد بن كثير (عن سفيان) الثوري (عن
أبيه) سعيد بن مسروق الثوري الكوفي (عن أبي نعم) بضم النون
وسكون العين المهملة عبد الرَّحمن البجلي الكوفي العابد
(عن أبي سعيد) سعد بن مالك بن سنان الخدري الأنصاري (-رضي
الله عنه-) أنه (قال: بعث علي) -رضي الله عنه- أي من اليمن
كما عند النسائي (إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بذهيبة) بضم الذال مصغرًا على معنى القطعة من
الذهب أو باعتبار الطائفة ورجح لأنها كانت تبرًا (فقسمها)
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بين
الأربعة)
(5/334)
ولأبي ذر وابن عساكر: بين أربعة، ولمسلم:
بين أربعة نفر (الأقرع بن حابس) بالحاء المهملة والموحدة
المكسورة والسين المهملة (الحنظلي) بالحاء المهملة والظاء
المعجمة المفتوحتين بينهما نون ساكنة نسبة إلى حنظلة بن
مالك بن زيد مناة (ثم المجاشعي) نسبة إلى مجاشع بن دارم
أحد المؤلّفة قلوبهم (وعيينة بن بدر الفزاري) بالفاء
والزاء المخففة وبعد الألف راء نسبة إلى فزارة (وزيد
الطائي) وكان
في الجاهلية يدعى بزيد الخيل باللام فسماه النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زيد الخير بالراء (ثم أحد بني
نبهان) بفتح النون وسكون الموحدة (وعلقمة بن علاثة) بضم
العين المهملة وتخفيف اللام وبعد الألف مثلثة ابن عوف
الأحوص بن حفص بن كلاب بن ربيعة (العامري) نسبة إلى عامر
بن صعصعة بن معاوية (ثم أحد بني كلاب) بكسر الكاف وتخفيف
اللام ابن ربيعة (فغضبت قريش والأنصار) سقط والأنصار من
رواية مسلم (قالوا: يعطي) رسول الله عليه الصلاة والسلام
(صناديد أهل نجد) أي رؤساءهم الواحد صنديد بكسر الصاد
(ويدعنا) أي يتركنا (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-:
(إنما أتألفهم) بالإعطاء ليثبتوا على الإسلام رغبة فيما
يصل إليهم من المال (فأقبل رجل) من بني تميم يقال له ذو
الخويصرة واسمه حرقوص بن زهير (غائر العينين) أي داخلهما
يقال غارت عيناه إذا دخلتا وهو ضدّ الجاحظ (مشرف الوجنتين)
بالشين المعجمة والفاء غليظهما (ناتئ الجبين) بالهمز في
رواية أبي ذر مرتفعه. قال النووي: الجبين جانب الجبهة ولكل
إنسان جبينان يكتنفان الجبهة (كثّ اللحية) بفتح الكاف
وبالثاء المثلثة المشددة كثير شعرها (محلوق) رأسه مخالف
لما كانوا عليه من تربية شعر الرأس وفرقه (فقال: اتق الله
يا محمد. فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (من
يطع الله) مجزوم حرك بالكسر لالتقاء الساكنين، ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي: من يطيع الله بإثبات التحتية بعد الطاء
والرفع مصححًا عليه في الفرع كأصله (إذا عصيت) أي إذا
عصيته فحذف ضمير النصب (أيأمنني الله على أهل الأرض فلا
تأمنوني) ولأبي ذر: ولا بالواو بدل الفاء تأمنونني بنونين
(فسأله) عليه الصلاة والسلام (رجل قتله أحسبه خالد بن
الوليد) وجاء أنه عمر بن الخطاب ولا تنافي بينهما لاحتمال
أن يكونا سألاً معًا (فمنعه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- من قتله تأليفًا لغيره (فلما ولى) الرجل (قال)
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إن من ضئضيء)
بضادين معجمتين مكسورتين بينهما همزة ساكنة آخره همزة
ثانية أي من نسل (هذا) وعقبه، ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي: من صئصيء بصادين مهملتين وهما بمعنى (-أو في
عقب هذا- قوم يقرأون القرآن لا يجاوز حناجرهم) جمع حنجرة
وهي رأس الغلصمة والغلصمة منتهى الحلقوم والحلقوم مجرى
الطعام والشراب أي لا يرفع في الأعمال الصالحة (يمرقون)
يخرجون (من الدين) الطاعة (مروق السهم) خروجه إذا نفذ من
الجهة الأخرى (من الرمية) بفتح الراء وكسر الميم وتشديد
التحتية الصيد المرمي وهذا نعت الخوارج الذين لا يدينون
للأئمة ويخرجون عليهم (يقتلون أهل الإسلام ويدعون) بفتح
الدال يتركون (أهل الأوثان) بالمثلثة جمع وثن كل ما له جثة
متخذ من نحو: الحجارة والخشب كصورة الآدمي يعبد. والصنم
الصورة بدون جثة أو لا فرق بينهما (لئن أنا أدركتهم) أي
الموصوفين بما ذكر (لأقتلنهم قتل عاد) أي لأستأصلنهم بحيث
لا أبقي منهم أحدًا كاستئصال عاد، وليس المراد أنه يقتلهم
بالآلة التي قتلت بها عاد بعينها فالتشبيه لا عموم له.
وهذا موضع الترجمة على ما لا يخفى، وقد أورد صاحب الكواكب
سؤالاً وهو فإن قيل: أليس قال لئن أنا أدركتهم لأقتلنهم
فكيف لم يدع خالدًا أن يقتله وقد أدركه؟ وأجاب: بأنه إنما
أراد به إدراك زمان خروجهم إذا كثروا واعترضوا الناس
بالسيف ولم تكن هذه المعاني مجتمعة إذ ذاك فيوجد الشرط
الذي علق به الحكم، وإنما أنذر -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أنه سيكون ذلك في الزمان المستقبل وقد كان كما
قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
(5/335)
وَسَلَّمَ- فأوّل ما نجم هو في أيام علي
-رضي الله عنه-.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير مختصرًا وفي التوحيد
بتمامه وفي المغازي ومسلم في الزكاة وأبو داود في السُّنّة
والنسائي في الزكاة والتفسير والمحاربة.
3345 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا
إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الأَسْوَدِ قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ: {فَهَلْ
مِنْ مُدَّكِرٍ} ".
وبه قال: (حدّثنا خالد بن يزيد) أبو الهيثم المقري الكاهلي
الكوفي المتوفى سنة بضع عشرة ومائتين قال: (حدّثنا
إسرائيل) بن يونس أبو يوسف الكوفي (عن) جده (أبي إسحاق)
عمرو بن عبد الله السبيعي بفتح المهملة وكسر الموحدة (عن
الأسود) بن يزيد النخعي أنه (قال: سمعت عبد الله) يعني ابن
مسعود -رضي الله عنه- (قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ) قوله تعالى: ({فهل من مدكر})
[القمر: 15]. بالدال المهملة المشددة أي: فهل من معتبر بما
في هذا القرآن الذي يسر الله تعالى حفظه ومعناه. وقال مطر
الوراق فيما علقه المؤلّف بصيغة الجزم: {فهل من مدكر} هل
من طالب علم فيعان عليه.
وسبق هذا الحديث في باب قوله تعالى: {إنّا أرسلنا نوحًا}
[نوح: 1]. ويأتي إن شاء الله تعالى في التفسير.
7 - باب قِصَّةِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {قَالُوا يَا ذَا
الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ
فِي الأَرْضِ} [الكهف: 94] وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى:
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ} - إِلَى
قَوْلِهِ - {سَبَبًا} [الكهف: 83] {سَبَبًا}: طَرِيقًا.
إِلَى قَوْلِهِ: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ} وَاحِدُهَا
زُبْرَةٌ وَهْيَ الْقِطَعُ. {حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ
الصَّدَفَيْنِ}: يُقَالُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
الْجَبَلَيْنِ. وَ {السُّدَّيْنِ}: الْجَبَلَيْنِ.
{خَرْجًا}: أَجْرًا. {قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا
جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ
قِطْرًا}: أَصْبُبْ عَلَيْهِ رَصَاصًا، وَيُقَالُ
الْحَدِيدُ. وَيُقَالُ الصُّفْرُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
النُّحَاسُ. {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ}:
يَعْلُوهُ، اسْطَاعَ: اسْتَفْعَلَ مِنْ طُعْتُ لَهُ،
فَلِذَلِكَ فُتِحَ أَسْطَاعَ يَسْطِيعُ، وَقَالَ
بَعْضُهُمُ: اسْتَطَاعَ يَسْتَطِيعُ. {وَمَا اسْتَطَاعُوا
لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا
جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ}: أَلْزَقَهُ
بِالأَرْضِ. وَنَاقَةٌ دَكَّاءُ: لاَ سَنَامَ لَهَا،
وَالدَّكْدَاكُ مِنَ الأَرْضِ مِثْلُهُ حَتَّى صَلُبَ مِنَ
الأَرْضِ وَتَلَبَّدَ. {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا *
وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ}
حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ {وَهُمْ مِنْ
كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} قَالَ قَتَادَةُ: حَدَبٍ
أَكَمَةٍ. "قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: رَأَيْتُ السَّدَّ مِثْلَ الْبُرْدِ
الْمُحَبَّرِ. قَالَ: «قَدْ رَأَيْتَهُ».
(باب قصة يأجوج ومأجوج).
قال في الأنوار: قبيلتان من ولد يافث بن نوح عليه السلام
وقيل يأجوج من الترك ومأجوج من الجيل، وعن قتادة فيما ذكره
محيي السنة أن يأجوج ومأجوج اثنتان وعشرون قبيلة بنى ذو
القرنين السد على إحدى وعشرين قبيلة وبقيت واحدة فهم الترك
سموا بالترك لأنهم تركوا خارج السد.
وعن حذيفة مرفوعًا: إن يأجوج أمة ومأجوج أمة كل أمة
أربعمائة ألف لا يموت الرجل منهم حتى ينظر إلى ألف ذكر من
صلبه كلهم قد حمل السلاح. قال: وهم ثلاثة أصناف: صنف منهم
مثل الأرز شجر بالشام طوله عشرون ومائة ذراع في السماء،
وصنف منهم طوله وعرضه سواء عشرون ومائة ذراع وهؤلاء لا
يقوم لهم جبل ولا حديد، وصنف منهم يفترش إحدى أذنيه ويلتحف
بالأخرى لا يمرون بفيل ولا وحش ولا خنزير إلا أكلوه، ومن
مات منهم أكلوه مقدمتهم بالشام وساقتهم بخراسان يشربون
أنهار المشرق وبحيرة طبرية. وعن علي -رضي الله عنه- منهم
من طوله شبر ومنهم المفرط في الطول.
وفي كتاب الأمم لابن عبد البر: أن مقدار الربع العامر من
الدنيا مائة وعشرون سنة وأن تسعين منها ليأجوج ومأجوج وهم
أربعون أمة مختلفو الخلق والقدود في كل أمة ملك ولغة،
ومنهم من لا يتكلم إلا همهمة.
وذكر الباجي عن عبد الرَّحمن بن ثابت أن الأرض خمسمائة عام
منها ثلاثمائة بحور ومائة وتسعون ليأجوج ومأجوج وسبع
للحبشة وثلاث لسائر الناس كذا رأيته والعهدة فيه على
ناقله، وقد قال الحافظ ابن كثير ذكر ابن جرير هنا عن وهب
بن منبه أثرًا فيه ذكر ذي القرنين ويأجوج ومأجوج فيه طول
وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم
وآذانهم، وكذا روى ابن أبي حاتم في ذلك أحاديث لا تصح
أسانيدها، وقد قال كعب فيما ذكره محيي السنّة: إن آدم عليه
السلام احتلم ذات يوم فامتزجت نطفته بالتراب فخلق الله من
ذلك الماء يأجوج ومأجوج فهم يتصلون بنا من جهة الأب دون
الأم، وحكاه النووي في شرح مسلم. قال ابن كثير: وهذا القول
غريب جدًّا ثم لا دليل عليه لا من عقل ولا من نقل ولا يجوز
الاعتماد هاهنا على ما يحكيه بعض أهل الكتاب لما عندهم من
الأحاديث المفتعلة والله أعلم.
(وقول الله تعالى) بالجر عطفًا على المجرور السابق ({قالوا
يا ذا القرنين}) وفي مصحف ابن مسعود قال الذين من دونهم يا
ذا القرنين ({إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض}) [الكهف:
86]. أي في أرضنا بالقتل والتخريب وإتلاف الزرع وسقط قوله
قصة الخ ..
(وقول الله) ولابن عساكر باب قول الله (تعالى: {ويسألونك})
يا محمد كفار مكة ({عن}) خبر ({ذي القرنين}) روى ابن جرير
والأموي في مغازيه بسند ضعيف من حديث عقبة بن عامر -رضي
الله عنه- أنه كان شابًّا من الروم وأنه بنى الإسكندرية
وأنه علا به ملك في السماء وذهب به إلى السد ورأى أقوامًا
مثل وجوه الكلاب. قال ابن كثير: وهو خبر إسرائيلي وفيه من
النكارة أنه من الروم وإنما الذي كان من الروم الإسكندر
(5/336)
الثاني، وأما الإسكندر الأول فقد طاف
بالبيت مع الخليل صلوات الله عليه وسلامه أول ما بناه وآمن
به واتبعه كما ذكره الأزرقي وكان وزيره الخضر، وأما الثاني
فهو الإسكندر اليوناني وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف وكان قبل
المسيح بنحو ثلاثمائة سنة وسمي ذا القرنين لأنه ملك المشرق
والمغرب، أو لأنه طاف قرني الدنيا شرقها وغربها، أو لأنه
انقرض في أيامه قرنان من الناس، أو لأنه كان له قرنان أي
ضفيرتان أو كان لتاجه قرنان، أو لأنه كان في رأسه شبه
القرنين، أو لقب بذلك لشجاعته كما يقال الكبش للشجاع كأنه
ينطح أقرانه. وعن علي أنه كان عبدًا ناصح الله فناصحه دعا
قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله فدعا قومه
إلى الله فضربوه على قرنه فمات فأحياه الله فسموه ذا
القرنين، واختلف في نبوته مع الاتفاق على إيمانه وصلاحه
{قل سأتلو عليكم منه} أي من أخباره {ذكرًا * إنّا مكنّا له
في الأرض} أي مكنّا له أمره في التصرف فيها كيف شاء فحذف
المفعول {وآتيناه من كل شيء} طلبه وتوجه إليه ({سببًا})
وصلة توصله إليه من العلم والقدرة. وقال عبد الرَّحمن بن
زيد أي تعليم الألسنة كان لا يغزو قومًا إلا كلمهم
بلسانهم، وقيل علمًا بالطرق والمسالك فسخرنا له أقطار
الأرض كما سخرنا الريح لسليمان عليه السلام، وقول كعب
الأحبار مستدلاً بهذه الآية إن ذا القرنين كان يربط حبله
بالثريا أنكره عليه معاوية بن أبي سفيان وهو إنكار صحيح لا
سبيل للبشر إلى شيء من ذلك ولا إلى الرقي في أسباب
السماوات قاله ابن كثير {فأتبع سببًا} [الكهف: 83 - 85].
أي (طريقًا إلى قوله: {ائتوني}) بسكون الهمزة وهي قراءة
أبي بكر عن عاصم ({زبر الحديد} واحدها زبرة) بضم الزاي
وسكون الموحدة (وهي القطع) بكسر القاف وفتح الطاء ويقال كل
قطعة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه، وفي رواية أبي ذر
بعد قوله: ({ويسألونك عن ذي القرنين} إلى قوله: {سببًا}
طريقًا إلى قوله: {ائتوني زبر الحديد} واحدها زبرة. ولابن
عساكر بعد قوله: {ذكرًا} إلى قوله: ({آتوني زبر الحديد *
حتى إذا ساوى بين الصدفين}) بفتح الصاد والدال ولغير أبي
ذر الصدفين بضمهما وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وابن عامر
وهي لغة قريش ولأبي بكر ضم الصاد وإسكان الدال.
(يقال عن ابن عباس) مما وصله ابن أبي حاتم من طريق علي بن
أبي طلحة في قوله تعالى: {بين الصدفين} قال: أي بين
(الجبلين) وقيل الصدفان ناحيتا الجبلين، وقال أبو عبيدة:
الصدف كل بناء عظيم مرتفع (والسدين): بضم السين ولأبي ذر
السدين بفتحها وهي قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص لغتان
(الجبلين) سد ذو القرنين بينهما بسد وهما جبلا أرمينية
وأذربيجان وقيل
جبلان بأواخر الشمال في منقطع أرض الترك منفيان من ورائهما
يأجوج ومأجوج، والمعنى أنه وضع بعضه على بعض من الأساس حتى
حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضًا (خرجًا) أي (أجرًا)
عظيمًا نخرجه من أموالنا {قال} للعملة: ({انفخوا}) في
الأكوار والحديد ({حتى إذا جعله}) أي المنفوخ فيه
({نارًا}) كالنار بالإحماء ({قال آتوني أفرغ عليه قطرًا})
أي (أصبب عليه رصاصًا}) بفتح الراء وتكسر ولأبوي ذر والوقت
وابن عساكر أصب بموحدة مشددة ولأبي ذر: أصب عليه قطرًا
(ويقال الحديد) أي المذاب (ويقال الصفر) بالضم رواه ابن
أبي حاتم من طريق الضحاك وهو النحاس.
(وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله ابن أبي حاتم
بإسناد صحيح إلى عكرمة عنه: (النحاس) ورواه من طريق السدي
أيضًا قال: القطر النحاس وبناه لهم بالحديد والنحاس، ومن
طريق وهب بن منبه قال: شرفه بزبر الحديد والنحاس المذاب
وجعل خلاله عرقًا من نحاس أصفر فصار كأنه برد محبر من صفرة
النحاس وحمرته وسواد الحديد، وحكى الحافظ ابن كثير: أن
الخليفة الواثق بعث في دولته بعض أمرائه في جيش لينظروا
إلى السد وينعتوه له إذا رجعوا فرأوا بناءه من الحديد
والنحاس ورأوا فيه بابًا عظيمًا عليه أقفال عظيمة وبقية
اللبن والعمد في برج هناك وذكروا أن عنده حرسًا من الملوك
المتاخمة له وأنه عال منيف شاهق.
(5/337)
({فما اسطاعوا}) بحذف التاء حذرًا من تلاقي
متقاربين ({أن يظهروه}) أي أن (يعلوه) بالصعود لارتفاعه
وانملاسه واسطاعوا جمع مفرده (استطاع) بالتاء قبل الطاء،
ولأبي ذر: اسطاع بحذفها أصله (استفعل من اطعت له) بهمزة
مفتوحة وفتح الطاء، ولأبوي ذر والوقت وابن عساكر: من طعت
بإسقاط الهمزة وضم الطاء وسكون العين. قال العيني: لأنه مر
فعل يفعل كنصر ينصر ولكنه أجوف واوي لأنه من الطوع يقال
طاع له وطعت له كقال له وقلت له ولما نقل طاع إلى باب
الاستفعال صار استطاع على وزن استفعل ثم حذفت التاء
للتخفيف بعد نقل حركتها إلى الهمزة فصار أسطاع بفتح الهمزة
وسكون السين وأشار إلى هذه بقوله: (فلذلك فتح اسطاع) أي
فلأجل حذف التاء ونقل حركتها إلى الهمزة قيل اسطاع (يسطيع)
بفتح الهمزة في الماضي وفتح الياء في المستقبل، (و) لكن
(قال بعضهم: استطاع يستطيع) بالمثناة الفوقية فيهما وفتح
حرف المضارعة في الثاني في الفرع وغيره مما رأيته من
الأصول. وقال العيني كابن حجر كالكرماني بضمه فمن فتح فمن
الثلاثي ومن ضم فمن الرباعي. ({وما استطاعوا له نقبًا})
لثخنه وصلابته. وظاهر هذا أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا
من نقبه لأحكام بنائه وصلابته وشدته، ولا يعارضه حديث أبي
هريرة عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
المروي عند أحمد: أن يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم حتى
إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم: ارجعوا
فستحفرونه غدًا فيعودون إليه فيجدونه كأشد ما كان، حتى إذا
بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس حفروا حتى إذا
كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا إن شاء الله
ويستثني فيعودون إليه وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه
ويخرجون على الناس الحديث.
ورواه ابن ماجه والترمذي وقال غريب لا نعرفه إلا من هذا
الوجه. قال ابن كثير: وإسناده جيد قوي ولكن متنه في رفعه
نكارة لمخالفته الآية. ورواه كعب بنحوه، ولعل أبا هريرة
تلقاه من فإنه كثيرًا ما كان يجالسه فحدث به أبو هريرة
فتوهم بعض الرواة أنه مرفوع فرفعه.
({قال هذا}) السد والاقدار ({رحمة من ربي}) على عباده
({فإذا جاء وعد ربي}) وقت وعده بخروج يأجوج ومأجوج
({جعله}) أي السد ({دكاء}) أي (ألزقه بالأرض) بالزاي (و)
كذلك يقال (ناقة دكاء) بالمد أي (لا سنام لها) مستوية
الظهر (والدكداك من الأرض مثله) أي الملزق المستوى بها
(حتى صلب من الأرض وتلبد) ولم يرتفع وسقط لأبي ذر وابن
عساكر: من الأرض ({وكان وعد ربي حقًّا}) أي كائنًا لا
محالة وهذا آخر حكاية قول ذي القرنين ({وتركنا بعضهم
يومئذٍ}) أي بعض يأجوج ومأجوج حين يخرجون من وراء السد
({يموج في بعض}) مزدحمين في البلاد أو يموج بعض الخلق في
بعض فيضطربون ويختلطون إنسهم وجنهم حيارى (حتى إذا فتحت)
ولابن عساكر: باب حتى إذا فتحت ({يأجوج ومأجوج}) [الكهف:
96 - 98].
قال في الكشاف: حتى متعلقة بحرام يعني في قوله وحرام على
قرية وهي غاية له لأن امتناع رجوعهم لا يزول حتى تقوم
الساعة وهي حتى التي يحكى بعدها الكلام والكلام المحكى هو
الجملة من الشرط والجزاء أعني إذا وما في حيزها وقال
الحوفي: هي غاية والعامل فيها ما دل عليه المعنى من تأسفهم
على ما فرطوا فيه من الطاعة حين فاتهم الاستدراك. وقال ابن
عطية: "حتى" متعلقة بقوله وتقطعوا، ويحتمل على بعض
التأويلات المتقدمة أن تتعلق بيرجعون، ويحتمل أن تكون حرف
ابتداء وهو الأظهر بسبب إذا لأنها تقتضي جوابًا هو المقصود
ذكره قال أبو حيان وكون حتى متعلقة بتقطعوا فيه بعد من حيث
كثرة الفصل لكنه من حيث المعنى جيد وهو أنهم لا يزالون
مختلفين على دين الحق إلى قرب مجيء الساعة فإذا جاءت
الساعة انقطع ذلك كله وتلخص في تعلق "حتى" أوجه:
أحدها: أنها متعلقة بحرام. الثاني: أنها متعلقة بمحذوف دل
عليه المعنى وهو
(5/338)
قول الحوفي. الثالث: أنها متعلقة بتقطعوا.
الرابع: أنها متعلقة بيرجعون وتلخص في حتى وجهان:
أحدهما: أنها حرف ابتداء وهو قول الزمخشري وابن عطية فيما
اختاره، والثاني: أنها حرف جر بمعنى إلى وفي جواب إذا
أوجه:
أحدها: أنه محذوف فقدره أبو إسحاق قالوا يا ويلنا وقدره
غيره فحينئذ يبعثون.
وقوله: {فإذا هي شاخصة} (الأنبياء: 97]. عطف على هذا
المقدر. والثاني أن جوابها الفاء في قوله: فإذا هي قاله
الحوفي والزمخشري وابن عطية. وقوله: يأجوج ومأجوج هو على
حذف مضاف أي سد يأجوج ومأجوج ({وهم}) يعني يأجوج ومأجوج أو
الناس كلهم ({من
كل حدب}) نشر من الأرض سمي به القبر لظهوره على وجه الأرض
({ينسلون}) [الأنبياء: 96]. يسرعون. (قال قتادة) فيما ذكره
عبد الرَّحمن في تفسيره (حدب) أي (أكمة) ولأبي ذر: حدب
أكمة برفعهما (قال) ولأبي ذر وقال (رجل) صحابي لم يسم
(للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: رأيت السد)
بفتح السين. ولأبي ذر بضمها (مثل البرد المحبر) بضم الميم
وفتح الحاء المهملة والموحدة المشددة طريقة حمراء وطريقة
سوداء (قال) عليه الصلاة والسلام: قد (رأيته) وصله ابن أبي
عمر.
3346 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّ زَيْنَبَ ابْنَةَ أَبِي سَلَمَةَ
حَدَّثَتْهُ عَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ بِنْتِ أَبِي سُفْيَانَ
عَنْ زَيْنَبَ بْنتِ جَحْشٍ - رضي الله عنهن -: "أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ
عَلَيْهَا فَزِعًا يَقُولُ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ،
وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِنْ شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ
الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ
هَذِهِ -وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الإِبْهَامِ وَالَّتِي
تَلِيهَا- قَالَتْ زَيْنَبُ بْنتُ جَحْشٍ: فَقُلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟
قَالَ: نَعَمْ، إِذَا كَثُرَ الْخُبْثُ". [الحديث 3346 -
أطرافه في: 3598، 7059، 7135].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير المخزومي قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن
عقيل) بضم العين ابن خالد (عن ابن شهاب) الزهري (عن عروة
بن الزبير) بن العوّام (أن زينب ابنة) ولأبي ذر: بنت (أبي
سلمة) المخزومي ربيبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (حدثته عن أم حبيبة) رملة (بنت أبي سفيان) صخر
بن حرب زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن
زينب ابنة) ولأبي ذر: بنت (جحش) زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (رضي الله عنهن أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل عليها) الضمير لزينب حال
كونه (فزعًا) بكسر الزاي خائفًا (يقول):
(لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب) قيل: خص العرب
بالذكر إشارة إلى ما وقع من قتل عثمان منهم أو أراد ما يقع
من مفسدة يأجوج ومأجوج أو من الترك من المفاسد العظيمة في
بلاد الإسلام (فتح اليوم) نصب على الظرفية (من ردم يأجوج
ومأجوج) أي من سدهما (مثل هذه وحلق) بتشديد اللام وبالقاف
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بإصبعه) بالإفراد،
ولأبي ذر وابن عساكر: بإصبعيه (الإبهام والتي تليها)
وللمؤلّف في الفتن من طريق سفيان بن عيينة عن الزهري وعقد
سفيان تسعين أو مائة، ولمسلم من حديث أبي هريرة من طريق
وهيب وعقد وهيب بيده تسعين فاختلف في العاقد. وأجاب ابن
العربي: بأن العقد مدرج ليس من قوله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وإنما الرواة عبروا عن الإشارة في
قوله مثل هذه بذلك (قالت) ولأبي ذر فقالت (زينب ابنة)
ولأبي ذر بنت (جحش فقلت يا رسول الله أنهلك) بكسر اللام في
اليونينية (وفينا الصالحون؟ قال) عليه الصلاة والسلام:
(نعم إذا كثر الخبث) بفتح الخاء المعجمة والموحدة
وبالمثلثة الفسوق والفجور أو الزنا خاصة أو أولاده. قال في
الكواكب: والظاهر أنه المعاصي مطلقًا.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الفتن، وأخرجه مسلم أيضًا
واتفقا على إخراجه من طريق
الزهري، لكن رواه مسلم عن زينب بنت أبي سلمة عن حبيبة بنت
أم حبيبة بنت أبي سفيان عن أمها أم حبيبة والبخاري أسقط
حبيبة، وفي الإسناد على هذا من الغرائب نادرة عزيزة الوقوع
من ذلك رواية الزهري عن عروة وهما تابعيان واجتماع أربع
نسوة في سنده كلهن يروي بعضهن عن بعض ثم كل منهن صحابية ثم
اثنتان ربيبتان واثنتان زوجتان -رضي الله عنهن-.
3347 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «فَتَحَ اللَّهُ مِنْ
رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلَ هَذهِ، وَعَقَدَ
بِيَدِهِ تِسْعِينَ». [الحديث 3347 - طرفه في: 7136].
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال: (حدّثنا
وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد بن عجلان البصري قال:
(حدّثنا ابن طاوس) عبد الله ولابن عساكر عن ابن طاوس (عن
أبيه) طاوس (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(فتح الله من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وعقد بيده تسعين)
والمراد بالتمثيل التقريب لا حقيقة التحديد، وقد سبق أنهم
يحفرون كل يوم حتى لا يبقى بينهم وبين أن يخرقوه إلا يسير
(5/339)
فيقولن غدًا نأتي فنفرغ منه فيأتون إليه
فيجدونه عاد لهيئته، فإذا جاء الوعد قالوا عند المساء غدًا
إن شاء الله تعالى فإذا أتوا نقبوه وخرجوا.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الفتن وكذا مسلم.
3348 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو
أُسَامَةَ عَنِ الأَعْمَشِ حَدَّثَنَا أَبُو صَالِحٍ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ. فَيَقُولُ:
لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ.
فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ
النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ
وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ،
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ
سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ
اللَّهِ شَدِيدٌ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ قَالَ: أَبْشِرُوا فَإِنَّ
مِنْكُمْ رَجُلاً وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ.
ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنِّي أَرْجُو
أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا
فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ
الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا. فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ
تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا
فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلاَّ كَالشَّعَرَةِ
السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ, أَوْ كَشَعَرَةٍ
بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ». [الحديث 3348 -
أطرافه في: 4741، 6530، 7483].
وبه قال: (حدثني) - بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إسحاق بن
نصر) نسبه لجده واسم أبيه إبراهيم المروزي وقيل البخاري
قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن الأعمش) سليمان
بن مهران أنه قال: (حدّثنا أبو صالح) ذكوان الزيات (عن أبي
سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(يقول الله تعالى) زاد في سورة الحج يوم القيامة (يا آدم
فيقول) ولأبي ذر عن الكشميهني قال (لبيك) أي إجابة لك بعد
إجابة ولزومًا لطاعتك فهو من المصادر المثناة لفظًا
ومعناها التكرير بلا حصر ومثله (وسعديك) أي أسعدني إسعادًا
بعد إسعاد (والخير في يديك فيقول) الله تعالى له (أخرج)
بفتح الهمزة وكسر الراء من الناس (بعث النار) أي مبعوثها
وهم أهلها (قال) يا رب (وما بعث النار)؟ أي وما مقدار
مبعوث النار (قال) تعالى (من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين)
نصب قال العيني: على التمييز ويجوز الرفع خبر مبتدأ محذوف
(فعنده) أي عند قوله تعالى آدم أخرج بعث النار (يشيب
الصغير) من شدة الهول لو تصور وجوده لأن الهم يضعف القوي
ويسرع بالشيب، أو هو محمول على الحقيقة لأن كل أحد يبعث
على ما مات عليه فيبعث الطفل طفلاً فإذا وقع ذلك يشيب
الطفل من شدة الهول (وتضع كل ذات حمل حملها) لو فرض وجودها
أو أن من ماتت حاملاً بعثت حاملاً فتضع حملها من الفزع
(وترى الناس سكارى) من الخوف (وما هم بسكارى) من الشراب،
أو المعنى كأنهم سكارى من شدة الأمر الذي أدهش عقولهم وما
هم بسكارى على الحقيقة كذا قرره، قال في فتوح الغيب: وهو
يؤذن بأن قوله تعالى: {وما هم بسكارى} [الحج: 2]. بيان
لإرادة معنى السكر من قوله {وترى الناس سكارى} فإنه إما أن
يراد به التشبيه كما يقال وترى الناس كالسكارى، وشبهوا
بالسكارى بسبب ما غشيهم من الخوف فبقوا مسلوبي العقول
كالسكران، أو أن يراد الاستعارة كأنه قيل ترى الناس خائفين
فوضع موضعه سكارى، ولذا بيّن بقوله من الخوف وصرح وما هم
بسكارى من الشراب. ومن علامات المجاز صحة سلبه كما إذا قلت
للبليد حمار يصح نفيه وكذا هنا نفي السكر الحقيقي بقوله:
وما هم بسكارى مؤكدًا بالباء لأن هذا السكر أمر لم يعهد
مثله.
(ولكن عذاب الله شديد) تعليل لإثبات السكر المجازي لما نفى
عنهم السكر الحقيقي وهل هذا الخوف لكل أحد أو لأهل النار
خاصة. قال قوم: الفزع أكبر وغيره يختص بأهل النار أما أهل
الجنة فيحشرون آمنين قال تعالى: {لا يحزنهم الفزع الأكبر}
[الأنبياء: 103]. وقال آخرون: الخوف عام والله يفعل ما
يشاء. (قالوا): أي من حضر من الصحابة (يا رسول الله وأينا
ذلك الواحد)؟ ولأبي الوقت ذاك بألف بدل اللام (قال)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (أبشروا) بقطع
الهمزة وكسر المعجمة (فإن منكم رجل) بالرفع مبتدأ مؤخر وفي
أن يقدر ضمير الشأن محذوفًا أي فإنه منكم رجل، ولأبي ذر:
رجلاً بالنصب وهو ظاهر (ومن يأجوج ومأجوج ألف) بالرفع
ولأبي ذر ألفًا بالنصب كما مرّ في رجل ورجلاً. وفي سورة
الحج من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعين ومنكم واحد
الحديث. والحكم للزائد.
(ثم قال) عليه الصلاة والسلام: (و) الله (الذي نفسي بيده
إني أرجو أن تكونوا) أي أمته المؤمنون به (ربع أهل الجنة
فكبرنا) سرورًا بهذه البشارة العظيمة (فقال) عليه الصلاة
والسلام: (أرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة فكبرنا) سرورًا
لذلك (فقال) عليه الصلاة والسلام (أرجو أن تكونوا نصف أهل
الجنة) ولا يعارض هذا ما في الترمذي وحسنه عن بريدة
مرفوعًا: أهل الجنة
عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الأمة وأربعون منها من
سائر الأمم لأنه ليس في حديث الباب الجزم
(5/340)
بأنهم نصف أهل الجنة فقط، وإنما هو رجاء
رجاه لأمته ثم أعلمه الله تعالى بعد ذلك أن أمته ثلثًا أهل
الجنة (فكبرنا) سرورًا بما أنعم الله به تعالى وتكريرًا
لإعطاء ربعًا ثم نصفًا لأنه أوقع في النفس وأبلغ في
الإكرام مع الحمل لهم على تجديد الشكر. (فقال) عليه الصلاة
والسلام: (ما أنتم في الناس) في المحشر (إلا كالشعرة
السوداء) بفتح العين (في جلد ثور أبيض) سقط لابن عساكر لفظ
جلد (أو كشعرة بيضاء في جلد ثور أسود) وأو للتنويع أو شك
من الراوي. وهذا في المحشر كما مرّ. وأما في الجنة فهم نصف
الناس هناك أو ثلثاهم كما مرّ.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: فإن منكم رجل ومن يأجوج
ومأجوج ألف إذ فيه الإِشارة إلى كثرتهم وأن هذه الأمة
بالنسبة إليهم نحو عشر العُشر.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير وتأتي بقية مباحثه إن
شاء الله تعالى في أواخر الرقاق بعون الله تعالى وقوته.
8 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ
إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 165] وَقَوْلِهِ: {إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لله} [النحل: 120]
وَقَوْلِهِ: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ}
[التوبة: 114]. وَقَالَ أَبُو مَيْسَرَةَ الرَّحِيمُ
بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ.
(باب قول الله تعالى {واتخذ الله إبراهيم خليلا} [النساء:
125]. الخليل مشتق من الخلة بالفتح وهي الحاجة سميت خلة
للاختلال الذي يلحق الإنسان فيها وسمي إبراهيم خليلاً لأنه
لم يجعل فقره وفاقته إلا إلى الله تعالى في كل حال، وهذا
الفقر أشرف غنى بل أشرف فضيلة يكتسبها الإنسان، ولهذا ورد:
اللهم أغنني بالافتقار إليك ولا تفقرني بالاستغناء عنك،
وقيل من الخلة بالضم وهي المودّة الخالصة أو من التخلل.
قال ثعلب: لأن مودته تتخلل القلب وأنشد:
قد تخللت مسلك الروح مني ... وبذا سمي الخليل خليلا
وقال الزجاج: معنى الخليل الذي ليس في محبته خلل، وسمي
إبراهيم خليل الله لأنه أحبه محبة كاملة ليس فيها نقص ولا
خلل. وقال القرطبي: الخليل فعيل بمعنى فاعل كالعليم بمعنى
عالم، وقيل هو بمعنى المفعول كالحبيب بمعنى المحبوب، وقيل
الخليل هو الذي يوافقك في خلالك. قال عليه السلام: تخلقوا
بأخلاق الله فلما بلغ إبراهيم في هذا الباب مبلغًا لم
يبلغه أحد ممن تقدمه لا جرم خصه الله تعالى بهذا الاسم.
وقال الإمام فخر الدين إنما سمي خليلاً لأن محبة الله
تخللت في جميع قواه فصار بحيث لا يرى إلا الله ولا يتحرك
إلا لله ولا يسكن إلا لله ولا يمشي إلا لله ولا يسمع إلا
بالله فكان نور جلال الله قد سرى في جميع قواه الجسمانية
وتخلل فيها
وغاص في جواهرها ووغل في ماهيتها. وقال في الكشاف: هو مجاز
عن اصطفائه واختصاصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند خليله،
والخليل المخالّ وهو الذي يخاللك أي يوافقك في خلالك أو
يسايرك في طريقك من الخلط وهو الطريق في الرمل اهـ.
قال في فتوح الغيب قوله تشبه كرامة الخليل بعد قوله مجاز
عن اصطفائه إيذان بأن المجاز من باب الاستعارة التمثيلية،
واختلف في السبب الذي من أجله {اتخذ الله إبراهيم خليلاً}
[النساء: 125]. فقيل كما ذكره ابن جرير وغيره أنه أصاب
الناس أزمة، وكانت الميرة تأتيه من خليل له بمصر فأرسل
إبراهيم غلمانه ليمتاروا له منه فقال خليله: لو كان
إبراهيم يطلب الميرة لنفسه لفعلت ولكن يريدها للأضياف وقد
أصابنا ما أصاب الناس من الأزمة والشدة فرجعوا بغير شيء
فاجتازوا ببطحاء لينة فقالوا: لو أنا حملنا من هذه البطحاء
ليرى الناس أنا قد جئنا بميرة فإنا نستحي أن نمرّ بهم
وإبلنا فارغة فملأوا تلك الغرائر ثم أتوا إبراهيم فلما
أعلموه ساءه ذلك فغلبته عيناه فنام وكانت امرأته سارة
نائمة فاستيقظت وقد ارتفع النهار فقالت: سبحان الله ما جاء
الغلمان؟ قالوا: بلى. فقامت إلى الغرائر فأخرجت منها أحسن
حوّاري فاختبزت وأطعمت واستيقظ إبراهيم فاشتم رائحة الخبز
فقال: من أين لكم هذا؟ فقالت: من خليلك المصري. فقال: بل
من عند خليلي الله فسماه الله تعالى خليلاً، وعلى هذا
فإطلاق اسم الخلة على الله على سبيل المشاكلة لأن جوابه
عليه السلام بل من عند خليلي الله في مقابلة قولها من
خليلك المصري، وقيل لما أراه الله ملكوت السماوات والأرض
وحاج قومه في الله ودعاهم إلى توحيده ومنعهم من عبادة
النجوم والشمس والقمر والأوثان وبذل نفسه للإلقاء في
(5/341)
النيران وولده للقربان وماله للضيفان اتخذه
الله خليلاً. وقيل غير ذلك. وإبراهيم هو ابن آزر واسمه
تارح بفوقية وراء مفتوحة آخره حاء مهملة ابن ناحور بنون
ومهملة مضمومة ابن شاروخ بمعجمة وراء مضمومة آخره خاء
معجمة ابن راغو بغين معجمة ابن فالخ بفاء ولام مفتوحة
بعدها خاء معجمة ابن عيبر، ويقال عابر وهو بمهملة وموحدة
ابن شالخ بمعجمتين ابن أرفخشد بن سام بن نوح. قال في
الفتح: لا يختلف جمهور أهل النسب ولا أهل الكتاب في ذلك
إلا في النطق ببعض هذه الأسماء. نعم ساق ابن حبان في أوّل
تاريخه خلاف ذلك وهو شاذ اهـ.
وقال الثعلبي: كان بين مولد إبراهيم عليه السلام وبين
الطوفان ألف سنة ومائتا سنة وثلاث وستون سنة وذلك بعد خلق
آدم عليه السلام بثلاثة آلاف سنة وثلاثمائة وسبع وثلاثين
سنة. وقال ابن هشام: لم يكن بين نوح وإبراهيم عليهم السلام
إلا هود وصالح، وكان بين إبراهيم وهود ستمائة سنة وثلاثون
سنة، وبين نوح وإبراهيم ألف سنة ومائة وثلاث وأربعون سنة.
(وقوله) بالجر عطفًا على المجرور السابق بالإضافة ({إن
إبراهيم كان أمة}) جامعًا للخصال المحمودة. قال ابن هانئ:
ليس على الله بمستنكر ... أن يجمع العالم في واحد
أي: إن الله تعالى قادر على أن يجمع في واحد ما في الناس
من معاني الفضل والكمال، وقيل فعلة تدل على المبالغة. وقال
مجاهد: كان مؤمنًا وحده والناس كلهم كانوا كفارًا فلذا كان
وحده أمة ({قانتًا لله}) [النحل: 125]. مطيعًا له وثبتت
لفظة لله لأبي ذر.
(وقوله) بالجر أيضًا على العطف ({إن إبراهيم لأوّاه حليم})
[هود: 75]. (وقال) بالواو ولأبي ذر قال (أبو ميسرة) ضد
الميمنة عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي فيما وصله وكيع في
تفسيره الأواه (الرحيم بلسان الحبشة). ورواه ابن أبي حاتم
من طريق ابن مسعود بإسناد حسن قال: الأوّاه الرحيم ولم يقل
بلسان الحبشة، ومن طريق عبد الله بن شدّاد أحد كبار
التابعين قال: قال رجل يا رسول الله ما الأوّاه؟ قال:
"الخاشع المتضرّع في الدعاء" ومن طريق ابن عباس قال:
الأواه الموقن. ومن طريق مجاهد المنيب، ومن طريق الشعبي
المسبّح، ومن طريق كعب الأحبار قال: كان إذا ذكر النار قال
أوّاه من عذاب الله. وقال في اللباب الأوّاه الكثير
التأوّه وهو مَن يقول أواه، وقيل مَن يقول أوه وهو أنسب
لأن أوه بمعنى أتوجع فالأواه فعال مثال مبالغة من ذلك
وقياس فعله أن يكون ثلاثيًّا لأن أمثلة المبالغة إنما تطرد
في الثلاثي وإنما وصف الله تعالى خليله بهذين الوصفين بعد
قوله: {وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها
إياه} [التوبة: 114]. الآية لأنه تعالى وصفه بشدّة الرقة
والشفقة والخوف ومن كان كذلك فإنه تعظم رقته على أبيه، ثم
إنه مع هذه الصفات تبرأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لما ظهر له
إصراره على الكفر.
3349 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ
قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّكُمْ
مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً. ثُمَّ قَرَأَ:
{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا
عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} وَأَوَّلُ مَنْ
يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ. وَإِنَّ
أُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِي يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ
الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: أَصْحَابِي، أَصْحَابِي. فَيَقالُ:
إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ، فَأَقُولُ كَمَا
قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ
شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} -إِلَى قَوْلِهِ-
{الْحَكِيمُ} [الحديث 3349 - أطرافه في: 3447، 4625، 4626،
4740، 6524، 6525، 6526].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري
قال: (أخبرنا سفيان) الثوري قال: (حدّثنا المغيرة بن
النعمان) النخعي الكوفي (قال: حدثنى) بالإفراد (سعيد بن
جبير عن ابن عباس) ولابن عساكر أراه بضم الهمزة أي أظنه عن
ابن عباس (-رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إنكم تحشرون) عند الخروج من القبور حال كونكم (حفاة) بضم
الحاء المهملة وتخفيف الفاء جمع حاف أي بلا خف ولا نعل
(عراة) أي لا ثياب عليهم جميعهم أو بعضهم يحشر عاريًا
وبعضهم
كاسيًا لحديث سعيد عند أبي داود وصححه ابن حبان مرفوعًا:
"إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها" (غرلاً) بضم
الغين المعجمة وإسكان الراء أي غير مختونين والغرلة ما
يقطعه الخاتن وهي القلفة (ثم قرأ): {كما بدأنا أول خلق
نعيده} [الأنبياء: 104] أي نوجده بعينه بعد إعدامه مرة
أخرى أو نعيد تركيب أجزائه بعد تفريقها من غير إعدام،
والأول أوجه لأنه تعالى شبه الإعادة بالابتداء والابتداء
ليس عبارة عن تركيب الأجزاء المتفرقة بل عن الوجود بعد
العدم فوجب أن تكون الإعادة كذلك {وعدًا علينا إنّا كنا
فاعلين} [الأنبياء: 104]. الإعادة والبعث. وقوله:
(5/342)
(وعدًا) نصب على المصدر المؤكد لمضمون
الجملة المتقدمة فناصبه مضمر أي وعدنا ذلك وعدًا. قال ابن
عبد البر: يحشر الآدمي عاريًا ولكل من الأعضاء ما كان له
يوم ولد فمن قطع منه شيء يرد إليه حتى الأقلف وقال أبو
الوفاء بن عقيل: حشفة الأقلف موفاة بالقلفة فتكون أرق فلما
أزالوا تلك القطعة في الدنيا أعادها الله تعالى ليذيقها من
حلاوة فضله.
وفي شرح المشكاة، فإن قلت: سياق الآية في إثبات الحشر
والنشر لأن المعنى نوجدكم عن العدم ما أوجدناكم أولاً عن
العدم فكيف يشتهد بها للمعنى المذكور أي من كونهم غرلاً؟
وأجاب بأن سياق الآية وعبارتها على إثبات الحشر وإشارتها
على المعنى المراد من الحديث فهو من باب الإدماج.
(وأول من يكسى) من الأنبياء (يوم القيامة إبراهيم) بعد حشر
الناس كلهم عراة أو بعضهم كاسيًا أو بعد خروجهم من قبورهم
بأثوابهم التي ماتوا فيها ثم تتناثر عنهم عند ابتداء الحشر
فيحشرون عراة ثم يكون أول من يُكسى من الجنة إبراهيم عليه
السلام وزاد البيهقي مرفوعًا من حديث ابن عباس: (وأول من
يكسى من الجنة إبراهيم يكسى حلة من الجنة ويؤتى بكرسي
فيطرح عن يمين العرش ثم يؤتى بي فأكسى حلة من الجنة لا
يقوم لها البشر). قيل: والحكمة في كون الخليل أول من يكسى
لكونه جرّد حين ألقي في النار ولا يلزم من تخصيص إبراهيم
بأولية الكسو هنا أفضليته على نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لأن حلة نبينا أعلى وأكمل فتجبر
بنفاستها ما فات من الأولية، وكم لنبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من فضائل مختصة به لم يسبق إليها ولم
يشارك فيها ولو لم يكن سوى خصوصية الشفاعة العظمى لكفى.
(وإن أناسًا) بهمزة مضمومة ولأبي ذر وابن عساكر وإن ناسًا
(من أصحابي يؤخذ بهم ذات الشمال) وهي جهة النار (فأقول
أصحابي أصحابي) أي هؤلاء أصحابي، ولأبي ذر وابن عساكر:
أصيحابي أصيحابي مصغرين إشارة إلى قلة عددهم والتكرير
للتأكيد (فيقال: إنهم لم) بالميم ولأبي ذر عن الكشميهني
لمن (يزالوا مرتدين على أعقابهم) بالكفر (مند فارقتهم) قيل
المراد قوم من جفاة الأعراب ممن لا نصرة له في الدين ممن
ارتد بعد موته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ولا
يقدح ذلك في الصحابة المشهورين، فإن أصحابه وإن شاع
استعماله عرفًا فيمن لازمه من المهاجرين والأنصار شاع
استعماله في كل تبعه أو أدرك حضرته ووفد عليه ولو مرة أو
المراد بالارتداد إساءة السيرة والرجوع عما كانوا عليه من
الإخلاص وصدق النية (فأقول كما قال العبد الصالح) عيسى ابن
مريم ({وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم}) أي رقيبًا عليهم
أمنعهم من الارتداد ومشاهدًا لأحوالهم من كفر وإيمان؟ إلى
قوله ({الحكيم}) [المائدة: 117، 118]. ولأبي ذر {فلما
توفيتني} إلى قولها {العزيز الحكيم}.
وهذا الحديث أخرجه في التفسير والرقاق وأحاديث الأنبياء
ومسلم في صفة القيامة والتفسير والنسائي في الجنائز
والتفسير.
3350 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: أَخْبَرَنِي أَخِي عَبْدُ الْحَمِيدِ عَنِ ابْنِ
أَبِي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَلْقَى إِبْرَاهِيمُ
أَبَاهُ آزَرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَى وَجْهِ آزَرَ
قَتَرَةٌ وَغَبَرَةٌ، فَيَقُولُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ: أَلَمْ
أَقُلْ لَكَ لاَ تَعْصِنِي؟ فَيَقُولُ أَبُوهُ:
فَالْيَوْمَ لاَ أَعْصِيكَ. فَيَقُولُ إِبْرَاهِيمُ: يَا
رَبِّ إِنَّكَ وَعَدْتَنِي أَنْ لاَ تُخْزِيَنِي يَوْمَ
يُبْعَثُونَ، فَأَىُّ خِزْيٍ أَخْزَى مِنْ أَبِي
الأَبْعَدِ؟ فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي حَرَّمْتُ
الْجَنَّةَ عَلَى الْكَافِرِينَ. ثُمَّ يُقَالُ: يَا
إِبْرَاهِيمُ مَا تَحْتَ رِجْلَيْكَ، فَيَنْظُرُ فَإِذَا
هُوَ بِذِيخٍ مُلْتَطِخٍ، فَيُؤْخَذُ بِقَوَائِمِهِ
فَيُلْقَى فِي النَّارِ». [الحديث 3350 - طرفاه في: 4768،
4769].
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) بن أبي أويس
الأصبحي ابن أخت الإمام مالك (قال: أخبرني) ولأبي ذر حدثني
كلاهما بالإفراد (أخي عبد الحميد) أبو بكر الأعشى بن أبي
أويس (عن ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرَّحمن (عن سعيد) بن
أبي سعيد (المقبري) بضم الموحدة (عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة وعلى وجه آزر قترة)
سواد كالدخان (وغبرة) غبار وتقديم الظرف للاختصاص (فيقول
له إبراهيم ألم أقل لك لا تعصني) مجزوم على النهي بحذف حرف
العلة (فيقول أبوه: فاليوم لا أعصيك. فيقول إبراهيم: يا رب
إنك وعدتني أن لا تخزيني) أي لا تهينني ولا تذلني (يوم
يبعثون فأيّ خزي أخزى من) خزي (أبي) آزر (الأبعد) من رحمة
الله وعبّر بالفعل التفضيل لأن الفاسق بعيد والكافر أبعد
منه (فيقول الله تعالى: إني حرمت الجنة على الكافرين) أي
وإن أباك كافر فهي حرام عليه (ثم يقال له: يا إبراهيم ما
تحت رجليك فينظر فإذا هو بذيخ) بذال وخاء معجمتين بينهما
(5/343)
تحتية ساكنة ذكر ضبع كثير الشعر والأنثى
ذيخة والجمع ذيوخ وأذياخ وذيخة (ملتطخ) بالرجيع أو بالدم
صفة لذيخ، وعند الحاكم من طريق ابن سيرين عن أبي هريرة
فيمسخ الله أباه ضبعًا (فيؤخذ بقوائمه) بضم الياء وفتح
الخاء مبنيًّا للمفعول (فيلقى في النار).
وعند ابن المنذر: فإذا رآه كذلك تبرأ منه قال: لست أبي؛
الحديث. وكان قبل حملته الرأفة على الشفاعة له فظهر له في
هذه الصورة المستبشعة ليتبرأ منه، والحكمة في كونه مسخ
ضبعًا دون غيره من الحيوان أن الضبع أحمق الحيوان ومن حمقه
أنه يغفل عما يجب التيقظ له، فلما لم يقبل آزر
النصيحة من أشفق الناس عليه وقبل خديعة الشيطان أشبه الضبع
الموصوف بالحمق قاله الكمال الدميري.
وفي هذا الحديث دليل على أن شرف الولد لا ينفع الوالد إذا
لم يكن مسلمًا. وهذا الحديث أخرجه أيضًا في تفسير سورة
الشعراء.
3351 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سُلَيْمَانَ قَالَ:
حَدَّثَنِي ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عَمْرٌو أَنَّ
بُكَيْرًا حَدَّثَهُ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: «دَخَلَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبَيْتَ
فَوَجَدَ فِيهِ صُورَةَ إِبْرَاهِيمَ وَصُورَةَ مَرْيَمَ
فَقَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَمَا هُمْ
فَقَدْ سَمِعُوا أَنَّ الْمَلاَئِكَةَ لاَ تَدْخُلُ
بَيْتًا فِيهِ صُورَةٌ، هَذَا إِبْرَاهِيمُ مُصَوَّرٌ،
فَمَا لَهُ يَسْتَقْسِمُ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن سليمان) أبو سعيد الجعفي الكوفي
نزيل مصر وهو من أفراده (قال: حدثني) بالإفراد (ابن وهب)
عبد الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (عمرو) بفتح العين
ابن الحرث المصري (أن بكيرًا) بضم الموحدة مصغرًا ابن عبد
الله بن الأشج (حدثه عن كريب) بضم الكاف آخره موحدة مصغرًا
(مولى ابن عباس عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال:
دخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- البيت)
العتيق (وجد) ولأبي ذر: فوجد (فيه صورة إبراهيم) الخليل
(وصورة مريم) أم عيسى عليهم السلام (فقال -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أما) بتخفيف الميم (لهم) باللام قبل الهاء، ولأبي ذر وابن
عساكر: أما بتشديد الميم ولا تشديد في الفرع كأصله هم بحذف
اللام أي قريش (فقد سمعوا أن الملائكة لا تدخل بيتًا فيه
صورة) وقسيم أما قوله (هذا إبراهيم مصوّر فما له) بيده
الأزلام (يستقسم) بها وهو كان معصومًا من ذلك.
وقد مرّ هذا الحديث في الحج في باب من كبر في نواحي الكعبة
وأخرجه النسائي في الزينة.
3352 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا رَأَى
الصُّوَرَ فِي الْبَيْتِ لَمْ يَدْخُلْ حَتَّى أَمَرَ
بِهَا فَمُحِيَتْ. وَرَأَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ -
عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ - بِأَيْدِيهِمَا الأَزْلاَمُ
فَقَالَ: قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ
اسْتَقْسَمَا بِالأَزْلاَمِ قَطُّ».
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) التميمي الفراء الصغير
قال: (أخبرنا) ولأبي الوقت: حدّثنا (هشام) هو ابن يوسف
الصنعاني (عن معمر) بميمين مفتوحتين بينهما عين مهملة
ساكنة ابن راشد الأزدي مولاهم أبي عروة البصري نزيل اليمن
(عن أيوب) السختياني (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن
عباس -رضي الله عنهما- أن النبي) ولأبي ذر: عن النبي
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما رأى الصور) التي
صورها المشركون (في البيت) الحرام (لم يدخل) أي البيت (حتى
أمر بها فمحيت) بضم الميم مبنيًّا للمفعول أزيلت ورأى صورة
(إبراهيم و) صورة (إسماعيل عليهما السلام بأيديهما
الأزلام) أي القداح واحدها زلم وزلم بفتح الزاي وضمها
وإنما سميت القدام بالأزلام لأنها زلمت أي سويت يقال: قدم
مزلم وزليم إذا حرر وأجيد قدره وصفته (فقال) -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(قاتلهم الله) أي لعنهم الله (والله إن استقسما) بكسر
الهمزة وتخفيف النون نافية أي ما استقسما (بالأزلام قط)
وكان أحدهم إذا أراد سفرًا أو تجارة أو نكاحًا أو أمرًا
ضرب بالقداح المكتوب على بعضها أمرني ربي وعلى بعضها نهاني
ربي وبعضها غفل خال عن الكتابة، فإن خرج الأمر أقدم على
العمل وإن خرج النهي أمسك وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة
أخرى، وقيل: غير ذلك مما سبق في كتاب الحج في باب: من كبّر
في نواحي الكعبة.
3353 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ قَالَ:
حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه-: «قِيلَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ: أَتْقَاهُمْ.
فَقَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ:
فَيُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ
نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. قَالُوا: لَيْسَ
عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ
تَسْأَلُونَ؟ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ
فِي الإِسْلاَمِ إِذَا فَقُهُوا».
قَالَ أَبُو أُسَامَةَ وَمُعْتَمِرٌ: " عَنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ".
[الحديث 3353 - أطرافه في: 3374، 3383، 3490، 4689].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
يحيى بن سعيد) القطان قال: (حدّثنا عبيد الله) بضم العين
مصغرًا ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (قال:
حدثني) بالإفراد (سعيد بن أبي سعيد) المقبري (عن أبيه)
كيسان (عن أبي هريرة رضي الله عنه قيل: يا رسول الله) لم
يسم السائل (من أكرم الناس)؟ عند الله تعالى (قال) عليه
الصلاة والسلام:
(أتقاهم) أشدّهم لله تقوى (فقالوا: ليس عن هذا نسألك. قال:
فيوسف نبي الله ابن نبي الله) يعقوب (ابن نبي الله) إسحاق
(ابن خليل الله) إبراهيم أشرفهم والجواب الأول من جهة
الشرف بالأعمال
(5/344)
الصالحة والثاني من جهة الشرف بالنسب
الصالح وسقط ابن نبي الله الأخيرة في رواية أبي ذر (قالوا:
ليس عن هذا نسألك. قال) عليه الصلاة والسلام: (فعن معادن
العرب) أي أصولهم التي ينسبون إليها ويتفاخرون بها
(تسألون) ولأبي ذر: تسألونني بنونين فتحتية ولابن عساكر
تسألوني بإسقاط النون، وإنما جعلت معادن لما فيها من
الاستعدادات المتفاوتة فمنها قابلة لفيض الله تعالى على
مراتب المعادن ومنها غير قابلة لها (خيارهم في الجاهلية
خيارهم في الإسلام) جملة مبينة بعد التفاوت الحاصل بعد فيض
الله تعالى عليها من العلم والحكمة
قال الله تعالى: {ومن يؤت الحكمة فقد أُوتي خيرًا كثيرًا}
[البقرة: 269]. شبههم بالمعادن في كونها أوعية للجواهر
النفيسة المعنى بها في الإنسان كونه أوعية العلوم والحكمة
فالتفاوت في الجاهلية بحسب الأنساب وشرف الآباء وكرم الأصل
وفي الإسلام بحسب العلم والحكمة فالشرف الأول موروث
والثاني مكتسب قاله الطيبي، وخيارهم يحتمل أن يكون جمع خير
وأن يكون أفعل التفضيل تقول في الواحد خير وأخير (إذا
فقهوا). بضم القاف من فقه يفقه إذا صار فقيهًا كظرف، ولأبي
ذر: إذا فقهوا بكسرها يفقه بالفتح بمعنى فهم فهو متعد
والمضموم القاف لازم. قال أبو البقاء: وهو الجيد هنا ثم
القسمة كما في الفتح رباعية فإن الأفضل من جمع بين الشرف
في الجاهلية والشرف في الإسلام، ثم أرفعهم مرتبة من أضاف
إلى ذلك التفقه في الدين ويقابل ذلك من كان مشروفًا في
الجاهلية واستمر مشروفًا في الإسلام، فهذا أدنى المراتب.
والثالث من شرف الإسلام، وفقه ولم يكن شريفًا في الجاهلية
ودونه من كان كذلك لكنه لم يتفقه، والرابع من كان شريفًا
في الجاهلية ثم صار مشروفًا في الإسلام فهذا دون الذي
قبله. اهـ.
فالإيمان يرفع التفاوت المعتبر في الجاهلية فإذا تحلى
الرجل بالعلم والحكمة استجلب النسب الأصلي فيجتمع شرف
النسب مع شرف الحسب ومفهومه أن الوضيع المسلم المتحلي
بالعلم أرفع منزلة من الشريف المسلم العاطل وما أحسن ما
قال الأحنف:
كل عز إن لم يوطد بعلم ... فإلى الذل ذات يوم يصير
وقال آخر:
وما الشرف الموروث لا درّ دره ... لمحتسب إلا بآخر مكتسب
وقول الآخر:
إن السريّ إذا سرى فبنفسه ... وابن السريِّ إذا سرى
أسراهما
(قال أبو أسامة) حماد بن أسامة فيما وصله المؤلّف في قصة
يوسف (ومعتمر) هو ابن سليمان بن طرخان فيما وصله في قصة
يعقوب كلاهما (عن عبيد الله) العمري السابق (عن سعيد)
المقبري (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فأسقطا أبا سعيد كيسان
فخالفا يحيى بن سعيد القطان حيث قال: حدّثنا عبيد الله
قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة.
3354 - حَدَّثَنَا مُؤَمَّلٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ
حَدَّثَنَا عَوْفٌ حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ حَدَّثَنَا
سَمُرَةُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتِيَانِ،
فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ طَوِيلٍ لاَ أَكَادُ أَرَى
رَأْسَهُ طُولاً، وَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-».
وبه قال: (حدّثنا مؤمل) بالهمزة وتشديد الميم الثانية
مفتوحة بصيغة اسم المفعول ابن هشام البصري قال: (حدّثنا
إسماعيل) ابن علية قال: (حدّثنا عوف) الأعرابي قال:
(حدّثنا أبو رجاء) عمران العطاردي قال: (حدّثنا سمرة) بن
جندب -رضي الله عنه- (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أتاني الليلة) في منامي (آتيان) جبريل وميكائيل (فأتينا)
أي فذهبا بي حتى أتينا (على رجل طويل لا أكاد أرى رأسه
طولاً) في السماء (وإنه إبراهيم) الخليل "-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-" سقطت التصلية لأبي ذر.
وهذا الحديث سبق بتمامه في أواخر الجنائز.
3355 - حَدَّثَنِي بَيَانُ بْنُ عَمْرٍو حَدَّثَنَا
النَّضْرُ أَخْبَرَنَا ابْنُ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ
أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-
وَذَكَرُوا لَهُ الدَّجَّالَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ
كَافِرٌ أَوْ ك ف ر -قَالَ لَمْ أَسْمَعْهُ، وَلَكِنَّهُ
قَالَ: أَمَّا إِبْرَاهِيمُ فَانْظُرُوا إِلَى
صَاحِبِكُمْ، وَأَمَّا مُوسَى فَجَعْدٌ آدَمُ عَلَى جَمَلٍ
أَحْمَرَ مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ؛ كَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَيْهِ انْحَدَرَ فِي الْوَادِي».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (بيان بن
عمرو) بفتح الموحدة وتخفيف التحتية وعمرو بفتح العين أبو
محمد البخاري العابد قال: (حدّثنا النضر) بنون مفتوحة فضاد
معجمة ساكنة فراء ابن شميل قال: (أخبرنا ابن عون) عبد الله
(عن مجاهد) هو ابن جبر الإمام في التفسير (أنه سمع ابن
عباس -رضي الله عنهما- وذكروا له الدجال) فقالوا (بين
عينيه مكتوب) كتابة حقيقة (كافر أو) هذه الحروف المقطعة
(5/345)
(ك ف ر) بفتحات تظهر لكل مؤمن كاتبًا أو
غير كاتب (قال) ابن عباس (لم أسمعه) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زاد في باب الجعد من كتاب اللباس قال
ذلك (ولكنه قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(أما إبراهيم فانظروا إلى صاحبكم) يريد رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فإنه كان أشبه الناس بإبراهيم
(وأما موسى فجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة مجتمع
الجسم وليس المراد جعودة شعره إذ في بعض الروايات أنه رجل
الشعر (آدم) من الأدمة وهي السمرة (على جمل أحمر مخطوم)
بالخاء المعجمة مزموم (بخلبة) بخاء معجمة مضمومة فلام
ساكنة فموحدة مفتوحة ليفة ولأبي ذر: الخلبة الليفة (كأني
أنظر إليه) حقيقة كليلة الإسراء أو في المنام ورؤيا
الأنبياء وحي (انحدر) وفي الحج إذا انحدر (في الوادي) أي
وادي الأزرق وزاد في الحج يلبي.
3356 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقُرَشِيُّ عَنْ
أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
-رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ -
عَلَيْهِ السَّلاَمُ - وَهْوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً
بِالْقَدُّومِ». تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ. [الحديث 3356 - طرفه في: 6298].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي مولاهم
البغلاني البلخي قال: (حدّثنا
مغيرة بن عبد الرَّحمن القرشي عن أبي الزناد) عبد الله بن
ذكوان (عن الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله) ولأبي ذر: النبي
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اختتن إبراهيم عليه الصلاة والسلام وهو ابن ثمانين سنة)
جملة حالية (بالقدوم) بفتح القاف وتشديد الدال في الفرع
وأصله وقال الحافظ ابن حجر: رويناه بالتشديد عن الأصيلي
والقابسي، ووقع في رواية غيرهما بالتخفيف. قال النووي: لم
تختلف الرواة على مسلم في التخفيف، وأنكر يعقوب بن شبة
التشديد أصلاً واختلف في المراد به فقيل هو اسم قرية
بالشام أو ثنية بالسراة، وقيل: آلة النجار وهي بالتخفيف،
وأما اسم الموضع ففيه الوجهان. قال في القاموس: والقدوم
يعني بالتخفيف آلة ينحت بها مؤنثة الجمع قدائم وقدم وقرية
بحلب وموضع بنعمان وجبل بالمدينة وثنية بالسراة وموضع
اختتن فيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وقد تشدّد داله
وثنية في جبل ببلاد دوس وحصن باليمن انتهى. فمن رواه
بالتشديد أراد الموضع، ومن رواه بالتخفيف فيحتمل القرية
والآلة والأكثرون على التخفيف وإرادة الآلة.
وقد روى أبو يعلى من طريق عليّ بن رباح قال: أمر إبراهيم
بالختان فاختتن بقدوم فاشتد عليه فأوحى الله إليه عجلت قبل
أن نأمرك بآلته. فقال: يا رب كرهت أن أؤخر أمرك.
وعن مالك والأوزاعي فيما قاله عياض أنه اختتن وهو ابن مائة
وعشرين سنة وأنه عاش بعد ذلك ثمانين سنة إلا أن مالكًا ومن
تبعه وقفوه على أبي هريرة. وحكى الجارودي أنه اختتن وهو
ابن سبعين وما في الصحيح أصح.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الاستئذان ومسلم في أحاديث
الأنبياء.
000 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ وَقَالَ: «بِالْقَدُومِ»
مُخَفَّفَةً. تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ إِسْحَاقَ
عَنْ أَبِي الزِّنَادِ. وتَابَعَهُ عَجْلاَنُ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ. وَرَوَاهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع الحمصي قال:
(أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة الحمصي قال: (حدّثنا أبو
الزناد) عبد الله بن ذكوان (وقال بالقدوم مخففة) وعليه
الأكثر، والمراد به الآلة كما سبق، وثبت لفظ وقال لأبي ذر
(تابعه) أي تابع شعيبًا على التخفيف (عبد الرَّحمن بن
إسحاق) بن عبد الله الثقفي فيما وصله مسدد في مسنده (عن
أبي الزناد) عبد الله (وتابعه) أي تابع شعيبًا أو عبد
الرَّحمن بن إسحاق (عجلان) بفتح العين المهملة وسكون الجيم
مولى فاطمة بنت عتبة بن ربيعة القرشي والد محمد بن عجلان
في التخفيف أيضًا فيما وصله الإمام أحمد عن يحيى القطان عن
محمد بن عجلان عن أبيه (عن أبي هريرة).
(ورواه) أي الحديث المذكور (محمد بن عمرو) بفتح العين فيما
وصله أبو يعلى في مسنده (عن أبي سلمة) بن عبد الرَّحمن بن
عوف عن أبي هريرة، ووقع في رواية أبوي ذر والوقت:
تابعه عبد الرَّحمن بن إسحاق عن أبي الزناد، وتابعه عجلان
عن أبي هريرة، ورواه محمد بن عمر، وعن أبي سلمة حدّثنا أبو
اليمان فذكر الحديث السابق مؤخرًا عن متابعة عبد الرَّحمن
ومتابعة عجلان ورواية محمد بن عمرو، وحينئذٍ فتكون
المتابعتان لقتيبة بن سعيد على أن عمر إبراهيم حين اختتن
كان ثمانين سنة، وكذا رواية محمد بن عمرو لأنه وقع التصريح
في المتابعتين
(5/346)
والرواية عند من وصلها بذلك، أما على تقديم
حديث أبي اليمان عليها فالمتابعتان والرواية لحديثه فى
التخفيف كما مرّ فافهم.
3357 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ الرُّعَيْنِيُّ
أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ
حَازِمٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «لَمْ يَكْذِبْ
إِبْرَاهِيمُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- إِلاَّ ثَلاَثَ
كذبات».
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن تليد) بفتح الفوقية وسكون
التحتية بينهما لام مكسورة آخره دال مهملة وهو سعيد بن
عيسى بن تليد (الرعيني) المصري قال: (أخبرنا) بالجمع ولأبي
ذر: أخبرني (ابن وهب) عبد الله المصري (قال: أخبرني)
بالإفراد (جرير بن حازم) بفتح الجيم وحازم بالحاء المهملة
والزاي (عن أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن سيرين (عن
أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلا ثلاثًا) أي إلا
ثلاث كذبات كما في الطريق الثانية.
3358 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَحْبُوبٍ حَدَّثَنَا
حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: "لَمْ يَكْذِبْ
إِبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ - إِلاَّ ثَلاَثَ
كَذَبَاتٍ: ثِنْتَيْنِ مِنْهُنَّ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ: قَوْلُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ} وَقَوْلُهُ: {بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وَقَالَ: بَيْنَا هُوَ ذَاتَ
يَوْمٍ وَسَارَةُ إِذْ أَتَى عَلَى جَبَّارٍ مِنَ
الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ هَا هُنَا رَجُلاً
مَعَهُ امْرَأَةٌ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ، فَأَرْسَلَ
إِلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالَ:
أُخْتِي. فَأَتَى سَارَةَ قَالَ: يَا سَارَةُ لَيْسَ عَلَى
وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرُكِ، وَإِنَّ
هَذَا سَأَلَنِي فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّكِ أُخْتِي، فَلاَ
تُكَذِّبِينِي. فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا، فَلَمَّا دَخَلَتْ
عَلَيْهِ ذَهَبَ يَتَنَاوَلُهَا بِيَدِهِ فَأُخِذَ.
فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ لِي وَلاَ أَضُرُّكِ، فَدَعَتِ
اللَّهَ فَأُطْلِقَ. ثُمَّ تَنَاوَلَهَا الثَّانِيَةَ
فَأُخِذَ مِثْلَهَا أَوْ أَشَدَّ، فَقَالَ: ادْعِي اللَّهَ
لِي وَلاَ أَضُرُّكِ، فَدَعَتْ فَأُطْلِقَ. فَدَعَا بَعْضَ
حَجَبَتِهِ فَقَالَ: إِنَّكُمْ لَمْ تَأْتُونِي
بِإِنْسَانٍ، إِنَّمَا أَتَيْتُمُونِي بِشَيْطَانٍ،
فَأَخْدَمَهَا هَاجَرَ. فَأَتَتْهُ هَاجَرَ وَهُوَ قَائِمٌ
يُصَلِّي، فَأَوْمَأَ بِيَدِهِ: مَهْيَمْ؟ قَالَتْ: رَدَّ
اللَّهُ كَيْدَ الْكَافِرِ -أَوِ الْفَاجِرِ- فِي
نَحْرِهِ، وَأَخْدَمَ هَاجَرَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ:
تِلْكَ أُمُّكُمْ يَا بَنِي مَاءِ السَّمَاءِ".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن محبوب) ضد المبغوض البناني بضم
الموحدة وتخفيف النون البصري
قال: (حدّثنا حماد بن زيد) اسم جده درهم الأزدي الجهضمي
البصري (عن أيوب) السختياني (عن محمد) هو ابن سيرين (عن
أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: لم يكذب إبراهيم عليه
الصلاة والسلام) لم يصرح برفعه في رواية حماد بن زيد هذه
إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على
المعتمد الموافق لرواية النسفيّ وكريمة كما رواه عبد
الرزاق عن معمر، والأصل رفعه كما في رواية جرير بن حازم
السابقة ورواية هشام بن حسان عند النسائي والبزار وابن
حبان.
ورواه البخاري عن الأعرج عن أبي هريرة في البيوع وفي
النكاح عن سليمان بن حرب عن حماد بن زيد فصرح برفعه أيضًا
في رواية أبي ذر والأصيلي وابن عساكر ولفظه قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (لم يكذب
إبراهيم إلا ثلاث كذبات) بسكون الذال عند ابن الحطيئة عن
أبي ذر كما في اليونينية. وقال في المصابيح بفتح الذال،
وفي فتح الباري عن أبي البقاء أنه الجيد لأنه جمع كذبة
بسكون الذال وهو اسم لا صفة تقول كذب كذبة كما تقول ركع
ركعة ولو كان صفة لسكن في الجمع، وليس هذا من الكذب
الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا، وإنما أطلق عليه الكذب
تجوزًا وهو من باب المعاريض المحتملة للأمرين لمقصد شرعي
ديني كما جاء في الحديث المروي عند البخاري في الأدب
المفرد من طريق قتادة عن مطرف بن عبد الله عن عمران بن
الحصين أن في معاريض الكلام مندوحة عن الكذب، ورواه أيضًا
البيهقي في الشعب والطبراني في الكبير ورجاله ثقات، وهو
عند ابن السني من طريق الفضل بن سهل مرفوعًا. قال البيهقي
رحمه الله: والموقوف هو الصحيح، وروي أيضًا من حديث علي
مرفوعًا وسنده ضعيف جدًّا، وعند ابن أبي حاتم عن أبي سعيد
-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: في كلمات إبراهيم الثلاث التي قال ما
منها كلمة إلا ما حل بها عن دين الله أي جادل ودافع، وفي
حديث ابن عباس عند أحمد: والله إن جادل بهن إلا عن دين
الله، وقال ابن عقيل: دلالة العقل تصرف ظاهر إطلاق الكذب
عن إبراهيم، وذلك أن العقل قطع بأن الرسول ينبغي أن يكون
موثوقًا به ليعلم صدق ما جاء به عن الله ولا ثقة مع تجويز
الكذب عليه، فكيف مع وجود الكذب منه، وإنما أطلق عليه ذلك
لكونه بصورة الكذب عند السامع وعلى كل تقدير فلم يصدر من
إبراهيم عليه الصلاة والسلام إطلاق الكذب على ذلك أي حيث
يقول في حديث الشفاعة: وإني كنت كذبت ثلاث كذبات إلا في
حال شدّة الخوف لعلو مقامه وإلاّ فالكذب في مثل تلك
المقامات يجوز، وقد يجب لتحمل أخف الضررين دفعًا لأعظمهما،
وقد اتفق الفقهاء فيما لو طلب ظالم وديعة عند إنسان
ليأخذها غصبًا وجب على المودع عنده أن يكذب بمثل أنه لا
يعلم موضعها بل يحلف على ذلك، ولما كان ما صدر من الخليل
عليه السلام مفهوم ظاهره خلاف باطنه أشفق أن يؤاخذ به لعلو
حاله فإن الذي كان يليق بمرتبته في النبوة والخلة أن يصدع
بالحق ويصرح بالأمر كيفما كان ولكنه رخص له فقبل الرخصة،
ولذا يقول عندما يسأل في الشفاعة: إنما كنت خليلاً من وراء
وراء ويستفاد منه أن الخلة لم
(5/347)
تكن بكمالها إلا لمن صح له في ذلك اليوم
المقام المحمود، وأما قول الإمام فخر الدين: لا ينبغي أن
ينقل هذا الحديث لأن فيه نسبة الكذب إلى إبراهيم، وقول
بعضهم له: فكيف يكذب
الراوي العدل؟ وجواب الإمام له بأنه لما وقع التعارض بين
نسبة الكذب إلى الراوي وبين نسبة الكذب إلى الخليل كان من
المعلوم بالضرورة أن نسبته إلى الراوي أولى فليس بشيء إذ
الحديث صحيح ثابت، وليس فيه نسبة محض الكذب إلى الخليل،
وكيف السبيل إلى تخطئة الراوي مع قوله: ({إني سقيم}) و
({بل فعله كبيرهم}) (الأنبياء: 63]. هذا. وعن سارة أختي إذ
ظاهر هذه الثلاثة بلا ريب غير مراد (ثنتين منهن) أي من
الثلاث (في ذات الله) لأجله (عز وجل) محضًا من غير حظ
لنفسه بخلاف الثالثة وهي قصة سارة فإنها تضمنت حظًّا
ونفعًا له.
فالأولى (قوله) تعالى حاكيًا عنه لما طلبه قومه ليخرج معهم
إلى معبدهم وكان أحب أن يخلو بآلهتهم ليكسرها {إني سقيم}
[الصافات: 89]. مريض القلب بسبب إطباقكم على الكفر والشرك
أو سقيم بالنسبة إلى ما يستقبل يعني مرض الموت، واسم
الفاعل يستعمل بمعنى المستقبل كثيرًا أو خارج المزاج عن
الاعتدال خروجًا قلّ من يخلو منه، وقال سفيان: سقيم أي
طعين وكانوا يفرّون من المطعون، وعن ابن عباس في رواية
العوفي قالوا له وهو في بيت آلهتهم أخرج فقال: إني مطعون
فتركوه مخافة الطاعون. فإنه كان غالب أسقامهم الطاعون
وكانوا يخافون العدوى، وأما حكاية قول بعضهم: إنه كان
تأتيه الحمى في ذلك الوقت فبعيد لأنه لو كان كذلك لم يكن
كذبًا لا تصريحًا ولا تلويحًا.
(و) الثانية (قوله) لما كسر آلهتهم كسرًا وقطعًا إلا
كبيرًا لهم فاستبقاه وكانت فيما قيل اثنين وسبعين صنمًا
بعضها من ذهب وبعضها من فضة وبعضها من حديد وبعضها من رصاص
وحجر وخشب، وكان الكبير من الذهب مرصعًا بالجواهر وفي
عينيه ياقوتتان تتقدان وجعل الفأس في عنقه لعلهم إليه
يرجعون فيسألونه: ما بال هؤلاء مكسرين وأنت صحيح والفأس في
عنقك؟ إذ من شأن المعبود أن يرجع إليه أو المراد أنهم
يرجعون إلى إبراهيم لتفرده واشتهاده بعداوة آلهتهم فيحاجهم
أو يرجعون إلى توحيد الله عند تحققهم عجز آلهتهم فلما
رجعوا من عيدهم إلى بيت آلهتهم ورأوا أصنامهم مكسرة وقالوا
لإبراهيم {أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم} [الأنبياء:
62]. قال: {بل فعله كبيرهم هذا} وهذا الإضراب عن جملة
محذوفة أي لم أفعله إنما الفاعل حقيقة هو الله وإسناد
الفعل إلى كبيرهم من أبلغ المعاريض، وذلك أنهم لما طلبوا
منه الاعتراف ليقدموا على إيذائه قلب الأمر عليهم وقال:
{بل فعله كبيرهم هذا} لأنه عليه السلام غاظته تلك الأصنام
حين أبصرها مصطفة وكان غيظه من كبيرها أشد لما رأى من
زيادة تعظيمهم له فأسند الفعل إليه لأنه هو السبب في
استهانته لها والفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل
عليه أو أن إبراهيم عليه السلام قصد تقرير الفعل لنفسه على
أسلوب تعريضي وليس قصده نسبة الفعل إلى الصنم وهذا كما لو
قال لك من لا يحسن الخط فيما كتبته أأنت كتبت هذا فقلت له
بل كتبته أنت قاصدًا بذلك تقريره لك مع الاستهزاء لا نفيه
عنك وإثباته له ذكرهما الزمخشري، وتعقب الأول منهما صاحب
الفرائد بأنه إنما يستقيم إذا كان الفعل دائرًا بين
إبراهيم وبين الصنم الكبير لاحتمال أن يكون كسرها غير
إبراهيم، والثاني منهما بأنه ضعيف لأن غيظه من عبادة غير
الله يستوي فيه الكبير والصغير. والجواب أنه دل تقديم
الفاعل المعنوي في قوله {أأنت فعلت} على أن الكلام ليس في
الفعل لأنه معلوم بل في الفاعل كقوله تعالى: {وما أنت
علينا بعزيز} [هود: 91]. ودل قولهم {سمعنا فتى يذكرهم يقال
له إبراهيم} وقولهم {قالوا فأتوا به على أعين الناس} على
أنهم لم يشكوا أن الفاعل هو فإذن لا يكون قصدهم في قولهم:
{أأنت فعلت هذا} إلا بأن يقرّ بأنه هو فلما رد بقوله: {بل
فعله كبيرهم} تعريضًا دار الأمر بين الفاعلين أو المعنى
على التقديم والتأخير أي بل فعله كبيرهم إن كانوا ينطقون
فاسألوهم فجعل النطق شرطًا
(5/348)
للفعل إن قدروا على النطق قدروا على الفعل
فأراهم عجزهم وفي ضمنه أنا فعلت ذلك.
