شرح القسطلاني إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

بسم الله الرحمن الرحيم

74 - كتاب الأشربة
(بسم الله الرحمن الرحيم).
(كتاب الأشربة) جمع شراب كأطعمة وطعام واسم لما يشرب وليس مصدرًا لأن المصدر وهو الشرب بتثليث الشين.

1 - باب وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
(باب قول الله تعالى): بالخفض على العطف وبالرفع على الاستئناف ({وإنما الخمر}) وهو المعتصر من العنب إذا غلى وقذف بالزبد ويطلق على ما غلى وقذف بالزبد من غير ماء العنب مجازًا وفي تسميتها خمرًا أربعة لأنها تخمر العقل أي تستره أو لأنها تغطى حتى تدرك وتشتدّ أو من المخالطة لأنها تخامر العقل أي تخالطه أو من الترك لأنها تترك حتى تدرك ومنه اختمر العجين أي بلغ إدراكه ({والميسر}) القمار مفعل من اليسر وهو السهولة لأن أخذه سهل من غير كد ({والأنصاب}) الأصنام لأنها تنصب فتعبد ({والأَزْلامُ}) القداح كانوا إذا أرادوا أمرًا عمدوا إلى قداح ثلاثة. مكتوب على واحد منها أمرني ربي، وعلى الآخر نهاني ربي، والثالث غفل فإن خرج الأمر مضى لحاجته وإن خرج النهي أمسك وإن خرج الغفل أعاده ({رجس}) خبر عن المذكورات. واستشكل من حيث أخبر عن جمع بمفرد، وأجاب الزمخشري بأنه على حذف مضاف أي إنما شأن الخمر وكذا وكذا. قال أبو حيان: ولا حاجة إلى هذا بل الحكم على هذه الأربعة أنفسها أنها رجس أبلغ من تقدير هذا المضاف كقوله: {إنما المشركون نجس} [التوبة: 28] والرجس الشيء القذر أو النجس أو الخبيث ({من عمر الشيطان}) في موضع رفع صفة لرجس ولما كان يحمل على فعل ما ذكر كان كأنه عمله والضمير في ({فاجتنبوه}) يعود إلى الرجس أو إلى عمل الشيطان أو إلى المذكور أو إلى المضاف المحذوف كأنه قيل: إنما تعاطي الخمر والميسر
({لعلكم تفلحون}) [المائدة: 90] أكد تحريم الخمر والميسر من وجوه حيث صدر الجملة بإنما وقرنها بعبادة الأصنام ومنه الحديث شارب الخمر كعابد الوثن وجعلهما رجسًا من عمل الشيطان ولا يأتي منه إلا الشر البحت وأمر بالاجتناب وجعل الاجتناب من الفلاح وإذا كان الاجتناب فلاحًا كان الارتكاب خسارًا والأمر بالاجتناب للوجوب وما وجب اجتنابه حرم تناوله، وسقط لأبي ذر قوله: {من عمل الشيطان} إلى آخره وقال بعد قوله: {رجس} الآية.
5575 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما-) سقط لأبي ذر عبد الله (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها) من شربها (حرمها) بضم الحاء المهملة وكسر الراء مخففة من الحرمان أي حرم شربها (في الآخرة) ولمسلم من طريق أيوب عن نافع فمات وهو مدمنها لم يشربها في الآخرة وظاهره عدم دخوله الجنة ضرورة أن الخمر شراب أهلها، فإذا حرم شربها دل على أنه لا يدخلها ولأنه إن حرمها عقوبة له لزم وقوع الهمّ والحزن له والجنة لا همّ فيها ولا حزن، وحمله ابن عبد البر على أنه لا يدخلها ولا يشرب الخمر فيها إلا إن عفا الله عنه كما في بقية الكبائر وهو في المشيئة فالمعنى جزاؤه في الآخرة أن يحرمها لحرمانه دخول الجنة إلا إن عفا الله عنه وجائز أن يدخل الجنة بالعفو ثم لا يشرب فيها خمرًا ولا تشتهيها نفسه

(8/311)


وإن علم بوجوده فيها، ويدل له حديث أبي سعيد المروي عند الطيالسي وصححه ابن حبان مرفوعًا "من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وإن دخل الجنة لبسه أهل الجنة ولم يلبسه هو". وفرّق بعضهم بين من يشربها مستحلاًّ لها ومن يشربها عالمًا بتحريمها، فالأوّل لا يشربها أبدًا لأنه لا يدخل الجنة، والثاني هو الذي اختلف فيه فقيل إنه يحرم شربها مدة ولو في حال تعذيبه إن عذب أو المعنى أن ذاك جزاؤه إن جوزي. وقال النووي: قيل يدخل الجنة ويحرم شربها فإنها من فاخر أشربة الجنة فيحرمها هذا العاصي لشربها في الدنيا قيل إنه ينسى شهوتها فيكون هذا نقصًا عظيمًا لحرمانه أشرف نعيم الجنة. وقال القرطبي: لا يبالي بعدم شربها ولا يحسد من يشربها فيكون حاله كحال أهل المنازل في الخفض والرفع فكما لا يشتهي منزلة مَن هو أرفع منه كذلك لا يشتهي الخمر في الجنة وليس ذلك بضار له. وفي الحديث من الفوائد أن التوبة تكفّر المعاصي.
وقد أخرج الحديث مسلم في الأشربة والنسائي فيه وفي الوليمة.
5576 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِيَ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِإِيلِيَاءَ بِقَدَحَيْنِ مِنْ خَمْرٍ وَلَبَنٍ، فَنَظَرَ
إِلَيْهِمَا ثُمَّ أَخَذَ اللَّبَنَ، فَقَالَ جِبْرِيلُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاكَ لِلْفِطْرَةِ، وَلَوْ أَخَذْتَ الْخَمْرَ غَوَتْ أُمَّتُكَ. تَابَعَهُ مَعْمَرٌ وَابْنُ الْهَادِ وَعُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ وَالزُّبَيْدِيُّ عَنِ الزُّهْرِيِّ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتي) بضم الهمزة (ليلة أسري به) بضم الهمزة أيضًا (بإيلياء) بكسر الهمزة وسكون التحتية وكسر اللام وفتح التحتية الخفيفة بعدها همزة ممدودًا مدينة بيت المقدس (بقدحين من خمر ولبن فنظر) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (إليهما ثم أخذ اللبن فقال) له: (جبريل) عليه السلام: (الحمد لله الذي هداك للفطرة) أي فطرة الإسلام والاستقامة
(ولو): ضَبّب على الواو الأولى من قوله (ولو)، ابن عساكر
(أخذت الخمر غوت) ضلت (أمتك).
قال في المصابيح: لا يفهم من عدوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن إناء الخمر حينئذٍ أن الخمر كانت محرمة، فإن حديث الإسراء كان بمكة وتحريم الخمر بالمدينة، وإنما تفرس فيها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنها ستحرم فتركها من ذلك الوقت وعدل عنها، ولو كانت محرمة حينئذٍ لم يتصوّر أن يخير بين مباح وحرام لكن قد يقال: إذا كانت مباحة فهي حينئذٍ متساوية لكن الرجحان مناف للإباحة. قال ابن المنير: لا إشكال في افتراق مباحين مشتركين في أصل الإباحة. أحدهما تستمر إباحته والآخر تنقطع. قال الدماميني: فيه نظر إذ هما في حال الإباحة سواء وبعد تحريم أحدهما افترقا فافتراقهما في حال انقطاع إباحة أحدهما لا يقتضي افتراقهما حال ثبوت الإباحة وعدم انقطاعها، وقال الحافظ أبو الفضل بن حجر: ويحتمل أن يكون -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نفر منها لكونه لم يعتد شربها فوافق بطبعه ما سيقع من تحريمها بعد حفظًا من الله له ورعاية واختار اللبن لكونه مألوفًا طيبًا طاهرًا سائغًا للشاربين سليم العاقبة بخلاف الخمر في جميع ما ذكر.
(تابعه) أي تابع شعيبًا في روايته عن الزهري (معمر) هو ابن راشد فيما وصله المؤلّف في قصة موسى من أحاديث الأنبياء (وابن الهاد) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهادي الليثي فيما وصله النسائي من طريق الليث عنه عن عبد الوهاب بن بخت عن ابن شهاب (وعثمان بن عمر) بضم العين ابن موسى بن عبيد الله بن معمر التيمي فيما وصله تمام الرازي في فوائده من طريق إبراهيم بن المنذر عن عثمان بن عمر (والزبيدي) بضم الزاي وفتح الموحدة وبالدال المهملة المكسورة محمد بن الوليد بن عامر أبو الهذيل الشامي الحمصي فيما وصله النسائي من طريق محمد بن حرب عنه أربعتهم (عن الزهري) بسنده لكن ليس في موصول معمر ذكر إيلياء وفيه:
اشرب أيهما شئت وكذا رواية الزبيدي.
5577 - حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَدِيثًا لاَ يُحَدِّثُكُمْ بِهِ غَيْرِي، قَالَ: «مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَظْهَرَ
الْجَهْلُ، وَيَقِلَّ الْعِلْمُ، وَيَظْهَرَ الزِّنَا، وَتُشْرَبَ الْخَمْرُ، وَيَقِلَّ الرِّجَالُ، وَيَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً قَيِّمُهُنَّ رَجُلٌ وَاحِدٌ».
وبه قال: (حدّثنا مسلم بن إبراهيم) الفراهيدي قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس -رضي الله عنه-) أنه (قال: سمعت من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر وابن عساكر: سمعت رسول الله (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حديثًا لا

(8/312)


يحدّثكم به) أحد (غيري) يحتمل أنه كان يعلم أنه لم يسمعه من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلا من كان قد مات فانفرد هو بذلك، وقد سبق في العلم أنه قال: ذلك لأهل البصرة فإنه كان آخر من مات بها من الصحابة (قال):
(من أشراط الساعة) أي من علاماتها (أن يظهر الجهل ويقل العلم) بموت أكثر العلماء وبذلك يظهر الجهل (ويظهر الزنا) بالقصر على لغة الحجاز (وتشرب الخمر) ظاهرًا علانية وتشرب بضم الفوقية مبنيًّا للمفعول ولأبي ذر عن المستملي وشرب الخمر بإسقاط الفوقية وضم الشين المعجمة وسكون الراء مضافًا للخمر قال ابن حجر، ورواية الجماعة أولى للمشاكلة (ويقل الرجال) لكثرة الحروب والقتال (وتكثر النساء حتى) أي إلى أن (يكون لخمسين) ولابن عساكر خمسين بإسقاط اللام ولأبي ذر عن الكشميهني حتى يقوم خمسون (امرأة قيمهن) الذي يقوم عليهن (رجل واحد). وهذا الحديث سبق في كتاب العلم.
5578 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَابْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولاَنِ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: إِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ يَزْنِي حِينَ يَزْنِي وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ، وَلاَ يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهْوَ مُؤْمِنٌ»، قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَانَ يُحَدِّثُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ثُمَّ يَقُولُ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُلْحِقُ مَعَهُنَّ وَلاَ يَنْتَهِبُ نُهْبَةً ذَاتَ شَرَفٍ يَرْفَعُ النَّاسُ إِلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ فِيهَا حِينَ يَنْتَهِبُهَا وَهْوَ مُؤْمِنٌ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن صالح) أبو جعفر المصري قال: (حدّثنا ابن وهب) عبد الله (قال: أخبرني) بالإفراد (يونس) بن يزيد الأيلي (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري أنه (قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (وابن المسيب) بفتح التحتية المشددة سعيدًا (يقولان، قال أبو هريرة رضي الله عنه: إن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا يزني حين يزني وهو مؤمن) كامل بحذف الفاعل أي لا يزني الزاني كما في الرواية الأخرى في المظالم وهي هنا رواية ابن عساكر وأبي ذر عن الكشميهني واستدلّ به ابن مالك على جواز حذف الفاعل وفيه كلام سبق في المظالم ويأتي إن شاء الله تعالى في كتاب الحدود (ولا يشرب الخمر) شاربها (حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن) قال المظهري: أي لا يكون كاملًا في الإيمان حال كونه زانيًا أو لفظه لفظ الخبر ومعناه النهي، والوجه
الأول أوجه وحمله الخطابي على المستحل. وقال شارح المشكاة: يمكن أن يقال المراد بالإيمان المنفي الحياء كما روي: إن الحياء شعبة من الإيمان أي لا يزني الزاني حين يزني وهو يستحي من الله تعالى لأنه لو استحيا من الله تعالى واعتقد أنه حاضر شاهد بحاله لم يرتكب هذا الفعل الشنيع ويحتمل أن يكون من باب التغليظ والتشديد كقوله تعالى: {ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلًا ومن كفر} [آل عمران: 97] يعني هذه الخصال ليست من خصال المؤمنين لأنها منافية لحالهم، فلا ينبغي أن يتصفوا بها بل هي من أوصاف الكافرين وينصره قول الحسن وأبي جعفر الطبري أن المعنى ينزع منه اسم المدح الذي يسمى به أولياؤه المؤمنون ويستحق اسم الذم فيقال: زان وسارق.
(قال ابن شهاب) الزهري بالسند السابق: (وأخبرني) بالإفراد (عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أن) أبا عبد الملك المذكور (أبا بكر كان يحدّثه عن أبي هريرة) -رضي الله عنه- (ثم يقول: كان أبو بكر) هو ابن عبد الرحمن المذكور (يلحق) بضم التحتية وسكون اللام وكسر المهملة بعدها قاف يزيد في حديث أبي هريرة (معهن) مع المذكورات الزنا وشرب الخمر والسرقة (ولا ينتهب) الناهب من مال الغير قهرًا (نهبة) بضم النون وسكون الهاء (ذات شرف) قدر خطير والنهبة بالفتح المصدر وبالضم المال الذي انتهبه الجيش (يرفع الناس إليه) إلى الناهب (أبصارهم فيها) في تلك النهبة (حين ينتهبها وهو مؤمن) إذ هو ظلم عظيم لا يليق بحال المؤمن.

2 - باب الْخَمْرُ مِنَ الْعِنَبِ
هذا (باب) بالتنوين (الخمر) وفي نسخة: أن الخمر (من العنب).
5579 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ صَبَّاحٍ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَابِقٍ حَدَّثَنَا مَالِكٌ هُوَ ابْنُ مِغْوَلٍ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: لَقَدْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ وَمَا بِالْمَدِينَةِ مِنْهَا شَيْءٌ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني (الحسن بن صباح) بالصاد المهملة والموحدة المشددة آخره حاء مهملة البزار بالزاي ثم الراء الواسطي قال: (حدّثنا محمد بن سابق) الكوفي نزيل بغداد من شيوخ البخاري روي عنه بالواسطة قال: (حدّثنا مالك هو ابن مغول) بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الواو بعدها لام البجلي بالموحدة والجيم المفتوحتين (عن نافع) مولى ابن عمر (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: لقد حرمت الخمر)

(8/313)


المأخوذة من العنب (وما بالمدينة منها شيء) لقلة الأعناب ونفي ابن عمر محمول على ما علم أو على المبالغة من أجل قلتها يومئذ بالمدينة فأطلق النفي كما يقال فلان ليس بشيء مبالغة.
5580 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ حَدَّثَنَا أَبُو شِهَابٍ عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ نَافِعٍ عَنْ يُونُسَ عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: حُرِّمَتْ عَلَيْنَا الْخَمْرُ حِينَ حُرِّمَتْ، وَمَا نَجِدُ -يَعْنِي- بِالْمَدِينَةِ خَمْرَ
الأَعْنَابِ إِلاَّ قَلِيلًا، وَعَامَّةُ خَمْرِنَا الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ.
وبه قال: (حدّثنا أحمد بن يونس) هو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي اليربوعي الكوفي قال: (حدّثنا أبو شهاب عبد ربه بن نافع) الحناط بالحاء المهملة والنون المشددة (عن يونس) بن عبيد البصري (عن ثابت البناني) بضم الموحدة نسبة إلى بنانة زوجة سعد بن لؤي بن غالب (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد يعني بالمدينة خمر الأعناب إلا قليلًا وعامة) أصل (خمرنا) أي النبيذ الذي سيصير خمرًا (البسر) بضم الموحدة وسكون المهملة (والتمر) وسقط قوله يعني بالمدينة لابن عساكر.
5581 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ حَدَّثَنَا عَامِرٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: قَامَ عُمَرُ عَلَى الْمِنْبَرِ فَقَالَ: أَمَّا بَعْدُ، نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهْيَ مِنْ خَمْسَةٍ الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْعَسَلِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن أبي حيان) بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية آخره نون يحيى بن سعيد التيمي الكوفي قال: (حدّثنا عامر) الشعبي (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: قام عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه- (على المنبر) النبوي (فقال: أما بعد) تستعمل في الخطب وأوائل الكتب وقيل إنها فصل الخطاب المذكور في القرآن (نزل) القياس أن يكون جواب أما بعد بالفاء ولا تحذف بعدها في غير قول حذف معها نحو فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم أي فيقال لهم: أكفرتم إلا في ضرره شعر أو ندور كقوله عليه الصلاة والسلام "أما بعد ما بال رجال" (تحريم الخمر) تاسع شوّال سنة ثلاث أو أربع والخمر مصدر مضاف إلى مفعوله (وهي) أي والحال أنها (من خمسة العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير) العنب وما عطف عليه بدل من قوله خمسة وكان نزول تحريم الخمر مما وافق عمر فيه حكم ربه جل وعلا كما رواه أكو داود والنسائي عنه. (والخمر ما خامر العقل) أي غطاه وهو مجاز من باب تشبيه المعنوي بالمحسوس والعقل هو آلة التمييز فلذلك يحرم ما يغطيه ويستره إذ بذاك يزول الإدراك المطلوب من العباد ليقوموا بحقوقه تعالى.

3 - باب نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ وَهْيَ مِنَ الْبُسْرِ وَالتَّمْرِ
هذا (باب) بالتنوين (نزل تحريم الخمر وهي) أي والحال أن الخمر كان يصنع (من البسر والتمر) وإطلاق الخمر على غير ما اتخذ من العنب مجاز وقيل هو حقيقة لظاهر الأحاديث، وفي مسلم من حديث ابن عمر مرفوعًا "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام" وفي رواية: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام".
5582 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه- قَالَ: كُنْتُ أَسْقِي أَبَا عُبَيْدَةَ وَأَبَا طَلْحَةَ وَأُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ مِنْ فَضِيخِ زَهْوٍ وَتَمْرٍ فَجَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ الْخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ. فَقَالَ: أَبُو طَلْحَةَ قُمْ يَا أَنَسُ فَأَهْرِقْهَا، فَأَهْرَقْتُهَا.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل بن عبد الله) وكنية عبد الله أبو أويس بن عبد الله بن أبي أويس بن أبي عامر الأصبحي حليف عثمان بن عبيد الله أخي طلحة بن عبيد الله التيمي القرشي وهو ابن أخت مالك بن أنس الإمام وصهره على ابنته (قال: حدّثني) بالإفراد (مالك بن أنس) الإمام (عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن) عمه (أنس بن مالك -رضي الله عنه-) أنه (قال: كنت أسقي أبا عبيدة) عامر بن الجراح أحد العشرة (وأبا طلحة) زيد بن سهل الأنصاري زوج أم أنس (وأبي بن كعب) سيد القراء وكبير الأنصار وعالمهم (من) خمر متخذ من (فضيخ زهو) بفتح الفاء وكسر الضاد المعجمة وبعد التحتية الساكنة خاء معجمة من الفضخ وهو الشدخ وزهو بفتح الزاي وسكون الهاء بعدها واو أي مشدوخ بسر صب عليه ماء وترك حتى يغلي يؤخذ من بسر (وتمر) كليهما وظاهر هذا يؤيد هذا القول الأخير وعند مسلم من طريق قتادة عن أنس أسقيهم من مزادة فيها خليط بسر وتمر، وزاد حميد عن أنس عند الإمام أحمد بعد قوله أسقيهم حتى كان الشراب يأخذ فيهم، ولابن أبي عاصم حتى مالت رؤوسهم (فجاءهم آت) لم أعرف اسمه (فقال: إن الخمر قد حرمت فقال أبو طلحة) زوج أم أنس: (قم يا أنس فأهرقها فأهرقتها) أي فصبها فصببتها ولأبي ذر فهرقها فهرقتها بإسقاط الهمزة فيهما وفتح الهاء وكسر الراء في الأول وفتحها في الثاني والأصل أرقها فأبدلت الهمزة هاء وتستعمل بالهمزة والهاء معًا وهو نادر.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف أيضًا في خبر الواحد ومسلم في الأشربة.