وقال: (بينا) بغير ميم (هو) أي إبراهيم (ذات يوم وسارة)
بنت هاران ملك حران زوجته معه وزاد مسلم وكانت من أحسن
الناس وجواب بينا قوله (إذ أتى) أي مرّ (على جبار من
الجبابرة) اسمه صادوق فيما ذكره ابن قتيبة وهو ملك الأردن
أو سنان أو سفيان بن علوان فيما ذكره الطبري أو عمرو بن
امرئ القيس بن سبأ وكان على مصر ذكره السهيلي (فقيل له: إن
ههنا رجلاً) ولأبي ذر عن الكشميهني هذا رجل (معه امرأة من
أحسن الناس فأرسل) الجبار (إليه) أي إلى الخليل (فسأله
عنها فقال: من هذه) المرأة (قال) الخليل هي (أختي) أي في
الإسلام، ولعله أراد بذلك دفع أحد الضررين بارتكاب أخفهما
لأن اغتصاب الملك إياها واقع لا محالة لكن إن علم أن لها
زوجًا حملته الغيرة على قتله أو حبسه وإضراره بخلاف ما إذا
علم أن لها أخًا فإن المغيرة حينئذٍ تكون من قبل الأخ خاصة
لا من قبل الملك فلا يبالي به، وقيل خاف أنه إن علم أنها
زوجته ألزمه بطلاقها (فأتى) الخليل (سارة قال): ولأبي ذر:
فقال (يا سارة ليس على وجه الأرض) التي وقع بها ذلك (مؤمن
غيري وغيرك) بفتح الراء عند ابن الحطيئة عن أبي ذر وتخصيص
الأرض بالأرض التي وقع بها ذلك دافع لاعتراض من قال إن
لوطًا كان مؤمنًا معه قال تعالى: ({فآمن له لوط} وإن هذا)
الجبار (سألني) عنك (فأخبرته أنك أختي) في الإيمان (فلا
تكذبيني) بقولك هو زوجي (فأرسل) الجبار (إليهما فلما دخلت
عليه ذهب) ولأبي ذر عن الكشميهني: وذهب (يتناولها) ولأبي
ذر تناولها بإسقاط التحتية بلفظ الماضي (بيده فأخذ) بضم
الهمزة وكسر المعجمة مبنيًا للمفعول أي اختنق حتى ركض
برجله كأنه مصروع. وعند مسلم أنه لما أرسل إليها قام
إبراهيم يصلّي، وفي رواية الأعرج في البيوع في باب: شراء
الملوك من الحربي وهبته وعتقه فأرسل بها إليه فقام إليها
فقامت تتوضأ وتصلي فقالت: اللهم إن كنت آمنت بك وبرسولك
وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط عليّ الكافر فغطّ حتى
ركض برجله، وفي مسلم لما دخلت عليه لم يتمالك أن بسط يده
فقبضت يده قبضة شديدة (فقال) لها (ادعي الله لي) وعند مسلم
ادعي الله أن يطلق يدي (ولا أضرّك) ولأبي ذر: ولا أضرك
بفتح الراء (فدعت الله فأطلق ثم تناولها الثانية) ولأبي ذر
ثانية بغير ألف ولام (فأخذ) بضم الهمزة (مثلها) أي الأولى
(أو أشد) منها (فقال) لها (ادعي الله لي) أن يخلصني (ولا
أضرك) بفتح الراء وضمها كالسابقة (فدعت الله فأطلق فدعا
بعض حجبته) بفتح الحاء المهملة والجيم جمع حاجب ولمسلم
ودعا الذي جاء بها. قال
الحافظ ابن حجر: ولم أقف على اسمه (فقال: إنكم لم تأتوني
بإنسان إنما أتيتموني) ولأبي ذر وابن عساكر إنك لم تأتني
بإنسان إنما أتيتني (بشيطان) أي متمرد من الجن وهو مناسب
لما وقع له من الصرع زاد الأعرج. أرجعوها إلى إبراهيم
(فأخدمها هاجر) أي وهبها لها لتخدمها لأنه أعظمها أن تخدم
نفسها وكان أبو هاجر من ملوك القبط (فأتته) أي أتت سارة
إبراهيم (وهو قائم يصلّي فأومأ بيده مَهْيَا) بفتح الميم
وسكون الهاء وفتح الياء التحتية مقصور من غير همز أي ما
حالك وما شأنك، ولأبي ذر عن الكشميهني: مهيم بالميم بدل
الألف، ولابن السكن: مهين بالنون وكلها بمعنى (قالت) سارة
(ردّ الله كيد الكافر أو الفاجر في نحره) هو مثل تقوله
العرب لمن رام أمرًا باطلاً فلم يصل إليه (وأخدم هاجر) وفي
حديث مسلم عن أبي زرعة عن أبي هريرة في حديث الشفاعة
الطويل فقال في قصة إبراهيم وذكر كذباته ثم ساقه من طريق
أخرى من هذا الوجه وقال في آخره وزاد في قصة إبراهيم وذكر
قوله في الكوكب هذا ربي وقوله لآلهتهم {بل فعله كبيرهم
هذا} [الصافات: 91] قال القرطبي فيما قرأته في تفسيره فعلى
هذا تكون الكذبات أربعة إلا أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفى تلك بقوله: "لم يكذب إبراهيم إلا
ثلاث كذبات إني سقيم وقوله بل فعله كبيرهم هذا وواحدة في
شأن سارة"
(5/349)
ولم يعد عليه قوله في الكوكب هذا ربي كذبة
وهي داخلة فيه، لأنه والله أعلم كان حين قوله ذلك في حال
الطفولية وليست حالة تكليف انتهى.
وهذا الذي قاله القرطبي نقله عنه في فتح الباري وأقره وقد
اتفق أكثر المحققين على فساده محتجين بأنه لا يجوز أن يكون
له رسول يأتي عليه وقت من الأوقات إلا وهو موحد عابد وبه
عارف ومن كل معبود سواه بريء، وكيف يتوهم هذا على من عصمه
وطهره وآتاه رشده من قبل وأراه ملكوت السماوات والأرض،
أفتراه أراه الملكوت ليوقن فلما أيقن رأى كوكبًا قال هذا
ربي معتقدًا، فهذا لا يكون أبدًا. وأيضًا فالقول بربوبية
الجماد أيضًا كفر بالإجماع وهو لا يجوز على الأنبياء
بالإجماع، أو قاله بعد بلوغه على سبيل الوضع فإن المستدل
على فساد قول يحكيه على ما يقول الخصم ثم يكر عليه
بالإفساد كما يقول الواحد منا إذا ناظر من يقول بقدم الجسم
فيقول الجسم قديم فإن كان كذلك فلم نشاهده مركبًا متغيرًا،
فقوله الجسم قديم إعادة لكلام الخصم حتى يلزم المحال عليه،
فكذا هنا قال (هذا ربي) حكاية لقول الخصم ثم ذكر عقبه ما
يدل على فساده وهو قوله: (لا أحب الآفلين) ويؤيد هذا أنه
تعالى مدحه في آخر هذه الآية على هذه المناظرة بقوله:
{وتلك حجتنا آتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] ولذا
لم تعد هذه مع تلك الثلاث المذكورة.
(قال أبو هريرة) -رضي الله عنه- بالسند السابق يخاطب العرب
(تلك) يعني هاجر (أمكم يا بني ماء السماء) لكثرة ملازمتهم
الفلوات التي بها مواقع المطر لرعي دوابهم، وقال الخطابي
وقيل إنما أراد زمزم أنبعها الله لهاجر فعاشوا بها فصاروا
كأنهم أولادها. وذكر ابن حبان في صحيحه إن كل مَن كان من
ولد هاجر يقال له ولد ماء السماء لأن إسماعيل ولد هاجر وقد
ربي بماء زمزم وهي ماء السماء الذي أكرم الله به إسماعيل
حين ولدته هاجر، فأولادها أولاد ماء السماء،
وقيل ماء السماء هو عامر جد الأوس والخزرج سمي بذلك لأنه
كان إذا قحط الناس أقام لهم ماله مقام مطر.
وهذا الحديث قد سبق في البيع، وأخرجه في النكاح أيضًا
ومسلم في الفضائل.
3359 - حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى -أَوِ
ابْنُ سَلاَمٍ عَنْهُ- أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ
عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
الْمُسَيَّبِ عَنْ أُمِّ شَرِيكٍ - رضي الله عنها-: «أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَمَرَ بِقَتْلِ الْوَزَغِ وَقَالَ: كَانَ يَنْفُخُ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ».
وبه قال: (حدّثنا عبيد الله بن موسى) بضم العين مصغرًا ابن
باذام العبسي الكوفي (أو) حدّثنا (ابن سلام) محمد (عنه) أي
عن عبيد الله بن موسى وكلاهما من مشايخه، والظاهر أن
المؤلّف شك في سماعه للحديث الآتي من عبيد الله بن موسى ثم
تحقق أنه سمعه من ابن سلام عن عبيد الله فساقه هكذا قال
عبيد الله (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (عن
عبد الحميد بن جبير) بضم الجيم وفتح الموحدة مصغرًا ابن
شيبة بن عثمان الحجبي (عن سعيد بن المسيب عن أم شريك) غزية
أو غزيلة العامرية ويقال الأنصارية (-رضي الله عنها- أن
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بقتل
الوزغ) بفتح الواو والزاي (وقال) ولأبي ذر قال:
(كان ينفخ) النار (على إبراهيم عليه السلام) حين ألقي فيها
وكل دابة في الأرض كانت تطفئها عنه. وفي حديث عائشة: لما
أحرق بيت المقدس كانت الأوزاغ تنفخه ذكره الكمال الدميري،
وفي الطبراني عن ابن عباس مرفوعًا "اقتلوا الوزغ ولو في
جوف الكعبة" وفي إسناده عمر بن قيس المكي وهو ضعيف وسقط
قوله عليه السلام لأبي ذر.
3360 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ
حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي
إِبْرَاهِيمُ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي
الله عنه- قَالَ: «لَمَّا نَزَلَتِ {الَّذِينَ آمَنُوا
وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} قُلْنَا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ قَالَ:
لَيْسَ كَمَا تَقُولُونَ، {لَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ
بِظُلْمٍ}: بِشِرْكٍ. أَوَ لَمْ تَسْمَعُوا إِلَى قَوْلِ
لُقْمَانَ لاِبْنِهِ: {يَا بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ
إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}».
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص بن غياث) النخعي الكوفي قال:
(حدّثنا أبي) حفص قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران
(قال: حدثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (إبراهيم) النخعي
(عن علقمة) بن الأسود (عن عبد الله) يعني ابن مسعود (-رضي
الله عنه-) أنه (قال: لما نزلت {الذين آمنوا ولم يلبسوا
إيمانهم بظلم}) [الأنعام: 82] معطوف على الصلة فلا محل لها
أو الواو للحال، والجملة بعدها في محل نصب على الحال أي
آمنوا غير ملبسين إيمانهم بظلم وهو كقوله تعالى: {أنى يكون
لي غلام ولم يمسسني بشر} [مريم: 20] (قلنا: يا رسول الله
أينا لا يظلم
نفسه)؟ حملوه على العموم لأن قوله بظلم نكرة في سياق النفي
فبين لهم الشارع -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن
الظاهر غير
(5/350)
مراد بل هو من العام الذي أريد به الخاص
حيث (قال) عليه الصلاة والسلام:
(ليس كما تقولون) بل المراد ({لم يلبسوا إيمانهم بظلم})
[الأنعام: 82] أي (بشرك) أي لم ينافقوا (أو لم تسمعوا إلى
قول لقمان لابنه) أنعم أو مشكم ({يا بني لا تشرك بالله إن
الشرك لظلم عظيم}) [لقمان: 13] لأن التسوية بين من يستحق
العبادة ومن لا يستحقها ظلم عظيم لأن وضع العبادة في غير
موضعها، وسقط قوله: يا بني لأبي ذر.
فإن قلت: ما وجه مناسبة هذا الحديث لما ترجم به؟ فالجواب
أن قوله: {الذين آمنوا} من كلام إبراهيم جوابًا عن السؤال
في قوله: فأي الفريقين أو من كلام قومه وإنهم أجابوه بما
هو حجة عليهم، وحينئذٍ فالموصول خبر مبتدأ محذوف أي هم
الذين آمنوا فظهرت المناسبة بين الحديث والترجمة، ويكفي
أدنى إشارة كما هي عادة المؤلّف -رحمه الله- في دقائق
التراجم وفي حديث علي عند الحاكم أنه قرأ {الذين آمنوا ولم
يلبسوا إيمانهم بظلم} وقال: نزلت هذه الآية في إبراهيم
وأصحابه ليس في هذه الأمة.
وحديث الباب سبق في الإيمان في باب ظلم دون ظلم وأخرجه
أيضًا في التفسير.
9 - باب يَزِفُّونَ: النَّسَلاَنُ فِي الْمَشْيِ
هذا (باب) بالتنوين من غير ذكر ترجمة فهو كالفصل من سابقه
({يزفون}) في قوله تعالى في سورة الصافات {فأقبلوا إليه}
[الصافات: 94] أي إلى إبراهيم لما بلغهم خبر كسر أصنامهم
ورجعوا من عيدهم حال كونهم يزفون وهو (النسلان) فيما وصله
الطبري عن مجاهد بلفظ الوزيف النسلان وهو بفتح النون وسكون
السين المهملة وبعد اللام ألف ونون وعن مجاهد وغيره أي
يسرعون (في المشي) ووقع في فرع اليونينية علامة سقوط الباب
لأبي ذر وثبوت يزفون النسلان في المشي للحموي والكشميهني
وثبوت كل لابن عساكر، وقال ابن حجر سقط ذلك من رواية
النسفيّ، وثبت في رواية المستملي باب بغير ترجمة، ووهم من
وقع عنده باب يزفون النسلان في المشي فإنه كلام لا معنى
له، والذي يظهر ترجيح ما وقع عند المستملي لأن باب بغير
ترجمة كالفصل من السابق وتعلقه بما قبله واضح.
3361 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ
نَصْرٍ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ أَبِي حَيَّانَ
عَنْ أَبِي زُرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: «أُتِيَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَوْمًا بِلَحْمٍ، فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ
يَجْمَعُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي
وَيُنْفِذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ -
فَذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ -فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ
فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنَ
الأَرْضِ, اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، فَيَقُولُ:
-فَذَكَرَ كَذَبَاتِهِ- نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى
مُوسَى». تَابَعَهُ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم بن نصر) السعدي المروزي
قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة (عن أبي حيان) بفتح
الحاء المهملة وتشديد التحتية يحيى بن سعيد التيمي تيم
الرباب الكوفي (عن أبي زرعة) هرم بن عمرو بن جرير بن عبد
الله البجلي الكوفي (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه
(قال: أتي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضم
الهمزة وكسر الفوقية مبنيًا للمفعول (يومًا بلحم فقال):
(إن الله يجمع يوم القيامة الأوّلين والآخرين) في باب قول
الله تعالى {إنّا أرسلنا نوحًا} قال: كنا مع النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، في دعوة فرفع إليه الذراع
وكانت تعجبه فنهس منها نهسة وقال: أنا سيد الناس يوم
القيامة هل تدرون بم يجمع الله الأولين والآخرين (في صعيد
واحد) أرض مستوية واسعة (فيسمعهم الداعي) بضم الياء من
الإسماع (وينفذهم البصر) بضم الياء والذال المعجمة في
الفرع وبعضهم فيما حكاه الكرماني فتح الياء، والمعنى أنه
يحيط بهم بصر الناظر لا يخفى عليه منهم شيء لاستواء الأرض،
وذكر أبو حاتم أنه إنما هو بالدال المهملة وإن المحدثين
يروونه بالمعجمة والمعنى يبلغ أولهم وآخرهم حتى يراهم كلهم
ويستوعبهم (وتدنو الشمس منهم فذكر حديث الشفاعة) إلى أن
قال: (فيأتون إبراهيم فيقولون) له (أنت نبي الله وخليله من
الأرض) هذا موضع الترجمة وزاد إسحاق بن راهويه ومن طريقه
الحاكم في المستدرك من وجه آخر عن أبي زرعة عن أبي هريرة
قد سمع بخلتك أهل السماوات والأرض (اشفع لنا إلى ربك
فيقول) بالفاء ولأبي ذر ويقول أي لست هنا كم (فذكر كذباته)
بفتح الذال المعجمة التي هي من باب المعاريض وليست من
الكذب الحقيقي المذموم بل كانت في ذات الله تعالى وإنما
أشفق منها في هذا الحل لعلو مقامه كما مر قريبًا فراجعه
(نفسي نفسي) مرتين وزاد أبو ذر ثالثة (اذهبوا إلى موسى)
الحديث الخ وسبق في باب قول الله تعالى: {إنّا أرسلنا
نوحًا إلى قومه} [نوح: 1] قريبًا
(تابعه) أي تابع أبا هريرة على رواية هذ الحديث (أنس) -رضي
الله عنه- (عن النبي-صَلَّى اللَّهُ
(5/351)
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). فيما وصله المؤلّف
في التوحيد.
3362 - حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ
اللَّهِ حَدَّثَنَا وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ، لَوْلاَ أَنَّهَا
عَجِلَتْ لَكَانَ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (أحمد بن
سعيد أبو عبد الله) الرباطي بضم الراء وتخفيف الموحدة
المروزي الأشقر قال: (حدّثنا وهب بن جرير) بفتح الجيم (عن
أبيه) جرير بن حازم بن زيد الأزدي البصري (عن أيوب)
السختياني (عن عبد الله بن سعيد بن جبير عن أبيه) سعيد بن
جبير الأزدي الفقيه الورع (عن ابن عباس -رضي الله عنهما-
عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه (قال):
(يرحم الله أم إسماعيل) هاجر (لولا أنها عجلت) بكسر الجيم
لما عطش إسماعيل وجاء جبريل عليه السلام فبحث بعقبه حتى
ظهر الماء فجعلت تخوّضه وتغرف من الماء في سقائها (لكان
زمزم) بغير تاء تأنيث بعد النون (عينًا معينا) بفتح الميم
أي سائلاً على وجه الأرض، والقياس أن
يقول معينة فالتذكير حملاً على اللفظ ووزنه مفعل من عانه
إذا رآه بعينه وأصله معيون فبقي كمبيع أو فعيل من أمعنت في
الشيء إذا بالغت فيه، قال ابن الجوزي: ظهور زمزم نعمة من
الله محضة من غير عمل عامل، فلما خالطها تحويض هاجر داخلها
كسب البشر فقصرت على ذلك.
3363 - قَالَ الأَنْصَارِيُّ حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ
قَالَ: أَمَّا كَثِيرُ بْنُ كَثِيرٍ فَحَدَّثَنِي قَالَ:
"إِنِّي وَعُثْمَانَ بْنَ أَبِي سُلَيْمَانَ جُلُوسٌ مَعَ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ: مَا هَكَذَا حَدَّثَنِي
ابْنُ عَبَّاسٍ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَقْبَلَ إِبْرَاهِيمُ
بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ -وَهْيَ
تُرْضِعُهُ- مَعَهَا شَنَّةٌ لَمْ يَرْفَعْهُ، ثُمَّ جَاءَ
بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ".
(قال) ولأبي ذر وقال (الأنصاري) محمد بن عبد الله بن مثنى
بن عبد الله بن أنس مما وصله أبو نعيم في مستخرجه (حدّثنا
ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (أما) ولأبي ذر قال أما
(كثير بن كثير) بالمثلثة فيهما السهمي (فحدّثني) بالإفراد
(قال: إني) إن واسمها (وعثمان بن أبي سليمان) عطف على
المنصوب ابن جبير بن مطعم القرشي (جلوس) أي جالسان (مع
سعيد بن جبير) زاد الأزرقي من طريق مسلم بن خالد الزنجي
والفاكهي من طريق محمد بن جعشم كلاهما عن ابن جريج عن كثير
بن كثير بأعلى المسجد ليلاً فقال سعيد بن جبير: سلوني قبل
أن تروني فسأله القوم فأكثروا فكان مما سئل عنه أن قال له
رجل: أحق ما سمعنا في المقام مقام إبراهيم أن إبراهيم حين
جاء من الشام حلف لامرأته أن لا ينزل بمكة حتى يرجع فقربت
إليه امرأة إسماعيل المقام فوضع رجله عليه حتى لا ينزل.
(فقال) سعيد بن جبير (ما هكذا حدثني) بالإفراد (ابن عباس.
قال): ولأبي ذر وابن عساكر: ولكنه قال (أقبل إبراهيم
بإسماعيل وأمه) هاجر (عليهم السلام) مكة (وهي ترضعه) بضم
الفوقية وكسر الضاد المعجمة والواو للحال (معها شنَّة)
بفتح المعجمة وتشديد النون قربة يابسة (لم يرفعه) أي
الحديث. (ثم جاء بها إبراهيم وبابنها إسماعيل) وسقط قوله
ثم جاء بها الخ لأبي ذر وابن عساكر.
3364 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ وَكَثِيرِ بْنِ كَثِيرِ بْنِ
الْمُطَّلِبِ بْنِ أَبِي وَدَاعَةَ -يَزِيدُ أَحَدُهُمَا
عَلَى الآخَرِ- عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: "أَوَّلَ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمِنْطَقَ
مِنْ قِبَلِ أُمِّ إِسْمَاعِيلَ اتَّخَذَتْ مِنْطَقًا
لَتُعَفِّيَ أَثَرَهَا عَلَى سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا
إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ. وَهْيَ
تُرْضِعُهُ -حَتَّى وَضَعَهُمَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ
دَوْحَةٍ فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ،
وَلَيْسَ بِمَكَّةَ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ، وَلَيْسَ بِهَا
مَاءٌ فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ، وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا
جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ، ثُمَّ
قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا، فَتَبِعَتْهُ أُمُّ
إِسْمَاعِيلَ فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ
وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ
إِنْسٌ وَلاَ شَىْءٌ، فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ مِرَارًا،
وَجَعَلَ لاَ يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا. فَقَالَتْ لَهُ:
آللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَتْ: إِذَن
لاَ يُضَيِّعُنَا، ثُمَّ رَجَعَتْ. فَانْطَلَقَ
إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ الثَّنِيَّةِ
حَيْثُ لاَ يَرَوْنَهُ اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ
ثُمَّ دَعَا
بِهَؤُلاَءِ الْكَلِمَاتِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ فَقَالَ:
{رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ
غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} -حَتَّى بَلَغَ- {يَشْكُرُونَ}.
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تُرْضِعُ إِسْمَاعِيلَ
وَتَشْرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا
فِي السِّقَاءِ عَطِشَتْ وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ
تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى -أَوْ قَالَ: يَتَلَبَّطُ-
فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ إِلَيْهِ،
فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ
يَلِيهَا، فَقَامَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ
الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرَ
أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ
الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا، ثُمَّ سَعَتْ
سَعْيَ الإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ
الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا
فَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا؛ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا،
فَفَعَلَتْ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
فَذَلِكَ سَعْيُ النَّاسِ بَيْنَهُمَا. فَلَمَّا
أَشْرَفَتْ عَلَى الْمَرْوَةِ سَمِعَتْ صَوْتًا فَقَالَتْ:
صَهٍ -تُرِيدَ نَفْسَهَا- ثُمَّ تَسَمَّعَتْ أَيْضًا
فَقَالَتْ: قَدْ أَسْمَعْتَ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ غِوَاثٌ،
فَإِذَا هِيَ بِالْمَلَكِ عِنْدَ مَوْضِعِ زَمْزَمَ،
فَبَحَثَ بِعَقِبِهِ -أَوْ قَالَ بِجَنَاحِهِ- حَتَّى
ظَهَرَ الْمَاءُ، فَجَعَلَتْ تُحَوِّضُهُ وَتَقُولُ
بِيَدِهَا هَكَذَا، وَجَعَلَتْ تَغْرِفُ مِنَ الْمَاءِ فِي
سِقَائِهَا وَهْوَ يَفُورُ بَعْدَ مَا تَغْرِفُ. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ
تَرَكَتْ زَمْزَمَ -أَوْ قَالَ: لَوْ لَمْ تَغْرِفْ مِنَ
الْمَاءِ- لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا. قَالَ:
فَشَرِبَتْ وَأَرْضَعَتْ وَلَدَهَا، فَقَالَ لَهَا
الْمَلَكُ: لاَ تَخَافُوا الضَّيْعَةَ، فَإِنَّ هَا هُنَا
بَيْتَ اللَّهِ يَبْنِي هَذَا الْغُلاَمُ وَأَبُوهُ،
وَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَهْلَهُ. وَكَانَ الْبَيْتُ
مُرْتَفِعًا مِنَ الأَرْضِ كَالرَّابِيَةِ، تَأْتِيهِ
السُّيُولُ فَتَأْخُذُ عَنْ يَمِينِهِ وَشِمَالِهِ،
فَكَانَتْ كَذَلِكَ حَتَّى مَرَّتْ بِهِمْ رُفْقَةٌ مِنْ
جُرْهُمَ -أَوْ أَهْلُ بَيْتٍ في جُرْهُمَ مُقْبِلِينَ-
مِنْ طَرِيقِ كَدَاءٍ، فَنَزَلُوا فِي أَسْفَلِ مَكَّةَ،
فَرَأَوْا طَائِرًا عَائِفًا، فَقَالُوا: إِنَّ هَذَا
الطَّائِرَ لَيَدُورُ عَلَى مَاءٍ، لَعَهْدُنَا بِهَذَا
الْوَادِي وَمَا فِيهِ مَاءٌ، فَأَرْسَلُوا جَرِيًّا أَوْ
جَرِيَّيْنِ فَإِذَا هُمْ بِالْمَاءِ، فَرَجَعُوا
فَأَخْبَرُوهُمْ بِالْمَاءِ، فَأَقْبَلُوا -قَالَ وَأُمُّ
إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الْمَاءِ- فَقَالُوا: أَتَأْذَنِينَ
لَنَا أَنْ نَنْزِلَ عِنْدَكِ؟ فَقَالَتْ: نَعَمْ،
وَلَكِنْ لاَ حَقَّ لَكُمْ فِي الْمَاءِ. قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَأَلْفَى ذَلِكَ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ
وَهْيَ تُحِبُّ الإِنْسَ، فَنَزَلُوا، وَأَرْسَلُوا إِلَى
أَهْلِيهِمْ فَنَزَلُوا مَعَهُمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ
بِهَا أَهْلُ أَبْيَاتٍ مِنْهُمْ، وَشَبَّ الْغُلاَمُ
وَتَعَلَّمَ الْعَرَبِيَّةَ مِنْهُمْ، وَأَنْفَسَهُمْ
وَأَعْجَبَهُمْ حِينَ شَبَّ، فَلَمَّا أَدْرَكَ زَوَّجُوهُ
امْرَأَةً مِنْهُمْ. وَمَاتَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ،
فَجَاءَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ مَا تَزَوَّجَ إِسْمَاعِيلُ
يُطَالِعُ تَرِكَتَهُ، فَلَمْ يَجِدْ إِسْمَاعِيلَ،
فَسَأَلَ امْرَأَتَهُ عَنْهُ فَقَالَتْ: خَرَجَ يَبْتَغِي
لَنَا، ثُمَّ سَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ
فَقَالَتْ: نَحْنُ بِشَرٍّ، نَحْنُ فِي ضِيقٍ وَشِدَّةٍ.
فَشَكَتْ إِلَيْهِ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ
فَاقْرَئِي عَلَيْهِ السَّلاَمَ وَقُولِي لَهُ يُغَيِّرْ
عَتَبَةَ بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ كَأَنَّهُ
آنَسَ شَيْئًا فَقَالَ: هَلْ جَاءَكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟
قَالَتْ: نَعَمْ، جَاءَنَا شَيْخٌ كَذَا وَكَذَا،
فَسَأَلَنَا عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، وَسَأَلَنِي كَيْفَ
عَيْشُنَا، فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا فِي جَهْدٍ وَشِدَّةٍ.
قَالَ: فَهَلْ أَوْصَاكِ بِشَىْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ،
أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَ عَلَيْكَ السَّلاَمَ، وَيَقُولُ:
غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَقَدْ
أَمَرَنِي أَنْ أُفَارِقَكِ، الْحَقِي بِأَهْلِكِ.
فَطَلَّقَهَا، وَتَزَوَّجَ مِنْهُمْ أُخْرَى. فَلَبِثَ
عَنْهُمْ إِبْرَاهِيمُ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَتَاهُمْ
بَعْدُ فَلَمْ يَجِدْهُ،
فَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ فَسَأَلَهَا عَنْهُ فَقَالَتْ:
خَرَجَ يَبْتَغِي لَنَا. قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ؟
وَسَأَلَهَا عَنْ عَيْشِهِمْ وَهَيْئَتِهِمْ فَقَالَتْ:
نَحْنُ بِخَيْرٍ وَسَعَةٍ، وَأَثْنَتْ عَلَى اللَّهِ.
فَقَالَ: مَا طَعَامُكُمْ؟ قَالَتِ: اللَّحْمُ. قَالَ
فَمَا شَرَابُكُمْ؟ قَالَتِ: الْمَاءُ. قَالَ: اللَّهُمَّ
بَارِكْ لَهُمْ فِي اللَّحْمِ وَالْمَاءِ. قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَلَمْ
يَكُنْ لَهُمْ يَوْمَئِذٍ حَبٌّ، وَلَوْ كَانَ لَهُمْ
دَعَا لَهُمْ فِيهِ , قَالَ: فَهُمَا لاَ يَخْلُو
عَلَيْهِمَا أَحَدٌ بِغَيْرِ مَكَّةَ إِلاَّ لَمْ
يُوَافِقَاهُ. قَالَ: فَإِذَا جَاءَ زَوْجُكِ فَاقْرَئِي
عَلَيْهِ السَّلاَمَ، وَمُرِيهِ يُثْبِتُ عَتَبَةَ
بَابِهِ. فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيلُ قَالَ: هَلْ
أَتَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، أَتَانَا شَيْخٌ
حَسَنُ الْهَيْئَةِ - وَأَثْنَتْ عَلَيْهِ - فَسَأَلَنِي
عَنْكَ فَأَخْبَرْتُهُ، فَسَأَلَنِي كَيْفَ عَيْشُنَا
فَأَخْبَرْتُهُ أَنَّا بِخَيْرٍ. قَالَ: فَأَوْصَاكِ
بِشَىْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ يَقْرَأُ عَلَيْكَ
السَّلاَمَ، وَيَأْمُرُكَ أَنْ تُثْبِتَ عَتَبَةَ بَابِكَ.
قَالَ: ذَاكِ أَبِي، وَأَنْتِ الْعَتَبَةُ، أَمَرَنِي أَنْ
أُمْسِكَكِ. ثُمَّ لَبِثَ عَنْهُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ،
ثُمَّ جَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَإِسْمَاعِيلُ يَبْرِي نَبْلاً
لَهُ تَحْتَ دَوْحَةٍ قَرِيبًا مِنْ زَمْزَمَ، فَلَمَّا
رَآهُ قَامَ إِلَيْهِ، فَصَنَعَا كَمَا يَصْنَعُ
الْوَالِدُ بِالْوَلَدِ وَالْوَلَدُ بِالْوَالِدِ. ثُمَّ
قَالَ: يَا إِسْمَاعِيلُ، إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي
بِأَمْرٍ. قَالَ: فَاصْنَعْ مَا أَمَرَكَ رَبُّكَ. قَالَ،
وَتُعِينُنِي؟ قَالَ: وَأُعِينُكَ. قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ
أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ هَا هُنَا بَيْتًا -وَأَشَارَ
إِلَى أَكَمَةٍ مُرْتَفِعَةٍ عَلَى مَا حَوْلَهَا- قَالَ:
فَعِنْدَ ذَلِكَ رَفَعَا الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ،
فَجَعَلَ إِسْمَاعِيلُ يَأْتِي بِالْحِجَارَةِ
وَإِبْرَاهِيمُ يَبْنِي. حَتَّى إِذَا ارْتَفَعَ
الْبِنَاءُ جَاءَ بِهَذَا الْحَجَرِ فَوَضَعَهُ لَهُ،
فَقَامَ عَلَيْهِ وَهْوَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ
يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ، وَهُمَا يَقُولاَنِ: {رَبَّنَا
تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}
قَالَ: فَجَعَلاَ يَبْنِيَانِ حَتَّى يَدُورَا حَوْلَ
الْبَيْتِ وَهُمَا يَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا
إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127] ".
[الحديث 3364 - أطرافه في: 2368، 3362، 3363، 3365].
قال المؤلّف بالسند: (وحدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا
(عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن
همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن أيوب السختياني)
بفتح السين وكسر الفوقية (وكثير بن كثير المطلب) بتشديد
الطاء وكسر اللام (ابن أبي وداعة) بفتح الواو وتخفيف الدال
(يزيد أحدهما على الآخر عن سعيد بن جبير) سقط ابن جبير
لأبي ذر أنه (قال ابن عباس: أول ما اتخذ النساء المنطق)
بكسر الميم وفتح الطاء بينهما نون ساكنة ما تشده المرأة
على وسطها عند الشغل لئلا تعثر في ذيلها (من قبل) بكسر
القاف وفتح الموحدة من جهة (أم إسماعيل اتخذت منطقًا) وذلك
أن سارة وهبتها للخليل عليه السلام فحملت منه بإسماعيل
فلما وضعته غارت فحلفت لتقطعن منها ثلاثة أعضاء فاتخذت
هاجر منطقًا فشدت به وسطها وهربت وجرت ذيلها (لتعفي) بضم
الفوقية وفتح العين المهملة وتشديد الفاء المكسورة لتخفي
(أثرها) وتمحوه (على سارة). وقال الكرماني: معناه أنها
تزيت بزي الخدم إشعارًا بأنها خادمتها لتستميل خاطرها
وتصلح ما فسد يقال: عفى على ما كان منه إذا أصلح بعد
الفساد اهـ وقيل إن الخليل شفع فيها وقال حللي يمينك بأن
تثقبي أذنيها وتخفضيها فكانت أول من فعل ذلك، وعند
الإسماعيلي من رواية ابن علية أول ما اتخذت العرب جر
الذيول عن أم إسماعيل.
(ثم جاء بها) بهاجر (إبراهيم وبابنها إسماعيل) على
(5/352)
البراق (وهي ترضعه) الواو للحال (حتى
وضعهما) ولأبي ذر عن الكشميهني: فوضعهما (عند) موضع
(البيت) الحرام قبل أن يبنيه (عند دوحة) بدال وحاء
مفتوحتين مهملتين بينهما واو ساكنة شجرة عظيمة (فوق زمزم)
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فوق الزمزم (في أعلى) مكان
(المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحد) ولا بناء (وليس بها ماء
فوضعهما هنا لك ووضع عندهما جرابًا) بكسر الجيم من جلد
(فيه تمر وسقاء فيه ماء) بكسر السين قربة صغيرة (ثم قفى
إبراهيم) بفتح القاف والفاء المشددة ولّى راجعًا حال كونه
(منطلقًا) إلى أهله بالشام وترك إسماعيل وأمه عند موضع
البيت، (فتبعته أم إسماعيل فقالت) له (يا إبراهيم أين تذهب
وتتركنا بهذا) ولأبي ذر في هذا (الوادي الذي ليس فيه أنس)
بكسر الهمزة ضد الجن ولأبي ذر وابن عساكر أنيس (ولا شيء؟
فقالت: له ذلك مرارًا. وجعل) إبراهيم (لا يلتفت إليها
فقالت له: آلله الذي أمرك بهذا)؟ بمدّ همزة الله وسقط لأبي
ذر الذي (قال) إبراهيم: (نعم). وفي رواية عمر بن شبة في
كتاب مكة من طريق عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير أنها
نادته ثلاثًا فأجابها في الثالثة فقالت له من أمرك بهذا
قال الله (قالت: إذًا لا يضيعنا) وفي رواية ابن جريج فقالت
حسبي (ثم رجعت) إلى موضع الكعبة (فانطلق إبراهيم حتى إذا
كان عند الثنية) بالمثلثة وكسر النون وتشديد التحتية بأعلى
مكة حيث دخل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مكة (حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت) أي موضعه (ثم دعا
بهؤلاء الكلمات) ولأبي ذر بهؤلاء الدعوات (ورفع يديه فقال
رب) ولأبي ذر عن الكشميهني: ربنا وهو الموافق للتنزيل (إني
أسكنت) ذرية (من ذرّيتي) فالجار: صفة لمفعول محذوف أو من
مزيدة عند الأخفش والمراد بالذرية إسماعيل ومن ولد منه فإن
إسكانه متضمن لإسكانهم (بوادٍ) أي في واد هو مكة (غير ذي
زرع) قال في الكشاف: لا يكون فيه شيء من زرع قط كقوله:
قرآنًا عربيًّا غير ذي عوج بمعنى لا يوجد فيه اعوجاج ما
فيه إلا الاستقامة لا غير اهـ.
قال الطيبي: هذه المبالغة يفيدها معنى الكناية لأن نفي
الزرع يستلزم كون الوادي غير صالح للزرع ولأنه نكرة في
سياق النفي. (عند بيتك المحرم) الذي يحرم عنده ما لا يحرم
عند غيره أو حرمت التعرض له والتهاون به أو لم يزل معظمًا
يهابه كل جبارًا وحرم من الطوفان أي منع منه كما سمي
عتيقًا لأنه أعتق من الطوفان أو لأنه موضع البيت حرم يوم
خلق السماوات والأرض وحف بسبعة من الملائكة (حتى بلغ
يشكرون) أي تلك النعمة.
قال في الكشاف: فأجاب الله دعوة خليله فجعله حرمًا آمنًا
يجبى إليه ثمرات كل شيء رزقًا من لدنه ثم فضله في وجود
أصناف الثمار فيه على كل ريف وعلى أخصب البلاد وأكثرها
ثمارًا وفي أي بلد من بلاد الشرق والمغرب ترى الأعجوبة
التي يريكها الله بواد غير ذي زرع وهي اجتماع البواكير
والفواكه المختلفة الأزمان من الربيعية والصيفية والخريفية
في يوم واحد وليس ذلك من آياته بعجب أعادنا الله إلى حرمه
بمنّه وكرمه ووفقنا لشكر نعمه وثبت قوله عند بيتك المحرم
في رواية أبي ذر.
(وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء حتى
إذا نفد) بكسر الفاء أي فرغ (ما في السقاء عطشت وعطش
ابنها) إسماعيل بكسر الطاء فيهما، وزاد الفاكهي من حديث
أبي جهم فانقطع لبنها، وكان إسماعيل حينئذٍ ابن سنتين
(وجعلت) هاجر (تنظر إليه يتلوى) يتقلب ظهرًا لبطن (أو قال
يتلبط) بالموحدة المشددة بعد اللام آخره طاء مهملة أي
يتمرغ ويضرب بنفسه على الأرض من لبط به إذا صرع. وقال
الداودي: يحرك لسانه وشفتيه كأنه يموت، وللكشميهني: يتلمظ
بميم وظاء معجمة بدل الموحدة والمهملة. (فانطلقت) هاجر حال
كون انطلاقها (كراهية أن تنظر إليه) في هذه الحالة الصعبة
(فوجدت الصفا) بالقصر (أقرب جبل في الأرض يليها فقامت عليه
ثم استقبلت الوادي) حال كونها (تنظر هل ترى أحدًا فلم ترَ
فهبطت من الصفا) بفتح الموحدة من هبطت. وعند الفاكهي
(5/353)
من حديث أبي جهم تستغيث ربها وتدعوه (حتى
إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها) بفتح الطاء والراء ودرعها
بكسر الدال وسكون الراء أي قميصها لئلا تعثر في ذيله (ثم
سعت سعي الإنسان المجهود) أي الذي أصابه الجهد وهو الأمر
الشاق (حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقامت عليها
ونظرت) ولأبي ذر فنظرت بالفاء بدل الواو (هل ترى أحدًا فلم
ترَ أحدًا ففعلت ذلك سبع مرات).
(قال ابن عباس قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: فلذلك سعي الناس) بسكون العين وجر الناس ولأبي
ذر وابن عساكر فلذلك سعي الناس (بينهما) بين الصفا
والمروة.
(فلما أشرفت على المروة سمعت صوتًا فقالت: صه) بفتح الصاد
وكسر الهاء منونة في الفرع وفي بعض الأصول بسكونها أي
اسكتي (تريد نفسها) لتسمع ما فيه فرج لها (ثم تسمعت) أي
تكلفت السماع واجتهدت فيه (فسمعت أيضًا فقالت قد أسمعت)
بفتح التاء (إن كان عندك غواث) أي فأغثني فجزاء الشرط
محذوف. وغواث بكسر الغين المعجمة وفتح الواو مخففة وبعد
الألف مثلث كذا في الفرع وأصله وفيه لأبي ذر غواث بضم
الغين. وقال الحافظ ابن حجر: غواث بفتحها للأكثر، وقال في
المصابيح: وبذلك قيده ابن الخشاب وغيره من أئمة اللغة.
وقال في الصحاح: غوّث الرجل إذا قال واغوثاه والاسم الغوث
والغواث والغواث. قال الفراء يقال أجاب الله دعاءه وغوائه.
قال: ولم يأت في الأصوات شيء بالفتح غيره، وإنما يأتي
بالضم مثل البكاء والدعاء وبالكسر مثل النداء والصياح قال
الشاعر:
بعثتك مائرًا فلبثت حولاً ... متى يأتي غواثك من تغيث
وقال في القاموس: والاسم الغوث والغواث بالضم وفتحه شاذ
واستغاثني فأغثته إغاثة ومغوثة والاسم الغياث بالكسر،
(فإذا هي بالملك) جبريل (عند موضع زمزم فبحث) بالمثلثة
(بعقبه) أي حفر بمؤخر رجله. قال السهيلي في تفجيره إياها
دون أن يفجرها باليد أو غيرها إشارة إلى أنها لعقب إسماعيل
وراثة وهو محمد وأمته كما قال تعالى {وجعلها كلمة باقية}
[الزخرف: 28] في عقبه أي في أمة محمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (أو قال بجناحه) شك من الراوي (حتى
ظهر الماء فجعلت) هاجر
(تحوّضه) بالحاء المهملة المفتوحة والواو المشدّدة
المكسورة وبالضاد المعجمة أي تصيره كالحوض لئلا يذهب الماء
(وتقول بيدها هكذا) هو حكاية فعلها وهو من إطلاق القول على
الفعل (وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعدما
تغرف) أي ينبع كقوله تعالى: {وفار التنور} [هود: 40].
(قال ابن عباس) بالسند السابق (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم أو
قال لو لم تغرف من الماء) شك من الراوي (لكانت زمزم عينًا
معينًا) بفتح الميم جاريًا على وجه الأرض لأنها لما داخلها
كسب هاجر قصرت على ذلك (قال: فشربت) هاجر (وأرضعت ولدها
فقال لها الملك) جبريل (لا تخافوا الضيعة) بفتح الضاد
المعجمة وسكون التحتية الهلاك وعبر بالجمع على القول بأن
أقل الجمع اثنان أو هما وذرية إسماعيل أو أعم. وفي حديث
أبي جهم لا تخافي أن ينفد الماء وعند الفاكهي من رواية
عليّ بن الوازع عن أيوب لا تخافي على أهل هذا الوادي ظمأ
فإنها عين يشرب بها ضيفان الله (فإن هاهنا بيت الله) بنصب
بيت اسم إن ولأبي ذر عن الحموي والمستملي هذا بيت الله
(يبني هذا الغلام وأبوه) بحذف ضمير المفعول وعند
الإسماعيلي يبنيه بإثباته (وإن الله لا يضيع أهله) بضم
التحتية الأولى وكسر الثانية مشددة بينهما معجمة مفتوحة
(وكان البيت) الحرام (مرتفعًا من الأرض كالرابية) بالراء
وبعد الألف موحدة ثم تحتية ما ارتفع من الأرض. وعند ابن
إسحاق أنه كان مدرة حمراء (تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه
وشماله فكانت) هاجر (كذلك) تشرب وترضع ولدها، ولعلها كانت
تغتذي بماء زمزم فيكفيها عن الطعام والشراب (حتى مرت بهم
رفقة) بضم الراء جماعة مختلطون (من جرهم) بضم الجيم والهاء
بينهما راء ساكنة غير منصرف
(5/354)
حيّ من اليمن وكانت جرهم يومئذٍ قريبًا من
مكة (أو أهل بيت من جرهم) حال كونهم (مقبلين) متوجهين (من
طريق كداء) بفتح الكاف ممدودًا. قال في الفتح: وهو في جميع
الروايات كذلك وهو أعلى مكة. نعم في رواية ابن عساكر كما
في اليونينية كدى بضم الكاف والقصر، ولعل الحافظ ابن حجر
لم يقف عليها. (فنزلوا في أسفل مكة فرأوا طائرًا عائفًا)
بالعين المهملة والفاء وهو الذي يتردّد على الماء ويحوم
حوله ولا يمضي عنه (فقالوا: إن هذا الطائر ليدور على ماء
لعهدنا) بلام مفتوحة للتأكيد (بهذا الوادي) ظرف مستقر لا
لغو (وما فيه ماء) الواو للحال (فأرسلوا جريًّا) بجيم
مفتوحة وراء مكسورة فتحتية مشدّدة رسولاً واحدًا لينظر هل
هناك ماء أم لا (أو جريين) رسولين اثنين وسمى الرسول
جريًّا لأنه يجري مجرى مرسله أو يجري مسرعًا في حاجته
والشك من الراوي (فإذا هم) الجريّ أو الجريان ومن تبعهما
(بالماء فرجعوا) إلى جرهم (فأخبروهم بالماء فأقبلوا) إلى
جهة الماء (قال: وأم إسماعيل) كائنة (عند الماء فقالوا)
لها: (أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ فقالت): ولأبي ذر قالت
(نعم) أذنت لكم في النزول (ولكن لا حق لكم في الماء.
فقالوا: نعم). لا حق لنا فيه.
(قال ابن عباس) بالسند السابق: (قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فألفى) بهمزة مفتوحة وسكون اللام
وفتح الفاء أي وجد (ذلك) الحي الجرهمي (أم إسماعيل) بنصب
أم مفعول الحي كما قرره في
الكواكب. وقال في العمدة فاعل فألفى قوله ذلك وأم إسماعيل
مفعوله وذلك إشارة إلى استئذان جرهم، والمعنى فألفى
استئذان جرهم بالنزول أم إسماعيل (وهي) أي والحال أنها
(تحب الأنس) بضم الهمزة ضدّ الوحشة ويجوز كسرها وهو الذي
في الفرع كأصله أي تحب جنسها (فنزلوا) عندها (وأرسلوا إلى
أهليهم فنزلوا معهم) بمكة (حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم
وشب الغلام) إسماعيل بين والدان جرهم (وتعلم العربية منهم)
ظاهره يعارض حديث ابن عباس المروي في مستدرك الحاكم أوّل
من نطق بالعربية إسماعيل. وأجيب: بأن المعنى أوّل من تكلم
بالعربية من ولد إبراهيم إسماعيل، وروى الزبير بن بكار في
النسب من حديث علي بإسناد حسن: أوّل من فتق الله لسانه
بالعربية المبينة إسماعيل. قال في الفتح: وبهذا القيد يجمع
بين الخبرين فتكون أوّليته في ذلك بحسب الزيادة في البيان
لا الأوّلية المطلقة، فيكون بعد تعلمه أصل العربية من جرهم
ألهمه الله العربية الفصيحة المبينة فنطق بها قال: ويشهد
لهذا ما حكى ابن هشام عن الشرقي بن قطامي أن عربية إسماعيل
كانت أفصح من عربية يعرب بن قحطان وبقايا حمير وجرهم
(وأنفسهم) بفتح الفاء والسين عطف على تعلم أي رغبهم فيه
وفي مصاهرته. يقال: أنفسني فلان في كذا أي رغبني فيه. وقال
في المصابيح: أي صار نفيسًا فيهم رفيعًا يتنافس في الوصول
إليه ويرغبون فيه وفي مصاهرته.
وقوله في الفتح: وأنفسهم بفتح الفاء بلفظ أفعل التفضيل من
النفاسة تعقبه في العمدة فقال إنه غلط وليس هو إلاّ فعلاً
ماضيًا من الإنفاس والفاعل فيه إسماعيل. (وأعجبهم حين شب
فلما أدرك) الحل (زوّجوه امرأة منهم) اسمها عمارة بنت سعد
بن أسامة فيما قاله ابن إسحاق أو هي الجداء بنت سعد فيما
قاله السهيلي والمسعودي أو حيي بنت أسعد بن عملق فيما قاله
عمر بن شبة (وماتت أم إسماعيل) قيل ولها من العمر تسعون
سنة ودفنها بالحجر (فجاء إبراهيم) عليه الصلاة والسلام
(بعدما تزوج إسماعيل يطالع تركته) بكسر الراء أي يتفقد حال
ما تركه هناك، واستدل بعضهم بهذا على أن الذبيح إسحاق
محتجًا بأن إبراهيم ترك إسماعيل رضيعًا وعاد إليه وقد تزوج
لأن الذبح كان في الصغر في حياة أمه قبل تزوجه فلو كان
إسماعيل الذبيح لذكره بين زمان الرضاع والتزويج. وأجيب:
بأنه ليس في الحديث نفي مجيئه بين الزمانين، وفي حديث أبي
جهم أن إبراهيم كان يزور هاجر كل شهر على البراق يغدو غدوة
فيأتي مكة ثم يرجع فيقيل في منزله بالشأم. (فلم يجد
إسماعيل فسأل امرأته عنه فقالت: خرج يبتغي لنا) أي
(5/355)
يطلب لنا الرزق (ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم
فقالت) له (نحن بشرّ نحن في ضيق وشدة فشكت إليه قال)
إبراهيم عليه السلام لها: (إذا جاء زوجك) إسماعيل (فاقرئي)
بفتح الراء (عليه السلام) ولأبي ذر اقرئي بحذف الفاء
(وقولي له: يغير بابه) بفتح الغين المهملة والفوقية
والموحدة كناية عن المرأة. (فلما جاء إسماعيل كأنه آنس
شيئًا) بفتح الهمزة الممدودة والنون وفي رواية فلما جاء
إسماعيل وجد ريح أبيه (فقال: هل جاءكم من أحد؟ قالت: نعم
جاءنا شيخ كذا وكذا) وفي رواية عطاء بن السائب عند عمر بن
شبة كالمستخفة بشأنه (فسألنا عنك) بفتح اللام (فأخبرته)
أنك خرجت تبتغي لنا
(وسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا في جهد) بفتح الجيم (وشدة
قال) إسماعيل: (فهل أوصاك بشيء؟ قالت: نعم. أمرني أن أقرأ
عليك السلام ويقول لك غير عتبة بابك. قال: ذاك) بكسر الكاف
(أبي) إبراهيم (وقد أمرني أن أفارقك الحقي بأهلك) بفتح
الحاء المهملة (فطلقها وتزوج منهم) أي من جرهم (أخرى)
اسمها أسامة بنت مهلهل فيما قاله المسعودي تبعًا للواقدي
أو بشامة بموحدة فمعجمة مخففة بنت مهلهل بن سعد بن عوف أو
عاتكة وعن ابن إسحاق فيما حكاه ابن سعد رعلة بنت مضاض بن
عمرو الجرهمية وقيل غير ذلك (فلبث) بكسر الموحدة (عنهم
إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده) أي لم يجد
إسماعيل (فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت: خرج يبتغي
لنا) الرزق (قال: كيف أنتم وسألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت:
نحن بخير وسعة) بفتح المهملة (وأثنت على الله) عز وجل
خيرًا بما هو أهله (فقال) لها: (ما طعامكم؟ قالت: اللحم.
قال فما شرابكم؟ قالت: الماء) وزاد في حديث أبي الجهم
اللبن (قال) إبراهيم: (اللهم بارك لهم في اللحم والماء قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ولم يكن لهم
يومئذٍ حب) حنطة أو نحوها (ولو كان لهم دعا لهم فيه قال:
فهما) أي اللحم والماء (لا يخلو عليهما) بالخاء المعجمة
وللكشميهني كما في الفتح لا يخلوان بالتثنية وقال ابن
القطوية: خلوت بالشيء واختليت به إذا لم أخلط به غيره،
ويقال خلى الرجل اللبن إذا شرب غيره. وقال الكرماني أي لا
يعتمدهما (أحد) ويداوم عليهما (بغير مكة إلا لم يوافقاه)
لما ينشأ عنهما من انحراف المزاج إلا في مكة فإنهما
يوافقانه وهذا من جملة بركاتها وأثر دعاء الخليل عليه
السلام.
وفي حديث أبي جهم: ليس أحد يخلو على اللحم والماء بغير مكة
إلا اشتكى بطنه، وزاد في حديثه فقالت له: انزل رحمك الله
فاطعم واشرب. قال: إني لا أستطيع النزول. قالت: فإني أراك
شعثًا أفلا أغسل رأسك وأدهنه؟ قال: بلى إن شئت فجاءته
بالمقام وهو يومئذٍ أبيض مثل المهاة وكان في بيت إسماعيل
ملقى فوضع قدمه اليمنى وقدم إليها شق رأسه وهو على دابته
فغسلت شق رأسه الأيمن، فلما فرغ حوّلت له المقام حتى وضع
قدمه اليسرى وقدم إليها برأسه فغسلت شق رأسه الأيسر،
فالأثر الذي في المقام من ذلك ظاهر فيه موضع العقب
والإصبع.
(قال: فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبت عتبة
بابه) ثم مضى إبراهيم (فلما جاء إسماعيل قال: هل أتاكم من
أحد؟ قالت: نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه) خيرًا
(فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا فأخبرته أنا بخير)
وسعة (قال: فأوصاك بشيء؟ قالت: نعم. هو يقرأ عليك السلام
ويأمرك أن تثبت عتبة بابك) زاد أبو جهم في حديثه فإنها
صلاح المنزل (قال) إسماعيل لها (ذاك أبي) بكسر الكاف (وأنت
العتبة أمرني أن أمسكك) زاد أبو جهم ولقد كنت عليّ كريمة
ولقد ازددت عليّ كرامة فولدت لإسماعيل عشرة ذكور (ثم لبث
عنهم) إبراهيم (ما شاء الله ثم جاء) إليهم (بعد ذلك
وإسماعيل يبري) بفتح التحتية وسكون الموحدة وكسر الراء من
غير همز (نبلاً له) بفتح النون وسكون الموحدة أي سهمًا قبل
أن يركب فيه نصله وريشه وهو السهم العربي (تحت دوحة) بفتح
الدال والحاء المهملتين بينهما واو ساكنة شجرة وهي
التي نزل إسماعيل وأمه تحتها أوّل ما قدما مكة كما مرّ
(قريبًا من زمزم
(5/356)
فلما رآه) إسماعيل (قام إليه صنعا كما يصنع
الوالد بالولد والولد بالوالد) من الاعتناق والمصافحة
وتقبيل اليد ونحو ذلك. وفي رواية معمر قال: سمعت رجلاً
يقول بكيا حتى أجابهما الطير (ثم قال) إبراهيم عليه السلام
(يا إسماعيل إن الله) عز وجل (أمرني بأمر. قال) إسماعيل
(فاصنع ما أمرك) به (ربك. قال: وتعينني)؟ عليه (قال:
وأعينك) ولأبي ذر عن الكشميهني فأعينك (قال) إبراهيم: (فإن
الله أمرني أن ابني هاهنا بيتًا وأشار إلى أكمة) بفتح
الهمزة والكاف والميم إلى رابية (مرتفعة على ما حولها قال:
فعند ذلك رفعا) إبراهيم وإسماعيل ولأبي ذر رفع بالإفراد أي
إبراهيم (القواعد من البيت) جمع قاعدة وهي الأساس صفة
غالبة من القعود بمعنى الثبات ورفعها البناء عليها فإنه
ينقلها عن هيئة الانخفاض إلى هيئة الارتفاع (فجعل إسماعيل
يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء) زاد
أبو جهم وجعل طوله في السماء تسعة أذرع وعرضه في الأرض
يعني دوره ثلاثين ذراعًاً كان ذلك بذراعهم (جاء) أي
إسماعيل (بهذا الحجر) حجر المقام (فوضعه له) للخليل (فقام
عليه وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان: {ربنا
تقبل منا إنك أنت السميع}) لدعائنا ({العليم}) ببنائنا
(قال: فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان:
{ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم}) وقد قيل: ليس في
العالم بناء أشرف من الكعبة لأن الآمر بمعمارته رب
العالمين، والمبلغ والمهندس جبريل الأمين، والباني هو
الخليل والتلميذ المعين إسماعيل.
3365 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَمْرٍو
قَالَ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ نَافِعٍ عَنْ كَثِيرِ
بْنِ كَثِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَمَّا كَانَ بَيْنَ
إِبْرَاهِيمَ وَبَيْنَ أَهْلِهِ مَا كَانَ خَرَجَ
بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّ إِسْمَاعِيلَ، وَمَعَهُمْ شَنَّةٌ
فِيهَا مَاءٌ، فَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ تَشْرَبُ
مِنَ الشَّنَّةِ فَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا
حَتَّى قَدِمَ مَكَّةَ فَوَضَعَهَا تَحْتَ دَوْحَةٍ، ثُمَّ
رَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ، فَاتَّبَعَتْهُ أُمُّ
إِسْمَاعِيلَ حَتَّى لَمَّا بَلَغُوا كَدَاءً نَادَتْهُ
مِنْ وَرَائِهِ: يَا إِبْرَاهِيمُ إِلَى مَنْ تَتْرُكُنَا؟
قَالَ: إِلَى اللَّهِ. قَالَتْ: رَضِيتُ بِاللَّهِ. قَالَ:
فَرَجَعَتْ فَجَعَلَتْ تَشْرَبُ مِنَ الشَّنَّةِ وَيَدِرُّ
لَبَنُهَا عَلَى صَبِيِّهَا، حَتَّى لَمَّا فَنِيَ
الْمَاءُ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ لَعَلِّي
أُحِسُّ أَحَدًا. قَالَ: فَذَهَبَتْ فَصَعِدَتِ الصَّفَا
فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ هَلْ تُحِسُّ أَحَدًا؟ فَلَمْ
تُحِسَّ أَحَدًا. فَلَمَّا بَلَغَتِ الْوَادِيَ سَعَتْ
وَأَتَتِ الْمَرْوَةَ، فَفَعَلَتْ ذَلِكَ أَشْوَاطًا،
ثُمَّ قَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ مَا فَعَلَ
-تَعْنِي الصَّبِيَّ- فَذَهَبَتْ فَنَظَرَتْ فَإِذَا هُوَ
عَلَى حَالِهِ كَأَنَّهُ يَنْشَغُ لِلْمَوْتِ، فَلَمْ
تُقِرَّهَا نَفْسُهَا، فَقَالَتْ: لَوْ ذَهَبْتُ
فَنَظَرْتُ لَعَلِّي أُحِسُّ أَحَدًا، فَذَهَبَتْ
فَصَعِدَتِ الصَّفَا فَنَظَرَتْ وَنَظَرَتْ فَلَمْ تُحِسَّ
أَحَدًا، حَتَّى أَتَمَّتْ سَبْعًا، ثُمَّ قَالَتْ: لَوْ
ذَهَبْتُ فَنَظَرْتُ مَا فَعَلَ، فَإِذَا هِيَ بِصَوْتٍ،
فَقَالَتْ: أَغِثْ إِنْ كَانَ عِنْدَكَ خَيْرٌ، فَإِذَا
جِبْرِيلُ، قَالَ: فَقَالَ بِعَقِبِهِ هَكَذَا، وَغَمَزَ
عَقِبَهُ عَلَى الأَرْضِ، قَالَ: فَانْبَثَقَ الْمَاءُ،
فَدَهَشَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ فَجَعَلَتْ تَحْفِرُ،
قَالَ: فَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ: لَوْ تَرَكَتْهُ كَانَ
الْمَاءُ ظَاهِرًا، قَالَ: فَجَعَلَتْ
تَشْرَبُ مِنَ الْمَاءِ وَيَدِرُّ لَبَنُهَا عَلَى
صَبِيِّهَا. قَالَ فَمَرَّ نَاسٌ مِنْ جُرْهُمَ بِبَطْنِ
الْوَادِي فَإِذَا هُمْ بِطَيْرٍ، كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا
ذَاكَ، وَقَالُوا: مَا يَكُونُ الطَّيْرُ إِلاَّ عَلَى
مَاءٍ، فَبَعَثُوا رَسُولَهُمْ فَنَظَرَ، فَإِذَا هُمْ
بِالْمَاءِ، فَأَتَاهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ، فَأَتَوْا
إِلَيْهَا فَقَالُوا: يَا أُمَّ إِسْمَاعِيلَ
أَتَأْذَنِينَ لَنَا أَنْ نَكُونَ مَعَكِ، أَوْ نَسْكُنَ
مَعَكِ؟ فَبَلَغَ ابْنُهَا فَنَكَحَ فِيهِمُ امْرَأَةً.
قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ
لأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي. قَالَ: فَجَاءَ
فَسَلَّمَ فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتِ
امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ. قَالَ: قُولِي لَهُ إِذَا
جَاءَ: غَيِّرْ عَتَبَةَ بَابِكَ. فَلَمَّا جَاءَ
أَخْبَرَتْهُ، قَالَ: أَنْتِ ذَاكِ، فَاذْهَبِي إِلَى
أَهْلِكِ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا لإِبْرَاهِيمَ
فَقَالَ لأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ تَرِكَتِي. قَالَ
فَجَاءَ فَقَالَ: أَيْنَ إِسْمَاعِيلُ؟ فَقَالَتِ
امْرَأَتُهُ: ذَهَبَ يَصِيدُ، فَقَالَتْ: أَلاَ تَنْزِلُ
فَتَطْعَمَ وَتَشْرَبَ؟ فَقَالَ: وَمَا طَعَامُكُمْ، وَمَا
شَرَابُكُمْ؟ قَالَتْ: طَعَامُنَا اللَّحْمُ وَشَرَابُنَا
الْمَاءُ -قَالَ: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي
طَعَامِهِمْ وَشَرَابِهِمْ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو
الْقَاسِمِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بَرَكَةٌ
بِدَعْوَةِ إِبْرَاهِيمَ. قَالَ: ثُمَّ إِنَّهُ بَدَا
لإِبْرَاهِيمَ فَقَالَ لأَهْلِهِ: إِنِّي مُطَّلِعٌ
تَرِكَتِي، فَجَاءَ فَوَافَقَ إِسْمَاعِيلَ مِنْ وَرَاءِ
زَمْزَمَ يُصْلِحُ نَبْلاً لَهُ، فَقَالَ: يَا
إِسْمَاعِيلُ إِنَّ رَبَّكَ أَمَرَنِي أَنْ أَبْنِيَ لَهُ
بَيْتًا. قَالَ: أَطِعْ رَبَّكَ. قَالَ: إِنَّهُ أَمَرَنِي
أَنْ تُعِينَنِي عَلَيْهِ، قَالَ: إِذًا أَفْعَلَ -أَوْ
كَمَا قَالَ. قَالَ: فَقَامَا فَجَعَلَ إِبْرَاهِيمُ
يَبْنِي وَإِسْمَاعِيلُ يُنَاوِلُهُ الْحِجَارَةَ،
وَيَقُولاَنِ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
أبو عامر عبد الملك بن عمرو) بفتح العين وسكون الميم
العقدي (قال: حدّثنا إبراهيم بن نافع) المخزومي المكي (عن
كثير بن كثير) بالمثلثة فيهما ابن المطلب بن أبي وداعة (عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما) أنه (قال: لما
كان بين إبراهيم) الخليل (وبين أهله) سارة، وسقط وبين لابن
عساكر (ما كان) من جنس الخصومة لما داخل سارة من الغيرة
بسبب ولادة هاجر إسماعيل (خرج) إبراهيم (بإسماعيل وأم
إسماعيل) إلى مكة (ومعهم شنة) بفتح الشين المعجمة والنون
المشددة قربة يابسة (فيها ماء فجعلت أم إسماعيل) هاجر
(تشرب من الشنة فيدرّ لبنها) بفتح الياء وكسر الدال
المهملة (على صبيها حتى قدم مكة فوضعها) هي وإسماعيل (تحت
دوحة) شجرة زاد في الرواية السابقة فوق زمزم في أعلى
المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحد وليس بها ماء (ثم رجع إبراهيم
إلى أهله فاتبعته) بتشديد الفوقية (أم إسماعيل) ومعها
إسماعيل (حتى لما بلغوا كداء) بفتح الكاف والدال المهملة
ممدودًا أعلى مكة ولأبي ذر وابن عساكر كدى بضم الكاف
وتنوين الدال مفتوحة من غير همز والذي في اليونينية كدى من
غير تنوين (نادته) هاجر (من ورائه يا إبراهيم إلى من
تتركنا؟ قال: إلى الله). عز وجل (قالت: رضيت بالله. قال:
فرجعت) إلى موضعها الأوّل (فجعلت تشرب من الشنة ويدرّ
لبنها على صبيها) أي إسماعيل (حتى لما فني الماء) وانقطع
لبنها (قالت: لو ذهبت فنظرت لعلّي أحس أحدًا) أي أشعر به
أو أراه (قال: فذهبت) ولأبي ذر إسقاط لفظ قال (فصعدت
الصفا) بكسر العين (فنظرت ونظرت هل تحس أحدًا فلم تحس
أحدًا) فهبطت من الصفا (فلما بلغت الوادي
سعت) سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي (وأتت) بالواو
ولأبي ذر أتت (المروة) فقامت عليها ونظرت هل تحس أحدًا فلم
تحس أحدًا (ففعلت) ولأبي ذر وفعلت (ذلك أشواطًا) سبعة (ثم
قالت: لو ذهبت فنظرت ما فعل تعني الصبي) إسماعيل (فذهبت
فنظرت) إليه (فإذا هو على حاله كأنه ينشغ) بتحتية مفتوحة
فنون ساكنة فشين مفتوحة فغين معجمتين يشهق من صدره (للموت)
من شدة ما يرد عليه (فلم تقرها نفسها) بضم المثناة الفوقية
وكسر القاف وتشديد الراء ونفسها رفع على الفاعلية أي لم
تتركها نفسها مستقرّة فتشاهده في حال الموت (فقالت: لو
ذهبت فنظرت لعلّي أحس أحدًا، فذهبت فصعدت الصفا فنظرت
ونظرت فلم تحس
(5/357)
أحدًا حتى أتمت سبعًا ثم قالت: لو ذهبت
فنظرت ما فعل) تعني ولدها (فإذا هي بصوت فقالت: أغث إن كان
عندك خير فإذا جبريل) عند موضع زمزم، وفي حديث علّي عند
الطبري بإسناد حسن: فناداها جبريل، فقال: من أنت؟ قالت:
أنا هاجر أم ولد إبراهيم. قال: فإلى من وكلكما؟ قالت: إلى
الله. قال: وكلكما إلى كافٍ. (قال فقال بعقبه) أشار بها
(هكذا وغمز) بغين وزاي معجمتين (عقبه على الأرض قال
فانبثق) بهمزة وصل فنون ساكنة فموحدة فمثلثة مفتوحتين فقاف
فانخرق (الماء) وتفجر (فدهشت أم إسماعيل) بفتح الدال
والهاء، ولأبي ذر: فدهشت بكسر الهاء (فجعلت تحفر) بكسر
الفاء آخره راء وللكشميهني تحفن بنون بدل الراء أي تملأ
كفيها من الماء والأولى أوجه، ففي رواية عطاء بن السائب
عند عمر بن شبة فعلت تفحص الأرض بيديها (قال فقال أبو
القاسم -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لو تركته كان الماء ظاهرًا) على وجه الأرض (قال: فجعلت
تشرب من الماء ويدرّ لبنها على صبيها) بفتح الياء وكسر
الدال (قال: فمرّ ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير)
عائف (كأنهم أنكروا ذاك وقالوا: ما يكون الطير إلا على
ماء) ولم يعهد هنا ماء (فبعثوا رسولهم فنظر) هو ومن معه من
أتباعه (فإذا هم بالماء) ولأبي ذر فنظروا فإذا هو بواو
الجمع وميمه ولأبي ذر أيضًا فنظر فإذا هو بالإفراد فيهما
(فأتاهم فأخبرهم) بوجود الماء (فأتوا إليها فقالوا: يا أم
إسماعيل أتأذنين لنا أن نكون معك أو نسكن معك)؟ شك من
الراوي، وزاد في الرواية السابقة فقالت: نعم، ولكن لا حق
لكم في الماء. قالوا: نعم فنزلوا وأرسلوا إلى أهليم فنزلوا
معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم وشبّ الغلام وتعلم
العربية منهم وأنفسهم وأعجبهم حين شبّ (فبلغ ابنها) الفاء
فصيحة أي فأذنت فكان كذا فبلغ كما مرّ (فنكح فيهم امرأة)
تسمى عمارة بنت سعد أو غيرها كما مر قريبًا (قال: ثم إنه
بدا) ظهر (لإبراهيم) التوجه إليهما (فقال لأهله): سارة
(إني مطلع) بضم الميم وتشديد الطاء (تركتي) أي ما تركته
بمكة وهو إسماعيل وأمه، وعند الفاكهي من وجه آخر عن ابن
جريج عن رجل عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن سارة داخلتها
غيرة فقال لها إبراهيم لا أنزل حتى أرجع إليك (قال فجاء)
بعدما تزوّج إسماعيل فلم يجده (فسلم فقال) لامرأته: (أين
إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد) وفي رواية ابن جريج وكان
عيش إسماعيل الصيد يخرج فيتصيد وزاد المؤلّف في الرواية
السابقة، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بشر نحن
في ضيق وشدة فشكت إليه (قال) إبراهيم (قولي له) لإسماعيل
(إذا جاء
غيِّر عتبة بابك) ولأبي ذر وابن عساكر بيتك بدل بابك (فلما
جاء) إسماعيل (أخبرته) بذلك (قال) ولأبي ذر فقال (أنت ذاك)
المراد بالعتبة أمرني بطلاقك (فاذهبي إلى أهلك) زاد في
الرواية السابقة فطلقها وتزوج منهم أخرى (قال: ثم إنه بدا
لإبراهيم) التوجه إلى إسماعيل بمكة (فقال لأهله) زوجته
(إني مطلع تركتي قال فجاء) منزل إسماعيل (فقال أين
إسماعيل؟ فقالت امرأته: ذهب يصيد فقالت ألا) بالتخفيف
(تنزل فتطعم وتشرب فقال) لها: (وما طعامكم وما شرابكم؟
قالت) له: (طعامنا اللحم وشرابنا الماء. قال: اللهم بارك
لهم في طعامهم وشرابهم قال فقال أبو القاسم -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: بركة) أي في طعام مكة
وشرابها بركة ففيه حذف (بدعوة إبراهيم -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بضمير التثنية أي نبينا وإبراهيم
وثبتت التصلية لأبي ذر (قال ثم إنه بدا لإبراهيم) التوجه
لمكة (فقال لأهله: إني مطلع تركتي فجاء) لمكة (فوافق
إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له) بفتح النون وسكون
الموحدة سهامًا عربية بغير نصل ولا ريش (فقال يا إسماعيل
إن ربك أمرني أن أبني له بيتًا) هاهنا (قال) إسماعيل: (أطع
ربك. قال: إنه قد أمرني أن تعينني عليه. قال) إسماعيل:
(إذن أفعل) نصب (أو كما قال قال فقاما فجعل إبراهيم يبني
وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: {ربنا تقبل منا إنك أنت
السميع العليم} [البقرة: 127] قال حتى ارتفع البناء
(5/358)
وضعف الشيخ) إبراهيم عليه السلام (على)
ولأبي ذر عن الكشميهني: عن (نقل الحجارة فقام على حجر
المقام فجعل) إسماعيل (يناوله الحجارة ويقولان: {ربنا تقبل
منا إنك أنت السميع العليم}) وفي حديث عثمان ونزل عليه
الركن والمقام، فكان إبراهيم يقوم على المقام يبني عليه
ويرفعه إسماعيل، فلما بلغ الموضع الذي فيه الركن وضعه
يومئذٍ موضعه وأخذ المقام فجعله لاصقًا بالبيت فلما فرغ
إبراهيم من بناء الكعبة جاءه جبريل فأراه المناسك كلها، ثم
قام إبراهيم على المقام فقال: يا أيها الناس أجيبوا ربكم
فوقف إبراهيم وإسماعيل تلك المواقف وحجه إبراهيم وسارة من
بيت المقدس ثم رجع إبراهيم إلى الشام فمات بالشام زاد في
نسخة الصغاني هنا لفظ باب وسقط لغيره.
10 - باب
3366 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا
إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ
أَبَا ذَرٍّ -رضي الله عنه- قَالَ: "قُلْتُ يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الأَرْضِ أَوَّلُ؟
قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قَالَ: قُلْتُ: ثُمَّ
أَىٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الأَقْصَى قُلْتُ: كَمْ كَانَ
بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ سَنَةً. ثُمَّ أَيْنَمَا
أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ بَعْدُ فَصَلِّهْ، فَإِنَّ
الْفَضْلَ فِيهِ". [الحديث 3366 - طرفه في: 3425].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
عبد الواحد) بن زياد قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران
قال: (حدّثنا إبراهيم التيمي عن أبيه) يزيد بن شريك بن
طارق التيمي أنه (قال: سمعت أبا ذر -رضي الله عنه- قال:
قلت يا رسول الله أي مسجد وضع في
الأرض أوّل)؟ بفتح اللام غير منصرف ولأبي ذر أوّل بضمها
ضمة بناء لقطعها عن الإضافة كما بنيت قبل وبعد قال أبو
البقاء وهو الوجه والتقدير أوّل كل شيء ويجوز النصب
منصرفًا أي أي مسجد وضع أوّلاً للصلاة (قال) عليه الصلاة
والسلام:
(المسجد الحرام قال) أبو ذر: (قلت) يا رسول الله: (ثم
أيّ)؟ بالتنوين مشدّدًا أي ثم أي مسجد وضع بعد المسجد
الحرام (قال) عليه الصلاة والسلام: (المسجد الأقصى) مسجد
بيت المقدس بني بعده وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين
الكعبة أو لأنه لم يكن وراءه مسجد أو لبعده عن الأقذار
والخبائث (قلت) يا رسول الله: (كم كان بينهما)؟ أي كم بين
بناءي المسجدين (قال) عليه الصلاة والسلام: بينهما (أربعون
سنة) استشكل بأن الخليل بنى الكعبة وسليمان بنى الأقصى
وبينهما أكثر من أربعين سنة. وأجيب: بأنه لا دلالة في
الحديث على أن الخليل وسليمان ابتدآ وضعهما لهما بل إنما
جددا ما كان أسسه غيرهما، فليس إبراهيم أول من بنى الكعبة
ولا سليمان أول من بنى الأقصى وبناء آدم للكعبة مشهور،
فجائز أن يكون لما فرغ آدم من بناء الكعبة وانتشر ولده في
الأرض بنى بعضهم المسجد الأقصى، وفي كتاب التيجان لابن
هشام: أن آدم بنى الكعبة أمره الله تعالى بالمسير إلى بيت
المقدس وأن يبنيه فبناه ونسك فيه.
(ثم أينما أدركتك الصلاة بعد) أي بعد إدراك وقتها (فصلّه)
بهاء السكت وللكشميهني: فصلِّ (فإن الفضل فيه) أي في فعل
الصلاة إذا حضر وقتها زاد من وجه آخر عن الأعمش والأرض لك
مسجدًا.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في (1) ... ومسلم في
الصلاة والنسائي فيه وفي التفسير وابن ماجه في الصلاة.
3367 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى
الْمُطَّلِبِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه-:
«أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- طَلَعَ لَهُ أُحُدٌ فَقَالَ: هَذَا جَبَلٌ
يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ
حَرَّمَ مَكَّةَ، وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ
لاَبَتَيْهَا». رَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ زَيْدٍ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بفتح الميم واللام
القعنبي (عن مالك) الإمام الأعظم (عن عمرو بن أبي عمرو)
بفتح العين فيهما واسمه ميسرة (مولى المطلب) بن عبد الله
بن حنطب القرشي المخزومي (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-
أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طلع)
ظهر (له أُحد) بضم الهمزة والحاء المهملة جبل معروف
بالمدينة (فقال):
(هذا جبل يحبنا) حقيقة أو مجازًا أو هو من باب الإضمار أي
يحبنا أهله (ونحبه اللهم إن إبراهيم حرم مكة) إسناد
التحريم إليه لأنه مبلغه وإلاّ فهي حرام بحرمة الله يوم
خلق السماوات
والأرض كما ثبت في حديث آخر عند المؤلّف (وإني أحرم ما بين
لابتيها). بتخفيف الموحدة تثنية لابة وهي الحرة الأرض ذات
الحجارة السود.
وهذا الحديث مرّ في كتاب الجهاد في باب فضل الخدمة في
الغزو (ورواه) أي الحديث المذكور وثبتت الواو لأبي ذر (عبد
الله بن زيد) الأنصاري فيما وصله في البيوع في باب بركة
صاع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
هذا آخر المجلدة الأولى من اليونينية كما رأيته بهامش
الفرع بخط الشيخ شمس الدين المزي الحريري.
3368 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ ابْنَ أَبِي بَكْرٍ أَخْبَرَ عَبْدَ
اللَّهِ بْنَ عُمَرَ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنهم-
زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَلَمْ تَرَيْ أَنَّ قَوْمَكِ بَنَوُا
الْكَعْبَةَ اقْتَصَرُوا عَنْ قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ.
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلاَ تَرُدُّهَا عَلَى
قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ؟ فَقَالَ: لَوْلاَ حِدْثَانُ
قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عُمَرَ: لَئِنْ كَانَتْ عَائِشَةُ سَمِعَتْ هَذَا مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا
أُرَى أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- تَرَكَ اسْتِلاَمَ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ
يَلِيَانِ الْحِجْرَ إِلاَّ أَنَّ الْبَيْتَ لَمْ
يُتَمَّمْ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ». وَقَالَ
إِسْمَاعِيلُ: «عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي
بَكْرٍ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف)
_________
(1) بياض في الأصل.
(5/359)
التنيسي قال: أخبرنا مالك الإمام (عن ابن
شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن سالم بن عبد الله) بن عمر
(أن ابن أبي بكر) هو عبد الله بن أبي بكر الصدّيق (أخبر
عبد الله بن عمر عن عائشة -رضي الله عنهم- زوج النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) لها:
(ألم تري أن قومك) قريشًا (بنوا الكعبة) ولأبي ذر عن
الكشميهني: لما بنوا الكعبة (اقتصروا عن قواعد إبراهيم)
جمع قاعدة وهي الأساس (فقلت يا رسول الله ألا تردّها على
قواعد إبراهيم؟ فقال) عليه الصلاة والسلام (لولا حدثان
قومك) قريش بكسر الحاء وسكون الدال المهملتين وفتح المثلثة
مبتدأ خبره محذوف وجوبًا أي موجود أي قرب عهدهم (بالكفر)
زاد في الحج: لفعلت: (فقال عبد الله بن عمر: لئن كانت
عائشة) -رضي الله عنها- (سمعت هذا من رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) الترديد للتقرير لا للشك
والتضعيف (ما أرى) بضم الهمزة ما أظن (أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وسقط لغير الحموي
والمستملي لفظ أن (ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر)
بكسر المهملة وسكون الجيم (إلا أن البيت لم يتمم) ما نقص
منه وهو الركن الذي كان في الأصل (على قواعد إبراهيم) عليه
السلام فالموجود الآن فى جهة الحجر بعض الجدار الذي بنته
قريش.
(وقال إسماعيل) بن أبي أويس في روايته لهذا الحديث (عبد
الله بن أبي بكر) فبين أن ابن
أبي بكر المذكور في الرواية السابقة هو عبد الله، وقد أورد
المؤلّف حديث إسماعيل هذا في التفسير، وقوله وقال إسماعيل
الخ ثابت لأبي ذر عن المستملي والكشميهني.
3369 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ
أَخْبَرَنَا مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ
عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سُلَيْمٍ الزُّرَقِيِّ
أَخْبَرَنِي أَبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِيُّ -رضي الله عنه-:
«أَنَّهُمْ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ نُصَلِّي
عَلَيْكَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: قُولُوا: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا صَلَّيْتَ
عَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ
وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى آلِ
إِبْرَاهِيمَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». [الحديث 3369 -
طرفه في: 6360].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا
مالك بن أنس) الإمام الأعظم وسقط ابن أنس لأبي ذر (عن عبد
الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم) بفتح الحاء
المهملة وسكون الزاي (عن أبيه) أبي بكر (عن عمرو بن سليم)
بفتح العين كالسابق وسليم بضم السين مصغرًا (الزرقي) بضم
الزاي وفتح الراء بعدها قاف مكسورة أنه (قال: أخبرني)
بالإفراد (أبو حميد) عبد الرَّحمن (الساعدي -رضي الله عنه-
أنهم) أي الصحابة -رضي الله عنهم- (قالوا) ولأبي الوقت
وابن عساكر أنه أي أبا حميد الساعدي قال: (يا رسول الله
كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(قولوا اللهم صلّ على محمد) صلاة تليق به (وأزواجه وذريته)
نسله أولاد بنته فاطمة -رضي الله عنها- صلاة تليق بهم (كما
صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما
باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد).
وعند ابن ماجه: كما باركت على آل إبراهيم في العالمين،
ولفظ الآل مقحم: والمعنى كما سبقت منك الصلاة على إبراهيم
نسألك الصلاة على سيدنا محمد بطريق الأولى، وبهذا التقرير
يندفع الإيراد المشهور وهو أن من شرط التشبيه أن يكون
المشبه به أقوى، والحاصل من الجواب أن التشبيه هنا ليس من
باب إلحاق الكامل بالأكمل بل من باب التهييج ونحوه،
والمراد بالبركة النموّ والزيادة من الخير والكرامة أو
التطهير من العيوب والتزكية، أو المراد ثبات ذلك ودوامه
واستمراره من قولهم: بركت الإبل أي ثبتت على الأرض، وبه
جزم أبو اليمن ابن عساكر فيما حكاه شيخنا فقال: وبارك أي
فأثبت وأدم لهم ما أعطيتهم من الشرف والكرامة. قال شيخنا:
ولم يصرح أحد بوجوب قوله وبارك على محمد فيما عثرنا عليه
غير أن ابن حزم ذكر ما يفهم وجوبها في الجملة فقال: على
المرء أن يبارك عليه ولو مرة في العمر، وأن يقولها بلفظ
خبر ابن مسعود أو حميد أو كعب. وظاهر كلام صاحب المغني من
الحنابلة وجوبها في الصلاة فإنه قال: وصفة الصلاة كما
ذكرها الخرقي والخرقي إنما ذكر ما اشتمل عليه حديث كعب ثم
قال: وإلى هنا انتهى الوجوب.
والظاهر أن أحدًا من الفقهاء لا يوافق على ذلك قاله المجد
الشيرازي.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الدّعوات ومسلم في الصلاة وكذا
أبو داود والنسائي وابن ماجه.
3370 - حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ حَفْصٍ وَمُوسَى بْنُ
إِسْمَاعِيلَ قَالاَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ
زِيَادٍ حَدَّثَنَا أَبُو قُرَّةَ مُسْلِمُ بْنُ سَالِمٍ
الْهَمْدَانِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
عِيسَى سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَبِي لَيْلَى
قَالَ: «لَقِيَنِي كَعْبُ بْنُ عُجْرَةَ فَقَالَ: أَلاَ
أُهْدِي لَكَ هَدِيَّةً سَمِعْتُهَا مِنَ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقُلْتُ: بَلَى
فَاهْدِهَا لِي، فَقَالَ: سَأَلْنَا رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْنَا: يَا
رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ الصَّلاَةُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ
الْبَيْتِ، فَإِنَّ اللَّهَ قَدْ عَلَّمَنَا كَيْفَ
نُسَلِّمُ. قَالَ: قُولُوا اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى
مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ
مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ بَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ
مُحَمَّدٍ كَمَا بَارَكْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ
إِبْرَاهِيمَ إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ». [الحديث 3370 -
طرفاه في: 4797، 6357].