(8/314)


5583 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الْحَيِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِي وَأَنَا أَصْغَرُهُمُ، الْفَضِيخَ، فَقِيلَ: حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَالُوا: أَكْفِئْهَا، فَكَفَأْنَا. قُلْتُ لأَنَسٍ: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ. فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ. وَحَدَّثَنِي بَعْضُ أَصْحَابِي أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد بن مسربل الأسدي البصري الحافظ قال: (حدّثنا معتمر عن أبيه) سليمان بن طرخان البصري أنه (قال: سمعت أنسًا) -رضي الله عنه- (قال: كنت قائمًا على الحي) واحد أحياء العرب (أسقيهم عمومتي) جمع عم، ولمسلم إني لقائم على الحي على عمومتي أسقيهم (وأنا أصغرهم الفضيخ) الخمر المتخذ من البسر المشدوخ (فقيل: حرمت الخمر.
فقالوا: أكفئها) بفتح الهمزة في الفرع وأصله وفي غيرهما بكسرها وسكون الكاف وكسر الفاء بعدها همزة ساكنة (فكفأنا) بحذف ضمير المفعول ولأبي ذر فكفأتها بفوقية بعد الهمزة أي أرقها فارقتها قال سليمان بن طرخان: (قلت لأنس ما) كان (شرابهم؟ قال: رطب وبسر) أي خمر متخذ
منهما (فقال أبو بكر بن أنس: وكانت) أي الفضيخ (خمرهم) زاد مسلم من هذا الوجه يومئذ (فلم ينكر أنس) مقالة ابنه أبي بكر وكأن أنسًا حينئذ لم يحدّثهم بهذه الزيادة نسيانًا أو اختصارًا فذكره ابنه أبو بكر بها فلم ينكرها.
قال سليمان أيضًا بالسند السابق: (وحدّثني) بالإفراد (بعض أصحابي أنه سمع أنسًا) ولأبي ذر أنس بن مالك (يقول: كانت) خمر الفضيخ (خمرهم يومئذ) وأما المبهم في قوله بعض أصحابي فقال الحافظ ابن حجر: يحتمل أن يكون بكر بن عبد الله المزني فإن روايته آخر الباب تومئ إلى ذلك وأن يكون قتادة كما هو بعد أبواب من طريقه عن أنس بلفظ وإنا نعدّها يومئذ الخمر، وفيه: إن الخمر اسم جنس لكل ما يسكر سواء كانت من العنب أو غيره.
5584 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ حَدَّثَنَا يُوسُفُ أَبُو مَعْشَرٍ الْبَرَّاءُ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: حَدَّثَنِي بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حَدَّثَهُمْ أَنَّ الْخَمْرَ حُرِّمَتْ وَالْخَمْرُ يَوْمَئِذٍ الْبُسْرُ وَالتَّمْرُ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (محمد بن أبي بكر المقدمي) بفتح الدال المهملة المشدّدة قال: (حدّثنا يوسف أبو معشر) هو ابن زيد (البراء) بفتح الموحدة والراء المشدّدة ممدودًا كان يبري السهام بصري ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر في الطب (قال: سمعت سعيد بن عبيد الله) بضم العين ابن جبير بضم الجيم وفتح الموحدة ابن حيّة بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية (قال: حدّثني) بالإفراد (بكر بن عبد الله) بسكون الكاف المزني البصري (أن أنس بن مالك حدّثهم أن الخمر حرّمت) بضم الحاء مبنيًّا للمفعول (والخمر يومئذ) الواو للحال أي والحال أن الخمر يوم التحريم (البسر والتمر) أي متخذة منهما كذا أطلق الجمهور على جمع الأنبذة خمرًا وهو حقيقة في الجميع سواء كان من عنب أو غيره ومن قال إنه حقيقة في ماء العنب مجاز في غيره يلزمه جواز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه والكوفيون لا يقولون بذلك من حيث الشرع.
وهذا الحديث أخرجه المؤلّف في الطب.

4 - باب الْخَمْرُ مِنَ الْعَسَلِ، وَهْوَ الْبِتْعُ
وَقَالَ مَعْنٌ: سَأَلْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ عَنِ الْفُقَّاعِ فَقَالَ: إِذَا لَمْ يُسْكِرْ فَلاَ بَأْسَ بِهِ. وَقَالَ ابْنُ الدَّرَاوَرْدِيِّ سَأَلْنَا عَنْهُ فَقَالُوا: لاَ يُسْكِرُ لاَ بَأْسَ بِهِ.
هذا (باب) بالتنوين (الخمر) يتخذ (من العسل وهو البتع) بكسر الموحدة وتفتح وسكون الفوقية وقد تحرّك آخره عين مهملة لغة يمانية.
(وقال معن): بفتح الميم وسكون العين ابن عيسى القزاز بالقاف وتشديد الزاي الأولى مما
ذكره في الموطأ عن مالك (سألت مالك بن أنس) الإمام (عن الفقاع) بضم الفاء وتشديد القاف آخره عين مهملة الشراب المعروف المتخذ من الزبيب ما حكم شربه (فقال) مجيبًا له (إذا لم يسكر فلا بأس به) ومفهومه إذا أسكر حرم (وقال ابن الدراوردي) عبد العزيز بن محمد: (سألنا عنه) أي عن الفقاع أيجوز شربه أم لا؟ قال الحافظ ابن حجر: ولم أعرف الذين سألهم ابن الدراوردي، لكن الظاهر أنهم فقهاء المدينة في زمنه وهو قد شارك مالكًا في لقاء أكثر مشايحه المدنيين (فقالوا): إذا كان (لا يسكر لا بأس به).
5585 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْبِتْعِ فَقَالَ: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهْوَ حَرَامٌ».
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن يوسف) التنيسي قال: (أخبرنا مالك) إمام دار الهجرة (عن ابن شهاب) محمد بن مسلم الزهري (عن أبي سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (أن عائشة) -رضي الله عنها- (قالت: سئل رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) ولأبي ذر عن عائشة أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سئل (عن البتع) عن حكم جنسه لا عن مقداره وكان أهل المدينة يشربونه قال في الفتح: ولم أقف على اسم السائل صريحًا، لكني أظنه أبا موسى الأشعري لما في المغازي عن أبي موسى أنه -صَلَّى اللَّهُ

(8/315)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بعثه إلى اليمن فسأل عن أشربة تصنع بها فقال: ما هي؟ قال: البتع والمزر (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(كل شراب أسكر فهو حرام) ولو لم يسكر المتناول بالقدر الذي تناوله منه، وعند أبي داود والنسائي وصححه ابن حبان عن جابر قال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ما أسكر كثيره فقليله حرام". وفي ذلك جواز القياس باطّراد العلة وعلى هذا فيحرم جميع الأنبذة المسكرة، وبذلك قال الشافعية والمالكية والحنابلة والجمهور، وقال أبو المظفر السمعاني: وقياس النبيذ على الخمر بعلة الإسكار والإطراب من أجلى الأقيسة وأوضحها والمفاسد التي في الخمر توجد في النبيذ، وقال الحنفية: نقيع التمر والزبيب وغيرهما من الأنبذة إذا غلى واشتدّ حرم ولا يحدّ شاربه حتى يسكر ولا يكفر مستحله، وأما الذي من ماء العنب فحرام ويكفر مستحله لثبوت حرمته بدليل قطعي ويحدّ شاربه، وقد ثبتت الأخبار عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في تحريم المسكر، وقد قال عبد الله بن المبارك: لا يصح في حلّ النبيذ الذي يسكر كثيره عن الصحابة ولا عن التابعين شيء إلا عن إبراهيم النخعي ويدخل في قوله: كل مسكر حرام حشيشة الفقراء وغيرها وقد جزم النووي وغيره بأنها مسكرة وفي معنى شرب الخمر أكله بأن كان ثخينًا أو أكله بخبز أو طبخ به لحمًا أو أكل مرقه فخرج به أكل اللحم المطبوخ به لذهاب العين منه وكذا الاحتقان به والاستعاط.
5586 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْبِتْعِ وَهْوَ نَبِيذُ الْعَسَلِ،
وَكَانَ أَهْلُ الْيَمَنِ يَشْرَبُونَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهْوَ حَرَامٌ». وَعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَنْتَبِذُوا فِي الدُّبَّاءِ وَلاَ فِي الْمُزَفَّتِ» وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يُلْحِقُ مَعَهَا الْحَنْتَمَ وَالنَّقِيرَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب (قال: أخبرني) بالإفراد (أبو سلمة بن عبد الرحمن) بن عوف (أن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سئل رسول الله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن البتع وهو نبيذ العسل) بالذال المعجمة ولأبي ذر عن الكشميهني وهو شراب العسل (وكان أهل اليمن يشربونه فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(كل شراب أسكر فهو حرام) وقد ورد لفظ هذا ومعناه من طرق عن أكثر من ثلاثين من الصحابة مضمونها أن المسكر لا يحل تناوله ويكفي ذلك في الرد على المخالف، وأما ما احتجوا به من حديث ابن عباس عند النسائي برجال ثقات مرفوعًا: "حرمت الخمر قليلها وكثيرها والسكر من كل شراب". فاختلف في وصله وانقطاعه وفي رفعه ووقفه وعلى تقدير صحته، فقد رجح الإمام أحمد وغيره أن الرواية فيه لفظ والمسكر بلفظ الميم وسكون السين لا السكر بضم السين أو بفتحتين وعلى تقدير ثبوتها فهو حديث فرد ولفظه محقل فكيف يعارض عموم تلك الأحاديث مع صحتها وكثرتها.
(وعن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب بالإسناد السابق أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (أنس بن مالك) -رضي الله عنه- وسقط ابن مالك لأبي ذر (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(لا تنتبذوا في الدباء ولا في المزفت) قال الزهري (وكان أبو هريرة يلحق معهما الحنتم) بالحاء المهملة والمثناة الفوقية (والنفير) عند مسلم من طريق زاذان قال: سألت ابن عمر عن الأوعية فقلت أخبرناه بلغتكم وفسره لنا بلغتنا فقال: نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الحنتمة وهي الجرة، وعن الدباء وهي القرعة، وعن النقير وهي أصل النخلة تنقر، وعن المزفت وهو المقير، وليس المراد أن أبا هريرة يلحق الحنتم والنقير من قبل نفسه وأنه رأي رآه بل المراد أنه يلحقهما في روايته عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فهو مرفوع.