وبه قال: (حدّثنا قيس بن حفص) أبو محمد الدارمي مولاهم
البصري
(5/360)
(وموسى بن إسماعيل) أبو سلمة المنقري
(قالا: حدّثنا عبد الواحد بن زياد) العبدي مولاهم البصري
قال: (حدّثنا أبو فروة) بالفاء المفتوحة والراء الساكنة
بعدها واو (مسلم بن سالم الهمداني) بفتح الهاء وسكون الميم
بالدال المهملة ونقل الكرماني عن الغساني أنه قال: يروى عن
أحمد أن اسم أبي فروة عروة لا مسلم اهـ.
وفي تقريب التهذيب عروة بن الحرث الكوفي أبو فروة الأكبر
ومسلم بن سالم النهدي أبو فروة الأصغر الكوفي ويقال له
الجهني لنزوله فيهم فهما اثنان لكن الموافق للهمداني عروة
فليتأمل. (قال: حدثني) بالإفراد (عبد الله بن عيسى) بن عبد
الرَّحمن بن أبي ليلى أنه (سمع) جده (عبد الرَّحمن بن أبي
ليلى) بفتح اللامين الأنصاري المدني ثم الكوفي (قال: لقيني
كعب بن عجرة) بضم العين وفتح الراء المهملتين بينهما جيم
ساكنة البلوي حليف الأنصار، وعند الطبري وهو يطوف بالبيت
(فقال: ألا أهدي) بضم الهمزة (لك هدية سمعتها من النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلت) له (بلى فأهدها
لي) بقطع الهمزة (فقال: سألنا) بسكون اللام (رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقلنا: يا رسول الله
كيف الصلاة) أي كيف لفظ الصلاة عليكم أهل البيت بنصب أهل
علي الاختصاص (فإن الله قد علمنا كيف نسلم) زاد الكشميهني
عليكم يعني في التشهد وهو قول المصلي: السلام عليك أيها
النبي ورحمة الله وبركاته، والمعنى علمنا الله كيفية
السلام عليك على لسانك وبواسطة بيانك (قال):
(قولوا اللهم) أي يا الله (صلّ على محمد وعلى آل محمد كما
صليت على إبراهيم وعلى آل إِبراهيم إنك حميد مجيد) والأمر
للوجوب (اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على
إبراهيم وآل إبراهيم) ولغير أبي ذر وعلى آل إبراهيم (إنك
حميد مجيد) والمرجح أن المراد بآل
محمد هنا من حرمت عليهم الصدقة، وقيل أهل بيته، وقيل
أزواجه وذريته لأن أكثر طرق الحديث جاء بلفظ آل محمد. وفي
حديث أبي حميد السابق موضعه وأزواجه وذريته فدلّ على أن
المراد بالآل الأزواج والذرية. وتعقب بأنه ثبت الجمع بين
الثلاثة كما في حديث أبي هريرة عند أبي داود فلعل بعض
الرواة حفظ ما لم يحفظ غيره، والمراد بالآل في التشهد
الأزواج ومن حرمت عليهم الصدقة وتدخل فيهم الذرية فبذلك
يجمع بين الأحاديث. وقد أطلق -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على أزواجه آل محمد كما في حديث عائشة ما شبع
آل محمد من خبز مأدوم ثلاثة أيام. وقيل: الآل ذرية فاطمة
خاصة حكاه النووي في المجموع، وقيل جميع قريش حكاه ابن
الرفعة في الكفاية، وقيل جميع أمة الإجابة، ورجحه النووي
في شرح مسلم وقيد القاضي حسين بالأتقياء منهم.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الدعوات والتفسير في الصلاة
وكذا أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
3371 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنِ الْمِنْهَالِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ وَيَقُولُ:
إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهَا إِسْمَاعِيلَ
وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ،
مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ، وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ
لاَمَّةٍ».
وبه قال: (حدّثنا عثمان بن أبي شيبة) نسبة لجده واسم أبيه
محمد واسم أبي شيبة إبراهيم بن عثمان العبسي الكوفي قال:
(حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد الرازي (عن منصور) هو ابن
المعتمر (عن المنهال) بكسر الميم وسكون النون ابن عمرو
الأسدي الكوفي (عن سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله
عنهما-) أنه (قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يعوّذ الحسن والحسين) ابني فاطمة ويعوذ بالذال
المعجمة (ويقول) لهما:
(إن أباكما) جدكما الأعلى إبراهيم عليه السلام (كان يعوذ
بها) بالكلمات الآتية إن شاء الله تعالى، ولأبي الوقت وابن
عساكر: بهما بلفظ التثنية (إسماعيل وإسحاق) ابنيه وهي
(أعوذ بكلمات الله) كلامه على الإطلاق أو المعوّذتين أو
القرآن (التامة) صفة لازمة أي الكاملة أو النافعة أو
الشافية أو المباركة (من كل شيطان) إنسي وجني (وهامة)
بتشديد الميم واحدة الهوام ذوات السموم (ومن كل عين لامّة)
بالتشديد أيضًا التي تصيب بسوء. وقال الخطابي: كل آفة تلم
بالإنسان من جنون وخبل ونحوه كذا بالتاء في الثلاثة
وبالهاء الساكنة.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في السنة والترمذي في الطب
والنسائي في التعوذ وفي
(5/361)
اليوم والليلة وابن ماجه في الطب.
11 - باب قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَبِّئْهُمْ عَنْ
ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ} الآيَةَ
[الحجر: 51]
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
المَوْتَى} الآيَةَ [البقرة: 260]
هذا (باب) بالتنوين في قوله عز وجل وملحق في اليونينية بعد
باب بين الأسطر قوله عز وجل ({ونبئهم}) أي وأخبر عبادي
({عن ضيف إبراهيم}) أي أضيافه جبريل وميكائيل وإسرافيل
ودردائيل ({إذ دخلوا عليه}) [الحجر: 51] (الآية) وكانوا
دخلوا مشاة في صورة رجال مرد حسان، فلما رآهم سرّ بهم فخرج
إلى أهله فجاء بعجل سمين مشوي فقربه إليهم فأمسكوا أيديهم
فقال: إنّا منكم وجلون. قالوا: (لا توجل) أي (لا تخف)
وإنما خاف منهم لأنهم دخلوا بغير وقت وبغير إذن أو لأنهم
امتنعوا من الأكل. فإن قيل: كيف سماهم ضيفًا مع امتناعهم
من الأكل؟ أجيب: بأنه لما ظن إبراهيم أنهم إنما دخلوا عليه
لطلب الضيافة جاز تسميتهم بذلك وقيل: إن من دخل دار إنسان
والتجأ إليه سمي ضيفًا وإن لم يأكل. ({وإذ قال إبراهيم: رب
أرني كيف تحيي الموتى} إلى قوله {ولكن ليطمئن قلبي}
[البقرة: 260]) قال القرطبي: الاستفهام بكيف إنما هو سؤال
عن حال شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسؤول نحو
قولك كيف علم زيد وكيف نسج الثوب ونحو هذا فكيف في هذه
الآية إنما هي استفهام عن هيئة الإحياء والإحياء متقرر
اهـ.
وسقط لأبي ذر قوله {ولكن ليطمئن قلبي} وثبت له سابقه في
فرع اليونينية وفيها. وقال الحافظ ابن حجر بعد قوله باب
قوله: {ونبئهم عن ضيف إبراهيم} الآية لا توجل لا تخف كذا
اقتصر في هذا الباب على تفسير هذه الكلمة، وبذلك جزم
الإسماعيلي وقال: ساق الآيتين بلا حديث، ثم قال الحافظ بعد
قوله: {وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحي الموتى} [البقرة:
206] كذا وقع هذا الكلام لأبي ذر متصلاً بالباب، ووقع في
رواية كريمة بدل قوله {ولكن ليطمئن قلبي} وحكى الإسماعيلي
أنه وقع عنده باب قوله {وإذا قال إبراهيم} الخ وسقط كل ذلك
للنسفي، وصار حديث أبي هريرة تكملة الباب الذي قبله فكملت
به الأحاديث عشرين حديثًا وهو متجه اهـ.
3372 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ
وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدِ
بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «نَحْنُ أَحَقُّ بالشَكّ مِنْ
إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي
الْمَوْتَى قَالَ: أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ: بَلَى
وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}، وَيَرْحَمُ اللَّهُ
لُوطًا لَقَدْ كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ
لَبِثْتُ فِي السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفُ
لأَجَبْتُ الدَّاعِيَ». [الحديث 3372 - أطرافه في: 3375،
3387، 4537، 4694، 6992].
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) المصري قال: (حدّثنا ابن
وهب) عبد الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) بن
يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن أبي
سلمة بن عبد الرَّحمن) بن عوف (وسعيد بن المسيب) كلاهما
(عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال) على سبيل التواضع.
(نحن أحق من إبراهيم) ولأبي ذر عن الكشميهني: نحن أحق
بالشك من إبراهيم (إذ قال) لما رأى جيفة حمار مطروحة على
شط البحر فإذا مدّ البحر أكل دواب البحر منها وإذا جزر
البحر جاءت السباع فأكلت، وإذا ذهبت جاءت الطيور فأكلت
وطارت ({رب أرني كيف تحيي الموتى}) أي كيف تجمع أجزاء
الحيوان من بطون السباع والطيور ودواب البحر، أو لما ناظر
نمروذ حين قال: ربي الذي يحيي ويميت، وقال الملعون: أنا
أحيي وأميت وأطلق محبوسًا وأقتل رجلاً. فقال إبراهيم عليه
السلام: إن إحياء الله تعالى برد الروح إلى بدنها. فقال
نمروذ، فهل عاينته؟ فلم يقدر أن يقول نعم.
وانتقل إلى تقرير آخر فقال له نمروذ لعنه الله: قل لربك
حتى يحيي وإلا قتلتك فسأل الله تعالى ذلك، وقيل: إن الله
لما أوحى إليه أني متخذ بشرًا خليلاً فاستعظم إبراهيم عليه
السلام ذلك فقال: إلهي ما علامة ذلك؟ قال: إنه يحيي الموتى
بدعائه فلما عظم مقام إبراهيم في العبودية خطر بباله أنه
الخليل فسأل إحياء الموتى ({قال أو لم تؤمن}) بأني قادر
على جمع الأجزاء المتفرقة أو على الإحياء بإعادة التركيب
والروح إلى الجسد ({قال بلى}) آمنت ({ولكن}) سألت ({ليطمئن
قلبي}) [البقرة: 260] ليحصل الفرق بين المعلوم بالبرهان
والمعلوم عيانًا أو ليطمئن قلبي بقوة حجتي، إذا قيل لي:
أنت عاينت؟ أقول: نعم. أو ليطمئن قلبي بأني خليل لك، فظهر
أن سؤال إبراهيم لم يكن شكًّا بل من قبيل زيادة العلم
بالعيان فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا
يفيده الاستدلال. وعن الشافعي في معنى الحديث الشك يستحيل
في حق إبراهيم عليه السلام ولو كان الشك متطرقًا إلى
الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لكنت الأحق به من إبراهيم
وقد علمتم أن إبراهيم لم يشك فإذا لم أشك
(5/362)
أنا ولم أرتب في القدرة على الإحياء
فإبراهيم أولى بذلك. وقال الزركشي وذكر صاحب الأمثال
السائرة: إن أفعل تأتي في اللغة لنفي المعنى عن الشيئين
نحو: الشيطان خير من زيد أي لا خير فيهما وكقوله تعالى:
{أهم خير أم قوم تبع} [الدخان: 37] أي لا خير في الفريقين
وعلى هذا فمعنى قوله نحن أحق بالشك من إبراهيم لا شك عندما
جميعًا قال وهو أحسن ما يتخرج عليه هذا الحديث اهـ.
وكذا نقله في الفتح، لكن عن بعض علماء العربية قال في
المصابيح وهذا غير معروف عند المحققين.
(ويرحم الله لوطًا) اسم أعجمي وصرف مع المعجمة والعلمية
لسكون وسطه (لقد كان يأوي) في الشدائد (إلى ركن شديد) إلى
الله تعالى. وقال مجاهد إلى العشيرة، ولعله يريد لو أراد
لأوى إليها ولكنه أوى إلى الله تعالى. وقال أبو هريرة: ما
بعث الله نبيًّا إلا في منعة من عشيرته (ولو لبثت في السجن
طول ما لبث يوسف) بضع سنين ما بين الثلاث إلى التسع (لأجبت
الداعي) لأسرعت الإجابة في الخروج من السجن ولما قدّمت طلب
البراءة. قال محيي السنة: وصف -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يوسف بالأناة والصبر حيث لم يبادر إلى الخروج
حين جاءه رسول الملك فعل المذنب حين يعفى
عنه مع طول لبثه في السجن بل قال {ارجع إلى ربك فاسأله ما
بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} [يوسف: 50] أراد أن يقيم
الحجة في حبسهم إياه ظلمًا فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- على سبيل التواضع لا أنه عليه الصلاة والسلام
كان في الأمر منه مبادرة وعجلة لو كان مكان يوسف والتواضع
لا يصغر كبيرًا ولا يضع رفيعًا ولا يبطل الذي حق حقًّا
لكنه يوجب لصاحبه فضلاً ويكسبه إجلالاً وقدرًا. اهـ.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير ومسلم في الإيمان وفي
الفضائل وابن ماجه في الفتن.
12 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ}
[مريم: 54]
(باب قول الله تعالى {واذكر في الكتاب}) في القرآن
({إسماعيل إنه كان صادق الوعد}) [مريم: 54] قال ابن جريج:
لم يعد ربه عدة إلا أنجزها. قال ابن كثير: يعني ما التزم
عبادة قط بنذر إلا قام بها ووفاها حقها. وعند ابن جرير عن
سهل بن عقيل أن إسماعيل وعد رجلاً مكانًا أن يأتيه فجاء
ونسي الرجل فظل به إسماعيل وبات حتى جاء الرجل من الغد
فقال: ما برحت من هاهنا: قال: لا. قال: إني نسيت. قال: لم
أكن لأبرح حتى تأتيني فلذلك كان صادق الوعد.
وقال سفيان الثوري: بلغني أنه أقام في ذلك المكان ينتظره
حولاً حتى جاءه. وقال ابن شوذب بلغني أنه اتخذ ذلك الموضع
مسكنًا، وناهيك أنه وعد الصبر على الذبح حيث قال ستجدني إن
شاء الله من الصابرين فوفى به.
3373 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
حَاتِمٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ سَلَمَةَ
بْنِ الأَكْوَعِ -رضي الله عنه- قَالَ: «مَرَّ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى نَفَرٍ مِنْ
أَسْلَمَ يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ
فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا، ارموا وَأَنَا مَعَ
بَنِي فُلاَنٍ. قَالَ: فَأَمْسَكَ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ
بِأَيْدِيهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَا لَكُمْ لاَ تَرْمُونَ؟
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَرْمِي وَأَنْتَ
مَعَهُمْ؟ قَالَ: ارْمُوا وَأَنَا مَعَكُمْ كُلِّكُمْ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي مولاهم
البلخي قال: (حدّثنا حاتم) بالحاء المهملة وكسر الفوقية
ابن إسماعيل الكوفي (عن يزيد بن أبي عبيد) بضم العين
مصغرًا مولى سلمة بن الأكوع (عن سلمة بن الأكوع -رضي الله
عنه-) أنه (قال: مرّ النبي) ولأبي ذر: رسول الله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على نفر) عدة من رجال من
ثلاثة إلى عشرة (من أسلم) القبيلة المعروفة حال كونهم
(ينتضلون) بالضاد المعجمة يترامون على سبيل المسابقة (فقال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ارموا بني إسماعيل) يا بني إسماعيل بن إبراهيم الخليل
(فإن أباكم) إسماعيل وأطلق عليه أبا مجازًا لأنه جدهم
الأبعد (كان راميًا وأنا مع بني فلان) يعني ابن الأدرع كما
في حديث أبي
هريرة عند ابن حبان في صحيحه واسمه محجن كما في الطبراني
ولأبي ذر ارموا وأنا مع بني فلان وله عن الحموي والمستملي
مع ابن فلان (قال: فأمسك أحد الفريقين بأيديهم) عن الرمي
(فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما
لكم لا ترمون؟ فقالوا: يا رسول الله نرمي وأنت معهم؟ قال)
ولأبي الوقت فقال (ارموا وأنا) بالواو (معكم كلكم) بجر
اللام تأكيدًا للضمير المجرور.
وهذا الحديث سبق في باب التحريض على الرمي من كتاب الجهاد.
13 - باب قِصَّةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمَا
السَّلاَمُ. فِيهِ ابْنُ عُمَرَ وَأَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(باب قصة إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام) ولأبي ذر: قصة
إسحاق بن إبراهيم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بإسقاط الباب ورفع قصة ولم يقل وسلم (فيه) أي
في الباب (ابن عمر وأبو هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وكأنه يشير بحديث الأول إلى الآتي إن
شاء الله تعالى في قصة يوسف،
(5/363)
وبالثاني إلى الحديث المذكور في الباب
اللاحق كذا قرره في الفتح ثم قال: وأغرب ابن التين فقال:
لم يقف البخاري على سنده فأرسله وهو كلام من لم يفهم مقاصد
البخاري ونحوه قول الكرماني قوله فيه أي في الباب حديث من
رواية ابن عمر في قصة إسحاق بن إبراهيم عليهما السلام
فأشار البخاري إليه إجمالاً ولم يذكره بعينه لأنه لم يكن
على شرطه اهـ.
قال وليس الأمر كذلك لما بينته وتعقبه العيني فقال: هذه
مناقشة باردة لأن كل من له أدنى فهم يفهم أن ما قاله ابن
التين والكرماني هو الكلام الواقع في محله وكلامهما أوجه
من كلامه المشتمل على التردد في قوله كأنه يشير الخ ...
فلينظر المتأمل الحاذق في حديث ابن عمر الذي في قصة يوسف
هل يجد لما ذكره من الإشارة إليه وجهًا قريبًا أو بعيدًا؟
وأجاب الحافظ ابن حجر في انتقاض الاعتراض بأنه لما أورد في
آخر قصة يوسف حديث ابن عمر الكريم ابن الكريم ابن الكريم
ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبرهيم وكان معناه
أن من جملة قصته أنه من أنبياء الله وأن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سوّى بينه وبين من ذكر من
آبائه في صفة الكريم فأشار إلى ذلك في قصة والده للتسوية
المذكورة.
وأما حديث أبي هريرة الذي في الباب الذي يليه فإنه يشتمل
على ما تضمنه حديث ابن عمر مع بيان سبب الحديث وغير ذلك من
الزيادة فيه، وإنما قال في حق ابن التين إن كلامه يقتضي
أنه ما فهم مقصد البخاري لأنه ادّعى وجود حديث يتعلق بقصة
إسحاق بن إبراهيم وجده البخاري ولم يقف على سنده فذكره
مرسلاً وليست هذه طريقة البخاري أنه يعتمد على حديث لم يقف
على إسناده وأما الكرماني فقوله أقرب من قول ابن التين
لأنه يقتضي إثبات وجود الحديث بسنده ومتنه لكنه ليس على
شرط البخاري فلذلك علقه ولكنه لم يطرد ذلك من صنيعه لأنه
لا
يقتصر في التعليق على ما لم يكن بشرطه بل تارة يكون بشرطه
ويكون قد ذكره في مكان آخر وتارة لا يوجد إلا معلقًا وإن
كان بشرطه وتارة لا يكون على شرطه اهـ.
14 - باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ
الْمَوْتُ} -إِلَى قَوْلِهِ- {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ}
[البقرة: 133]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({أم كنتم شهداء إذ حضر
يعقوب الموت}) أم هي المنقطعة والمنقطعة تقدر ببل وهمزة
الاستفهام، وبعضهم يقدرها ببل وحدها ومعنى الإضراب انتقال
من شيء إلى شيء لا إبطال له، ومعنى الاستفهام الإنكار
والتوبيخ فيؤول معناه إلى النفي. أي: بل أكنتم شهداء يعني
لم تكونوا حاضرين إذ حضر يعقوب الموت وقال لبنيه ما قال
فلم تدعون اليهودية عليه، أو متصلة بمحذوف تقديره: أكنتم
غائبين أم كنتم شهداء؟ وقيل: الخطاب للمؤمنين أي ما شهدتم
ذلك وإنما علمتموه من الوحي، وقوله: إذ حضر منصوب بشهداء
على أنه ظرف لا مفعول به أي شهداء وقت حضور الموت إياه
وحضور الموت كناية عن حضور أسبابه ومقدماته {إذ قال لبنيه}
[البقرة: 133] (الآية) إذ بدل من الأولى أو ظرف لحضر. قال
عطاء: إن الله لم يقبض نبيًّا حتى يخيره بين الموت والحياة
فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم ففعل
ذلك به وجمع ولده وولد ولده وقال لهم: قد حضر أجلي فما
تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم
وإسماعيل وإسحاق، والعرب تجعل العم أبًا كما تسمي الخالة
أمًا قال القفال: وقيل إنه قدم ذكر إسماعيل على إسحاق لأن
إسماعيل كان أسنّ من إسحاق. وقوله: إذ قال لبنيه الخ ...
ثابت لأبي ذر ساقط لغيره وقالوا بعد قوله ({إذ حضر يعقوب
الموت}) إلى قوله: ({ونحن له مسلمون}) أي مذعنون مخلصون.
3374 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ سَمِعَ
الْمُعْتَمِرَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
أَبِي سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه- قَالَ: «قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ:
أَكْرَمُهُمْ أَتْقَاهُمْ. قَالُوا: يَا نَبِيَّ اللَّهِ
لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ
يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ
نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. قَالُوا: لَيْسَ
عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ
تَسْأَلُونِني؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: فَخِيَارُكُمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا
فَقِهُوا».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن إبراهيم) بن راهويه أنه (سمع
المعتمر) بن سليمان بن طرخان (عن عبيد الله) بضم العين
مصغرًا ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب (عن سعيد
بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه
(قال: قيل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من
أكرم الناس)؟ عند الله (قال) عليه الصلاة والسلام:
(أكرمهم أتقاهم) أي أشدهم لله تقوى (قالوا: يا نبي الله
ليس عن هذا نسألك. قال):
(فأكرم الناس يوسف نبي الله
(5/364)
ابن نبي الله) إسحاق (ابن خليل الله)
إبراهيم والمراد أنهم أكرم الناس أصلاً لأنهم سلسلة النبوة
(قالوا: ليس عن هذا نسألك قال فعن) ولأبي ذر: أفعن (معادن
العرب) أي أصولها التي ينسبون إليها "تسألوني"؟ ولأبي ذر
تسألونني بنونين فتحتية (قالوا: نعم. قال فخياركم في
الجاهلية خياركم) بالكاف فيهما (في الإسلام إذا فقهوا) بضم
القاف ولأبي ذر فقهوا بكسرها وفيه فضل الفقه وأنه يرفع
صاحبه على من نسبه أعلى منه.
وهذا الحديث سبق في باب قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم
خليلاً}.
15 - باب {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ
الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ * أَئِنَّكُمْ
لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ
بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * فَمَا كَانَ جَوَابَ
قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ
قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ *
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ
قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ * وَأَمْطَرْنَا
عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ}
[النمل: 84 - 88]
هذا (باب) بالتنوين يذكر فيه قوله تعالى في سورة النمل
({ولوطا}) نصب عطفًا على صالحًا أي وأرسلنا لوطًا أو عطفًا
على الذين آمنوا أي وأنجينا لوطًا أو باذكر مضمرة ({إذ
قال}) بدل على اذكر وظرف على أرسلنا. قال الطيبي: ولا يجوز
أن يكون بدلاً إذ لا يستقيم أرسلنا وقت قوله: ({لقومه
أتاتون الفاحشة}) الفعلة القبيحة والاستفهام إنكاري
({وأنتم تبصرون}) جملة حالية من فاعل تأتون أو من الفاحشة
والعائد محذوف أي وأنتم تبصرونها لستم عميًا عنها جاهلين
بها واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح، وقيل يرى
بعضكم بعضًا وكانوا لا يستترون عتوًّا منهم ({أئنكم لتأتون
الرجال شهوة}) مفعول من أجله وبيان لإتيانهم الفاحشة ({من
دون النساء}) اللاتي خلقن لذلك ({بل أنتم قوم تجهلون})
عاقبة المعصية أو موضع قضاء الشهوة.
وقول الزمخشري فإن قلت: فسرت تبصرون بالعلم وبعده بل أنتم
قوم تجهلون فكيف يكونون علماء جهلاء؟ فالجواب: تفعلون فعل
الجاهلين بأنها فاحشة مع علمكم بذلك تعقبه الطيبي فقال:
هذا الجواب غير مرضي تأباه كلمة الإضراب، بل أنه تعالى لما
أنكر عليهم فعلهم على الإجمال وسماه فاحشة وقيده بالحال
المقررة لجهة الاشكال تتميمًا للإنكار بقوله: {وأنتم
تبصرون} أراد مزيد ذلك التوبيخ والإنكار فكشف عن حقيقة تلك
الفاحشة متصلاً، وصرح بذكر الرجال على بلام الجنس مشيرًا
به إلى أن الرجولية منافية لهذه الحالة، وقيده بالشهوة
التي هي أخس أحوال البهيمة. وقد تقرر عند ذوي البصائر أن
إتيان النساء لمجرد الشهوة مسترذل فكيف بالرجال؟ وضم إليه
من دون النساء وآذن بأن ذلك ظلم فاحش ووضع للشيء في غير
موضعه، ثم اضرب عن الكل بقوله: {بل أنتم قوم تجهلون} أي
كيف يقال لمن يرتكب هذه الشنعاء وأنتم تعلمون فأولى حرف
الإضراب ضمير أنتم وجعلهم قومًا جاهلين والتفت في تجهلون
موبخًا معيرًا اهـ.
ولما بيّن تعالى جهلهم بين أنهم أجابوا بما لا يصلح أن
يكون جوابًا فقال: ({فقال كان جواب قومه}) خبر متقدم ({إلا
أن قالوا}) في موضع الاسم ({أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم
أناس يتطهرون}) أي يتنزهون عن أفعالنا التي هي إتيان أدبار
الرجال قالوه تهكمًا واستهزاء ({فأنجيناه وأهله إلا امرأته
قدرناها}) قضينا عليها وجعلناها بتقديرنا ({من الغابرين})
من الباقين في العذاب ({وأمطرنا عليهم مطرًا}) وهو الحجارة
({فساء}) فبئس ({مطر المنذرين}) أي مطرهم فالمخصوص بالذم
محذوف وسقط لأبي ذر قوله {وأنتم تبصرون} إلى آخر {وأمطرنا
عليهم مطرًا} وقال بعد قوله {أتأتون الفاحشة} إلى قوله
{فساء مطر المنذرين}.
3375 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «يَغْفِرُ اللَّهُ
لِلُوطٍ إِنْ كَانَ لَيَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(يغفر الله للوط إن كان) أي أنه كان (ليأوي إلى ركن شديد)
إلى الله تعالى. وسبق هذا الحديث في باب قوله عز وجل:
{ونبئهم عن ضيف إبراهيم} [الحجر: 51].
16 - باب {فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ *
قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الحجر: 62].
{بِرُكْنِهِ}: بِمَنْ مَعَهُ لأَنَّهُمْ قُوَّتُهُ:
{تَرْكَنُوا}: تَمِيلُوا. فَأَنْكَرَهُمْ وَنَكِرَهُمْ
وَاسْتَنْكَرَهُمْ وَاحِدٌ. {يُهْرَعُونَ}: يُسْرِعُونَ،
{دَابِرٌ}: آخِرٌ. {صَيْحَةٌ}: هَلَكَةٌ.
{لِلْمُتَوَسِّمِينَ}: لِلنَّاظِرِينَ. {لَبِسَبِيلٍ}:
لَبِطَرِيقٍ.
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى. ({فلما جاء آل لوط
المرسلون}) أي الملائكة المرسلون من عند الله بعذاب قوم
مجرمين ولم يعرّفوهم أنهم ملائكة ({قال}) لهم لوط ({إنكم
قوم منكرون}) [الحجر: 61 - 62] لأنهم لما هجموا عليه
استنكرهم وخاف من دخولهم لأجل شرّ يوصلونه إليه ({بركنه})
[الذاريات: 39] في قوله تعالى: {وفي موسى إذ أرسلناه إلى
فرعون بسلطان
(5/365)
مبين فتولى بركنه} [الذاريات: 38 و39] أي
أدبر عن الإيمان (بمن معه) من قومه (لأنهم قوّته) التي كان
يتقوى بها كالركن الذي يتقوى به البنيان كقوله تعالى: {أو
آوي إلى ركن شديد} [هود: 80] وذكره المؤلّف هنا استطرادًا
لقوله في قصة لوط أو آوي إلى ركن شديد ({تركنوا}) في قوله
تعالى: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} [هود: 113] أي لا
(تميلوا) وذكرها استطرادًا أيضًا (فأنكرهم ونكرهم
واستنكرهم واحد) في المعنى، وهذا قول أبي عبيدة في قوله
تعالى: {فلما رأى أيديهم لا تصل إليهم نكرهم} [هود: 70]
واعترض هذا بأن الإنكار من
إبراهيم غير الإنكار من لوط لأن إبراهيم أنكرهم لما لم
يأكلوا ولوطًا أنكرهم لما لم يبالوا بمجيء قومه إليهم فلا
وجه لذكر هذا هنا {يهرعون} في قوله تعالى {وجاءه قومه
يهرعون إليه} [هود: 78] أي (يسرعون) {دابر} أي (آخر) يريد
قوله تعالى: {وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع}
[الحجر: 66] أي آخرهم مقطوع مستأصل {صيحة} في قوله تعالى
{إن كانت إلا صيحة واحدة} [يس: 53] معناه (هلكة) ولا وجه
لإيراده هنا. {للمتوسمين} [الحجر: 75] قال الضحاك
(للناظرين) وقال مجاهد: للمتفرسين {لبسبيل} قال أبو عبيدة
أي (لبطريق).
3376 - حَدَّثَنَا مَحْمُودٌ حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ
حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ
الأَسْوَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ:
"قَرَأَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} ".
وبه قال: (حدّثنا محمود) هو ابن غيلان قال: (حدّثنا أبو
أحمد) محمد بن عبد الله الزبيري قال: (حدّثنا سفيان)
الثوري (عن أبي إسحاق) عمرو السبيعي (عن الأسود) بن يزيد
(عن عبد الله) بن مسعود (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قرأ
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (فهل من
مدكر}) [القمر: 15] بالدال المهملة والأصل مذتكر فأبدلت
التاء دالاً مهملة ثم أبدلت المعجمة مهملة لمقاربتها ثم
أدغم. وهذا الباب بتفسيره وحديث ثابت في الفرع وأصله لأبي
ذر عن الحموي والمستملي، وقال الحافظ ابن حجر: هذه
التفاسير وقعت في رواية المستملي وحده.
17 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى ثَمُودَ
أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف: 73] وَقَوْلِهِ: {كَذَّبَ
أَصْحَابُ الْحِجْرِ} [الحجر: 80]: الحجرِ: مَوْضِعُ
ثَمُودَ. وَأَمَّا {حَرْثٌ حِجْرٌ}: حَرَامٌ، وَكُلُّ
مَمْنُوعٍ فَهْوَ حِجْرٌ، وَمِنْهُ "حِجْرٌ مَحْجُورٌ"،
وَالْحِجْرُ كُلُّ بِنَاءٍ بَنَيْتَهُ، وَمَا حَجَرْتَ
عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ فَهْوَ حِجْرٌ وَمِنْهُ, سُمِّيَ
حَطِيمُ الْبَيْتِ حِجْرًا، كَأَنَّهُ مُشْتَقٌّ مِنْ
مَحْطُومٍ، مِثْلُ قَتِيلٍ مِنْ مَقْتُولٍ، وَيُقَالُ
لِلأُنْثَى مِنَ الْخَيْلِ حِجْرُ، وَيُقَالُ لِلْعَقْلِ:
حِجْرٌ. وَحِجًى وَأَمَّا حَجْرُ الْيَمَامَةِ فَهْوَ
مَنْزِلٌ.
(باب قول الله تعالى: {وإلى ثمود}) قبيلة من العرب سموا
باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام وقيل سموا
لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل وكانت مساكنهم الحجر
بين الحجاز والشام إلى وادي القرى ({أخاهم صالحًا})
[الأعراف: 73] هو ابن عبيد بن ماسخ بن عبيد بن حاذر بن
ثمود ({كذب أصحاب الحجر}) [الحجر: 80] (الحجر) وثبت لأبي
ذر لفظ الحجر الثاني (موضع ثمود) قوم صالح وهو بين المدينة
والشام (وأما {حرث حجر}) [الأنعام: 138] فمعناه (حرام،
وكل) شيء (ممنوع فهو حجر محجور) أي حرام محرم (والحجر كل
بناء بنيته) بتاء الخطاب في آخره ولأبي ذر تبنيه بها في
أوله (وما حجرت عليه من الأرض) بتخفيف الجيم (فهو حجر،
ومنه سمي حطيم البيت) الحرام وهو الحائط المستدير إلى
جانبه (حجرًا
كأنه مشتق من محطوم) أي مكسور وكأن الحطيم سمي به لأنه كان
في الأصل داخل الكعبة فانكسر بإخراجه منها (مثل قتيل من
مقتول، ويقال) ولأبي الوقت وتقول (للأنثى من الخيل الحجر)
بلا هاء وجمعه حجورة بإثباتها ولأبوي الوقت وذر وابن عساكر
حجر بالتنكير منونًا (ويقال للعقل حجر) قال تعالى: {هل في
ذلك قسم لذي حجر} [الفجر: 5] أي عقل لمنعه صاحبه من الوقوع
في المكاره (و) يقال له أيضًا (حجى) بكسر الحاء وفتح الجيم
منونة مخففة (وأما حجر اليمامة) بفتح الحاء (فهو منزل)
لثمود، ولأبي ذر فهو المنزل.
3377 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ بْنَ زَمْعَةَ قَالَ: "سَمِعْتُ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَذَكَرَ الَّذِي
عَقَرَ النَّاقَةَ -قَالَ: انْتَدَبَ لَهَا رَجُلٌ ذُو
عِزٍّ وَمَنَعَةٍ فِي قُوَّةٍ كَأَبِي زَمْعَةَ". [الحديث
3377 - أطرافه في: 4942، 5204، 6042].
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا هشام بن عروة عن
أبيه) عروة بن الزبير (عن عبد الله بن زمعة) بفتح الميم
وسكونها الأسدي أنه (قال: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) يخطب (وذكر) قصة قدار (الذي عقر
الناقة) ناقة صالح، وذلك أن ثمود بعد عاد عمّروا بلادهم
وخلفوهم وكثروا وعمروا أعمارًا طوالاً لا تفي بها الأبنية،
فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في خصب وسعة فعتوا وأفسدوا
في الأرض وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من
أشرافهم فأنذرهم فسألوه آية. فقال أية آية تريدون؟ قالوا:
أخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو ألهتنا فمن استجيب
له اتبع، فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم تجبهم ثم أشار سيدهم
جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة وقال له: أخرج من هذه الصخرة
ناقة سوداء حالكة ذات عرف وناصية ووبر، وقيل قال ناقة ذات
(5/366)
ألوان من أحمر ناصع وأصفر فاقع وأسود حالك
وأبيض يقق نظرها كالبرق الخاطف رغاؤها كالرعد القاصف طولها
مائة ذراع وعرضها كذلك ذات ضروع أربعة نحلب منها ماء
وعسلاً ولبنًا وخمرًا لها تبيع على صفتها حنينها بتوحيد
إلهك والإقرار بنبوّتك، فإن فعلت صدقناك فأخذ عليهم صالح
مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن به؟ فقالوا: نعم فصلّى ودعا
ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة كما
وصفوا وهم ينظرون، ثم نتجت ولدًا مثلها في العظم فآمن به
جندع في جماعة ومنع الباقين من الإيمان دؤاب بن عمرو،
والحباب صاحب أوثانهم، ورباب ابن كاهنهم، فمكثت الناقة مع
ولدها ترعى الشجر وترد الماء غبًا فما ترفع رأسها من البئر
حتى تشرب كل ما فيها ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ
أوانيهم فيشربون ويدخرون وكان تصيف بظهر الوادي فتهرب منها
أنعامهم إلى بطنه وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق
ذلك عليهم فأجمعوا على عقرها (قال) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(فانتدب لها) كذا في الفرع بالفاء فيهما وفي اليونينية
قال: انتدب لها بغير فاء فيهما أي أجاب إلى عقرها لما دعي
له (رجل) منهم (ذو عزّ ومنعة) بفتح الميم والنون وتسكن قوة
(في قوة) ولأبي ذر عن الحموي: في قومه بدل قوله في قوة
(كأبي زمعة). الأسود بن المطلب بن أسد بن
عبد العزى وهو جد عبد الله بن زمعة بن الأسود راوي الحديث
ومات الأسود كافرًا، وكان ذا عزة ومنعة في قومه كعاقر
الناقة وكان عاقر الناقة فيما قاله السهيلي ولد زنا أحمر
أشقر أزرق قصيرًا يضرب به المثل في الشؤم فعقرها واقتسموا
لحمها فرقي سقبها جبلاً فرغًا ثلاثًا فقال صالح لهم:
أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه إذ
انفجت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: تصبح وجوهكم
غدًا مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم
العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله
تعالى إلى أرض فلسطين، ولما كانت ضحوة اليوم الرابع تحنطوا
وتكفنوا بالانطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم
فهلكوا.
وحديث الباب أخرجه أيضًا في التفسير والأدب والنكاح ومسلم
في صفة النار والترمذي في التفسير وكذا النسائي وابن ماجه
في النكاح.
3378 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مِسْكِينٍ أَبُو
الْحَسَنِ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانَ بْنِ حَيَّانَ
أَبُو زَكَرِيَّاءَ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله
عنهما-: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَمَّا نَزَلَ الْحِجْرَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ
أَمَرَهُمْ أَنْ لاَ يَشْرَبُوا مِنْ بِئْرِهَا وَلاَ
يَسْتَقُوا مِنْهَا، فَقَالُوا: قَدْ عَجَنَّا مِنْهَا
وَاسْتَقَيْنَا، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَطْرَحُوا ذَلِكَ
الْعَجِينَ وَيُهَرِيقُوا ذَلِكَ الْمَاءَ». وَيُرْوَى
عَنْ سَبْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ وَأَبِي الشُّمُوسِ: «إِنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَمَرَ
بِإِلْقَاءِ الطَّعَامِ». وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ عَنِ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنِ
اعْتَجَنَ بِمَائِهِ». [الحديث 3378 - طرفه في: 3379].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مسكين) اليمامي (أبو الحسن)
الحراني سكن البصرة قال: (حدّثنا يحيى بن حسان بن حيان)
بفتح الحاء المهملة والتحتية المشدّدة (أبو زكريا) التنيسي
قال: (حدّثنا سليمان) بن بلال التيمي مولاهم المدني (عن
عبد الله بن دينار) العدوي مولاهم المدني مولى ابن عمر (عن
ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما نزل الحجر) منازل ثمود (في غزوة
تبوك أمرهم) أي أمر أصحابه (أن لا يشربوا من بئرها ولا
يستقوا منها فقالوا: قد عجنا منها واستقينا فأمرهم) عليه
الصلاة والسلام (أن يطرحوا ذلك العجين) المعجون بمائها
(ويهريقوا) بضم الياء وسكون الهاء أي يريقوا (ذلك الماء)
خوفًا أن يورثهم شربه قسوة في قلوبهم أو ضررًا في أبدانهم.
(ويروى) ولأبي ذر قال: ويروى (عن سبرة بن معبد) بفتح السين
المهملة وسكون الموحدة بعدها راء ومعبد بفتح الميم
والموحدة بينهما عين مهملة ساكنة الجهني فيما وصله
الطبراني وأبو نعيم (و) عن (أبي الشموس) بفتح الشين
المعجمة وضم الميم وبعد الواو سين مهملة البلوي بفتح
الموحدة واللام لا يعرف اسمه فيما وصله الطبراني وابن منده
(إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أمر بإلقاء
الطعام وقال أبو ذر) جندب بن جنادة فيما وصله البزار في
مسنده (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
أمر (من اعتجن) عجينه (بمائه) أن يلقيه.
3379 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ
حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ عِيَاضٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ
عَنْ نَافِعٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -رضي الله
عنهما- أَخْبَرَهُ "أَنَّ النَّاسَ نَزَلُوا مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَرْضَ
ثَمُودَ، الْحِجْرَ، فَاسْتَقَوْا مِنْ بِئْرِهَا
وَاعْتَجَنُوا بِهِ، فَأَمَرَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُهَرِيقُوا مَا
اسْتَقَوْا مِنْ بِئْارِهَا وَأَنْ يَعْلِفُوا الإِبِلَ
الْعَجِينَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَسْتَقُوا مِنَ الْبِئْرِ
الَّتِي كَانَ تَرِدُهَا النَّاقَةُ". تَابَعَهُ أُسَامَةُ
عَنْ نَافِعٍ.
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) أبو إسحاق القرشي
الحزامي المدني قال: (حدّثنا أنس بن عياض) المدني الليثي
(عن عبيد الله) بضم العين ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر
بن الخطاب (عن نافع) مولى ابن عمر (أن عبد الله بن عمر
-رضي الله عنهما- أخبره أن الناس) أي
(5/367)
الصحابة -رضي الله عنهم- (نزلوا مع رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أرض ثمود) بين
المدينة والشام (الحجر) نصب بدلاً من أرض (فاستقوا) بالفاء
ولأبوي ذر والوقت واستقوا (من بئرها) بسكون الهمزة ولأبي
ذر من آبارها بهمزة مفتوحة ممدودة على الجمع (واعتجنوا به)
بالماء المأخوذ منها (فأمرهم رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يهريقوا) بالهاء الساكنة أي يريقوا
(ما استقوا من بئرها) بالإفراد، ولأبي ذر: من بئارها
بالجمع (وأن يعلفوا الإبل العجين) المعجون بمائها والمراد
بالطرح المذكور في السابق ترك اللأكل فلا تعارض بين
الحديثين (وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كان) وللكشميهني
التي كانت (تردها الناقة تابعه) أي تابع عبيد الله (أسامة)
بن زيد بن حارثة الليثي (عن نافع) عن ابن عمر على قوله
وأمرهم أن يستقوا من البئر التي كانت تردها ناقة صالح وهذه
المتابعة وصلهان ابن المقري.
وفي الحديث كراهة الاستقاء من آبار ثمود وهل هي للتحريم أو
للتنزيه وعلى الأوّل هل يمنع صحة التطهر بذلك الماء
والظاهر أنه لا يمنع، والحديث أخرجه مسلم أيضًا.
3380 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ
عَنْ مَعْمَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي
سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ - رضي الله
عنه-: أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَمَّا مَرَّ بِالْحِجْرِ قَالَ: «لاَ
تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا، إِلاَّ أَنْ
تَكُونُوا بَاكِينَ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ.
ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهْوَ عَلَى الرَّحْلِ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد) هو
ابن مقاتل قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك (عن معمر)
بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة ابن راشد (عن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (سالم بن
عبد الله) بن عمر بن الخطاب (عن أبيه) في اليونينية ملحق
بين السطور -رضي الله عنهم- (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما مرّ بالحجر ديار ثمود) ديار ثمود
(قال) لمن معه.
(لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم) شامل لمنازل ثمود
وغيرهم ممن في معناهم من سائر الأمم الذين نزل بهم العذاب
وثبت قوله أنفسهم لأبي ذر عن الكشميهني (إلا أن تكونوا
باكين أن يصيبكم) أي مخافة الإصابة كقولك لا تضرب الأسد أن
يفترسك وأن مصدرية وهذا التقدير عند البصريين أو التقدير
كما عند الكوفيين لئلا يصيبكم (ما أصابهم) أي من العذاب
والبصريون لا يجوّزون الإضمار الثاني (ثم تقنّع) أي تستر
عليه الصلاة والسلام (بردائه وهو على الرحل). أي رحل
البعير وهو أصغر من القتب.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في المغازي والنسائي في التفسير.
3381 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بن محمدٍ حَدَّثَنَا
وَهْبٌ حَدَّثَنَا أَبِي سَمِعْتُ يُونُسَ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمٍ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «لاَ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا
أَنْفُسَهُمْ -إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ- أَنْ
يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الله بن
محمد) المسندي، وسقط لغير أبي ذر ابن محمد قال: (حدّثنا
وهب) بفتح الواو وسكون الهاء قال: (حدثنا أبي) جرير بن
حازم البصري قال: (سمعت يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب (عن سالم أن) أباه (ابن عمر) -رضي
الله عنهما- (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم) ثمود أو غيرهم (إلا
أن تكونوا باكين) حذر (أن يصيبكم مثل ما أصابهم) وسقط مثل
لغير أبي ذر.
والحديث أخرجه مسلم آخر كتابه.
18 - باب {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ
الْمَوْتُ} [البقرة: 133]
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({أم كنتم شهداء إذ حضر
يعقوب الموت}) [البقرة: 133] ثبت الباب. وسياق هذه الآية
هنا فى غير رواية الكشميهني في الفرع وأصله، وقد ذكرها
المؤلّف قبل ثلاثة أبواب، وسبق تفسيرها ثم وصوّب في الفتح
أن حديثها تلو حديث الباب التالي كما لا يخفى.
3382 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الصَّمَدِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله
عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ
ابْنِ الْكَرِيمِ: يُوسُفُ ابْنُ يَعْقُوبَ بْنِ إِسْحَاقَ
بْنِ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ». [الحديث 3382
- طرفاه في: 3390، 4688].
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن منصور) الكوسج المروزي الحافظ
أبو يعقوب قال: (أخبرنا عبد الصمد) بن عبد الوارث قال:
(حدّثنا عبد الرَّحمن بن عبد الله عن أبيه) عبد الله بن
دينار (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال):
(الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم) في اليونينية
علامة السقوط على ابن الكريم الأخيرة (يوسف بن يعقوب بن
إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام). وللطبراني بإسناد ضعيف عن
ابن عباس قيل يا رسول الله من السيد؟ قال "يوسف بن يعقوب"
قالوا: فما في أمتك سيد؟ قال "رجل أعطي مالاً حلالاً ورزق
سماحة" نقله صاحب الفتح. وحديث الباب سبق ويأتي في الباب
التالي والتفسير إن شاء الله تعالى.
19 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ فِي
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ} [يوسف: 7]
(باب قول الله تعالى {لقد كان في يوسف وإخوته}) أي في
قصتهم ({آيات}) علامات على قدرته تعالى أو على نبوتك
({للسائلين}) [يوسف: 7] لمن سأل عن قصتهم أو عبرة
(5/368)
للمعتبرين فإنها تشتمل على رؤيا يوسف وما
حقق الله منها وعلى صبر يوسف عن قضاء الشهوة وعلى الرق
والسجن، وما آل إليه أمره من الملك وعلى حزن يعقوب وصبره،
وما آل إليه أمره من الوصول إلى المراد، ووصفها الله تعالى
بأنها أحسن القصص إذ ليس في القصص غيرها ما فيها من العبر
والحكم مع اشتمالها على ذكر الأنبياء والصالحين وسير
الملوك والمماليك والتجار والنساء وحيلهن ومكرهن والتوحيد
وتعبير الرؤيا والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش، وجمل
الفوائد التي تصلح للدين والدنيا، وذكر الحبيب والمحبوب
وسيرهما.
3383 - حَدَّثَنِي عُبَيْدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ عَنْ أَبِي
أُسَامَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: أَخْبَرَنِي
سَعِيدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه-: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ أَكْرَمُ النَّاسِ؟ قَالَ:
أَتْقَاهُمْ لِلَّهِ. قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا
نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ
اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ
ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا
نَسْأَلُكَ. قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ
تَسْأَلُونِي؟ النَّاسُ مَعَادِنُ، خِيَارُهُمْ فِي
الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الإِسْلاَمِ إِذَا
فَقِهُوا».
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدٌ بن سلام أَخْبَرَني عَبْدَةُ عَنْ
عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ سَعِيدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي
الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بِهَذَا.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (عبيد بن
إسماعيل) بضم العين من غير إضافة لشيء وكان اسمه عبد الله
الهباري الكوفي (عن أبي أسامة) حماد بن أسامة (عن عبيد
الله) بضم العين ابن عمر العمري أنه (قال: أخبرني)
بالإفراد (سعيد بن أبي سعيد) كيسان المقبري (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه-) أنه قال (سئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أكرم الناس)؟ عند الله (قال):
أكرمهم (أتقاهم لله) عز وجل أي أشدهم لله تقوى (قالوا: ليس
عن هذا نسألك. قال فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي
الله) يعقوب (ابن نبي الله) إسحاق (ابن خليل الله)
إبراهيم. قال في
الكواكب: وأصل الكرم كثرة الخير، وقد جمع يوسف عليه السلام
مكارم الأخلاق مع شرف النبوة وكونه ابن ثلاثة أنبياء
متناسلين ومع شرف رياسة الدنيا وملكها بالعدل والإحسان
(قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب) أي
أصولها التي ينتسبون إليها (تسألوني)؟ ولأبي ذر: تسألونني
بنونين (الناس معادن) زاد الطيالسي وغيره في حديث في الخير
والشر والعسكري كمعادن الذهب والفضة (خيارهم في الجاهلية
خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) بضم القاف وكسرها كما مرّ
فيجتمع لهم شرف النسب مع شرف العلم وسبق في باب قول الله
تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلاً} [النساء: 125] ما في
ذلك فليراجع.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: أخبرنا (محمد بن
سلام) البيكندي. وثبت ابن سلام لأبي ذر قال: (أخبرنا)
ولأبي ذر: أخبرني بالإفراد (عبدة) بن سليمان (عن عبيد
الله) بضم العين العمري (عن سعيد) المقبري (عن أبي هريرة
-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بهذا) الحديث.
3384 - حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ أَخْبَرَنَا
شُعْبَةُ عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: سَمِعْتُ
عُرْوَةَ بْنَ الزُّبَيْرِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها-
أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ لَهَا: «مُرِي أَبَا بَكْرٍ يُصَلِّي بِالنَّاسِ.
قَالَتْ: إِنَّهُ رَجُلٌ أَسِيفٌ، مَتَى يَقُمْ مَقَامَكَ
رَقَّ. فَعَادَ، فَعَادَتْ. قَالَ شُعْبَةُ: فَقَالَ فِي
الثَّالِثَةِ -أَوِ الرَّابِعَةِ-: إِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ
يُوسُفَ، مُرُوا أَبَا بَكْرٍ ... ».
وبه قال: (حدّثنا بدل بن المحبر) بفتح الموحدة والدال
المهملة آخره لام والمحبر بضم الميم وفتح الحاء المهملة
والموحدة المشددة ابن منير اليربوعي قال: (أخبرنا شعبة) بن
الحجاج (عن سعد بن إبراهيم) بسكون العين ابن عبد الرَّحمن
بن عوف أنه (قال: سمعت عروة بن الزبير) بن العوام (عن
عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال لها) في مرض موته:
(مري) بوزن كلي من غير همز (أبا بكر) الصديق (يصلي بالناس)
الظهر أو العصر أو العشاء (قالت: إنه رجل أسيف) بفتح
الهمزة وكسر السين المهملة وبعد التحتية الساكنة فاء أي
شديد الحزن رقيق القلب سريع البكاء (متى يقم مقامك) جزم
بحذف الواو بمتى الشرطية ولأبي ذر عن الكشميهني متى يقوم
بإثباتها ووجهه ابن مالك بأنها أهملت حملاً على إذا كما
عملت إذا حملاً على متى في قوله إذا أخذتما مضاجعكما
تكبرًا أربعًا وثلاثين والمعنى متى ما يقم مقامك في
الإمامة (رق) قلبه فلا يسمع الناس (فعاد) عليه الصلاة
والسلام إلى قوله: مري أبا بكر الصديق يصلّي بالناس
(فعادت) عائشة إلى قولها إنه رجل أسيف.
(قال شعبة) بن الحجاج بالسند السابق (فقال) عليه الصلاة
والسلام (في الثالثة أو الرابعة) بالشك من الراوي (إنكن)
بلفظ الجمع على إرادة الجنس وكان الأصل أن يقول إنك بلفظ
المفردة (صواحب يوسف) تظهرن خلاف ما تبطن كهن، وكان غرض
عائشة أن لا يتطير الناس بوقوف أبيها مكان رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كإظهار زليخا إكرام
النسوة بالضيافة ومقصودها أن ينظرن إلى حسن
يوسف ليعذرنها في محبته (مروا) بصيغة الجمع، ولأبي ذر: مري
(5/369)
(أبا بكر) ... الحديث. وساقه هنا مختصرًا
وسبق بتمامه في أبواب الإمامة من كتاب الصلاة.
3385 - حَدَّثَنَا الرَّبِيعُ بْنُ يَحْيَى الْبَصْرِيُّ
حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ
عَنْ أَبِي بُرْدَةَ بْنِ أَبِي مُوسَى عَنْ أَبِيهِ
قَالَ: «مَرِضَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ
بِالنَّاسِ. فَقَالَتْ عَائِشَةَ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ
رَجُلٌ كَذَا-فَقَالَ مِثْلَهُ، فَقَالَتْ مِثْلَهُ-
فَقَالَ: مُرُوهُ فَإِنَّكُنَّ صَوَاحِبُ يُوسُفَ -فَأَمَّ
أَبُو بَكْرٍ فِي حَيَاةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-». وَقَالَ حُسَيْنٌ: عَنْ زَائِدَةَ
«رَجُلٌ رَقِيقٌ».
وبه قال: (حدّثنا الربيع) ولأبي ذر ربيع (بن يحيى)
الأشناني بضم الهمزة وسكون المعجمة (البصري) سقط البصري
لأبي ذر وفي نسخة الصغاني: حدّثنا ربيع بن يحيى، حدّثنا
النضر بالنون المفتوحة والضاد المعجمة، حدّثنا زائدة وفي
حاشية اليونينية وقع في أصل السماع حدّثنا النضر وهو غلط
وتصحيف من البصري حقق ذلك من أصول الحفاظ أبي ذر والأصيلي
وأبي القاسم الدمشقي وأصل أبي صادق مرشد وغير ذلك من
الأصول قال: (حدّثنا زائدة) بن قدامة الثقفي أبو الصلت
الكوفي (عن عبد الملك بن عمير) بضم العين وفتح الميم
مصغرًا ابن سويد اللخمي حليف بني عدي الكوفي الفرسي بفتح
الفاء والراء بعدها سين مهملة نسبة إلى فرس له سابق (عن
أبي بردة) بضم الموحدة عامر (بن أبي موسى) عبد الله بن قيس
الأشعري (عن أبيه) أنه (قال: مرض النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) مرضه الذي توفي فيه وحضرت الصلاة
(فقال):
(مروا أبا بكر فليصلّ بالناس) فقالت: إن ولأبي ذر (فقالت
عائشة: إن أبا بكر رجل كذا) زاد أبو ذر يعني رجل أسيف
(فقال) عليه الصلاة والسلام (مثله): مروا أبا بكر فليصل
بالناس (فقالت مثله) أي رجل أسيف (فقال: مروه) ولأبي ذر:
مروا أبا بكر أي فليصل بالناس (فإنكن صواحب يوسف) عبّر
بالجمع في إنكن، والمراد عائشة، وفي قوله: صواحب والمراد
زليخا (فأمّ أبو بكر) بالناس (في حياة رسول الله) ولأبي ذر
في حياة النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فقال
بالفاء ولأبي ذر: (وقال حسين) هو ابن عليّ الجعفي: (عن
زائدة) بن قدامة (رجل رقيق) وهذا وصله المؤلّف في الصلاة.
3386 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: اللَّهُمَّ أَنْجِ
عَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ، اللَّهُمَّ أَنْجِ
سَلَمَةَ بْنَ هِشَامٍ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْوَلِيدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، اللَّهُمَّ أَنْجِ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الْمُؤْمِنِينَ. اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى
مُضَرَ، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عن عبد
الله بن ذكوان (عن الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن أبي
هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-): يدعو لرجال من المسلمين
يسميهم بأسمائهم فيقول:
(اللهم أنج) بهمزة قطع (عياش بن أبي ربيعة) أخا أبي جهل بن
هشام لأمه (اللهم أنج سلمة بن هشام) بفتح اللام وهو أخو
أبي جهل (اللهم أنج الوليد بن الوليد) المخزومي أخا خالد
بن الوليد وسقط ابن الوليد لأبي ذر (اللهم أنج المستضعفين
من المؤمنين) من عطف العام على الخاص (اللهم اشدد) بهمزة
وصل (وطأتك) بفتح الواو وسكون المهملة وفتح الهمزة أي بأسك
وعقوبتك (على) كفار قريش أولاد (مضر) بن نزار بن معدّ بن
عدنان (اللهم اجعلها) أي الموطأة أو الأيام أو السنين
(سنين كسني يوسف) الصدّيق في القحط وسقطت نون سنين للإضافة
جريًا على اللغة العالية فيه وهي إجراؤه مجرى جمع المذكر
السالم لكنه شاذ لأنه غير عاقل، والمراد من هذا الحديث
قوله: كسني يوسف، ومرّ في باب يهوي بالتكبير حين يسجد من
كتاب الصلاة.
3387 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَسْمَاءَ ابْنِ أَخِي جُوَيْرِيَةَ حَدَّثَنَا
جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ مَالِكٍ عَنِ
الزُّهْرِيِّ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ وَأَبَا
عُبَيْدٍ أَخْبَرَاهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله
عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَرْحَمُ اللَّهُ لُوطًا، لَقَدْ
كَانَ يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ فِي
السِّجْنِ مَا لَبِثَ يُوسُفُ ثُمَّ أَتَانِي الدَّاعِي
لأَجَبْتُهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد بن أسماء ابن أخي
جويرية) بضم الجيم مصغرًا ولأبي ذر هو ابن أخي جويرية قال:
(حدّثنا جويرة بن أسماء) الضبعي (عن مالك) الإمام (عن
الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (أن سعيد بن المسيب وأبا
عبيد) بضم العين مصغرًا سعد بن عبيد مولى عبد الرحمن بن
الأزهر (أخبراه عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(يرحم الله لوطًا) بن هاران بن آزر ابن أخي إبراهيم الخليل
(لقد كان يأوي إلى ركن شديد) أشار إلى قوله تعالى: {قال لو
أن لي بكم قوّة أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80] قال الطيبي
وهذا تمهيد ومقدمة للخطاب المزعج كما في قوله تعالى: {عفا
الله عنك لم أذنت لهم} [التوبة: 43] وقال البيضاوي:
استعظام لما قاله واستغراب لما بدر منه حيثما أجهده قومه
فقال: {أو آوي إلى ركن شديد} [هود: 80] إذ لا ركن أشد من
الركن الذي كان يأوي إليه وهو عصمة الله تعالى وحفظه. (ولو
لبثت في السجن ما لبث يوسف ثم أتاني الداعي لأجبته). يريد
به قوله تعالى: {فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك
فاسأله} [يوسف: 50] قال التوربشتي وهو
(5/370)
منبئ عن إحماده صبر يوسف وتركه الاستعجال
بالخروج عن السجن مع امتداد مدة الحبس عليه.
وروى ابن حبان عن أبي هريرة مرفوعًا: "رحم الله يوسف لولا
الكلمة التي قالها: {اذكرني عند ربك ما لبث في السجن}
[يوسف: 43] ".
3388 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلاَمٍ أَخْبَرَنَا
ابْنُ فُضَيْلٍ حَدَّثَنَا حُصَيْنٌ عَنْ شَقِيقٍ عَنْ
مَسْرُوقٍ قَالَ: "سَأَلْتُ أُمَّ رُومَانَ وَهْيَ أُمُّ
عَائِشَةَ لمَّا قِيلَ فِيهَا مَا قِيلَ قَالَتْ:
بَيْنَمَا أَنَا مَعَ عَائِشَةَ جَالِسَتَانِ، إِذْ
وَلَجَتْ عَلَيْنَا امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ وَهْيَ
تَقُولُ: فَعَلَ اللَّهُ بِفُلاَنٍ وَفَعَلَ. قَالَتْ:
فَقُلْتُ: لِمَ؟ قَالَتْ:
إِنَّهُ نَمَا ذِكْرَ الْحَدِيثِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ:
أَيُّ حَدِيثٍ؟ فَأَخْبَرَتْهَا. قَالَتْ: فَسَمِعَهُ
أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا
عَلَيْهَا، فَمَا أَفَاقَتْ إِلاَّ وَعَلَيْهَا حُمَّى
بِنَافِضٍ. فَجَاءَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَقَالَ: مَا لِهَذِهِ؟ قُلْتُ: حُمَّى
أَخَذَتْهَا مِنْ أَجْلِ حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ.
فَقَعَدَتْ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ لَئِنْ حَلَفْتُ لاَ
تُصَدِّقُونِي، وَلَئِنِ اعْتَذَرْتُ لاَ تَعْذِرُونِي،
فَمَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَمَثَلِ يَعْقُوبَ وَبَنِيهِ،
{وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
فَانْصَرَفَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ مَا أَنْزَلَ،
فَأَخْبَرَهَا فَقَالَتْ: بِحَمْدِ اللَّهِ لاَ بِحَمْدِ
أَحَدٍ". [الحديث 3388 - أطرافه في: 4143، 4691، 4751].
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سلام) البيكندي قال: (أخبرنا ابن
فضيل) محمد وجده غزوان الكوفي قال: (حدّثنا حصين) بضم
الحاء وفتح الصاد المهملتين مصغرًا ابن عبد الرحمن (عن
شقيق) أبي وائل هو ابن سلمة وفي الفرع وأصله عن سفيان (عن
مسروق) هو ابن الأجدع أنه (قال: سألت أم رومان) بضم الراء
بنت عامر (وهي أم عائشة) أم المؤمنين -رضي الله عنهما-،
وقد قيل إن مسروقًا لم يسمع من أم رومان لتقدم وفاتها
فيكون حديثه منقطعًا، وقال أبو نعيم: بقيت بعد النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دهرًا طويلاً.
وحينئذٍ فالحديث متصل وهو الراجح. وقول عليّ بن زيد بن
جدعان الراوي أن وفاة أم رومان سنة ست ضعيف لا يحتج به،
وقول الخطيب الصواب أن يقرأ سئلت أم رومان مبنيًّا للمفعول
مردود بقول مسروق في المغازي حدّثتني أم رومان (عما) ولأبي
ذر عن الكشميهني لما (قيل فيها) أي في عائشة (ما قيل) من
الإفك (قالت: بينما) بالميم (أنا مع عائشة جالستان إذ
ولجت) أي دخلت (علينا امرأة من الأنصار) لم تسم (وهي تقول:
فعل الله بفلان) مسطح بن أثاثة (وفعل. قالت) أم رومان:
(فقلت) للأنصارية (لم)؟ تقولين فعل الله بفلان وفعل (قالت
إنه نمى ذكر الحديث) أي حديث الإفك ونمى بتخفيف الميم في
الفرع ونسبه في المطالع لأبي ذر: وقال الحربي وغيره مشدد
وأكثر المحدّثنين يخففونه يقال نميت الحديث أنمية إذا
بلغته على وجه الإصلاح وطلب الخير فإذا بلغته على وجه
الإفساد والنميمة قلت نميته بالتشديد. (فقالت عائشة: أيّ
حديث)؟ نماه قالت أم رومان (فأخبرتها) بقول أهل الإفك
(قالت: فسمعه أبو بكر ورسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قالت) أم رومان: (نعم). سمعاه (فخرّت) عائشة
(مغشيًا عليها فما أفاقت إلا وعليها حمى بنافض)، أي ملتبسة
بارتعاد (فجاء النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال):
(ما لهذه)؟ يعني عائشة قالت أم رومان (قلت: حمى أخذتها من
أجل حديث تحدث) بضم الفوقية والحاء المهملة مبنيًّا
للمفعول (به) عنها (فقعدت) عائشة (فقالت: والله لئن حلفت)
لكم إني لم أفعل ما قيل (لا تصدقوني) ولأبي ذر لا تصدقونني
(ولئن اعتذرت لا تعذروني) ولأبي ذر لا تعذرونني (فمثلي
ومثلكم) أي صفتي وصفتكم (كمثل يعقوب وبنيه) حيث صبر صبرًا
جميلاً وقال: (والله المستعان على ما تصفون) أي على احتمال
ما تصفونه، (فانصرف النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فأنزل الله) عز وجل (ما أنزل) في براءتها
(فأخبرها) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بذلك
(فقالت: بحمد الله لا بحمد أحد) قال بعض أصحاب عبد الله بن
المبارك له: أنا أستعظم هذا القول. فقال: ولت الحمد أهله
ذكره فى
المصابيح، ولعلها تمسكت بظاهر قوله عليه الصلاة والسلام
لها: "احمدي الله" كما في الرواية الأخرى ففهمت منه أنه
أمرها بإفراد الله بالحمد.
3389 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ:
"أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ -رضي الله
عنها- زَوْجَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: أَرَأَيْتِ قَوْلِ اللهِ: {حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِّبُوا} أَوْ كُذِبُوا؟ قَالَتْ: بَلْ كَذَّبَهُمْ
قَوْمُهُمْ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا
أَنَّ قَوْمَهُمْ كَذَّبُوهُمْ وَمَا هُوَ بِالظَّنِّ.
فَقَالَتْ: يَا عُرَيَّةُ، لَقَدِ اسْتَيْقَنُوا بِذَلِكَ.
قُلْتُ: فَلَعَلَّهَا "أَوْ كُذِبُوا". قَالَتْ: مَعَاذَ
اللَّهِ، لَمْ تَكُنِ الرُّسُلُ تَظُنُّ ذَلِكَ
بِرَبِّهَا، وَأَمَّا هَذِهِ الآيَةُ قَالَتْ: هُمْ
أَتْبَاعُ الرُّسُلِ الَّذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ
وَصَدَّقُوهُمْ وَطَالَ عَلَيْهِمُ الْبَلاَءُ
وَاسْتَأْخَرَ عَنْهُمُ النَّصْرُ، حَتَّى إِذَا
اسْتَيْأَسَتْ مِمَّنْ كَذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ
وَظَنُّوا أَنَّ أَتْبَاعَهُمْ كَذَّبُوهُمْ جَاءَهُمْ
نَصْرُ اللَّهِ". قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ:
{اسْتَيْأَسُوا} اسْتَفْعَلُوا مِنْ يَئِسْتُ، {مِنْهُ}
مِنْ يُوسُفَ {لاَ تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ}
مَعْنَاهُ مِنَ الرَّجَاءُ. [الحديث 3389 - أطرافه في:
4525، 4695، 4696].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير قال: (حدّثنا الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم
العين وفتح القاف ابن خالد (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (عروة) بن الزبير (أنه
سأل عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) فقال لها (أرأيت قوله) تعالى أي
أخبريني عن قوله ولأبي ذر قول الله ({حتى إذا استيأس الرسل
وظنوا أنهم قد كذبوا}) [يوسف: 110] بالتشديد (أو كذبوا)
بالتخفيف (قالت): عائشة ليس الظن على بابه كما فهمت (بل
كذبهم قومهم)، بالتشديد فهو بمعنى اليقين وهو سائغ كما في
قوله تعالى: {وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه} [التوبة:
118] وقال عروة: (فقلت) لها: (والله لقد استيقنوا أن قومهم
كذبوهم) وفي نسخة الصغاني قد كذبوهم (وما هو بالظن: فقالت)
عائشة رادّة عليه: (يا عرية) بضم العين وفتح الراء المهملة
وتشديد المثناة التحتية تصغير عروة وأصله يا عريوة اجتمعت
الياء والواو وسبق الأول
(5/371)
بالسكون فقلبوا الواو ياء وأدغموا الأول في
الثاني وليس التصغير هنا للتحقير (لقد استيقنوا بذلك. قلت:
فلعلها أو كذبوا قالت: معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك) أي
إخلاف الوعد (بربها، وأما هذه الآية قالت) فالمراد من
الظانين فيها (هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم)
أي وصدّقوا الرسل (وطال عليهم البلاء واستأخر عنهم النصر،
حتى إذا استيأست) أي الرسل (ممن كذبهم من قومهم وظنوا أن
أتباعهم كذبوهم وجاءهم نصر الله). وظاهر هذا أن عائشة
أنكرت قراءة التخفيف بناء على أن الضمير للرسل ولعلها لم
تبلغها، فقد ثبتت في قراءة الكوفيين ووجهت بأن الضمير في
وظنوا عائد على المرسل إليهم لتقدمهم في قوله تعالى: {كيف
عاقبة الذين من قبلهم} [فاطر: 44] ولأن الرسل تستدعي
مرسلاً إليه أي وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوهم
بالدعوة والوعيد، وقيل الأول للمرسل
إليهم، والثاني للرسل أي وظنوا أن الرسل قد كذبوا وأخلفوا
فيما وعد لهم من النصر وخلط الأمر عليهم.
قال في الأنوار كالكشاف: وما روي عن ابن عباس -رضي الله
عنهما- أن الرسل ظنوا أنهم أخلفوا ما وعدهم من النصر إن صح
فقد أراد بالظن ما يهجس في القلب على طريق الوسوسة اهـ.
وهذا فيه شيء فإنه لا يجوز أن يقال أراد بالظن ما يهجس في
القلب على طريق الوسوسة فإن الوسوسة من الشيطان وهم
معصومون منه.
وهذا الحديث يأتي إن شاء الله تعالى في التفسير.
(قال أبو عبد الله): البخاري (استيأسوا) وزنه (افتعلوا من
يئست) وللأصيلي استفعلوا بالسين والتاء الفوقية وهو الصواب
واستفعل هنا بمعنى فعل المجرد يقال يئس واستيأس بمعنى نحو
عجب واستعجب وسخر واستسخر والسين والتاء زيدتا للمبالغة
(منه) أي (من يوسف) وعند ابن أبي حاتم من طريق ابن إسحاق
فلما استيأسوا أي لما حصل لهم اليأس من يوسف اهـ. أي أيسوا
منه أن يجيبهم إلى ما سألوا. وقال أبو عبيدة: استيأسوا
استيقنوا أن الأخ لا يرد إليهم (لا تيأسوا من روح الله
معناه الرجاء) ولأبي ذر: من الرجاء. وقال ابن عباس من رحمة
الله، وعن قتادة فضل الله، وقرئ من روح الله بضم الراء.
قال ابن عطية: كأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حيّ معه
روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى ومن هذا قول
الشاعر:
وفي غير من قد وارت الأرض فاطمع
وقرأ عبد الله من فضل الله وأبي: من رحمة الله تفسيرًا لا
تلاوة. قال ابن عباس: إن المؤمن من الله على خير يرجوه في
البلاء ويحمده في الرخاء.
3390 - أَخْبَرَنِي عَبْدَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ
عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
-رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الْكَرِيمُ ابْنُ الْكَرِيمِ
ابْنِ الْكَرِيمِ ابْنِ الْكَرِيمِ يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ
بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِمِ السَّلاَمُ».
وبه قال: (أخبرني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (عبدة) بفتح
العين وسكون الموحدة ابن عبد الله أبو سهل الصفار الخزاعي
البصري قال: (حدّثنا عبد الصمد) بن عبد الوارث البصري (عن
عبد الرحمن عن أبيه) عبد الله بن دينار (عن ابن عمر -رضي
الله عنهما- أن النبي) وفي اليونينية عن النبي (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف) الصديق
(بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم) الخليل نبي ابن نبيّ ابن
نبي ابن نبيّ (عليهم السلام). وهذا الحديث قد مرّ في باب
{أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت} [البقرة: 133].
20 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَأَيُّوبَ إِذْ
نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}. {ارْكُضْ}: اضْرِبْ.
{يَرْكُضُونَ}: يَعْدُونَ
(باب قول الله تعالى: {وأيوب}) أي: واذكر أيوب ({إذ نادى
ربه أني}) أي بأني ({مسني الضرّ}) المرض في بدني ({وأنت
أرحم الراحمين}) [الأنبياء: 83] ألطف في السؤال حيث ذكر
نفسه بما يوجب الرحمة وذكر ربه بغاية الرحمة، واكتفى بذلك
عن غرض الطلب وكان روميًّا من ولد عيص بن إسحاق استنبأه
الله وكثر أهله وماله فابتلاه الله بهلاك أولاده بهدم بيت
عليهم وذهاب أمواله والمرض في بدنه، فخرج من قرنه إلى قدمه
ثآليل مثل أليات الغنم في سائر بدنه ولم يبق منه سليم سوى
قلبه ولسانه يذكر بهما الله عز وجل ووقعت فيه حكة لا
يملكها فكان يحك بأظفاره حتى سقطت كلها ثم حك بالمسوح
الخشنة حتى قطعها ثم بالفخار والحجارة الخشنة حتى تقطع
لحمه وتساقط حتى لم يبق إلا العظام والعصب وتغير وأنتن
فأخرجه أهل القرية وجعلوه على كناسة ورفضه الناس كلهم
(5/372)
إلا امرأته رحمة بنت إفراثيم بن يوسف فكانت
تصلح أموره وتختلف إليه بما يصلحه وهو في كل ذلك صابر يحمد
الله ويحسن الثناء عليه ولذا كان عبرة للصابرين وذكرى
للعابدين ومكث في ذلك ثماني عشرة أو ثلاث عشرة سنة أو
سبعًا وسبعة أشهر وسبع ساعات ويروى أن امرأته قالت له
يومًا لو دعوت الله فقال كم كانت مدّة الرخاء فقالت ثمانين
سنة فقال أستحيي من الله أن أدعوه وما بلغت مدّة بلائي
رخائي وسقط لأبي ذر قوله إني مسني الضر الخ وقال بعد قوله:
{إذ نادى ربه} [ص: 41] الآية. ({اركض}) [ص: 42] أي (اضرب)
برجلك الأرض فضربها فنبعت عين فاغتسل منها فرجع صحيحًا
({يركضون}) [الأنبياء: 12] أي (يعدون) بفتح الياء وسكون
العين المهملة.
3391 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله
عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «بَيْنَمَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا خَرَّ
عَلَيْهِ رِجْلُ جَرَادٍ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَحْثِي
فِي ثَوْبِهِ فَنَادَى رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ
أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى يَا
رَبِّ، وَلَكِنْ لاَ غِنَى لِي عَنْ بَرَكَتِكَ».
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الله
بن محمد الجعفي) المسندي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام
قال: (أخبرنا معمر) بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة
ابن راشد (عن همام) بفتح الهاء وتشديد الميم الأولى ابن
منبه الصنعاني (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(بينما) بالميم (أيوب يغتسل) حال كونه (عريانًا خر) سقط
(عليه رجل جراد) بكسر الراء وسكون الجيم أي جماعة من جراد
(من ذهب فجعل) أي أيوب (يحثي) بحاء مهملة ساكنة فمثلثة
مكسورة يأخذ بيديه جميعًا ويرمي (في ثوبه) من ذلك الجراد
(فنادى) ولأبي ذر والأصيلي: فناداه
(ربه) عز وجل (يا أيوب) يحتمل أن يكون كلمه كموسى أو
بواسطة الملك (ألم أكن أغنيتك عما ترى): من الجراد (قال:
بلى يا رب) أغنيتني (ولكن لا غنى لي) بكسر الغين المعجمة
والقصر من غير تنوين على أن لا لنفي الجنس، ولي باللام،
ولأبي ذر: لا غنى بي (عن بركتك) عن خيرك.
وعند ابن أبي حاتم من وجه آخر عن أبي هريرة عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: "لما عافى الله
أيوب أمطر عليه جرادًا من ذهب فجعل يأخذ بيديه ويجعله في
ثوبه. قال: فقيل له: يا أيوب أما تشبع؟ قال: يا رب ومن
يشبع من رحمتك".
وحديث الباب سبق في باب من اغتسل عريانًا من كتاب الطهارة.
21 - باب {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ
مُخْلِصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا * وَنَادَيْنَاهُ
مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ
نَجِيًّا} [مريم: 51] كَلَّمَهُ. {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ
رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} يُقَالُ
لِلْوَاحِدِ وَلِلاِثْنَيْنِ وَالْجَمِيعِ: نَجِيٌّ.
وَيُقَالُ: خَلَصُوا نَجِيًّا اعْتَزَلُوا نَجِيًّا،
وَالْجَمِيعُ أَنْجِيَةٌ يَتَنَاجَوْنَ. {وَقَالَ رَجُلٌ
مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكتُمُ إيمانَه} -إِلَى
قَوْلِهِ- {مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28]
هذا (باب) بالتنوين (قول الله) تعالى سقط لفظ باب لأبي ذر
وثبت له ما بعده ({واذكر في الكتاب}) القرآن ({موسى}) هو
ابن عمران بن لاهب بن عازر بن لاوي بن يعقوب ({إنه كان
مخلصًا}) موحدًّا أخلص في عبادته من الشرك والرياء. قال
الثوري: عن عبد العزيز بن رفيع عن أبي أمامة قال
الحواريون: يا روح الله أخبرنا عن المخلص لله. قال: الذي
يعمل لله لا يحب أن يحمده الناس ({وكان رسولاً نبيًّا})
أرسله الله تعالى إلى قومه فأنبأهم عنه ({وناديناه من جانب
الطور الأيمن}) صفة قيل للطور وقيل للجانب وقيل لموسى أي
من ناحية موسى، والطور: جبل بين مصر ومدين ({وقربناه})
تقريب تشريف ({نجيًّا}) مناجيًا حال من أحد الضميرين، وهو
معنى قوله (كلمه). وعند ابن جرير عن ابن عباس وقربناه
نجيًّا قال: أدني حتى سمع صريف القلم اهـ.
وصريف القلم: صوت جريانه بما يكتبه من أقضية الله ووحيه
وما ينسخه من اللوح المحفوظ. وقال ابن كثير: صريف القلم
بكتابة التوراة. وقال السدي (وقربناه نجيًّا) قال: أدخل في
السماء فكلم.
({ووهبنا له من رحمتنا}) من أجل سبق رحمتنا وتقدير تخصيصه
بالمواهب الدينية والدنيوية ({أخاه}) أي مؤازرته إجابة
لدعوته حيث قال: واجعل لي وزيرًا من أهلي فإنه كان أسنّ من
موسى، فمن ابتدائية أو المعنى ووهبنا له بعض رحمتنا. قال
في فتوح الغيب: وهو الوجه لما فيه من التنبيه على سعة رحمة
الله تعالى فإن الأنبياء مع جلالتهم ورِفعَة منزلتهم منحوا
بعضًا منها وأخاه
مفعول أو بدل بعض من كل لأن موازرته بأخيه بعض المذكورات
({هارون}) عطف بيان له ({نبيًّا}) [مريم: 51 - 52 - 53]
حال منه (يقال للواحد والاثنين) وسقط قوله وكان رسولاً إلى
آخر قوله نبيًا إلا قوله كلمه لأبي ذر وقال بعد قوله
مخلصًا إلى قوله نبيًّا وزاد المستملي بعد هذا كلمة يعني
نجيًّا يقال للواحد والاثنين (والجميع) وزار الكشميهني بعد
قوله يقال للواحد والاثنين والجميع نجي، (ويقال
(5/373)
خلصوا نجيًّا) أي (اعتزلوا نجيًّا)، سقط
لفظ نجيًّا لأبي ذر (والجميع أنجية) يريد أن النجي إذا
أريد به المفرد فقط يكون جمعه أنجية (يتناجون تلقف) في
سورة الأعراف. قال أبو عبيدة. أي (تلقم) بفتح التاء واللام
والقاف المشددة.
هذا (باب) بالتنوين ({وقال رجل مؤمن من آل فرعون}) من
أقاربه قبطي اسمه شمعان بالشين المعجمة ({يكتم إيمانه})
إلى ({من هو مسرف}) في شركه وعصيانه ({كذاب}) [غافر: 28]
على الله وفيه إشارة إلى الرمز والتعريض بعلوّ شأن موسى
يعني أن الله تعالى هدى موسى إلى الإتيان بالمعجزات
الباهرات، ومن هداه لذلك لا يكون مسرفًا كذابًا، فدلّ على
أن موسى ليس من الكاذبين، أو المراد أن فرعون مسرف في عزمه
على قتل موسى كذاب في ادّعائه الألوهية والله لا يهدي مَن
هذا شأنه بل يبطله ويهدم أمره، ولغير أبي ذر بعد قوله {من
آل فرعون} إلى قوله (مسرف كذاب). وسقط لأبي ذر لفظ باب إلى
آخر قوله (كذاب) فلعل له روايتين.
3392 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ قَالَ: حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
سَمِعْتُ عُرْوَةَ قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ - رضي الله
عنها-: "فَرَجَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إِلَى خَدِيجَةَ يَرْجُفُ فُؤَادُهُ،
فَانْطَلَقَتْ بِهِ إِلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ -وَكَانَ
رَجُلاً تَنَصَّرَ، يَقْرَأُ الإِنْجِيلَ
بِالْعَرَبِيَّةِ- فَقَالَ وَرَقَةُ -مَاذَا تَرَى؟
فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ
الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى، وَإِنْ
أَدْرَكَنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا".
النَّامُوسُ: صَاحِبُ السِّرِّ الَّذِي يُطْلِعُهُ بِمَا
يَسْتُرُهُ عَنْ غَيْرِهِ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام (قال: حدّثثي) بالإفراد (عقيل) بضم
العين ابن خالد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري أنه قال:
(سمعت عروة) بن الزبير بن العوّام (قال: قالت عائشة -رضي
الله عنها- فرجع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) من غار حراء بعد ما جاءه جبريل بالوحي (إلى
خديجة) أم المؤمنين حال كونه (يرجف) يضطرب (فؤاده) قلبه
(فانطلقت به) عليه السلام خديجة مصاحبة له بعدما أخبرها
الخبر وقوله لها: "لقد خشيت على نفسي" وقولها له: كلا
والله ما يخزيك الله أبدًا (إلى ورقة بن نوفل وكان رجلاً
تنصّر) في الجاهلية بعد أن ترك عبادة الأوثان وكان (يقرأ
الإنجيل) كتاب عيسى (بالعربية) فقالت له خديجة: يا ابن عم
اسمع من ابن أخيك تعني النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فقال ورقة) للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: يا ابن أخي (ماذا ترى؟
فأخبره) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خبر ما رأى
(فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل الله) عز وجل (على موسى
وان أدركني يومك أنصرك) بالجزم جواب الشرط (نصرًا مؤزرًا).
بضم الميم وفتح الهمزة وتشديد الزاي بعدها راء قويًا
بليغًا وخص بالذكر دون عيسى مع كونه نصرانيًّا، لأن كتاب
موسى مشتمل على أكثر الأحوال كالقرآن بخلاف كتاب عيسى إذ
كله أمثال ومواعظ أو لغير ذلك مما سبق أول هذا المجموع.
وهذا موضع الترجمة على ما لا يخفى.
(الناموس: صاحب السر) أي سر الرجل (الذي يطلعه) على باطن
أمره ويخصه (بما يستره عن غيره). أو صاحب سر الخير. وقال
ابن دريد: صاحب سر الوحي وأهل الكتاب يسمون جبريل الناموس
الأكبر.
22 - باب قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهَلْ أَتَاكَ
حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا} -إِلَى قَوْلِهِ-
{بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 9 - 12].
{آنَسْتُ}: أَبْصَرْتُ. {نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا
بِقَبَسٍ} [طه: 10] الآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
{الْمُقَدَّسُ}: الْمُبَارَكُ. {طُوًى}: اسْمُ الْوَادِي.
{سِيرَتَهَا}: حَالَتَهَا. {وَالنُّهَى}: التُّقَى.
{بِمَلْكِنَا}: بِأَمْرِنَا. {هَوَى}: شَقِيَ. {فَارِغًا}:
إِلاَّ مِنْ ذِكْرِ مُوسَى. {رِدْءًا}: كَىْ يُصَدِّقَنِي،
وَيُقَالُ: مُغِيثًا، أَوْ مُعِينًا. {يَبْطُشُ
وَيَبْطِشُ}. {يَأْتَمِرُونَ}: يَتَشَاوَرُونَ.
وَالْجِذْوَةُ: قِطْعَةٌ غَلِيظَةٌ مِنَ الْخَشَبِ لَيْسَ
فِيهَا لَهَبٌ. {سَنَشُدُّ}: سَنُعِينُكَ، كُلَّمَا
عَزَّزْتَ شَيْئًا فَقَدْ جَعَلْتَ لَهُ عَضُدًا. وَقَالَ
غَيْرُهُ: كُلَّمَا لَمْ يَنْطِقْ بِحَرْفٍ، أَوْ فِيهِ
تَمْتَمَةٌ أَوْ فَأْفَأَةٌ فَهْيَ: {عُقْدَةٌ}.
{أَزْرِي}: ظَهْرِي. {فَيُسْحِتَكُمْ}: فَيُهْلِكَكُمْ.
{الْمُثْلَى}: تَأْنِيثُ الأَمْثَلِ، يَقُولُ:
بِدِينِكُمْ، يُقَالُ: خُذِ الْمُثْلَى خُذِ الأَمْثَلَ.
{ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} يُقَالُ: هَلْ أَتَيْتَ الصَّفَّ
الْيَوْمَ؟ يَعْنِي الْمُصَلَّى الَّذِي يُصَلَّى فِيهِ.
{فَأَوْجَسَ}: أَضْمَرَ خَوْفًا، فَذَهَبَتِ الْوَاوُ مِنْ
{خِيفَةً} لِكَسْرَةِ الْخَاءِ. {فِي جُذُوعِ النَّخْلِ}:
عَلَى جُذُوعِ. {خَطْبُكَ}: بَالُكَ. {مِسَاسَ}: مَصْدَرُ
مَاسَّهُ مِسَاسًا. {لَنَنْسِفَنَّهُ}: لَنُذْرِيَنَّهُ.
{الضَّحَاءُ}: الْحَرُّ. {قُصِّيهِ}: اتَّبِعِي أَثَرَهُ،
وَقَدْ يَكُونُ أَنْ نَقُصَّ الْكَلاَمَ {نَحْنُ نَقُصُّ
عَلَيْكَ}: {عَنْ جُنُبٍ}: عَنْ بُعْدٍ، وَعَنْ جَنَابَةٍ
وَعَنِ اجْتِنَابٍ وَاحِدٌ. قَالَ مُجَاهِدٌ: {عَلَى
قَدَرٍ}: مَوْعِدٌ {لاَ تَنِيَا}: لاَ تَضْعُفَا:
{يَبَسًا}: يَابِسًا. {مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ}:
الْحُلِيِّ الَّذِي اسْتَعَارُوا مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ.
{فَقَذَفْتُهَا}: أَلْقَيْتُهَا. {أَلْقَى}: صَنَعَ.
{فَنَسِيَ مُوسَى}: هُمْ يَقُولُونَهُ أَخْطَأَ الرَّبَّ
أَنْ لاَ يَرْجِعَ إِلَيْهِمْ قَوْلاً فِي الْعِجْلِ.
(باب قول الله عز وجل: {وهل أتاك}) أي وقد أتاك ({حديث
موسى إذ}) أي حين ({رأى نارًا}) إلى قوله: ({بالوادي
المقدس طوى}) [طه: 12] ({آنست}) [طه: 10] أي (أبصرت {نارًا
لعلّي آتيكم منها بقبس}) [طه: 10] (الآية) بشعلة من النار
أو بجمرة.
(قال ابن عباس {المقدس}) أي: (المبارك. {طوى}: اسم الوادي)
ونوّنه ابن عامر والكوفيون بتأويل المكان. وعن ابن عباس
أيضًا عند الطبري سمي طوى لأن موسى طواه ليلاً، وروي أنه
استأذن شعيبًا عليهما السلام في الخروج إلى أمه وخرج بأهله
فلما وافى وادي طوى ولد له ابن في ليلة شاتية مظلمة مثلجة
وقد أضل الطريق وتفرقت ماشيته إذ رأى من جانب الطور نارًا.
القصة إلى آخرها.
({سيرتها}) [طه: 21] في قوله تعالى: {سنعيدها سيرتها} أي
(حالتها) الأولى وهي فعلة من السير تجوّز بها للطريقة
والحالة. ({والنهى}) في قوله تعالى: {إن في ذلك لآيات
لأولي النهى} [طه: 54] أي (التقى) والنهى جمع نهية.
({بملكنا}) في قوله تعالى: {ما أخلفنا موعدك بملكنا} [طه:
87] أي (بأمرنا) وفتح نافع وعاصم ميم ملكنا وضمها حمزة
والكسائي.
({هوى}) في قوله تعالى: {ومن يحلل عليه غضبي فقد هوى} [طه:
81] أي (شقي) وقيل: تردى، وقيل: هلك، وقيل: وقع في الهاوية
وكلها سبب الشقاء ({فارغًا}) [القصص: 10] في قوله عز وجل:
{وأصبح فؤاد أم موسى فارغًا} أي من كل شيء من أمر الدنيا
(إلا من ذكر موسى) فلم يخل قلبها منه. ({ردءًا}) [القصص:
34] في
(5/374)
قوله تعالى: {فأرسله معي ردءًا} أي معينًا
(كي يصدقني) فرعون بأن يلخص بلسانه الفصيح وجوه الدلائل
ويجيب عن الشبهات ويجادل به الكفار، وليس المراد أن يقول
هارون له صدقت. وقال السدي: التقدير كما يصدقني. (ويقال):
في تفسير ردءًا (مغيثًا) بالغين المعجمة والمثلثة من
الإغاثة (أو معينًا) بالعين المهملة والنون من الإعانة
({يبطش ويبطش}) بضم الطاء وكسرها لغتان في قوله تعالى:
{فلما أن أراد أن يبطش} [القصص: 19] لكن الكسر هو قراءة
الجمهور ({يأتمرون}) في قوله تعالى: {إن الملأ يأتمرون}
[القصص: 20] أي (يتشاورون) وإنما سمي التشاور ائتمارًا لأن
كلاًّ من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر. (والجذوة) في قوله
تعالى: {أو جذوة من النار} [القصص: 29] هي (قطعة غليظة من
الخشب ليس لها) كذا في الفرع والذي في أصله فيها (لهب).
قال ابن مقبل:
باتت حواطب ليلى يلتمسن لها ... جزل الجذا غير خوار ولا
دعر
الخوار: الذي يتقصف، والدعر: الذي فيه لهب، وقيل الذي في
رأسه نار. قال في اللباب وهو المشهور. قال السلمي:
حمى حب هذي النار حب خليلتي ... وحب الغواني فهو دون
الحباحب
وبدّلت بعد المسك والبان شقوة ... دخان الجذا في رأس أشمط
شاحب
وقد ورد ما يقتضي وجود اللهب فيه قال:
وألقى على قيس من النار جذوة ... شديدًا عليها حميها
والتهابها
وقيل: الجذوة العود الغليظ سواء كان في رأسه نار أو لم
يكن، وليس المراد هنا إلا ما في رأسه نار.
({سنشد}) [القصص: 35] أي (سنعينك) ونقويك (كلما عززت
شيئًا) بعين مهملة وزايين معجمتين الأولى مشددة والأخرى
ساكنة (فقد جعلت له عضدًا) يعضده (وقال غيره): غير ابن
عباس (كلما لم ينطق بحرف، أو) نطق به و (فيه تمتمة)
بفوقيتين وميمين تردّد في النطق بالتاء المثناة الفوقية
(أو فأفأة) بالفاءين والهمزتين تردد في النطق بالفاء (فهي
{عقدة}) أشار به إلى قوله: {واحلل عقدة من لساني} [طه: 27]
{يفقهوا قولي} قال في الأنوار: فإنما يحسن التبليغ من
البليغ وكان في لسانه رنة من جمرة أدخلها فاه، وذلك أن
فرعون حمله يومًا فأخذ لحيته ونتفها فغضب وأمر بقتله فقالت
له آسية: إنه صبي لا يفرّق بين الجمر والياقوت فأحضرا بين
يديه فأخذ الجمرة ووضعها في فيه، واختلف في زوال العقدة
كلها فمن قال به تمسك بقوله تعالى: {قد أوتيت سؤلك يا
موسى} ومن لم يقل احتج بقوله تعالى: {هو أفصح مني لسانًا}
وقوله تعالى: {لا يكاد يبين} وأجاب عن الأول بأنه لم يسأل
حل عقدة لسانه مطلقًا بل عقدة تمنع الإفهام، ولذلك نكرها،
وجعل (يفقهوا) جواب الأمر، ومن لساني يحتمل أن يكون صفة
عقدة وأن يكون صلة احلل اهـ.
({أزري}) [طه: 31] في قوله: {أشدد به أزري} أي {ظهري} قاله
أبو عبيدة.
({فيسحتكم}) [طه: 61] بعذاب أي (فيهلككم) ويستأصلكم به
({المثلى}) [طه: 63] في قوله تعالى: {ويذهبا بطريقتكم
المثلى} (تأنيث الأمثل، يقول: بدينكم) المستقيم الذي أنتم
عليه. وقال ابن عباس: بسراة قومكم وأشرافهم، وقيل أهل
طريقتكم المثلى وهم بنو إسرائيل (يقال: خذ المثلى) منهما
للأُنثيين (خذ الأمثل) منهما إذا كان ذكرًا والمراد
بالمثلى الفضلى. ({ثم ائتوا صفًّا}) [طه: 64] قال أبو
عبيدة: أي صفوفًا قال وله معنى آخر (يقال: هل أتيت الصف
اليوم؟ يعني المصلّى الذي يصلّى فيه). بفتح اللام المشددة
فيهما أي ائتوا المكان الموعود، وقال غيره أي مصطفين لأنه
أهيب في صدور الرائين. قيل: كانوا سبعين ألفًا مع كلٍّ
منهم حبل وعصًا وأقبلوا عليه إقبالة واحدة ({فأوجس}) [طه:
6] في نفسه خيفة أي (أضمر) فيها (خوفًا) من مفاجأته على ما
هو مقتضى الجبلة البشرية أو خاف على الناس أن يفتتنوا
بسحرهم فلا يتبعوه (فذهبت الواو من {خيفة}) [طه: 67]
(لكسرة الخاء) فصارت ياء قاله أبو عبيدة
(5/375)
وعبارة الصرفيين أن يقال أصل خيفة خوفة
فقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها ({في جذوع
النخل}) [طه: 71] أي (على جذوع). النخل قال الرضي في هنا
وفي قول الشاعر:
بطل كأن ثيابه في سرحة
بمعنى على والأولى أنها بمعناها لتمكّن المصلوب في الجذع
كتمكّن المظروف في الظرف وهو أوّل من صلب.
({خطبك}) [طه: 95] في قوله: {قال فما خطبك يا سامري} أي ما
(بالك) وما شأنك {مساس} [طه: 97] في قوله: {فإن لك في
الحياة أن لا تقول لا مساس} (هو مصدر ماسه مساسًا).
والمعنى أن السامري عوقب على إضلاله بني إسرائيل باتخاذه
العجل والدعاء إلى عبادته في الدنيا بالنفي وبأن لا يمسّ
أحدًا ولا يمسّه أحد فإن مسّه أحد أصابتهما الحمى معًا
لوقتهما.
({لننسفنه}) [طه: 97] أي (لنذرينه) رمادًا بعد التحريق
بالنار. ({الضحاء}) بفتح الضاد المعجمة والمد في قوله
تعالى: {وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى} [طه: 119] هو (الحر)
وهذا في قصة آدم ذكره المؤلّف استطرادًا.
({قصيه}) في قوله تعالى: {وقالت لأخته قصيه} [القصص: 11]
أي (اتبعي أثره)، حتى تعلمي خبره (وقد يكون أن يقص الكلام)
أي أو أن معنى القص من قص الكلام كما في قوله تعالى: ({نحن
نقص عليك}) [يوسف: 3] والقاص هو الذي يتتبع الآثار ويأتي
بالخبر على وجهه ({عن جنب}) [القصص: 11] أي (عن بعد) وهو
صفة لمحذوف أي مكان بعيد (وعن جنابة وعن اجتناب واحد) في
المعنى وقال أبو عمرو بن العلاء أي عن شوق وهي لغة جذام
يقولون جنبت إليه أي اشتقت. (قال مجاهد) فيما وصله
الفريابي في قوله تعالى: ({على قدر}) [طه: 40] معناه
(موعد) أكلمك في وأستنبئك غير مستقدم وقته المعين ولا
مستأخر.
({لا تنيا}) [طه: 42] أي (لا تضعفا) وهذا وصله الفريابي عن
مجاهد أيضًا وعن ابن عباس لا تبطئًا وفي اليونينية وفرعها
لا تنيا وأسقط لا تضعفا وكتب بعد لا تنيا صح وزاد في بعض
النسخ بعد قوله لا تضعفا مكانًا سوى منصف بينهم بفتح الميم
وسكون النون وفتح الصاد وكسرها وفي أخرى منصف بتشديد الصاد
مفتوحة.
({يبسًا}) [طه: 77] في قوله تعالى. {فاضرب لهم طريقًا في
البحر يبسًا} أي (يابسًا) مصدر وصف به ({من زينة القوم})
[طه: 87] أي (الحلي الذي استعاروا من آل فرعون) حين هموا
بالخروج من مصر باسم العرس، وقيل استعاروا لعيد كان لهم ثم
لم يردوا عند الخروج مخافة أن يعلموا به.
({فقذفتها}) أي فقذفت بها أي (ألقيتها) أي في النار وفي
اليونينية فقذفتها ألقيتها فأسقط فقذفت بها وهي ثابتة في
فرعه.
({ألقى}) في قوله {ألقى السامري} أي (صنع) وصله الفريابي
أيضًا ({فنسي}) [طه: 88] أي ({موسى}) [طه: 88] (هم) أي
السامري وأتباعه (يقولونه) أي (أخطأ) موسى (الرب) الذي هو
العجل أن يطلبه هنا وذهب يطلبه عند الطور (أن لا يرجع
إليهم قولاً) أي (في العجل) أي أنه لا يرجع إليهم كلامًا
ولا يرد عليهم جوابًا.
وهذا التفسير من قوله: {لعلي آتيكم منها بقبس} [طه: 10]
إلى هنا. ثابت في رواية
المستملي والكشميهني، ومن قوله فذهبت الواو من خيفة إلى
آخره مكتوب ثابت في حاشية الفرع وأصله والأول في أصله ولم
يذكره جميع رواة البخاري هنا. نعم ذكروا بعضه في تفسير
سورة طه، وقول الكرماني في أثناء هذا التفسير، وذكر هذا في
هذا الكتاب العظيم الشأن اشتغال بما لا يعنيه فيه ما فيه
فقد نبه في الفتح على أن المصنف لمح بهذه التفاسير بما جرى
لموسى عليه السلام في خروجه إلى مدين، ثم في رجوعه لمصر،
ثم في أخباره مع فرعون، ثم في غرق فرعون، ثم في ذهابه
الطور، ثم في عبادة بني إسرائيل العجل قال: وكأنه لم يثبت
عنده في ذلك من المرفوعات ما هو على شرطه اهـ. فالله تعالى
يرحم البخاري ما أدق نظره.
3393 - حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا
هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدَّثَهُمْ عَنْ
لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ، حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ
الْخَامِسَةَ فَإِذَا هَارُونُ، قَالَ: هَذَا هَارُونُ
فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَرَدَّ ثُمَّ
قَالَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ وَالنَّبِيِّ
الصَّالِحِ".
تَابَعَهُ ثَابِتٌ وَعَبَّادُ بْنُ أَبِي عَلِيٍّ عَنْ
أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا هدبة بن خالد) بضم الهاء وسكون الدال
المهملة وفتح الموحدة القيسي من بني قيس بن ثوبان الأزدي
البصري قال: (حدّثنا همام) هو ابن يحيى بن دينار العوذي
بفتح العين المهملة وسكون الواو وكسر الذال المعجمة البصري
قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك عن مالك بن
صعصعة أن رسول الله) وفي نسخة مصحح عليها أن نبي الله
(-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدثهم عن ليلة)
(5/376)
بكسر التاء، وفي فرع اليونينية وأصلها ليلة
بالنصب والجر مصحح علوها وسفلها (أسري به) فذكر الحديث
الآتي بتمامه إن شاء الله تعالى في باب المعراج من السيرة
النبوية إلى أن قال:
23 - باب {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ
يَكْتِمُ إِيْمَانَهُ} -إِلَى قَوْلِهِ- {مُسْرِفٌ
كَذَّابٌ}
(حتى أتى السماء الخامسة فإذا هارون، قال): جبريل (هذا
هارون فسلم عليه فسلمت عليه، فردّ) عليَّ السلام (ثم قال:
مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح تابعه) أي تابع قتادة
(ثابت) البناني (وعباد بن أبي علي) بفتح العين وتشديد
الموحدة البصري في روايتهما (عن أنس عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
في ذكر هارون في السماء الخامسة لا في سائر الحديث بل ولا
في الإسناد، فإن رواية ثابت موصولة في مسلم من طريق حماد
بن سلمة عنه ليس فيها ذكر مالك بن صعصعة، وكذلك عباد لم
يذكر لأنس فيه شيخًا، ووقع هنا في نسخة باب بالتنوين
({وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه})؟ إلى قولها
({مسرف كذاب}) [غافر: 28] وهو ثابت في حاشية فرع اليونينية
وحاشية أصلها من غير حديث. قال في الفتح: ولعله أخلى
بياضًا في الأصل فوصل كنظائره. وقد سبق ذكر هذه الآية
قريبًا.
24 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَهَلْ أَتَاكَ
حَدِيثُ مُوسَى} {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}
(باب قول الله تعالى {وكلم الله موسى تكليمًا}) [النساء:
164] مصدر مؤكد رافع للمجاز. قال الفراء: العرب تسمي ما
يوصل إلى الإنسان كلامًا بأي طريق وصل، ولكن لا تحققه
بالمصدر فإذا حقق بالمصدر لم يكن إلا حقيقة الكلام، وقال
القرطبي: مصدر معناه التأكيد وهو يدل على بطلان قول من قال
خلق الله لنبيه كلامًا في شجرة فسمعه موسى بل هو الكلام
الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلمًا. وقال النحاس: أجمع
النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازًا
وزاد في نسخة وهو الذي في اليونينية لا في فرعها قبل وكلم
الله ({وهل أتاك حديث موسى}) [النازعات: 15] أي وقد أتاك
كما مرّ قريبًا.
3394 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَيْلَةَ أُسْرِيَ
بِهِ رَأَيْتُ مُوسَى وَإِذَا رَجُلٌ ضَرْبٌ رَجِلٌ
كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَرَأَيْتُ عِيسَى
فَإِذَا هُوَ رَجُلٌ رَبْعَةٌ أَحْمَرُ كَأَنَّمَا خَرَجَ
مِنْ دِيمَاسٍ، وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِ إِبْرَاهِيمَ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِ. ثُمَّ أُتِيتُ
بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ وَفِي الآخَرِ
خَمْرٌ فَقَالَ: اشْرَبْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَأَخَذْتُ
اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ: أَخَذْتَ الْفِطْرَةَ،
أَمَا إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ».
[الحديث 3394 - أطرافه في: 3437، 4709، 5576، 5603].
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن موسى) الفراء الرازي الصغير
قال: (أخبرنا هشام بن يوسف) الصنعاني قال: (أخبرنا معمر)
هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (عن سعيد بن
المسيب) بن حزن القرشي المخزومي أحد الأعلام الأثبات (عن
أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال رسول الله) ولأبي
ذر قال النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ليلة أسري بي) ولغير أبي ذر به بدل بي (رأيت موسى وإذا
رجل) ولأبي ذر: وإذا هو رجل (ضرب) بضاد معجمة مفتوحة فراء
ساكنة فموحدة نحيف خفيف اللحم (رجل) بفتح الراء وكسر الجيم
دهين الشعر مسترسله أو غير جعد (كأنه) في الطول (من رجال
شنوءة) بفتح الشين المعجمة وضم النون وبعد الواو الساكنة
همزة مفتوحة ثم هاء تأنيث حي من اليمن ينسبون إلى شنوءة
وهو عبد الله بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد
لقب بشنوءة لشنآن كان بينه وبين أهله، (ورأيت عيسى) ابن
مريم عليه السلام (فإذا هو رجل ربعة) بفتح الراء وسكون
الموحدة وقد تفتح أي المربوع ومراده أنه ليس بطويل جدًّا
ولا قصير جدًّا بل وسط (أحمر كأنما) وفي نسخة بالفرع كأصله
كأنه (خرج من ديماس) بكسر الدال المهملة وسكون التحتية
وبعد الميم ألف فسين مهملة، وزاد في باب واذكر في الكتاب
مريم من رواية عبد الرزاق عن معمر يعني الحمام. وقال في
القاموس: الديماس الكن والسرب والحمام وزاد غيره الحمام
بلغة الحبشة. وقيل: ولم يكن
لهم يومئذٍ ديماس والحمام من جملة الكن والمراد وصفه بصفاء
اللون ونضارة الجسم وكثرة ماء الوجه حتى كأنه كان في موضع
كن حتى خرج منه وهو عرقان (وأنا أشبه ولد إبراهيم) الخليل
زاد أبو ذر عن الكشميهني -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (به ثم أتيت) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول
(بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر) قبل تحريم الخمر
لأن الإسراء كان بمكة وتحريم الخمر كان بالمدينة (فقال)
جبريل: (اشرب أيهما) الخمر أو اللبن (شئت فأخذت اللبن
فشربته فقيل): وفي رواية: فقال جبريل (أخذت الفطرة) أي
الإسلام والاستقامة (أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم (إنك
لو أخذت الخمر غوت أمتك) لأنها أم الخبائث وجالبة لأنواع
الشرور
(5/377)
بالشين المعجمة في الحال والمآل.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الإيمان والترمذي في التفسير.
3395 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
غُنْدَرٌ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ:
سَمِعْتُ أَبَا الْعَالِيَةِ حَدَّثَنَا ابْنُ عَمِّ
نَبِيِّكُمْ -يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ
يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى. وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ». [الحديث
3395 - أطرافه في: 3413، 4630، 7539].
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن
بشار) بموحدة ومعجمة مشددة العبدي البصري أبو بكر بندار
وسقط لأبي ذر ابن بشار قال: (حدّثنا غندر) هو محمد بن جعفر
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (قال:
سمعت أبا العالية) رفيعًا الرياحي قال: (حدّثنا ابن عم
نبيكم يعني ابن عباس) -رضي الله عنهما- (عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس) أي ليس لأحد أن
يفضل نفسه أو ليس لأحد أن يفضلني على يونس (بن متى) وهذا
منه على سبيل التواضع (ونسبه إلى أبيه) وهو بفتح الميم
وفتح المثناة الفوقية وبالألف وكان رجلاً صالحًا من أهل
بيت النبوّة.
3396 - وَذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ فَقَالَ: «مُوسَى آدَمُ
طُوَالٌ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. وَقَالَ:
عِيسَى جَعْدٌ مَرْبُوعٌ، وَذَكَرَ مَالِكًا خَازِنَ
النَّارِ، وَذَكَرَ الدَّجَّالَ».
(وذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة
أسري به) وللكشميهني: مما ذكره في فتح الباري ليلة أسري به
على الحكاية (فقال):
(موسى آدم) بالمد أي أسمر (طوال) بضم الطاء وتخفيف الواو
(كأنه من رجال شنوءة) في الطول (وقال) في (عيسى جعد) شعره
بفتح الجيم وسكون العين وهو خلاف السبط (مربوع) لا طويل
ولا قصير، (وذكر مالكًا خازن النار) وفي اليونينية وفرعها
مالك بغير ألف مع المنصب والتنوين مصححًا عليه (وذكر
الدجال).
وهذا الحديث أخرجه في باب قول الله تعالى: {وإن يونس لمن
المرسلين} [الصافات: 139] وفى التفسير والتوحيد ومسلم في
أحاديث الأنبياء وأبو داود في السنة، وهو
عند الأكثرين حديث واحد وبعضهم جعله حديثين ما يتعلق بيونس
حديثًا والآخر بباقيه.
3397 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ السَّخْتِيَانِيُّ عَنِ
ابْنِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما-: «أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ
وَجَدَهُمْ يَصُومُونَ يَوْمًا -يَعْنِي يومَ عَاشُورَاءَ-
فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ، وَهْوَ يَوْمٌ نَجَّى
اللَّهُ فِيهِ مُوسَى، وَأَغْرَقَ آلَ فِرْعَوْنَ، فَصَامَ
مُوسَى شُكْرًا لِلَّهِ. فَقَالَ: أَنَا أَوْلَى بِمُوسَى
مِنْهُمْ، فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ». [الحديث 3397
- أطرافه في: 2004، 3943، 4680، 4737].
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا أيوب) بن أبي تميمة كيسان
(السختياني) بالسين المهملة المفتوحة وسكون الخاء المعجمة
وفتح الفوقية والتحتية وبعد الألف نون البصري (عن ابن سعيد
بن جبير) عبد الله (عن أبيه) سعيد (عن ابن عباس -رضي الله
عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لما)
ولأبي ذر قال لما (قدم المدينة) من مكة مهاجرًا فأقام إلى
يوم عاشوراء من السنة الثانية (وجدهم) يعني اليهود (يصومون
يومًا يعني عاشوراء) بالمد عاشر المحرم على المشهور فقال
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما هذا الصوم"؟
(فقالوا هذا يوم عظيم وهو يوم) بالتنوين (نجى الله) عز وجل
(فيه موسى) وقومه من عدوّهم (وأغرق آل فرعون) في الميم وفي
رواية وأغرق فيه فرعون وقومه (فصام موسى) بإسقاط ضمير
النصب (شكرًا لله) وعند المؤلّف في الهجرة: ونحن نصومه
تعظيمًا له (فقال) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-:
(أنا أولى بموسى منهم) أي من اليهود (فصامه وأمر) الناس
(بصيامه). وقد سبق هذا الحديث في الصيام.
25 - باب
قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ
لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ
رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ
هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ
تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ * وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى
لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي
أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} -إِلَى قَوْلِهِ-
{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ}. يُقَالُ دَكَّهُ:
زَلْزَلَهُ فَدُكَّتَا، فَدُكِكْنَ جَعَلَ الْجِبَالَ
كَالْوَاحِدَةِ كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَنَّ
السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} وَلَمْ يَقُلْ
كُنَّ رَتْقًا: مُلْتَصِقَتَيْنِ. {أُشْرِبُوا} ثَوْبٌ
مُشَرَّبٌ مَصْبُوغٌ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ {انْبَجَسَتْ}:
انْفَجَرَتْ. {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ}: رَفَعْنَا.
(باب قول الله تعالى {وواعدنا}) بألف بعد الواو ({موسى
ثلاثين ليلة}) ذا القعدة ({وأتممناها بعشر}) من ذي الحجة
({فتم ميقات ربه أربعين ليلة}). روي أن موسى عليه الصلاة
والسلام وعد بنى إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون
بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك سأل
ربه فأمره بصوم ثلاثين فلما أتم أنكر خلوف فمه فتسوّك
فقالت الملائكة: كنا نشم من فيك رائحة المسك فأفسدته
بالسواك فأمره الله تعالى أن يزيد عليه عشرًا ({وقال
موسى}) لما أراد الانطلاق إلى الجبل ({لأخيه هارون اخلفني
في قومي}) كن خليفتي فيهم ({وأصلح}) أي ارفق بهم ({ولا
تتبع سبيل المفسدين}) لا تطع من عصى الله ولا توافقه على
أمره ({ولما جاء موسى لميقاتنا}) لوقتنا الذي وقتناه. وقال
الطيبي قيل لا بد هنا من تقدير مضاف أي لآخر ميقاتنا أو
لانقضاء ميقاتنا ({وكلمه ربه}) من غير واسطة ({قال: رب
أرني أنظر إليك}) أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك وهو دليل
على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من
الأنبياء محال، لا سيما ممن اصطفاه الله تعالى برسالته
وخصه بكرامته وشرفه بتكليمه فيجب حمل الآية على أن ما
اعتقد موسى جوازه جائز، لكن ظن أن ما اعتقد
(5/378)
جوازه ناجز فرجع النفي في قوله ({قال لن
تراني}) إلى الإنجاز.
فإن قلت: إن أرني يكفي في الطلب لأنه تعالى إذا أراه نفسه
لا بد أن ينظر إليه فما فائدة إردافه بقوله أنظر إليك؟
أجيب: بأن فائدته التوكيد والكشف التام فإنه لما أردفه به
أفاد طلب رفع المانع وكشف الحجاب والتمكن من الرؤية بحيث
لا يختلف عنه النظر البتة ونحوه قولك نظرت بعيني وقبضت
بيدي (إلى قوله {وأنا أول المؤمنين}) [الأعراف: 142 - 143]
قيل: معناه أنا أوّل من آمن بأنك لا ترى في الدنيا وسقط
لأبي ذر من قوله: {وأتممناها} إلى آخر {لن تراني} (يقال
دكه): يريد تفسير قوله تعالى {فلما تجلى ربه للجبل جعله
دكًا} [الأعراف: 143] أي (زلزله) وقال غيره: جعله مدكوكًا
مفتتًا (فدكتا) بفتح الكاف وفي اليونينية بكسرها ولعله سبق
قلم في قوله تعالى: {وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة}
[الحاقة: 14] أي (فدككن) بالجمع لأن الجبال جمع والأرض في
حكم الجمع لكنه (جعل الجبال كالواحدة) فلذلك قيل فدكتا
بالتثنية (كما قال الله عز وجل: {إن السماوات والأرض كانتا
رتقًا}) [الأنبياء: 30] بالتثنية في كانتا (ولم يقل كن
رتقًا) بالجمع على القياس بل جعل كل واحدة منهما كواحدة
(ملتصقتين {أشربوا}) في قوله تعالى: {وأشربوا في قلوبهم
العجل} [البقرة: 93] (ثوب مشرب) أي مصبوغ يعني اختلط حب
العجل بقلوبهم كما يختلط الصبغ بالثوب. (قال ابن عباس) مما
وصله ابن أبي حاتم في قوله تعالى: ({انبجست}) أي (انفجرت)
وفي قوله تعالى: ({وإذ نتقنا الجبل}) [الأعراف: 171] أي
(رفعنا). الجبل فوقهم روي أن موسى عليه السلام لما رجع إلى
قومه وقد أتاهم بالتوراة فأبوا أن يقبلوها ويعملوا بها،
فأمر الله تعالى جبريل عليه السلام أن يقلع جبلاً قدر
عسكرهم وكان فرسخًا في فرسخ فرفعه فوق رؤوسهم مقدار قامة
الرجل وكانوا ستمائة ألف وقال: إن لم تقبلوها وإلاً ألقيت
عليكم هذا الجبل.
3398 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «النَّاسُ يَصْعَقُونَ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يُفِيقُ،
فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى آخِذٌ بِقَائِمَةٍ مِنْ قَوَائِمِ
الْعَرْشِ، فَلاَ أَدْرِي أَفَاقَ قَبْلِي أَمْ جُوزِيَ
بِصَعْقَةِ الطُّورِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) البيكندي قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن عمرو بن يحيى) بفتح العين (عن أبيه)
يحيى بن عمارة المازني الأنصاري (عن أبي سعيد) الخدري
(-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(الناس يصعقون) يغشى عليهم (يوم القيامة فأكون أول من
يفيق) من الغشى (فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم
العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور). التي
صعقها لما سأل الرؤية فلم يكلف بصعقة أخرى. وفيه فضيلة
لموسى لكن لا يلزم من إفاقته قبل نبينا -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يكون أفضل منه، بل قيل إن قوله:
فلا أدري أفاق قبلي يحتمل أن عليه الصلاة والسلام قاله قبل
أن يعلم أنه أول من تنشق عنه الأرض.
وتأتي مباحث ذلك إن شاء الله تعالى في محله بعون الله
تعالى، وفي نسخة هنا باب بالتنوين.
3399 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
الْجُعْفِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا
مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله
عنه- قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: لَوْلاَ بَنُو إِسْرَائِيلَ لَمْ يَخْنَزِ
اللَّحْمُ، وَلَوْلاَ حَوَّاءُ لَمْ تَخُنْ أُنْثَى
زَوْجَهَا الدَّهْرَ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الله بن
محمد الجعفي) المسندي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام
قال: (أخبرنا معمر) بسكون العين المهملة وفتح الميمين ابن
راشد البصري (عن همام) بفتح الهاء وتشديد الميم ابن منبه
الصنعاني (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(لولا بنو إسرائيل لم يخنز اللحم) بفتح التحتية وسكون
الخاء المعجمة وفتح النون بعدها زاي أي لم ينتن قيل لأنهم
كانوا أمروا بترك ادّخار السلوى فادخروه حتى أنتن فاستمر
نتن اللحم من ذلك الوقت، وقيل لم يكن اللحم يخنز حتى منع
بنو إسرائيل عن ادخاره فلما ادخروه اختنز عقوبة لهم (ولولا
حوّاء) بالمد (لم تخن أنثى زوجها الدهر). لأنها رغبت آدم
في أكل الشجرة بعد وسوسة إبليس فسرى في أولادها مثل ذلك.
وهذا الحديث سبق في أول أحاديث الأنبياء.
26 - باب طُوفَانٍ مِنَ السَّيْلِ. وَيُقَالُ لِلْمَوْتِ
الْكَثِيرِ طُوفَانٌ
{الْقُمَّلُ}: الْحُمْنَانُ يُشْبِهُ صِغَارَ الْحَلَمِ.
{حَقِيقٌ} حَقٌّ. {سُقِطَ}: كُلُّ مَنْ نَدِمَ فَقَدْ
سُقِطَ فِي يَدِهِ.
(طوفان) في قوله تعالى: {فأرسلنا عليهم الطوفان} أي (من
السيل) أي من كثرة الأمطار وفي نسخة باب طوفان من السيل و
(يقال للموت الكثير) المتتابع (طوفان) وقيل الطاعون
و ({القمل}) [الأعراف: 133] هو (الحمنان) بضم الحاء
المهملة وسكون الميم ونونين بينهما ألف (يشبه صغار الحلم)
بفتح الحاء المهملة واللام وهو القراد العظيم. ({حقيق})
[الأعراف: 105] قال أبو عبيدة أي (حق) وهذا على قراءة
(5/379)
تشديد عليّ.
({سُقِطَ}) في قوله تعالى: {ولما سقط في أيديهم} وفسره
بقوله (كل من ندم فقد سقط في يده). قال في القاموس: وسقط
في يده وأسقط مضمومتين زل وأخطأ وندم وتحير اهـ.
فإن النادم المتحسر يعض يده غمًا فتصير يده مسقوطًا فيها
لأن فاه قد وقع فيها، وقيل من عادة النادم أن يطأطئ رأسه
ويضع ذقنه على يده معتمدًا عليها ويصير على هيئة لو نزعت
يده لسقط على وجهه فكأن اليد مسقوط فيها، ومعنى في على
فمعنى في أيديهم على أيديهم، وهذه اللفظة قد اضطربت أقوال
أهل اللغة في أصلها فقال أبو مروان بن سراج اللغوي قول
العرب سقط في يده مما أعياني معناه. وقال الواحدي: لم أر
لأهل اللغة شيئًا في أصله وحدّه أرتضيه إلا ما ذكره الزجاج
أنه بمعنى ندم وأنه نظم لم يسمع قبل القرآن ولم تعرفه
العرب ولم يوجد في أشعارهم، ويدل على صحة ذلك أن شعراء
الإسلام لما سمعوا هذا النظم واستعملوه في كلامهم خفي
عليهم وجه الاستعمال لأن عادتهم لم تجر به قال أبو نواس:
ونشوة سقطت منها في يدي
وأبو نواس هو العالم النحرير فأخطأ في استعمال هذا اللفظ
لأن فعلت لا يبنى إلا من فعل متعدّ وسقط لازم لا يتعدى إلا
بحرف الصلة لا يقال سقطت كما لا يقال رغبت وغضبت، إنما
يقال رغب فيّ وغضب عليّ. وذكر أبو حاتم سقط فلان في يده
بمعنى ندم وهو خطأ مثل قول أبي نواس لأنه لو كان كذلك لكان
النظم ولما سقطوا في أيديهم وسقط القوم في أيديهم كذا نقله
ابن عادل في اللباب.
27 - باب حَدِيثِ الْخَضِرِ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا
السَّلاَمُ -
(حديث الخضر) ولأبي ذر باب حديث الخضر (مع موسى عليهما
السلام).
3400 - حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا
يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عَنْ
صَالِحٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ عُبَيْدَ اللَّهِ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ أَخْبَرَهُ: «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ
تَمَارَى هُوَ وَالْحُرُّ بْنُ قَيْسٍ الْفَزَارِيُّ فِي
صَاحِبِ مُوسَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ خَضِرٌ،
فَمَرَّ بِهِمَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، فَدَعَاهُ ابْنُ
عَبَّاسٍ فَقَالَ: إِنِّي تَمَارَيْتُ أَنَا وَصَاحِبِي
هَذَا فِي صَاحِبِ مُوسَى الَّذِي سَأَلَ السَّبِيلَ إِلَى
لُقِيِّهِ، هَلْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَذْكُرُ شَأْنَهُ؟ قَالَ: نَعَمْ،
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: بَيْنَمَا مُوسَى فِي مَلإٍ مِنْ
بَنِي إِسْرَائِيلَ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: هَلْ تَعْلَمُ
أَحَدًا أَعْلَمَ مِنْكَ؟ قَالَ: لاَ. فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَى
مُوسَى: بَلَى عَبْدُنَا خَضِرٌ، فَسَأَلَ مُوسَى
السَّبِيلَ إِلَيْهِ، فَجُعِلَ لَهُ الْحُوتُ آيَةً،
وَقِيلَ لَهُ: إِذَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَارْجِعْ
فَإِنَّكَ سَتَلْقَاهُ، فَكَانَ يَتْبَعُ الْحُوتَ فِي
الْبَحْرِ، فَقَالَ لِمُوسَى فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ
وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ.
فَقَالَ مُوسَى: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغي، فَارْتَدَّا
عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا، فَوَجَدَا خَضِرًا، فَكَانَ
مِنْ شَأْنِهِمَا الَّذِي قَصَّ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ».
وبه قال: (حدّثنا عمرو بن محمد) بفتح العين ابن بكير
الناقد قال: (حدّثنا يعقوب بن إبراهيم قال: حدثني)
بالإفراد (أبي) إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرَّحمن
بن عوف (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
الزهري (أن عبيد الله بن عبد الله) بضم عين الأول ابن عتبة
(أخبره عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- (أنه تمارى) أي
تنازع وتجادل (هو والحرّ بن قيس الفزاري) بفتح الفاء (في
صاحب موسى) الذي ذهب إليه وقال له هل أتبعك (قال ابن عباس:
هو خضر) بفتح الخاء وكسر الضاد المعجمتين (فمرّ بهما)
بالحر وابن عباس (أبي بن كعب) الأنصاري (فدعاه ابن عباس
فقال: إني تماريت) تجادلت (أنا وصاحبي هذا) الحر بن قيس
(في صاحب موسى الذي سأل السبيل) الطريق (إلى لقيه) بضم
اللام وكسر القاف وتشديد التحتية (هل سمعت رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يذكر شأنه؟ قال) أبي:
(نعم سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
ولأبي ذر يذكر شأنه (يقول):
(بينما) بالميم (موسى في ملإ) بالقصر جماعة (من بني
إسرائيل) أولاد يعقوب (جاءه رجل فقال: هل تعلم أحدًا أعلم
منك؟ قال: لا. فأوحى الله) عز وجل (إلى موسى) عليه السلام
(بلى عبدنا خضر) أي أعلم منك بشيء مخصوص (فسأل موسى) ربه
(السبيل إليه) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: إلى لقيه
(فجعل) بضم الجيم مبنيًّا للمفعول (له الحوت آية) علامة
على لقيه (وقيل له إذا فقدت الحوت) بفتح الفاء والقاف أي
إذا غاب عن عينك (فارجع فإنك ستلقاه) فأخذ حوتًا فجعله في
مكتل ثم انطلق معه بفتاه وقال له إذا فقدت الحوت فأخبرني
(فكان يتبع الحوت) بسكون الفوقية ولأبي الوقت والأصيلي
يتبع أثر الحوث (في البحر) أي ينتظر فقدانه فلما أتيا
الصخرة وضعا رؤوسهما فناما فاضطرب الحوت في المكتل فسقط في
البحر (فقال لموسى فتاه) يوشع بن نون (أرأيت إذ أوينا إلى
الصخرة فإني نسيت الحوت) أي فإني نسيت أن أخبرك بخبر الحوت
(وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) نسبه للشيطان تأدبًا
مع الرب تعالى لأن نسبة النقص للنفس والشيطان أليق بمقام
الأدب (فقال موسى) عليه السلام: (ذلك) الذي ذكرته (ما كنا
نبغي) بالتحتية بعد الغين ولغير أبي ذر نبغ نطلب إذ هو
علامة على لقي الخضر (فارتدّا) رجعا (على آثارهما) يقصان
(قصصًا) حتى انتهيا إلى الصخرة (فوجدا خضرًا) نائمًا مسجى
ثوبًا في
(5/380)
جزيرة من جزائر البحر (فكان من شأنهما الذي
قص الله) عز وجل (في كتابه) في سورة الكهف.
وهذا الحديث قد سبق في باب ما ذكر في ذهاب موسى إلى الخضر
من كتاب العلم.
3401 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ قَالَ:
أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ قَالَ: «قُلْتُ لاِبْنِ
عَبَّاسٍ إِنَّ نَوْفًا الْبَكَالِيَّ يَزْعُمُ أَنَّ
مُوسَى صَاحِبَ الْخَضِرِ لَيْسَ هُوَ مُوسَى بَنِي
إِسْرَائِيلَ، إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخَرُ، فَقَالَ:
كَذَبَ عَدُوُّ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ
عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَنَّ مُوسَى قَامَ خَطِيبًا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَسُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَعْلَمُ؟ فَقَالَ: أَنَا.
فَعَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِ إِذْ لَمْ يَرُدَّ الْعِلْمَ
إِلَيْهِ فَقَالَ لَهُ: بَلَى، لِيَ عَبْدٌ بِمَجْمَعِ
الْبَحْرَيْنِ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكَ. قَالَ: أَىْ رَبِّ
وَمَنْ لِي بِهِ؟ -وَرُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ: أَىْ رَبِّ
وَكَيْفَ لِي بِهِ؟ - قَالَ: تَأْخُذُ حُوتًا فَتَجْعَلُهُ
فِي مِكْتَلٍ، حَيْثُمَا فَقَدْتَ الْحُوتَ فَهْوَ ثَمَّ
-وَرُبَّمَا قَالَ: فَهْوَ ثَمَّهْ- وَأَخَذَ حُوتًا
فَجَعَلَهُ فِي مِكْتَلٍ ثُمَّ انْطَلَقَ هُوَ وَفَتَاهُ
يُوشَعُ بْنُ نُونٍ حَتَّى إذا أَتَيَا الصَّخْرَةَ
وَضَعَا رُءُوسَهُمَا، فَرَقَدَ مُوسَى، وَاضْطَرَبَ
الْحُوتُ فَخَرَجَ فَسَقَطَ فِي الْبَحْرِ، فَاتَّخَذَ
سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا، فَأَمْسَكَ اللَّهُ عَنِ
الْحُوتِ جِرْيَةَ الْمَاءِ فَصَارَ مِثْلَ الطَّاقِ
-فَقَالَ: هَكَذَا مِثْلُ الطَّاقِ- فَانْطَلَقَا
يَمْشِيَانِ بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا وَيَوْمَهُمَا،
حَتَّى إِذَا كَانَ مِنَ الْغَدِ قَالَ لِفَتَاهُ. آتِنَا
غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا.
وَلَمْ يَجِدْ مُوسَى النَّصَبَ حَتَّى جَاوَزَ حَيْثُ
أَمَرَهُ اللَّهُ. قَالَ لَهُ فَتَاهُ: أَرَأَيْتَ إِذْ
أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ،
وَمَا أَنْسَانِيهِ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ،
وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا، فَكَانَ
لِلْحُوتِ سَرَبًا وَلَهُمَا عَجَبًا. قَالَ لَهُ مُوسَى:
ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِي، فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا
قَصَصًا -رَجَعَا يَقُصَّانِ آثَارَهُمَا- حَتَّى
انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ مُسَجًّى
بِثَوْبٍ، فَسَلَّمَ مُوسَى، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَقَالَ:
وَأَنَّى بِأَرْضِكَ السَّلاَمُ قَالَ: أَنَا مُوسَى،
قَالَ مُوسَى بَنِي إِسْرَائِيلَ؟ قَالَ: نَعَمْ،
أَتَيْتُكَ لِتُعَلِّمَنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رَشَدًا.
قَالَ: يَا مُوسَى إِنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ
اللَّهِ عَلَّمَنِيهِ اللَّهُ لاَ تَعْلَمُهُ، وَأَنْتَ
عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَلَّمَكَهُ اللَّهُ لاَ
أَعْلَمُهُ. قَالَ: هَلْ أَتَّبِعُكَ؟ قَالَ: {إِنَّكَ
لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى
مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا} -إِلَى قَوْلِهِ-
{إِمْرًا}. فَانْطَلَقَا يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِلِ
الْبَحْرِ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سَفِينَةٌ كَلَّمُوهُمْ أَنْ
يَحْمِلُوهُمْ، فَعَرَفُوا الْخَضِرَ فَحَمَلُوهُ بِغَيْرِ
نَوْلٍ. فَلَمَّا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ جَاءَ
عُصْفُورٌ فَوَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ
فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ، قَالَ لَهُ
الْخَضِرُ: يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ
مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلاَّ مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا
الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ، إِذْ أَخَذَ
الْفَأْسَ فَنَزَعَ لَوْحًا، قَالَ: فَلَمْ يَفْجَأْ
مُوسَى إِلاَّ وَقَدْ قَلَعَ لَوْحًا بِالْقَدُّومِ،
فَقَالَ لَهُ مُوسَى: مَا صَنَعْتَ؟ قَوْمٌ حَمَلُونَا
بِغَيْرِ نَوْلٍ عَمَدْتَ إِلَى سَفِينَتِهِمْ
فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا، لَقَدْ جِئْتَ
شَيْئًا إِمْرًا. قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ قَالَ: لاَ تُؤَاخِذْنِي
بِمَا نَسِيتُ، وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا.
فَكَانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانًا. فَلَمَّا
خَرَجَا مِنَ الْبَحْرِ مَرُّوا بِغُلاَمٍ يَلْعَبُ مَعَ
الصِّبْيَانِ، فَأَخَذَ الْخَضِرُ بِرَأْسِهِ فَقَلَعَهُ
بِيَدِهِ هَكَذَا -وَأَوْمَأَ سُفْيَانُ بِأَطْرَافِ
أَصَابِعِهِ كَأَنَّهُ يَقْطِفُ شَيْئًا- فَقَالَ لَهُ
مُوسَى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ؟
لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا. قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ
إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا؟ قَالَ: إِنْ
سَأَلْتُكَ
عَنْ شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي، قَدْ بَلَغْتَ
مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا. فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا
أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا، فَأَبَوْا أَنْ
يُضَيِّفُوهُمَا، فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ
يَنْقَضَّ مَائِلاً -أَوْمَأَ بِيَدِهِ هَكَذَا، وَأَشَارَ
سُفْيَانُ كَأَنَّهُ يَمْسَحُ شَيْئًا إِلَى فَوْقُ،
فَلَمْ أَسْمَعْ سُفْيَانَ يَذْكُرُ "مَائِلاً" إِلاَّ
مَرَّةً- قَالَ: قَوْمٌ أَتَيْنَاهُمْ فَلَمْ يُطْعِمُونَا
وَلَمْ يُضَيِّفُونَا، عَمَدْتَ إِلَى حَائِطِهِمْ، لَوْ
شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا. قَالَ: هَذَا
فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ، سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ
مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا. قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وَدِدْنَا أَنَّ
مُوسَى كَانَ صَبَرَ فَقَصَّ اللَّهُ عَلَيْنَا مِنْ
خَبَرِهِمَا. قَالَ سُفْيَانُ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: يَرْحَمُ اللَّهُ مُوسَى
لَوْ كَانَ صَبَرَ يُقَصُّ عَلَيْنَا مِنْ أَمْرِهِمَا
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَامَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ
كُلَّ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ غَصْبًا. وَأَمَّا الْغُلاَمُ
فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ. ثُمَّ
قَالَ لِي سُفْيَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْهُ مَرَّتَيْنِ
وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ. قِيلَ لِسُفْيَانَ: حَفِظْتَهُ
قَبْلَ أَنْ تَسْمَعَهُ مِنْ عَمْرٍو أَوْ تَحَفَّظْتَهُ
مِنْ إِنْسَانٍ؟ فَقَالَ: مِمَّنْ أَتَحَفَّظُهُ،
وَرَوَاهُ أَحَدٌ عَنْ عَمْرٍو غَيْرِي؟ سَمِعْتُهُ مِنْهُ
مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا وَحَفِظْتُهُ مِنْهُ".
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا عمرو بن دينار) المكي (قال:
أخبرني) بالإفراد (سعيد بن جبير) بضم الجيم مصغرًا الكوفي
(قال: قلت لابن عباس أن نوفًا) بفتح النون وسكون الواو
وتنوين الفاء ابن فضالة بفتح الفاء والضاد المعجمة أبا
يزيد القاص (البكالي) بكسر الموحدة وتخفيف اللام والكاف
على الصواب، ونقل عن المهلب والصدفي وأبي الحسن بن سراج
نسبة إلى بكال من حمير وضبطه أكثر المحدّثنين فما قاله
عياض البكالي بفتح الموحدة وتشديد الكاف قال: وكذا قيدناه
عن أبي بحر وابن أبي جعفر عن العذري وقاله أبو ذر نسبة إلى
بكال بن دعمى (يزعم أن موسى صاحب الخضر) الذي قص الله
عنهما في سورة الكهف (ليس هو موسى بني إسرائيل إنما هو
موسى آخر) يسمى موسى بن ميشا بن إفراثيم بن يوسف بن يعقوب
وموسى الثاني منوّن للفرق (فقال) ابن عباس: (كذب عدوّ
الله) نوف فيما زعم قاله مبالغة في الإنكار والزجر وكان في
شدة غضبه لا أنه يعتقد ذلك (حدّثنا أبي بن كعب عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل فسئل أيّ الناس أعلم)
أي منهم (فقال) بحسب اعتقاده (أنا) أعلم الناس وهذا أبلغ
من قوله في الرواية السابقة هل تعلم أحدًا أعلم منك: قال:
لا. فإنه نفى هناك علمه وفي هذه الرواية على البت (فعتب
الله عليه إذ لم يرد العلم إليه) فيقول نحو الله أعلم
(فقال) الله (له: بلى لي عبد) هو خضر (بمجمع البحرين)
ملتقى بحري فارس والروم مما يلي المشرق (هو أعلم منك) أي
بشيء مخصوص (قال) موسى (أي) أي يا (رب ومن لي به)؟ أي ومن
يتكفل لي برؤيته (وربما قال سفيان) بن عيينة (أي رب وكيف
لي به)؟ أي وكيف يتهيأ لي أن أظفر به (قال) تعالى: {تأخذ
حوتًا) مملوحًا (فتجعله في مكتل) بكسر الميم وسكون الكاف
وفتح الفوقية زنبيل (حيثما فقدت الحوت) بفتح القاف (فهو)
أي الخضر (ثم) بفتح المثلثة
وتشديد الميم (وربما قال فهو ثمه) بزيادة هاء السكت
الساكنة أي هناك (وأخذ) بالواو موسى (حوتا) مملوحًا (فجعله
في مكتل) كما أمر (ثم انطلق هو وفتاه يوشع بن نون) بالصرف
كنوح (حتى أتيا) ولأبي ذر حتى إذا أتيا (الصخرة) التي عند
ساحل مجمع البحرين ويقال ثمة عين تسمى بعين الحياة "وضعا
رؤوسهما فرقد موسى واضطرب الحوت" أي تحرك لأنه أصابه من
ماء عين الحياة (فخرج) من المكتل (فسقط في البحر فاتخذ
سبيله) طريقه (في البحر سربًا) مسلكًا (فأمسك الله) عز وجل
(عن الحوت جرية الماء فصار) عليه (مثل الطاق) وفي نسخة في
مثل الطاق (فقال: هكذا مثل الطاق) أي مثل عقد البناء قال
الكرماني: معجزة لموسى والخضر (فانطلقا) موسى وفتاه
(يمشيان بقية ليلتهما ويومهما) بنصب اليوم (حتى إذا كان من
الغد قال) موسى (لفتاه) يوشع: (آتنا غداءنا) طعامنا الذي
نأكله أوّل النهار (لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا) تعبًا
(ولم يجد موسى النصب حتى جاوز حيث أمره الله) تعالى (قال
له فتاه) يوشع: (أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت
الحوت) أن أخبرك بحياته وانتضاب الماء مثل الطاق وغيره
(وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره) لها بهر العقل من عظيم
القدرة (واتخذ سبيله في البحر) سبيلاً (عجبًا) مفعول ثان
لاتخذ وهو كونه كالسرب (فكان للحوت) أي لدخول الحوت في
الماء (سربًا) مسلكًا (ولهما) لموسى وفتاه (عجبًا) فإنه
جمد الماء أو صار صخرًا (قال له موسى ذلك) الذي ذكرته (ما
كنا نبغي فارتدّا على آثارهما) يقصان (قصصًا) أي (رجعا) في
الطريق الذي جاءا فيه (يقصان آثارهما) قصصًا أي يتبعان
آثار مسيرهما اتباعًا (حتى انتهيا إلى الصخرة) فذهبا
يلتمسان الخضر (فإذا رجل) نائم (مسجى بثوب) أي مغطى كله به
(فسلم موسى)
(5/381)
أي عليه (فردّ عليه) الخضر السلام (فقال):
أي الخضر (وأنى) وكيف (بأرضك السلام) وفي رواية وهل بأرضي
من سلام قال الخضر: من أنت؟ (قال أنا موسى. قال) الخضر:
(موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم) موسى بني إسرائيل قال ما
شأنك قال (أتيتك لتعلمني مما علمت رشدًا) مفعول ثان
لتعلمني ولم يرد أن يعلمه شيئًا من أمر الدين إذ الأنبياء
لا يجعلون ما يتعلق بدينهم الذي تعبدت به أمتهم (قال يا
موسى إني على علم من علم الله علمنيه الله لا تعلمه) جميعه
(وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه) جميعه.
وهذا التقدير واجب دافع لمن استدلّ بقوله: إني على علم الخ
بأن نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اختص بجمع
الشريعة، والحقيقة ولم يكن لغيره من الأنبياء إلا أحدهما
لأنه يلزم منه خلو بعض أولي العزم غير نبينا من الحقيقة
وإخلاء الخضر عن علم الشريعة ولا يخفى ما فيه، ويأتي إن
شاء الله تعالى مزيد لذلك في سورة الكهف من التفسير، ولا
ريب أن العالم بالعلم الخاص لا يكون أعلم ممن له العلم
العام وهو حكم الشرائع والتكاليف فإن ضرورة الناس تدعوهم
إلى ذلك.
(قال) موسى للخضر (هل أتبعك؟ قال: إنك لن تستطيع معي
صبرًا) لأن موسى لا يصبر على ترك الإنكار إذا رأى ما يخالف
الشرع (وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرًا)؟ أي: وكيف تصبر
وأنت نبي على ما أتولى من أمور ظواهرها مناكير وبواطنها لم
يحط بها خبرك. وخبرًا تمييز أو مصدر لأن لم تحط به بمعنى
لم تخبره (إلى قوله أمرًا) أي ولا أعصى لك أمرًا وفي
اليونينية إمرًا
بكسر الهمزة وكانت مفتوحة فكشطها مصححًا عليها (فانطلقا)
موسى والخضر (يمشيان على ساحل البحر) ومعهما يوشع (فمرّت
بهما سفينة كلموهم) بغير فاء (أن يحملوهم فعرفوا) أي أصحاب
السفينة (الخضر فحملوه) وموسى وفتاه (بغير نول) بفتح النون
أجرة (فلما ركبا) موسى والخضر (في السفينة جاء عصفور) بضم
العين وحكي فتحها "فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر
نقرة أو نقرتين" قال له (الخضر: يا موسى ما نقص علمي وعلمك
من علم الله) أي من معلومه (إلا مثل ما نقص هذا العصفور
بمنقاره من البحر) ولفظ النقص هنا ليس على ظاهره وإنما
معناه إن علمي وعلمك بالنسبة إلى علم الله تعالى كنسبة ما
نقره هذا العصفور إلى ماء البحر فهو على التقريب إلى
الأفهام (إذ أخذ) الخضر (الفأس) بالهمز (فنزع لوحًا) من
ألواح السفينة (فلم) وفي الفرع كأصله قال: فلم (يفجأ موسى)
عليه السلام بعد أن صارت السفينة في لجة البحر (إلا وقد
قلع) الخضر (لوحًا) من السفينة (بالقدوم) بفتح القاف
وتشديد الدال في الفرع وأصله وضبطه الصغاني بالفتح
والتخفيف فقال له (موسى): منكرًا عليه بلسان الشرع (ما
صنعت)؟ هؤلاء (قوم حملونا) في سفينتهم (بغير نول) أجرة
(عمدت) بفتح الميم (إلى سفينتهم فحرقتها لتغرق أهلها) فإن
خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها وقال
لتغرق أهلها ولم يقل لتغرقنا. قال السفاقسي: فنسي نفسه
واشتغل بغيره في حالة يقول فيها المرء: نفسي نفسي، واللام
في لتغرق للعلة أو للصيرورة (لقد جئت شيئًا إمرًا) عظيمًا.
(قال) الخضر مذكرًا لموسى بما سبق من الشرط (ألم أقل إنك
لن تستطيع معي صبرًا) استفهام على سبيل الإنكار (قال) موسى
للخضر: (لا تؤاخذني بما نسيت) يعني وصيته بأن لا يعترض
عليه وهو اعتذار بالنسيان أو أراد بالنسيان الترك أي لا
تؤاخذني بما تركت (ولا ترهقني) أي لا تغشني (من أمري
عسرًا) مفعول ثان لترهق (فكانت الأولى) وفي الكهف قال أي
أبي، وقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
"وكانت الأولى" (من موسى نسيانًا فلما خرجا) أي موسى
والخضر (من البحر مروا) موسى والخضر ويوشع (بغلام) وضيء
الوجه اسمه جيسون بالجيم المفتوحة والتحتية الساكنة والسين
المهملة المضمومة وبعد الواو نون (يلعب مع الصبيان فأخذ
الخضر برأسه فقلعه بيده وهكذا وأومأ سفيان) بن عيينة
(بأطراف أصابعه) كأنه يقطف بها شيئًا
(5/382)
(فقال له موسى): منكرًا عليه أشد من الأولى
(أقتلت نفسًا زكية) بتشديد الياء من غير ألف وهي قراءة ابن
عامر والكوفيين أي طاهرة من الذنوب قاله لأنه لم يرها
أذنبت أو صغيرة لم تبلغ الحلم (بغير نفس) متعلق بقتلت (لقد
جئت شيئًا نكرًا) منكرًا (قال) الخضر لموسى: (ألم أقل لك
إنك لن تستطيع معي صبرًا. قال) موسى: (إن سألتك عن شيء
بعدها) بعد هذه المرة (فلا تصاحبني) وفارقني (وقد بلغت من
لدني عذرًا) متعلق ببلغت، ولدني بضم الدال وتشديد النون
ادخلوا نون الوقاية على لدن لتقيها من الكسر محافظة على
سكونها (فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قرية) أنطاكية أو غيرها
(استطعما أهلها) واستضافوهم (فأبوا أن يضيفوهما)، مفعول به
واستطعما جواب إذا وتكرير أهلها قيل للتأكيد وقيل للتأسيس
(فوجدا فيها) في القرية (جدارًا يريد أن ينقض) مفعول
الإرادة أي (مائلاً) وهذا من مجاز كلام العرب لأن الجدار
لا إرادة له فالمعفى أنه دنا من
السقوط (أومأ) الخضر (بيده هكذا وأشار سفيان) بن عيينة
(كأنه يمسح شيئًا إلى فوق) بالضم.
قال علي بن عبد الله المديني (فلم أسمع سفيان يذكر مائلاً
إلاّ مرة):
(قال) موسى (قوم أتيناهم) فاستطعمناهم واستضفناهم (فلم
يطعمونا ولم يضيفونا عمدت) بفتح الميم في اليونينية ليس
إلا (إلى حائطهم) المائل فأقمته (لو شئت لاتخذت) بهمزة وصل
وتشديد التاء وفتح الخاء وهي قراءة غير المكي والبصري
(عليه أجرًا) جعلاً (قال) الخضر: (هذا فراق بيني وبينك) أي
الفراق الموعود بقوله فلا تصاحبني أو الاعتراض الثالث أو
الوقت أي هذا الاعتراض سبب فراقنا أو هذا الوقت وقته
(سأنبئك) سأخبرك (بتأويل ما لم تستطع عليه صبرًا) لكونه
منكرًا من حيث الظاهر.
(قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: وددنا)
بكسر الدال الأولى وسكون الثانية (أن موسى كان صبر فقص
الله علينا من خبرهما) ولأبوي ذر والوقت: فقص بضم القاف
مبنيًا للمفعول. (قال سفيان) بن عيينة في روايته (قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يرحم الله موسى
لو كان صبر يقص) ولأبوي ذر والوقت والأصيلي لقص (علينا من
أمرهما) وفي التفسير من طريق الحميد عن سفيان: وددنا أن
موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما.
(قال) في التفسير قال سعيد بن جبير وسقط قوله قال من
اليونينية وثبت في فرعها (وقرأ ابن عباس أمامهم) بدل قراءة
العامة وراءهم (ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصبًا وأما الغلام
فكان كافرًا وكان أبواه مؤمنين) قال ابن المديني: (ثم قال
لي سفيان: سمعته منه) أي من عمرو بن دينار (مرتين وحفظته
منه. قيل لسفيان حفظته قبل أن تسمعه من عمرو) أي ابن دينار
(أو تحفظته من إنسان)؟ قال الكرماني الشك من علي بن عبد
الله. يعني قيل لسفيان حفظته أو تحفظته من إنسان قبل أن
تسمعه من عمرو؟ (فقال): سفيان: (ممن أتحفظه. ورواه) أي
أرواه (أحد من عمرو غيري) فحذف همزة الاستفهام (سمعته منه)
من عمرو (مرتين أو ثلاثًا وحفظته منه).
وهذا الحديث سبق في باب ما يستحب للعالم إذا سئل من كتاب
العلم.
3402 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ
الأَصْبَهَانِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ
مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّمَا سُمِّيَ
الْخَضِرُ لأَنَّهُ جَلَسَ عَلَى فَرْوَةٍ بَيْضَاءَ،
فَإِذَا هِيَ تَهْتَزُّ مِنْ خَلْفِهِ خَضْرَاءَ»: قَالَ
الحَمَوِي: قَالَ مُحَمَّدُ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مَطَر
الفَرْبَرِيُّ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنِ خَشرَم عَنْ
سُفْيَانَ بطوله.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سعيد) بكسر العين (الأصبهاني)
بفتح الهمزة والموحدة وفي نسخة ابن الأصبهاني قال: (أخبرنا
ابن المبارك) عبد الله (عن معمر) هو ابن راشد (عن همام بن
منبه) بكسر الموحدة المشددة (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-
عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إنما سمي الخضر) بفتح الراء وفي اليونينية وبالضم في
فرعها خضرًا (أنه) ولأبي الوقت وابن عساكر والأصيلي لأنه
أي الخضر (جلس على فروة بيضاء) ليس فيها نبات، والفروة
بفتح الفاء وسكون الراء جلدة وجه الأرض (فإذا هي) أي
الفروة البيضاء (تهتز من خلفه خضراء) بعد أن كانت جرداء.
وعن مجاهد قيل له الخضر لأنه كان إذا صلّى اخضرّ ما حوله،
واسمه بليا بفتح الموحدة وسكون اللام وبعد التحتية ألف
مقصورًا ابن ملكان بن فالغ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن
سام بن نوح. قال في الفتح: فعلى هذا فمولده
(5/383)
قبل إبراهيم الخليل لأنه يكون ابن عمر جد
إبراهيم. وعند الدارقطني في الإفراد من طريق مقاتل عن
الضحاك عن ابن عباس هو ابن آدم لصلبه وهو ضعيف منقطع، وعند
أبي حاتم في المعمرين أنه ابن قابيل بن آدم، وعن ابن لهيعة
كان ابن فرعون نفسه، وقيل ابن بنت فرعون، وقيل كان أخا
إلياس. وعند السهيلي عن قوم أنه كان من الملائكة وليس من
بني آدم واختلف في نبوته فقيل نبي واحتج بعضهم لنبوته
بقوله: وما فعلته عن أمري.
وأجيب: باحتمال الإيحاء إلى نبي من أنبياء ذلك الزمان أن
يأمر الخضر بذلك، والأكثرون كما قاله النووي على حياته بين
أظهرنا واتفق عليه سادات الصوفية كابن أدهم وبشر الحافي
ومعروف الكرخي وسري السقطي والجنيد، وبه قال عمر بن عبد
العزيز، والذي جزم به البخاري أنه غير موجود، وبه قال
إبراهيم الحربي وأبو بكر بن العربي وطائفة من المحدثين،
وعمدتهم الحديث المشهور أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال في آخر حياته: "لا يبقى على وجه الأرض بعد
مائة سنة ممن هو عليها اليوم أحد". وأجيب بأنه كان حينئذٍ
على وجه البحر أو هو مخصوص من الحديث إلى غير ذلك مما سبق
أوائل هذا المجموع.
(قال الحموي) بفتح الحاء المهملة وتشديد الميم المضمومة
وبعد الواو المكسورة تحتية عبد الله بن أحمد بن حمويه
السرخسي بفتح المهملة والراء (قال محمد بن يوسف بن مطر
الفربري): بفتح الفاء والراء (حدّثنا علي بن خشرم) بفتح
الخاء وسكون الشين المعجمتين وبعد الراء المفتوحة ميم
المروزي (عن سفيان) بن عيينة فذكر حديث الخضر وموسى
(بطوله) وفي الونينية علامة السقوط على قوله الحموي.
28 - باب
هذ (باب) بالتنوين.
3403 - حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ
مُنَبِّهٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «قِيلَ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: ادْخُلُوا
الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ، فَبَدَّلُوا
فَدَخَلُوا يَزْحَفُونَ عَلَى أَسْتَاهِهِمْ وَقَالُوا
حَبَّةٌ فِي شَعْرَةٍ». [الحديث 3403 - طرفاه في: 4479،
4641].
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إسحاق بن
نصر) هو إسحاق بن إبراهيم بن نصر السعدي المروزي وقيل
البخاري قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام الصنعاني (عن
معمر) هو ابن راشد الأزدي مولاهم البصري (عن همام بن منبه)
بكسر الموحدة المشددة الصنعاني أخي وهب (أنه سمع أبا هريرة
-رضي الله عنه- يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(قيل لبني إسرائيل) لما خرجوا من التيه مع يوشع بن نون بعد
أربعين سنة وفتح الله عليهم بيت المقدس (ادخلوا الباب) باب
القرية وكان قبل القبلة حال كونهم (سجدًا) منحنين ركوعًا
أو خضوعًا شكرًا على تيسير الدخول (وقولوا حطة) بالرفع أي
مسألتنا حطة: وعند ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال قيل لهم
قولوا مغفرة (فبدلوا) فغيروا السجود بالزحف (فدخلوا
يزحفون) بفتح الحاء المهملة (على أستاههم) بفتح الهمزة
وسكون السين المهملة أي أوراكهم (وقالوا) بدل حطة (حبة في
شعرة) بسكون العين فخالفوا في القول والفعل، فقالوا كلامًا
مهملاً غرضهم به المخالفة لما أمروا به من الكلام المستلزم
للاستغفار، وحط العقوبة عنهم فعاقبهم الله بالطاعون حتى
هلك منهم سبعون ألفًا في ساعة واحدة، وقيل أربعة وعشرون
ألفًا.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير، ومسلم في أواخر
صحيحه، والترمذي في التفسير.
3404 - حَدَّثَنا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ حَدَّثَنَا عَوْفٌ عَنِ الْحَسَنِ
وَمُحَمَّدٍ وَخِلاَسٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله
عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً
حَيِيًّا سِتِّيرًا لاَ يُرَى مِنْ جِلْدِهِ شَىْءٌ
اسْتِحْيَاءً مِنْهُ، فَآذَاهُ مَنْ آذَاهُ مِنْ بَنِي
إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا: مَا يَسْتَتِرُ هَذَا
التَّسَتُّرَ إِلاَّ مِنْ عَيْبٍ بِجِلْدِهِ: إِمَّا
بَرَصٌ وَإِمَّا أُدْرَةٌ، وَإِمَّا آفَةٌ. وَإِنَّ
اللَّهَ أَرَادَ أَنْ يُبَرِّئَهُ مِمَّا قَالُوا
لِمُوسَى، فَخَلاَ يَوْمًا وَحْدَهُ فَوَضَعَ ثِيَابَهُ
عَلَى الْحَجَرِ ثُمَّ اغْتَسَلَ، فَلَمَّا فَرَغَ
أَقْبَلَ إِلَى ثِيَابِهِ لِيَأْخُذَهَا، وَإِنَّ
الْحَجَرَ عَدَا بِثَوْبِهِ، فَأَخَذَ مُوسَى عَصَاهُ
وَطَلَبَ الْحَجَرَ.
فَجَعَلَ يَقُولُ: ثَوْبِي حَجَرُ، ثَوْبِي حَجَرُ. حَتَّى
انْتَهَى إِلَى مَلإٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَرَأَوْهُ
عُرْيَانًا أَثَرِ ضَرْبِهِ ثَلاَثًا أَوْ أَرْبَعًا أَوْ
خَمْسًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى
فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ
اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب: 69].
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: بالجمع (إسحاق بن
إبراهيم) بن راهويه (قال: حدّثنا) ولأبوي الوقت وذر أخبرنا
(روح بن عبادة) بفتح الراء وعبادة بضم العين وتخفيف
الموحدة البصري قال: (حدّثنا عوف) بفتح العين المهملة وبعد
الواو الساكنة فاء ابن أبي جميلة المعروف بالأعرابي (عن
الحسن) البصري (ومحمد) أي ابن سيرين (وخلاس) بكسر الخاء
المعجمة وتخفيف اللام آخره مهملة ابن عمرو البصري ثلاثتهم
(عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) ولم يسمع الحسن من أبي
هريرة عند الحفاظ، وما وقع في بعض الروايات مما يخالف ذلك
فمحكوم بوهمه عندهم وأما
خلاس فقال أبو داود عن أحمد أنه لم يسمع من أبي هريرة،
وأما محمد بن سيرين فسماعه ثابت من أبي هريرة أنه (قال:
قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن موسى) عليه الصلاة والسلام (كان رجلاً حَيِيًّا) بفتح
الحاء المهملة وكسر التحتية وتشديد الثانية
(5/384)
أي كثير الحياء (ستيرًا) بكسر السين
المهملة والفوقية المشددة أي من شأنه وإرادته حب الستر (لا
يُرى) بضم أوله وفتح ثانيه (من جلده شيء استحياء منه فآذاه
من آذاه من بني إسرائيل فقالوا ما يستتر) موسى (هذا التستر
إلا من عيب بجلده إما برص) ولغير أبي ذر برص بالجر (وإما
أدرة) بفتح الهمزة وفي الفرع وأصله وسكون الدال وفيهما
أيضًا بفتحهما. وقال في الفتح بضم الهمزة وسكون الدال على
المشهور وبفتحتين أيضًا فيما حكاه الطحاوي عن بعض مشايخه
ورجح الأول وبالرفع لأبي ذر وبالجر لغيره وهو نفخ في
الخصيتين (وإما آفة) من عطف العام على الخاص (وإن الله) عز
وجل (أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى) ولأبي ذر عن
المستملي: بموسى بالموحدة بدل اللام (فخلا) موسى (يومًا
وحده) ليغتسل (فوضع ثيابه) ولأبي ذر عن الحموي والمستملي
ثيابًا أي له (على الحجر) الذي كان ثم (ثم اغتسل) وفي
رواية علي بن زيد عن أنس عند أحمد في هذا الحديث أن موسى
كان إذا أراد أن يدخل الماء لم يلق ثوبه حتى يواري عورته
في الماء (فلما فرغ) من غسله (أقبل إلى ثيابه ليأخذها وإن
الحجر عدا) بالعين المهملة مضى مسرعًا (بثوبه) بالتوحيد
على إرادة الجنس (فأخذ موسى عصاه) التي كانت إحدى آياته
(وطلب الحجر فجعل يقول ثوبي حجر ثوبي حجر) مرتين أي اعطني
ثوبي يا حجر (حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل فرأوه) حال
كونه (عريانًا) حال كونه (أحسن ما خلق الله وأبرأه) تعالى
(مما يقولون وقام الحجر فأخذ) موسى (ثوبه) ولأبوي ذر
والوقت: بثوبه (فلبسه وطفق) بكسر الفاء أي جعل (بالحجر)
يضرب (ضربًا بعصاه فوالله إن بالحجر لندبًا) بفتح النون
والمهملة أي أثرًا (من أثر ضربه ثلاثًا أو أربعًا أو
خمسًا) بالشك من الراوي.
وفي الغسل في باب: من اغتسل عريانًا قال أبو هريرة: والله
إنه لندب بالحجر ستة أو سبعة بالشك أيضًا وفيه أن قوله:
فوالله الخ من قول أبي هريرة، وفي رواية حبيب بن سالم عن
أبي هريرة عند ابن مردويه الجزم بست ضربات قال النووي: فيه
معجزتان ظاهرتان لموسى عليه السلام: مشي الحجر بثوبه وحصول
الندب في الحجر بضربه وفيه حصول التمييز في الجماد.
(فذلك) أي ما ذكر من أذى بني إسرائيل موسى (قوله) عز وجل:
({يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى}) بنسبة
العيب في بدنه ({فبرّأه الله مما قالوا}) بإبراز جسده
لقومه حتى رأوه وعلموا فساد اعتقادهم ({وكان عند الله
وجيهًا}) [الأحزاب: 69] كريمًا ذا جاه.
وقال ابن عباس: كان حظيًّا عند الله لا يسأل شيئًا إلا
أعطاه. وقال الحسن: كان مجاب الدعوة، وقيل كان محببًا
مقبولاً.
3405 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنِ الأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ:
سَمِعْتُ
عَبْدَ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ: «قَسَمَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَسْمًا، فَقَالَ
رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ
اللَّهِ. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ، فَغَضِبَ حَتَّى رَأَيْتُ
الْغَضَبَ فِي وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ
مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الأعمش) سليمان بن مهران
أنه (قال: سمعت أبا وائل) شقيق بن سلمة (قال: سمعت عبد
الله) يعني ابن مسعود (-رضي الله عنه- قال: قسم النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قسمًا) بفتح القاف
وسكون السين يوم حنين فآثر ناسًا في القسمة أعطى الأقرع بن
حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن مثل ذلك وأعطى أناسًا من
أشراف العرب فآثرهم يومئذٍ على غيرهم (فقال رجل): هو معتب
بن قشير المنافق (إن هذه) القسمة (لقسمة ما أريد بها وجه
الله)، زاد في الجهاد ما عدل فيها (فأتيت) أي قال ابن
مسعود فأتيت (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فأخبرته) بقول الرجل (فغضب) عليه الصلاة والسلام (حتى رأيت
الغضب) أي أثره (في وجهه) الشريف (ثم قال):
(يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا) الذي أوذيت به
(فصبر).
وهذا الحديث سبق في الجهاد في باب: ما كان النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعطي المؤلّفة قلوبهم.
29 - باب {يَعْكِفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف:
138] {مُتَبَّرٌ}: خُسْرَانٌ. {وَلِيُتَبِّرُوا}:
يُدَمِّرُوا. {مَا عَلَوْا}: مَا غَلَبُوا
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({يعكفون على أصنام
لهم}) [الأعراف: 138] أي يقيمون على عبادتها قيل كانت
تماثيل بقر، وذلك أول شأن العجل وكانوا من العمالقة الذي
أمر موسى بقتالهم.
({متبر}) في قوله تعالى: {إن هؤلاء متبر ما هم فيه}
[الأعراف: 139] أي (خسران) أخرجه الطبري عن ابن
(5/385)
عباس بلفظ: {إن هؤلاء متبر ما هم فيه}
[الأعراف: 139] قال خسران والخسران تفسير التتبير الذي
اشتق منه المتبر. وقال في الأنوار: متبر مكسر مدمر يعني أن
الله يهدم دينهم الذي هم فيه ويحطم أصنامهم ويجعلها
رضاضًا. ({وليتبروا}) [الإسراء: 7] أي (يدمروا {ما علوا})
أي (ما غلبوا). بفتح الغين المعجمة واللام وذكره
استطرادًا.
3406 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي
سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ جَابِرَ بْنَ
عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ: «كُنَّا مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
نَجْنِي الْكَبَاثَ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: عَلَيْكُمْ
بِالأَسْوَدِ مِنْهُ فَإِنَّهُ أَطْيَبُهُ. قَالُوا:
أَكُنْتَ تَرْعَى الْغَنَمَ؟ قَالَ: وَهَلْ مِنْ نَبِيٍّ
إِلاَّ وَقَدْ رَعَاهَا». [الحديث 3406 - طرفه في: 5452].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن
بكير المخزومي مولاهم المصري قال: (حدّثنا الليث) بن سعد
الإمام (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) الزهري (عن
أبي سلمة بن عبد الرَّحمن) بن عوف (أن جابر بن عبد الله)
الأنصاري (-رضي الله عنهما- قال: كنا مع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بمرّ الظهران (نجني الكباث)
بكاف فموحدة مفتوحتين وبعد الألف مثلثة ثمر الأراك النضيج
(وأن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال)
لمن معه من أصحابه:
(عليكم بالأسود منه فإنه أطيبه قالوا: أكنت ترعى الغنم)؟
إذ لا يميز بين أنواعه غالبًا إلا من يلازم رعي الغنم
(قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وهل من نبي)
موسى وغيره (إلا وقد رعاها)؟ ليترقى من سياستها إلى سياسة
من يرسل إليه ويأخذ نفسه بالتواضع وتصفية القلب بالخلوة،
وفيه إشارة إلى أن النبوة لم يضعها الله تعالى في أبناء
الدنيا والمترفين منهم، وإنما جعلها في أهل التواضع قاله
الخطابي ووقع عند النسائي في التفسير بإسناد رجاله ثقات
افتخر أهل الإبل والشاء فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "بعث موسى وهو راعي غنم". ووقع في
رواية النسفيّ ذكر باب من غير ترجمة وحينئذٍ فهو كالفصل من
باب قول الله تعالى {وواعدنا موسى} [الأعراف: 142] قيل
فتكون مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن فيه حالة من حالات
موسى عليه السلام لدخوله في عموم قوله: "ما من نبي إلا
رعاها" لا سيما. ووقع التصريح بذكر موسى عند النسائي كما
سبق.
وقال في فتح الباري: ومناسبة الحديث غير ظاهرة يعني لقوله
{يعكفون على أصنام لهم} والذي يهجس في خاطري أنه كان بين
التفسير المذكور والحديث بياض أخلاه لحديث يدخل في الترجمة
والترجمة تصلح لحديث جابر، ثم وصل كما في نظائره وقيل غير
ذلك مما لا يخلو عن تعسف فالله أعلم.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الأطعمة وكذا مسلم وأخرجه
النسائي في الوليمة.
30 - باب {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} الآيَةَ [البقرة:
67] قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ الْعَوَانُ: النَّصَفُ
بَيْنَ الْبِكْرِ وَالْهَرِمَةِ. {فَاقِعٌ}: صَافٍ. {لاَ
ذَلُولٌ}: لَمْ يُذِلَّهَا الْعَمَلُ. {تُثِيرُ الأَرْضَ}:
لَيْسَتْ بِذَلُولٍ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَعْمَلُ فِي
الْحَرْثِ. {مُسَلَّمَةٌ}: مِنَ الْعُيُوبِ. {لاَ شِيَةَ}
بَيَاضٌ. {صَفْرَاءُ}: إِنْ شِئْتَ سَوْدَاءُ وَيُقَالُ
صَفْرَاءُ كَقَوْلِهِ: {جِمَالاَتٌ صُفْرٌ}.
{فَادَّارَأْتُمْ}: اخْتَلَفْتُمْ.
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({وإذا قال موسى لقومه
إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة}) [البقرة: 67] أول هذه
القصة قوله تعالى {وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها}.