5 - باب مَا جَاءَ فِي أَنَّ الْخَمْرَ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ مِنَ الشَّرَابِ
(باب ما جاء في أن الخمر ما خامر العقل من الشراب).
5588 - حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي رَجَاءٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ أَبِي حَيَّانَ التَّيْمِيِّ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رضي الله عنهما- قَالَ: خَطَبَ عُمَرُ عَلَى مِنْبَرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ، وَهْيَ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْعِنَبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ. وَالْخَمْرُ مَا خَامَرَ الْعَقْلَ وَثَلاَثٌ وَدِدْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُفَارِقْنَا حَتَّى يَعْهَدَ إِلَيْنَا عَهْدًا: الْجَدُّ، وَالْكَلاَلَةُ،
وَأَبْوَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الرِّبَا، قَالَ قُلْتُ: يَا أَبَا عَمْرٍو، فَشَيْءٌ يُصْنَعُ بِالسِّنْدِ مِنَ الرُّزِّ؟ قَالَ: ذَاكَ لَمْ يَكُنْ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ قَالَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ. وَقَالَ حَجَّاجُ عَنْ حَمَّادٍ عَنْ أَبِي حَيَّانَ مَكَانَ الْعِنَبِ الزَّبِيبَ.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني (أحمد بن أبي رجاء) بالجيم عبد الله بن أيوب أبو الوليد الحنفي الهروي قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن أبي حيان) بفتح الحاء المهملة وتشديد التحتية يحيى بن سعيد (التيمي عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن ابن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال خطب عمر على منبر رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) بحضرة أكابر الصحابة (فقال) في خطبته: (إنه قد نزل تحريم الخمر) في قوله في آية المائدة: {يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر} [المائدة: 90] الآية. (وهي) أي نزل تحريم الخمر والحال أنها تصنع (من خمسة أشياء:

(8/316)


العنب والتمر والحنطة والشعير والعسل) ولم ينكر أحد عليه فله حكم الرفع لأنه خبر صحابي شهد التنزيل، وقد أخرج أصحاب السنن الأربعة وصححه ابن حبان من وجهين عن الشعبي أن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "إن الخمر من العصير والزبيب والتمر والحنطة والشعير والذرة" فهذا صريح في الرفع، وقوله: (والخمر) الذي حرمه الشارع هو (ما خامر العقل) أي ستره وكل ما يستره حرم تناوله لما يلزم عليه من فساد العبادة المطلوبة من العبد والجملة مستأنفة لا على لها وما موصولة مرفوعة على الخبر (وثلاث) من المسائل (وددت) بكسر المهملة الأولى وسكون الثانية تمنيت (أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لم يفارقنا) من الدنيا (حتى يعهد إلينا عهدًا) يبين لنا حكمها لأنه أبعد من محذور الاجتهاد ولو كان مأجورًا عليه (الجد) هل يحجب الأخ أو يحجب به أو يقاسمه فاختلفوا فيه اختلافًا كثيرًا وقد روي أن عمر قضى فيه بقضايا مختلفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى في الفرائض بعون الله تعالى (والكلالة) بفتح الكاف واللام المخففة من لا ولد له ولا والد له أو بنو العم إلا باعد أو غير ذلك (وأبواب من أبواب الربا) أي ربا الفضل، لأن ربا النسيئة متفق عليه بينهم -رضي الله عنهم- ورفع الجد وتالييه بتقدير مبتدأ أي هي الجد.
(قال) أبو حيان التيمي (قلت يا أبا عمرو) بفتح العين يعني عامر الشعبي ناداه بكنيته (فشيء يصنع بالسند) بكسر السين المهملة وسكون النون بلاد قرب الهند (من الرز) ولأبي ذر من الأرز بهمزة مضمومة وسكون الراء وقوله شيء مبتدأ لأنه تخصص بالصفة وهي قوله يصنع وخبره محذوف تقديره ما حكمه وثلاث فاعل بفعل محذوف أي همني ثلاث خصال، وسقطت العلامة في العدد لأنه عدد مؤنث ويجوز النصب على المفعول أي اذكر ثلاثًا (قال) الشعبي: (ذاك) الخمر المتخذ من الأرز (لم يكن على عهد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، أو قال على عهد عمر) بضم العين أي زمنهما ولو كان لنهى عنه لأنه قد عمّ الأشربة كلها فقال: الخمر ما خامر العقل. والشك من الراوي.
(وقال حجاج) بن منهال شيخ المؤلّف مما وصله عبد العزيز البغوي في مسنده (عن حماد) أي ابن أبي سلمة (عن أبي حيان) المذكور بهذا السند والمتن فذكر (مكان العنب) المذكور في الرواية
السابقة (الزبيب) وليس فيه سؤال أبي حيان الأخير وجواب الشعبي.
5589 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي السَّفَرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ عُمَرَ قَالَ: الْخَمْرُ يُصْنَعُ مِنْ خَمْسَةٍ: مِنَ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرِ، وَالْعَسَلِ. ً
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) الحوضي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن عبد الله بن أبي السفر) سعيد الهمداني الكوفي (عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن ابن عمر عن عمر -رضي الله عنهما-) أنه (قال: الخمر تصنع) بالفوقية المضمومة وفي اليونينية بالتحتية (من خمسة: من الزبيب والتمر والحنطة والشعير والعسل) قال الخطابي: وإنما عدّ عمر هذه الخمسة المذكورة لاشتهار أسمائها في زمانه ولم تكن كلها توجد بالمدينة الوجود العام فإن الحنطة كانت بها عزيزة وكذا العسل، بل كان أعز فعدّ عمر ما عرف منها وجعل ما في معناها ما يتخذ من الأرز وغيره خمرًا إذ ربما يخامر العقل.

6 - باب مَا جَاءَ فِيمَنْ يَسْتَحِلُّ الْخَمْرَ وَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ
(باب ما جاء) من الوعيد (فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه) ذكر الخمر باعتبار الشراب وإلاّ فالخمر مؤنث سماعي.
5590 - وَقَالَ هِشَامُ بْنُ عَمَّارٍ حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ جَابِرٍ حَدَّثَنَا عَطِيَّةُ بْنُ قَيْسٍ الْكِلاَبِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْمٍ الأَشْعَرِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو عَامِرٍ أَوْ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ وَاللَّهِ مَا كَذَبَنِي سَمِعَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: «لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ يَسْتَحِلُّونَ الْحِرَ وَالْحَرِيرَ وَالْخَمْرَ وَالْمَعَازِفَ، وَلَيَنْزِلَنَّ أَقْوَامٌ إِلَى جَنْبِ عَلَمٍ يَرُوحُ عَلَيْهِمْ بِسَارِحَةٍ لَهُمْ، يَأْتِيهِمْ لِحَاجَةٍ فَيَقُولُوا: ارْجِعْ إِلَيْنَا غَدًا فَيُبَيِّتُهُمُ اللَّهُ، وَيَضَعُ الْعَلَمَ، وَيَمْسَخُ آخَرِينَ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
(وقال هشام بن عمار): أبو الوليد السلمي الدمشقي المقرئ راوي قراءة ابن عامر من شيوخ البخاري وعبّر بالقول دون التحديث وغيره لأنه وقع له مذاكرة (حدّثنا صدقة بن خالد) الفرعي الأموي أبو العباس الدمشقي قال: (حدّثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر) الأزدي قال: (حدّثنا عطية بن قيس) الشامي (الكلاب) بكسر الكاف والموحدة التابعي قال: (حدّثني) بالإفراد (عبد الرحمن بن غنم) بفتح الغين المعجمة وسكون النون ابن كريب بن هانئ (الأشعري) مختلف في صحبته (قال: حدّثني) بالإفراد (أبو عامر أو أبو مالك الأشعري) بالشك وعند أبي داود: حدّثني أبو مالك بغير شك والشك في اسم الصحابي لا يضر، وقال البخاري في تاريخه بعد أن

(8/317)


رواه على الشك أيضًا وإنما يعرف عن أبي مالك الأشعري.
واختلف في اسمه فقيل: عبد الله بن هانئ، وقيل: عبد الله بن وهب، وقيل: عبيد بن وهب سكن الشام وليس بعم أبي موسى الأشعري إذ ذاك قتل أيام حنين في الزمن النبوي وهذا بقي إلى زمن عبد الملك بن مروان (والله ما كذبني) بتخفيف المعجمة وهو مبالغة في كمال صدقه أنه (سمع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول):
(ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر)، بكسر الحاء المهملة وتخفيف الراء المفتوحة الفرج أي يستحلون الزنا، وحكى القاضي عياض تشديد الراء وهو كذلك في الفرع أيضًا والصواب كما في الفتح التخفيف (و) يستحلون (الحرير و) يستحلون (الخمر) شربًا أي يعتقدون حلّها أو هو مجاز عن الاسترسال في شربها كالاسترسال في الحلال (و) يستحلون (المعازف) بفتح الميم والعين المهملة وبعد الألف زاي مكسورة ففاء جمع معزفة آلات الملاهي أو هي الغناء وفي الصحاح هي آلات اللهو وقيل أصوات الملاهي، وقال في القاموس: والمعازف الملاهي كالعود والطنبور الواحد عزف أو معزف كمنبر ومكنسة والعازف اللاعب بها والمغني وفي حواشي الدمياطي أنها الدفوف وغيرها مما يضرب به، وعند الإمام أحمد وابن أبي شيبة والبخاري في تاريخه من طريق مالك بن أبي مريم عن عبد الرحيم بن غنم عن أبي مالك الأشعري عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها تغدو عليهم القيان وتروح عليهم المعازف" (ولينزلن) بفتح اللام والتحتية وكسر الزاي (أقوام إلى جنب علم) بفتح الجيم وسكون النون وعلم بفتحتين جبل عال أو رأس جبل (يروح عليهم) أي الراعي (بسارحة لهم) بمهملتين بغنم تسرح بالغداة إلى رعيها وتروح أي ترجع بالعشي إلى مألفها (يأتيهم لحاجة). قال الحافظ ابن حجر: كذا فيه بحذف الفاعل. قال الكرماني التقدير الآتي أو الراعي أو المحتاج. قال الحافظ ابن حجر: وقع عند الإسماعيلي يأتيهم طالب حاجة قال: فتعين بعض المقدرات انتهى.
قلت: وفي الفرع كأصله يعني الفقير لحاجة لكن على قوله يعني الفقير علامة السقوط لأبي ذر.
(فيقولوا) ولأبي ذر فيقولون (ارجع إلينا غدًا فيبيتهم الله) من التبييت وهو هجوم العدوّ ليلًا والمراد يهلكهم الله ليلًا (ويضع العلم) أي يوقع الجبل عليهم فيهلكهم (ويمسخ آخرين) أي يجعل صور آخرين من لم يهلك من البيات المذكور (قردة وخنازير إلى يوم القيامة) أي إلى مثل صورها حقيقة كما وقع لبعض الأمم السابقة أو هو كناية عن تبدّل أخلاقهم والأول أليق بالسياق وفيه كما قال الخطابي بيان أن المسخ يكون في هذه الأمة لكن قال بعضهم: إن المراد مسخ القلوب.
ومطابقة الجزء الأول من الترجمة للحديث ظاهرة وأما الجزء الثاني ففي حديث مالك بن أبي مريم المذكور: ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها كما هو عادة المؤلّف رحمه الله في الإشارة بالترجمة إلى حديث لم يكن على شرطه، وقال في الكواكب: أو لعل نظر المؤلّف إلى لفظ من أمتي إذ فيه دليل على أنهم استحلوها بالتأويل إذ لو لم يكن بالتأويل لكان كفرًا
وخروجًا عن أمته لأن تحريم الخمر معلوم من الدين بالضرورة، وقيل: يحتمل أن يقال إن الاستحلال لم يقع بعد وسيقع وأن يقال: إنه مثل استحلال نكاح المتعة واستحلال بعض الأنبذة أي المسكرة انتهى.
ورجال حديث الباب كلهم شاميون.

7 - باب الاِنْتِبَاذِ فِي الأَوْعِيَةِ وَالتَّوْرِ
(باب) حكم (الانتباذ) أي اتخاذ النبيذ (في الأوعية والتور) بفتح المثناة الفوقية إناء من حجارة أو نحاس أو خشب أو قدح كبير كالقدر أو الطست وعطفه على سابقه من عطف الخاص على العام.
5591 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلًا يَقُولُ: أَتَى أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ فَدَعَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي عُرْسِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ وَهْيَ الْعَرُوسُ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَا سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ.
وبه قال: (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البغلاني وسقط ابن سعيد لأبي ذر قال: (حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن) الفارسي المدني نزيل الإسكندرية (عن أبي حازم) سلمة بن دينار أنه (قال: سمعت سهلًا) هو ابن سعد الأنصاري المدني آخر من مات بالمدينة من الصحابة (يقول: أتى) بفتح الهمزة والفوقية (أبو أسيد)

(8/318)


بضم الهمزة وفتح المهملة مالك بن ربيعة (الساعدي) -رضي الله عنه- (فدعا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في عرسه) بضم العين والراء في الفرع وأصله (فكانت امرأته) أم أسيد سلامة بنت وهب بن سلامة وقوله فكانت بالفاء ولأبي ذر وكانت امرأته (خادمهم) والخادم بغير فوقية يطلق على الذكر والأنثى (وهي العروس. قال): أي سهل (أتدرون ما سقت) بسكون المثناة الفوقية من غير تحتية أي المرأة، ولأبي ذر عن الكشميهني قالت أي المرأة: أتدرون ما سيقت (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ أنقعت) بسكون العين وضم الفوقية ولغير الكشميهني أنقعت أي قال سهل: أنقعت المرأة (له) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (تمرات من الليل في تور) زاد في الوليمة من حجارة أي لا من غيرها، وعند ابن أبي شيبة في رواية أشعث عن أبي الزبير عن جابر كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينبذ له في سقاء فإذا لم يكن سقاء ينبذ له في تور قال أشعث: والتور من لحاء الشجر. وعند مسلم عن عائشة: كنا ننبذ لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في سقاء نوكئ أعلاه فيشربه عشاء وننبذه عشاء فيشربه غدوة، ولأبي داود من وجه آخر عن عائشة أنها كانت تنبذ للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- غدوة فإذا كان من العشي تعشى فشرب على عشائه فإن فضل شيء صبته ثم ينبذ له بالليل، فإذا أصبح وتغدّى شرب على غدائه قالت: تغسل السقاء غدوة وعشية.
وحديث الباب سبق في باب قيام المرأة على الرجال من كتاب النكاح.

8 - باب تَرْخِيصِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ بَعْدَ النَّهْيِ
(باب ترخيص النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) في الانتباذ (في الأوعية والظروف بعد النهي) عن الانتباذ فيها وعطف الظروف على سابقها من عطف الخاص على العام.
5592 - حَدَّثَنَا يُوسُفُ بْنُ مُوسَى حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الظُّرُوفِ فَقَالَتِ الأَنْصَارُ: إِنَّهُ لاَ بُدَّ لَنَا مِنْهَا، قَالَ فَلاَ إِذًا. وَقَالَ لِي خَلِيفَةُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ عن جابر بِهَذَا.
وبه قال: (حدّثنا يوسف بن موسى) بن راشد القطان الكوفي قال: (حدّثنا محمد بن عبد الله أبو أحمد الزبيري) بضم الزاي نسبة إلى زبير أحد أجداده قال: (حدّثنا سفيان) الثوري (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن سالم) هو ابن أبي الجعد (عن جابر) الأنصاري (-رضي الله عنه-) أنه (قال: نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن) الانتباذ في (الظروف، فقالت الأنصار: إنه لا بدّ لنا منها) من الظروف (قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
إذا كان لا بدّ لكم منها (فلا) ينهى عن الانتباذ فيها (إذًا) فالنهي كان قد ورد على تقدير عدم الاحتياج، ويحتمل أن يكون الحكم في هذه المسألة مفوّضًا لرأيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أوحي إليه في الحال بسرعة، وعند أبي يعلى وصححه ابن أبي حبان من حديث الأشج العصري أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال لهم: "ما لي أرى وجوهكم قد تغيرت" قالوا: نحن بأرض وخمة وكنا نتخذ من هذه الأنبذة ما يقطع اللحمان في بطوننا فلما نهيتنا عن الظروف فذلك الذي ترى في وجوهنا فقال -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إن الظروف لا تحل ولا تحرم ولكن كل مسكر حرام".
(وقال لي خليفة) بن خياط شيخ المؤلف مما رواه عنه مذاكرة (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (يحيى بن سعيد) القطان قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن سالم بن أبي الجعد) بفتح الجيم وسكون العين المهملة رافع الأشجعي الكوفي (عن جابر) أي الأنصاري -رضي الله عنه- (بهذا) الحديث المذكور، وقوله عن جابر ثابت لأبي ذر وابن عساكر.
0000 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بِهَذَا وَقَالَ: فِيهِ لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الأَوْعِيَةِ.
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر: حدّثني بالإفراد (عبد الله بن محمد) المسندي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (بهذا) الحديث السابق (وقال) أي سفيان (فيه لما نهى النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن) الانتباذ في (الأوعية).
5593 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَبِي مُسْلِمٍ الأَحْوَلِ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِي عِيَاضٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو -رضي الله عنهما- قَالَ: لَمَّا نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الأَسْقِيَةِ قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَيْسَ كُلُّ النَّاسِ يَجِدُ سِقَاءً، فَرَخَّصَ لَهُمْ فِي الْجَرِّ غَيْرِ الْمُزَفَّتِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني وسقط لأبي ذر ابن عبد الله قال: (حدّثنا سفيان) بن عينة (عن سليمان بن أبي مسلم الأحول عن مجاهد) هو ابن جبر (عن ابن عياض) بكسر العين وتخفيف التحتية عمرو بن الأسود أو قيس بن ثعلبة وقيل: غير ذلك ورجح الأول ابن عبد البر (عن عبد الله بن عمرو) بفتح العين ابن العاصي (-رضي الله عنهما-) أنه (قال: لما نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن) الانتباذ في (الأسقية) كذا

(8/319)