قال في الكشاف، فإن قلت: فما للقصة لم تقص على ترتيبها
وكان حقها أن يقدم ذكر القتيل والضرب ببعض البقرة على
الأمر بذبحها وأن يقال: {وإذ قتلتم نفسًا فادّارأتم فيها}
[البقرة: 72] فقلنا اذبحوا بقرة واضربوه ببعضها. وأجاب:
بأن كل ما قص من قصص بني إسرائيل إنما قص تعديدًا لما وجد
منهم من الجنايات وتقريعًا لهم عليها ولما جدد فيهم من
الآيات العظام، وهاتان القصتان كل واحدة منهما مستقلة بنوع
من التقريع وإن كانتا متصلتين متحدتين، فالأولى: لتقريعهم
على الاستهزاء وترك المسارعة إلى الامتثال وما يتبع ذلك،
والثانية: للتقريع على قتل النفس المحرمة وما تبعه من
الآيات العظيمة، وإنما قدمت قصة الأمر بذبح البقرة على ذكر
القتيل لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة ولذهب الغرض
في تثنية التقريع.
وحاصل القصة: إنه كان في بني إسرائيل شيخ موسر فقتل ابنه
بنو أخيه ليرثوه وطرحوه على باب المدينة، ثم جاؤوا يطالبون
بدمه، فأمرهم الله تعالى أن يذبحوا بقرة ويضربوه ببعضها
ليحيا فيخبر بقاتله فعجبوا من ذلك فقالوا: {أتتخذنا هزوًا
قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين * قالوا ادع لنا ربك
يبين لنا ما هي قال إنه يقول إنها بقرة لا فارض} [البقرة:
67 - 68] يعني لا هرمة ولا بكر يعني ولا صغيرة {عوان بين
ذلك} (قال أبو العالية): رفيع الرياحي فيما وصله آدم بن
أبي إياس في تفسيره (عوان) وفي اليونينية العوان بالتعريف
وفي فرعها بالتنكير أي (النصف) بفتح النون والمهملة (بين
البكر والهرمة). وقال الضحاك عن ابن عباس: بين الكبيرة
والصغيرة وهي أقوى ما يكون
(5/386)
من الدواب والبقر وأحسن ما يكون. ({فاقع})
[البقرة: 69] أي (صاف) لونها وعن ابن عمر كانت صفراء الظلف
وزاد سعيد بن جبير والقرن ({لا ذلول}) أي (لم يذلها العمل)
بلام واحدة مشددة بعد المعجمة المكسورة في الحراثة، ولأبي
ذر عن الكشميهني: لم يذللها بفتح الذال ولامين أولاهما
مشددة والثانية ساكنة {تثير الأرض} أي (ليست بذلول تثير
الأرض) تقلبها للزراعة (ولا تعمل في الحرث) بل هي مكرمة
حسناء صبيحة ({مسلمة}) أي (من العيوب). وآثار العمل. وقال
عطاء الخراساني. مسلمة القوائم والخلق ({لا شية}) [البقرة:
71] (بياض) بسقوط لا قبل بياض في الفرع كأصله وفي بعضها
لاشية لا بياض بإثبات لما فيهما ونصب ما بعدهما وزاد السدي
ولا سواد ولا حمرة ({صفراء}) [البقرة: 99] قال أبو عبيدة
(إن شئت سوداء ويقال صفراء) والمعنى هنا أن الصفرة يمكن
حملها على معناها المشهور، وعلى معنى السواد (كقولها
{جمالات صفر}) [المرسلات: 33] قال مجاهد كالإبل السود
({فادّارأتم}) [البقرة: 72] أي (اختلفتم). وكذا قال مجاهد
فيما رواه ابن أبي حاتم.
وقال عطاء الخراساني: اختصمتم فيها. قال في الأنوار: إذ
المتخاصمان يدفع بعضهم بعضًا قال ابن عباس فيما رواه ابن
أبي حاتم أن أصحاب بقرة بني إسرائيل طلبوها أربعين سنة حتى
وجدوها عند رجل في بقر له وكانت تعجبه قال: فجعلوا يعطونه
بها فيأبى حتى أعطوه ملء مسكها دنانير فذبحوها فضربوه يعني
القتيل بعضو منها فقام تشخب أوداجه دمًا فقالوا له: من
قتلك؟ قال: فلان. قال ابن كثير: ولم يجيء من طريق صحيح عن
معصوم بيان العضو الذي ضربوه به، وعن عكرمة ما كان ثمنها
إلا ثلاثة دنانير رواه عبد الرزاق بإسناد جيد. قال ابن
كثير: والظاهر أنه نقله عن أهل الكتاب وكذا لم يثبت كثرة
ثمنها إلا من نقل من بني إسرائيل،
وقال ابن جريج قال عطاء: لو أخذوا أدنى بقرة كفتهم. قال
ابن جريج قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- "إنما أمروا بأدنى بقرة ولكنهم لما شددوا على
أنفسهم شدد الله تعالى عليهم وأيم الله لو أنهم لم يستثنوا
ما بينت لهم آخر الأبد".
31 - باب وَفَاةِ مُوسَى، وَذِكْرُهُ بَعْدُ
(باب) ذكر (وفاة موسى)، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (وذكره) بالجر عطفًا على المجرور ولأبي ذر:
وذكره بالرفع وسقوط باب (بعد) بضم الدال لقطعه عن الإضافة.
3407 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا عَبْدُ
الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ
أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:
«أُرْسِلَ مَلَكُ الْمَوْتِ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِمَا
السَّلاَمُ - فَلَمَّا جَاءَهُ صَكَّهُ، فَرَجَعَ إِلَى
رَبِّهِ فَقَالَ: أَرْسَلْتَنِي إِلَى عَبْدٍ لاَ يُرِيدُ
الْمَوْتَ. قَالَ: ارْجِعْ إِلَيْهِ فَقُلْ لَهُ يَضَعُ
يَدَهُ عَلَى مَتْنِ ثَوْرٍ، فَلَهُ بِمَا غَطَّى يَدُهُ
بِكُلِّ شَعَرَةٍ سَنَةٌ. قَالَ: أَىْ رَبِّ، ثُمَّ
مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَوْتُ. قَالَ: فَالآنَ. قَالَ:
فَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يُدْنِيَهُ مِنَ الأَرْضِ
الْمُقَدَّسَةِ رَمْيَةً بِحَجَرٍ. قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَوْ كُنْتُ ثَمَّ لأَرَيْتُكُمْ
قَبْرَهُ إِلَى جَانِبِ الطَّرِيقِ تَحْتَ الْكَثِيبِ
الأَحْمَرِ. قَالَ: وَأَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامٍ
حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَحْوَهُ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن موسى) المعروف بخت بفتح الخاء
المعجمة وتشديد الفوقية قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام
الحميري مولاهم الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد
(عن ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه عن أبي هريرة -رضي الله
عنه-) أنه (قال: أرسل ملك الموت) أي أرسل الله ملك الموت
(إلى موسى عليهما السلام)، في صورة آدمي وكان عمر موسى إذ
ذاك مائة وعشرين سنة (فلما جاءه) ظنه آدميًّا حقيقة تسوّر
عليه منزله بغير إذنه ليوقع به مكروهًا فلما تصوّر ذلك
(صكه)، ولأبي الوقت فصكه أي لطمه على عينه التي ركبت في
الصورة البشرية دون الصورة الملكية ففقأها. وعند أحمد أن
ملك الموت كان يأتي الناس عيانًا فأتى موسى فلطمه ففقأ
عينه (فرجع) ملك الموت (إلى ربه فقال): رب (أرسلتني إلى
عبد لا يريد الموت) زاد في باب من أحب الدفن في الأرض
المقدّسة من الجنائز فردّ الله عز وجل عليه عينه، وقيل:
المراد بفقء العين هنا المجاز يعني أن موسى ناظره وحاجه
فغلبه بالحجة يقال فقأ فلان عين فلان إذا غلبه بالحجة وضعف
هذا لقوله فرد الله عليه عينه (قال) له ربه: (ارجع إليه
فقل له يضع يده على متن ثور) بالمثناة الفوقية في الأولى
وبالمثلثة في الثانية أي على ظهر ثور (فله بما غطت) ولأبي
ذر عن الحموي والمستملي بما غطى (يده بكل شعرة سنة. قال)
موسى: (أي رب ثم ماذا)؟ يكون بعد هذه السنين حياة أو موت
(قال) الله عز وجل (ثم) يكون بعدها (الموت. قال) موسى:
(فالآن) يكون الموت.
(قال) أبو هريرة: (فسأل الله) عز وجل موسى (أن يدنيه)
يقربه (من الأرض المقدسة) ليدفن بها لشرفها (رمية بحجر) أي
دنوًا لو رمى رام بحجر من ذلك الموضع الذي هو موضع قبره
لوصل إلى بيت المقدس، وكان موسى إذ ذاك بالتيه وإنما سأل
الإدناء ولم يسأل نفس
(5/387)
بيت المقدس لأنه خاف أن يشتهر قبره عندهم
فيفتنوا به. قال ابن عباس: لو علمت اليهود قبر موسى وهارون
لاتخذوهما إلهين من دون الله. (قال أبو هريرة -رضي الله
عنه-: فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(لو) ولأبي ذر: فلو (كنت ثم) أي هناك (لأريتكم قبره إلى)
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي من وهي التي في الفرع لا غير
(جانب الطريق تحت) وللكشميهني عند (الكثيب الأحمر)
بالمثلثة الرمل المجتمع وليس نصًّا في الإعلام بتعيين
قبره، وقد اشتهر قبره بأريحاء عند كثيب أحمر أنه قبر موسى.
وأريحاء من الأرض المقدسة، وأما ما يرى عند قبره المقدس من
أشباح بالقبة المبنية عليه مختلفة الهيئات والأفعال فالله
أعلم بحقيقتها، لكن أخبرني شيخ الإسلام البرهان بن أبي
شريف: أنه إذا وقع هناك فعل ما لا يجوز تحصل ظلمة واضطراب
حتى يزال ذلك فتنجلي، وقد روي عن وهب بن منبه أن الملائكة
تولوا دفنه والصلاة عليه.
(قال) أي عبد الرزاق بن همام موصولاً بالإسناد المذكور:
(وأخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن همام) هو ابن منبه أنه
(قال: حدّثنا أبو هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- نحوه). أي نحو الحديث المذكور.
3408 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَسَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: «اسْتَبَّ رَجُلٌ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَرَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَقَالَ
الْمُسْلِمُ: وَالَّذِي اصْطَفَى مُحَمَّدًا -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى الْعَالَمِينَ -قَسَمٍ
يُقْسِمُ بِهِ- فَقَالَ الْيَهُودِيُّ: وَالَّذِي اصْطَفَى
مُوسَى عَلَى الْعَالَمِينَ. فَرَفَعَ الْمُسْلِمُ عِنْدَ
ذَلِكَ يَدَهُ فَلَطَمَ الْيَهُودِيَّ، فَذَهَبَ
الْيَهُودِيُّ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرَهُ الَّذِي كَانَ مِنْ أَمْرِهِ
وَأَمْرِ الْمُسْلِمِ، فَقَالَ: لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى
مُوسَى، فَإِنَّ النَّاسَ يَصْعَقُونَ فَأَكُونُ أَوَّلَ
مَنْ يُفِيقُ، فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ
الْعَرْشِ، فَلاَ أَدْرِي أَكَانَ فِيمَنْ صَعِقَ
فَأَفَاقَ قَبْلِي، أَوْ كَانَ مِمَّنِ اسْتَثْنَى
اللَّهُ».
وبه قال: (حدثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرَّحمن) بن
عوف (وسعيد بن المسيب أن أبا هريرة -رضي الله عنه- قال:
استب رجل من المسلمين) هو أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-
(ورجل من اليهود) قيل هو فنحاص بفاء مكسورة ونون ساكنة
وبعد الحاء المهملة ألف فصاد مهملة قاله ابن بشكوال وعزاه
لابن إسحاق، وتعقب بأن الذي ذكره ابن إسحاق لفنحاص مع أبي
بكر الصدّيق في لطمه إياه قصة أخرى في نزول قوله تعالى:
{لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير} [آل عمران:
180] الآية. قال في الفتح: ولم أقف على اسم هذا اليهودي في
هذه القصة (فقال المسلم) أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-:
(والذي اصطفى محمدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
على العالمين قسم يقسم به، فقال اليهودي: والذي اصطفى موسى
على العالمين فرفع المسلم) أبو بكر (عند ذلك) الذي سمعه من
قول اليهودي والذي اصطفى موسى على العالمين الشامل لمحمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وسائر الأنبياء
والمرسلين وغيرهم (يده فلطم اليهودي) عقوبة له على إطلاقه.
وفي رواية عبد الله بن الفضل الآتية قريبًا إن شاء الله
تعالى وقال يقول: والذي اصطفى موسى على البشر والنبي بين
أظهرنا (فذهب اليهودي إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فأخبره الذي كان من أمره وأمر المسلم) وزاد في
رواية إبراهيم بن سعد فدعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- المسلم فسأله عن ذلك فأخبره (فقال) على سبيل
التواضع.
(لا تخيروني على موسى). وفي حديث أبي سعيد عند ... (1) لا
تخيروا بين الأنبياء أي من تلقاء أنفسكم فإن ذلك قد يفضي
إلى العصبية فينتهز الشيطان عند ذلك فرصة فيدعوكم إلى
الإفراط والتفريط فتطرون الفاضل فوق حقه وتبخسون المفضول
حقه فتقعون في مهواة الغي فلا تقدموا على ذلك بآرائكم بل
ما آتاكم الله من البيان (فإن الناس يصعقون) يوم القيامة
(فأكون أوّل من يفيق) بعد النفخة الأخيرة (فإذا موسى باطش)
آخذ (بجانب العرش) بقوّة وفي حديث أبي سعيد آخذ بقائمة من
قوائم العرش (فلا أدري أكان فيمن) ولأبي ذر: ممن (صعق
فأفاق قبلي) ثبت لفظ قبلي في الفرع وسقطت من أصله (وكان
ممن استثنى الله) عز وجل في قوله: {فصعق من في السماوات
ومن في الأرض إلا من شاء الله} [الزمر: 68] فلم يصعق فحوسب
بصعقة الطور فلم يكلف صعقة أخرى.
3409 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ أَبَا
هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى، فَقَالَ
لَهُ مُوسَى: أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَخْرَجَتْكَ
خَطِيئَتُكَ مِنَ الْجَنَّةِ. فَقَالَ لَهُ آدَمُ: أَنْتَ
مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِرِسَالاَتِهِ
وَبِكَلاَمِهِ ثُمَّ تَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قُدِّرَ
عَلَىَّ قَبْلَ أَنْ أُخْلَقَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى مَرَّتَيْنِ». [الحديث 3409 - أطرافه في: 4736،
4738، 6614، 7515].
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين ابن إبراهيم بن عبد
الرَّحمن بن عوف الزهري القرشي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم
(عن حميد بن عبد الرَّحمن أن أبا هريرة) -رضي الله عنه-
(قال قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(احتج) أي تحاج (آدم وموسى) بأشخاصهما أو التقت أرواحهما
_________
(1) بياض في الأصل.
(5/388)
في السماء فوقع التحاج بينهما ويحتمل وقوع
ذلك في حياة موسى (فقال له موسى: أنت آدم الذي أخرجتك
خطيئتك) وهي أكلك من الشجرة التي نهيت عنها بقوله تعالى
{ولا تقربا هذه الشجرة} [البقرة: 35] (من الجنة. فقال له
آدم أنت موسى الذي اصطفاك الله) اختارك على الناس
(برسالاته) يعني بأسفار
التوراة وفيها قصتي (وبكلامه) وبتكليمه إياك (ثم) بالمثلثة
المضمومة والميم المشدّدة ولأبي ذر عن الحموي والمستملي بم
بموحدة مكسورة فميم مخففة (تلومني على أمر قدّر) بضم القاف
وتشديد الدال المكسورة (عليّ قبل أن أخلق) وحكم بأن ذلك
كائن لا محالة لعلمه السابق فهل يمكن أن يصدر مني خلاف علم
الله، فكيف تغفل عن العلم السابق وتذكر الكسب الذي هو
السبب وتنسى الأصل الذي هو القدر وأنت من المصطفين الأخيار
الذين يشاهدون سر الله من وراء الأستار؟ (فقال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فحج) أي غلب (آدم)
بالرفع (موسى) بالحجة في دفع اللوم (مرتين) متعلق يقال،
والغرض من هذا الحديث شهادة آدم لموسى أن الله اصطفاه.
وقد أخرجه أيضًا في التوحيد ومسلم في القدر.
3410 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حُصَيْنُ بْنُ
نُمَيْرٍ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- قَالَ: «خَرَجَ عَلَيْنَا النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا قَالَ: عُرِضَتْ
عَلَىَّ الأُمَمُ، وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ
الأُفُقَ، فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ». [الحديث
3410 - أطرافه في: 5705، 5752، 6472، 6541].
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا حصين بن
نمير) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين ونمير بضم النون
وفتح الميم مصغرين الواسطي (عن حصين بن عبد الرَّحمن) بضم
الحاء مصغرًا أيضًا السلمي الكوفي (عن سعيد بن جبير عن ابن
عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: خرج علينا النبي) ولأبي
ذر: رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومًا
قال) ولأبي ذر: فقال:
(عرضت) بضم العين مبنيًّا للمفعول (عليّ) بتشديد الياء
(الأمم) بالرفع مفعولاً ناب عن الفاعل. وعند الترمذي
والنسائي من رواية عبثر بن القاسم بموحدة ثم مثلثة بوزن
جعفر في روايته عن حصين بن عبد الرَّحمن أن ذلك كان ليلة
الإسراء ولفظه: لما أسري بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- جعل يمرّ بالنبي الحديث. فإن كان هذا محفوظًا
ففيه دلالة لمن ذهب إلى تعدّد الإسراء وأن الذي وقع
بالمدينة غير الذي وقع بمكة لكن الإسراء الواقع وهو
بالمدينة ليس فيه ما وقع بمكة من استفتاح أبواب السماوات
بابًا بابًا إلى غير ذلك. (ورأيت سوادًا كثيرًا سدّ الأفق)
أي ناحية السماء والسواد ضد البياض هو الشخص الذي يرى من
بعيد ووصفه بالكثير إشارة إلى أن المراد الجنس لا الواحد
(فقيل: هذا موسى في قومه). وفي حديث ابن مسعود عند أحمد
حتى مرّ على موسى في كبكبة أي جماعة من بني إسرائيل
فأعجبني فقلت من هؤلاء فقيل هو أخوك موسى معه بنو إسرائيل.
وقد ساق المؤلّف هذا الحديث هنا مختصرًا جدًّا وأخرجه
مطوّلاً في الطب والرقاق، وأخرجه مسلم في الإيمان والترمذي
في الزهد والنسائي في الطب.
32 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَضَرَبَ اللَّهُ
مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} -إِلَى
قَوْلِهِ- {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 11]
(باب قول الله تعالى {وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة
فرعون}) [التحريم: 11]. هذا
مثل ضربه للمؤمنين أنهم لا يضرهم مخالطة الكافرين إذا
كانوا محتاجين إليهم بحال آسية بنت مزاحم امرأة فرعون
ومنزلتها عند الله مع أنها كانت تحت أعدى أعداء الله كما
قال تعالى: {لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون
المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا
منهم تقاة} [آل عمران: 28]. قال قتادة: كان فرعون أغنى أهل
الأرض وأكفرهم فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت
ربها ليعلموا أن الله حكم عدل لا يؤاخذ أحدًا إلا بذنبه.
وروي أنه لما غلب موسى السحرة قالت آسية: آمنت برب موسى
وهارون، فلما تبين لفرعون إسلامها أوتد يديها ورجليها
بأربعة أوتاد وألقاها في الشمس. قال سليمان: فإذا انصرفوا
عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها فقالت: رب ابنِ لي عندك
بيتًا في الجنة، فكشف الله لها عن بيتها في الجنة حتى رأته
من درة فضحكت حين رأت بيتها وفرعون حاضر فقال: ألا تعجبون
من جنونها إنّا نعذبها وهي تضحك ثم أمر بصخرة عظيمة تلقى
عليها فانتزعت روحها ثم ألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه
فلم تجد ألمًا. وقال الحسن وابن كيسان رفع الله امرأة
فرعون إلى الجنة فهي تأكل وتشرب.
(إلى
(5/389)
قوله {وكانت}) أي مريم ابنة عمران ({من
القانتين}) [التحريم: 12]. قال القاضي: من عداد المواظبين
على الطاعة والتذكير للتغليب والإشعار بأن طاعتها لم تقصر
عن طاعة الرجال الكاملين حتى عدت من جملتهم أو من نسلهم
فتكون من ابتدائية وسقط لأبي ذر (للذين آمنوا امرأة فرعون}
وقال إلى قوله: {وكانت من القانتين}.
3411 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا
وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ
مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه-
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «كَمَلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ
يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ آسِيَةُ امْرَأَةُ
فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ، وَإِنَّ فَضْلَ
عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى
سَائِرِ الطَّعَامِ». [الحديث 3411 - أطرافه في: 3433،
3769، 5418].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن جعفر) البيكندي قال: (حدّثنا
وكيع) بفتح الواو وكسر الكاف ابن الجراح بن مليح بن عدي
الرؤاسي بضم الراء وهمزة ثم سين مهملة العابد الكوفي (عن
شعبة) بن الحجاج (عن عمرو بن مرة) بفتح العين ومرة بضم
الميم وتشديد الراء المرادي الأعمى الكوفي (عن مرة) بن
شراحيل المخضرم (الهمداني) كان يصلّي ألف ركعة في كل يوم
(عن أبي موسى) عبد الله بن قيس الأشعري (-رضي الله عنه-)
أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(كمل) بفتح الميم في الفرع وأصله وتضم وتكسر (من الرجال
كثير ولم يكمل) بضم الميم (من النساء إلا آسية امرأة
فرعون) قيل: وكانت ابنة عم فرعون، وقيل من العماليق، وقيل
من بني إسرائيل من سبط موسى. وقال السهيلي: هي عمة موسى
(ومريم بنت عمران) أم عيسى.
وقال في الكواكب ولا يلزم من لفظ الكمال نبوّتها إذ هو
مطلق لتمام الشيء وتناهيه في بابه، فالمراد تناهيهما في
جميع الفضائل التي للنساء وقد نقل الإجماع على عدم النبوة
لهن اهـ.
وهذا معارض بما نقل عن الأشعري: إن من النساء من نبئ وهن
ست: حواء وسارة وأم موسى واسمها يوخاند وقيل أباذخا وقيل
أباذخت وهاجر وآسية ومريم، والضابط عنده أن من جاءه الملك
عن الله بحكم من أمر أو نهي أو بإعلامه شيئًا فهو نبي، وقد
ثبت مجيء الملك لهؤلاء بأمور شتى من ذلك من عند الله
تعالى، ووقع التصريح بالإيحاء لبعضهن في القرآن قال الله
تعالى: {وأوحينا إلى أم موسى أن أرضعيه} [القصص: 7] الآية.
وقال تعالى بعد أن ذكر مريم والأنبياء بعدها {أولئك الذين
أنعم الله عليهم من النبيين} [مريم: 58]. فدخلت في عمومه.
وقال القرطبي: الصحيح أن مريم نبية لأن الله أوحى إليها
بواسطة الملك، وأما آسية فلم يأت ما يدل على نبوتها،
واستدلّ بعضهم لنبوّتها ونبوّة مريم بالحصر في حديث الباب
حيث قال: ولم يكمل من النساء إلا آسية ومريم. قال لأن أكمل
النوع الإنساني الأنبياء ثم الأولياء والصديقون والشهداء،
فلو كانتا غير نبيتين للزم أن لا يكون في النساء ولية ولا
صديقة ولا شهيدة، والواقع أن هذه الصفات في كثير منهن
موجودة فكأنه قال: لم ينبأ من النساء إلاّ فلانة وفلانة،
ولو قال لم تثبت صفة الصديقية أو الولاية أو الشهادة إلا
لفلانة وفلانة لم يصح لوجود ذلك في غيرهن إلا أن يكون
المراد بالحديث كمال غير الأنبياء فلا يتم الدليل على ذلك
لأجل ذلك، واحتج المانعون بقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا
مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} [يوسف:
109] وأجيب: بأنه لا حجة فيه لأن أحدًا لم يدّع فيهن
الرسالة وإنما الكلام في النبوّة فقط.
(وإن فضل عائشة) بنت أبي بكر الصدّيق (على النساء) أي نساء
هذه الأمة (كفضل الثريد) بالمثلثة (على سائر الطعام) قيل:
إنما مثّل بالثريد لأنه أفضل طعام العرب ولأنه ليس في
الشبع أغنى غناء منه، وقيل إنهم كانوا يحملون الثريد فيما
طبخ بلحم، وروي سيد الطعام اللحم فكأنها فضلت على النساء
كفضل اللحم على سائر الأطعمة، والسر فيه أن الثريد مع
اللحم جامع بين الغذاء واللذة والقوة وسهولة التناول وقلة
المؤونة في المضغ وسرعة المرور في المريء فضرب به مثلاً
ليؤذن بأنها أعطيت مع حسن الخلق حسن الخلق وحلاوة المنطق
وفساحة اللهجة وجودة القريحة ورزانة الرأي ورصانة العقل
والتحبب إلى البعل فهي تصلح للتبعل والتحدث والاستئناس بها
والإصغاء إليها، وحسبك أنها عقلت من النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ما لم يعقل غيرها من النساء، وروت ما
لم يرو مثلها من الرجال، ومما يدل على أن الثريد أشهى
الأطعمة عندهم وألذها قول شاعرهم:
إذا ما الخبز تأدمه بلحم ... فذاك أمانة الله الثريد
(5/390)
قاله في فتوح الغيب.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في فضل عائشة وفي الأطعمة ومسلم
في الفضائل والترمذي في الأطعمة والنسائي في المناقب وعشرة
النساء وابن ماجه في الأطعمة.
33 - باب {إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى}
الآيَةَ [القصص: 76] {لَتَنُوءُ}: لَتُثْقِلُ. قَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: {أُولِي الْقُوَّةِ}: لاَ يَرْفَعُهَا
الْعُصْبَةُ مِنَ الرِّجَالِ، يُقَالُ: {الْفَرِحِينَ}:
الْمَرِحِينَ. {وَيْكَأَنَّ اللَّهَ}: مِثْلُ {أَلَمْ تَرَ
أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ
وَيَقْدِرُ} يُوَسِّعُ عَلَيْهِ وَيُضَيِّقُ.
هذا {باب} بالتنوين في قوله تعالى: ({إن قارون كان من قوم
موسى}) [القصص: 76] الآية. قال ابن عباس: ابن عمه لأنه
قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، وموسى بن عمران
بن قاهث. وقال ابن إسحاق: كان قارون عم موسى أخا عمران
وهما ابنا يصهر، ولم يكن في بني إسرائيل أقرأ للتوراة من
قارون وكان يسمى المنوّر لحسن صوته بالتوراة ولكنه نافق
كما نافق السامري فأهلكه الله.
({لتنوء}) في قوله تعالى: {وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه
لتنوء} أي (لتثقل) بضم الفوقية وكسر القاف المفاتيح (قال
ابن عباس): في تفسير قوله تعالى: ({أولي القوة}) أي (لا
يرفعها}) أي المفاتيح ({العصبة}) أي الجماعة الكثيرة ({من
الرجال}) لكثرتها. قال الأعمش عن خيثمة قال: وجدت في
الإنجيل أن مفاتيح كنوز قارون من جلود كلّ مثل الأصبع كل
مفتاح لكنز، فإذا ركب حملت على ستين بغلاً، وقيل كان يعلم
علم الكيمياء علمه له موسى أنزل عليه من السماء وكان ذلك
سبب كثرة مال قارون، لكن قال الزجاج: هذا لا يصح لأن
الكيمياء علم لا حقيقة له. قال القرطبي: ولعل ذلك كان من
قبيل المعجزة (يقال) {الفرحين} [القصص: 76]. أي (المرحين)
وقال مجاهد: يعني الأشرين البطرين الذين لا يشكرون الله
على ما أعطاهم، وقال بعضهم لا يفرح بالدنيا إلا من اطمأن
إليها فأما من يعلم أنه سيفارقها عن قريب لم يفرح وأما
أحسن قول المتنبي:
أشد الغم عندي في سرور ... تيقن عنه صاحبه انتقالا
({ويكأن الله}) قال أبو عبيدة هو (مثل {ألم تر أن الله})
[لقمان: 39]. وقال غيره كلمة مستعملة عند التنبيه للخطأ
وإظهار التندم، فلما قالوا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون
ثم وشاهدوا الخسف به تنبهوا لخطئهم ثم قالوا: كأنه ({يبسط
الرزق لمن يشاء ويقدر}) [الروم: 37]. أي ({يوسع عليه})
بحسب مشيئته وحكمته لا لكرامته عليه (ويضيق). عليه لا
لهوان من يضيق عليه بل لحكمته وله الحجة المبالغة.
وهذا الباب وتاليه ثابت في رواية المستملي والكشميهني فقط.
34 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِلَى مَدْيَنَ
أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف: 85، 84، العنكبوت: 36]
إِلَى أَهْلِ مَدْيَنَ، لأَنَّ مَدْيَنَ بَلَدٌ،
وَمِثْلُهُ {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} وَاسْأَلِ {الْعِيرَ}:
يَعْنِي أَهْلَ الْقَرْيَةِ وَأَهْلَ الْعِيرِ:
{وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا}: لَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ.
يُقَالُ إِذَا لَمْ تُقْضِ حَاجَتَهُ: ظَهَرَتْ حَاجَتِي،
وَجَعَلَتْنِي ظِهْرِيًّا. قَالَ الظِّهْرِيُّ: أَنْ
تَأْخُذَ مَعَكَ دَابَّةً أَوْ وِعَاءً تَسْتَظْهِرُ بِهِ.
{مَكَانَتُهُمْ} وَمَكَانُهُمْ وَاحِدٌ. {يَغْنَوْا}:
يَعِيشُوا {يَأْيَسُ}: يَحْزَنُ. {آسَى}: أَحْزَنُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ {إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ}:
يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ {لَيْكَةُ}:
الأَيْكَةُ. {يَوْمِ الظُّلَّةِ}: إِظْلاَلُ الْغَمَامِ
الْعَذَابَ عَلَيْهِمْ.
(باب قول الله تعالى {وإلى مدين}) قيل أعجمي منع من الصرف
للعجمة والعلمية وهو مدين بن إبراهيم عليه السلام ({أخاهم
شعيبًا}) [هود: 84]. وهو نويب بن مدين بن إبراهيم وقال ابن
إسحاق شعيب بن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم أي أرسلنا
شعيبًا (إلى أهل مدين) يعني على حذف مضاف (لأن مدين بلد)
على بحر القلزم محاذية لتبوك على ست مراحل منها وأنشد
الفراء:
رهبان مدين والذين عهدتهم ... يبكون من حذر العذاب قعودا
لو يسمعون كما سمعت كلامها ... خزوا لعزه ركعًا وسجودا
وهذا عربي فمنعه للعلمية والتأنيث.
(ومثله) في حذف المضاف ({واسأل القرية}) واسال ({العير})
[يوسف: 82]. (يعني أهل القرية وأهل العير) ويجوز أن يراد
بالمكان ساكنوه. وقيل مدين أعجمي منع للعلمية والعجمة،
وكان شعيب يقال له خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه وكانوا
أهل كفر وبخس للمكيال والميزان.
({وراءكم ظهريًّا}) [هود: 92]. بسورة هود أي (لم يتلفتوا
إليه) فالضمير في واتخذتموه يعود على الله، وقيل يعود على
العصيان أي واتخذتم العصيان عونًا على عداوتي فالظهري على
هذا بمعنى المعين المقوي، والظهري هو المنسوب إلى الظهر
والكسر من تغييرات النسب، كقولهم في النسبة إلى الأمس أمسي
بكسر الهمزة وإلى الدهر دهري بضم الدال (يقال: إذا لم يقض
حاجته) ولأبوي الوقت وذر ويقال إذا لم تقض بالفوقية بدل
التحتية (ظهرت) بفتح الظاء المعجمة والهاء وسكون وفتح
الفوقية (حاجتي) أي جعلتها وراء ظهرك (و) يقال أيضًا إذا
لم يلتفت إليه ولا قضى حاجته
(جعلتني ظهريًّا) أي وراء ظهرك. و (قال) أي البخاري
(الظهريّ أن تأخذ معك دابة أو وعاء تستظهر به) أي تتقوى
به.
({مكانتهم} ومكانهم واحد) وفي نسخة بجرهما. قال في الفتح:
هكذا وقع
(5/391)
وإنما هو في قصة شعيب {مكانتكم} في قوله:
{ويا قوم اعملوا على مكانتكم} [هود: 93]. ثم هو قول أبي
عبيدة قال في تفسير يس في قوله: {على مكانتكم} المكان
والمكانة واحد.
({يغنوا}) في قوله تعالى: {كأن لم يغنوا فيها} [هود: 68].
أي لم (يعيشوا) فيها والمغنى الدار والجمع مغان بالغين
المعجمة قاله أبو عبيدة.
({يأيس}) بفتح التحتية بعدها همزة ساكنة فتحتية مفتوحة أي
(يحزن) وأشار إلى قوله تعالى: {فلا تأس على القوم
الكافرين} [المائدة: 26]. ولأبي ذر: تأس بإسقاط التحتية
بعد الهمزة تحزن وبالفوقية بدل التحتية بينهما.
({آسى}) في قوله: {فكيف آسى} [المرسلات: 93]. أي كيف
(أحزن) وأتوجع.
(وقال الحسن) البصري فيما وصله ابن أبي حاتم في قوله:
({إنك لأنت الحليم الرشيد}) [هود: 87]. (يستهزئون به) كما
يقال للبخيل الخسيس لو رآك حاتم لسجد لك، وقال ابن عباس
أرادوا السفيه الغاوي والعرب تصف الشيء بضده فتقول للديغ
سليم وللفلاة مفازة.
(وقال مجاهد: {ليكة}) بلام مفتوحة من غير ألف وصل قبلها
ولا همزة بعدها وهي قراءة نافع وابن كثير وابن عامر هي
(الأيكة) بهمزة وصل وسكون اللام بعدها همزة مفتوحة وهي
قراءة الباقين أي الغيضة فيكونان مترادفين، وقيل الأيكة
غيضة تنبت ناعم الشجر يريد غيضة بقرب مدين يسكنها طائفة،
وقيل شجر ملتف وليكة بغير ألف اسم بلدهم وبقية مباحث ذلك
في كتابي الجامع للقراءات الأربع عشرة ({يوم الظلة}) هو
(إظلال العذاب) ولأبي ذر: إظلال الغمام (عليهم) وروي أنه
أخذهم حر شديد فكانوا يدخلون الأسراب فيجدونها أشد حرًّا
فخرجوا فأظلتهم سحابة وهي الظلة فاجتمعوا تحتها فأمطرت
عليهم نارًا فاحترقوا.
35 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يُونُسَ
لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} -إِلَى قَوْلِهِ-
{فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 139]، -إِلَى
قَوْلِهِ- {وَهوَ مُلِيم} قَالَ مُجَاهِدٌ: مُذْنِبٌ.
المَشْحُونَ: الُموقِر. {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ
المُسَبِّحِينَ} الآيَةَ {فَنَبَذْنَاهُ بِالعَرَاءِ}
بِوَجْهِ الأَرْضِ {وَهوَ سَقِيمٌ وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ
شَجَرَةً مِن يَقْطِين} مِنْ غَيرِ ذَاتِ أَصْل، الدّبّاء
وَنَحْوه
{وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون فآمنوا فمتعناهم إلى
حين} [الصافات: 147].
{ولا تَكُن كصاحبِ الحُوتِ إذْ نادَى وهوَ مكظوم} [القلم:
48]، {كظيم}: وهو مغموم.
وهذا الباب كله ثابت في رواية الكشميهني والمستملي فقط
كالذي قبله.
(باب قول الله تعالى) الباب ساقط في الفرع ثابت في أصله
({وإن يونس لمن المرسلين}) [الصافات: 139]. أي هو من
المرسلين حتى في هذه الحالة (إلى قوله) ({وهو مليم})
[الصافات: 142]. حال.
(قال مجاهد): فيما وصله ابن جرير في تفسير (مليم) أي
(مذنب) بفعله خلاف الأولى وقيل مليم نفسه (المشحون) أي
(الموقر) بفتح القاف المملوء ({فلولا أنه كان من
المسبحين}) [الصافات: 143] (الآية) أي الذاكرين الله
كثيرًا بالتسبيح مدة عمره أو في بطن الحوت وهو قوله {لا
إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87].
للبث في بطنه إلى يوم يبعثون أي حيًّا أو ميّتًا
({فنبذناه}) طرحناه ({بالعراء}) أي (بوجه الأرض) قيل على
جانب دجلة وقيل بأرض اليمن فالله أعلم وأضاف الله تعالى
النبذ إلى نفسه المقدسة مع أنه إنما حصل بفعل الحوت
إيذانًا بأن فعل العبد مخلوق له تعالى ({وهو سقيم})
[الصافات: 145]. مما حصل له. قيل صار بدنه كبدن الطفل حين
يولد. ({وأنبتنا عليه شجرة من يقطين}) [الصافات: 146]. أي
(من غير ذات أصل) بل تنبسط على وجه الأرض ولا تقوم على ساق
(الدباء) بالجر بدلاً أو بيانًا (ونحوه) كالقثاء والبطيخ؛
وقال البغوي: المراد هنا القرع على قول جميع المفسرين
({وأرسلناه إلى مائة ألف}) هم قومه الذين هرب عنهم وهم أهل
نينوى ({أو يزيدون}) في مرأى الناظر أي إذا نظر إليهم قال
هم مائة ألف أو أكثر، والمراد الوصف بالكثرة ({فآمنوا})
فصدقوا ({فمتعناهم إلى حين}) [الصافات: 147]. إلى أجلهم
المسمى وسقط لغير أبي ذر قوله: {وهو مليم} إلى آخر قوله
(فآمنوا ({ولا تكن}) يا محمد ({كصاحب الحوت}) يونس ({إذ
نادى}) في بطن الحوت ({وهو مكظوم}) [القلم: 48]. أي (كظيم)
يعني أن مكظوم بوزن مفعول بمعنى كظيم بوزن فعيل أي (وهو
مغموم) وسقط قوله "وهو" لأبي ذر.
وكانت قصة يونس أن الله تعالى بعثه إلى أهل نينوى وهو من
أرض الموصل فكذبوه فوعدهم بنزول العذاب في وقت معين
ففارقهم إذ لم يتوبوا، فلما دنا الموعد أغامت السماء غيمًا
أسود ذا دخان شديد فهبط حتى غشي مدينتهم فهابوا فطلبوا
يونس فلم يجدوه فأيقنوا صدقة فلبسوا المسوح وبرزوا إلى
الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين كل
والدة وولدها، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج
وأخلصوا التوبة وأظهروا الإيمان وتضرعوا إلى الله فرحمهم
وكشف عنهم، وأما يونس
(5/392)
فإنه لم يعرف الحال فظن أنه كذبهم فغضب من
ذلك وذهب فركب مع قوم في سفينة فوقفت فقال لهم يونس: إن
معكم عبدًا ابق من ربه وإنها لا تسير حتى تلقوه فاقترعوا
فخرجت القرعة عليه فقال: أنا الآبق وزج بنفسه في الماء
فأرسل الله عز وجل من
البحر الأخضر حوتًا فشق البحار حتى جاء فالتقمه وأوحى الله
تعالى إلى ذلك الحوت لا تأكل له لحمًا ولا تهشم له عظمًا
فإنه ليس رزقًا وإنما بطنك له سجن فنادى في الظلمات ظلمة
بطن الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل {أن لا إله إلا أنت
سبحانك إني كنت من الظالمين} [الأنبياء: 87]. وقال عوف
الأعرابيّ: لما صار يونس في بطن الحوت ظن أنه قد مات فحرك
رجليه فتحركتا فسجد مكانه فلما انتهى به إلى أسفل البحر
سمع يونس حسًّا فقال: ما هذا؟ فأوحى الله إليه هذا تسبيح
دواب البحر فسبح فسمعت الملائكة تسبيحه فقالوا: يا ربنا
إنّا سمع صوتًا ضعيفًا بأرض غريبة. قال: ذاك عبدي يونس
عصاني فحبسته في بطن الحوت فشفعوا فيه فأمر الله الحوت
فقذفه في الساحل وهو كهيئة الفرخ الممعوط الذي ليس عليه
ريش. قال أبو هريرة: وهيأ الله له أروية وحشية تأكل من
خشاش الأرض فتتفشخ عليه فترويه من لبنها بكرة وعشية، وأنبت
الله عليه شجرة من يقطين مظلة عليه قيل إنها يبست وبكى
عليها فأوحى الله تعالى إليه أتبكي على شجرة ولا تبكي على
مائة ألف أو يزيدون أردت أن تهلكهم.
3412 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ
سُفْيَانَ قَالَ: حَدَّثَنِي الأَعْمَشُ ح.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) أي ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيي)
بن سعيد القطان (عن سفيان) الثوري أنه (قال: حدثني)
بالإفراد (الأعمش) سليمان (ح).
حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ
الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي
الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ إِنِّي
خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ» زَادَ مُسَدَّدٌ «يُونُسَ بْنِ
مَتَّى». [الحديث 3412 - طرفاه في: 4603، 4804].
(حدّثنا) ولأبي ذر: وحدّثنا (أبو نعيم) الفضل بن دكين قال:
(حدّثنا سفيان) الثوري (عن الأعمش عن أبي وائل) بالهمزة
شقيق بن سلمة (عن عبد الله) يعني ابن مسعود (-رضي الله
عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(لا يقولن أحدكم إني) يريد نفسه الشريفة أو غيره (خير من
يونس زاد مسدد) في رواية (يونس بن متى) بفتح الميم
والفوقية المشددة قيل وخص يونس بالذكر لما يخشى على من سمع
قصته أن يقع في نفسه تنقيص له فبالغ في ذكر فضله لسدّ هذه
الذريعة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير وكذا النسائي.
3413 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَا يَنْبَغِي
لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ
مَتَّى وَنَسَبَهُ إِلَى أَبِيهِ».
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) الحوضي قال: (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج (عن قتادة) بن دعامة (عن أبي العالية) رفيع
الرياحي (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(ما ينبغي لعبد أن يقول إني خير من يونس بن متى ونسبه إلى
أبيه) متى وهو يرد على من قال إن متى اسم أمه وقال ذلك
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-تواضعًا إن كان قاله
بعد أن علم أنه سيد البشر.
3414 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ
عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: «بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ
يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ،
فَقَالَ: لاَ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ،
فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ فَقَامَ فَلَطَمَ
وَجْهَهُ وَقَالَ: تَقُولُ وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى
عَلَى الْبَشَرِ، وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟ فَذَهَبَ إِلَيْهِ
فَقَالَ: أَبَا الْقَاسِمِ، إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا،
فَمَا بَالُ فُلاَنٍ لَطَمَ وَجْهِي؟ فَقَالَ: لِمَ
لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟ فَذَكَرَهُ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى رُئِيَ فِي
وَجْهِهِ، ثُمَّ قَالَ: لاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ
أَنْبِيَاءِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ
فَيَصْعَقُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ
إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى
فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بُعِثَ، فَإِذَا مُوسَى آخِذٌ
بِالْعَرْشِ، فَلاَ أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ
الطُّورِ، أَمْ بُعِثَ قَبْلِي».
3415 - «وَلاَ أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى». [الحديث 3415 - أطرافه في: 3416،
4604، 4631، 4805].
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) بضم الموحدة مصغرًا (عن
الليث) بن سعد الإمام (عن عبد العزيز بن أبي سلمة) بفتح
اللام هو عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون
بكسر الجيم بعدها شين معجمة مضمومة المزني نزيل بغداد (عن
عبد الله بن الفضل) بفتح الفاء وسكون الضاد المعجمة ابن
العباس بن ربيعة بن الحرث بن عبد المطلب الهاشمي المدني
(عن الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) -رضي
الله عنه- أنه (قال: بينما) بالميم (يهودي) لم يعرف اسمه
أو هو فنحاص وضعف (يعرض سلعته) على الناس ليرغبهم في
شرائها (أعطي بها شيئًا) من الثمن بخسًا (كرهه، فقال: لا)
أبيعها بهذا الثمن البخس. (والذي اصطفى موسى على البشر
فسمعه رجل من الأنصار).
أخرج سفيان بن عيينة في جامعه وابن أبي الدنيا في كتاب
البعث من طريقه عن عمرو بن دينار وابن جدعان عن سعيد بن
المسيب قال: كان بين رجل من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبين رجل من اليهود كلام في شيء قال
عمرو بن دينار هو أبو بكر الصديق فقال اليهودي: والذي
اصطفى موسى على البشر وهذا يعكر على قوله في حديث الباب
فسمعه رجل من الأنصار إلا إن كان المراد بالأنصار المعنى
الأعم، فإن أبا بكر من أنصار النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قطعًا بل هو رأس من نصره ومقدمهم
وسابقهم قاله في الفتح.
(فقام فلطم وجهه وقال:
(5/393)
تقول: والذي اصطفى موسى على البشر والنبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-بين أظهرنا) جمع ظهر
ومعناه أنه بينهم على سبيل الاستظهار كأن ظهرًا منهم قدامه
وظهرًا وراءه فهو مكنوف من جانبيه إذ قيل بين ظهرانيهم ومن
جوانبه إذا قيل بين أظهرهم أو لفظ أظهرنا مقحم كما قال
الكرماني (فذهب) اليهودي (إليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فقال: أبا القاسم) أي يا أبا القاسم (إن لي
ذمة وعهدًا) مع المسلمين (فما بال فلان) أبي بكر أخفر ذمتي
ونقض عهدي إذ (لطم وجهي) فدعاه النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقال) عليه الصلاة والسلام له:
(لِمَ لطمت وجهه)؟ مع ما له من الذمة والعهد (فذكره) أي
أمره مع اليهودي (فغضب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-) لذلك (حتى رئي) الغضب (في وجهه) الشريف (ثم
قال: لا تفضلوا بين أنبياء الله) من قِبل أنفسكم أو
تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص أو إلى خصومة ونزاع (فإنه ينفخ في
الصور) النفخة الأولى (فيصعق) أي يموت بها (من في السماوات
ومن في الأرض) ممن كان حيًّا يكون آخر من يموت ملك الموت
(إلا من شاء لله) قيل جبريل وميكائيل وإسرافيل فإنهم
يموتون بعد وقيل حملة العرش (ثم ينفخ فيه) نفخة (أخرى)
للبعث من القبور (فأكون أول من بعث) من قبره بضم الموحدة
وكسر العين المهملة وفتح المثلثة مبنيًا للمفعول (فإذا
موسى آخذ بالعرش) أي بقائمة من قوائمه كما في حديث أبي
سعيد (فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور) لما سأل الرؤية
فلم يصعق (أم بُعث) بضم الموحدة وكسر العين ولأبي ذر عن
الكشميهني يبعث بالمضارع المبني للمجهول (قبلي). والظاهر
أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن عنده علم ذلك حتى أعلمه
الله تعالى فقد أخبر عن نفسه الكريمة أنه أول من ينشق عنه
القبر، (ولا أقول أن أحدًا أفضل من يونس بن متى) قاله
تواضعًا. قال ابن مالك: استعمل أحدًا في الإثبات لمعنى
العموم لأنه في سياق النفي كأنه قيل لا أحد أفضل من يونس
والشيء قد يعطى حكم ما هو في معناه وإن اختلفا في اللفظ
فمن قوله تعالى: {أوَلم يروا أن الله الذي خلق السماوات
والأرض ولم يعي بخلقهن} [الأحقاف: 33].
(بقادر) فأجرى في دخول الباء على الخبر مجرى أوليس الذي
لأنه بمعناه ومن إيقاع أحد في الإيجاب المؤول بالنفي قول
الفرزدق:
ولو سئلت عني نوار وأهلها ... إذن أحد لم تنطق الشفتان
فإن أحدًا وإن وقع مثبتًا لكنه في الحقيقة منفي لأنه مؤخر
معنى كأنه قال إذن لم ينطق منهم أحد.
3416 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ سَمِعْتُ حُمَيْدَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ
يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى».
وبه قال: (حدثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن سعد بن إبراهيم) الزهري
أنه (قال: سمعت حميد بن عبد الرَّحمن عن أبي هريرة) - رضي
الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(لا ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى) قال ابن
أبي جمرة: يريد بذلك نفي التكييف والتحديد على ما قاله ابن
الخطيب لأنه قد وجدت الفضيلة بينهما في عالم الحس، لأن
نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أسري به إلى
فوق السبع الطباق؛ ويونس نزل به إلى قعر البحر، وقد قال
نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أنا سيد ولد
آدم يوم القيامة" فهذه الفضيلة وجدت بالضرورة، فلم يبق أن
يكون قوله عليه الصلاة والسلام "لا تفضلوني على يونس بن
متى" ولا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس إلا بالنسبة
إلى القرب من الله والبعد، فمحمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وإن أسري به إلى فوق السبع الطباق واخترق الحجب
ويونس وإن نزل به لقعر البحر فهما بالنسبة إلى القرب
والبعد من الله على حد واحد انتهى.
36 - باب {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ
حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ}
[لأعراف: 163]: يَتَعَدَّوْنَ، يُجَاوِزُونَ فِي السَّبْتِ
{إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ
شُرَّعًا}. -شَوَارِعَ، إِلَى قَوْلِهِ- {كُونُوا قِرَدَةً
خَاسِئِينَ}.
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({واسألهم}) بهمزة وصل
وسكون السين أي: واسأل
يا محمد اليهود، ولأبي ذر: وسلهم بإسقاط الألف وفتح السين
({عن القرية}) عن خبر أهلها
({التي كانت حاضرة البحر}) أي قريبة منه وهي أيلة قرية بين
مدين والطور على شاطئ البحر
وقيل مدين وقيل طبرية ({إذ يعدون في السبت}) أي (يتعدون)
أي (يتجاوزون) وفي اليونينية
(5/394)
وفرعها يجاوزون بضم التحتية وسقوط الفوقية
وكسر الواو (في السبت) حدود الله بالصيد فيه ({إذ
تأتيهم حيتانهم}) ({[الأعراف: 163]. ظرف ليعدون ({يوم
سبتهم}) يوم تعظيمهم أمر السبت
مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة.
({شرعًا}) أي (شوارع) قاله أبو عبيدة (إلى قولها {كونوا
قردة خاسئين} [البقرة: 165]. ولأبي ذر: ويوم لا يسبتون إلى
قوله: {خاسئين} روى أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ
المعتدين كرهوا مساكنتهم فقسموا القرية بجدار وفيه باب
مطروق، فأصبحوا يومًا ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين
فقالوا: إن لهم لشأنًّا فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم
يعرفوا أنسابهم، ولكن القردة تعرفهم فكان القرد يأتي إلى
نسيبه فيحتك به فيقول الإنسان أنت فلان فيشير برأسه أي نعم
فيقول له: أما حذرتك عقوبة الله أن تصيبك ثم ماتوا بعد
ثلاث. قال ابن عباس: ما طعم مسخ قط ولا عاش فوق ثلاث. وعن
مجاهد: مسخت قلوبهم لا أبدانهم وروى ابن جرير من طريق
العوفي عن ابن عباس صار شبابهم قردة وشيوخهم خنازير وسقط
لأبي ذر: كونوا قردة وزاد بئيس أي شديد فعيل من بؤس يبؤس
بأسًا إذا اشتد.
37 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَآتَيْنَا دَاوُدَ
زَبُورًا} [النساء: 162، الإسراء: 55] {الزُّبُرُ}:
الْكُتُبُ وَاحِدُهَا زَبُورٌ. زَبَرْتُ: كَتَبْتُ.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلاً يَا جِبَالُ
أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10 - 11]: قَالَ مُجَاهِدٌ
سَبِّحِي مَعَهُ. {وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ
* أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ}: الدُّرُوعَ. {وَقَدِّرْ فِي
السَّرْدِ}: الْمَسَامِيرِ وَالْحَلَقِ، وَلاَ يُدِقَّ
الْمِسْمَارَ فَيَتَسَلْسَلَ، وَلاَ تُعَظِّمْ فَيَفْصِمَ.
{أفرِغْ}: أنزِلْ. {بسطةً}: زيادةً وفضلاً. {وَاعْمَلُوا
صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
(باب قول الله تعالى: {وآتينا داود}) هو ابن إيشا بهمزة
مكسورة وتحتية ساكنة بعدها شين معجمة ابن عوبد بعين مهملة
ثم موحدة بينهما واو ساكنة آخره دال مهملة بوزن جعفر بن
باعر بموحدة فألف فعين مهملة مفتوحة فراء ابن سلمون بن
رياب بتحتية آخره موحدة ابن رام بن حضرون بمهملة مفتوحة
فمعجمة ابن فارص بفاء فألف فراء فصاد مهملة ابن يهوذا بن
يعقوب ({زبورًا}) [النساء: 163]. (الزبر) هي (الكتب واحدها
زبور زبرت) أي (كتبت) وهذا ثابت للكشميهني والمستملي، وكان
فيها التحميد والتمجيد والثناء على الله عز وجل. وقال
القرطبي: كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم ولا حلال
ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ.
وكان داود حسن الصوت إذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع عليه
الإنس والجن والوحش والطير لحسن صوته ({ولقد آتينا داود
منا فضلاً}) نبوة وكتابًا أو ملكًا أو جميع ما أوتي من حسن
الصوت بحيث إنه كان إذا سبح تسبح معه الجبال الراسيات الصم
الشامخات وتقف له الطيور السارحات والغاديات والرائحات
وتجاوبه بأنواع اللغات وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به
({يا جبال}) محكي بقول مضمر، ثم إن شئت قدرته مصدرًا ويكون
بدلاً من فضلاً على جهة تفسيره به كأنه قيل آتيناه فضلاً
قولنا يا جبال وإن شئت قدرته فعلاً، وحينئذ لك وجهان إن
شئت جعلته بدلاً من آتيناه معناه آتينا قلنا يا جبال وإن
شئت جعلته مستأنفًا وثبت للمستملي والكشميهني قوله: {ولقد
آتينا داود} الخ .. ({أوّبي معه}).
(قال مجاهد): فيما وصله الفريابي أي (سبحي معه) وعن الضحاك
هو التسبيح بلغة الحبشة.
قال ابن كثير: وفي هذا انظر فإن التأويب في اللغة هو
الترجيع، وقال ابن وهب: نوحي معه وذلك إما بخلق صوت مثل
صوته فيها، أو بحملها إياه على التسبيح إذا تأمل ما فيها،
وقيل: سيري معه حيث سار والتضعيف للتكثير.
({والطير}) نصب في قراءة العامة عطفًا على محل جبال لأنه
منصوب تقديرًا ويجوز الرفع به قرأ روح عطفًا على جبال وفي
هذا من الفخامة والدلالة على عظمة داود وكبرياء سلطانه ما
فيه حيث جعل الجبال والطيور كالعقلاء المنقادين لأمره وليس
التأويب منحصرًا في الطير والجبال،
ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطيور للنفور وكلاهما
تستبعد منه الموافقة فإذا وافقته هذه الأشياء فغيرها أولى،
وروي أنه كان إذا نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها
وعكفت عليه الطيور فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من
ذلك، وقيل: كان إذا تخلل الجبال فسبّح الله جعلت الجبال
تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح، وقيل: كان إذا لحقه فتور
أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطًا له، وثبت للكشميهني
والمستملي سبحي معه.
({وألنا}) عطف على آتينا ({له الحديد}) حتى كان في يده
كالشمع والعجين يعمل منه ما يشاء من غير نار ولا ضرب مطرقة
بل كان يفتله بيده مثل
(5/395)
الخيوط وذلك في قدرة الله يسير وسقط لأبي
ذر: والطير إلى الحديد ({أن اعمل}) بأن اعمل ({سابغات) أي
(الدروع) الكوامل الواسعات الطوال تسحب في الأرض وذكر
الصفة ويعلم منها الموصوف ({وقدر في السرد}) [سبأ: 10،
11]. أي (المسامير والحلق) أي قدر المسامير وحلق الدروع
(ولا تدق) بضم الفوقية وسكر الدال المهملة ولأبي ذر عن
الكشميهني: ولا ترق بالراء بدل الدال (المسمار) أي لا تجعل
مسمار الدرع دقيقًا أو لا تجعله رقيقًا (فيتسلسل) يقال
تسلسل الماء أي جرى، ولأبي ذر عن الكشميهني فيسلس أي فلا
يستمسك (ولا تعظم) بضم أوله وكسر ثالثه مشددًا أي المسمار
(فيفصم) أي يكسر الخلق اجعله على قدر الحاجة، ولأبي ذر عن
الكشميهني فينفصم بزيادة نون ساكنة قبل الفاء، وهذا فيه
نظر لأن دروعه لم تكن مسمرة، ويؤيده قوله {وألنا له
الحديد} والمعنى قدر في السرد أي في نسجها بحيث يتناسب
حلقها. قال قتادة: وهو أول من عملها من الحلق، وإنما كانت
قبل صفائح. وعند ابن أبي حاتم أنه كان يرفع كل يوم درعًا
فيبيعها بستة آلاف درهم ألفين له ولأهله وأربعة آلاف يطعم
بها بني إسرائيل خبز الحواري، وقوله: الزبر إلى هنا ثابت
في رواية المستملي والكشميهني.
({أفرغ}) بفتح الهمزة وكسر الراء والفاء ساكنة يريد قوله:
{ربنا أفرغ علينا صبرًا} [الأعراف: 126]. أي (أي أنزل
{بسطة}) في قوله: {إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة}
[الأعراف: 69]. أي (زيادة وفضلاً) وكلتا الكلمتين في قصة
طالوت وهذا ثابت في رواية أبي ذر عن الكشميهني والوجه
إسقاطه كما لا يخفى. ({واعملوا}) داود وأهله ({صالحًا}) في
الذي أعطاكم من النعم ({إني بما تعملون بصير}) [المؤمنون:
51]. مراقب لكم بصير بأعمالكم وأقوالكم.
3417 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«خُفِّفَ عَلَى دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -
الْقُرْآنُ، فَكَانَ يَأْمُرُ بِدَوَابِّهِ فَتُسْرَجُ،
فَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ قَبْلَ أَنْ تُسْرَجَ دَوَابُّهُ،
وَلاَ يَأْكُلُ إِلاَّ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ». رَوَاهُ
مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ عَنْ صَفْوَانَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ
يَسَارٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا
عبد الرزاق) بن همام قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن
همام) هو ابن منبه (عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال:
(خفف على داود عليه السلام القرآن) قال التوربشتي: أي
الزبور وإنما قال القرآن لأنه قصد به إعجازه من طريق
القراءة، وقال غيره: قرآن كل نبي يطلق على كتابه الذي أوحي
إليه، وقد دل الحديث على أن الله تعالى يطوي الزمان لمن
شاء من عباده كما يطوي المكان لهم. قال النووي: إن بعضهم
كان يقرأ أربع ختمات بالليل وأربعًا بالنهار. ولقد رأيت
أبا الطاهر بالقدس الشريف سنة سبع وستين وثمانمائة وسمعت
عنه إذ ذاك أنه يقرأ فيهما أكثر من عشر ختمات، بل قال لي
شيخ الإسلام البرهان بن أبي شريف أدام الله النفع بعلومه
عنه: أنه كان يقرأ خمس عشرة في اليوم والليلة، وهذا باب لا
سبيل إلى إدراكه إلا بالفيض الرباني، ولأبي ذر عن
الكشميهني: القراءة بدل القرآن. (فكان يأمر بدوابه) التي
كان يركبها ومن معه من أتباعه (فتسرج فيقرأ القرآن) الزبور
(قبل أن تسرج دوابه ولا يأكل إلا من عمل يده) من ثمن ما
كان يعمل من الدروع ولأبوي ذر والوقت: يديه بالتثنية.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير. (رواه) أي حديث الباب
(موسى بن عقبة) فيما وصله المؤلّف في خلق أفعال العباد.
(عن صفوان) بن سليم (عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-).
3418 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا
اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ
بْنَ الْمُسَيَّبِ أَخْبَرَهُ وَأَبَا سَلَمَةَ بْنَ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
-رضي الله عنهما- قَالَ: «أُخْبِرَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنِّي أَقُولُ:
وَاللَّهِ لأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ
مَا عِشْتُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَنْتَ الَّذِي تَقُولُ: وَاللَّهِ
لأَصُومَنَّ النَّهَارَ وَلأَقُومَنَّ اللَّيْلَ مَا
عِشْتُ؟ قُلْتُ: قَدْ قُلْتُهُ. قَالَ: إِنَّكَ لاَ
تَسْتَطِيعُ ذَلِكَ، فَصُمْ وَأَفْطِرْ، وَقُمْ وَنَمْ،
وَصُمْ مِنَ الشَّهْرِ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ فَإِنَّ
الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، وَذَلِكَ مِثْلُ
صِيَامِ الدَّهْرِ. فَقُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ
مِنْ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا
وَأَفْطِرْ يَوْمَيْنِ. قَالَ: قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ
أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَصُمْ يَوْمًا وَأَفْطِرْ
يَوْمًا، وَذَلِكَ صِيَامُ دَاوُدَ وَهْوَ أعَدْلُ
الصِّيَامِ. قُلْتُ: إِنِّي أُطِيقُ أَفْضَلَ مِنْهُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لاَ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ».
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) المصري قال: (حدّثنا
الليث) بن سعد الإمام (عن عقيل) بضم العين وفتح القاف ابن
خالد بن عقيل بفتح العين الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن
مسلم الزهري (أن سعيد بن المسيب) بفتح التحتية المشددة
(أخبره وأبا سلمة) أي وأخبر أبا سلمة (بن عبد الرَّحمن) بن
عوف أيضًا (أن عبد الله بن عمرو) بفتح العين ابن العاص
(رضي الله تعالى
عنهما) أنه (قال: أخبر) بضم الهمزة وكسر الموحدة (رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إني أقول والله
لأصومن النهار ولأقومن الليل ما عشت) أي مدة حياتي (فقال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أنت الذي تقول والله لأصومن النهار ولأقومن الليل
(5/396)
ما عشت) قال عبد الله بن عمرو (قلت قد
قلته) زاد في الصيام من طريق أبي اليمان عن شعيب عن الزهري
بأبي أنت وأمي (قال) عليه الصلاة والسلام: (إنك لا تستطيع
ذلك) الذي قلته من صيام النهار وقيام الليل لحصول المشقّة
(فصُم وأفطر) بهمزة قطع (وقم) متهجدًا في بعض الليل (ونم)
في بعضه (وصم من الشهر ثلاثة أيام) لم يعينها (فإن الحسنة
بعشر أمثالها) تعليل لكونها ثلاثة (وذلك مثل صيام الدهر)
في الثواب.
قال عبد الله: (فقلت إني أطيق أفضل) أكثر (من ذلك) أي صوم
ثلاثة أيام من كل شهر (يا رسول الله. قال) عليه الصلاة
والسلام: (فصم يومًا وأفطر يومين) بقطع الهمزة (قال) عبد
الله: (قلت: إني أطيق أفضل) أكثر (من ذلك. قال) عليه
الصلاة والسلام: (فصم يومًا وافطر يومًا وذلك صيام داود
وهو عدل الصيام) بفتح العين وسكون الدال المهملة، ولأبوي
ذر والوقت والأصيلي وابن عساكر: أعدل الصيام، وفي الصيام:
وهو أفضل الصيام. قال عبد الله: (قلت إني أطيق أفضل) أكثر
(منه يا رسول الله. قال) عليه الصلاة والسلام: (لا أفضل من
ذلك). أي بالنسبة لك وذلك لما علم من حاله ومنتهى قوّته
وإذا ما هو أكثر من ذلك فإنه يضعفه عن الفرائض ويقعد به عن
الحقوق والمصالح، والذي عليه المحققون أن صوم داود أفضل من
صوم الدهر، وتحقيق ذلك قد سبق في كتاب الصوم وليس كل عمل
صالح إذا زاد العبد منه ازداد تقربًا من ربه تعالى، بل رب
عمل صالح إذا زاد منه كثرة ازداد بُعدًا كالصلاة في
الأوقات المكروهة.
3419 - حَدَّثَنَا خَلاَّدُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا
مِسْعَرٌ حَدَّثَنَا حَبِيبُ بْنُ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ
أَبِي الْعَبَّاسِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ
الْعَاصِ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَلَمْ أُنَبَّأْ أَنَّكَ
تَقُومُ اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ؟ فَقُلْتُ:
نَعَمْ. فَقَالَ: فَإِنَّكَ إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ
هَجَمَتِ الْعَيْنُ، وَنَفِهَتِ النَّفْسُ، صُمْ مِنْ
كُلِّ شَهْرٍ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، فَذَلِكَ صَوْمُ
الدَّهْرِ، أَوْ كَصَوْمِ الدَّهْرِ. قُلْتُ: إِنِّي
أَجِدُ بِي -قَالَ مِسْعَرٌ: يَعْنِي قُوَّةً- قَالَ:
فَصُمْ صَوْمَ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلاَمُ -، وَكَانَ
يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ يَوْمًا وَلاَ يَفِرُّ إِذَا
لاَقَى».
وبه قال: (حدّثنا خلاد بن يحيى) بن صفوان السلمي المقري
الكوفي سكن مكة قال: (حدّثنا مسعر) بكسر الميم وسكون السين
وفتح العين المهملتين ابن كدام بكسر أوله وتخفيف ثانيه
الهلالي الكوفي قال: (حدّثنا حبيب بن أبي ثابت) بفتح الحاء
المهملة واسم أبي ثابت قيس الكوفي (عن أبي العباس) السائب
الأعمى الشاعر (عن عبد الله بن عمرو بن العاص) أنه (قال:
قال لي رسول الله) ولأبي ذر: النبي (-صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ألم أنبأ) بضم الهمزة وفتح النون وتشديد الموحدة (أنك
تقوم الليل) كله (وتصوم النهار) ثبت لفظ النهار لأبي ذر عن
الكشميهني (فقلت: نعم). سقط لفظ نعم لأبي ذر (فقال) عليه
الصلاة والسلام: (فإنك إذا فعلت ذلك هجمت العين) بفتح
الهاء والجيم والميم أي غارت وضعف بصرها (ونفهت النفس)
بفتح النون وكسر الفاء تعبت وكلّت (صم من كل شهر ثلاثة
أيام) ثالث عشره وتالييه (فذلك صوم الدهر) لأن الحسنة بعشر
أمثالها (أو كصوم الدهر) شك الراوي. قال عبد الله (قلت:
إني أجد بي. قال مسعر يعني قوة) على ذلك ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي: أجدني بالنون بدل الموحدة (قال) عليه
الصلاة والسلام: (فصم صوم داود عليه السلام كان يصوم يومًا
ويفطر يومًا) وهو أفضل لما فيه من زيادة المشقّة، وأفضل
العبادات أشقها بخلاف صوم الدهر فإن الطبيعة تعتاده فيسهل
عليها. وفي اليونينية: وكان يصوم بإثبات الواو وأسقطها في
الفرع (ولا يفر إذا لاقى) العدوّ لأنه يستعين بيوم فطره
على صومه فلا يضعفه ذلك عن لقاء عدوّه.
38 - باب أَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ
دَاوُدَ، وَأَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ صِيَامُ
دَاوُدَ: كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ
ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ. وَيَصُومُ يَوْمًا
وَيُفْطِرُ يَوْمًا قَالَ عَلِيٌّ: وَهْوَ قَوْلُ
عَائِشَةَ: "مَا أَلْفَاهُ السَّحَرُ عِنْدِي إِلاَّ
نَائِمًا"
هذا (باب) بالتنوين وسقط لفظ باب للمستملي والكشميهني (أحب
الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام
داود) أحب بمعنى المحبوب وهو قليل إذ غالب أفعل التفضيل أن
يكون بمعنى الفاعل ومعنى المحبة هنا إرادة الخير لفاعل ذلك
(كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه) في الوقت الذي ينادي فيه
الرب عز وجل: هل من سائل هل من مستغفر، (وينام سدسه)
الأخير ليستريح من نصب القيام في بقية الليل (ويصوم يومًا
ويفطر يومًا) وإنما صار ذلك أحب إلى الله تعالى من أجل
الأخذ بالرفق على النفوس التي يخشى منها السآمة التي هي
سبب إلى ترك العبادة والله تعالى يحب أن يديم فضله ويوالي
إحسانه قال في الكواكب.
(قال علي): غير منسوب. قال في الفتح: وأظنه ابن عبد الله
المديني شيخ المؤلّف (وهو) أي قوله وينام سدسه (قول عائشة)
-رضي الله
(5/397)
عنها- (ما ألفاه) بالفاء أي ما وجده
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (السحر) رفع على
الفاعلية أي لم يجيء السحر والنبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (عندي إلاّ) وجده (نائمًا) بعد القيام
وهذا كله ثابت عند المستملي والكشميهني.
3420 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ
أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو
قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَحَبُّ الصِّيَامِ إِلَى اللَّهِ
صِيَامُ دَاوُدَ، كَانَ يَصُومُ يَوْمًا وَيُفْطِرُ
يَوْمًا. وَأَحَبُّ الصَّلاَةِ إِلَى اللَّهِ صَلاَةُ
دَاوُدَ، كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ وَيَقُومُ
ثُلُثَهُ وَيَنَامُ سُدُسَهُ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) أبو رجاء الثقفي مولاهم
البلخي قال: (حدّثنا سفيان) بن
عيينة (عن عمرو بن دينار) المكي (عن عمرو بن أوس الثقفي)
الطائفي أنه (سمع عبد الله بن عمرو) يعني ابن العاص (قال:
قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أحب الصيام إلى الله صيام داود) عليه السلام (كان يصوم
يومًا ويفطر يومًا) لما فيه من المشقّة (وأحب الصلاة إلى
الله صلاة داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه)
لأن النوم بعد القيام يريح البدن ويذهب ضرر السهر.
39 - باب {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ
إِنَّهُ أَوَّابٌ} -إِلَى قَوْلِهِ- {وَفَصْلَ الْخِطَابِ}
[ص: 17 - 20] قَالَ مُجَاهِدٌ: الْفَهْمُ فِي الْقَضَاءِ.
{وَلاَ تُشْطِطْ}: لاَ تُسْرِفْ. {وَاهْدِنَا إِلَى
سَوَاءِ الصِّرَاطِ * إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ
وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} -يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ نَعْجَةٌ،
وَيُقَالُ لَهَا أَيْضًا شَاةٌ- {وَلِي نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ
فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} -مِثْلُ {وَكَفَلَهَا
زَكَرِيَّاءُ}: ضَمَّهَا. {وَعَزَّنِي}: غَلَبَنِي، صَارَ
أَعَزَّ مِنِّي، أَعْزَزْتُهُ: جَعَلْتُهُ عَزِيزًا. {فِي
الْخِطَابِ} يُقَالُ الْمُحَاوَرَةُ. {قَالَ لَقَدْ
ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ
كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لِيَبْغِي} -إِلَى قَوْلِهِ-
{إِنَّمَا فَتَنَّاهُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
اخْتَبَرْنَاهُ. وَقَرَأَ عُمَرُ: {فَتَّنَّاهُ}
-بِتَشْدِيدِ التَّاءِ- {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ
رَاكِعًا وَأَنَابَ}.
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({واذكر عبدنا داود ذا
الأيد}) [ص: 17]. ذا القوة في العبادة أو الملك ({إنه
أوّاب}) أي رجّاع إلى مرضاة الله عز وجل (إلى قوله) تعالى
({وفصل الخطاب}) [ص: 20].
(قال مجاهد): فصل الخطاب (الفهم في القضاء) ليفصل بين
الخصوم وهو طلب البيّنة واليمين. قال الإمام فخر الدين:
وهذا بعيد لأن فصل الخطاب عبارة عن كونه قادرًا على
التعبير عن كل ما يخطر بالبال ويحضر في الخيال بحيث لا يخل
شيئًا بشيء، وبحيث يفصل كل مقام عما يخالفه. وهذا معنى عام
يتناول فصل الخصومات ويتناول الدعوة إلى الدين الحق،
ويتناول جميع الأقسام.
وعن بلال بن أبي بردة عن أبيه عن أبي موسى قال: أول من قال
أما بعد؛ داود عليه السلام وهو فصل الخطاب. رواه ابن أبي
حاتم وقال في الأنوار أو هو الكلام الملخص الذي ينبه
المخاطب على المقصود من غير التباس يراعي فيه مظان الفصل
والوصل والعطف والاستئناف والإضمار والإظهار والحذف
والتكرار ونحوها، وإنما سمي به أما بعد لأنه يفصل المقصود
عما سبق مقدمة له من الحمد والصلاة، وقيل هو الخطاب الفصل
الذي ليس فيه اختصار مخل ولا إشباع ممل كما جاء في وصف
كلام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: فصل
لا نزر ولا هذر ولأبي ذر: الفهم بالرفع بتقدير هو.
{هل أتاك نبأ الخصوم} الخصم في الأصل مصدر والمراد به هنا
الجمع بدليل قوله تعالى: {إذ تسوّروا المحراب} إذ دخلوا
على داود (إلى) قوله: ({ولا تشطط}) [ص: 22]. أي (لا تسرف)
وإنما فكه على أحد الجائزين كقوله من يرتدد ولغير أبي ذر
في القضاء ولا تشطط ({واهدنا إلى سواء الصراط}) أي طريق
الصواب ({وإن هذا أخي}) على ديني وطريقتي ({له تسع وتسعون
نعجة} يقال) للمرأة نعجة ويقال لها أيضًا شاة ({ولي نعجة
واحدة}) [ص: 23]. امرأة واحدة والكناية والتمثيل فيما يساق
للتعريض أبلغ في المقصود (فقال: أكفلنيها مثل {وكفلها
زكريا}) [آل عمران: 37]. أي (ضمها) إليه. وقال ابن عباس:
أعطنيها ({وعزني}) أي (غلبني) في مخاطبته إياي محاجة بأن
جاء بحجاج لم أقدر على رده حتى (صار أعز مني) أقوى (أعززته
جعلته عزيزًا {في الخطاب} يقال المحاورة) بالحاء المهملة
({قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه}) بسؤال مصدر مضاف
لمفعوله والفاعل محذوف أي بأن سأل نعجتك وضمن السؤال معنى
الإضافة والانضمام أي بإضافة نعجتك على سبيل السؤال ولذلك
عدي بأل وسقط عند أبي ذر قال لقد الخ .. ({وإن كثيرًا من
الخلطاء}) أي (الشركاء ليبغي) ليتعدّى (إلى قوله {إنما
فتناه} قال ابن عباس) أي (اختبرناه) وهذا وصله ابن جرير.
(وقرأ عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- ({فتناه} بتشديد
التاء {فاستغفر ربه وخرّ راكعًا) أي ساجدًا وهذا يدل على
حصول الركوع وأما السجود فقد ثبت بالأخبار ({وأناب}) [ص:
24] أي رجع إلى الله تعالى بالتوبة.
قال في الأنوار: وأقصى ما في هذه القصة الإشعار بأنه عليه
الصلاة والسلام ودّ أن يكون له ما لغيره وكان له أمثاله
فنبهه الله تعالى بهذه القصة فاستغفر وأناب عنه، وأما ما
روي أنه وقع بصره على امرأة فعشقها إلى آخره مما ذكره بعض
المفسرين والقُصّاص مما أكثره مأخوذ من الإسرائيليات فكذب
وافتراء لم يثبت عن
(5/398)
معصوم، ولذلك قال علي -رضي الله عنه-: من
حدّث بحديث داود على ما يرويه القُصّاص جلدته مائة وستين.
3421 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ حَدَّثَنَا سَهْلُ بْنُ
يُوسُفَ قَالَ: سَمِعْتُ الْعَوَّامَ عَنْ مُجَاهِدٍ
قَالَ: قُلْتُ لاِبْنِ عَبَّاسٍ أَنسْجُدُ فِي ص؟
فَقَرَأَ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ}
-حَتَّى أَتَى- {فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} فَقَالَ ابْنِ
عَبَّاسٍ: "نَبِيُّكُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِمَّنْ أُمِرَ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِمْ".
[الحديث 3421 - أطرافه في: 4632، 4806، 4807].
وبه قال: (حدّثنا محمد) هو ابن سلام قال: (حدّثنا سهل بن
يوسف) الأنماطي البصري (قال: سمعت العوّام) بفتح العين
المهملة وتشديد الواو ابن حوشب الشيباني الواسطي (عن
مجاهد) هو ابن جبر أنه (قال: قلت لابن عباس) -رضي الله
عنهما- (اسجد) بسكون السين بعد الهمزة ولأبي ذر عن الحموي
أنسجد بنون المتكلم ومعه غيره بعد همزة الاستفهام (في)
سورة (ص فقرأ) ابن عباس قوله تعالى: ({ومن ذريته داود
وسليمان}) [الأنعام: 84] (حتى أتى {فبهداهم اقتده}
فقال نبيكم) ولأبوي الوقت وذر: فقال ابن عباس -رضي الله
عنهما- نبيكم (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ممن أمر أن يقتدي بهم). زاد في التفسير فسجدها رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال الكرماني: وفي
هذا الاستدلال مناقشة إذ الرسول مأمور بالاقتداء بهم في
أصول الدين لا في فروعه لأنها هي المتفق عليها بين
الأنبياء إذ في المختلفات لا يمكن اقتداء الرسول بكلهم
وإلاّ يلزم التناقض.
3422 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- قَالَ: "لَيْسَ ص مِنْ
عَزَائِمِ السُّجُودِ، وَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَسْجُدُ فِيهَا".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا
وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد قال: (حدّثنا أيوب)
السختياني (عن عكرمة) مولى ابن عباس (عن ابن عباس -رضي
الله عنهما- قال: ليس) سجدة (ص من عزائم السجود) المأمور
بها (ورأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يسجد فيها) موافقة لداود شكرًا لقبول توبته فهي سجدة شكر
عند الشافعية تسن عند تلاوتها في غير الصلاة.
40 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ
سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 30]
الرَّاجِعُ: الْمُنِيبُ. وَقَوْلُهُ: {هَبْ لِي مُلْكًا
لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35]. وَقَوْلُهُ:
{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ
سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102]، {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ
غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ
عَيْنَ الْقِطْرِ} -أَذَبْنَا لَهُ عَيْنَ الْحَدِيدِ-
{وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ} -إِلَى
قَوْلِهِ- {مِنْ مَحَارِيبَ} [سبأ: 12] قَالَ مُجَاهِدٌ:
بُنْيَانٌ مَا دُونَ الْقُصُورِ {وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ
كَالْجَوَابِ} كَالْحِيَاضِ لِلإِبِلِ، وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: كَالْجَوْبَةِ مِنَ الأَرْضِ {وَقُدُورٍ
رَاسِيَاتٍ} -إِلَى قَوْلِهِ- {الشَّكُورُ * فَلَمَّا
قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى
مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ} -الأَرَضَةُ-
{تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ} عَصَاهُ {فَلَمَّا خَرَّ} -إِلَى
قَوْلِهِ- {الْمُهِينِ} [سبأ: 14]. {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ
ذِكْرِ رَبِّي فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ}
يَمْسَحُ أَعْرَافَ الْخَيْلِ وَعَرَاقِيبَهَا.
{الأَصْفَادُ}: الْوَثَاقُ. . قَالَ مُجَاهِدٌ:
{الصَّافِنَاتُ}: صَفَنَ الْفَرَسُ رَفَعَ إِحْدَى
رِجْلَيْهِ حَتَّى تَكُونَ عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ.
{الْجِيَادُ}: السِّرَاعُ. {جَسَدًا}: شَيْطَانًا.
{رُخَاءً}: طَيِّبَةً. {حَيْثُ أَصَابَ}: حَيْثُ شَاءَ.
{فَامْنُنْ}: أَعْطِ. {بِغَيْرِ حِسَابٍ}: بِغَيْرِ
حَرَجٍ.
(باب قول الله تعالى): سقط لفظ باب لأبي ذر فقول رفع على
ما لا يخفى ({ووهبنا لداود
سليمان نعم العبد}) المخصوص بالمدح محذوف أي نعم العبد
سليمان ({إنه أوّاب}) [ص: 30] أي (الراجع المنيب) وقال
السدي: هو المسبح (وقوله) عز وجل ({هب لي ملكًا لا ينبغي
لأحد من بعدي}) [ص: 35] لتكون معجزة لي مناسبة لحالي أو لا
ينبغي لأحد أن يسلبه مني كما كان من قصة الجسد الذي ألقي
على كرسيه، والصحيح كما قاله ابن كثير أنه سأل ملكًا لا
يكون لأحد من البشر مثله كما هو ظاهر سياق الآية.
(وقوله) تعالى: ({واتبعوا ما تتلوا الشياطين}) أي: واتبعوا
كتب السحر التي تقرؤها أو تتبعها الشياطين من الجن أو
الإنس أو منهما ({على ملك سليمان}) [البقرة: 102] أي عهده
وتتلو حكاية حال ماضية قيل كانوا يسترقون السمع ويضمون إلى
ما سمعوا أكاذيب ويلقولها إلى الكهنة وهم يدونونها ويعلمون
الناس، وفشا ذلك في عهد سليمان عليه السلام حتى قيل: إن
الجن تعلم الغيب، وإن ملك سليمان تم بهذا العلم وإنه يسخر
به الإنس والجن والريح له.
({ولسليمان الريح}) سخرناها له ({غدوّها ورواحها شهر}) أي
جريها بالغداة مسيرة شهر وبالعشي كذلك أي كانت تسير به في
يوم واحد مسيرة شهرين ({وأسلنا له عين القطر}) أي (أذبنا
له عين الحديد) وقال غير واحد القطر النحاس أساله له من
معدنه فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ولذلك سماه عينًا
وكان ذلك باليمن وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله
لسليمان وإنما أسيلت له ثلاثة أيام ({ومن الجن من يعمل بين
يديه بإذن ربه}) مصدر مضاف لفاعله أي بأمره {ومن يزغ} يعدل
{منهم عن أمرنا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان {نذقه من
عذاب السعير} في الآخرة وقيل في الدنيا فقد قيل إن الله
تعالى وكل بهم ملكًا بيده سوط من نار فمن زاغ منهم عن أمر
سليمان ضربه أحرقته {يعملون له ما شاء من محاريب} [سبأ:
13].
(قال مجاهد): فيما وصله عبد بن حميد (بنيان) سور (ما دون
القصور). وقال أبو عبيدة: المحاريب جمع محراب وهو مقدم كل
بيت، وقيل: المساجد وكان مما عملوا له بيت المقدس ابتدأه
داود ورفعه قامة رجل وكمله سليمان فبناه بالرخام الأبيض
والأصفر والأخضر وعمده بأساطين المها الصافي وسقفه بأنواع
الجواهر الثمينة، وفصص حيطانه باللآلي واليواقيت وسائر
الجواهر وبسط أرضه بلواح الفيروزج، فلم يكن يومئذ أبهى ولا
أنور منه كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر واتخذ ذلك
اليوم الذي فرغ منه
(5/399)
عيدًا ولم يزل على ما بناه سليمان حتى غزاه
يختنصر وأخذ ما كان في سقفه وحيطانه مما ذكر إلى دار
مملكته من أرض العراق.
({وتماثيل}) قيل كانوا ينحتون صور الملائكة والأنبياء
والصالحين في المساجد ليرها الناس فيزدادوا عبادة وتحريم
التصاوير شرع مجدد، وقيل إنهم عملوا أسدين في أسفل كرسيه
ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما
وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما رواه ابن أبي حاتم عن كعب
في خبر طويل عجيب في صفة الكرسي. ({وجفان}) أي وصحاف
({كالجواب}) أي ({كالحياض للإبل}) قيل: كان يقعد على
الجفنة الواحدة ألف رجل يأكلون
منها. (وقال ابن عباس) فيما وصله ابن أبي حاتم: (كالجوبة
من الأرض) بفتح الجيم وبعد الواو الساكنة موحدة قال
الجوهري: الجوبة الفرجة في السحاب وفي الجبال وانجابت
السحابة انكشفت والجوبة موضع ينجاب في الحرة. ({وقدور
راسيات}) ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها وكان
يصعد إليها بالسلالم {اعملوا آل داود شكرًا} [سبأ: 13] أي
اعملوا له واعبدوه شكرًا فالنصب على العلة {وقليل من عبادي
الشكور} [سبأ: 13] المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه
قد شغل قلبه ولسانه وجوارحه أكثر أوقاته ومع ذلك لا يوفى
حقه لأن توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرًا آخر، ولذا قيل:
الشكور من يرى عجزه عن الشكر قاله في الأنوار. ({فلما
قضينا عليه الموت}) أي على سليمان ({ما دلهم على موته إلا
دابة الأرض}) هي (الأرضة) التي ({وتأكل منسأته}) أي (عصاه
{فلما خر}) إلى قوله: ({المهين}) [سبأ: 12 - 13 - 14]
ولأبي ذر إلى {في العذاب المهين} وقوله: بإذن ربه إلى آخر
قوله: {من محاريب) ثابت لأبي ذر، وقال غيره بعد قوله: {بين
يديه} إلى قوله: {من محاريب} وثبت لأبي ذر أيضًا قوله:
{اعملوا آل داود} إلى آخر {الشكور} وكان سليمان لما دنا
أجله وأعلم به قال: اللهم عمّ على الجن موتي حتى تعلم
الإنس أن الجن لا يعلمون الغيب، وكانت الجن تخبر الإنس
أنهم يعلمون من الغيب أشياء، ثم دخل محراب بيت المقدس فقام
يصلّي متوكئًا على عصاه فمات قائمًا، وكان للمحراب كوى بين
يديه وخلفه، فكانت الجن تعمل تلك الأعمال الشاقة وينظرون
إلى سليمان فيرونه فيظنونه حيًّا فلا ينكرون خروجه للناس
لطول صلاته حتى أكلت الأرضة عصاه فخر ميتًا ثم فتحوا عنه
وأرادوا أن يعرفوا وقت موته فوضعوا الأرضة على العصا فأكلت
يومًا وليلة مقدارًا فحسبوا ذلك المقدار فوجدوه قد مات منذ
سنة، وكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة وملك وهو ابن ثلاث عشرة
سنة وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ذلك.
({حب الخير}) في قوله تعالى: {إني أحببت حب الخير} [ص: 32]
أي الخيل التي شغلتني ({عن ذكر}) قال قتادة: عن صلاة العصر
حتى غابت الشمس ({فطفق مسحًا}) أي فأخذ يمسح مسحًا
({بالسوق والأعناق}) أي (يمسح أعراف الخيل وعراقيبها).
حبًّا لها، وقيل يمسح بالسيف سوقها وأعناقها يقطعها تقربًا
إلى الله تعالى وطلبًا لرضاه حيث اشتغل بها عن طاعته وهذا
أوجه.
({الأصفاد}) [إبراهيم: 49] في قوله: {وآخرين مقرنين في
الأصفاد} أي (الوثاق) أي وآخرين من الشياطين قرن بعضهم مع
بعض في الأغلال ليكفوا عن الشر.
(وقال مجاهد {الصافنات}) في قوله: {إذ عرض عليه بالعشي
الصافنات} هي من قولهم: (صفن الفرس) بفتح الصاد والفاء
والنون والفرس رفع فاعل أي (رفع إحدى رجليه حتى يكون على
طرف الحافر) وهذا وصله الفريابي، ولكن قال يديه ورجليه،
وصوب القاضي عياض ما عند الفريابي، وقال في الأنوار:
الصافن من الخيل الذي يقوم على طرف سنبك يد أو رجل وهو من
الصفات المحمودة في الخيل ولا يكاد يكون إلا في العراب
الخلص، وقال
الزجاج: هو الذي يقف على إحدى يديه ويقف على طرف سنبكه وقد
يفعل ذلك بإحدى رجليه قال: وهي علامة الفراهة ({الجياد})
[ص: 32 - 33 - 34] قال مجاهد فيما وصله الفريابي (السراع)
في جريها.
({جسدا}) في قوله: {ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه
جسدًا} أي
(5/400)
(شيطانًا) قيل: إن سليمان غزا صيدون من
الجزائر فقتل ملكها وأصاب ابنته جرادة فأحبها وكان لا يرقأ
دمعها حزنًا على أبيها، فأمر الشياطين فمثلوا لها صورته
وكان اتخاذ التماثيل جائزًا حينئذٍ فكانت تغدو إليها وتروح
مع ولائدها يسجدن لها كعادتهن في ملكه، فأخبره آصف بسجودهن
فكسر الصورة وضرب المرأة وخرج إلى الفلاة باكيًا متضرّعًا،
وكانت له أم ولد تسمى أمينة إذا دخل للطهارة أعطاها خاتمه
وكان ملكه فيه فأعطاها يومًا فتمثل لها بصورته شيطان اسمه
صخر وأخذ الخاتم فتختم به وجلس على كرسيه فاجتمع عليه
الخلق ونفذ حكمه في كل شيء إلا في نسائه، وغيّر سليمان عن
هيئته فأتاها يطلب الخاتم فطردته فعرف أن الخطيئة قد
أدركته فكان يدور على البيوت يتكلّف حتى مضى أربعون يومًا
عدد ما عبدت الصورة في بيته، فطار الشيطان وقذف الخاتم في
البحر فابتلعته سمكة فوقعت في يده فبقر بطنها فوجد الخاتم
فتختم به وخر ساجدًا لله تعالى وعاد إليه ملكه والخطيئة
تغافله عن حال أهله والسجود للصورة بغير علمه لا يضرّه.
وعن مجاهد فيما رواه الفريابي {وألقينا على كرسيه جسدًا}
[ص: 34] قال: شيطانًا يقال له آصف. قال له سليمان: كيف
تفتن الناس؟ قال: أرني خاتمك أخبرك فأعطاه فقذفه آصف في
البحر فساخ فذهب سليمان وقعد آصف على كرسيه ومنعه الله
نساء سليمان فلم يقربهن الخبر بنحو ما سبق. قال ابن كثير:
وهذا كله من الإسرائيليات، وقال البيضاوي أظهر ما روي في
ذلك مرفوعًا أنه قال: "لأطوفن الليلة على تسعين امرأة"
الحديث ويأتي قريبًا إن شاء الله تعالى بعون الله.
({رخاء}) في قوله تعالى: {فسخرنا له الريح تجري بأمره
رخاء} [ص: 36] أي (طيبة) ولأبي ذر عن الكشميهني طيبًا
بالتذكير ({حيث أصاب}) أي (حيث شاء {فامنن}) أي (اعط) من
شئت أو أمسك أي امنع من شئت ({بغير حساب}) [ص: 39] أي
(بغير حرج).
3423 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ
عِفْرِيتًا مِنَ الْجِنِّ تَفَلَّتَ الْبَارِحَةَ
لِيَقْطَعَ عَلَىَّ صَلاَتِي، فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ
مِنْهُ، فَأَخَذْتُهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبُطَهُ عَلَى
سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تَنْظُرُوا
إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ دَعْوَةَ أَخِي
سُلَيْمَانَ: رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لاَ يَنْبَغِي
لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فَرَدَدْتُهُ خَاسِئًا». عِفْرِيتٌ:
مُتَمَرِّدٌ مِنْ إِنْسٍ أَوْ جَانٍّ، مِثْلُ زِبْنِيَةٍ
جَمَاعَتُهَا الزَّبَانِيَةُ.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (محمد بن
بشار) بالموحدة والمعجمة المشدّدة ابن عثمان العبدي البصري
بندار قال: (حدّثنا محمد بن جعفر) غندر قال: (حدّثنا شعبة)
بن الحجاج
(عن محمد بن زياد) القرشي الجمحي مولى آل عثمان بن مظعون
(عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه قال:
(إن عفريتًا) بكسر العين (من الجن تفلّت) أي تعرض لي فلتة
لم بغتة (البارحة) أي الليلة الخالية الزائلة (ليقطع عليّ
صلاتي) بتشديد ياء عليّ (فأمكنني الله منه فأخذته فأردت أن
أربطه) بضم الموحدة (على) كذا في اليونينية وفي فرعها إلى
(سارية من سواري المسجد) أسطوانة من أساطينه (حتى تنظروا
إليه كلكم فذكرت دعوة أخي) في النبوة (سليمان رب هب لي
ملكًا) التلاوة {رب اغفر لي وهب لي ملكًا لا ينبغي لأحد من
بعدي} [ص: 35] من البشر (فرددته) حال كونه (خاسئًا)
مطرودًا.
({عفريت}) [النمل: 13] أي (متمرد من إنس أو جان) وإطلاقه
على الإنس على سبيل الاستعارة ولاشتهار هذه الاستعارة قال
بعضهم: العفريت من الرجال الخبيث المنكر، وقال ابن عباس:
العفريت الداهية، وقال الربيع الغليظ، وقال الفراء:
التشديد وصف بكونه من الجن في قوله تعالى {قال عفريت من
الجن} [النمل: 39] تمييزًا له. وقيل إن الشيطان أقوى من
الجن وإن المردة أقوى من الشياطين وإن العفريت أقوى منهما،
وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو السمال بالسين المهملة
واللام، ورويت عن أبي بكر الصديق عفرية بكسر العين وسكون
الفاء وكسر الراء وفتح التحتية بعدها تاء التأنيث المنقلبة
هاء وقفًا، وأنشدوا على ذلك قول ذي الرمة:
كأنه كوكب في اثر عفرية ... مسوّم في سواد الليل منقضب
وهذا (مثل زبنية) بكسر الزاي وسكون الموحدة وكسر النون
وفتح التحتية آخرها هاء تأنيث (جماعتها الزبانية). ولأبي
ذر: جماعته زبانية، والزبانية في الأرض اسم أصحاب الشرط
مشتق من الزبن وهو الدفع وسمي بذلك الملائكة لدفعهم أهل
النار فيها. وقال بعضهم: وأحدها زبانيّ، وقيل
(5/401)
زابن، وقيل زبنيت على مثال عفريت. قال:
والعرب لا تكاد تعرف هذا وتجعله من الجمع الذي لا واحد له
كأبابيل وعباديد.
3424 - حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا
مُغِيرَةُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ
عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «قَالَ
سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ: لأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى
سَبْعِينَ امْرَأَةً تَحْمِلُ كُلُّ امْرَأَةٍ فَارِسًا
يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ:
إِنْ شَاءَ اللَّهُ. فَلَمْ يَقُلْ، وَلَمْ تَحْمِلْ
شَيْئًا إِلاَّ وَاحِدًا سَاقِطًا إِحْدَى شِقَّيْهِ».
فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
«لَوْ قَالَهَا لَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ». قَالَ
شُعَيْبٌ وَابْنُ أَبِي الزِّنَادِ: «تِسْعِينَ». وَهْوَ
أَصَحُّ.
وبه قال: (حدّثنا خالد بن مخلد) بفتح الميم وسكون الخاء
البجلي الكوفي قال: (حدّثنا مغيرة بن عبد الرَّحمن) بن عبد
الله الحزاميّ بالحاء المهملة والزاي وليس بالمخزومي (عن
أبي الزناد) عبد الله بن ذكوان القرشي (عن الأعرج) عبد
الرَّحمن بن هرمز (عن أبي هريرة) - رضي الله عنه- (عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(قال سليمان بن داود) عليهما السلام (لأطوفن) أي والله
لأطوفن (الليلة على سبعين امرأة) لأجامعهن وفي رواية
الحموي والمستملي كما في الفتح لأطيفن بالياء بدل الواو
لغتان (تحمل كل امرأة) منهن (فارسًا يجاهد في سبيل الله)
عز وجل (فقال له صاحبه): أي الملك قل (إن شاء الله) فنسي
(فلم يقل) بلسانه إن شاء الله فطاف بهن (ولم) بالواو في
اليونينية وفي فرعها فلم (تحمل) منهن امرأة (شيئًا إلا)
واحدة فولدت (واحدًا ساقطًا إحدى) بكسر الهمزة وسكون
الحاء، ولأبي ذر والأصيلي: أحد (شقيه) وفي رواية أيوب عن
ابن سيرين ولدت شق غلام، وفي رواية هشام عنه نصف إنسان،
وحكى النقاش في تفسيره أن الشق المذكور هو الجسد الذي على
كرسيه وكلام البيضاوي يشير إلى تصويبه.
(فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لو
قالها) أي إن شاء الله (لجاهدوا في سبيل الله) زاد شعيب
فرسانًا أجمعون. (قال شعيب): هو ابن أبي حمزة كما ذكره في
الأيمان والنذور (وابن أبي الزناد) عبد الرَّحمن بن عبد
الله بن ذكوان (تسعين) بتقديم المثناة الفوقية على السين
(وهو أصح) من سبعين بتقديم السين على الموحدة.
وعند النسائي وابن حبان من طريق هشام بن عروة عن أبي
الزناد مائة، وفي التوحيد من رواية أيوب عن ابن سيرين عن
أبي هريرة ستون امرأة، وفي الجهاد من طريق جعفر بن ربيعة
عن الأعرج مائة امرأة أو تسع وتسعون على الشك، وجمع بين
ذلك بأن الستين كن حرائر وما زاد على ذلك سراري أو بالعكس
أو السبعون للمبالغة، وأما التسعون والمائة فكن دون المائة
وفوق التسعين، فمن قال تسعين ألغى الكسر، ومن قال مائة
جبره، ومن ثم وقع التردد في رواية جعفر.
وعند ابن عساكر من طريق ابن الجوزي عن مقاتل عن أبي الزناد
عن أبيه عبد الرَّحمن عن أبي هريرة أن سليمان عليه الصلاة
والسلام كان له أربعمائة امرأة وستمائة سرية فقال يومًا:
لأطوفن الليلة على ألف امرأة فتحمل كل واحدة منهن بفارس
يجاهد في سبيل الله تعالى ولم يستثن فطاف عليهن فلم تحمل
منهن إلا امرأة جاءت بشق إنسان الحديث.
وعند الحاكم من طريق أبي معشر عن محمد بن كعب قال: بلغنا
أنه كان لسليمان ألف بيت من قوارير على الخشب فيها
ثلاثمائة صريحة وسبعمائة سرية.
3425 - حَدَّثَنا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ
التَّيْمِيُّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله
عنه- قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ
وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قُلْتُ:
ثُمَّ أَىٌّ؟ قَالَ: ثُمَّ الْمَسْجِدُ الأَقْصَى قُلْتُ:
كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ. ثُمَّ قَالَ:
حَيْثُمَا أَدْرَكَتْكَ الصَّلاَةُ فَصَلِّ وَالأَرْضُ
لَكَ مَسْجِدٌ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر حدّثنا (عمر بن حفص)
بضم العين الكوفي قال:
(حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن
مهران قال: (حدّثنا إبراهيم التيمي عن أبيه) يزيد بن شريك
(عن أبي ذر) الغفاري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: قلت يا
رسول الله أي مسجد وضع أوّل)؟ بفتح اللام غير منصرف وبضمها
ضمة بناء لقطعها عن الإضافة، وفي باب {واتخذ الله إبراهيم
خليلاً} [النساء: 125] أي مسجد وضع في الأرض أول (قال)
عليه الصلاة والسلام:
(المسجد الحرام) قال أبو ذر (قلت: ثم أي)؟ أي ثم أي مسجد
وضع بعد المسجد الحرام (قال) عليه الصلاة والسلام: (ثم
المسجد الأقصى) وسقط ثم في الفرع وثبت في أصله قال أبو ذر
(قلت) يا رسول الله (كم كان بينهما؟ قال) عليه الصلاة
والسلام: (أربعون) أي سنة (ثم قال) عليه الصلاة والسلام:
(حيثما أدركتك الصلاة) أي وقتها وفيه أن إيقاع الصلاة إذا
حضرت لا يتوقف على المكان الأفضل (فصلّ والأرض لك مسجد) لا
يختص السجود فيها بموضع دون
(5/402)
آخر، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده
مرفوعًا "وكان من قبلي إنما يصلون في كنائسهم".
3426 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «مَثَلِي وَمَثَلُ النَّاسِ كَمَثَلِ
رَجُلٍ اسْتَوْقَدَ نَارًا، فَجَعَلَ الْفَرَاشُ وَهَذِهِ
الدَّوَابُّ تَقَعُ فِي النَّارِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (عن عبد الرَّحمن) بن هرمز الأعرج أنه (حدثه أنه
سمع أبا هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(مثلي ومثل الناس) بفتح الميم فيهما أي مثل دعائي الناس
إلى الإسلام المنقذ لهم من النار ومثل ما زينت لهم أنفسهم
من التمادي على الباطل (كمثل رجل استوقد نارًا) وهي جوهر
لطيف مضيء حار محرق (فجعل الفراش) بفتح الفاء دواب مثل
البعوض واحدتها فراشة (وهذه الدواب) جمع دابة كالبرغش
والبعوض والجندب ونحوها (تقع في النار) خبر جعل لأنها من
أفعال المقاربة تعمل عمل كان، والفراشة هي التي تطير
وتتهافت في السراج بسبب ضعف بصرها فهي بسبب ذلك تطلب ضوء
النهار، فإذا رأت السراج بالليل ظنت أنها في بيت مظلم وأن
السراج كوة في البيت المظلم إلى الموضع المضيء ولا تزال
تطلب الضوء وترمي بنفسها إلى الكوّة فإذا جاوزتها ورأت
الظلام ظنت أنها لم تصب الكوّة ولم تقصدها على السداد
فتعود إليها مرة أخرى حتى تحترق.
قال الغزالي: ولعلك تظن أن هذا لنقصانها وجهلها فاعلم أن
جهل الإنسان أعظم من جهلها بل صورة الإنسان في الإكباب على
الشهوات في التهافت فلا يزال يرمي بنفسه فيها إلى أن ينغمس
فيها ويهلك هلاكًا مؤبدًا فليت جهل الآدمي كان كجهل الفراش
فإنها باغترارها بظاهر الضوء إن احترقت تخلصت في الحال
والآدمي يبقى في النار أبد الآباد، ولذلك كان رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول "إنكم تتهافتون
في النار تهافت الفراش وأنا آخذ بحجزكم" وقال تعالى: {يوم
يكون الناس كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] فشبههم بالفراش
في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والتطاير إلى الداعي من
كل جانب كما يتطاير الفراش.
3427 - «وَقَالَ: كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا
ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ
إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ صَاحِبَتُهَا إِنَّمَا ذَهَبَ
بِابْنِكِ، وَقَالَتِ الأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ
بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ
لِلْكُبْرَى, فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ
فَأَخْبَرَتَاهُ فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِّينِ
أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لاَ
تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ، هُوَ ابْنُهَا، فَقَضَى بِهِ
لِلصُّغْرَى. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنْ
سَمِعْتُ بِالسِّكِّينِ إِلاَّ يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا
نَقُولُ إِلاَّ الْمُدْيَةُ». [الحديث 3427 - طرفه في:
6769].
(وقال) أي أبو هريرة فهو موقوف، أو النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو مرفوع كما عند الطبراني والنسائي
(كانت امرأتان) لم تسميا (معهما ابناهما) لم يسميا أيضًا
(جاء الذئب بابن إحداهما فقالت صاحبتها إنما ذهب) الذئب
(بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك فتحاكما) كذا في
الفرع وللكشميهني كما في الفتح وهي التي في اليونينية
فتحاكمتا (إلى داود) عليه الصلاة والسلام (فقضى به) بالولد
الباقي (للكبرى) للمرأة الكبرى منهما لكونه كان في يدها
وعجزت الأخرى عن إقامة البيّنة (فخرجتا على سليمان بن داود
فأخبرتاه) بالقصة (فقال): قاصدًا استشكاف الأمر (ائتوني
بالسكين) بكسر السين (أشقه بينهما. فقالت الصغرى) منهما
له: (لا تفعل) ذلك (يرحمك الله هو ابنها فقضى) سليمان (به
للصغرى) لما رآه من جزعها الدال على عظيم شفقتها ولم يلتفت
إلى إقرارها أنه ابن الكبرى لأنه علم أنها آثرت حياته
بخلاف الكبرى.
(قال أبو هريرة): بالإسناد السابق (والله إن) بكسر الهمزة
وسكون النون كلمة نفي أي ما (سمعت بالسكين إلا يومئذٍ وما
كنا نقول إلا المدية) بضم الميم، ويجوز فتحها وكسرها. وقيل
للسكين مدية لأنها تقطع مدى حياة الحيوان والسكين لأنها
تسكن حركته.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الفرائض والنسائي في القضاء.
41 - باب قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا
لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} -إِلَى
قَوْلِهِ- {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ
فَخُورٍ} [لقمان: 12 - 18]. {وَلاَ تُصَعِّرْ}:
الإِعْرَاضُ بِالْوَجْهِ.
(باب قول الله تعالى): وسقط لفظ باب لأبي ذر فقول الله رفع
على ما لا يخفى ({ولقد آتينا لقمان الحكمة}) وهو أعجمي منع
الصرف للتعريف والعجمة الشخصية أو عربي مشتق من اللفم
وهو حينئذٍ مرتجل لأنه لم يسبق له وضع في النكرات ومنعه
حينئذٍ للتعريف وزيادة الألف والنون. قال ابن إسحاق لقمان
هو ابن باعوراء بن ناحور بن تارح وهو آزر، كان ابن أخت
أيوب، وقال الواقدي: كان قاضيًا في بني إسرائيل ولم يكن
نبيًا خلافًا لعكرمة واتفق على أنه كان حكيمًا.
روي أنه كان نائمًا فنودي. هل لك أن يجعلك الله خليفة في
الأرض فتحكم بين الناس بالحق؟ فأجاب الصوت وقال: إن خيرني
(5/403)
ربي قبلت العافية ولم أقبل البلاء، وإن عزم
عليّ فسمعًا وطاعة فإني أعلم إن فعل بي ذلك أعانني وعصمني،
فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟ قال: لأن
الحاكم بأشدّ المنازل وأكدرها يغشاه الظلم من كل مكان، ومن
يكون في الدنيا ذليلاً خير من أن يكون شريفًا، فتعجبت
الملائكة من حسن منطقه فنام نومة فأعطي الحكمة فانتبه وهو
يتكلم بها وكان عبدًا حبشيًّا. والحكمة كما في الأنوار
استكمال النفس الإنسانية باقتباس العلوم النظرية واكتساب
الملكة التامة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقته.
({أن اشكر لله}) [لقمان: 12] أن المفسرة فسر إيتاء الحكمة
بقوله أن اشكر لله ثم بين أن الشكر لا ينفع إلا الشاكر
(إلى قولها {إن الله لا يحب كل مختال}) في مشيه ({فخور})
[لقمان: 18] على الناس بنفسه، وسقط لأبي ذر (أن اشكر) الخ
وقال: إلى قوله: {عظيم} يعني {إن الشرك لظلم عظيم} ولأبي
الوقت: {يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خردل} إلى قوله
{فخور} [لقمان: 16] الضمير في أنها للخطيئة، وذلك أن ابن
لقمان قال لأبيه: يا أبت إن عملت الخطيئة حيث لا يراني أحد
كيف يعلمها الله تعالى، فقال: {يا بني} الآية. والفاء في
فتكن لإفادة الاجتماع يعني إن كانت صغيرة ومع صغرها تكون
خفية في موضع حريز كالصخرة لا تخفى على الله لأن الفاء
للاتصال بالتعقيب ({ولا تصعر}) بتشديد العين وهي لغة تميم،
وقرأ نافع وأبو عمرو وحمزة والكسائي بالألف والتخفيف وهي
لغة الحجاز وهما بمعنى (الإعراض بالوجه). كما يفعله
المتكبرون وسقط لأبي ذر (ولا تصعر) الخ.
3428 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ
عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ
عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتِ: {الَّذِينَ
آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ}
[الأنعام: 82] قَالَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَيُّنَا لَمْ يَلْبِسْ إِيمَانَهُ
بِظُلْمٍ؟ فَنَزَلَتْ: {لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13].
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك الطيالسي
قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الأعمش) سليمان بن مهران
(عن إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن قيس النخعي (عن عبد
الله) بن مسعود -رضي الله عنه- أنه (قال: لما نزلت) كذا في
اليونينية ({الذين آمنوا ولم يلبسوا}) عطف على الصلة فلا
محل لها أو الواو للحال والجملة بعدها في موضع نصب على
الحال أي آمنوا غير ملبسين أي مخلطين ({إيمانهم بظلم})
بشرك فلم ينافقوا (قال أصحاب
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أينا لم يلبس
إيمانه بظلم)؟ فنزلت ({لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم})
[لقمان: 13] لأنه وضع النفس الشريفة المكرمة في عبادة
الخسيس فوضع العبادة في غير موضعها وقوله (بظلم) وهو من
العام الذي أريد به الخاص وهو الشرك.
3429 - حَدَّثَنا إِسْحَاقُ أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ
يُونُسَ حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ
عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنه- قَالَ:
"لَمَّا نَزَلَتِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا
إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شَقَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ
فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّنَا لاَ يَظْلِمُ
نَفْسَهُ؟ قَالَ: لَيْسَ ذَلِكَ، إِنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ،
أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهْوَ
يَعِظُهُ {يَا بُنَىَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ
الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إسحاق) هو
ابن راهويه قال: (أخبرنا عيسى بن يونس) بن أبي إسحاق
السبيعي بفتح السين المهملة وكسر الموحدة قال: (حدّثنا
الأعمش) سليمان (عن إبراهيم) النخعي (عن علقمة) بن قيس (عن
عبد الله) بن مسعود (رضي الله عنه) أنه (قال: لما نزلت
{الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم}) [الأنعام: 82] (شق
ذلك على المسلمين) لأنهم حملوا الظلم على العموم فيشمل
جميع أنواعه لأن قوله بظلم نكرة في سياق النفي (فقالوا: يا
رسول الله أينا) وفي بعض النسخ فأينا (لا يظلم نفسه؟ قال)
عليه الصلاة والسلام:
(ليس ذلك) كما تظنون (إنما هو الشرك ألم تسمعوا ما قال
لقمان لابنه) باران بالموحدة والراء أو أنعم (وهو يعظه)
جملة حالية ({يا بني لا تشرك بالله}) قيل كان كافرًا فلم
يزل به حتى أسلم ({إن الشرك لظلم عظيم}) [لقمان: 13] وليس
الإيمان أن تصدق بوجود الصانع الحكيم وتخلط بهذا التصديق
الإشراك.
42 - باب {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ
الْقَرْيَةِ} الآيَةَ [يس: 13] {فَعَزَّزْنَا}: قَالَ
مُجَاهِدٌ: شَدَّدْنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
{طَائِرُكُمْ} مَصَائِبُكُمْ
هذا (باب) بالتنوين في قوله تعالى: ({واضرب لهم مثلاً
أصحاب القرية} الآية) والقرية إنطاكية أي: ومثل لهم من
قولهم هذه الأشياء على ضرب واحد أي مثال واحد وهو يتعدى
إلى مفعولين لتضمنه معنى الجعل وهما مثلاً أصحاب القرية
على حذف مضاف أي اجعل لهم مثل أصحاب القرية مثلاً فترك
المثل وأقيم أصحاب مقامه في الإعراب {إذ جاءها المرسلون}
أي رسل عيسى وقوله {إذ أرسلنا إليهم اثنين} [يس: 13 - 14]
قال: وهب: يحنا وبولس وقيل غيرهما وقوله فكذبوهما
({فعزّزنا} [يس: 14] (قال مجاهد) فيما وصله الفريابي أي
(شددنا) بتشديد الدال الأولى قوينا بثالث وهو شمعون وقال
كعب: الرسولان صادق وصدوق والثالث شلوم.
(وقال ابن عباس) فيما وصله ابن أبي حاتم
(5/404)
({طائركم}) [يس: 19] أي (مصائبكم). ولم
يذكر المؤلّف حديثًا مرفوعًا هنا، وعلى الباب وتاليه الخ
علامة السقوط فقط في الفرع وأصله من غير عزو.
43 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذِكْرُ رَحْمَةِ
رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّاءَ * إِذْ نَادَى رَبَّهُ
نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ
مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا} -إِلَى قَوْلِهِ-
{لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا} [مريم: 3 - 7].
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِثْلاً. يُقَالُ {رَضِيًّا}:
مَرْضِيًّا. {عُتِيًّا}: عَصِيًّا، عَتَا يَعْتُو. {قَالَ
رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} -إِلَى قَوْلِهِ-
{ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيًّا} وَيُقَالُ صَحِيحًا {فَخَرَجَ
عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ
أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا}. {فَأَوْحَى}:
فَأَشَارَ {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} -إِلَى
قَوْلِهِ- {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}. {حَفِيًّا}:
لَطِيفًا. {عَاقِرًا}: الذَّكَرُ وَالأُنْثَى سَوَاءٌ.
(باب قول الله تعالى: {ذكر رحمة ربك}) خبر سابقه أن أوّل
بالسورة أو القرآن فإنه مشتمل عليه أو خبر محذوف أي هذا
المتلو ذكر رحمة ربك ({عبده}) مفعول الرحمة أو الذكر على
أن الرحمة فاعله على الاتساع ({زكريا}) بدل منه أو عطف
بيان له ({إذ نادى ربه نداء خفيًّا}) قال في الكشاف: لأن
الجهر والإخفاء عند الله سيان فكان الإخفاء أولى لأنه أبعد
من الرياء، وأدخل في الإخلاص. وعن الحسن نداء لا رياء فيه.
قال في فتوح الغيب: فيكون الإخفاء ملزومًا للإخلاص الذي هو
عدم الرياء لأن الإخفاء أبعد من الرياء ولما عبر عن عدم
الرياء بالخفاء علم أن لا اعتبار للظاهر وأن الأمر يدور
على الإخلاص حتى أنه لو نادى جهرًا بلا رياء دخل أو نادى
سرًا بلا إخلاص خرج منه، وقيل إنما نادى خفيًا لئلا يلام
على طلب الولد في إبان الكبر أو لأن ضعف الهرم أخفى صوته
واختل في سنه فقيل ستون وخمس وستون وسبعون وخمس وسبعون
وخمس وثمانون، ثم فسر النداء بقوله: ({قال رب إني وهن
العظم مني}) ضعف بدني، وإنما كنى عنه بقوله (وهن العظم
مني) وخص العظم بالذكر لأنه كالأساس للبدن وكالعمود للبيت،
وإذا وقع الخلل في الأس وسقط العمود تداعى الخلل في البناء
وسقط البيت، فالكناية مبنية على التشبيه أو أن العظم أصلب
ما في الإنسان فيلزم من وهنه وهن جميع الأعضاء بالطريق
الأولى فالكناية غير مسبوقة بالتشبيه قاله الطيبي.
({واشتعل الرأس شيبًا}) [مريم: 2 - 3 - 4] شبه الشيب في
بياضه وإنارته بشواظ النار وانتشاره وفشوّه في الشعر
باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة ثم أسند الاشتعال إلى
الرأس الذي هو محل الشيب مبالغة وجعله تمييزًا إيضاحًا
للمقصود (إلى قوله {لم نجعل له من قبل سميًا}) [مريم: 7]
وسقط قوله إذ نادى إلى آخر قوله شيبًا لأبي ذر.
(قال ابن عباس): فيما وصله ابن أبي حاتم من طريق أبي طلحة
أي (مثلاً) أو شبهًا لأنه لم يهم بمعصية قط ولأنه كان
سيدًا وحصورًا وعنه أيضًا عنده من طريق عكرمة قال لم يسم
باسم يحيى قبله غيره، وأخرجه الحاكم في المستدرك فيه فضيلة
ليحيى إذ تولى الله تعالى تسميته باسم لم يسبق إليه ولم
يكل ذلك إلى أبويه (يقالا {رضيا}) في قوله تعالى {واجعله
رب رضيا} [مريم: 6] أي (مرضيّا) أي ترضاه أنت وعبادك.
({عتيًا}) [مريم: 8] في قوله تعالى: {وقد بلغت من الكبر
عتيًا} عصيا) بفتح العين وكسر الصاد المهملتين قالوا،
والصواب بالسين. وروى الطبراني بإسناد صحيح عن ابن عباس
قال: ما أدري أكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقرأ عتيًا أو عسيًا. يقال عتا الشيخ يعتو
عتيًا، وعسا يعسو عسيًا إذا انتهى سنه وكبر وشيخ عات وعاس
إذا صار إلى حالة اليبس والجفاف (عتا) كذا ولأبي ذر وأبي
الوقت وهو ساقط لغيرهما (يعتو). مثل غزا يغزو فهو واوي.
({قال رب أنّى}) من أين ({يكون}) أو كيف يكون {لي غلام
وكانت امرأتي عاقرًا} لا تلد {وقد بلغت من الكبر عتيًا}
(إلى قوله {ثلاث ليال سويًّا}) [مريم: 10] أي متتابعات
(ويقال صحيحًا) ما بك من خرس ولا بكم، وهذا أصح لأنه لم
يقدر أن يتكلم مع الناس إلا بذكر الله وإنما ذكر الليالي
هنا والأيام في آل عمران للدلالة على أنه استمر عليه المنع
ثلاثة أيام ولياليهن وسقط قوله: {وكانت امرأتي) إلى آخر
(عتيًّا) لغير أبي ذر ({فخرج}) زكريا ({على قومه من
المحراب}) من المصلّى ({فأوحى إليهم أن سبحوا}) صلوا
ونزهوا ربكم ({بكرة وعشيًّا}) [مريم: 11] طرفي النهار.
وقوله: ({فأوحى}) أي (فأشار}) ببعض الجوارح بعين أو حاجب
أو يد، وقيل كانت بالمسبحة لقوله إلا رمزًا وقيل كتب لهم
على الأرض ({يا يحيى}) فيه حذف تقديره ووهبنا له يحيى
وقلنا له يا يحيى ({خذ الكتاب}) هو التوراة ({بقوّة}) بجدّ
(إلى قوله {ويوم يبعث حيًّا}) قال الطيبي: وسلام معطوف من
حيث المعنى على قوله {وآتيناه الحكم صبيًا} وجعلناه برًّا
بوالديه، وسلمناه في تلك المواطن الموحشة فعدل إلى الجملة
الاسمية لإرادة الثبات والدوام وهي
(5/405)
كالخاتمة وهي كالخاتمة للكلام السابق.
({حفيا}) في قوله تعالى عن إبراهيم {إنه كان بي حفيًّا}
[مريم: 47] أي (لطيفًا) وقال في الأنوار أي بليغًا في البر
والإلطاف ({عاقرًا} الذكر والأنثى سواء). فيقال للرجل الذي
لا يولد له عاقر كالمرأة التي لا تلد.
3430 - حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا
هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسِ
بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ: «أَنَّ
نَبِيَّ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ: ثُمَّ صَعِدَ
حَتَّى أَتَى السَّمَاءَ الثَّانِيَةَ، فَاسْتَفْتَحَ،
قِيلَ مَنْ هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ
مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ أُرْسِلَ
إِلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَلَمَّا خَلَصْتُ فَإِذَا
يَحْيَى وَعِيسَى وَهُمَا ابْنَا خَالَةٍ. قَالَ: هَذَا
يَحْيَى وَعِيسَى، فَسَلِّمْ عَلَيْهِمَا، فَسَلَّمْتُ،
فَرَدَّا، ثُمَّ قَالاَ: مَرْحَبًا بِالأَخِ الصَّالِحِ
وَالنَّبِيِّ الصَّالِحِ».
وبه قال: (حدّثنا هدبة بن خالد) بضم الهاء وبعد الدال
المهملة الساكنة موحدة مفتوحة ابن الأسود القيسي قال:
(حدّثنا همام بن يحيى) بن دينار العوذي بفتح العين المهملة
وسكون الواو وكسر الذال المعجمة قال: (حدّثنا قتادة) بن
دعامة (عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة) الأنصاري (أن نبي
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حدثهم عن ليلة
أسري به) ثبت به لأبي ذرّ، والحديث المسوق بتمامه بنحوه في
باب ذكر الملائكة إلى أن قال:
(ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح قيل من هذا؟ قال:
جبريل قال: ومن معك؟ قال: محمد قيل وقد أرسل إليه) للعروج
به (قال) جبريل: (نعم فلما خلصت) من الصعود إلى السماء
الثانية ووصلت إليها (فإذا يحيى وعيسى وهما ابنا خالة)
وكان اسم أم مريم حنة بمهملة ونون مشدّدة بنت فاقود واسم
أختها والدة يحيى إيشاع، وعند ابن أبي حاتم من طريق عبد
الرَّحمن بن القاسم سمعت مالك بن أنس يقول: بلغني أن عيسى
ابن مريم ويحيى بن زكريا كان حملهما جميعًا فبلغني أن أم
يحيى قالت لمريم إني أرى ما في بطني يسجد لما في بطنك. قال
مالك: أراه لفضل عيسى على يحيى (قال) جبريل (هذا يحيى
وعيسى فسلم عليهما فسلمت) عليهما (فردا) علي السلام (ثم
قالا) لي: (مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح) أي أصبت
رحبًا لا ضيقًا والصلاح اسم جامع لسائر الخلال المحمودة.
44 - باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرْ فِي
الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا
مَكَانًا شَرْقِيًّا} [مريم: 16]. {إِذْ قَالَتِ
الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ
بِكَلِمَةٍ} [آل عمران: 45]. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى
آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى
الْعَالَمِينَ} -إِلَى قَوْلِهِ- {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ
بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 33]. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
{وَآلُ عِمْرَانَ}. الْمُؤْمِنُونَ مِنْ آلِ إِبْرَاهِيمَ
وَآلِ عِمْرَانَ وَآلِ يَاسِينَ وَآلِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. يَقُولُ: {إِنَّ أَوْلَى
النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [آل
عمران: 68] وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَيُقَالُ: {آلُ
يَعْقُوبَ} أَهْلُ يَعْقُوبَ. فَإِذَا صَغَّرُوا "آلَ"
ثُمَّ رَدُّوهُ إِلَى الأَصْلِ قَالُوا: أُهَيْلٌ.
(باب قول الله تعالى): سقط التبويب لأبي ذر وقال قول
بالرفع ({واذكر في الكتاب}) في القرآن ({مريم}) أي قصة
مريم ({إذ انتبذت}) إذ اعتزلت ({من أهلها مكانًا شرقيًا})
[مريم: 16] في شرقي بيت المقدس أو شرقي دارها ({إذ}) ولأبي
ذر وإذ ({قالت الملائكة يا مريم إن الله يبشرك بكلمة}) [آل
عمران: 45] عيسى لوجوده بها وذلك قوله كن وهو من إطلاق
السبب على المسبب ({إن الله اصطفى آدم ونوحًا}) اسم أعجمي
لا اشتقاق له عند المحققين وهو منصرف وإن كان فيه العلمية
والمعجمة خفة بنائه لكونه ثلاثيًا ساكن الوسط ({وآل
إبراهيم}) إسماعيل إسحاق وأولادهما ومحمد -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من آل إبراهيم ({وآل عمران}). موسى
وهارون ابني عمران يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق
بن إبراهيم فالمراد موسى وهارون وأتباعهما من الأنبياء أو
المراد عمران بن قامان والد مريم وكان من نسل سليمان بن
داود عليهما السلام قالوا وكان بين العمرانين ألف
وثمانمائة سنة ({على العالمين}) [آل عمران: 33] متعلق
باصطفى، واستدلّ القائلون بأن البشر أفضل من الملائكة بهذه
الآية. (إلى قوله) تعالى ({يرزق من يشاء بغير حساب}) [آل
عمران: 37] أي بغير تقدير لكثرته أو بغير استحقاق فضلاً
منه.
(قال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله ابن أبي حاتم:
({وآل عمران}) كآل إبراهيم عام أريد به الخصوص فالمراد
المؤمنون من آل إبراهيم (المؤمنون من آل إبراهيم و)
المؤمنون من (آل عمران و) المؤمنون من (آل ياسين) في قوله
تعالى: (وإن الياس و) المؤمنون من (آل محمد -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول) أي ابن عباس ({إن أولى
الناس بإبراهيم الذين اتبعوه}) [آل عمران: 68] (وهم
المؤمنون) فمن خالفه ليس من آله (ويقال {آل يعقوب}) أصله
(أهل يعقوب) فقلبت الهاء همزة (فإذا) ولأبوي الوقت وذر إذا
(صغروا آل ثم ردوه إلى الأصل) لأن التصغير يرد الأشياء إلى
أصلها (قالوا: أهيل). وسقط لأبو ذر والوقت لفظ: ثم.
3431 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ قَالَ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله
عنه-: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: مَا مِنْ بَنِي آدَمَ مَوْلُودٌ
إِلاَّ يَمَسُّهُ الشَّيْطَانُ حِينَ يُولَدُ
فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ، غَيْرَ
مَرْيَمَ وَابْنِهَا. ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ:
{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ
الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 36}.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه (قال:
حدثني) بالإفراد (سعيد بن المسيب قال: قال أبو هريرة -رضي
الله عنه- سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد) وفي باب
صفة إبليس كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين
يولد (فيستهل
(5/406)
صارخًا) نصب على المصدر كقولك فم قيامًا
(من مس الشيطان) وهذا ابتداء تسليطه (غير مريم وابنها)
عيسى صلوات الله وسلامه عليه زاد في باب صفة إبليس ذهب
يطعن فطعن في الحجاب أي المشيمة التي فيها الولد قال
القرطبي فحفظ الله تعالى مريم وابنها منه ببركة دعوة أمها
حنة كما أشير إلى ذلك بقوله (ثم يقول أبو هريرة) مما هو
موقوف عليه ({وإني أعيذها بك وذريتها}) ولم يكن لها ذرية
غير عيسى ({من الشيطان الرجيم}) [آل عمران: 36] المطرود.
وهذا الحديث أخرج نحوه في باب صفة إبليس وأخرجه مسلم
أيضًا.
45 - باب {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى
نِسَاءِ الْعَالَمِينَ * يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ
وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ * ذَلِكَ مِنْ
أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ
لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ
يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ
يَخْتَصِمُونَ} [آل عمران: 42] يُقَالُ: {يَكْفُلُ}:
يَضُمُّ. كَفَلَهَا: ضَمَّهَا، مُخَفَّفَةً, لَيْسَ مِنْ
كَفَالَةِ الدُّيُونِ وَشِبْهِهَا.
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة وهو كالفصل من سابقه
({وإذ قالت الملائكة}) جبريل وحده لدلالة ما في سورة مريم
على أن المتكلم معها جبريل حيث قال الله: {فأرسلنا إليها
روحنا} [مريم: 17] ({يا مريم إن الله اصطفاك}) بأن قبلك
للنذيرة ولم يقبل أنثى غيرك وتفريغك للعبادة وإغنائك برزق
الجنة عن الكسب ({وطهّرك}) مما يستقذر من النساء
({واصطفاك}) بالهداية وإرسال جبريل إليك وتخصيصك بالكرامات
السنية كالولد من غير أب وتبرئتك مما قذفتك اليهود بإنطاق
الطفل ({على نساء العالمين}) وقد دلت هذه الآية على أنها
أفضل من سائر النساء ({يا مريم اقنتي لربك}) اعبديه
{واسجدي} صلي، وتسمية الشيء بأشرف أجزائه مجاز مشهور
({واركعي مع الراكعين}) لم يقل مع الراكعات لأن الاقتداء
بالرجل حال الاختفاء من الرجال أفضل من الاقتداء بالنساء،
وقدم السجود على الركوع إما لكونه كذلك في شريعتهم أو أن
الواو لا تقتضي ترتيبًا ({ذلك}) مبتدأ أي ما ذكر من القصص
خبره ({من أنباء الغيب}) وجملة ({نوحيه إليك}) مستأنفة
والضمير في نوحيه إليك عائد على الغيب أي الأمر والشأن أنا
نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونظهرك على قصص من تقدمك مع عدم
مدارستك لأهل العلم والإخبار، ولذلك أتى بالمضارع في نوحيه
({وما كنت لديهم}) بحضرتهم ({إذ يلقون أقلامهم}) أي سهامهم
للاقتراع أو أقلامهم التي كانوا يكتبون بها التوراة تبركًا
ينظرون أو يقولون ({أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ
يختصمون}) [آل عمران: 42 - 43 - 44] تنافسًا في كفالتها
إما لأن أباها عمران كان رئيسًا لهم، أو لأن أمها حررتها
لعبادة الله تعالى ولخدمة بيته، وسقط لأبي ذر من قوله
{وطهرك} إلى آخر قوله {أقلامهم} وقال بعد (اصطفاك) الآية
إلى قوله (أيهم).
(يقال: {يكفل}) أي (يضم كفلها) أي (ضمها) زكريا إلى نفسه
حال كون كفلها (مخففة) وهي قراءة نافع وأبي عمرو وابن كثير
وابن عامر، وقراءة الكوفيين بالتشديد أي كفلها الله تعالى
ولا مخالفة بين القراءتين لأن الله تعالى لما كفلها إياه
كفلها (ليس من كفالة الدّيون) بالجمع وفي نسخة الدين
(وشبهها). قال في اللباب: الكفالة الضمان في الأصل ثم
يستعار للضم والأخذ يقال منه كفل يكفل وكفل كعلم يعلم
كفالة، وكفلاً فهو كافل وكفيل والكافل هو الذي ينفق على
إنسان ويهتم بإصلاح حاله.
3432 - حَدَّثَنِي أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا
النَّضْرُ عَنْ هِشَامٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي قَالَ:
سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جَعْفَرٍ قَالَ: سَمِعْتُ
عَلِيًّا -رضي الله عنه- يَقُولُ: «سَمِعْتُ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: خَيْرُ
نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ، وَخَيْرُ
نِسَائِهَا خَدِيجَةُ». [الحديث 3432 - طرفه في: 3815].
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (أحمد بن أبي
رجاء) بالجيم عبد الله بن أيوب الحنفي الهروي قال: (حدّثنا
النضر) بالضاد المعجمة ابن شميل (عن هشام) أنه (قال:
أخبرني) بالإفراد (أبي) عروة بن الزبير بن العوّام (قال:
سمعت عبد الله بن جعفر) بن أبي طالب (قال: سمعت عليًا -رضي
الله عنه- يقول: سمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(خير نسائها) أي خير نساء أهل الدنيا في زمانها (مريم ابنة
عمران) وليس المراد أن مريم خير نسائها لأنه يصير كقولهم:
يوسف أحسن إخوته، وقد صرحوا بمنعه لأن أفعل التفضيل إذ
أضيف وقصد به الزيادة على من أضيف له اشترط أن يكون منهم
مثل: زيد أفضل الناس فإن لم يكن منهم فلا يجوز كما في يوسف
أحسن إخوته لخروجه عنهم بإضافتهم إليه.
وقال الزركشي: في قوله هنا خير فيه وجهان. أحدهما: أن يجعل
خير بمعنى الخير لا على جهة التفضيل، وثانيهما: وهو الأصح
أن الضمير راجع إلى الدنيا كما في زيد أفضل أهل الدنيا،
ويجوز
(5/407)
أن يكون على تقدير مضاف محذوف أي خير نساء
زمانها مريم فيعود الضمير على مريم، وإنما جاز أن يرجع
الضمير للدنيا وإن لم يجر لها ذكر لأنه يفسره الحال
والمشاهدة. وقد رواه النسائي من حديث ابن عباس بلفظ: أفضل
نساء أهل الجنة، وحينئذٍ فالمعنى خير نساء أهل الجنة مريم،
وفي رواية خير نساء العالمين وهو كقوله تعالى: {واصطفاك
على نساء العالمين} [آل عمران: 42] وظاهره: أنها أفضل من
جميع النساء، وقول من قال على عالمي زمانها ترك للظاهر.
قال القرطبي: خص الله تعالى مريم بما لم يؤته أحدًا من
النساء، وذلك أن روح القدس كلمها وطهرها ونفخ في درعها،
وليس هذا لأحد من النساء وصدقت بكلمات ربها ولم تسأل آية
عندما بشرت كما سأل زكريا عليه الصلاة والسلام عن الآية،
ولذلك سماها الله تعالى صديقة فقال: {وصدقت بكلمات ربها
وكتبه وكانت من القانتين} [التحريم: 12] فشهد لها
بالصديقية والتصديق والقنوت، ويحتمل أن يكون المراد كما
قال الكرماني نساء بني إسرائيل أو من فيه مضمرة كما قال
القاضي عياض:
(وخير نسائها) أي هذه الأمة (خديجة) أم المؤمنين. وهذا
الحديث أخرجه أيضًا في فضل خديجة ومسلم في الفضائل
والترمذي والنسائي في المناقب.
46 - باب قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ
يَا مَرْيَمُ} -إِلَى قَوْلِهِ- {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ
كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 45 - 48]. {يُبَشِّرُكِ}:
وَيَبْشُرُكِ وَاحِدٌ. {وَجِيهًا}: شَرِيفًا. وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ الْمَسِيحُ: الصِّدِّيقُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ
الْكَهْلُ: الْحَلِيمُ. وَالأَكْمَهُ: مَنْ يُبْصِرُ
بِالنَّهَارِ وَلاَ يُبْصِرُ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: مَنْ يُولَدُ أَعْمَى.
(باب قول الله تعالى): سقط التبويب لأبي ذر فقول رفع وهو
واضح ({إذ قالت الملائكة}) جبريل {يا مريم إن الله يبشرك
بكلمة منه} [آل عمران: 45] هو عيسى لوجوده بها وهو قول كن
فهو من باب إطلاق السبب على المسبب {اسمه المسيح} مبتدأ أو
خبر {عيسى} بدل أو عطف بيان {ابن مريم} صفة لعيسى على أن
عيسى خبر مبتدأ محذوف، وإنما قيل ابن مريم والخطاب لها
تنبيهًا على أنه يولد من غير أب إذ الأولاد تنسب إلى
الآباء ولا تنسب إلى الأم إلا إذا فقد الأب (إلى قوله)
تعالى: {كن فيكون} عقب الأمر من غير مهلة، وثبت قولها {إن
الله يبشرك} إلى آخر (فيكون) لأبي ذر، وقال غيره بعد ({يا
مريم}) إلى قوله ({فإنما يقول له كن فيكون}) [مريم: 35]
({يبشرك}) مشددة (وبشرك) مخففة (واحد) في المعنى والثاني
قراءة حمزة والكسائي والآخر قراءة الباقين. ({وجيهًا}) أي
(شريفًا) في الدنيا بالنبوة وفي الآخرة بالشفاعة.
(وقال إبراهيم) النخعي فيما وصله سفيان الثوري في تفسيره:
(المسيح الصدّيق) بكسر الصاد والدال المهملتين المشددتين،
وقال غيره هو فعيل بمعنى فاعل فحوّل مبالغة فقيل لأنه يمسح
الأرض بالسياحة أي يقطعها، وقيل لأنه يمسح ذا العاهة
فيبرأ، وقيل بمعنى مفعول لأنه مسح بالبركة واللام فيه
للغلبة.
(وقال مجاهد) فيما وصله الفريابي (الكهل) في قوله تعالى
{ويكلم الناس في المهد وكهلاً} [آل عمران: 46] هو (الحليم)
باللام وهذا فيه شيء، فقد قال أبو جعفر النحاس: إنه لا
يعرف في اللغة. وقال في اللباب: الكهل من بلغ سن الكهولة،
وأوّلها ثلاثون أو اثنتان وثلاثون أو ثلاث وثلاثون أو
أربعون وآخرها خمسون أو ستون، ثم يدخل في سن الشيخوخة،
فلعل مجاهدًا فسّره بلازمه الغالب لأن الكهل غالبًا يكون
فيه وقار وسكينة، وهل كهلاً نسق على وجيهًا أو حال من
الضمير في يكلم أي يكلمهم حال كونه طفلاً وكهلاً كلام
الأنبياء من غير تفاوت؟ قال في الفتح: وعلى الأول يتجه
تفسير مجاهد.
(والأكمه) في قوله {وأبرئ الأكمه} [آل عمران: 49] (من يبصر
بالنهار ولا يبصر بالليل) قاله مجاهد فيما وصله الفريابي
وهو قول شاذ، والمعروف أن ذلك هو الأعشى. (وقال غيره): غير
مجاهد الأكمه (من يولد أعمى) وهذا قول الجمهور، وقال ابن
عباس: من ولد مطموس العين، وقال عكرمة: الأعمش.
3433 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرِو
بْنِ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيَّ
يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه-
قَالَ: «قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: فَضْلُ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ
الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ. كَمَلَ مِنَ
الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ
إِلاَّ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ
فِرْعَوْنَ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن عمرو بن مرة) المرادي الأعمى أنه (قال: سمعت
مرة) بن شراحيل (الهمداني) بفتح الهاء وسكون الميم وبالدال
المهملة الكوفي (يحدث عن أبي موسى) عبد الله بن قيس
(الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(فضل عائشة) بنت الصديق (على النساء) أي نساء هذه الأمة
(كفضل الثريد) بالمثلثة (على سائر الطعام) لأنه أفضل طعام
العرب لنفعه والشبع منه وسهولة مساغه والالتذاذ
(5/408)
به وتيسر تناوله (كمل) بفتح الميم وتضم
وتكسر (من الرجال كثير ولم يكمل) بضم الميم (من النساء إلا
مريم بنت عمران) أم عيسى (وآسية امرأة فرعون) احتج
القائلون بنبوتهما بالحصر في قوله: ولم يكمل من النساء إلا
مريم وآسية في كلام سبق في باب قول الله تعالى: {وضرب الله
مثلاً للذين آمنوا} واحتج المانعون بقوله تعالى: {وما
أرسلنا من قبلك إلا رجالاً}. وأجاب المجوزون بأنه لا حجة
فيه لأن المدعي النبوّة لا الرسالة.
3434 - وَقَالَ ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ
ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «نِسَاءُ قُرَيْشٍ خَيْرُ نِسَاءٍ رَكِبْنَ
الإِبِلَ: أَحْنَاهُ عَلَى طِفْلٍ، وَأَرْعَاهُ عَلَى
زَوْجٍ فِي ذَاتِ يَدِهِ». يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى
إِثْرِ ذَلِكَ: وَلَمْ تَرْكَبْ مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ
بَعِيرًا قَطُّ.
تَابَعَهُ ابْنُ أَخِي الزُّهْرِيِّ وَإِسْحَاقُ
الْكَلْبِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ. [الحديث 3434 - طرفاه في:
5082، 5365].
(وقال ابن وهب) عبد الله المصري فيما وصله مسلم (أخبرني)
بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن
مسلم الزهري أنه (قال: حدثني) بالإفراد (سعيد بن المسيب أن
أبا هريرة) -رضي الله عنه- (قال: سمعت رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(نساء قريش) مبتدأ خبره (خير نساء ركبن الإبل) كناية عن
نساء العرب (أحناه على طفل) أي أحنى هذا الجنس يعني أشفقه
على ولد بحسن التربية وغيرها، والأصل أن يقول: أحناهن، لكن
قالوا: إن العرب لا تتكلم في مثله إلا مفردًا (وأرعاه على
زوج في ذات يده) أي في ماله المضاف إليه بالأمانة وحسن
التدبير في النفقة وغيرها.
(يقول أبو هريرة على إثر ذلك): بكسر الهمزة وسكون المثلثة
أي عقبه (ولم تركب مريم بنت عمران بعيرًا قط) فلم تدخل في
الموصوفات بركوب الإبل فهي أفضل النساء مطلقًا. (تابعه) أي
تابع يونس الإيلي (ابن أخي بالزهري) محمد بن عبد الله بن
مسلم المدني فيما وصله ابن عدي في كامله (وإسحاق) بن يحيى
(الكلبي) فيما وصله الذهلي في الزهريات (عن الزهري) محمد
بن مسلم بن شهاب.
47 - باب قَوْلُهُ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا
فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ
الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ
رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ
وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ
تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا
اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ
وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ
وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء: 171].
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: {كَلِمَتُهُ} كُنْ فَكَانَ. وَقَالَ
غَيْرُهُ: {وَرُوحٌ مِنْهُ}: أَحْيَاهُ فَجَعَلَهُ رُوحًا
{وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ}.
(باب قوله عز وجل): وفي نسخة: باب قوله تعالى: ({يا أهل
الكتاب}) قال القاضي عياض: وقع في رواية الأصيلي هنا (قل
يا أهل الكتاب) ولغيره بحذف (قل) وهو الصواب أي في هذه
الآية. نعم ثبت في آية المائدة {قل يا أهل الكتاب لا تغلوا
في دينكم غير الحق} [المائدة: 77] والمراد هنا آية النساء
({لا تغلوا في دينكم}) الخطاب للنصارى أي لا تجاوزوا الحد
في تعظيم المسيح، وذلك أن الملكانية اتخذوه إلهًا،
واليعقوبية يقولون: إنه ابن الله، والمرقوسية يقولون: ثالث
ثلاثة أو الخطاب مع الفريقين، وذلك أن اليهود بالغوا في
الحط حتى قالوا: إنه غير رشيد وذلك في الدين حرام ({ولا
تقولوا على الله إلاّ الحق}) استثناء مفرغ فالنصب على
المفعولية لتضمنه معنى القول نحو: قلت خطبة أو نعت مصدر
محذوف أي إلا القول الحق. أي نزهوه عن الصاحبة والولد
والشريك والحلول والاتحاد ({إنما المسيح عيسى ابن مريم
رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم}) أوصلها إليها، المسيح
مبتدأ وعيسى بدل منه أو عطف بيان وابن مريم صفة ورسول الله
خبر المبتدأ وكلمته عطفًا عليه، وألقاها جملة في موضع
الحال من الضمير المستتر في كلمته العائد على عيسى ({وروح
منه}) أي وذو روح صدرت منه بأمره لجبريل أن ينفخ في درع
مريم فحملت به، أو لأنه كان يحيي الأموات أو القلوب
({فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة}) خبر مبتدأ مضمر
أي لا تقولوا آلهتنا ثلاثة، والجملة في موضع نصب بالقول:
{انتهوا} عن التثليث ({خيرًا لكم}) ثم أكد التوحيد بقوله:
({إنما الله إله واحد}) بالذات لا تعدد فيه بوجه ما ثم نزه
نفسه عن الولد بقوله: ({سبحانه أن يكون له ولد}) وتقديره
من أن يكون أي نزهوه من أن يكون له ولد فإنه يكون لمن
يعادله مثل ويتطرق إليه فناء ({له ما في السماوات وما في
الأرض}) ملكًا وخلقًا وعيسى ومريم في جملة ذلك ({وكفى
بالله وكيلاً}) كافيًا في تدبير المخلوقات وحفظ المحدثات
لا يحتاج معه إلى آخر يعينه مستغنيًا
عمن يخلفه من ولد أو غيره، وسقط قوله: {ولا تقولوا} الخ
لأبي ذر وقال بعد قوله {في دينكم} إلى {وكيلاً}.
(قال أبو عبيد) القاسم بن سلام ({كلمته}) في قوله تعالى:
{إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته} [النساء:
171] هي قوله جل وعلا: (كن فكان) من غير واسطة أب ولا
نطفة. (وقال غيره): غير أبي عبيد القاسم ({وروح منه})
[النساء: 171] أي (أحياه فجعله روحًا) وهذا قول أبي عبيدة
معمر بن المثنى وسبق قريبًا غيره {ولا تقولوا ثلاثة}
[النساء: 171] أي
(5/409)
آلهة ثلاثة الله والمسيح ومريم ويشهد له
قوله تعالى: {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إليهن من دون
الله} [المائدة: 116] أو أنهم يقولون إن الله جوهر واحد
وله ثلاثة أقانيم فيجعلون كل أقنوم إلهًا، ويعنون
بالأقانيم الوجود والحياة والعلم، وربما يعنون بالأقانيم
الأب وابن وروح القدس، ويريدون بالأب الوجود، وبالروح
الحياة، وبالمسيح العلم، أو الأب الذات والابن العلم
والروح الحياة في كلام لهم فيه تخبيط، ومحصله يؤول إلى
التمسك بأن عيسى إليه كان يجري الله تعالى على يديه من
الخوارق وقالوا: قد علمنا خروج هذه الأمور عن مقدور البشر،
فينبغي أن يكون المقتدر عليها موصوفًا بالإلهية فيقال لهم:
لو كان ذلك من مقدوراته وكان مستقلاً به كان تخليصه من
أعدائه من مقدوراته وليس كذلك، فإن اعترفوا بذلك سقط
استدلالهم وإن لم يسلموا فلا حجة لهم أيضًا لأنهم معارضون
بخوارق العادات الجارية على أيدي غيره من الأنبياء كفلق
البحر وقلب العصا حيّة لموسى. وبه قال:
3435 - حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ حَدَّثَنَا
الْوَلِيدُ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي
عُمَيْرُ بْنُ هَانِئٍ قَالَ: حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ
أَبِي أُمَيَّةَ عَنْ عُبَادَةَ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«مَنْ شَهِدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ
شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ
حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ
عَلَى مَا كَانَ مِنَ الْعَمَلِ».
(حدّثنا صدقة بن الفضل) المروزي قال: (حدّثنا) ولأبي ذر:
أخبرنا (الوليد) بن مسلم الدمشقي (عن الأوزاعي) عبد
الرَّحمن أنه قال: (حدثني) بالإفراد (عمير بن هانئ) بضم
العين وفتح الميم مصغرًا وهانئ مهموز العنسي بعين وسين
مهملتين بينهما نون ساكنة الدمشقي الداراني (قال: حدثني)
بالإفراد أيضًا (جنادة بن أمية) بضم الجيم وتخفيف النون
الأزدي (عن عبادة) بن الصامت (-رضي الله عنه- عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا
عبده ورسوله وأن عيسى عبد الله) زاد ابن المديني وابن أمته
(ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه) ذكر عيسى
تعريضًا بالنصارى وإيذانًا بأن إيمانهم مع القول بالتثليث
شرك محض لا يخلصهم من النار وأنه رسوله تعريضًا باليهود في
إنكارهم رسالته وانتمائهم إلى ما لا يحل من قذفه وقذف أمه
وأنه ابن أمته
تعريضًا بالنصارى أيضًا وتقريرًا لعبديته أي هو عبد الله
وابن أمته، فكيف ينسبونه إلى الله عز وجل بالنبوة (والجنة)
كذا (حق والنار) كذا (حق) أخبر عنهما بالمصدر مبالغة في
الحقية، وأنهما عين الحق كزيد عدل تعريضًا بمنكري داري
الثواب والعقاب (أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).
فيه أن عصاة أهل القبلة لا يخلدون في النار لعموم قوله:
مَن شهد أن لا إله لا الله وأنه تعالى يعفو عن السيئات قبل
التوبة واستيفاء العقوبة، لأن قوله على ما كان من العمل
حال من قوله أدخله الله الجنة، ولا ريب أن العمل غير حاصل
حينئذٍ بل الحاصل حال إدخاله استحقاق ما يناسب عمله من
الثواب والعقاب لا يقال إن ما ذكر يستدعي أن لا يدخل أحد
من العصاة لأن اللازم منه عموم العفو وهو لا يستلزم عدم
دخول النار لجواز أن يعفو عن بعضهم بعد الدخول وقبل
استيفاء العذاب.
"وإن زنى وإن سرق على رغم أنف أبي ذر".
وحديث الباب أخرجه مسلم في الإيمان والنسائي في التفسير
وفي اليوم والليلة.
وقال الطيبي: التعريف في العمل للعهد والإشارة به إلى
الكبائر يدل له نحو قوله "وإن زنى وإن سرق" في حديث أبي
ذر، وقوله: على ما كان حال، والمعنى من شهد أن لا إله إلا
الله يدخل الجنة في حال استحقاقه العذاب بموجب أعماله من
الكبائر أي حال هذا مخالف للقياس في دخول الجنة، فإن
القياس يقتضي أن لا يدخل الجنة من شأنه هذا كما زعمت
المعتزلة: وإلى هذا المعنى ذهب أبو ذر في قوله "وإن زنى
وإن سرق"؟ وردّ بقوله
(قال الوليد): هو ابن مسلم بالإسناد السابق (حدثني)
بالإفراد، ولأبي ذر: وحدّثني (ابن جابر) هو عبد الرَّحمن
بن يزيد بن جابر الأزدي (عن عمير) هو ابن هانئ (عن جنادة)
هو ابن أبي أمية بالحديث السابق عن عبادة (وزاد) بعد قوله
أدخله الله الجنة على ما كان من العمل (من أبواب الجنة
الثمانية أيها شاء). بنصب أيّ وجره الداخل أو شاء الله
تعالى من الباب المعدّ لذلك العمل.
48 - باب قولِ اللهِ: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ
إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} [مريم: 16].
نَبَذْنَاهُ: أَلْقَيْنَاهُ. اعْتَزَلَتْ شَرْقِيًّا:
مِمَّا يَلِي الشَّرْقَ: فَأَجَاءَهَا: أَفْعَلْتُ مِنْ
جِئْتُ، وَيُقَالُ أَلْجَأَهَا: اضْطَرَّهَا. تَسَّاقَطْ:
تَسْقُطْ. قَصِيًّا: قَاصِيًا. فَرِيًّا: عَظِيمًا. قَالَ
ابْنُ عَبَّاسٍ نِسْيًا: لَمْ أَكُنْ شَيْئًا. وَقَالَ
غَيْرُهُ النِّسْيُّ: الْحَقِيرُ. وَقَالَ أَبُو وَائِلٍ:
عَلِمَتْ مَرْيَمُ أَنَّ التَّقِيَّ ذُو نُهْيَةٍ حِينَ
قَالَتْ: {إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}. قَالَ وَكِيعٌ عَنْ
إِسْرَائِيلَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ
{سَرِيًّا}: نَهَرٌ صَغِيرٌ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.
هذا (باب) بالتنوين ({واذكر}) ولأبي ذر: باب قول الله
تعالى
(5/410)
واذكر ({في الكتاب مريم إذ
انتبذت من أهلها}) [مريم: 16] قال ابن عباس فيما وصله
الطبري في قوله تعالى: {فنبذناه} [الصافات: 145] في قصة
يونس أي (ألقيناه) بالقاف (اعتزلت) {شرقيًّا}، قال أبو
عبيدة: (مما يلي الشرق) من بيت المقدس أو من دارها للعبادة
لا يقال هذا تكرار، فقد سبق باب في قول الله تعالى: {واذكر
في الكتاب مريم} لأن هذا الباب معقود لأخبار عيسى والسابق
لأخبار أمه مريم (فأجاءها} المخاض من (أفعلت من جئت) أي من
مزيد جاء تقول جئت إذا أخبرت عن نفسك ثم إذا أردت تعدي به
إلى غيرك تقول: أجأت زيدًا فالضمير هنا يرجع إلى مريم
وفاعل أجاء المخاض (ويقال: ألجأها) أي (اضطرها) المخاض وهو
الطلق إلى جذع النخلة وكانت يابسة. قال في الكشاف: أجاء
منقول من جاء إلا أن استعماله قد تغير بعد النقل إلى معنى
الإلجاء.
{تساقط} [مريم: 25] بتشديد السين أصله تتساقط فأدغمت التاء
الثانية في السين وهي قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو وابن
عامر والكسائي أي (تسقط) بفتح أوله وضم ثالثه، وهذا قول
أبي عبيد لكنه ضبط تساقط بضم أوله من الرباعي وهي قراءة
حفص روي أنها كانت نخلة يابسة ولا رأس لها ولا ثمرة وكان
الوقت شتاء فهزته فجعل الله له رأسًا وخوصًا ورطبًا يسليها
بذلك لما فيه من المعجزة الدالة على براءة ساحتها.
{قصيًا} في قوله تعالى: {فانتبذت به مكانًا قصيًا} [مريم:
22] أي (قاصيًا) قال ابن عباس: أقصى وادي بيت لحم فرارًا
من قومها أن يعيِّروها بولادتها من غير زوج (فريًّا) في
قوله: {لقد جئت شيئًا فريًّا} [مريم: 27] أي (عظيمًا) وقيل
منكرًا (قال ابن عباس: نسيًّا) في قوله تعالى: {يا ليتني
مت قبل هذا وكنت نسيًّا} [مريم: 23] أي (لم أكن شيئًا وقال
غيره) أي غير ابن عباس: (النسي) هو (الحقير) وهذا قول
السدي.
(وقال أبو وائل) بالهمزة شقيق بن سلمة: (علمت مريم أن
التقي ذو نهية) بضم النون وبعد الهاء الساكنة تحتية
مفتوحة. وقال عياض بالضم: الرواية، وقد يقال بفتحها أي عقل
لأنه ينهى صاحبه عن القبائح ويقال فيه ذو نهاية حكاه ثابت،
وقد تكون النهية من النهي بمعنى الفعلة الواحدة منه
والنهية بالفتح واحد النهي مثل ثمرة وتمر أي أن له من نفسه
في كل حال زاجرًا ينهاه كما يقال التقي ملجم يقال نهيته
ونهوته (حين قالت) لجبريل عليه السلام لما أتاها بصورة شاب
أمرد سويّ الخلق لتستأنس بكلامه: إني أعوذ بالرحمن منك
({إن كنت تقيًّا}) أي تتقي الله وتحتفل بالاستعاذة فانته
عني.
(وقال) بالواو ولغير أبي ذر قال (وكيع) هو ابن الجراح (عن
إسرائيل) بن يونس (عن) جدّه (أبي إسحاق) السبيعي (عن
البراء) بن عازب ({سريًّا}) [مريم: 24] في قوله تعالى: {قد
جعل ربك تحتك سريًّا} [مريم: 24] هو: (نهر صغير
بالسريانية) رواه ابن أبي حاتم هكذا عن الراء موقوفًا، وفي
تفسير ابن مردويه عن ابن عمر مرفوعًا: السريّ في هذه الآية
نهر أخرجه الله لمريم لتشرب منه.
3436 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا
جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي
الْمَهْدِ إِلاَّ ثَلاَثَةٌ: عِيسَى، وَكَانَ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُرَيْجٌ كَانَ
يُصَلِّي، فَجَاءَتْهُ أُمُّهُ فَدَعَتْهُ، فَقَالَ:
أُجِيبُهَا أَوْ أُصَلِّي؟ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ
تُمِتْهُ حَتَّى تُرِيَهُ وُجُوهَ الْمُومِسَاتِ، وَكَانَ
جُرَيْجٌ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ امْرَأَةٌ
وَكَلَّمَتْهُ فَأَبَى، فَأَتَتْ رَاعِيًا فَأَمْكَنَتْهُ
مِنْ نَفْسِهَا، فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، فَقَالَتْ: مِنْ
جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَكَسَرُوا صَوْمَعَتَهُ
وَأَنْزَلُوهُ وَسَبُّوهُ، فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى، ثُمَّ
أَتَى الْغُلاَمَ فَقَالَ: مَنْ أَبُوكَ يَا غُلاَمُ؟
قَالَ: الرَّاعِي، قَالُوا نَبْنِي صَوْمَعَتَكَ مِنْ
ذَهَبٍ؟ قَالَ: لاَ، إِلاَّ مِنْ طِينٍ. وَكَانَتِ
امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنًا لَهَا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ،
فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ رَاكِبٌ ذُو شَارَةٍ، فَقَالَتِ:
اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَتَرَكَ ثَدْيَهَا
وَأَقْبَلَ عَلَى الرَّاكِبِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ
تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهَا
يَمَصُّهُ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ
إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَمَصُّ إِصْبَعَهُ، ثُمَّ مُرَّ بِأَمَةٍ فَقَالَتِ:
اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذِهِ، فَتَرَكَ
ثَدْيَهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا،
فَقَالَتْ: لِمَ ذَاكَ؟ فَقَالَ: الرَّاكِبُ جَبَّارٌ مِنَ
الْجَبَابِرَةِ، وَهَذِهِ الأَمَةُ يَقُولُونَ سَرَقْتِ
زَنَيْتِ وَلَمْ تَفْعَلْ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال: (حدّثنا
جرير بن حازم) بالحاء المهملة والزاي ابن زيد الأزدي (عن
محمد بن سيرين) الأنصاري (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه-
(عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(لم يتكلم في المهد) وهو ما يهيأ للصبي أن يربى فيه (إلا
ثلاثة). واستشكل الحصر بما روي من كلام غير الثلاثة.
وأجيب: باحتمال أن يكون المعنى لم يتكلم في بني إسرائيل أو
قاله قبل أن يعلم الزيادة أو الثلاثة بقيد المهد.
فالأول: (عيسى) ابن مريم عليهما السلام.
(و) الثاني (كان في بني إسرائيل رجل يقال له جريج) وفي
حديث أبي سلمة أنه كان تاجرًا وكان ينقص مرة ويزيد أخرى
فقال: ما في هذه التجارة خير لألتمسن تجارة هي خير من هذه
فبنى صومعة وترهب فيها. وعند أحمد وكانت أمه تأتيه فتناديه
فيشرف عليها فتكلمه و (كان يصلّي) يومًا (جاءته) ولأبي ذر
عن الكشميهني فجاءته (أمه فدعته) فقالت يا جريج (فقال) في
نفسه: (أجيبها) وأقطع صلاتي (أو أصلي) فآثر الصلاة على
إجابتها بعد أن دعته ثلاثًا كما في الرواية الأخرى أنها
دعته ثلاثًا (فقالت: اللهم لا تمته حتى تريه وجوه
المومسات) بضم الميم الأولى وكسر
(5/411)
الثانية بينهما واو ساكنة الزانيات ولم تدع
عليه بوقوع الفاحشة مثلاً رفقًا منها. (وكان جريج في
صومعته فتعرضت له امرأة) راعية ترعى الغنم أو كانت بنت ملك
القرية (فكلمته) أن يواقعها بالفاء في الفرع وفي اليونينية
وكلمته بالواو بدل الفاء (فأبى) أن يفعل ذلك (فأتت راعيًا
فأمكنته من
نفسها) فواقعها فحملت منه (فولدت غلامًا) فقيل لها: ممن
هذا الغلام؟ (فقالت: من جريج) زاد أحمد فأخذت وكان من زنى
منهم قتل، وزاد أبو سلمة في روايته فذهبوا إلى الملك
فأخبروه فقال: أدركوه فأتوني به (فأتوه فكسروا) بالفاء
ولأبي ذر وكسروا (صومعته) بالفؤوس والمساحي (وأنزلوه) منها
(وسبوه) زاد أحمد عن وهب بن جرير وضربوه فقال ما شأنكم
قالوا: إنك زنيت بهذه. وعند أحمد أيضًا من طريق أبي رافع
أنهم جعلوا في عنقه وعنقها حبلاً وجعلوا يطوفون بهما على
الناس، وفي رواية أبي سلمة أن الملك أمر بصلبه (فتوضأ)
بالفاء، ولأبي ذر: وتوضأ فيه أن الوضوء لا يختص بهذه الأمة
خلافًا لمن زعم ذلك. نعم الذي يختص بها الغرة والتحجيل في
الآخرة (وصلّى) في حديث عمران فصلّى ركعتين وزاد وهب بن
جرير ودعا (ثم أتى الغلام فقال: من أبوك يا غلام)؟ زاد في
رواية وهب بن جرير فطعنه بإصبعه، وفي رواية أبي سلمة فأتي
بالمرأة والصبي وفمه في ثديها فقال له جريج: يا غلام من
أبوك؟ فنزع الغلام فمه من الثدي (فقال): ولغير أبي ذر قال
(الراعي) لم يسم، وزاد في رواية وهب بن جرير فوثبوا إلى
جريج فجعلوا يقبلونه. وفي هذا إثبات كرامات الأولياء ووقوع
ذلك لهم باختيارهم وطلبهم (قالوا: نبني) لك (صومعتك من
ذهب. قال) جريح: (لا إلاّ من طين) كما كانت ففعلوا.
(و) الثالث (كانت امرأة) لم تسم (ترضع ابنًا لها) لم يسم
أيضًا (من بني إسرائيل فمر بها رجل راكب) لم يسم (ذو شارة)
بالشين المعجمة والراء المخففة صاحب حسن أو هيئة أو ملبس
حسن يتعجب منه ويشار إليه (فقالت) المرأة المرضعة: (اللهم
اجعل ابني مثله) في الهيئة الجميلة (فترك) المرضع (ثديها
وأقبل) بالواو ولأبي ذر فأقبل (على) الرجل (الراكب فقال:
اللهم لا تجعلني مثله ثم أقبل على ثديها يمصه) بفتح الميم.
(قال أبو هريرة) بالسند السابق (كأني أنظر إلى النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يمص إصبعه) فيه
المبالغة في إيضاح الخبر بتمثيله بالفعل. (ثم مرّ) بضم
الميم وتشديد الراء مبنيًا للمفعول (بأمه) زاد وهب بن جرير
عند أحمد تضرب (فقالت: اللهم لا تجعل ابني مثل هذه) المرأة
(فترك ثديها فقال): ولأبي ذر وقال (اللهم اجعلني مثلها.
فقالت): أي الأم لابنها و (لم) قلت (ذاك)؟ ولأبي ذر فقالت
له ذلك أي عن سبب ذلك (فقال) الابن: أما (الراكب) هو (جبار
من الجبابرة) وفي رواية الأعرج فإنه كافر (و) أما (هذه
الأمة) فهم (يقولون سرقت زنيت) بكسر التاء فيهما على
المخاطبة للمؤنث، ولأبي ذر: سرقت زنت بسكونها على الخبر
(و) الحال أنها (لم تفعل) شيئًا من السرقة والزنا. وفي
رواية الأعرج يقولون لها: تزني. وتقول: حسبي الله، ويقولون
لها: تسرقي. وتقول: حسبي الله.
والرابع: شاهد يوسف قال تعالى ({وشهد شاهد من أهلها}
[يوسف: 26] وفسّر بأنه كان ابن خال زليخا صبيًا تكلم في
المهد وهو منقول عن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك.
والخامس: الصبي الرضيع الذي قال لأمه وهي ماشطة بنت فرعون
لما أراد فرعون إلقاء أمه في النار اصبري يا أماه فإنا على
الحق رواهما أحمد والبزار وابن حبان والحاكم من حديث بلفظ:
لم
يتكلم في المهد إلا أربعة فذكرها ولم يذكر الثالث الذي
هنا، لكنه اختلف في شاهد يوسف فروى ابن أبي حاتم عن ابن
عباس ومجاهد أنه كان ذا لحية. وعن قتادة والحسن أيضًا أنه
كان حكيمًا من أهلها، ورجح بأنه لو كان طفلاً لكان مجرد
قوله إنها كاذبة كافيًا وبرهانًا قاطعًا لأنه من المعجزات
ولما احتيج أن يقول من أهلها فرجح كونه رجلاً لا طفلا
وشهادة القريب على قريبه أولى بالقبول من شهادته له.
السادس: ما في قصة الأخدود لما أتي بالمرأة ليلقى بها في
النار لتكفر ومعها صبي مرضع فتقاعست فقال لها:
(5/412)
يا أماه اصبري فإنك على الحق. رواه مسلم من
حديث صهيب.
السابع: زعم الضحاك في تفسيره أن يحيى بن زكريا عليهما
السلام تكلم في المهد أخرجه الثعلبي، وفي سيرة الواقدي أن
نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تكلم في أوائل
ما ولد. وعن ابن عباس: قال: كانت حليمة تحدّث أنها أول ما
فطمت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تكلم
فقال: "الله أكبر كبيرًا والحمد لله كثيرًا وسبحان الله
بكرة وأصيلاً". الحديث رواه البيهقي.
وعن معيقيب اليماني قال: حججت حجة الوداع فدخلت دارًا فيها
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ورأيت منه
عجبًا جاءه رجل من أهل اليمامة بغلام يوم ولد فقال له رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "يا غلام من
أنا"؟ قال: أنت رسول الله. قال: "صدقت بارك الله فيك". ثم
إن الغلام لم يتكلم بعد حتى شبّ فكنا نسميه مبارك اليمامة
رواه البيهقي من حديث معرض بالضاد المعجمة.
3437 - حَدَّثَنا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا
هِشَامٌ عَنْ مَعْمَرٍ ح. وحَدَّثَنِي مَحْمُودٌ
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ
الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ:
«قَالَ النبيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ: لَقِيتُ مُوسَى، قَالَ فَنَعَتَهُ
فَإِذَا رَجُلٌ حَسِبْتُهُ قَالَ مُضْطَرِبٌ رَجِلُ
الرَّأْسِ كَأَنَّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ. قَالَ:
وَلَقِيتُ عِيسَى، فَنَعَتَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: رَبْعَةٌ أَحْمَرُ،
كَأَنَّمَا خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ -يَعْنِي الْحَمَّامَ-
وَرَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ وَأَنَا أَشْبَهُ وَلَدِهِ بِهِ.
قَالَ: وَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ أَحَدُهُمَا لَبَنٌ
وَالآخَرُ فِيهِ خَمْرٌ، فَقِيلَ لِي: خُذْ أَيَّهُمَا
شِئْتَ، فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُهُ، فَقِيلَ لِي:
هُدِيتَ الْفِطْرَةَ -أَوْ أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ- أَمَا
إِنَّكَ لَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إبراهيم بن
موسى) أبو إسحاق التميمي الفراء الرازي الصغير قال:
(أخبرنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني (عن معمر) هو ابن راشد
الأزدي (ح) لتحويل السند قال:
(وحدثني) بالإفراد (محمود) هو ابن غيلان قال: (حدّثنا عبد
الرزاق) بن همام الصنعاني ولفظ الحديث هنا لعبد الرزاق
قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد بن مسلم
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب عن أبي هريرة
-رضي الله عنه-) أنه (قال:
رسول الله) ولأبي ذر النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- ليلة أسري به) إلى بيت المقدس ولأبي ذر عن
الكشميهني بي بدل به.