وقع في هذه الرواية والرواية الراجحة بلفظ الأوعية وعبد الله بن محمد عن سفيان السابقة وهي مؤخرة في رواية غير أبي ذر وابن عساكر عن هذا الحديث وهو الأليق لما فيه من الإشارة إلى ترجيح الأوعية، وهو الذي رواه أكثر أصحاب ابن عيينة عنه وحمل بعضهم رواية الأسقية على سقوط أداة الاستثناء من الراوي، والتقدير نهى عن الانتباذ إلا في الأسقية ولم ينه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الأسقية، وإنما نهى عن الظروف وأباح الانتباذ في الأسقية لأن الأسقية يتخللها الهواء من مسامها فلا يسرع إليها الفساد كإسراعه إلى غيرها من الجرار ونحوها مما نهى عن الانتباذ فيه، وأيضًا فالسقاء إذا نبذ فيه ثم ربط أمنت شدة الإسكار بما يشرب منه لأنه متى تغير وصار مسكرًا شق الجلد فما لم يشقه فهو غير مسكر بخلاف الأوعية لأنها قد يصير النبيذ فيها مسكرًا ولا يعلم به، ويجوز أن يكون قوله: نهى عن الأسقية أي عن الأوعية واختصاص اسم الأسقية بما يتخذ من الأدم إنما هو بالعرف فإطلاق السقاء على كل ما يستقى منه جائز وحينئذ فلا غلط في الرواية ولا سقط (قيل للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليس كل الناس يجد سقاء) أي وعاء وفي رواية زياد بن فياض أن قائل ذلك أعرابي (فرخص لهم) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الانتباذ (في الجرّ) بفتح الجيم وتشديد الراء جمع جرّة إناء يتخذ من فخار (غير المزفت) لأنه أسرع في التخمير.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأشربة وكذا أبو داود والنسائي وزاد في الوليمة.
5594 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِي سُلَيْمَانُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا يحيى) بن سعيد القطان (عن سفيان) الثوري أو ابن عيينة أنه قال: (حدثني) بالإفراد (سليمان) بن مهران الأعمش (عن إبراهيم) بن يزيد (التيمي) العابد (عن الحارث بن سويد) التيمي أيضًا (عن علي -رضي الله عنه-) أنه (قال: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن) الانتباذ في (الدباء) القرع (و) عن الانتباذ في (المزفت) من الجرار.
0000 - حَدَّثَنَا عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ بِهَذَا.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (عثمان) بن أبي شيبة قال: (حدّثنا جرير) بفتح الجيم ابن عبد الحميد (عن الأعمش) سليمان بن مهران عن علي بن أبي طالب (بهذا) الحديث السابق.
5595 - حَدَّثَنِي عُثْمَانُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ: قُلْتُ لِلأَسْوَدِ: هَلْ سَأَلْتَ عَائِشَةَ أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا يُكْرَهُ أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُنْتَبَذَ فِيهِ؟ قَالَتْ: نَهَانَا فِي ذَلِكَ أَهْلَ الْبَيْتِ، أَنْ نَنْتَبِذَ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ قُلْتُ: أَمَا ذَكَرْتِ الْجَرَّ وَالْحَنْتَمَ؟ قَالَ: إِنَّمَا أُحَدِّثُكَ مَا سَمِعْتُ، أَفَأُحَدِّثُ مَا لَمْ أَسْمَعْ.
وبه قال (حدّثني) بالإفراد (عثمان) بن أبي شيبة قال: (حدثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن منصور) هو ابن المعتمر (عن إبراهيم) النخعي أنه قال: (قلت للأسود) بن يزيد (هل سألت عائشة أم المؤمنين) -رضي الله عنها- (عما يكره أن ينتبذ فيه)؟ من الأوعية (فقال) الأسود: (نعم) سألتها (قلت) لها: (يا أم المؤمنين عما) بألف بعد الميم المشددة ولأبي ذر عن الكشميهني عم بإسقاطها (نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن ينتبذ فيه)؟ من الأوعية (قالت: نهانا) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (في ذلك أهل البيت) بنصب أهل على الاختصاص أو على البدل من الضمير وثبت قوله في ذلك لغير أبي ذر ولابن عساكر نهينا بضم النون وكسر الهاء وتحتية ساكنة بدل الألف (أن ننتبذ في الدباء والمزفت) قال إبراهيم النخعي (قلت: أما) بالتخفيف (ذكرت الجر) بفتح الراء وكسر المثناة الفوقية في اليونينية وفي الفرع بسكون الراء ولعله سبق قلم (والحنتم) بفتح الحاء المهملة وسكون النون (قال) الأسود لإبراهيم: (إنما أحدثك ما سمعت) أي من عائشة (أحدث ما لم أسمع)؟ استفهام إنكاري سقطت منه الأداة، ولأبي ذر عن الكشميهني: أفأحدث؟ وله عن الحموي والمستملي أفنحدّث بنون الجمع بدل الهمزة، وعند الإسماعيلي أفأحدثك ما لم أسمع؟
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأشربة وكذا النسائي فيه وفي الوليمة.
5596 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ حَدَّثَنَا الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي أَوْفَى -رضي الله عنهما- قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الْجَرِّ الأَخْضَرِ، قُلْتُ: أَنَشْرَبُ فِي الأَبْيَضِ؟ قَالَ: "لاَ".
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) أبو سلمة التبوذكي الحافظ قال: (حدّثنا عبد الواحد) بن زياد البصري قال: (حدّثنا الشيباني) بفتح الشين المعجمة سليمان بن أبي سليمان فيروز (قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى) علقمة الأسلمي (-رضي الله عنهما- قال: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن) الانتباذ في (البحر الأخضر) وعند ابن أبي شيبة عن أنس إنها جرار مقيرة الأجواف يؤتى بها من

(8/320)


مضر وزاد بعضهم عن عائشة أعناقها في جنوبها وعن عطاء متخذة من طين ودم وشعر قال:
الشيباني (قلت) لعبد الله بن أبي أوفى (أنشرب في) البحر (الأبيض؟ قال) ابن أبي أوفى: (لا) تشربوا فيها لأن الحكم فيها كالأخضر وحينئذٍ فالوصف بالخضرة لا مفهوم له فذكرها لبيان الواقع لا للاحتراز والحكم منوط بالإسكار والآنية لا تحرم ولا تحلل.
وهذا الحديث أخرجه النسائي في الأشربة أيضًا.

9 - باب نَقِيعِ التَّمْرِ مَا لَمْ يُسْكِرْ
(باب) جواز شرب (نقيع التمر ما) وفي نسخة إذا (لم يسكر) فإن أسكر حرم.
5597 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْقَارِيُّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ قَالَ: سَمِعْتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ الساعدي أن أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِيَّ دَعَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِعُرْسِهِ فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خَادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَهْيَ الْعَرُوسُ فَقَالَتْ: مَا تَدْرُونَ مَا أَنْقَعْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ أَنْقَعْتُ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ.
وبه قال: (حدّثنا يحيى بن بكير) هو يحيى بن عبد الله بن بكير الحافظ أبو زكريا المخزومي مولاهم المصري قال: (حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن القاري) بالقاف والراء والتحتية المشددة نسبة إلى القارة قبيلة (عن أبي حازم) سلمة بن دينار أنه (قال: سمعت سهل بن سعد الساعدي) ثبت لفظ الساعدي لأبي ذر (أن أبا أسيد) بضم الهمزة وفتح السين المهملة مالك بن ربيعة (الساعدي دعا النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لعرسه) بضم العين وبالراء المهملتين (فكانت امرأته) أم أسيد سلامة (خادمهم) بغير فوقية بعد الميم (يومئذٍ وهي العروس فقالت) أم أسيد: (ما) ولأبي ذر عن الكشميهني هل (تدرون ما أنقعت) بسكون العين الرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ أنقعت له تمرات من الليل في تور) قال في الفتح: وتقييده في الترجمة بما لم يسكر مع أن الحديث لا تعرض فيه للسكر لا إثباتًا ولا نفيًا من جهة أن المدّة التي ذكرها سهل وهي من الليل إلى النهار لا يحصل فيها التغير جملة. وفي حديث ابن عباس عند مسلم كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينبذ له أوّل الليل فيشربه إذا أصبح يومه ذلك والليلة التي تجيء والغد والليلة الأخرى والغد إلى العصر فإن بقي شيء منها سقاه الخادم أو أمر به فصب. قال المظهري: وإنما لم يشربه لأنه كان رديئًا ولم يبلغ حدّ الإسكار فإذا بلغ صبه وهو يدل على جواز شرب المنبوذ ما لم يكن مسكرًا وعلى جواز أن يطعم السيد مملوكه طعامًا أسفل ويطعم هو أعلى ولا يخالف، هذا حديث عائشة ننبذه غدوة فيشربه عشيًا لأن الشرب في يوم لا يمنع من الزيادة أو لعل حديث عائشة كان في زمان الحر حيث يخشى فساده وحديث ابن عباس في زمان يؤمن فيه التغير بل الثلاث، وقال النووي: هو على اختلاف حالين إن ظهر فيه شدّة صبه وإن لم يظهر شدّة سقاه الخدم لئلا يكون فيه إضاعة مال وإنما تركه هو تنزهًا.
وهذا الحديث قد مرّ قريبًا في باب الانتباذ.

10 - باب
الْبَاذَقِ وَمَنْ نَهَى عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ مِنَ الأَشْرِبَةِ، وَرَأَى عُمَرُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ شُرْبَ الطِّلاَءِ عَلَى الثُّلُثِ، وَشَرِبَ الْبَرَاءُ وَأَبُو جُحَيْفَةَ عَلَى النِّصْفِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اشْرَبِ الْعَصِيرَ مَا دَامَ طَرِيًّا، وَقَالَ عُمَرُ: وَجَدْتُ مِنْ عُبَيْدِ اللَّهِ رِيحَ شَرَابٍ، وَأَنَا سَائِلٌ عَنْهُ فَإِنْ كَانَ يُسْكِرُ جَلَدْتُهُ.
(باب الباذق) بفتح الباء والمعجمة بينهما ألف وآخره قاف، وقال في القاموس: بكسر الذال وفتحها ما طبخ من عصير العنب أدنى طبخة فصار شديدًا، وقال الجواليقي: أصله باذه وهو أن يطبخ العصير حتى يصير مثل طلاء الإبل، وقال ابن قرقول: المطبوخ من عصير العنب إذا أسكر أو إذا طبخ بعد أن اشتد وقال في المحكم: هو من أسماء الخمر (و) ذكر (من نهى عن كل مسكر من الأشربة) لحديث كل مسكر حرام.
(ورأى عمر) بن الخطاب مما أخرجه مالك في الموطأ (وأبو عبيدة) بن الجراح (ومعاذ) هو ابن جبل مما وصله عنهما أبو مسلم الكجي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة (شرب الطلاء) أي رأوا جواز شربه إذا طبخ فصار (على الثلث) وذهب ثلثاه وقد صرح بعضهم بأن المحذور منه السكر فمتى أسكر حرم.
(وشرب البراء) بن عازب مما أخرجه ابن أبي شيبة (وأبو جحيفة) وهب بن عبد الله مما أخرجه ابن أبي شيبة أيضًا الطلاء إذا طبخ فصار (على النصف. وقال ابن عباس) -رضي الله عنهما- فيما وصله النسائي لرجل سأله عن العصير (اشرب العصير ما دام طريًّا) زاد النسائي قال: إني طبخت شرابًا وفي نفسي منه شيء قال: كنت شاربه قبل أن تطبخه قال: لا، قال: فإن النار لا تحل شيئًا قد حرم وهذا تقييد لما أطلق في الآثار الماضية وهو أن الذي يطبخ إنما هو العصير الطري قبل أن يتخمر أما لو صار خمرًا فطبخ فإن الطبخ لا يطهره ولا يحله إلا على رأي من يجيز تخليل الخمر والجمهور على خلافه: (وقال عمر) بن الخطاب -رضي الله عنه-

(8/321)


مما وصله مالك (وجت من عبيد الله) بضم العين ابن عمر بن الخطاب (ريح شراب) فزعم أنه شرب الطلاء (وأنا سائل عنه فإن كان يسكر جلدته) فسأل عنه فوجدته مسكرًا فجلده بعد أن أقر أو بالبينة.
5598 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبِي الْجُوَيْرِيَةِ قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنِ الْبَاذَقِ فَقَالَ: سَبَقَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْبَاذَقَ، فَمَا أَسْكَرَ فَهْوَ حَرَامٌ، قَالَ: الشَّرَابُ الْحَلاَلُ الطَّيِّبُ. قَالَ: لَيْسَ بَعْدَ الْحَلاَلِ الطَّيِّبِ إِلاَّ الْحَرَامُ الْخَبِيثُ.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن كثير) بالمثلثة العبدي البصري قال: (أخبرنا سفيان) الثوري (عن أبي الجويرية) بضم الجيم مصغرًا حطان بكسر الحاء وتشديد الطاء المهملتين وبعد الألف نون ابن خفاف بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء الأولى الجرمي بالجيم والراء (قال: سألت ابن عباس)
-رضي الله عنهما- (عن الباذق) قيل: وكان أول من صنعه وسماه بنو أمية لينقلوه عن اسم الخمر (فقال: سبق محمد الباذق) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
(فما أسكر فهو حرام) والباذق بالنصب على المفعولية أي سبق حكمه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بتحريم الخمر تسميتهم إياها بالباذق حيث قال: "ما أسكر فهو حرام". فليس التحريم منوطًا بمجرد الاسم حتى يكون تغييره مغيرًا للحكم وإنما الاعتبار بالإسكار فإن وجد فالتحريم ثابت سواء سمي المسكر باسمه الذي كان أو غير إلى اسم آخر، وقال الحافظ أبو ذر مما رأيت في هامش اليونينية: إن الاسم حدث بعد الإسلام، ونقل في الفتح عن أبي الليث السمرقندي أنه قال: شارب المطبوخ إذا كان يسكر أعظم ذنبًا من شارب الخمر لأن شارب الخمر يشربها وهو يعلم أنه عاص بشربها وشارب المطبوخ يشرب المسكر ويراه حلالًا وقد قام الإجماع على أن قليل الخمر وكثيره حرام ومن استحل ما هو حرام بالإجماع كفر. (قال) أبو الجويرية الباذق هو (الشراب الحلال الطيب) لأنه عصير العنب الحلال الطيب (قال) ابن عباس اشرب الحلال الطيب فإنه (ليس بعد الحلال الطيب إلا الحرام الخبيث) حيث تغير عن حالته الأولى إلى الخمرية.
5599 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ -رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ وَالْعَسَلَ.
وبه قال: (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر حدّثني (عبد الله بن أبي شيبة) ولأبي ذر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (حدّثنا هشام بن عروة عن أبيه) عروة بن الزبير (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب الحلواء) بفتح الحاء المهملة وبالمدّ ما دخلته الصنعة جامعًا بين الحلاوة والدسومة (والعسل) قال الخطابي: وليس حبه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لهما على معنى كثرة التشهي لهما وإنما إنه إذا قدّما نال منهما نيلًا صالحًا. وقال في الكواكب: ومناسبة الحديث للباب، بيان أن العصير المطبوخ إذا لم يكن مسكرًا فهو حلال كما أن الحلواء تطبخ وتنعقد والعسل يمزج بالماء فيشرب في ساعته ولا شك في طيبه وحله.
وهذا الحديث سبق في باب الحلواء والعسل من الأطعمة.

11 - باب مَنْ رَأَى أَنْ لاَ يَخْلِطَ الْبُسْرَ وَالتَّمْرَ إِذَا كَانَ مُسْكِرًا وَأَنْ لاَ يَجْعَلَ إِدَامَيْنِ فِي إِدَامٍ
(باب مَن رأى أن لا يخلط) بفتح التحتية وكسر اللام (البسر والتمر) بالنصب على المفعولية (إذا كان) خلطهما (مسكرًا) قال ابن بطال: قوله إذا كان مسكرًا خطأ لأن النهي عن الخليطين عام وإن لم يسكر كثيرهما لسرعة سريان الإسكار إليهما من حيث لا يشعر صاحبه به فليس النهي عن الخليطين لأنهما يسكران حالًا بل لأنهما يسكران مالًا فإنهما إذا كانا مسكرين في الحال لا خلاف
في النهي عنهما. قال الكرماني: فعلى هذا فليس هو خطأ بل يكون أطلق على سبيل المجاز وهو استعمال مشهور، وأجاب ابن المنير بأن ذلك لا يرد على البخاري إما لأنه كان يرى جواز الخليطين قبل الإسكار وإما لأنه ترجم على ما يطابق الحديث الأول وهو حديث أنس المذكور في الباب فإنه لا شك أن الذي كان يسقيه للقوم حينئذٍ كان مسكرًا، ولهذا دخل عندهم في عموم تحريم الخمر حتى قال أنس: وإنا لنعدّها يومئذٍ الخمر فدل على أنه كان مسكرًا. قال: وأما قوله وأن لا يجعل إدامين في إدام فيطابق حديث جابر وأبي قتادة ويكون النهي معلّلًا بعلل مستقلة إما تحقق إسكار الخمر الكثير وإما توقع الإسكار بالخلط سريعًا وأما الإسراف والشره والتعليل بالإسراف مبين في حديث النهي عن قران التمر، وقال ابن حجر: والذي يظهر لي أن مراد البخاري بهذه الترجمة الردّ على من أوّل النهي عن الخليط بأحد

(8/322)


تأويلين أحدهما حمل الخليط عل المخلوط وهو أن يكون نبيذ تمر وحده مثلًا قد اشتدّ ونبيذ زبيب وحده مثلًا قد اشتد فيخلطان ليصيرا خلاًّ فيكون النهي من أجل تعمد التخليل، وهذا مطابق للترجمة من غير كلفة ثانيهما أن تكون علة النهي عن الخلط الإسراف فيكون كالنهي عن الجمع بين الأدمين.
وأما قوله: (وأن لا يجعل إدامين في إدام) بكسر الهمزة فيهما فيوافق حديث جابر نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الزبيب والتمر والبسر والرطب، وقول أبي قتادة نهى أن يجمع إلى آخره فيكون النهي معللًا بعلل مستقلة إما تحقق إسكار الخمر الكثير، وإما توقع الإسكار بالاختلاط سريعًا، وإما الإسراف والتعليل بالإسراف مبين في حديث النهي عن قران التمر هذا والتمر كان من نوع واحد فكيف بالتعدد، وقد تحرّج عمر -رضي الله عنه- من الجمع بين إدامين فروي أنه كان كثيرًا ما يسأل حذيفة، هل عدّه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في المنافقين؟ فيقول: لا فيقول: هل رأيت فيّ شيئًا من خلاف النفاق؟ فيقول: لا إلا واحدة قال: وما هي؟ قال: رأيتك جمعت بين إدامين على مائدة ملح وزيت وكنا نعدّ هذا نفاقًا فقال عمر: لله عليّ أن لا أجمع بينهما فكان لا يأكل إلا بزيت خاصة أو بملح خاصة وهذا إنما هو طلب للمعالي من الزهد والتقلل وإلاّ فلا خلاف أن الجمع بينهما مباح بشرطه.
5600 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: إِنِّي لأَسْقِي أَبَا طَلْحَةَ وَأَبَا دُجَانَةَ وَسُهَيْلَ ابْنَ الْبَيْضَاءِ خَلِيطَ بُسْرٍ وَتَمْرٍ إِذْ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَذَفْتُهَا وَأَنَا سَاقِيهِمْ وَأَصْغَرُهُمْ، وَإِنَّا نَعُدُّهَا يَوْمَئِذٍ الْخَمْرَ. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ: حَدَّثَنَا قَتَادَةُ سَمِعَ أَنَسًا.
وبه قال: (حدّثنا مسلم) هو ابن إبراهيم الأزدي قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي قال: (حدّثنا قتادة) بن دعامة (عن أنس) -رضي الله عنه- أنه (قال: إني لأسقي) بفتح الهمزة وكسر القاف (أبا طلحة) زوج أم أنس (وأبا دجانة) بضم الدال وتخفيف الجيم سماكًا الأنصاري الساعدي (وسهيل ابن البيضاء) بضم السين مصغرًا (خليط بسر وتمر) أي خمرًا متخذًا من خليطهما (إذ حرمت الخمر) حرمها الله تعالى بما أنزل على رسوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فقذفتها) بالذال المعجمة
(وأنا ساقيهم وأصغرهم وإنًّا) بكسر الهمزة وتشديد النون (نعدها يومئذٍ الخمر).
وهذا الحديث سبق قريبًا.
(وقال عمرو بن الحارث) بفتح العين المهملة (حدّثنا قتادة) بن دعامة أنه (سمع أنسًا) -رضي الله عنه- وهذا وصله مسلم والبيهقي وفائدته بيان سماع قتادة لأن الرواية المتقدمة بالعنعنة.
5601 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرًا -رضي الله عنه- يَقُولُ: نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الزَّبِيبِ، وَالتَّمْرِ، وَالْبُسْرِ، وَالرُّطَبِ.
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل (عن ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز أنه قال: (أخبرني) بالإفراد (عطاء) هو ابن أبي رباح (أنه سمع جابرًا) الأنصاري -رضي الله عنه- (يقول: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) نهي تنزيه وعن بعض المالكية نهي تحريم (عن) الجمع بين (الزبيب والتمر و) عن الجمع بين (البسر والرطب) تنبيذًا لأن الإسكار يسرع إليه بسبب الخلط قبل أن يشتدّ فيظن الشارب أنه لم يبلغ حد الإسكار ويكون قد بلغه.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأشربة والنسائي فيه وفي الوليمة.
5602 - حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ حَدَّثَنَا هِشَامٌ أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نَهَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُجْمَعَ بَيْنَ التَّمْرِ وَالزَّهْوِ، وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَلْيُنْبَذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى حِدَةٍ.
وبه قال: (حدّثنا مسلم) هو ابن إبراهيم قال: (حدّثنا هشام) الدستوائي قال: (أخبرنا يحيى بن أبي كثير) بالمثلثة (عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه) أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري أنه (قال: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يجمع بين التمر) بالفوقية وسكون الميم (والزهو) وهو البسر الملون (و) بين (التمر والزبيب) لأن أحدهما يشتد به الآخر فيسرع الإسكار (ولينبذ) بسكون اللام وفتح الموحدة مبنيًّا للمفعول (كل واحد منهما) أي من كل اثنين منهما فيكون الجمع بين الأكثر بطريق الأولى (على حدة) بكسر الحاء وفتح الدال المخففة المهملتين بعدها هاء أي وحده، ولأبي ذر عن الكشميهني: على حدته. وفي حديث أبي سعيد عند مسلم: من شرب منكم النبيذ فليشربه زبيبًا فردًا أو تمرًا فردًا أو بسرًا فردًا. وهل إذا خلط نبيذ البسر الذي لم يشتد مع نبيذ التمر الذي لم يشتد يمتنع أو يختص النهي عن الخلط عند الانتباذ؟ فقال الجمهور: لا فرق ولو لم يسكر، وقال الكوفيون: بالحل ولا خلاف أن العسل باللبن ليس بخليطين لأن اللبن لا ينبذ واختلف في الخليطين للتخليل.
وهذا الحديث