(لقيت موسى قال فنعته) أي وصفه (فإذا رجل) قال عبد الرزاق
بن همام (حسبته) أي معمرًا (قال مضطرب) أي طويل غير شديد
أو خفيف اللحم، وفي رواية هشام في قصة موسى بلفظ: ضرب،
وفسر بتخفيف اللحم، ورجح القاضي عياض هذه على التي في هذا
الباب لما فيها من الشك. قال: وقد وقع في الرواية الأخرى
جسيم وهو ضدّ الضرب إلا أن يراد بالجسيم الزيادة في الطول.
قال في الفتح: وهذا الذي يتعين المصير إليه ويؤيده قوله في
الرواية الآتية بعد هذه إن شاء الله تعالى كأنه من رجال
الزط وهم طوال غير غلاظ (رجل) شعر (الرأس) مسترسله، وقال
ابن السكيت: شعر رجل، إذا لم يكن شديد الجعودة ولا سبطًا
(كأنه) لطوله (من رجال شنوءة) بفتح الشين المعجمة وضم
النون وبعد الواو الساكنة همزة مفتوحة ثم هاء تأنيث حيّ من
اليمن.
(قال) عليه الصلاة والسلام: (ولقيت عيسى فنعته) أي وصفه
(النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: ربعة)
ليس طويلاً ولا قصيرًا والتأنيث على تأويل النفس (أحمر
كأنما خرج من ديماس) قال عبد الرزاق (يعني الحمام) ولم يقع
ذلك في رواية هشام. (ورأيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به.
قال: وأتيت) بضم الهمزة مبنيًّا للمفعول (بإناءين أحدهما
لبن) كان القياس أن يقول فيه لبن كما قال في اللاحق فيه
خمر ولكنه أراد تكثير اللبن فكأن الإناء انقلب لبنًا
(والآخر فيه خمر) قبل أن يحرم (فقيل لي) القائل جبريل (خذ
أيهما شئت فأخذت اللبن فشربته فقيل لي) القائل هو أيضًا
جبريل (هديت الفطرة) الإسلامية (أو أصبت الفطرة) بالشك من
الراوي (أما) بفتح الهمزة وتخفيف الميم (إنك لو أخذت الخمر
غوت أمتك) لأنها أم الخبائث وجالبة لكل شرّ.
وهذا الحديث قد سبق في باب: وكلم الله موسى تكليمًا. وتأتي
بقية مباحثه إن شاء الله تعالى بعون الله في الكلام على
الإسراء من السيرة النبوية.
3438 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا
إِسْرَائِيلُ أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ
عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما-
قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «رَأَيْتُ عِيسَى وَمُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ،
فَأَمَّا عِيسَى فَأَحْمَرُ جَعْدٌ عَرِيضُ الصَّدْرِ،
وَأَمَّا مُوسَى فَآدَمُ جَسِيمٌ سَبْطٌ كَأَنَّهُ مِنْ
رِجَالِ الزُّطِّ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) العبدي البصري قال:
(أخبرنا إسرائيل) بن يونس بن أبي إسحاق قال: (أخبرنا عثمان
بن المغيرة) الثقفي مولاهم الكوفي الأعشى (عن مجاهد) هو
ابن جبر بفتح الجيم وسكون الموحدة المخزومي مولاهم المكي
الإمام في التفسير (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) تعقبه
الحافظ أبو ذر كما هو بهامش اليونينية ونقله عنه غير واحد
من الأئمة بأن الصواب ابن عباس بدل ابن عمر، فالغلط من
الفربري أو البخاري حدث به كذا، وجزم به الغساني
والتيمي وغيرهما وهو المحفوظ، واحتج لذلك
(5/413)
بأنه في جميع الطرق عن محمد بن كثير وغيره
عن مجاهد عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أنه (قال: قال
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(رأيت عيسى وموسى وإبراهيم فأما عيسى فأحمر) اللون وهو عند
العرب الشديد البياض مع الحمرة (جعد) بفتح الجيم وسكون
العين أي جعد الشعر ضد السبط (عريض الصدر أما موسى فآدم)
بالمد أي أسمر كأحسن ما يُرى (جسيم) اعترضه التيمي بأن
الجسيم إنما ورد في صفة الدجال. وأجيب: بأن الجسامة تطلق
على السمن وعلى الطول والمراد هنا طويل (سبط) بفتح السين
وسكون الموحدة وكسرها وفتحها (كأنه من رجال الزط) بضم
الزاي وتشديد الطاء المهملة جنس من السودان أو نوع من
الهنود طوال الأجساد مع نحافة، وهذا يؤيد أن معنى قوله
جسيم طويل.
3439 - حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ
حَدَّثَنَا أَبُو ضَمْرَةَ حَدَّثَنَا مُوسَى عَنْ نَافِعٍ
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَكَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمًا بَيْنَ ظَهْرَىِ النَّاسِ
الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ
بِأَعْوَرَ، أَلاَ إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ
الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ
طَافِيَةٌ».
وبه قال: (حدّثنا إبراهيم بن المنذر) الحزامي المدني قال:
(حدّثنا أبو ضمرة) أنس بن عياض المدني قال: (حدّثنا موسى)
بن عقبة (عن نافع) مولى ابن عمر أنه قال: (قال عبد الله)
بن عمر -رضي الله عنهما-: (ذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح الذال والكاف مبنيًّا للفاعل،
والنبيّ فاعل (يومًا) ظرف (بين ظهري الناس) بفتح الظاء
المعجمة وسكون الهاء بلفظ التثنية. ولأبي ذرّ: ظهراني
الناس؛ بزيادة الألف والنون للتأكيد، أي جالسًا في وسط
الناس مستظهرًا لا مستخفيًا (المسيح الدجّال) فعّال من
أبنية المبالغة. وأصل الدجل الخلط، يقال: دجّل إذا خلّط
وموَّه؛ والدجّال: هو الذي يظهر آخر الزمان ويدّعي الإلهية
(فقال):
(إنّ الله ليس بأعور، ألا) بالتخفيف للتنبيه (إنّ المسيح
الدجال أعور العين اليمنى) وفي حديث "أنه أعور العين
اليسرى". وفي حديث حذيفة عند مسلم "أنه ممسوح العين عليها
ظفرة غليظة". وجُمع بأن إحدى عينيه غائرة، والأخرى معيبة؛
فيصح أن يقال لكل واحدة عوراء، إذ الأصل في العَوَر أنه
العيب (كأنّ عينه عنبة طافية) بالمثناة التحتية؛ أي بارزة:
وهي التي خرجت عن نظائرها في النُّتُوِّ من العنقود. ومَن
همزها جعلها فاعلة من طفئت كما يطفأ السراج، أي ذهب نورها.
3440 - «وَأَرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فِي
الْمَنَامِ، فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ كَأَحْسَنِ مَا يُرَى
مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، تَضْرِبُ لِمَّتُهُ بَيْنَ
مَنْكِبَيْهِ، رَجِلُ الشَّعَرِ يَقْطُرُ رَأْسُهُ مَاءً،
وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلَيْنِ وَهْوَ
يَطُوفُ بِالْبَيْتِ؛ فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالُوا:
هَذَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ. ثُمَّ رَأَيْتُ رَجُلاً
وَرَاءَهُ جَعْدًا قَطَطًا أَعْوَرَ عَيْنِ الْيُمْنَى
كَأَشْبَهِ مَنْ رَأَيْتُ بِابْنِ قَطَنٍ، وَاضِعًا
يَدَيْهِ عَلَى مَنْكِبَيْ رَجُلٍ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ.
فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ».
تَابَعَهُ عُبَيْدُ اللَّهِ عَنْ نَافِعٍ. [الحديث 3440 -
أطرافه في: 3441، 5902، 6999، 7026، 7128].
(وأَراني الليلة) بفتح الهمزة، أي: أرى نفسي في اللّيلة
(عند الكعبة في المنام، فإذا رجل آدم) بالمدّ: أسمر (كأحسن
ما يرى من أُدْم الرجال) بضم الهمزة وسكون الدال (تضرب
لمته بين منكبيه) بكسر اللام وتشديد الميم، وهي الشعر إذا
جاوز شحمتي الأذنين وألم بالمنكبين، فإذا جاوز المنكبين
فجمّة، وإن قصر عنها فوفرة (رَجِل الشعر) بكسر الجيم: قد
سرّحه ودهنه (يقطر رأسه ماء) حقيقة، فيكون من الماء الذي
سرح به، أو كنى به عن مزيد النظافة والنضارة حال كونه
(واضعًا يديه على منكبي رجلين) لم يسميًا (وهو يطوف
بالبيت) الحرام (فقلت: من هذا) الطائف؟ (فقالوا: هذا
المسيح) عيسى (ابن مريم) عليهما السلام (ثم رأيت رجلاً
وراءه جعدًا قططًا) بفتح الطاء وكسرها: شديد جعودة الشعر
(أعور عين اليمنى) بإضافة (أعور) لتاليه، من إضافة الموصوف
إلى صفته. وهو عند الكوفيين ظاهر، وعند البصريين تقديره:
عين صفة وجهه اليمنى. ولأبي ذرّ: أعور العين اليمنى.
(كأشبه من رأيت) بضم التاء في اليونينية وفرعها؛ وزاد
الكرماني فتحها. (بابن قطن) بفتح القاف والطاء المهملة
بعدها نون؛ عبد العزّى هلك في الجاهلية. حال كونه (واضعًا
يديه على منكبي رجل يطوف بالبيت، فقلت: من هذا) الذي يطوف؟
وضبّب في الفرع وأصله على قوله: "فقلت من هذا". (قالوا)
ولأبي ذرّ: فقالوا (المسيح الدجال) وهذا الحديث أخرجه مسلم
ففي الإيمان وفي الفتن.
(تابعه) أي تابع موسى بن عقبة (عبيد الله) بضم العين
مصغرًا: ابن عمر العمري (عن نافع) عن ابن عمر فيما وصله
مسلم في ذكر الدجال فقط إلى قوله: "عنبة طافية" ولم يذكر
ما بعده.
3441 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمَكِّيُّ
قَالَ: سَمِعْتُ إِبْرَاهِيمَ بْنَ سَعْدٍ قَالَ:
حَدَّثَنِي الزُّهْرِيُّ عَنْ سَالِمٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ:
لاَ وَاللَّهِ مَا قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعِيسَى "أَحْمَرُ" وَلَكِنْ قَالَ:
«بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ، فَإِذَا
رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ يُهَادَى بَيْنَ رَجُلَيْنِ
يَنْطِفُ رَأْسُهُ مَاءً -أَوْ يُهَرَاقُ رَأْسُهُ مَاءً-
فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: ابْنُ مَرْيَمَ.
فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ
جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ عَيْنِهِ الْيُمْنَى كَأَنَّ
عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ، قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟
قَالُوا: هَذَا الدَّجَّالُ. وَأَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ
شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ». قَالَ الزُّهْرِيُّ: رَجُلٌ مِنْ
خُزَاعَةَ هَلَكَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن محمد) بن الوليد (المكي) الأزرقي
(قال: سمعت إبراهيم بن سعد) بسكون العين، ابن إبراهيم بن
عبد الرَّحمن بن عوف (فقال: حدّثني) بالإفراد (الزهري)
محمد بن مسلم بن شهاب (عن سالم عن أبيه) عبد الله بن عمر
بن
(5/414)
الخطاب (قال: لا والله، ما قال النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعيسى) أي عن عيسى
(أحمر) أقسم على غلبة ظنّه أن الوصف اشتبه على الراوي
وأن الموصوف بكونه أحمر إنما هو الدجّال لا عيسى؛ وكأنه
سمع ذلك سماعًا جزمًا في وصف عيسى بأنه آدم كما في الحديث
السابق، فساغ له الحلف على ذلك لما غلب على ظنه أن من
وَصَفه بأنه أحمر فقد وهم. وقد وافق أبو هريرة على أن عيسى
أحمر، فظهر أن ابن عمر أنكر ما حفظه غيره. والأحمر عند
العرب: الشديد البياض مع الحمرة. والآدم: الأسمر. وجمع بين
الوصفين بأنه احمرّ لونه بسبب كالتعب وهو في الأصل أسمر.
(ولكن قال: بينما) بالميم (أنا نائم) رأيت أني (أطوف
بالكعبة، فإذا رجل آدم) أسمر (سبط الشعر) أي مسترسل الشعر
غير جعد. وفي الحديث السابق في باب قوله تعالى: {وهل أتاك
حديث موسى} [طه: 9] من حديث ابن عباس: "جعد" وهو ضد السبط.
وجمع بينهما بأنه سبط الشعر جعد الجسم لا الشعر؛ والمراد
اجتماعه واكتنازه؛ قال الجوهري: رجل سبط الشعر وسبط الجسم
أي حسن القدّ والاستواء، قال الشاعر:
فجاءَت به سَبْطَ العظامِ كأنَّما ... عِمَامَتُهُ بَيْنَ
الرِّجالِ لواءُ
(يهادى بين رجلين) بضم الياء وفتح الدال؛ أي يمشي متمايلاً
بينهما (ينطف) بضم الطاء المهملة. ولأبي ذرّ: "ينطِف"
بكسرها؛ أي يقطر (رأسه ماء) نصب على التمييز (-أو يهراق
رأسه ماء-) بضم الياء وفتح الهاء وتسكّن. والشك من الراوي.
(فقلت: من هذا؟ قالوا: ابن مريم. فذهبت ألتفت فإذا رجل
أحمر) اللّون (جسيم جعد) شعر (الرأس أعور عينه اليمنى)
بالإضافة، و"عينه" بالجرّ، و"اليمنى" صفته. وفي ذلك أمران:
أحدهما أن قوله: "أعور عينه" من باب الصفة المجردة عن
اللام المضافة إلى معمولها المضاف إلى ضمير الموصوف، نحو:
حسن وجهه.
وسيبويه وجميع البصريين يجوّزونها على قبح في ضرورة فقط.
وأنشد سيبويه للاستدلال على مجيئها في الشعر قول الشمّاخ:
أَقَامَتْ على رَبْعَيهِمَا جَارَتَا صَفًا ... كُمَيْت
الأَعالي جَوْنَتَا مُصْطَلاهما
فـ "جونتا مصطلاهما" نظير "حسن وجهه". وأجازه الكوفيون في
السعة بلا قبح. وهو الصحيح، لوروده في هذا الحديث وفي حديث
صفة -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "شئن الكفّين
طويل أصابعه" قال أبو علي -وهو ثقة-: كذا رويته بالخفض.
وذكر الهروي وغيره في حديث أم زرع: "صفر وشامها".
ومع جوازه ففيه ضعف لأنه يشبه إضافة الشيء إلى نفسه.
ثانيهما: أن الزجاج ومتأخري المغاربة ذهبوا إلى أنه لا
يتبع معمول الصفة المشبهة بصفة؛ مستندين فيه إلى عدم
السماع من العرب، فلا يقال: زيد حسن الوجه المشرق، بجر
"المشرق" على أنه صفة للوجه. وعلّل بعضهم المنع بأن معمول
الفة لما كان سببًا غير أجنبي أشبه الضمير لكونه أبدًا
محالاً على الأول وراجعًا إليه، والضمير لا ينعت فكذا ما
أشبهه. قال ابن هشام في المغني: ويشكل عليهم الحديث في صفة
الدجال أعور عينه اليمنى؛ قال في المصابيح: خرّجه بعضهم
على
أن "اليمنى" خبر مبتدأ محذوف لا صفة لعينه، وكأنه لما قيل:
أعور عينه، قيل أي عينيه؟ فقيل: اليمنى، أي هي اليمنى.
وللأصيلي كما في الفتح: "عينُه" بالرفع، بقطع إضافة "أعور
عينه" ويكون بدلاً من قوله "أعور" أو مبتدأ حذف خبره
تقديره: عينه اليمنى عوراء، وتكون هذه الجملة صفة كاشفة
لقوله: "أعور" قاله في العمدة.
(كأن عينه عنبة طافية) بغير همز: بارزة خرجت عن نظائرها.
وضبّب في الفرع على قوله: "عينه" الذي بالتحتية والنون.
ولأبي ذرّ والحموي والمستملي: "كأن عنبة طافية" بإسقاط
"عينه" واحدة العيون، وإثبات "عنبة" بالموحدة ونصبها
كتاليها اسم "كأنّ" والخبر محذوف، أي: كأن في وجهه عنبة
طافية، كقوله:
إن مَحَلاًّ وإن مُرْتَحَلاً
أي: إن لنا محلاًّ وإن لنا مرتحلاً. وأعربه الدماميني بأن
قوله "اليمنى" مبتدأ، وقوله "كأن عنبة طافية" خبره،
والعائد محذوف تقديره: كأن فيها. قال: ويكون هذا وجهًا آخر
في دفع ما قاله ابن هشام، يعني من الاستشكال في صفة الدجال
السابق قريبًا. ولأبي ذرّ
(5/415)
عن الكشميهني: "كأنّ عينه طافية" بإسقاط
"عنبة" بالموحدة ورفع "طافية" خبر "كأنّ" وهو مما أقيم فيه
الظاهر مقام المضمر فيحصل الربط، وقد أجازه الأخفش؛
والتقدير: اليمنى كأنها طافية. قاله في المصابيح.
(قلت) كذا في اليونينية، وفي فرعها: "فقلت" بالفاء (من
هذا؟ قالوا: هذا الدجال) استشكل بأن الدجال لا يدخل مكة
ولا المدينة. وأجيب بأن المراد لا يدخلهما زمن خروجه ولم
يرد بذلك نفي دخوله في الزمن الماضي. (وأقرب الناس به
شبهًا ابن قطن) عبد العزّى. (قال الزهري) محمد بن سلم بن
شهاب بالسند السابق (رجل من خزاعة هلك في الجاهلية) قبل
الإسلام. وهذا الحديث من أفراده.
3442 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ: أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ
أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ - رضى الله عَنْهُ - قَالَ:
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِابْنِ
مَرْيَمَ، وَالأَنْبِيَاءُ أَوْلاَدُ عَلاَّتٍ، لَيْسَ
بَيْنِي وَبَيْنَهُ نَبِيٌّ». [الحديث 3442 - طرفه في:
3443].
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب
أنه (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة) ولأبي ذرّ: أخبرني
أبو سلمة بن عبد الرَّحمن، أي ابن عوف الزهري. (أن أبا
هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(أنا أولى الناس بابن مريم) زاد في رواية عبد الرَّحمن بن
أبي عمرة عن أبي هريرة الآتية قريبًا: "في الدنيا
والآخرة". وقال البيضاوي: الموجب لكونه أولى الناس به أنه
كان أقرب المرسلين
إليه وأنّ دينه متصل بدينه ليس بينهما نبيّ وأن عيسى عليه
الصلاة والسلام كان مبشرًا به ممهدًا لقواعد دينه داعي
الخلق إلى تصديقه. (والأنبياء) عليهم الصلاة والسلام
(أولاد علاّت) بفتح العين وتشديد اللام. والعَلّة: الضرّة؛
مأخوذة من العلل وهي الشربة الثانية بعد الأولى، وكأن
الزوج قد عَلَّ منها بعدما كان ناهلاً من الأخرى. وأولاد
العلاّت: أولاد الضرّات من رجل واحد. يريد أن الأنبياء أصل
دينهم واحد وفروعهم مختلفة، فهم متفقون في الاعتقاديات
المسماة بأصول الدين كالتوحيد وسائر علم الكلام، مختلفون
في الفروع وهي الفقهيات. وإن عيسى (ليس بيني وبينه نبيّ)
وهو كالشاهد لقوله: "أنا أولى الناس بابن مريم". لا يقال
إنه ورد أن الرسل الثلاثة الذين أرسلوا إلى أصحاب القرية
المذكورة قصتهم في سورة يس كانوا من أتباع عيسى عليه
السلام وأن جرجيس وخالد بن سنان كانا نبيين وكانا بعد
عيسى؛ لأن هذا الحديث الصحيح يضعف ذلك.
وهذا الحديث من إفراد.
3443 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِنَانٍ: حَدَّثَنَا
فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ: حَدَّثَنَا هِلاَلُ بْنُ
عَلِيٍّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي عَمْرَةَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَنَا
أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ، وَالأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّتٍ
أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ». وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ
عَنْ صَفْوَانَ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن سنان) الباهلي البصري قال:
(حدّثنا فليح بن سليمان) بضم الفاء مصغرًا، أو فليح لقب
واسمه عبد الملك، قال: (حدّثنا هلال بن علي) واسم جده
أسامة العامري المدني (عن عبد الرَّحمن بن أبي عمرة) بفتح
العين وسكون الميم الأنصاري المدني. ولد في عهده -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قال ابن أبي حاتم: ليس له
صحبة. (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أنا أولى الناس بعيسى ابن مريم في الدنيا والآخرة) لكونه
مبشّرًا بي قبل بعثتي وممهدًا لقواعد ملتي في آخر الزمان
تابعًا لشريعتي ناصرًا لديني، فكأننا واحد. (والأنبياء
إخوة لعلاّت) استئناف فيه دليل على الحكم السابق، وكأن
سائلاً سأل عما هو المقتضي لكونه أولى الناس به فأجاب
بذلك. (أمهاتهم شتّى ودينهم) في التوحيد (واحد). ومعنى
الحديث أن حاصل أمر النبوّة والغاية القصوى من البعثة التي
بعثوا جميعًا لأجلها دعوة الخلق إلى معرفة الحق وإرشادهم
إلى ما به ينتظم معاشهم ويحسن معادهم، فهم متفقون في هذا
الأصل وإن اختلفوا في تفاريع الشرع التي هي كالموصلة
المؤدية والأوعية الحافظة له؛ فعبّر عما هو الأصل المشترك
بين الكلّ بالأب ونسبهم إليهم، وعبّر عما يختلفون فيه من
الأحكام والشرائع المتفاوتة بالصورة المتقاربة في الغرض
بالأمهات، وهو معنى قوله: "أمهاتهم شتّى ودينهم واحد". أو
أن المراد أن الأنبياء وإن تباينت أعصارهم وتباعدت أيامهم
فالأصل الذي هو السبب في
إخراجهم وإبرازهم كلاًّ في عصره أمرّ واحد وهو الدين الحق،
فعلى هذا فالمراد بالأمهات الأزمنة التي اشتملت عليهم.
(وقال إبراهيم بن طهمان) بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء،
الخراساني،
(5/416)
فيما وصله النسائي. وسقطت واو "وقال" لأبي
ذرّ. (عن موسى بن عقبة) الإمام في المغازي (عن صفوان بن
سليم) المدني الزهري مولاهم (عن عطاء بن يسار) الهلالي
المدني مولى ميمونة (عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- أنه
(قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
كذا ساقه معلقًا مختصرًا، وفائدته تعوّد طرق حديث أبي
هريرة.
3444 - وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ:
حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ
هَمَّامٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«رَأَى عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَجُلاً يَسْرِقُ، فَقَالَ
لَهُ: أَسَرَقْتَ؟ قَالَ: كَلاَّ وَاللَّهِ الَّذِي لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ! فَقَالَ عِيسَى: آمَنْتُ بِاللَّهِ
وَكَذَّبْتُ عَيْنِي».
وبه قال: (وحدّثنا) ولأبي ذرّ: وحدثني، بالإفراد. (عبد
الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا عبد الرزاق) بن همام
الصنعاني قال: (أخبرنا معمر) بفتح الميمين بينهما عين
مهملة ساكنة، ابن راشد (عن همام) بفتح الهاء وتشديد الميم
الأولى، ابن منبه (عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال:)
(رأى عيسى ابن مريم) سقط "ابن مريم"، لأبي ذر. (رجلاً
يسرق) لم يسمّ الرجل ولا المسروق (فقال له: أسرقت)؟ بهمزة
الاستفهام في الفرع وأصله، وفي غيرهما: "سرقت" بغير همزة.
(قال: كلا) نفيٌ للسرقة أكّده بقوله: (والله الذي) ولأبي
ذرّ: "والذي" (لا إله إلا هو) وللحموي والمستملي: إلا
الله. (فقال عيسى: آمنت بالله) أي صدقت من حلف بالله
(وكذبت عيني) بالإفراد وتشديد ذال "كذبت". وللمستملي:
"وكَذَبت" بتخفيفها. والتشديد هو الظاهر لما رُوي في
الصحيح من رواية معمر: "وكذبت نفسي" رواه مسلم وذكره
الحميدي في جمعه في الثامن والسبعين بعد المائتين من
المتفق عليه، أعني رواية معمر بعد ذكر حديث همام هذا.
وقوله: "وكذبت نفسي" خرج مخرج المبالغة في تصديق الحالف لا
أنه كذب نفسه حقيقة، أو أراد صدقه في الحكم لأنه لم يحكم
بعلمه وإلاّ فالمشاهدة أعلى اليقين فكيف يكذب عينه ويصدق
قول المدعي؟ وقول القرطبي: وظاهر قول عيسى "سرقتَ" أنه خبر
جازم عما فعل الرجل من السرقة لكونه رآه أخذ مالاً من حرز
في خفية، وقوله "وكذبتُ نفسي" أي كذبت ما ظهر لي من كون
الأخذ سرقة، إذ يحتمل أن يكون الرجل أخذ ما له فيه حق أو
ما أذن له صاحبه في أخذه أو أخَذَه ليقلبه وينظر فيه، ولم
يقصد الغصب والاستيلاء. ويحتمل أن يكون عيسى عليه السلام
كان غير جازم بذلك، وإنما أراد استفهامه بقوله: "سرقتَ"
وتكون أداة الاستفهام محذوفة، وهو سائغ. اعتُرض بجزمه
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "إن عيسى رأى
رجلاً يسرق" فالاستفهام بعيد، وبأن احتمال كونه أخذ ما
يحلّ له بعيد أيضًا بهذا الجزم اهـ. وهذا يمكن على حذف
الهمزة، أما على رواية إثباتها ففيه نظر
فليتأمل. واستُنبط منه منع القضاء بالعلم، وهو مذهب
المالكية والحنابلة مطلقًا، وجوّزه الشافعية إلا في
الحدود. وهذا الحديث أخرجه مسلم أيضًا.
3445 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ
قَالَ: سَمِعْتُ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ: أَخْبَرَنِي
عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ: سَمِعَ عُمَرَ -رضي الله عنه- يَقُولُ عَلَى
الْمِنْبَرِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لاَ تُطْرُونِي كَمَا
أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا
عَبْدُهُ؛ فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير قال:
(حدّثنا سفيان) بن عيينة (قال: سمعت الزهري) محمد بن مسلم
(يقول: أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن عبد
الله) بن عتبة بن مسعود (عن ابن عباس) أنه (سمع عمر) بن
الخطاب (-رضي الله عنه-) حال كونه (يقول على المنبر: سمعت
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(لا تطروني) بضم التاء وسكون الطاء المهملة، من الإطراء؛
أي لا تمدحوني بالباطل، أو لا تجاوزوا الحدّ في مدحي (كما
أطرت النصارى) عيسى (ابن مريم) في ادّعائهم إلهيته وغيرها
(فإنما أنا عبده) ورسوله (فقولوا: عبد الله ورسوله).
فإن قلت: هل ادّعى أحد في نبينا عليه السلام ما ادُّعي في
عيسى؟ أُجيب بأنهم قد كادوا أن يفعلوا نحو ذلك حين قالوا
له عليه الصلاة والسلام: أفلا نسجد لك؟ فقال: "لو كنت
آمرًا أحدًا أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها"
فنهاهم عمّا عساه أن يبلغ بهم من العبادة.
وهذا الحديث طرف من حديث السقيفة ذكره مطوّلاً في كتاب
المحاربين. 3446 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ:
أَخْبَرَنَا صَالِحُ بْنُ حَىٍّ أَنَّ رَجُلاً مِنْ أَهْلِ
خُرَاسَانَ قَالَ لِلشَّعْبِيِّ. فَقَالَ الشَّعْبِيُّ:
أَخْبَرَنِي أَبُو بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى
الأَشْعَرِيِّ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا
أَدَّبَ الرَّجُلُ أَمَتَهُ فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا،
وَعَلَّمَهَا فَأَحْسَنَ تَعْلِيمَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا
فَتَزَوَّجَهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ؛ وَإِذَا آمَنَ
بِعِيسَى ثُمَّ آمَنَ بِي فَلَهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْدُ
إِذَا اتَّقَى رَبَّهُ وَأَطَاعَ مَوَالِيَهُ فَلَهُ
أَجْرَانِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي المجاور بمكة،
قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي، قال: (أخبرنا
صالح بن حيّ) بفتح الحاء المهملة ضد الميت، هو صالح بن
صالح الهمداني (أن رجلاً من أهل خراسان) الإقليم العظيم
(قال للشعبي) عامر بن شراحيل (فقال الشعبي) حذف السؤال،
وقد ذكره في رواية
(5/417)
حبان بن موسى عن ابن المبارك فقال: إنّا
نقول عندنا إن الرجل إذا أعتق أمّ ولده ثم تزوجها فهو
كالراكب بدنته؟ فقال الشعبي: (أخبرني) بالإفراد (أبو بردة)
بضم الموحدة، عامر أو الحرث (عن) أبيه (أبي موسى) عبد الله
بن قيس (الأشعري رضي الله عنه) أنه (قال: قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا أدّب الرجل أَمَته) لتتخلق بالأخلاق الحسنة (فأحسن
تأديبها) برفق ولطف من غير عنف (وعلّمها) ما يجب تعليمه
(فأحسن تعليمها، ثم أعتقها فتزوجها) بعد أن أصدقها (كان
له) للرجل (أجران) أجر العتق وأجر التزويج (وإذا آمن
بعيسى) ابن مريم (ثم آمن بي فله أجران) أجر إيمانه بعيسى
وأجر إيمانه بنبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
(والعبد) المملوك (إذا اتّقى ربه وأطاع مواليه فله أجران)
أجر اتقاء ربه وأجر طاعة مواليه.
وهذا الحديث قد سبق في باب تعليم الرجل أمته من كتاب العلم
وفي العتق والجهاد، ويأتي في النكاح إن شاء الله تعالى.
3447 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ: حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ النُّعْمَانِ عَنْ
سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله
عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً
غُرْلاً». ثُمَّ قَرَأَ: {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ
نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ}
[الأنبياء: 104] "فَأَوَّلُ مَنْ يُكْسَى إِبْرَاهِيمُ،
ثُمَّ يُؤْخَذُ بِرِجَالٍ مِنْ أَصْحَابِي ذَاتَ
الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ فَأَقُولُ أَصْحَابِي!
فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى
أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ. فَأَقُولُ كَمَا
قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ:
{وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ
فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ
عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ (117)
إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ
لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [المائدة:
117، 118] ".
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الفِرَبْرِيُّ: ذُكِرَ عَنْ
أَبِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ قَبِيصَةَ قَالَ: "هُمُ
الْمُرْتَدُّونَ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى عَهْدِ أَبِي
بَكْرٍ فَقَاتَلَهُمْ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه-".
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) الفريابي قال: (حدّثنا
سفيان) الثوري (عن المغيرة بن النعمان) النخعي الكوفي (عن
سعيد بن جبير عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: قال
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(تحُشرون) عند الخروج من القبور حال كونكم (حفاة) بلا خُفّ
ولا نعل (عراة) بلا ثياب، وبعضكم بثيابه لحديث أبي سعيد
صححه ابن حبان مرفوعًا: "إن الميتَ يُبعَثُ بثيابِه الّتي
يَمُوتُ فيها". (غرلاً) غير مختونين (ثم قرأ: {كما بدأنا
أول خلق نعيده}) أي نوجده بعينه بعد إعدامه مرة أخرى
({وعدًا علينا إنّا كنا فاعلين}) الإعادة والبعث. (فأول من
يكسى) من الأنبياء يوم القيامة (إبراهيم) الخليل بعد حشر
الناس كلهم عراة أو بعضهم كاسيًا أو بعد خروجهم من قبورهم
بأثوابهم التي ماتوا فيها، ثم تتناثر عنهم عند ابتداء
الحشر فيحشرون عراة، ثم يكون أول من يكسى إبراهيم. (ثم
يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين) وهي جهة الجنة (وذات
الشمال) جهة النار (فأقول): هؤلاء (أصحابي)! مرة واحدة
(فيقال: إنهم لم) بالميم (يزالوا مرتدّين على
أعقابهم) بالكفر (منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح
عيسى ابن مريم: {وكنت عليهم شهيدًا ما دمت فيهم}) مشاهدًا
لأحوالهم من كفر وإيمان (فلما توفيتني كنت أنت الرقيب
عليهم) المراقب لأحوالهم (وأنت على كل شيء شهيد) مطلع عليه
مراقب له (إن تعذبهم فإنهم عبادك) ولا اعتراض على المالك
المطلق فيما يفعل في ملكه ({وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز
الحكيم}) الذي لا يثيب ولا يعاقب إلا عن حكمة. وثبت: "إن
تعذبهم ... الخ" ولأبي ذرّ. وعند غيره بعد قوله: "شهيدًا"
إلى قوله: "العزيز الحكيم".
(قال محمد بن يوسف الفربري) سقط لفظ "الفربري" لغير أبي ذر
(ذكر) بضم الذال المعجمة مبنيًّا للمفعول (عن أبي عبد
الله) محمد بن إسماعيل البخاري مما وصله الإسماعيلي (عن
قبيصة) بن عقبة السوائي العامري، وهو شيخ البخاري، أنه
(قال) في قوله "فيقال إنهم لم يزالوا مرتدين ... الخ": (هم
المرتدون) من الأعراب (الذين ارتدّوا) عن الإسلام (على عهد
أبي بكر) الصدّيق في خلافته (فقاتلهم أبو بكر -رضي الله
عنه-) وهذا وصله الإسماعيلي. ولا ريب أن من ارتدّ سُلب اسم
الصحبة لأنها نسبة شريفة إسلامية فلا يستحقّها من ارتدّ
بعد أن اتّصف بها.
والحاصل أنه حمل قوله "من أصحابي" أي باعتبار ما كان قبل
الردّة لأنهم ماتوا على ذلك.
49 - باب نُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عليهما السلام
مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ آخِرِ الزَّمَانِ.
وَسَقَطَ لَفْظ "بَاب" لأَبِي ذَرّ، فـ "نزولُ" رفع.
3448 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ: أَخْبَرَنَا يَعْقُوبُ بْنُ
إِبْرَاهِيمَ: حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ صَالِحٍ عَنِ ابْنِ
شِهَابٍ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَالَّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ! لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابْنُ
مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلاً، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ
وَيَقْتُلَ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعَ الْجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ
الْمَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ، حَتَّى تَكُونَ
السَّجْدَةُ الْوَاحِدَةُ خَيْرًا مِنَ الدُّنْيَا وَمَا
فِيهَا». ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-:
وَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}
[النساء: 159].
وبه قال: (حدّثنا إسحاق) بن راهويه قال: (أخبرنا يعقوب بن
إبراهيم) الزهري قال: (حدّثنا أبي) إبراهيم بن عبد
الرَّحمن بن عوف (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب)
محمد بن مسلم الزهري (أن سعيد بن المسيب سمع أبا هريرة
-رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(و) الله (الذي نفسي بيده) بقدرته وتصريفه. قال في فتح
الباري: فيه الحلف في الخبر مبالغة في تأكيده.
(5/418)
(ليوشكن) بكسر المعجمة وفتح الكاف: ليقربن
سريعًا (أن ينزل فيكم ابن مريم حكمًا عدلاً) عند مسلم من
طريق الليث عن ابن شهاب: "وحكمًا مقسطًا" أي حاكمًا عادلاً
يحكم
بهذه الشريعة المحمدية ولا يحكم بشريعته التي أنزلت عليه
في أوان رسالته. (فيكسر الصليب) الفاء تفصيلية لقولها
"حكمًا عدلاً". (ويقتل الخنزير) أي يبطل دين النصرانية
بكسر الصليب حقيقة، أو يبطل ما تزعمه النصارى من تعظيمه.
واستُدل به على تحريم اقتناء الخنزير وأكله ونجاسته؛ لأن
الشيء المنتفع به لا يجوز إتلافه. لكن في الطبراني الأوسط
من طريق أبي صالح عن أبي هريرة: "فيكسر الصليب ويقتل
الخنزير والقرد" وإسناده لا بأس به. وحينئذ فلا يصحّ
الاستدلال به على نجاسة عين الخنزير لأن القرد ليس بنجس
اتفاقًا. (ويضع الجزية) من أهل الكتاب لأنه لا يقبل إلا
الإسلام ولعدم احتياج الناس إلى المال لما تلقيه الأرض من
بركاتها كما قال: (ويفيض المال) بفتح الياء: يكثر (حتى لا
يقبله أحد) وليس عيسى بناسخ لحكم الجزية بل نبينا محمد
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هو المبين للنسخ
بهذا، فعدم قبولها هو من هذه الشريعة لكنه مقيد بنزول
عيسى.
ولأبي ذرّ عن الحموي والمستملي: "ويضع الحرب" بالحاء
المهملة والراء الساكنة والموحدة بدل الجزية. (حتى تكون
السجدة الواحدة خير) بالرفع. ولأبي ذرّ والأصيلي: "خيرًا"
بالنصب خبر "كان". (من الدنيا وما فيها) و"حتى" الأولى
متعلقة بقوله: "ويفيض المال" والثانية غاية لمفهوم قوله:
"فيكسر الصليب ... الخ" والمعنى أنهم لا يتقربون إلى الله
بالتصدّق بالمال بل بالعبادة لكثرة المال إذ ذاك وعدم
الانتفاع به، وإلا فمعلوم أن السجدة الواحدة دائمًا خير من
الدنيا وما فيها.
(ثم يقول أبو هريرة) بالإسناد السابق، مستدلاًّ على نزول
عيسى في آخر الزمان تصديقًا للحديث: (واقرؤوا إن شئتم:
{وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به}) بعيسى (قبل موته) أي
وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى وهم
أهل الكتاب الذين يكونون في زمانه فتكون الملة واحدة وهي
ملّة الإسلام. وبهذا جزم ابن عباس فيما رواه ابن جرير من
طريق سعيد بن جبير عنه بإسناد صحيح. وقيل: المعنى: ليس من
أهل الكتاب أحد يحضره الموت إلا آمن عند المعاينة قبل خروج
روحه بعيسى وأنه عبد الله وابن أَمَتِهِ، ولكن لا ينفعه
الإيمان في تلك الحالة. وظاهر القرآن عمومه في كل كتابيّ
يهوديّ أو نصرانيّ في زمن نزول عيسى وقبله.
فإن قلت: ما الحكمة في نزول عيسى دون غيره من الأنبياء؟
أجيب: للردّ على اليهود حيث زعموا أنهم قتلوه فبيّن الله
تعالى كذبهم وأنه الذي يقتلهم. ({ويوم القيامة يكون عليهم
شهيدًا}) أنه قد بلغهم رسالة ربه ومقرًّا بالعبودية على
نفسه، وكل نبيّ شاهد على أمته.
3449 - حَدَّثَنَا ابْنُ بُكَيْرٍ: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ
عَنْ يُونُسَ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ نَافِعٍ مَوْلَى
أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: «كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا نَزَلَ ابْنُ مَرْيَمَ
فِيكُمْ وَإِمَامُكُمْ مِنْكُمْ». تَابَعَهُ عُقَيْلٌ
وَالأَوْزَاعِيُّ.
وبه قال: (حدّثنا ابن بكير) بضم الموحدة مصغرًا؛ هو يحيى
بن عبد الله بن بكير المخزومي البصري، قال: (حدّثنا الليث)
بن سعد إمام المصريين الفهمي (عن يونس) بن يزيد الأيلي (عن
ابن شهاب) الزهري (عن نافع) أبي محمد بن عباس بالموحدة
(مولى أبي قتادة الأنصاري) للملازمة
له، وإلاّ فهو مولى امرأة من غفار. (إن أبا هريرة) -رضي
الله عنه- (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(كيف أنتم إذا نزل ابن مريم فيكم وإمامكم) في الصلاة
(منكم) كما في مسلم: "أنه يقال
له: صَلِّ لنا، فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء تكرمة
لهذه الأمة". قال ابن الجوزي: لو تقدم عيسى إمامًا لوقع في
النفس إشكال ولقيل: أتراه نائبًا أو مبتدئًا شرعًا؟ فصلّى
مأمومًا لئلا يتدنس بغبار الشبهة وجه قوله: "لا نبيّ
بعدي". وقال الطيبي: معنى الحديث أن يؤمكم عيسى حال كونكم
في دينكم. وصحح المولى سعد الدين التفتازاني أنه يؤمهم
ويقتدي به المهدي لأنه أفضل، فإمامته أولى. وهذا يعكر عليه
حديث مسلم السابق. وقال الحافظ أبو ذرّ الهروي: حدّثنا
الجوزقي عن بعض المتقدمين أن معناه أنه يحكم بالقرآن لا
بالإنجيل. وهذا الحديث أخرجه مسلم في الإيمان.
(5/419)
(تابعه) أي تابع يونس (عقيل) بضم العين
مصغرًا، ابن خالد، فيما وصله ابن منده.
(والأوزاعي) عبد الرَّحمن فيما وصله ابن منده أيضًا وابن
حبان والبيهقي.
وفي حديث ابن عمر عند مسلم: "أن مدة إقامة عيسى بالأرض بعد
نزوله سبع سنين".
وفي حديث ابن عباس عند نعيم بن حماد في كتاب الفتن: "أنه
يتزوج في الأرض ويقيم بها تسع عشرة سنة". وعند بإسناد فيه
متّهم عن أبي هريرة: "يقيم بها أربعين سنة".
بسم الله الرحمن الرحيم
(بسم الله الرحمن الرحيم) سقطت البسملة لأبي ذرّ.
50 - باب مَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ
(باب ما ذكر عن بني إسرائيل) ذرية يعقوب بن إسحاق بن
إبراهيم من الأعاجيب التي كانت في زمنهم.
3450 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا
أَبُو عَوَانَةَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بنُ
عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ قَالَ: قَالَ
عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو لِحُذَيْفَةَ: أَلاَ تُحَدِّثُنَا
مَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
«إِنَّ مَعَ الدَّجَّالِ إِذَا خَرَجَ مَاءً وَنَارًا؛
فَأَمَّا الَّذِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهَا النَّارُ
فَمَاءٌ بَارِدٌ، وَأَمَّا الَّتِي يَرَى النَّاسُ أَنَّهُ
مَاءٌ بَارِدٌ فَنَارٌ تُحْرِقُ. فَمَنْ أَدْرَكَ مِنْكُمْ
فَلْيَقَعْ فِي الَّذِي يَرَى أَنَّهَا نَارٌ فَإِنَّهُ
عَذْبٌ بَارِدٌ». [الحديث 3450 - طرفه في: 7130].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
أبو عوانة) الوضّاح بن عبد الله اليشكري قال: (حدّثنا عبد
الملك) بن عمير الكوفي (عن ربعي بن حراش) بكسر الراء وسكون
الموحدة وكسر العين المهملة؛ وحراش بالحاء المهملة وبعد
الراء المخففة ألف فمعجمة، الغطفاني،
يقال إنه تكلم بعد الموت. أنه (قال: قال عقبة بن عمرو)
بفتح العين وسكون الميم، الأنصاري المعروف بالبدري
(لحذيفة) بن اليمان (ألا) بالتخفيف (تحدّثنا ما سمعت من
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال: إني
سمعته يقول):
(إن مع الدجال إذا خرج ماء ونارًا، فأما الذي) ولآبي ذرّ
عن الكشميهني: "فأما التي" (يرى الناس أنها النار فماء
بارد، وأما الذي يرى الناس أنه ماء بارد فنار تحرق؛ فمن
أدرك) ذلك (منكم فليقع في الذي يرى أنها نار فإنه) ماء
(عذب بارد). وفي مسلم عن أبي هريرة: "وإنه يجيء معه مثل
الجنة والنار، فالتي يقول إنه جنة هي النار وهذا من فتنته
التي امتحن الله بها عباده، ثم يفضحه الله تعالى ويظهر
عجزه".
3451 - قَالَ حُذَيْفَةُ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ
رَجُلاً كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ أَتَاهُ الْمَلَكُ
لِيَقْبِضَ رُوحَهُ، فَقِيلَ لَهُ: هَلْ عَمِلْتَ مِنْ
خَيْرٍ؟ قَالَ: مَا أَعْلَمُ، قِيلَ لَهُ: انْظُرْ. قَالَ:
مَا أَعْلَمُ شَيْئًا، غَيْرَ أَنِّي كُنْتُ أُبَايِعُ
النَّاسَ فِي الدُّنْيَا وَأُجَازِيهِمْ فَأُنْظِرُ
الْمُوسِرَ وَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُعْسِرِ. فَأَدْخَلَهُ
اللَّهُ الْجَنَّةَ».
(قال حذيفة) بالإسناد السابق (وسمعته) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يقول):
(إنّ رجلاً) لم يسمّ (كان فيمن كان قبلكم أتاه الملك ليقبض
روحه، فقيل) أي فقبضها فبعثه الله فقال (له: هل عملت من
خير؟ قال: ما أعلم. قيل له: انظر. قال: ما أعلم شيئًا غير
أني كنت أبايع الناس في الدنيا فأجازيهم) بضم الهمزة
وبالجيم والزاي: أتقاضاهم الحق آخذ منهم وأعطيهم (فأنظر
الموسر وأتجاوز عن المعسر. فأدخله الله الجنة) وهذا سبق في
البيع.
3452 - فَقَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «إِنَّ رَجُلاً
حَضَرَهُ الْمَوْتُ، فَلَمَّا يَئِسَ مِنَ الْحَيَاةِ
أَوْصَى أَهْلَهُ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي
حَطَبًا كَثِيرًا وَأَوْقِدُوا فِيهِ نَارًا، حَتَّى إِذَا
أَكَلَتْ لَحْمِي وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَامْتَحَشْتُ
فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا ثُمَّ انْظُرُوا يَوْمًا رَاحًا
فَاذْرُوهُ فِي الْيَمِّ. فَفَعَلُوا. فَجَمَعَهُ فَقَالَ
لَهُ: لِمَ فَعَلْتَ ذَلِكَ؟ قَالَ: مِنْ خَشْيَتِكَ.
فَغَفَرَ اللَّهُ لَهُ».
قَالَ عُقْبَةُ بْنُ عَمْرٍو: "وَأَنَا سَمِعْتُهُ يَقُولُ
ذَاكَ، وَكَانَ نَبَّاشًا".
(فقال) ولأبي ذر: "قال" أي حذيفة (وسمعته) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يقول):
(إن رجلاً) لم يسمّ (حضره الموت، فلما يئس من الحياة أوصى
أهله: إذا أنا متّ فاجمعوا لي حطبًا كثيرًا وأوقدوا) لي
(فيه) في الحطب (نارًا) وألقوني فيها (حتى إذا أكلت) أي
النار (لحمي وخلصت) بفتح اللام، أي وصلت (إلى عظمي
فامتحشت) بفتح الفوقية والحاء المهملة والشين المعجمة.
ولأبي ذرّ: "فامتُحشت" بضم التاء وكسر الحاء: احترقت.
(فخذوها) أي العظام المتحرقة (فاطحنوها، ثم انظروا يومًا
راحًا) براء مفتوحة بعدها ألف فحاء مهملة منوّنة: كثير
الريح.
(فاذروه) بالذال المعجمة ووصل الألف، أي طيروه (في اليمّ)
في البحر (ففعلوا) ما أوصاهم به (فجمعه فقال) ولأبي ذرّ عن
الكشميهني: "فجمعه الله فقال" (له: لم فعلت ذلك؟ قال: من
خشيتك. فغفر الله له. قال عقبة بن عمرو) البدري لحذيفة:
(وأنا سمعته) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يقول
ذاك) بألف من غير لام (وكان) أي الرجل الموصي (نبّاشًا)
للقبور يسرق الأكفان. وظاهره أنه من زيادة عقبة بن عمرو،
ولكن أورده ابن حبان من طريق ربعي عن حذيفة قال: "توفي رجل
كان نبّاشًا، فقال لولده: أحرقوني" فدلّ على أن قوله "وكان
نبّاشًا" من رواية حذيفة وعقبة معًا.
3453 - 3454 - حَدَّثَنِي بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ: أَخْبَرَنِي مَعْمَرٌ
وَيُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ
اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَائِشَةَ وَابْنَ
عَبَّاسٍ رضي الله عنهم قَالاَ: لَمَّا نَزَلَ بِرَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طَفِقَ
يَطْرَحُ خَمِيصَةً عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ
كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهْوَ كَذَلِكَ:
«لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ». يُحَذِّرُ
مَا صَنَعُوا.
وبه قال: (حدثني) بالإفراد. ولأبي ذرّ: حدّثنا (بشر بن
محمد) بكسر الموحدة وسكون المعجمة: السختياني المروزي،
قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرني)
بالإفراد (معمر) هو ابن راشد (ويونس) بن يزيد الأيلي،
كلاهما (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال:
أخبرني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله) بن
عتبة بن مسعود (أن عائشة وابن عباس رضي الله عنهم قالا لما
نزل برسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بفتح
نون "نزل"
(5/420)
وزايه: أي الموت أو الملك لقبض روحه
الشريفة زادها الله تعالى شرفًا (طفق) جعل (يطرح خميصة)
كساء له أعلام (على وجهه) الشريف (فإذا اغتمّ) بالغين
المعجمة، أي تسخّن بالخميصة وأخذ بنفسه من شدّة الحر
(كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك) أي في حالة الطرح والكشف:
(لعنة الله على اليهود والنصارى) وكأنه سئل ما سبب لعنهم،
فقال: (اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) وكأنه قيل للراوي: ما
حكمة ذكر ذلك في ذلك الوقت؟ فقال: (يحذّر) أمته أن يصنعوا
بقبره المقدس مثل (ما صنعوا) أي اليهود والنصارى بقبور
أنبيائهم. وهذا الحديث قد سبق في الصلاة في باب مفرد عقب
باب الصلاة في البيعة. ومراد المؤلّف منه هنا ذمّ اليهود
والنصارى في اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.
3455 - حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
فُرَاتٍ الْقَزَّازِ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا حَازِمٍ قَالَ:
قَاعَدْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- خَمْسَ
سِنِينَ، فَسَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كَانَتْ بَنُو
إِسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأَنْبِيَاءُ، كُلَّمَا هَلَكَ
نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وَإِنَّهُ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي،
وَسَيَكُونُ خُلَفَاءُ فَيَكْثُرُونَ». قَالُوا: فَمَا
تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: «فُوا بِبَيْعَةِ الأَوَّلِ
فَالأَوَّلِ، أَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ
سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد (محمد بن بشار) بالموحدة
والمعجمة المشدّدة: بندار، قال: (حدّثنا محمد بن جعفر)
غندر قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن فرات) بضم الفاء
وبعد الراء المخففة ألف ففوقية: ابن أبي عبد الرَّحمن
(القزّاز) بفتح القاف وتشديد الزاي الأولى، أنه (قال: سمعت
أبا حازم) بالحاء المهملة والزاي: سلمان الأشجعي (قال:
قاعدت أبا هريرة) عبّر بباب المفاعلة ليدلّ على قعوده
متعلقًا بأبي هريرة وملازمته له (خمس سنين، فسمعته يحدث عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء) تتولى أمورهم كما تفعل
الولاة برعاياهم حال كونهم (كلما هلك نبي خلفه) بفتح اللام
المخففة: قام مقامه (نبيّ) يقيم لهم أمرهم ويزيل ما غيروا
من أحكام التوراة إلى غير ذلك كإنصاف الظالم من المظلوم.
(وإنه لا نبي بعدي) يجيء فيفعل ما كانوا يفعلون (وسيكون
خلفاء) بعدي (فيكثرون) بالمثلثة المضمومة والتحتية
المفتوحة. (قالوا: فما تأمرنا) الفاء جواب شرط محذوف، أي
إذا كثر بعدك الخلفاء فوقع التشاجر والتنازع بينهم فما
تأمرنا نفعل؟ (قال) عليه الصلاة والسلام: (فوا) بضم الفاء
أمر من الوفاء (ببيعة الأول فالأول) الفاء للتعقيب
والتكرير والاستمرار، ولم يرد به زمان واحد بل الحكم هذا
عند تجدد كل زمان وبيعة؛ قاله الطيبي. وقال في الفتح: أي
إذا بويع الخليفة بعد خليفة فبيعة الأول صحيحة يجب الوفاء
بها وبيعة الثاني باطلة؛ قال النووي: سواء عقدوا للثاني
عالمين بالأول أم لا، سواء كانوا في بلد واحد أو أكثر،
سواء كانوا في بلد الإمام المنفصل أم لا. هذا هو الصواب
الذي عليه الجمهور. وقيل: تكون لمن عقدت له في بلد الإمام
دون غيره. وقيل: يقرع بينهما. قال: وهما قولان فاسدان.
وقال القرطبي: في هذا الحديث حكم بيعة الأول وأنه يجب
الوفاء بها.
وسكت عن بيعة الثاني، وقد نصّ عليه في حديث عرفجة في صحيح
مسلم حين قال: "فاضربوا عنق الآخر".
(أعطوهم حقهم) من السمع والطاعة فإن في ذلك إعلاء كلمة
الدين وكفّ الفتن والشرّ.
وهمزة "أعطوهم" مفتوحة، قال في شرح المشكاة: وهو كالبدل من
قوله: "فوا ببيعة الأول". (فإن الله) أي أعطوهم حقهم وإن
لم يعطوكم حقكم فإن الله (سائلهم) يوم القيامة (عما
استرعاهم) ويثيبكم بما لكم عليهم من الحقوق. وهذا الحديث
أخرجه مسلم في المغازي وابن ماجه في الجهاد.
3456 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ:
حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ قَالَ: حَدَّثَنِي زَيْدُ بْنُ
أَسْلَمَ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
-رضي الله عنه- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كان
قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى
لَوْ سَلَكُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ». قُلْنَا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ! الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى قَالَ:
«فَمَنْ»؟. [الحديث 3456 - طرفه في: 7320].
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) هو سعيد بن محمد بن
الحكم بن أبي مريم المصري، قال: (حدّثنا أبو غسان) بفتح
الغين المعجمة والسين المهملة المشددة وبعد الألف نون:
محمد بن مطرف (قال: حدثني) بالإفراد (زيد بن أسلم) العدوي
مولى عمر (عن عطاء بن يسار) بالتحتية والمهملة المخففة:
الهلالي المدني مولى ميمونة (عن أبي سعيد) سعد بن مالك
الخدري (-رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(لتتبعن) بتشديد الفوقية الثانية وكسر الموحدة وضمّ العين
وتشديد النون (سنن من كان قبلكم) بفتح السين: سبيلهم
ومنهاجهم (شبرًا بشبر وذراعًا بذراع) بالذال المعجمة،
و"شبرًا" نصب بنزع الخافض، أي لتتبعن سنن من كان قبلكم
اتباعًا بشبر متلبس بشبر وذراع متلبس بذراع؛ وهو كناية عن
شدة الموافقة لهم في المخالفات والمعاصي لا في الكفر، وكذا
قوله: (حتى لو سلكوا
(5/421)
جحر ضبّ لسلكتموه) بضم الجيم وسكون الحاء
المهملة. والضبّ حيوان بري معروف يشبه الورل؛ قال ابن
خالويه: إنه يعيش سبعمائة سنة فصاعدًا ولا يشرب الماء،
وقيل: إنه يبول في كل أربعين يومًا قطرة ولا يسقط له سنّ.
وفي كتاب العقوبات لابن أبي الدنيا عن أنس: أن الضبّ ليموت
في جحره هزالاً من ظلم بني آدم. وخصّ جحر الضبّ بذلك لشدّة
ضيقه ورداءته، ومع ذلك فإنهم لاقتفائهم آثارهم واتباعهم
طرائقهم لو دخلوا في مثل هذا الضيق الرديء لوافقوهم؛ قاله
ابن حجر.
(قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن) استفهام
إنكاري؛ أي ليس المراد غيرهم.
ولأبي ذرّ: "قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-: فمن".
3457 - حَدَّثَنَا عِمْرَانُ بْنُ مَيْسَرَةَ: حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْوَارِثِ: حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ أَبِي
قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "ذَكَرُوا
النَّارَ وَالنَّاقُوسَ فَذَكَرُوا الْيَهُودَ
وَالنَّصَارَى، فَأُمِرَ بِلاَلٌ أَنْ يَشْفَعَ الأَذَانَ
وَأَنْ يُوتِرَ الإِقَامَةَ".
وبه قال: (حدّثنا عمران بن ميسرة) ضد الميمنة الأدمي
البصري قال: (حدّثنا عبد الوارث) بن سعيد التنوري قال:
(حدّثنا خالد) الحذاء (عن أبي قلابة) بكسر القاف عبد الله
بن زيد (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال): لما كثر الناس
وأرادوا أن يعلموا وقت الصلاة بشيء يعرفونه (ذكروا النار)
يوقدونها كالمجوس (والناقوس) يضربونه (فذكروا اليهود
والنصارى). وهذا موضع الترجمة لأجل ذكر اليهود لأنهم من
بني إسرائيل (فأمر بلال أن يشفع الأذان) يأتي بألفاظه مثنى
إلا لفظ التكبير أوله فإنه أربع، وإلا كلمة التوحيد في
آخره فإنها مفردة فالمراد معظمة (وأن يوتر الإقامة) إلا
لفظ الإقامة فإنه يثنى.
وقد سبق هذا الحديث في بدء الأذان من كتاب الصلاة.
3458 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنِ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنْ
مَسْرُوقٍ "عَنْ عَائِشَةَ - رضي الله عنها كَانَتْ
تَكْرَهُ أَنْ يَجْعَلَ الْمُصَلِّي يَدَهُ فِي
خَاصِرَتِهِ وَتَقُولُ: إِنَّ الْيَهُودَ تَفْعَلُهُ".
تَابَعَهُ شُعْبَةُ عَنِ الأَعْمَشِ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن يوسف) البيكندي قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة (عن الأعمش) سليمان (عن أبي الضحى) مسلم
بن صبيح (عن مسروق) هو ابن الأجدع (عن عائشة -رضي الله
عنها- أنها كانت تكره أن يجعل المصلي يده في خاصرته وتقول:
إن اليهود) وهم من بني إسرائيل (تفعله) فيكره التشبه بهم
كراهة تنزيه وهو فعل الجبابرة واستراحة أهل النار. (تابعه)
أي تابع سفيان بن عيينة (شعبة) بن الحجاج (عن الأعمش)
سليمان ووصل هذه المتابعة ابن أبي شيبة.
وروى الحديث المؤلّف معلقًا من طريق ابن سيرين عن أبي
هريرة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في
باب: الخصر في أواخر الصلاة.
3459 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
لَيْثٌ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «إِنَّمَا أَجَلُكُمْ -فِي أَجَلِ مَنْ خَلاَ مِنَ
الأُمَمِ- مَا بَيْنَ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ
الشَّمْسِ. وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالاً فَقَالَ:
مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ
قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ
عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي
مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى
قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ
النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ
قِيرَاطٍ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلاَةِ
الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ
قِيرَاطَيْنِ؟ أَلاَ فَأَنْتُمُ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ
مِنْ صَلاَةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى
قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلاَ لَكُمُ الأَجْرُ
مَرَّتَيْنِ. فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى
فَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلاً وَأَقَلُّ عَطَاءً،
قَالَ اللَّهُ: هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟
قَالُوا: لاَ. قَالَ: فَإِنَّهُ فَضْلِي، أُعْطِيهِ مَنْ
شِئْتُ».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) الثقفي مولاهم البلخي
قال: (حدّثنا ليث) هو ابن سعد الإمام ولأبي ذر: الليث (عن
نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما- عن رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إنما أجلكم) أي زمانكم أيها المسلمون (في أجل من خلا) في
زمان من مضى (من الأمم ما بين صلاة العصر) المنتهية (إلى
مغرب الشمس) وفي الصلاة من طريق سالم عن أبيه إلى غروب
الشمس (وإنما مثلكم) أيها المسلمون مع نبيكم (ومثل اليهود
والنصارى) مع أنبيائهم (كرجل استعمل عمالاً) بضم العين
وتشديد الميم جمع عامل بأجرة (فقال: من يعمل لي) عملاً
(إلى نصف النهار على قيراط قيراط) وهو نصف دانق والمراد به
هنا النصيب (فعملت اليهود إلى نصف النهار
على قيراط قيراط) فأعطوا كل واحد قيراطًا (ثم قال: من يعمل
لي) عملاً (من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط
قيراط). فعملت النصارى من نصف النهار إلى صلاة العصر على
قيراط قيراط. ثم قال: من يعمل لي عملاً (من صلاة العصر إلى
مغرب الشمس على قيراطين قيراطين؟ قال: ألا) بالتخفيف وفي
بعض النسخ قيراطين قيراطين ألا بإسقاط قال وفي اليونينية
ألا ورقم عليها لا علامة السقوط وفوقها قال (فأنتم) أيها
الأمة المحمدية (الذين يعملون) ولأبي ذر تعملون بالمثناة
الفوقية (من صلاة العصر إلى مغرب الشمس على قيراطين
قيراطين). سقط على قيراطين قيراطين لأبوي الوقت وذر (ألا)
بالتخفيف (لكم الأجر مرتين، فغضبت اليهود والنصارى) يعني
الكفار منهم (فقالوا: نحن أكثر عملاً وأقل عطاء قال الله)
عز وجل (هل) ولأبي ذر عن الكشميهني وهل (ظلمتكم) نقصتكم
(من حقكم شيئًا؟ قالوا: لا. قال: فإنه فضلي أعطيه من شئت).
وهذا الحديث سبق في الصلاة.
3460 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ طَاوُسٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
قَالَ: «سَمِعْتُ عُمَرَ -رضي الله عنه- يَقُولُ: قَاتَلَ
اللَّهُ فُلاَنًا، أَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: لَعَنَ
اللَّهُ الْيَهُودَ، حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ
فَجَمَّلُوهَا فَبَاعُوهَا». تَابَعَهُ جَابِرٌ وَأَبُو
هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثنا عليّ بن عبد الله)
(5/422)
المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن
عمرو) بفتح العين ابن دينار (عن طاوس) هو ابن كيسان
اليماني (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: سمعت
عمر) بن الخطاب (-رضي الله عنه- يقول: قاتل الله) لعن الله
(فلانًا) يعني سمرة بن جندب لأنه باع خمرًا كان أخذها من
أهل الكتاب عن قيمة الجزية معتقدًا جواز بيعها، ولذلك
اقتصر عمر -رضي الله عنه- على ذمه ولم يعاقبه، ويحتمل أنه
لم يرد الدعاء عليه بل أراد بها التغليظ عليه كعادة العرب،
ولعل الراوي لم يصرح باسمه تأدبًا (ألم يعلم) فلان (أن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم) أكلها مطلقًا من
الميتة وغيرها وجمع الشحم لاختلاف أجناسه وإلاّ فهو اسم
جنس حقه الإفراد (فجملوها) بفتح الجيم والميم أي أذابوها
(فباعوها) يعني فبيع فلان الخمر مثل بيع اليهود الشحم
المذاب وكل ما حرم تناوله حرم بيعه.
وهذا الحديث سبق في كتاب البيع.
(تابعه) أي تابع ابن عباس في تحريم الشحوم (جابر) هو ابن
عبد الله الأنصاري فيما وصله المؤلّف في أواخر البيوع
(وأبو هريرة) أيضًا فيما وصله البخاري أيضًا في باب: لا
يذاب شحم الميتة (عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-).
3461 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ بْنُ
مَخْلَدٍ أَخْبَرَنَا الأَوْزَاعِيُّ حَدَّثَنَا حَسَّانُ
بْنُ عَطِيَّةَ عَنْ أَبِي كَبْشَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ عَمْرٍو أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «بَلِّغُوا عَنِّي وَلَوْ آيَةً،
وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلاَ حَرَجَ، وَمَنْ
كَذَبَ عَلَىَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ
مِنَ النَّارِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم الضحاك بن مخلد) بفتح الميم
وسكون الخاء المعجمة وبعد اللام المفتوحة دال مهملة قال:
(أخبرنا الأوزاعي) عبد الرَّحمن بن عمرو قال: (حدّثنا حسان
بن عطية) المحاربيّ مولاهم الدمشقي (عن أبي كبشة) بفتح
الكاف وسكون الموحدة وفتح المعجفة السلولي واسمه كنيته (عن
عبد الله بن عمرو) أي ابن العاص (أن النبي -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(بلغوا عني ولو آية) من القرآن أو المراد بالآية العلامة
الظاهرة أي ولو كان المبلغ فعلاً أو إشارة ونحوهما
(وحدّثوا عن بني إسرائيل). بما وقع لهم من الأعاجيب، وإن
استحال مثلها في هذه الأمة كنزول النار من السماء لأكل
القربان مما لا تعلمون كذبه (ولا حرج) لا ضيق عليكم في
الحديث عنهم لأنه كان عليه الصلاة والسلام زجرهم عن الأخذ
عنهم والنظر في كتبهم قبل استقرار الأحكام الدينية
والقواعد الإسلامية خشية الفتنة ثم لما زال المحذور أذن
لهم أو أن قوله أوّلاً حدثوا صيغة أمر تقتضي الوجوب فأشار
إلى عدمه وأن الأمر للإباحة بقوله: ولا حرج أي في ترك
التحديث عنهم، أو المراد رفع الحرج عن الحاكي لما في
أخبارهم من ألفاظ مستبشعة كقولهم: اجعل لنا إلهًا واذهب
أنت وربك، أو المراد جواز التحديث عنهم بأيّ صيغة وقعت من
انقطاع أو بلاغ لتعذر الاتصال في التحديث عنهم بخلاف
الأحكام المحمدية فإن الأصل فيها التحديث بالاتصال. (ومن
كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ) بسكون اللام فليتخذ (مقعده من
النار). أي فيها والأمر هنا معناه الخبر أي أن الله تعالى
يبوئه مقعده من النار أو أمر على سبيل التهكم أو دعاء على
معنى بوأه الله، ولو نقل العالم معنى قوله بلفظ غير لفظه
لكنه مطابق لمعنى لفظه فهو جائز عند المحققين كما ذكر في
محله.
وهذا الحديث أخرجه الترمذي في العلم.
3462 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ
عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: قَالَ أَبُو سَلَمَةَ بْنُ
عَبْدِ الرَّحْمَنِ إِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لاَ
يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ». [الحديث 3462 - طرفه في:
5899].
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي (قال:
حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (إبراهيم بن سعد) بسكون
العين القرشي (عن صالح) هو ابن كيسان (عن ابن شهاب) الزهري
أنه (قال: قال أبو سلمة بن عبد الرَّحمن) بن عوف (أن أبا
هريرة -رضي الله عنه- قال: إن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(إن اليهود والنصارى لا يصبغون) شيب اللحية والرأس
(فخالفوهم). أي واصبغوا بغير السواد لما في مسلم من حديث
جابر أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "غيروه
وجنبوه السواد" وقد اختار النووي تحريم الصبغ بالسواد نعم
يستثنى المجاهد اتفاقًا.
هذا الحديث أخرجه النسائي في الزينة.
3463 - حَدَّثَنا مُحَمَّدٌ قَالَ: حَدَّثَنِي حَجَّاجٌ
حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الْحَسَنِ حَدَّثَنَا جُنْدُبُ
بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، وَمَا
نَسِينَا مُنْذُ حَدَّثَنَا، وَمَا نَخْشَى أَنْ يَكُونَ
جُنْدُبٌ كَذَبَ عَلَى النبيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ
رَجُلٌ بِهِ جُرْحٌ فَجَزِعَ فَأَخَذَ سِكِّينًا فَحَزَّ
بِهَا يَدَهُ، فَمَا رَقَأَ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ، قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى: بَادَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ،
حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (محمد) هو
ابن معمر بن ربعي القيسي البحراني بالموحدة والحاء المهملة
أو هو محمد بن يحيى الذهلي (قال: حدثني) بالإفراد، ولأبي
ذر: حدّثنا (حجاج) هو ابن منهال قال: (حدّثنا جرير) وابن
حازم (عن الحسن) البصري أنه (قال: حدّثنا جندب بن عبد
الله)
(5/423)
بضم الجيم وسكون النون وفتح الدال وضمها
(في هذا المسجد) مسجد البصرة (وما نسينا) ما حدّثنا به
(منذ حدّثنا) بل حققناه واستمرّينا ذاكرين له لقرب العهد
به (وما نخشى أن يكون جندب كذب على رسول الله) ولأبي ذر:
على النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) لأن
الصحابة عدول (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(كان فيمن قبلكم) من بني إسرائيل أو من غيرهم (رجل) قال
الحافظ ابن حجر: لم أقف على اسمه (به جرح) بضم الجيم وسكون
الراء بعدها حاء مهملة في يده (فجزع) بفتح الجيم وكسر
الزاي لم يصبر على ألمه (فأخذ سكينًا) بكسر السين (فحزّ)
بالحاء المهملة والزاي المشدّدة قطع (بها يده) من غير
إبانة (فما رقأ) بفتح الراء والقاف والهمزة أي لم ينقطع
(الدم حتى مات. قال الله تعالى) ولأبي ذر عز وجل بدل تعالى
(بادرني عبدي بنفسه) أي استعجل الموت (حرّمت عليه الجنة)
لأنه استحل ذلك فكفر به فيكون مخلدًا بكفره لا بقتله، أو
كان كافرًا في الأصل وعوقب بهذه المعصية زيادة على كفره،
أو حرمت عليه الجنة في وقت ما كالوقت الذي يدخل فيه
السابقون أو الوقت الذي يعذب فيه الموحدون ثم يخرجون أو
جنة معينة كالفردوس مثلاً أو غير ذلك مما يطول ذكره.
وقال الطيبي: وليس في قوله حرمت عليه الجنة ما يدل على
الدوام والإقناط الكلي، ولما كان الإنسان بصدد أن يحمله
الضجر والغضب على إتلاف نفسه ويسوّل له الشيطان أن الخطب
فيه يسير وأنه أهون من قتل نفس أخرى محرمة أعلم -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن ذلك في التحريم كقتل سائر
النفوس المحرمة انتهى.
واستشكل قوله: بادرني بنفسه إذ مقتضاه أن من قتل فقد مات
قبل أجله وليس أحد يموت بأيّ سبب كان إلا بأجله، وقد علم
الله أنه يموت بالسبب المذكور وما علمه لا يتغير.
وأجيب: بأنه لما وجدت منه صورة المبادرة بقصده ذلك
واختياره له والله جل وعلا لم يطلعه على انقضاء أجله
فاختار هو قتل نفسه فاستحق المعاقبة لعصيانه والحديث أصل
كبير في تعظيم
قتل النفس سواء كانت نفس الإنسان أو غيره لأن نفسه ليست
ملكه أيضًا فيتصرف فيها على حسب اختياره.
51 - باب حَدِيثُ أَبْرَصَ وَأَعْمَى وَأَقْرَعَ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ
(حديث أبرص) وهو الذي ابيضّ ظاهر بدنه لفساد مزاجه (وأقرع)
وهو الذي ذهب شعر رأسه بآفة (وأعمى) وهو الذي ذهب بصره
الكائنين الثلاثة (في بني إسرائيل). وسقط لأبي ذر في بني
إسرائيل، وفي بعض النسخ باب حديث أبرص الخ.
3464 - حَدَّثَنا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا
إِسْحَاقُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ
الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. ح. وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدٌ
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ أَخْبَرَنَا
هَمَّامٌ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
أَخْبَرَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي عَمْرَةَ أَنَّ
أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: «إِنَّ ثَلاَثَةً فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ
أَبْرَصَ وَأَقْرَعَ وَأَعْمَى بَدَا لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْ يَبْتَلِيَهُمْ فَبَعَثَ إِلَيْهِمْ مَلَكًا،
فَأَتَى الأَبْرَصَ فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ
إِلَيْكَ؟ قَالَ: لَوْنٌ حَسَنٌ وَجِلْدٌ حَسَنٌ، قَدْ
قَذِرَنِي النَّاسُ. قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ عَنْهُ،
فَأُعْطِيَ لَوْنًا حَسَنًا وَجِلْدًا حَسَنًا. فَقَالَ:
أَيُّ الْمَالِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الإِبِلُ -أَوْ
قَالَ: الْبَقَرُ- هُوَ شَكَّ فِي ذَلِكَ: إِنَّ
الأَبْرَصَ وَالأَقْرَعَ قَالَ أَحَدُهُمَا: الإِبِلُ،
وَقَالَ الآخَرُ: الْبَقَرُ - فَأُعْطِيَ نَاقَةً
عُشَرَاءَ , فَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا. وَأَتَى
الأَقْرَعَ فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟
قَالَ: شَعَرٌ حَسَنٌ وَيَذْهَبُ هَذَا عَنِّي، قَدْ
قَذِرَنِي النَّاسُ. قَالَ: فَمَسَحَهُ فَذَهَبَ،
وَأُعْطِيَ شَعَرًا حَسَنًا. قَالَ: فَأَىُّ الْمَالِ
أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْبَقَرُ. قَالَ: فَأَعْطَاهُ
بَقَرَةً حَامِلاً، وَقَالَ: يُبَارَكُ لَكَ فِيهَا.
وَأَتَى الأَعْمَى فَقَالَ: أَيُّ شَىْءٍ أَحَبُّ
إِلَيْكَ؟ قَالَ: يَرُدُّ اللَّهُ إِلَىَّ بَصَرِي
فَأُبْصِرُ بِهِ النَّاسَ. قَالَ: فَمَسَحَهُ، فَرَدَّ
اللَّهُ إِلَيْهِ بَصَرَهُ. قَالَ: فَأَىُّ الْمَالِ
أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: الْغَنَمُ، فَأَعْطَاهُ شَاةً
وَالِدًا، فَأُنْتِجَ هَذَانِ وَوَلَّدَ هَذَا، فَكَانَ
لِهَذَا وَادٍ مِنْ الإِبِلٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنْ
بَقَرٍ، وَلِهَذَا وَادٍ مِنَ الْغَنَمِ. ثُمَّ إِنَّهُ
أَتَى الأَبْرَصَ فِي صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ فَقَالَ:
رَجُلٌ مِسْكِينٌ تَقَطَّعَتْ بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِه
فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ إِلاَّ بِاللَّهِ ثُمَّ بِكَ،
أَسْأَلُكَ -بِالَّذِي أَعْطَاكَ اللَّوْنَ الْحَسَنَ
وَالْجِلْدَ الْحَسَنَ وَالْمَالَ- بَعِيرًا أَتَبَلَّغُ
بهِ فِي سَفَرِي. فَقَالَ لَهُ: إِنَّ الْحُقُوقَ
كَثِيرَةٌ. فَقَالَ لَهُ: كَأَنِّي أَعْرِفُكَ، أَلَمْ
تَكُنْ أَبْرَصَ يَقْذَرُكَ النَّاسُ فَقِيرًا فَأَعْطَاكَ
اللَّهُ؟ فَقَالَ: لَقَدْ وَرِثْتُ لِكَابِرٍ عَنْ
كَابِرٍ. فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ
اللَّهُ إِلَى مَا كُنْتَ. وَأَتَى الأَقْرَعَ فِي
صُورَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ
لِهَذَا، فَرَدَّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا رَدَّ عَلَيْهِ
هَذَا، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ كَاذِبًا فَصَيَّرَكَ اللَّهُ
إِلَى مَا كُنْتَ. وَأَتَى الأَعْمَى فِي صُورَتِهِ
فَقَالَ: رَجُلٌ مِسْكِينٌ وَابْنُ سَبِيلٍ وَتَقَطَّعَتْ
بِيَ الْحِبَالُ فِي سَفَرِه، فَلاَ بَلاَغَ الْيَوْمَ
إِلاَّ بِكَ، أَسْأَلُكَ بِالَّذِي رَدَّ عَلَيْكَ
بَصَرَكَ شَاةً
أَتَبَلَّغُ بِهَا فِي سَفَرِي. وَقَالَ لَهُ: قَدْ كُنْتُ
أَعْمَى فَرَدَّ اللَّهُ بَصَرِي وَفَقِيرًا فَقَدْ
أَغْنَانِي، فَخُذْ مَا شِئْتَ، فَوَاللَّهِ لاَ
أَجْهَدُكَ الْيَوْمَ بِشَىْءٍ أَخَذْتَهُ لِلَّهِ.
فَقَالَ: أَمْسِكْ مَالَكَ، فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ،
فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ، وَسَخِطَ عَلَى
صَاحِبَيْكَ». [الحديث 3464 - طرفه في: 6653].
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (أحمد بن
إسحاق) السرّماري بضم السين المهملة وتشديد الراء المفتوحة
نسبة إلى قرية من قرى بخارا قال: (حدّثنا عمرو بن عاصم)
بفتح العين وسكون الميم القيسي الكلابي قال: (حدّثنا همام)
هو ابن يحيى العوذي بفتح العين المهملة وسكون الواو وكسر
المعجمة قال: (حدّثنا إسحاق بن عبد الله) بن أبي طلحة زيد
بن سهل الأنصاري ابن أخي أنس بن مالك (قال: حدثني)
بالإفراد (عبد الرَّحمن بن أبي عمرة) بفتح العين المهملة
وسكون الميم الأنصاري (أن أبا هريرة) -رضي الله عنه- (حدثه
أنه سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ح).
وبه قال: (وحدثني) بالإفراد (محمد) غير منسوب وقد جوز
الحافظ أبو ذر الهروي أنه الذهلي، وقيل هو محمد بن إسماعيل
البخاري نفسه قال: (حدّثنا عبد الله بن رجاء) بالجيم ابن
المثنى البصري قال: (أخبرنا همام) العوذي (عن إسحاق بن عبد
الله) ابن أخي أنس أنه (قال: أخبرني) بالإفراد، ولأبي ذر:
حدثني (عبد الرَّحمن بن أبي عمرة أن أبا هريرة -رضي الله
عنه- حدثه أنه سمع رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يقول):
(إن ثلاثة في بني إسرائيل أبرص وأعمى وأقرع) لم يسموا (بدا
لله) بفتح الموحدة والمهملة المخففة بغير همز في الفرع،
وأصله وهو الذي رويناه كالأكثرين ومعناه سبق في علم الله
فأراد إظهاره لا أنه ظهر له بعد أن كان خافيًا إذ إن ذلك
محال في حق الله تعالى، وخطأ هذا الكرماني في شرحه تبعًا
لابن قرقول ولفظه في مطالعه ضبطناه عن متقني شيوخنا بالهمز
أي ابتدأ الله أن يبتليهم قال: ورواه كثير من الشيوخ بغير
(5/424)
همز وهو خطأ انتهى.
وقد سبقه إلى التخطئة الخطابي وليس كذلك، فقد ثبت الرواية
به ووجه وأولى ما يحمل عليه كما في الفتح أن المراد قضى
الله أن يبتليهم، وفي مسلم عن شيبان بن فروخ عن همام بهذا
الإسناد أراد الله أن يبتليهم، وقال البرماوي تبعًا
للكرماني: بدأ بالهمز الله رفع فاعل أي حكم وأراد.
(عز وجل أن يبتليهم) أي يختبرهم وقوله عز وجل ثابتة لأبي
ذر (فبعث إليهم ملكًا فأتى الأبرص) الذي ابيض جسده (فقال)
له: (أي شيء أحب إليك؟ قال: لون حسن وجلد حسن قد قدرني
الناس) بفتح القاف وكسر الذال المعجمة والنصب على
المفعولية أي اشمأزوا من رؤيتي وعدّوني مستقذرًا وكرهوني،
وفي رواية ذكرها الكرماني قذروني وهي على لغة أكلوني
البراغيث (قال: فمسحه) الملك (فذهب عنه) البرص وسقط لأبي
ذر لفظة عنه (فأعطي) بالفاء وضم الهمزة ولأبي ذر: وأعطي
(لونًا وجلدًا حسنًا. فقال) له الملك أيضًا: (أي المال)
ولغير الكشميهني كما هو
مفهوم فتح الباري: وأي المال بالواو وكذا هي في اليونينية
لأبي ذر عن الحموي والمستملي (أحب إليك)؟ (قال): أحبه إلي
(الإبل. أو قال البقر هو) أي إسحاق بن عبد الله بن أبي
طلحة الراوي كما في مسلم (شك في ذلك أن الأبرص) كذا في
اليونينية بفتح الهمزة من أن وكسرها وفي فرعها بفتحها
(الأقرع قال أحدهما: الإبل وقال الأخر: البقر فأعطي) بضم
الهمزة الذي تمنى الإبل (ناقة عشراء) بضم العين وفتح
المعجمة والراء ممدودًا الحامل التي أتى عليها في حملها
عشرة أشهر من يوم طرقها الفحل وهي من أنفس الإبل (فقال) له
الملك: (يبارك لك فيها) بضم التحتية من يبارك وفي رواية
شيبان بن فروخ عن همام عند مسلم بارك الله لك فيها.
(وأتى) الملك (الأقرع) الذي ذهب شعر رأسه (فقال) له: (أي
شيء أحب إليك؟ قال: شعر حسن ويذهب عني هذا) القرع ولأبي ذر
ويذهب هذا عني بالتقديم والتأخير (قد قذروني الناس) كرهوني
(قال: فمسحه) الملك على رأسه (فذهب) قرعه (وأعطي) بضم
الهمزة (شعرًا حسنًا) ثم (قال) له (فأي المال أحب إليك؟
قال: البقر قال: فأعطاه بقرة حاملاً وقال) له: (يبارك لك
فيها وأتى الأعمى فقال) له: (أي شيء أحب إليك قال يرد الله
إليّ بصري فأبصر به الناس. قال: فمسحه) الملك على عينيه
(فرد الله بصره) ثم (قال) له: (فأي المال أحب إليك قال)
له: (الغنم فأعطاه شاة والدًا) ذات ولد أو حاملاً (فأنتج)
بهمزة مضمومة وهي لغة قليلة والمشهور عند أهل اللغة نتج
بضم النون من غير همز (هذان) أي صاحبا الإبل والبقر (وولد)
بفتح الواو وتشديد اللام (هذا) أي صاحب الشاة. قال
الكرماني: وقد راعى عرف الاستعمال حيث قال فيهما أنتج وفي
الشاة ولد (فكان لهذا) الذي اختار الإبل (واد) قد امتلأ
(من إبل) ولأبي ذر من الإبل (ولهذا) الذي اختار البقر
(واد) قد امتلأ (من بقر ولهذا) الذي اختار الغنم (واد) قد
امتلأ (من الغنم) ولأبي ذر من غنم (ثم إنه) أي الملك (أتى
الأبرص) الذي كان مسحه فذهب برصه (في صورته وهيئته) التي
كان عليها لما اجتمع به وهو أبرص (فقال) له إني (رجل
مسكين) زاد شيبان وابن سبيل (تقطعت بي الحبال في سفري)
بحاء مهملة مكسورة ثم موحدة خفيفة جمع حبل والمراد الأسباب
التي يقطعها في طلب الرزق أو المستطيل من الرمل أو العقبات
ولبعض رواة البخاري الجبال بالجيم والموحدة قال الحافظ ابن
حجر وهو تصحيف ولأبي ذر عن الحموي والمستملي به الحبال في
سفره (فلا بلاغ) فلا كفاية (اليوم إلا بالله) أي ليس لي ما
أبلغ به غرضي إلا بالله وفي الفرع كأصله تضبيب على غين
بلاغ فليتأمل (ثم بك) ثم هنا للمرتبة في التنزل لا للترقي
وهذا ونحوه من الملائكة معاريض لا إخبار كما في قول
إبراهيم هذا ربي وأختي (أسألك ب) الله (الذي أعطاك اللون
الحسن والجلد الحسن والمال) الكثير (بعيرًا أتبلغ عليه في
سفري) ولأبي ذر عن الكشميهني: به. وأتبلغ بهمزة وفوقية
وموحدة ولام مشددة مفتوحات ثم معجمة من البلغة وهي
(5/425)
الكفاية والمعنى أتوصل به إلى مرادي (فقال)
ولأبي ذر: قال (له: إن الحقوق كثيرة فقال له) الملك: (كأني
أعرفك ألم تكن أبرص يقذرك الناس) بفتح التحتية والذال
المعجمة من باب علم يعلم حال كونك (فقيرًا فأعطاك الله
فقال) له: (لقد ورثت) هذا المال (لكابر عن كابر) ولأبي ذر
عن
الكشميهني كابرًا عن كابر بإسقاط اللام والنصب أي ورثته عن
آبائي وأجدادي حال من كل واحد منهم كبير أورث عن كبير فكذب
وجحد نعمة الله (فقال) له الملك: (إن كنت كاذبًا) في
مقالتك هذه (فصيرك الله) عز وجل (إلى ما كنت) من البرص
والفقر والجملة جواب الشرط وأدخل الفاء في الفعل الماضي
لأنه دعاء.
فإن قلت: فَلِمَ عبّر بالماضي؟ أجيب: لقصد المبالغة في
الدعاء عليه والشرط ليس على حقيقته لأن الملك لم يشك في
كذبه بل هو مثل قول العامل إذا سوف في عمالته إن كنت عملت
فأعطني حقي.
(وأتى) الملك (الأقرع) الذي كان مسح رأسه فذهب قرعه (في
صورته وهيئته) التي كان عليها أوّلاً (فقال، له مثل ما قال
لهذا) الأبرص رجل مسكين تقطعت بي الحبال في سفري إلى آخره
وسأله بقرة (فردّ عليه) بالفاء ولأبي ذر ورد وليست هذه في
الفرع أي فرد الرجل الأقرع على الملك (مثل ما رد عليه هذا)
الأبرص فقال إن الحقوق كثيرة الخ وسقط لأبي ذر لفظ هذا
(فقال) له الملك: (إن كنت كاذبًا فصيّرك الله إلى ما كنت)
عليه من القرع والفقر.
(وأتى) الملك (الأعمى) الذي مسح عينيه فعاد بصره (في
صورته) التي كان عليها (فقال: رجل مسكين وابن سبيل) ولأبي
ذر: وابن السبيل (وتقطعت بي الحبال في سفري) ولأبي ذر عن
الحموي والمستملي به الحبال في سفره (فلا بلاغ اليوم إلا
بالله ثم بك أسألك ب) الله (الذي رد عليك بصرك شاة أتبلغ
بها في سفري فقال) بالفاء ولأبي ذر وقال له (قد كنت أعمى
فرد الله) عليّ (بصري وفقيرًا فقد أغناني) وضبب في الفرع
على فقد أغناني وكذا في اليونينية (فخذ ما شئت) زاد شيبان
ودع ما شئت (فوالله لا أجهدك اليوم بشيء أخذته لله) بالجيم
الساكنة والهاء في الفرع وأصله. قال الحافظ ابن حجر: وهي
رواية كريمة وأكثر روايات مسلم أي لا أشق عليك في ردّ شيء
تطلبه مني أو تأخذه، ولأبي ذر كما في الفرع وأصله: لا
أحمدك بالحاء المهملة والميم بدل الجيم والهاء لشيء باللام
بدل الموحدة أي لا أحمدك على ترك شيء تحتاج إليه من مالي
كقوله:
وليس على طول الحياة تندم
أي على فوت طول الحياة. وادعى القاضي عياض أنه لم تختلف
رواة البخاري في أنها بالحاء والميم وما ذكر يرد دعواه،
وأما ما حكاه القاضي أن بعضهم لما أشكل عليه معناه أسقط
الميم فصار لا أحدك بتشديد الدال أي لا أمنعك. فقال في
المصابيح: إنه تكلف وأساؤوا غير الرواية وإنه جراءة عظيمة
لا يقدم عليها من يتقي الله.
(فقال) الملك له: (أمسك مالك فإنما ابتليتم) اختبركم الله
(فقد رضي الله عنك) وسقط الفاعل لأبي ذر (وسخط) بكسر الخاء
(على صاحبيك) بالتثنية.
52 - باب {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ
وَالرَّقِيمِ} {الْكَهْفُ}: الْفَتْحُ فِي الْجَبَلِ،
{وَالرَّقِيمُ}: الْكِتَابُ. {مَرْقُومٌ}: مَكْتُوبٌ، مِنَ
الرَّقْمِ. {رَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ}:
أَلْهَمْنَاهُمْ صَبْرًا. {شَطَطًا}: إِفْرَاطًا.
{الْوَصِيدُ}: الْفِنَاءُ، وَجَمْعُهُ وَصَائِدُ وَوُصُدٌ،
وَيُقَالُ: الْوَصِيدُ الْبَابُ. {مُؤْصَدَةٌ}:
مُطْبَقَةٌ، آصَدَ الْبَابَ وَأَوْصَدَ. {بَعَثْنَاهُمْ}:
أَحْيَيْنَاهُمْ. {أَزْكَى}: أَكْثَرُ رَيْعًا. {فَضَرَبَ
اللَّهُ عَلَى آذَانِهِمْ}: فَنَامُوا. {رَجْمًا
بِالْغَيْبِ}: لَمْ يَسْتَبِنْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
{تَقْرِضُهُمْ}: تَتْرُكُهُمْ.
(باب {أم حسبت}) أي بل حسبت ({أن أصحاب الكهف والرقيم})
[الكهف: 9] سقط لفظ باب لأبي ذر عن المستملي والكشميهني
وكذا سقط في فرع اليونينية وأصله وسقط الرقيم لأبوي الوقت
وذر وابن عساكر ({الكهف}) هو (الفتح في الجبل) قال الضحاك:
والذي تظافرت به الأخبار أنه في بلاد الروم ({والرقيم}) هو
(الكتاب {مرقوم}) أي (مكتوب من الرقم) وهو الكتابة. وعن
أبي عبيدة: الرقيم الوادي الذي فيه الكهف، وعن كعب القرية:
وعن أنس اسم الكلب، وعن سعيد بن جبير اسم الصخرة التي
أطبقت على الوادي الذي فيه الكهف. وعن ابن عباس لوح من
رصاص كتب فيه أسماء أصحاب الكهف لما توجهوا عن قومهم ولم
يعرفوا أين توجهوا ({ربطنا على قلوبهم}) أي (ألهمناهم
صبرًا) على هجر الوطن والأهل والمال وغير ذلك.
({شططًا}) [الكهف: 14] أي (إفراطًا) في الظلم والنصب على
أنه صفة مصدر محذوف تقديره لقد قلنا إذًا قولاً شططًَا.
({الوصيد}) [الكهف: 18] هو (الفناء) بكسر الفاء والمد أي
فناء الكهف (وجمعه صائد) بالمد (ووصد) بضم الواو
(5/426)
والصاد (ويقال الوصيد) هو (الباب) وقيل
العتبة وقوله: ({مؤصدة}) أي (مطبقة) يقال (آصد الباب)
بالمد وفتح الصاد المهملة أي أغلقه (و) يقال (أوصد) أيضًا.
({بعثناهم}) أي (أحييناهم) أو أيقظناهم ({أزكى}) [الكهف:
19] طعامًا أي (أكثر ريعًا) بالراء المفتوحة والتحتية
الساكنة ثم العين المهملة أي نماء وزيادة (فضرب الله على
آذانهم فناموا) نومة لا تنبههم منها الأصوات ومراده قوله
فضربنا على آذانهم في الكهف ({رجمًا بالغيب}) [الكهف: 22]
أي (لم يستبن. وقال): ولابن عساكر فقال (مجاهد) ({تقرضهم})
[الكهف: 17] أي (تتركهم). وسقط هذا التفسير كله للنسفي،
وثبت في الفرع وأصله للكشميهني والمستملي، وسقط للحموي وهو
ثابت أيضًا في أصول الحفاظ أبي ذر الهروي وأبي محمد
الأصيلي وأبي القاسم الدمشقي وأبي سعد السمعاني.
53 - باب حَدِيثُ الْغَارِ
(حديث الغار).
3465 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ أَخْبَرَنَا
عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَالَ: «بَيْنَمَا ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَأَوَوْا
إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ
لِبَعْضٍ: إِنَّهُ وَاللَّهِ يَا هَؤُلاَءِ لاَ
يُنْجِيكُمْ إِلاَّ الصِّدْقُ، فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ
مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ.
فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ
تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى
فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، وَأَنِّي
عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ، فَصَارَ
مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَرًا،
وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْتُ لَهُ:
اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ. فَسُقْهَا، فَقَالَ لِي:
إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ. فَقُلْتُ
لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ، فَإِنَّهَا مِنْ
ذَلِكَ الْفَرَقِ. فَسَاقَهَا. فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ
أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا.
فَانْسَاخَتْ عَنْهُمُ الصَّخْرَةُ. فَقَالَ الآخَرُ:
اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي
أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ آتِيهِمَا كُلَّ
لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فَأَبْطَأْتُ عَنهمَا
لَيْلَةً، فَجِئْتُ وَقَدْ رَقَدَا؛ وَأَهْلِي وَعِيَالِي
يَتَضَاغَوْنَ مِنَ الْجُوعِ، وَكُنْتُ لاَ أَسْقِيهِمْ
حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَاىَ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَهُمَا،
وَكَرِهْتُ أَنْ أَدَعَهُمَا فَيَسْتَكِنَّا
لِشَرْبَتِهِمَا، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُ حَتَّى طَلَعَ
الْفَجْرُ. فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ
مِنْ خَشْيَتِكَ، فَفَرِّجْ عَنَّا. فَانْسَاخَتْ عَنْهُمُ
الصَّخْرَةُ حَتَّى نَظَرُوا إِلَى السَّمَاءِ. فَقَالَ
الآخَرُ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ
لِي ابْنَةُ عَمٍّ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ،
وَأَنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ إِلاَّ
أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتُهَا حَتَّى
قَدَرْتُ، فَأَتَيْتُهَا بِهَا فَدَفَعْتُهَا إِلَيْهَا،
فَأَمْكَنَتْنِي مِنْ نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْتُ بَيْنَ
رِجْلَيْهَا فَقَالَتِ اتَّقِ اللَّهَ وَلاَ تَفُضَّ
الْخَاتَمَ إِلاَّ بِحَقِّهِ , فَقُمْتُ وَتَرَكْتُ
الْمِائَةَ دِينَارٍ. فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي
فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا،
فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ فَخَرَجُوا».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن خليل) الخزاز بمعجمات أبو عبد
الله الكوفي قال: (أخبرنا علي بن مسهر) بضم الميم وسكون
السين المهملة وكسر الهاء بعدها راء القرشي الكوفي قاضي
الموصل (عن عبيد الله) بضم العين مصغرًا (ابن عمر عن نافع)
مولى ابن عمر (عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(بينما) بالميم (ثلاثة نفر) لم يسموا (ممن كان قبلكم) في
الطبراني عن عقبة بن عامر من بني إسرائيل (يمشون) مرفوع
خبر ثلاثة. وفي حديث عقبة المذكور وأبي هريرة عند ابن حبان
والبزار أنهم خرجوا يرتادون (لأهلهم إذ أصابهم مطر فأووا)
بقصر الهمزة في الفرع كأصله وتمد (إلى غار فانطبق عليهم)
باب الغار. وعند الطبراني من حديث النعمان من وجه آخر إذ
وقع حجر من الجبل مما يهبط من خشية الله حتى سد فم الغار
(فقال بعضهم لبعض: إنه) إن الشأن (والله يا هؤلاء لا
ينجيكم) بضم أوله وسكون النون مخففًا ولأبي ذر ينجيكم بفتح
النون مثقلاً مما أنتم فيه
(إلا الصدق فليدع كل رجل منكم بما يعلم أنه قد صدق فيه) في
حديث علي عند البزار: تفكّروا في أحسن أعمالكم فادعوا الله
بها لعل الله يفرج عنكم.
(فقال: واحد منهم) سقط واحد وتاليه لأبوي ذر والوقت بإسقاط
القائل (اللهم إن كنت تعلم) ظاهره الشك والمؤمن يجزم بأن
الله تعالى عالم بذلك فهو على خلاف الظاهر فالمعنى أنت
تعلم (إنه كان لي أجير عمل لي) بكسر الميم عملاً (على فرق)
بفتح الفاء والراء بعدها قاف مكيال يسع ثلاثة آصع (من أرز)
بفتح الهمزة وضم الراء وتشديد الزاي، ولأبي ذر: ارز بضم
الهمزة وفتحها وسكون الراء (فذهب وتركه) في حديث النعمان
بن بشير عند أحمد كان لي أجراء يعملون فاستأجرت كل رجل
منهم بأجر معلوم فجاء رجل ذات يوم في نصف النهار فاستأجرته
بشطر أصحابه فعمل في نصف نهاره كما عمل رجل منهم في نهاره
كله فرأيت علي في الزمان أن لا أنقصه مما استأجرت به
أصحابه لما جهد في عمله فقال رجل منهم: تعطي هذا مثل ما
أعطيتني.
فقلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئًا من شرطك وإنما هو مالي
أحكم فيه بما شئت. قال: فغضب وذهب وترك أجره (وأني) بفتح
الهمزة (عمدت) بفتح العين والميم (إلى ذلك الفرق فزرعته
فصار من أمره أني اشتريت) ولأبي ذر عن الكشميهني: أن
اشتريت (منه بقرًا) زاد موسى بن عقبة وراعيها (وأنه أتاني
يطلب أجره فقلت: اعمد) بكسر الميم ولأبي ذر فقلت له اعمد
(إلى تلك البقر
فسقها فقال لي إنما لي عندك فرق من أرز) بالتشديد مع فتح
الهمزة وضم الراء (فقلت له: اعمد) بكسر الميم (إلى تلك
البقر فإنها من ذلك الفرق فساقها فإن كنت تعلم) أن عملي
هذا مقبول و (أني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا) ما نحن فيه
وكأنه لم يجزم بقبول عمله (فانساخت) بهمزة الوصل وسكون
النون وبالسين المهملة والخاء المعجمة المفتوحتين بينهما
ألف أي انشقت (عنهم الصخرة). ويقال: انصاخت بالصاد بدل
السين أي انشق من قبل نفسه، وأنكر الخطابي انساخت بالسين
والخاء المعجمة وصوب كونها بالحاء المهملة وهي التي في
اليونينية وفرعها أي اتسعت، لكن الرواية بالسين والخاء
المعجمة صحيحة وإن
(5/427)
كان الأصل بالصاد فهي تقلب سينًا. وفي حديث
النعمان بن بشير فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء. وفي حديث
أبي هريرة عند ابن حبان فزال ثلث الحجر.
(فقال الآخر: اللهم إن كنت) أي أنت (تعلم كان) وللأصيلي
أنه كان (لي أبوان) فهو من باب التغليب أي أب وأم (شيخان
كبيران) وفي حديث علي أبوان ضعيفان فقيران ليس لهما خادم
ولا راع ولا ولي غيري فكنت أرعى لهما بالنهار وآوي إليهما
بالليل (وكنت) ولغير أبوي ذر والوقت فكنت (آتيهما) بالمد
(كل ليلة بلبن غنم لي فأبطأت عليهما) ولأبي ذر عنهما
(ليلة) بسبب تباعد العشب الذي ترعاه الغنم (فجئت وقد رقدا)
الأبوان (وأهلي) مبتدأ (وعيالي) عطف عليه والخبر (يتضاغون)
بضاد وغين معجمتين أي وزوجتي وأولادي وغيرهم يتصايحون أو
يستغيثون (من الجوع) بسبب الجوع (فكنت) بالفاء ولأبي ذر
كنت (لا أسقيهم) شيئًا من اللبن (حتى يشرب
أبواي فكرهت أن أوقظهما) من نومهما فيشق عليهما (وكرهت أن
أدعهما) أتركهما (فيستكنا) بتشديد النون في الفرع كأصله من
الاستكنان أي يلبثا في كونهما منتظرين (لشربتهما) أو
بتخفيف النون كما أفهمه كلام الكرماني، وتفسير الحافظ ابن
حجر مقتصرًا عليه حيث قال: وأما كراهية أن يدعهما فقد فسره
بقوله فيستكنا لشربتهما أي يضعفا لأنه عشاؤهما وترك العشاء
يهرم، وقوله: يستكنا من الاستكانة، وقوله لشربتهما أي لعدم
شربهما فيصيران ضعيفين مسكينين والمسكين الذي لا شيء له
انتهى.
(فلم أزل انتظر) استيقاظهما (حتى طلع الفجر فإن كنت تعلم)
أن عملي هذا مقبول و (أني فعلت ذلك من خشيتك ففرج عنا) ما
نحن فيه (فانساخت عنهم الصخرة) بالخاء المعجمة أي انشقت
(حتى نظروا إلى السماء. فقال الأخر: اللهم إن كنت تعلم) أي
أنت تعلم (أنه كان) ولأبي ذر كانت (لي ابنة عم) لم تسم (من
أحب الناس إليّ) زاد في رواية موسى بن عقبة في باب إذا
اشتر شيئًا لغيره بغير إذنه من البيوع كأشدّ ما يحب الرجال
النساء (وإني راودتها عن نفسها) أي طلبت منها النكاح يقال
راود فلان جاريته على نفسها وراودته هي على نفسه إذا حاول
كل منهما الوطء، وعداه هنا بعن لأنه ضمن معنى المخادعة أي
خادعتها عن نفسها والمفاعلة هنا من الواحد نحو: داويت
المريض أو هي على بابها فإن كل واحد منهما كان يطلب من
صاحبه شيئًا برفق هو يطلب منها الفعل وهي تطلب منه الترك
إلا أن أعطاها مالاً كما قال (فأبت) أي امتنعت (إلا أن
آتيها بمائة دينار). وفي رواية سالم عن أبيه في باب من
استأجر أجيرًا من البيوع فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة أي
سنة قحط فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار، وجمع بينه
وبين رواية الباب بأنها امتنعت أوّلاً عفة عنه ودافعته
بطلب المال فلما احتاجت أجابت، وأما قوله فأعطيتها عشرين
ومائة دينار فيحتمل أنها طلبت منه المائة وزادها من قبل
نفسه العشرين (فطلبتها) أي المائة دينار (حتى قدرت) عليها
(فأتيتها بها فدفعتها إليها) وفي حديث النعمان أنها ترددت
إليه ثلاث مرات تطلب شيئًا من معروفه ويأبى عليها إلا أن
تمكنه من نفسها فأجابت في الثالثة بعد أن استأذنت زوجها
فأذن لها وقال لها: أغني عيالك. قال: فرجعت فناشدتني بالله
(فأمكنتني من نفسها فلما قعدت بين رجليها) أي جلست منها
مجلس الرجل من امرأته لأطأها (قالت): كذا في الفرع والمدّ
في أصله فقالت (اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه) بفتح
التاء وضم الفاء وتشديد الضاد المعجمة أي لا تكسره وكنّت
عن عذرتها بالخاتم وكأنها كانت بكرًا فقالت: لا تزل بكارتي
إلا بتزويج صحيح، لكن في حديث النعمان بن بشير ما يدل على
أنها لم تكن بكرًا فتكون كنّت عن الإفضاء بالكسر وعن الفرج
بالخاتم، وفي حديث عليّ فقالت: أذكرك الله أن تركب مني ما
حرم الله عليك. وفي حديث النعمان فأسلمت إليّ نفسها فلما
كشفتها أرعدت من تحتي فقلت: مالك؟
(5/428)
قالت: أخاف الله رب العالمين، فقلت: خفتيه
في الشّدة ولم أخفه في الرخاء.
وفي حديث ابن أبي أوفى عند الطبراني فما جلست منها مجلس
الرجل من المرأة ذكرت النار (فقمت) عنها من غير فعل (وتركت
المائة دينار) ولأبي ذر وتركت المائة الدينار (فإن كنت
تعلم) أن
عملي مقبول (وأني فعلت ذلك من خشيتك ففرّج عنا) ما نحن فيه
(ففرج الله عنهم فخرجوا) من الغار يمشون.
فإن قلت: أي الثلاثة أفضل؟ أجيب: صاحب المرأة لأنه اجتمع
فيه الخشية وقد قال تعالى: (وأما من خاف مقام ربه ونهى
النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 40] قال
الغزالي: شهوة الفرج أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند
الهيجان على الفعل فمن ترك الزنا خوفًا من الله تعالى مع
القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب سيما عند صدق الشهوة
نال درجة الصديقين.
وهذا الحديث سبق في باب: من استأجر أجيرًا فترك أجره عن
سالم، وفي باب إذا اشترى شيئًا لغيره عن موسى بن عقبة عن
نافع، وفي باب إذا زرع بمال قوم عن موسى بن عقبة أيضًا ولم
يخرجه إلا من رواية ابن عمر، ورواه الطبراني عن أنس وابن
حبان عن أبي هريرة، وأحمد عن النعمان بن بشير، والطبراني
عن علي وعقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو بن العاصي وعبد
الله بن أبي أوفى، واتفقوا على أن القصص الثلاثة في الأجير
والمرأة والأبوين إلا حديث عقبة بن عامر ففيه بدل الأجير
أن الثالث قال: كنت في غنم أرعاها فحضرت الصلاة فقمت أصلي
فجاء الذئب فدخل الغنم فكرهت أن أقطع صلاتي فصبرت حتى
فرغت، واختلافهم في التقديم والتأخير يفيد جواز الرواية
بالمعنى.
54 - باب
هذا (باب) بالتنوين من غير ترجمة فهو كالفصل من سابقه.
3466 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ
حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ
حَدَّثَهُ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «بَيْنَا امْرَأَةٌ تُرْضِعُ ابْنَهَا
إِذْ مَرَّ بِهَا رَاكِبٌ وَهْيَ تُرْضِعُهُ فَقَالَتِ:
اللَّهُمَّ لاَ تُمِتِ ابْنِي حَتَّى يَكُونَ مِثْلَ
هَذَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ.
ثُمَّ رَجَعَ فِي الثَّدْيِ. وَمُرَّ بِامْرَأَةٍ
تُجَرَّرُ وَيُلْعَبُ بِهَا، فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لاَ
تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَ: اللَّهُمَّ
اجْعَلْنِي مِثْلَهَا. فَقَالَ: أَمَّا الرَّاكِبُ
فَإِنَّهُ كَافِرٌ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنَّهُمْ
يَقُولُونَ لَهَا: تَزْنِي، وَتَقُولُ: حَسْبِي اللَّهُ.
وَيَقُولُونَ: تَسْرِقُ، وَتَقُولُ حَسْبِي اللَّهُ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا
شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله
بن ذكوان (عن عبد الرَّحمن) بن هرمز الأعرج أنه (حدثه أنه
سمع أبا هريرة -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(بينا) بغير ميم (امرأة) لم تسم (ترضع ابنها) لم يسم، وزاد
في باب: واذكر في الكتاب مريم من بني إسرائيل (إذ مرّ بها)
رجل (راكب) لم يسم (وهي ترضعه فقالت: اللهم لا تمت ابني)
هذا (حتى يكون مثل هذا) الراكب في هيئته الحسنة (فقال)
الطفل: (اللهم لا تجعلني مثله ثم رجع في الثدي) يمصه (ومر)
بضم الميم مبنيًّا للمفعول (بامرأة) لم تسم (تجرّر) بضم
الفوقية وفتح الجيم والراء المشددة بعدها راء ثانية (ويلعب
بها) بضم الياء وسكون اللام وفتح العين وزاد أحمد من رواية
وهب بن جرير وتضرب (فقالت) أم الطفل: (اللهم لا تجعل ابني
مثلها) سقط فقالت الخ لأبي ذر (فقال) الطفل: (اللهم اجعلني
مثلها) زاد في باب: واذكر في الكتاب مريم فقالت يعني الأم
للابن لم ذاك (فقال) الطفل: (أما الراكب فإنه كافر) وفي
الباب المذكور جبار من الجبابرة (وأما المرأة فإنهم يقولون
لها تزني) زاد في الباب: ولم تفعل واللام في لها تحتمل كما
قاله في المصابيح أن تكون بمعنى عن كما قاله ابن الحاجب في
قوله تعالى: {وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا
ما سبقونا إليه} [الأحقاف: 11] ويحتمل أن تجعل لام التبليغ
كما قيل به في الآية ردًّا على ابن الحاجب والتفت عن
الخطاب إلى الغيبة فقال: سبقونا ولم يقل سبقتمونا. وكذا في
الحديث التفت عن الخطاب فلم يقل تزنين وسلك الغيبة فقال:
تزني أي هي تزني (وتقول).
أي والحال أنها تقول (حسبي الله ويقولون تسرق) ولم تفعل
(و) الحال أنها (تقول حسبي الله).
وهذا الحديث سبق قريبًا.
3467 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ تَلِيدٍ حَدَّثَنَا ابْنُ
وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ عَنْ
أَيُّوبَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي
هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَيْنَمَا كَلْبٌ
يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ كَادَ يَقْتُلُهُ الْعَطَشُ إِذْ
رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ،
فَنَزَعَتْ مُوقَهَا فَسَقَتْهُ، فَغُفِرَ لَهَا بِهِ».
[الحديث 3467 - طرفه في: 3321].
وبه قال: (حدّثنا سعيد بن تليد) هو سعيد بكسر العين ابن
عيسى بن تليد بفتح المثناة الفوقية وكسر اللام وسكون
التحتية بعدها دال مهملة المصري قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد
الله المصري (قال: أخبرني) بالإفراد (جرير بن حازم) بالحاء
المهملة والزاي ابن زيد بن عبد الله المصري (عن أيوب)
السختياني (عن محمد بن سيرين) الأنصاري (عن أبي هريرة -رضي
الله عنه-) أنه (قال: قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(5/429)
(بينما) بالميم (كلب يطيف) بضم أوّله وكسر
ثانيه من أطاف يطيف أي يطوف (بركية) بفتح الراء وكسر الكاف
وتشديد التحتية بئر لم تطو أو طويت أي يدور حولها (كاد
يقتله العطش إذ رأته بغيّ) بفتح الموحدة وكسر الغين
المعجمة وتشديد التحتية امرأة زانية (من بغايا بني إسرائيل
فنزعت موقها) بضم الميم وسكون الواو وفتح القاف خفها فارسي
معرب أو هو الذي يلبس فوق الخف وهو الجرموق فملأته من
الركية (فسقته) حتى روي (فغفر لها) بضم الغين المعجمة وكسر
الفاء مبنيًّا للمفعول أي غفر الله للبغي (به). وسقطت لفظة
به للحموي والمستملي وما وقع في الطهارة والشرب أن الذي
سقى الكلب رجل يقتضي تعدد ذلك وفيه أن في سقي كل حيوان
أجرًا لكن بشرط أن لا يكون مأمورًا بقتله كالحية وغيرها.
3468 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ
مَالِكٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ أَنَّهُ: «سَمِعَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي
سُفْيَانَ -عَامَ حَجَّ- عَلَى الْمِنْبَرِ، فَتَنَاوَلَ
قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ -وَكَانَتْ فِي يَدِ حَرَسِيٍّ-
فَقَالَ: يَا أَهْلَ الْمَدِينَةِ، أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟
سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ وَيَقُولُ: إِنَّمَا هَلَكَتْ
بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ هذِهِ نِسَاؤُهُمْ».
[الحديث 3468 - أطرافه في: 3488، 5932، 5938].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن مسلمة) بن قعنب أبو عبد
الرَّحمن القعنبي الحارثي المدني (عن مالك) الإمام (عن ابن
شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن حميد بن عبد الرَّحمن) بن
عوف الزهري (أنه سمع معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب بن
أمية الأموي الصحابي أسلم قبل الفتح وكتب الوحي (عام حج)
سنة إحدى وخمسين حال كونه (على المنبر) النبوي بالمدينة
(فتناول قصة) بضم القاف وتشديد الصاد المهملة (من شعر) أي
قطعة من شعر الناصية (كانت) ولغير أبو الوقت وذر وكانت (في
يدي) بالتثنية ولأبي ذر يد (حرسيّ) واحد الحراس الذين
يحرسون (فقال: يا أهل المدينة أين علماؤكم)؟ سؤال إنكار
عليهم بإهمالهم إنكار هذا المنكر وغفلتهم عن تغييره (سمعت
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن مثل هذه)
القصة (ويقول) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذها) ولأبي ذر حين اتخذ هذه
أي القصة (نساؤهم) للزينة توصلها بالشعر. قال القاضي عياض:
ويحتمل أنه كان محرمًا على بني إسرائيل فعوقبوا باستعماله
وهلكوا بسببه، ويحتمل أن يكون الهلاك به وبغيره من المعاصي
وعند ظهور ذلك فيهم هلكوا.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في اللباس وكذا مسلم وأخرجه أبو
داود في الترجل والترمذي في الاستئذان والنسائي في الزينة.
3469 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«إِنَّهُ قَدْ كَانَ فِيمَا مَضَى قَبْلَكُمْ مِنَ
الأُمَمِ مُحَدَّثُونَ، وَإِنَّهُ إِنْ كَانَ فِي أُمَّتِي
هَذِهِ مِنْهُمْ فَإِنَّهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ».
[الحديث 3469 - طرفه في: 3689].
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي قال:
(حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين (عن أبيه) سعد بن
إبراهيم بن عبد الرَّحمن بن عوف (عن) عمه (أبي سلمة) بن
عبد الرَّحمن بن عوف (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(إنه قد كان) سقط قد في بعض النسخ (فيما مضى قبلكم من
الأمم) يريد بني إسرائيل (محدثون) بفتح الدال المهملة
المشددة قال المؤلّف يجري على ألسنتهم الصواب من غير نبوّة
وقال الخطابي يلقى الشيء في روعه فكأنه قد حدث به يظن
فيصيب ويخطر الشيء بباله فيكون وهي منزلة رفيعة من منازل
الأولياء (وإنه) أي وإن الشأن (إن كان في أمتي هذه منهم
فإنه عمر بن
الخطاب) -رضي الله عنه- قاله عليه الصلاة والسلام على سبيل
التوقع، وكأنه لم يكن اطلع على أن ذلك كائن وقد وقع وقصة
يا سارية الجبل مشهورة مع غيرها.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في فضل عمر وأخرجه النسائي في
المناقب.
3470 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عَدِيٍّ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ
قَتَادَةَ عَنْ أَبِي الصِّدِّيقِ النَّاجِيِّ عَنْ أَبِي
سَعِيدٍ الخدري -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كَانَ فِي بَنِي
إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ
إِنْسَانًا، ثُمَّ خَرَجَ يَسْأَلُ، فَأَتَى رَاهِبًا
فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: هَلْ مِنْ تَوْبَةٍ؟ قَالَ: لاَ.
فَقَتَلَهُ. فَجَعَلَ يَسْأَلُ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ ائْتِ
قَرْيَةَ كَذَا وَكَذَا، فَأَدْرَكَهُ الْمَوْتُ فَنَاءَ
بِصَدْرِهِ نَحْوَهَا، فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ
الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ، فَأَوْحَى اللَّهُ
إِلَى هَذِهِ أَنْ تَقَرَّبِي، وَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى
هَذِهِ أَنْ تَبَاعَدِي، وَقَالَ: قِيسُوا مَا
بَيْنَهُمَا، فَوُجِدَ إِلَى هَذِهِ أَقْرَبُ بِشِبْرٍ،
فَغُفِرَ لَهُ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن بشار) بالموحدة والمعجمة المشددة
العبدي أبو بكر بندار قال: (حدّثنا محمد بن أبي عدي) هو
محمد بن إبراهيم بن أبي عدي البصري (عن شعبة) بن الحجاج
(عن قتادة) بن دعامة (عن أبي الصديق) بكسر الصاد والدال
المشددة المهملتين بكر بن قيس (الناجي) بالنون والجيم
المكسورة والتحتية المشددة كذا ضبطه الكرماني وغيره وهو
الذي في اليونينية وفي الفرع بسكون التحتية (عن أبي سعيد)
ولأبي ذر زيادة الخدري (-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(كان في بني إسرائيل رجل) لم يسم (قتل تسعة وتسعين
إنسانًا) زاد الطبراني من حديث معاوية بن أبي سفيان كلهم
ظلمًا (ثم خرج يسأل) وعند مسلم من طريق همام عن قتادة يسأل
عن أعلم أهل الأرض فدلّ على راهب
(5/430)
(فأتى راهبًا) من النصارى لم يسم وفيه
إشعار بأن ذلك وقع بعد رفع عيسى فإن الرهبانية إنما
ابتدعها أتباعه (فسأله فقال له: هل) لي (من توبة)؟ بعد هذه
الجريمة العظيمة.
وفي الحديث إشكال لأنا إن قلنا لا فقد خالفنا نصوصنًا، وإن
قلنا نعم فقد خالفنا نصوص الشرع فإن حقوق بني آدم لا تسقط
بالتوبة بل توبتها أداؤها إلى مستحقيها أو الاستحلال منها.
والجواب أن الله تعالى إذا رضي عنه وقبل توبته يرضي عنه
خصمه، وسقط لأبوي ذر والوقت لفظة من فتوبة رفع.
(قال) له الراهب (لا) توبة لك بعد أن قتلت تسعة وتسعين
إنسانًا ظلمًا (فقتله) وكمل به مائة (فجعل يسأل) أي هل لي
من توبة أو عن أعلم أهل الأرض ليسأله عن ذلك (فقال له
رجل): راهب لم يسم أيضًا بعد أن سأله فقال إني قتلت مائة
إنسان فهل لي من توبة؟ فقال: نعم ومن يحول بينك وبين
التوبة (ائت قرية كذا وكذا) اسمها نصرة كما عند الطبراني
بإسنادين أحدهما جيد من حديث عبد الله بن عمرو زاد في
رواية، فانطلق حتى إذا نصف الطريق (فأدركه الموت
فناء) بنون ومد وبعد الألف همزة أي مال (بصدره نحوها) نحو
القرية نصرة التي توجه إليها للتوبة، وحكي فنأى بغير مدّ
قبل الهمزة وبإشباعها بوزن سعى أن بعد بصدره عن الأرض التي
خرج منها (فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب) زاد
في رواية هشام عن قتادة عند مسلم فقالت ملائكة الرحمة: جاء
تائبًا مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى، وقالت ملائكة العذاب:
إنه لم يعمل خيرًا قط (فأوحى الله إلى هذه) القرية نصرة
(أن تقربي) منه (وأوحى إلى هذه) القرية التي خرج منها وهي
كفرة كما عند الطبراني (أن تباعدي. وقال) للملائكة: (قيسوا
ما بينهما) فقيس (فوجد) بضم الواو مبنيًا للمفعول (إلى
هذه) القرية نصرة (قرب) بفتح الموحدة ولأبي ذر فوجد له هذه
أقرب (بشبر) وأقرب في هذه الرواية رفع على ما لا يخفى وفي
رواية هشام فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، وعند
الطبراني في حديث معاوية فوجدوه أقرب إلى دير التوّابين
بأنملة (فغفر له). واستنبط منه أن التائب ينبغي له مفارقة
الأحوال التي اعتادها في زمان المعصية والتحوّل عنها كلها
والاشتغال بغيرها وغير ذلك مما يطول.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في التوبة وابن ماجه في الدّيات.
3471 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا
سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ
عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-
قَالَ: «صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- صَلاَةَ الصُّبْحِ ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى
النَّاسِ فَقَالَ: بَيْنَا رَجُلٌ يَسُوقُ بَقَرَةً إِذْ
رَكِبَهَا فَضَرَبَهَا، فَقَالَتْ: إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ
لِهَذَا، إِنَّمَا خُلِقْنَا لِلْحَرْثِ، فَقَالَ
النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، بَقَرَةٌ تَكَلَّمُ؟
فَقَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ
وَعُمَرُ. وَمَا هُمَا ثَمَّ. وَبَيْنَمَا رَجُلٌ فِي
غَنَمِهِ إِذْ عَدَا الذِّئْبُ فَذَهَبَ مِنْهَا بِشَاةٍ،
فَطَلَبَ حَتَّى كَأَنَّهُ اسْتَنْقَذَهَا مِنْهُ، فَقَالَ
لَهُ الذِّئْبُ: هَذَا اسْتَنْقَذْتَهَا مِنِّي، فَمَنْ
لَهَا يَوْمَ السَّبُعِ، يَوْمَ لاَ رَاعِيَ لَهَا
غَيْرِي؟ فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللَّهِ، ذِئْبٌ
يَتَكَلَّمُ؟ قَالَ: فَإِنِّي أُومِنُ بِهَذَا أَنَا
وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. وَمَا هُمَا ثَمَّ».
وَحَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مِسْعَرٍ
عَنْ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمِثْلِهِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا
سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله بن
ذكوان (عن الأعرج) عبد الرَّحمن بن هرمز (عن أبي سلمة) بن
عبد الرَّحمن بن عوف (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه
(قال: صلى رسول الله صلاة الصبح ثم أقبل على الناس فقال):
(بينا) بغير ميم (رجل) من بني إسرائيل لم يسم (يسوق بقرة)
وجواب بينا قوله (إذ ركبها فضربها فقالت إنا) أي جنس البقر
(لم نخلق لهذا) الركوب (إنما خلقنا للحرث) الحصر في ذلك
غير مراد اتفاقًا إذ من جملة ما خلقت له الذبح والأكل
(فقال الناس) متعجبين (سبحان الله بقرة
تكلم) بحذف إحدى التاءين تخفيفًا (فقال): ولأبوي ذر والوقت
قال أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فإني
أومن بهذا) بنطق البقرة والفاء جواب شرط محذوف أي فإذا كان
الناس يستغربونه فإني لا أستغربه وأومن به (أنا و) كذا
(أبو بكر وعمر وما هما ثم) بفتح المثلثة أي ليسا حاضرين.
قال الحافظ ابن حجر: وهو من كلام الراوي ولم يقع في رواية
الزهري وثبت لفظ أنا في اليونينية وسقط في الفرع.
(و) قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
بالإسناد السابق (بينما) بالميم (رجل) لم يسم (في غنمه إذ
عدا الذئب) بالعين المهملة من العدوان (فذهب منها بشاة
فطلب) أي صاحب الغنم الشاة (حتى كأنه استنقذها منه، فقال
له): أي لصاحب الغنم (الذئب: هذا) أي يا هذا بحذف حرف
النداء واعترض بأنه ممنوع أو قليل أو المراد هذا اليوم
(استنقذتها) ولأبى ذر عن الحموي والمستملي استنقذها (مني)
فهو في موضع
(5/431)
نصب على الظرفية مشارًا به إلى اليوم وسبق
هذا مع غيره في باب استعمال البقر للحراثة من المزارعة
(فمن لها) أي للشاة (يوم السبع) بضم الموحدة وجوّز عياض
سكونها إلا أنه قال: إن الرواية ضمها أي إذا أخذها السبع
المفترس من الحيوان عند الفتن (يوم لا راعي لها غيري) حين
تترك نهبة للسباع (فقال الناس) متعجبين: (سبحان الله ذئب
يتكلم قال): رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- (فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر وما هما) أي
العمران (ثم) أي حاضران وذكر في هذه لفظة أنا وعطف عليها
ما بعدها للتأكيد.
وسبق هذا الحديث في باب استعمال البقر للحراثة.
قال المؤلّف بالسند: (وحدّثنا) بالواو ولأبي ذر حدّثنا
بإسقاطها (علي) هو ابن عبد الله المديني قال: (حدّثنا
سفيان) هو ابن عيينة (عن مسعر) بكسر الميم وسكون السين
وفتح العين المهملتين آخره راء ابن كدام (عن سعد بن
إبراهيم) بن عبد الرَّحمن بن عوف (عن) عمه (أبي سلمة) بن
عبد الرَّحمن بن عوف (عن أبي هريرة عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بمثله) أي بمثل الحديث السابق
ولأبي ذر مثله بإسقاط حرف الجر والحاصل أن لسفيان فيه
شيخين أبو الزناد عن الأعرج والآخر مسعر عن سعد بن إبراهيم
كلاهما عن أبي سلمة.
3472 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ نَصْرٍ أَخْبَرَنَا
عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «اشْتَرَى رَجُلٌ
مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ الرَّجُلُ الَّذِي
اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا ذَهَبٌ؛
فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ
مِنِّي، إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ
أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ. وَقَالَ الَّذِي لَهُ
الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا،
فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ، فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا
إِلَيْهِ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي
غُلاَمٌ. وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ:
أَنْكِحُوا الْغُلاَمَ الْجَارِيَةَ، وَأَنْفِقُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ، وَتَصَدَّقَا».
وبه قال: (حدّثنا إسحاق بن نصر) نسبه إلى جده واسم أبيه
السعدي المروزي قال: (أخبرنا عبد الرزاق) بن همام الصنعاني
(عن معمر) هو ابن راشد الأزدي مولاهم البصري نزيل اليمن
(عن
همام) هو ابن منبه (عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه
(قال: قال النبي) ولأبوي الوقت وذر قال رسول الله (-صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(اشترى رجل من رجل) لم يسميا (عقارًا له) بفتح العين قال
في القاموس المنزل والقصر أو المتهدم منه والبناء المرتفع
والضيعة ومتاع البيت ونضده الذي لا يبتذل إلا في الأعياد
ونحوها اهـ.
والمراد به هنا الدار وصرح بذلك في حديث وهب بن منبه.
(فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال
له الذي اشترى العقار: خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض
ولم أبتع) لم أشتر (منك الذهب) سقط لأبي ذر لفظ منك (وقال
الذي) كانت (له الأرض إنما بعتك الأرض وما فيها) ظاهره
أنهما اختلفا في صورة العقد فالمشتري يقول لم يقع تصريح
ببيع الأرض وما فيها بل ببيع الأرض خاصة، والبائع يقول وقع
التصريح بذلك أو وقع بينهما على الأرض خاصة فاعتقد البائع
دخول ما فيها ضمنًا واعتقد المشتري عدم الدخول (فتحاكما
إلى رجل) هو داود النبي عليه الصلاة والسلام كما في
المبتدأ لوهب بن منبه، وفي المبتدأ لإسحاق بن بشر أن ذلك
وقع في زمن ذي القرنين من بعض قضاته. قال في الفتح: وصنيع
البخاري يقتضي ترجيح ما وقع عند وهب لكونه أورده في ذكر
بني إسرائيل (فقال الذي تحاكما إليه: ألكما ولد)؟ بفتح
الواو والمراد الجنس والمعنى ألكل منكما ولد (قال أحدهما):
وهو المشتري (لي غلام، وقال الآخر): وهو البائع (لى جارية.
قال): أي الحاكم (أنكحوا) أنتما والشاهدان (الغلام الجارية
وأنفقوا) أنتما ومن تستعينان به كالوكيل (على أنفسهما منه)
أي على الزوجين من الذهب (وتصدقا) منه بأنفسكما بغير واسطة
لما فيه من الفضل. ومذهب الشافعية أنه إذا باع أرضًا لا
يدخل فيها ذهب مدفون فيها كالكنوز كبيع دار فيها أمتعة بل
هو باق على ملك البائع.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في القضاء.
3473 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ
الْمُنْكَدِرِ. وَعَنْ أَبِي النَّضْرِ مَوْلَى عُمَرَ
بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عَنْ عَامِرِ بْنِ سَعْدِ بْنِ
أَبِي وَقَّاصٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ سَمِعَهُ يَسْأَلُ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ: مَاذَا سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
الطَّاعُونِ؟ فَقَالَ أُسَامَةُ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: الطَّاعُونُ رِجْسٌ
عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ -أَوْ عَلَى مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ- فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ
تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ
بِهَا فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ». قَالَ أَبُو
النَّضْرِ: «لاَ يُخْرِجُكُمْ إِلاَّ فِرَارًا مِنْهُ».
[الحديث 3473 - طرفاه في: 5728، 6974].
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي (قال:
حدثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الأصبحي إمام دار
الهجرة (عن محمد بن المنكدر) بن عبد الله بن الهدير
بالتصغير التيمي المدني (وعن أبي النضر) بالضاد المعجمة
سالم بن أبي أمية (مولى عمر بن عبيد الله) بضم العين
التيمي المدني (عن عامر بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه أنه
سمعه يسأل أسامة بن زيد) بضم
الهمزة ابن حارثة (ماذا سمعت من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في) شأن (الطاعون)؟ وهو كما قال
الجوهري على وزن فاعول من الطعن عدلوا به عن أصله
(5/432)
ووضعوه دالاً على الموت العام كالوباء
(فقال أسامة: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ-):
(الطاعون رجس) بالسين أي عذاب (أرسل على طائفة) هم قوم
فرعون (من بني إسرائيل) لما كثر طغيانهم (أو) قال عليه
السلام: (على من كان قبلكم) شك الراوي (فإذا سمعتم به بأرض
فلا تقدموا عليه) بسكون القاف وفتح الدال (وإذا وقع بأرض
وأنتم بها فلا تخرجوا) منها (فرارًا) أي لأجل الفرار (منه)
أي من الطاعون لأنه إذا خرج الأصحاء وهلك المرضى فلا يبقى
من يقوم بأمرهم وقيل غير ذلك مما سيأتي إن شاء الله تعالى
في موضعه.
(قال أبو النضر): بالسند السابق (لا يخرجكم) من الأرض التي
وقع بها إذا لم يكن خروجكم (إلاّ فرارًاً منه) فالنصب على
الحال وكلمة إلا للإيجاب لا للاستثناء حكاه النووي، وبهذا
التقدير يزول الإشكال لأن ظاهره المنع من الخروج لكل سبب
لا للفرار وهو ضد المراد. وقال الكرماني المراد منه الحصر
يعني الخروج المنهي عنه هو الذي لمجرد الفرار لا لغرض فهو
تفسير للمعلل المنهي لا للنهي، وقيل إلا زائدة غلطًا من
الراوي والصواب حذفها فيباح لغرض آخر كالتجارة ونحوها، وقد
نقل ابن جرير الطبري أن أبا موسى الأشعري كان يبعث بنيه
إلى الأعراب من الطاعون وكان الأسود بن هلال ومسروق يفران
منه، وعن عمرو بن العاص أنه قال: تفرقوا من هذا الرجز في
الشعاب والأودية ورؤوس الجبال وهل يأتي قول عمر تفروا من
الله تعالى إلى قدر الله تعالى أم لا.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في ترك الحيل ومسلم والنسائي في
الطب والترمذي في الجنائز.
3474 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
دَاوُدُ بْنُ أَبِي الْفُرَاتِ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ
بْنُ بُرَيْدَةَ عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ عَنْ
عَائِشَةَ -رضي الله عنها- زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: «سَأَلْتُ رَسُولَ
اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ
الطَّاعُونِ، فَأَخْبَرَنِي أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ
اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ
رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ
الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا
يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ
لَهُ إِلاَّ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ». [الحديث
3474 - طرفاه في: 5734، 6619].
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
داود بن أبي الفرات) عمرو الكندي قال: (حدّثنا عبد الله بن
بريدة) بضم الموحدة مصغرًا ابن الحصيب بالمهملتين قاضي مرو
(عن يحيى بن يعمر) بفتح الميم قاضي مرو أيضًا التابعي
الجليل (عن عائشة) -رضي الله عنها- (زوج النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنها (قالت: سألت رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الطاعون فأخبرني)
بالإفراد.
(إنه عذاب يبعثه الله) عز وجل (على من يشاء) من الكفار
(وإن الله جعله رحمة للمؤمنين) وشهادة كما في حديث آخر
(ليس من أحد يقع الطاعون
(5/433)
فيمكث في بلده) الذي وقع به الطاعون
ولا يخرج منه حال أنه (صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه
إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد) وإن مات بغير
الطاعون ولو في غير زمنه، وقد علم أن درجات الشهداء
متفاوتة فيكون كمن خرج من بيته على نيّة الجهاد في سبيل
الله فمات بسبب آخر غير القتل وفضل الله واسع ونية المرء
أبلغ من عمله.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في التفسير والطب والقدر والنسائي
في الطب وبقية مباحثه تأتي في محالها إن شاء الله تعالى
بعون الله وقوّته.
3475 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا
لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ -
رضي الله عنها- «أَنَّ قُرَيْشًا أَهَمَّهُمْ شَأْنُ
الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ الَّتِي سَرَقَتْ،
فَقَالُوا: وَمَنْ يُكَلِّمُ فِيهَا رَسُولَ اللَّهِ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالُوا: وَمَنْ
يَجْتَرِئُ عَلَيْهِ إِلاَّ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ حِبُّ
رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟
فَكَلَّمَهُ أُسَامَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ
حُدُودِ اللَّهِ؟ ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ:
إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا
إِذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ، وَإِذَا
سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ.
وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ ابْنَةَ مُحَمَّدٍ
سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا».
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي وسقط ابن سعيد
لأبي ذر قال: (حدّثنا الليث) هو ابن سعد الإمام (عن ابن
شهاب) محمد (عن عروة) بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-
أن قريشًا أهمهم) أحزنهم (شأن المرأة المخزومية) وهي فاطمة
بنت الأسود (التي سرقت) حليًا في غزوة الفتح (فقال)
بالإفراد (ومن) بالواو ولأبي ذر عن الكشميهني فقالوا
بالجمع أي قريش من بحذف الواو وله عن الحموي والمستملي
فقال بالإفراد من بغير واو (يكلم فيها) في المخزومية (رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقالوا): وعند
ابن أبي شيبة أن القائل مسعود بن الأسود (ومن يجترئ) أي
يتجاسر (عليه) بطريق الإدلال والعطف على محذوف تقديره ولا
يجترئ عليه منا أحد لمهابته وأنه لا تأخذه في دين الله
رأفة وما يجترئ عليه (إلا أسامة بن زيد حبّ) بكسر الحاء
وتشديد الموحدة أي محبوب (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فكلمه أسامة) في ذلك (فقال) له (رسول
الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أتشفع في حد من حدود الله) عز وجل استفهام إنكاري (ثم
قام) عليه السلام (فاختطب ثم قال: وإنما أهلك الذين قبلكم)
هم بنو إسرائيل (أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه
وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم الله) بوصل
الهمزة وقد تقطع اسم موضوع للقسم (لو أن فاطمة ابنة محمد)
ولأبي ذر بنت محمد (سرقت لقطعت يدها) إنما ضرب المثل
بفاطمة -رضي الله عنها- لأنها كانت أعز أهله ثم إنها كانت
سميتها.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في فضل أسامة وفي الحدود ومسلم
وأبو داود وابن ماجه والنسائي في الحدود.
3476 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ قَالَ: سَمِعْتُ
النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ الْهِلاَلِيَّ عَنِ ابْنِ
مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- قَالَ: «سَمِعْتُ رَجُلاً قَرَأَ
آيَةً وَسَمِعْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ خِلاَفَهَا، فَجِئْتُ بِهِ النَّبِيَّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَخْبَرْتُهُ،
فَعَرَفْتُ فِي وَجْهِهِ الْكَرَاهِيَةَ وَقَالَ:
كِلاَكُمَا مُحْسِنٌ، وَلاَ تَخْتَلِفُوا، فَإِنَّ مَنْ
كَانَ قَبْلَكُمُ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال:
(5/434)
(حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا عبد
الملك بن ميسرة) ضد الميمنة الهلالي الكوفي (قال: سمعت
النزال بن سبرة) بفتح النون والزاي المشددة وبعد الألف لام
وسبرة بفتح المهملة وتسكين الموحدة (الهلالي عن ابن مسعود)
عبد الله (-رضي الله عنه-) أنه (قال: سمعت رجلاً قرأ)
يحتمل أن يكون هذا الرجل عمرو بن العاصي لحديث عند أحمد
يستأنس به في ذلك (وسمعت النبي) ولأبي ذر عن الكشميهني قرأ
آية وسمعت النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يقرأ خلافها فجئت به النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فأخبرته فعرفت في وجهه الكراهية) للجدال الواقع
بينهما (وقال):
(كلاكما محسن) في القراءة والسماع (فلا) بالفاء في الفرع
والذي في أصله لا (تختلفوا) اختلافًا يؤدي إلى الكفر أو
البدعة كالاختلاف في نفس القرآن وفيما جازت قراءته بوجهين
وفيما يوقع في الفتنة أو الشبهة (فإن من كان قبلكم) وهم
بنو إسرائيل (اختلفوا فهلكلوا) نعم إذا كان الاختلاف في
الفروع ومناظرات العلماء لإظهار الحق فهو مأمور به.
وسبق هذا الحديث في الأشخاص.
3477 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي
حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقٌ قَالَ
عَبْدُ اللَّهِ: «كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْكِي نَبِيًّا
مِنَ الأَنْبِيَاءِ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ،
وَهْوَ يَمْسَحُ الدَّمَ عَنْ وَجْهِهِ وَيَقُولُ:
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ
يَعْلَمُونَ». [الحديث 3477 - طرفه في: 6929].
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) قال: (حدّثنا أبي) حفص بن
غياث النخعي الكوفي قاضيها قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن
مهران (قال: حدثني) بالإفراد (شقيق) هو أبو وائل بن سلمة
(قال عبد الله) بن مسعود: (كأني أنظر إلى النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحكي نبيًّا من الأنبياء ضربه
قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه) قيل هو نوح فعند ابن
أبي حاتم عن عبيد بن عمير الليثي أنه بلغه أن قوم نوح
كانوا يبطشون به فيخنقونه حتى يغشى عليه (ويقول) إذا أفاق:
(اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون). فإن صح أن المراد نوح
فلعل هذا كان في ابتداء الأمر ثم لما يئس منهم قال: {ربّ
لا تذر على الأرض من الكافرين ديارًا} [نوح: 26] وقد جرى
لنبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل ذلك يوم
أُحد. رواه ابن حبان في صحيحه من حديث سهل بن سعد، والظاهر
أن النبي المبهم هنا من أنبياء بني إسرائيل وإلاّ فلا
مطابقة بين الحديث وبين ما ترجم به
فإن نوحًا قبل بني إسرائيل بمدة مديدة، وثبت لفظ اللهم
للكشميهني في اليونينية وكذا في فرعها.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في استتابة
(5/435)
المرتدّين وأخرجه مسلم في المغازي وابن
ماجه في الفتن.
3478 - حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا أَبُو
عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَبْدِ
الْغَافِرِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ -رضي الله عنه- عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَنَّ
رَجُلاً كَانَ قَبْلَكُمْ رَغَسَهُ اللَّهُ مَالاً،
فَقَالَ لِبَنِيهِ لَمَّا حُضِرَ: أَىَّ أَبٍ كُنْتُ
لَكُمْ؟ قَالُوا: خَيْرَ أَبٍ. قَالَ: فَإِنِّي لَمْ
أَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ، فَإِذَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي،
ثُمَّ اسْحَقُونِي ثُمَّ ذَرُّونِي فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ.
فَفَعَلُوا. فَجَمَعَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ:
مَا حَمَلَكَ؟ قَالَ: مَخَافَتُكَ. فَتَلَقَّاهُ
بِرَحْمَتِهِ». وَقَالَ مُعَاذٌ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
قَتَادَةَ قَالَ: "سَمِعْتُ عُقْبَةَ بْنَ عَبْدِ
الْغَافِرِ سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ عَنِ
النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-". [الحديث
3478 - طرفاه في: 6481، 7508].
وبه قال: (حدّثنا أبو الوليد) هشام بن عبد الملك قال:
(حدّثنا أبو عوانة) الوضاح بن عبد الله اليشكري (عن قتادة)
بن دعامة (عن عقبة بن عبد الغافر) أبي نهار الأزدي الكوفي
(عن أبي سعيد) الخدري (-رضي الله عنه- عن النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(أن رجلاً) لم يسم (كان قبلكم) في بني إسرائيل (رغسه الله)
بفتح الراء والغين المعجمة المخففة والسين المهملة أعطاه
الله (مالاً) ووسع له فيه (فقال لبنيه لما حضر): بضم الحاء
المهملة وكسر المعجمة بضم الحاء المهملة وكسر المعجمة أي
لما حضره الموت (أيّ أب كنت لكم؟ قالوا) كنت لنا (خير أب.
قال: فإني لم أعمل خيرًا قط فإذا متّ فأحرقوني ثم اسحقوني
ثم ذروني) بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء، ولأبي ذر عن
الكشميهني: ثم اذروني بألف وصل وسكون المعجمة.
وقال في الفتح: أذروني بزيادة همزة مفتوحة أي طيروني (في
يوم عاصف) ريحه (ففعلوا) ما أمرهم به (فجمعه الله عز وجل)
في حديث سلمان الفارسي فقال الله له: كن فكان في أسرع من
طرفة العين رواه أبو عوانة في صحيحه (فقال) له (ما حملك)
زاد في الرواية الآتية على ما صنعت (قال) ولأبي الوقت
فقال: (مخافتك) حملتني على ذلك (فتلقاه برحمته) بالقاف
وتعديته بالباء ولأبي ذر عن الكشميهني فتلافاه بألف بعد
اللام وفاء بدل القاف رحمته بالنصب على المفعولية.
(وقال معاذ) العنبري فيما وصله مسلم (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن قتادة) بن دعامة أنه (قال: سمعت) ولأبي ذر: سمع
(عقبة بن عبد الغافر) الأزدي يقول (سمعت أبا سعيد الخدري
عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-). فأفاد في
هذه الطريق أن قتادة سمع من عقبة.
3479 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ
عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ
حِرَاشٍ قَالَ: قَالَ عُقْبَةُ لِحُذَيْفَةَ: أَلاَ
تُحَدِّثُنَا مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
«إِنَّ رَجُلاً حَضَرَهُ
الْمَوْتُ لَمَّا أَيِسَ مِنَ الْحَيَاةِ أَوْصَى
أَهْلَهُ: إِذَا مُتُّ فَاجْمَعُوا لِي حَطَبًا كَثِيرًا،
ثُمَّ أَوْرُوا نَارًا، حَتَّى إِذَا أَكَلَتْ لَحْمِي
وَخَلَصَتْ إِلَى عَظْمِي فَخُذُوهَا فَاطْحَنُوهَا
فَذَرُّونِي فِي الْيَمِّ فِي يَوْمٍ حَارٍّ -أَوْ رَاحٍ-
فَجَمَعَهُ اللَّهُ فَقَالَ: لِمَ فَعَلْتَ؟ قَالَ:
خَشْيَتَكَ. فَغَفَرَ لَهُ». قَالَ عُقْبَةُ: وَأَنَا
سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
حَدَّثَنَا مُوسَى حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ حَدَّثَنَا
عَبْدُ الْمَلِكِ وَقَالَ: «فِي يَوْمٍ رَاحٍ».
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا أبو
عوانة) الوضاح (عن عبد الملك بن عمير) بضم العين مصغرًا
اللخمي يقال له الفرسي بفتح الفاء والراء نسبة إلى فرس له
سابق (عن ربعي بن حراش) بكسر الراء وسكون الموحدة وبكسر
العين المهملة وحراش بكسر الحاء المهملة بعدها راء فألف
فمعجمة أنه (قال: قال عقبة) هو ابن عمرو وأبو مسعود
الأنصاري البدري وليس هو عقبة بن عبد الغافر السابق
(لحذيفة) بن اليمان (ألا) بالتخفيف (تحدّثنا ما سمعت من
النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قال)
(5/436)
حذيفة لعقبة: (سمعته) -صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (يقول):
(إن رجلاً) أي من بني إسرائيل كان نباشًا للقبور يسرق
الأكفان (حضره الموت لما) بتشديد الميم (أيس) بهمزة مفتوحة
فتحتية مكسورة ولأبي ذر عن الكشميهني يئس بتحتية مفتوحة
فهمزة مكسورة (من الحياة أوصى أهله) ولأبي ذر في اليونينية
لا في الفرع إلى أهله (إذا مت) ولأبي ذر إذا مات (فاجمعوا)
ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فاجعلوا (لي حطبًا كثيرًا ثم
أوروا) بفتح الهمزة وسكون الواو أي اقدحوا وأشعلوا (نارًا)
واطرحوني فيها (حتى إذا أكلت لحمي وخلصت) أي وصلت (إلى
عظمي) فأحرقته (فخذوها) أي عظامه المحرقة (فأطحنوها
فذروني) بفتح المعجمة وتشديد الراء في الفرع كأصله وغيرهما
وضبطه في الفتح بضم المعجمة أي فرقوني (في اليم) في البحر
(في يوم) بالتنوين (حار) كذا بالحاء المهملة والراء
المشددة في الفرع وقيده في الفتح بتخفيفها أي شديد الحر
(أو) قال: (راح) براء فألف فمهملة كثير الريح والشك من
الراوي، وللمستملي والحموي: في يوم حاز راح بالحاء المهملة
والزاي المخففة في الأولى، وقال العيني بتشديدها أي يحز
حره أو برده (فجمعه الله) عز وجل (فقال) له: (لم فعلت)؟
هذا (قال: خشيتك) قال الحافظ شرف الدين اليونيني، قال
شيخنا جمال الدين يعني ابن مالك: خشيتك بفتح التاء وكسرها
والفتح أعلى اهـ. ووجه الكرماني النصب على نزع الخافض أي
لخشيتك ووجه الزركشي الثاني على تقدير من، وقال البرماوي
كالكرماني: خشيتك خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ حذف خبره
وللكشميهني من خشيتك (فغفر له. قال عقبة) بن عمرو الأنصاري
(وأنا سمعته) أي سمعت حذيفة (يقول) ما قال رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
وبه قال: (حدّثنا موسى) بن إسماعيل التبوذكي ولأبي ذر عن
الكشميهني: حدّثنا مسدد بدل موسى، وصوّب الحافظ أبو ذر أنه
موسى موافقة للأكثر وبذلك جزم أبو نعيم في مستخرجه وهو
الظاهر لأن المؤلّف ساق الحديث عن مسدد ثم بين أن موسى
خالفه في لفظة منه قال:
(حدّثنا أبو عوانة) الوضاح قال: (حدّثنا عبد الملك) بن
عمير (وقال: في يوم راح). بدل قوله في رواية مسدد
(5/437)
السابقة في يوم حار. وقوله: حدّثنا موسى
الخ ثابت في رواية الحموي.
3480 - حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كَانَ الرَّجُلُ
يُدَايِنُ النَّاسَ، فَكَانَ يَقُولُ لِفَتَاهُ: إِذَا
أَتَيْتَ مُعْسِرًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، لَعَلَّ اللَّهُ
أَنْ يَتَجَاوَزَ عَنَّا. قَالَ: فَلَقِيَ اللَّهَ
فَتَجَاوَزَ عَنْهُ».
وبه قال: (حدّثنا عبد العزيز بن عبد الله) الأويسي العامري
المدني قال: (حدّثنا إبراهيم بن سعد) بسكون العين القرشي
(عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن عبيد الله) بضم
العين (ابن عبد الله بن عتبة) بن مسعود (عن أبي هريرة)
-رضي الله عنه- (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(كان الرجل) كذا بالألف واللام في الفرع كأصله لكن ضبب
عليهما بل شطب عليهما بالحمرة (يداين الناس فكان يقول
لفتاه) أي لصاحبه الذي يقضي حوائجه (إذا أتيت معسرًا
فتجاوز عنه) بالفاء وفتح الواو ولأبي ذر تجاوز بحذف الفاء.
وعند النسائي فيقول لرسوله خذ ما تيسر واترك ما عسر وتجاوز
(لعل الله) عز وجل (أن يتجاوز عنا قال: فلقي الله فتجاوز
عنه). وعند مسلم من طريق ربعي عن حذيفة فقال الله تعالى:
أنا أحق بذلك منك تجاوزوا من عبدي.
وسبق الحديث قريبًا.
3481 - حَدَّثَنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ
حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ عَنْ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «كَانَ رَجُلٌ
يُسْرِفُ عَلَى نَفْسِهِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ
قَالَ لِبَنِيهِ: إِذَا أَنَا مُتُّ فَأَحْرِقُونِي، ثُمَّ
اطْحَنُونِي، ثُمَّ ذَرُّونِي فِي الرِّيحِ، فَوَاللَّهِ
لَئِنْ قَدَرَ عَلَىَّ رَبِّي لَيُعَذِّبَنِّي عَذَابًا
مَا عَذَّبَهُ أَحَدًا. فَلَمَّا مَاتَ فُعِلَ بِهِ
ذَلِكَ، فَأَمَرَ اللَّهُ الأَرْضَ فَقَالَ: اجْمَعِي مَا
فِيكِ مِنْهُ، فَفَعَلَتْ , فَإِذَا هُوَ قَائِمٌ،
فَقَالَ: مَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ قَالَ: يَا
رَبِّ خَشْيَتُكَ حملتني. فَغَفَرَ لَهُ». وَقَالَ
غَيْرُهُ: «مَخَافَتُكَ يَا رَبِّ». [الحديث 3481 - طرفه
في: 7506].
وبه قال (حدثني) بالإفراد ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الله بن
محمد) المسندي قال: (حدّثنا هشام) هو ابن يوسف الصنعاني
قاضيها قال: (أخبرنا معمر) هو ابن راشد (عن الزهري) محمد
بن مسلم (عن حميد بن عبد الرَّحمن عن أبي هريرة -رضي الله
عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه
(قال):
(كان رجل) من بني إسرائيل (يسرف على نفسه) يبالغ في
المعاصي (فلما حضره الموت قال لبنيه: إذا أنا متّ
فأحرقوني) بهمزة قطع (ثم اطحنوني) بهمزة وصل (ثم ذرّوني)
بفتح المعجمة وتشديد الراء. وقال العيني بتخفيفها أي
اتركوني (في الريح) تفرّق أجزائي بهبوبها (فوالله لئن قدر
عليّ ربي) بتخفيف الدال ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: لئن
قدر الله عليّ ضيق الله عليّ كقوله تعالى {ومن قدر عليه
رزقه} [الطلاق: 7] أي ضيق عليه وليس شكًّا في القدرة على
إحيائه وإعادته ولا إنكار البعثة كيف وقد أظهر إيمانه
باعترافه بأنه فعل ذلك من خشية الله تعالى، ولا يقال إن
جحد بعض الصفات لا يكون كفرًا لأن الاتفاق على جحد صفة
القدرة كفر بلا ريب، وأحسن الأقوال قول النووي: إنه قال
ذلك في حال دهشته وغلبة الخوف عليه بحيث ذهب تدبره فيما
يقوله فصار كالغافل
(5/438)
والناسي الذي لا يؤاخذ بما صدر منه ولم
يقله قاصدًا الحقيقة معناه (ليعذبني عذابًا ما عذبه أحدًا)
بفتح الموحدة من ليعذبني وفي اليونينية بجزمها وكذا في
الفرع لكنه مصلح على كشط وفي رواية فوالله لئن قدر الله
عليه ليعذبه عذابًا لا يعذبه أحدًا من العالمين (فلما مات
فعل به) بضم الفاء وكسر العين (ذلك) الذي أوصى به (فأمر
الله تعالى) سقط قوله تعالى في اليونينية (الأرض فقال
اجمعي ما فيك منه ففعلت) فيه رد على من قال إن الخطاب
السابق من الله تعالى لروح هذا الرجل لأن ذلك لا يناسب
قوله: اجمعي ما فيك لأن التحريق والتفريق إنما وقع على
الجسد وهو الذي يجمع ويعاد عند البعث وحينئذٍ فيكون ذلك
كله إخبارًا عما سيقع لهذا الرجل يوم القيامة، وفي رواية
قال رجل لم يعمل حسنة قط لأهله إذا متّ فحرقوه ثم ذرّ
ونصفه وفي البرّ ونصفه في البحر الحديث وفيه فأمر الله
تعالى البرّ فجمع ما فيه وأمر البحر فجمع ما فيه.
(فإذا هو قائم) بين يديه تعالى (فقال) له: (ما حملك على ما
صنعت قال: يا رب خشيتك حملتني) على ذلك وسقط قوله خشيتك
لأبي ذر وفي نسخة خشيتك بكسر الشين وسكون التحتية أي خشيتك
فصنعت ذلك (فغفر له وقال غيره) أي غير أبي هريرة (مخافتك)
بدل قوله خشيتك (يا رب) وهذا أخرجه أحمد عن عبد الرزاق،
ولأبي ذر خشيتك بدل قوله مخافتك لأن خشية الأولى ساقطة
عنده كما مرّ.
3482 - حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ
أَسْمَاءَ حَدَّثَنَا جُوَيْرِيَةُ بْنُ أَسْمَاءَ عَنْ
نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما-
أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَالَ: «عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ
رَبَطَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ،
لاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلاَ سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا
وَلاَ هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ».
وبه قال: (حدثني) بالإفراد، ولأبي ذر: حدّثنا (عبد الله بن
محمد بن أسماء) بن عبيد بن مخراق البصري قال: (حدّثنا) عمي
(جويرة بن أسماء) بالجيم المضمومة تصغير جارية ابن عبيد بن
مخراق (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر -رضي
الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قال):
(عذبت امرأة) من بني إسرائيل لم تسم (في) شأن (هرّة) بكسر
الهاء وتشديد الراء وآخره هاء (سجنتها) ولأبي ذر عن الحموي
والمستملي ربطتها (حتى ماتت فدخلت) أي المرأة (فيها) أي
بسببها (النار لا هي أطعمتها ولا سقتها إذ حبستها) وهذه
ساقطة من الفرع ثابتة في اليونينية (ولا
هي تركتها تأكل من خشاش الأرض) بالخاء المعجمة والشينين
المعجمتين بينهما ألف أي حشراتها وهوامها. قال الطيبي:
وذكر الأرض هنا كذكرها في
(5/439)
قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض}
[الأنعام: 38] للإحاطة والشمول.
وقال الدميري: كانت هذه المرأة كافرة كما رواه البزار في
مسنده وأبو نعيم في تاريخ أصبهان والبيهقي في البعث
والنشور عن عائشة فاستحقت التعذيب بكفرها وظلمها.
وقال عياض في شرح مسلم: يحتمل أن تكون كافرة وأبقى النووي
هذا الاحتمال وكأنهما لم يطلعا على نقل في ذلك.
وفي مسند أبي داود الطيالسي من حديث الشعبي عن علقمة قال:
كنا عند عائشة ومعنا أبو هريرة فقالت: يا أبا هريرة أنت
الذي تحدث عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أن امرأة عذبت بالنار من أجل هرة؟ قال أبو هريرة نعم سمعته
منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. فقالت عائشة:
المؤمن أكرم على الله من أن يعذبه من أجل هرة إنما كانت
المرأة مع ذلك كافرة. يا أبا هريرة إذا حدثت عن رسول الله
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فانظر كيف تحدّث. نعم
في كامل ابن عديّ عنها أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- كان تمرّ به الهرة فيصغي لها الإناء فتشرب منه،
وفي تاريخ ابن عساكر أن الشبلي رئي في المنام فقيل له: ما
فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه ثم قال لي: يا أبا بكر
أتدري بم غفرت لك؟ فقلت: بصالح عملي؟ فقال: لا. فقلت: إلهي
بماذا؟ فقال: بتلك الهرة التي وجدتها في دروب بغداد وقد
أضعفها البرد فأدخلتها في فرو كان عليك وقاية لها من أليم
البرد فبرحمتك لها رحمتك.
وهذا الحديث سبق في بدء الخلق وفي الصلاة في باب ما يقرأ
بعد التكبير وأخرجه مسلم في الحيوان والأدب.
3483 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ عَنْ زُهَيْرٍ
حَدَّثَنَا مَنْصُورٌ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ
حَدَّثَنَا أَبُو مَسْعُودٍ عُقْبَةُ قَالَ: قَالَ
النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ
مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ:
إِذَا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَلْ مَا شِئْتَ». [الحديث 3483
- طرفاه في: 3484، 6120].
وبه قال: (حدثنا أحمد بن يونس) اليربوعي الكوفي نسبه لجده
واسم أبيه عبد الله (عن زهير) هو ابن معاوية الكوفي أنه
قال: (حدّثنا منصور) هو ابن المعتمر الكوفي (عن ربعي بن
حراش) بكسر الراء وسكون الموحدة في الأوّل وكسر الحاء
المهملة وبعد الراء ألف فمعجمة في الثاني أنه قال (حدّثنا
أبو مسعود عقبة) بن عمرو البدري (قال: قال النبي -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن مما أدرك الناس) بالرفع. قال ابن حجر: في جميع الطرق
أي مما أدركه الناس ويجوز النصب أي مما بلغ الناس (من كلام
النبوة) مما اتفقوا عليه ولم ينسخ فيما نسخ من شرائعهم ولم
يبدل فيما بدل منها لأنه أمر قد علم صوابه وظهر فضله
واتفقت العقول على حسنه، وزاد أحمد وأبو داود وغيرهما
الأولى أي
(5/440)
التي قبل نبينا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إشارة إلى اتفاق كلمة الأنبياء من أوّلهم إلى
آخرهم
على استحسانه (إذا لم تستح) بكسر الحاء في الفرع وأصله اسم
إن وخبرها من في مما على تأويل أن هذا القول حاصل مما أدرك
الناس، ويجوز أن يكون فاعل أدرك ضميرًا عائدًا على ما
والناس مفعوله وعليه كلام القاضي أي مما بلغ الناس من كلام
الأنبياء المتقدمين أن الحياء هو المانع من اقتراف القبائح
والاشتغال بمنهيات الشرع ومستهجنات الفعل وقوله إذا لم
تستح الجملة الشرطية اسم إن على الحكاية قاله الطيبي
(فافعل ما شئت) أمر بمعنى الخبر أو أمر تهديد أي اصنع ما
شئت فإن الله يجزيك أو معناه انظر ما تريد أن تفعله فإن
كان مما لا يستحي منه فافعله، وإن كان مما يستحي منه فدعه
أو أنك إذا لم تستح من الله بأن ذلك الشيء مما يجب أن لا
يستحي منه بحسب الدين فافعل ولا تبال بالخلق قاله الكرماني
ونقله الطيبي عن شرح السنة.
وهذا الحديث أخرجه أيضًا في الأدب وكذا أبو داود وأخرجه
ابن ماجه في الزهد.
3484 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ
مَنْصُورٍ قَالَ: سَمِعْتُ رِبْعِيَّ بْنَ حِرَاشٍ
يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مَسْعُودٍ قَالَ: النَّبِيُّ -صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ
النَّاسُ مِنْ كَلاَمِ النُّبُوَّةِ، إِذَا لَمْ تَسْتَحِي
فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ».
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج (عن منصور) هو ابن المعتمر أنه (قال: سمعت ربعي بن
حراش يحدث عن أبي مسعود) عقبة بن عمرو البدري أنه (قال:
قال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن مما أدرك الناس من كلام النبوّة إذا لم تستحي) بسكون
الحاء وكسر التحتية وفي الفرع كسر الحاء مخففة وعلامة جزمه
حذف الياء التي هي لام الفعل يقال استحى يستحي (فاصنع ما
شئت). وهذا الحديث ثابت في الفرع وسابقه مكتوب في الهامش
من اليونينية ساقط في كثير من الأصول، وفي إثباته فوائد
التصريح بسماع منصور من ربعي وكونه من طريق آدم عن
(5/441)
شعبة عن منصور وفيه فاصنع بدل قوله فافعل.
3485 - حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَخْبَرَنَا
عُبَيْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ
أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ أَنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ:
«بَيْنَمَا رَجُلٌ يَجُرُّ إِزَارَهُ مِنَ الْخُيَلاَءِ
خُسِفَ بِهِ، فَهْوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الأَرْضِ إِلَى
يَوْمِ الْقِيَامَةِ». تَابَعَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ
خَالِدٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ. [الحديث 3485 - طرفه في:
5790].
وبه قال: (حدّثنا بشر بن محمد) بكسر الموحدة وسكون المعجمة
ابن محمد السختياني المروزي قال: (أخبرنا عبيد الله) بضم
العين وفتح الموحدة كذا في اليونينية وفي الفرع لكنه مصلح
فيه وفي غيرهما وعليه الشراح وهو ابن المبارك المروزي قال:
(أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم
أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (سالم أن) أباه (ابن عمر) عبد
الله (حدثه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قال):
(بينما) بالميم (رجل) ذكر أبو بكر الكلاباذي في معاني
الأخبار أنه قارون وكذا هو في صحاح الجوهري، وزاد مسلم ممن
كان قبلكم (يجر إزاره من الخيلاء) من التكبر عن تخيل فضيلة
تراءت له من نفسه وجواب بينما قوله (خسف به) بضم الخاء
المعجمة وكسر المهملة (فهو يتجلجل) بجيمين بينهما لام
ساكنة وآخره أخرى يسيخ (في الأرض) مع اضطراب شديد وتدافع
من شق إلى شق (إلى يوم القيامة).
وهذا الحديث أخرجه النسائي في الزينة. (تابعه) أي تابع
يونس (عبد الرَّحمن بن خالد) الفهمي مولى الليث بن سعد في
روايته (عن الزهري). محمد بن مسلم بن شهاب، ووصل هذه
المتابعة الذهلي في الزهريات.
وبقية مباحث الحديث تأتي إن شاء الله تعالى في كتاب اللباس
بعون الله وقوّته.
3486 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا
وُهَيْبٌ قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نَحْنُ
الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ
كُلُّ أُمَّةٍ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِنَا
وَأُوتِينَا مِنْ بَعْدِهِمْ. فَهَذَا الْيَوْمُ الَّذِي
اخْتَلَفُوا، فَغَدًا لِلْيَهُودِ، وَبَعْدَ غَدٍ
لِلنَّصَارَى».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) المنقري قال: (حدّثنا
وهيب) بضم الواو مصغرًا ابن خالد (قال: حدثني) بالإفراد
(ابن طاوس) عبد الله (عن أبيه) طاوس (عن أبي هريرة- رضي
الله عنه- عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-)
أنه (قال):
(نحن الآخرون) في الدنيا (السابقون يوم القيامة) بما منحنا
من الفضائل والكمالات (بيد) بفتح الموحدة وسكون التحتية
آخره دال مهملة أي غير (كل
(5/442)
أمة) قال ابن مالك: المختار عندي في بيد أن
تجعل حرف استثناء بمعنى لكن لأن معنى إلا مفهوم منها،
والمشهور استعمالها متلوة بأن كما في حديث آخر بيد أنهم
أوتوا الكتاب وقول الشاعر:
بيد أن الله فضلكم
فالأصل في رواية من روى بيد كل أمة بيد أن كل أمة، فحذف أن
وبطل عملها وأضيف بيد إلى المبتدأ والخبر اللذين كانا
معمولي أن ونحوه في حذف أن واستعمال ما بعدها على المبتدأ
والخبر قول الزبير -رضي الله عنه-:
فلولا بنوها حولها لخطبتها
وجاز حذف أن المشددة قياسًا على المخففة في نحو قوله
تعالى: {يريكم البرق} [الرعد: 12] أي أن يريكم لأنهما
أختان في المصدرية. وقال الطيبي: هذا الاستثناء من باب
تأكيد المدح بما يشبه الذم قال النابغة:
فمتى كملت أخلاقه غير أنه ... جواد فما يبقي من المال
باقيا
قال: والبيت يجري في الاستثناء على المنقطع لا المتصل
بالادعاء كما في قوله:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب
يعني: إذا كان فلول السيف من القراع عيبًا فلهم هذا العيب
ولكن هو من أخص صفة الشجاعة.
وعلى هذا معنى الحديث وتقريره نحن السابقون يوم القيامة
بما لنا من الفضل غير أن كل أمة (أوتوا الكتاب) بالتعريف
للجنس (من قبلنا وأوتينا) القرآن (من بعدهم فهذا) يوم
الجمعة (اليوم الذي اختلفوا فيه) هل يلزم بعينه أم يسوغ
لهم إبداله بغيره من الأيام فاجتهدوا في ذلك فأخطؤوا ولفظة
فيه ثابتة لأبي ذر وحده (فغدا) يوم السبت (لليهود وبعد غد)
يوم الأحد (للنصارى).
3487 - «عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ
يَوْمٌ يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ».
(على كل مسلم في كل سبعة أيام يوم) هو يوم الجمعة (يغسل
رأسه وجسده). ندبًا لقوله عليه
(5/443)
الصلاة والسلام "من توضأ يوم الجمعة فبها
ونعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل" حسنه الترمذي.
وهذا الحديث سبق في أوّل الجمعة.
3488 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا
عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ
قَالَ: "قَدِمَ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ
الْمَدِينَةَ آخِرَ قَدْمَةٍ قَدِمَهَا فَخَطَبَنَا
فَأَخْرَجَ كُبَّةً مِنْ شَعَرٍ فَقَالَ: مَا كُنْتُ أُرَى
أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا غَيْرَ الْيَهُودِ، وَإِنَّ
النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَمَّاهُ
الزُّورَ. يَعْنِي الْوِصَالَ فِي الشَّعَرِ". تَابَعَهُ
غُنْدَرٌ عَنْ شُعْبَةَ.
وبه قال (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن
الحجاج قال: (حدّثنا عمرو بن مرة) بفتح العين وسكون الميم
في الأول ومرة بضم الميم وتشديد الراء قال: (سمعت سعيد بن
المسيب قال: قدم معاوية بن أبي سفيان) صخر بن حرب الأموي
(المدينة أخر قدمة) بفتح القاف وسكون الدال (قدمها) سنة
إحدى وخمسين (فخطبنا فأخرج كبة) بضم الكاف وتشديد الموحدة
(من شعر) بفتح العين (فقال: ما كنت أرى) بضم الهمزة أي أظن
(أن أحدًا يفعل هذا غير اليهود إن) ولغير أبي ذر وإن
(النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سماه الزور.
يعني الوصال في الشعر) الذي تفعله النساء للزينة.
وهذا قد سبق قريبًا. (تابعه) أي تابع آدم (غندر) هو محمد
بن جعفر في رواية الحديث المذكور (عن شعبة). ووصل هذه
المتابعة مسلم في صحيحه.
وهذا آخر كتاب أحاديث الأنبياء وصلّى الله على سيدنا محمد
وعلى آله وصحبه وسلم.
(5/444)
|