(8/323)


أخرجه مسلم في الأشربة وكذا أبو داود، وأخرجه النسائي في الوليمة وابن ماجة في الأشربة.

12 - باب شُرْبِ اللَّبَنِ وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}
(باب) جواز (شرب اللبن) وهو بمفرده غير مسكر نعم قد يقع نادرًا بصفة تحدّث فيه وحينئذٍ فيحرم شربه إن علم ذهاب عقله به. وفي حديث ابن سيرين عند سعيد بن منصور أنه سمع ابن عمر يسأل عن الأشربة فقال: إن أهل كذا يتخذون من كذا وكذا خمرًا حتى عدّ خمسة أشربة لم أحفظ منها إلا العسل والشعير واللبن. قال: فكنت أهاب أن أحدّث باللبن حتى أنبئت أنه بأرمينية يصنع شراب من اللبن لا يلبث صاحبه أن يصرع، قاله في الفتح.
(وقول الله تعالى) ولأبي ذر عز وجل: ({من بين فرث ودم لبنًا خالصًا}) أي يخلق اللبن وسطًا بين الفرث والدم يكتنفانه وبينه وبينهما برزخ لا ينبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة بل هو خالص من ذلك كله قيل: إذا أكلت البهيمة العلف فاستقر في كرشها طبخته فكان أسفله فرثًا وأوسطه لبنًا وأعلاه دمًا والكبد مسلطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسمها فتجري الدم في العروق واللبن في الضروع وتبقي الفرث في الكرش ثم ينحدر وفي ذلك عبرة لمن اعتبر وسئل شقيق عن الإخلاص فقال الإخلاص: تمييز العمر من العيوب كتمييز اللبن من بين فرث ودم ({سائغًا للشاربين}) [النحل: 66] سهل المرور في الحلق، ويقال: لم يغص أحد باللبن قط ومن الأولى للتبعيض لأن اللبن بعض ما في بطونها والثانية لابتداء الغاية وسقط قوله {لبنًا خالصًا} لأبي ذر.
5603 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قَالَ: أُتِيَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَقَدَحِ خَمْرٍ.
وبه قال: (حدّثنا عبدان) اسمه عبد الله بن عثمان المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك
المروزي قال: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن سعيد بن المسيب
عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: أتي) بضم الهمزة وكسر الفوقية (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة أسري
به) إلى بيت المقدس (بقدح لبن وقدح خمر) زاد في أوّل كتاب الأشربة فنظر إليهما ثم أخذ اللبن فقال جبريل: الحمد لله الذي هداك للفطرة ولو أخذت الخمر غوت أمتك وبذلك تتم المطابقة بين الترجمة والحديث على ما لا يخفى.
5604 - حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ سَمِعَ سُفْيَانَ أَخْبَرَنَا سَالِمٌ أَبُو النَّضْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عُمَيْرًا مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ يُحَدِّثُ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ قَالَتْ: شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلْتُ إِلَيْهِ بِإِنَاءٍ فِيهِ لَبَنٌ فَشَرِبَ، فَكَانَ سُفْيَانُ رُبَّمَا قَالَ: شَكَّ النَّاسُ فِي صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ عَرَفَةَ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ أُمُّ الْفَضْلِ فَإِذَا وُقِفَ عَلَيْهِ قَالَ: هُوَ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ.
وبه قال: (حدّثنا الحميدي) عبد الله بن الزبير أنه (سمع سفيان) بن عيينة يقول: (أخبرنا سالم أبو النضر) بالنون المفتوحة والضاد المعجمة (أنه سمع عميرًا) بضم العين وفتح الميم (مولى أم الفضل) زوج العباس بن عبد المطلب (يحدّث عن أم الفضل) -رضي الله عنها- أنها (قالت: شك الناس في صيام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم عرفة) بعرفة (فأرسلت) بسكون اللام وضم الفوقية (إليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بإناء) ولأبي ذر فأرسلت إليه أم الفضل بإناء (فيه لبن فشرب) منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قال الحميدي: (فكان) ولغير أبي ذر وكان (سفيان) بن عيينة (ربما قال شك الناس في صيام رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم عرفة) سقط لأبي ذر يوم عرفة (فأرسلت إليه) صلوات الله وسلامه عليه (أم الفضل) أي بإناء فيه لبن (فإذا وقف) بضم الواو وبعدها قاف مشددة ولأبي ذر ووقف (عليه) بزيادة واو ساكنة بعد الواو المضمومة أي كان إذا أرسل الحديث فلم يقل في إسناده عن أم الفضل فإذا سئل عنه هل هو موصول أو مرسل (قال: هو عن أم الفضل) فهو في قوّة قول هو موصول والحديث تقدم في الحج والصوم.
5605 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ وَأَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ اللَّهِ قَالَ: جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ مِنَ النَّقِيعِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلاَّ خَمَّرْتَهُ وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا». [الحديث 5605 - أطرافه في: 5606].
وبه قال: (حدّثنا قتيبة) بن سعيد البلخي قال: (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن الأعمش) سليمان بن مهران الكوفي (عن أبي صالح) ذكوان (وأبي سفيان) طلحة بن نافع القرشي كلاهما (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري -رضي الله عنهما- أنه (قال: جاء أبو حميد) بضم الحاء مصغرًا عبد الرحمن الساعدي (بقدح من لبن) ليس مخمرًا (من النقيع) بفتح النون وكسر القاف وبعد التحتية الساكنة عين مهملة موضع بوادي العقيق حماه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لرعي النعم كان يستنقع فيه الماء أي يجتمع وقيل هو غيره (فقال له رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(ألا) بفتح الهمزة وتشديد اللام أي هلا (خمّرته) بخاء معجمة وميم مشددة مفتوحتين غطيته (ولو أن تعرض) بفتح الفوقية وضم الراء أي ولو أن

(8/324)


تنصب (عليه عودًا) عرضًا قيل والحكمة في الاكتفاء بذلك اقترانه بالتسمية فيكون العرض علامة على التسمية فلا يقربه الشيطان.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأشربة أيضًا.
5606 - حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الأَعْمَشُ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا صَالِحٍ يَذْكُرُ أُرَاهُ عَنْ جَابِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: جَاءَ أَبُو حُمَيْدٍ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ، مِنَ النَّقِيعِ بِإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَلاَّ خَمَّرْتَهُ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضَ عَلَيْهِ عُودًا». وَحَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ عَنْ جَابِرٍ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهَذَا.
وبه قال: (حدّثنا عمر بن حفص) بضم العين قال: (حدّثنا أبي) حفص بن غياث قال: (حدّثنا الأعمش) سليمان بن مهران (قال: سمعت أبا صالح) ذكوان (يذكر أراه) بضم الهمزة (عن جابر -رضي الله عنه-) أنه (قال: جاء أبو حميد رجل من الأنصار، من النقيع بناء من لبن إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) غير مخمر (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) له:
(ألا) أي هلا (خمّرته) غطيته صيانة من الشيطان إذ إنه لا يكشف غطاء ومن الوباء الذي قيل أنه ينزل في ليلة من السماء ومن النجاسة والقاذورات والحشرات ونحوها (ولو أن تعرض) تمدّ (عليه عودًا) عرضًا لا طولًا. قال الأعمش (وحدّثني) بالإفراد (أبو سفيان) طلحة بن نافع (عن جابر عن النبي (-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بهذا) الحديث، وأخرجه الإسماعيلي عن حفص بن غياث عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر، وعن أبي صالح عن أبي هريرة والمحفوظ عن جابر، ويأتي إن شاء الله تعالى بقوة الله الكلام على حكم تغطية الإناء قريبًا.
5607 - حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ أَخْبَرَنَا النَّضْرُ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ -رضي الله عنه- قَالَ: قَدِمَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ مَكَّةَ وَأَبُو بَكْرٍ مَعَهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَرَرْنَا بِرَاعٍ وَقَدْ عَطِشَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ أَبُو بَكْرٍ -رضي الله عنه- فَحَلَبْتُ كُثْبَةً مِنْ لَبَنٍ فِي قَدَحٍ فَشَرِبَ حَتَّى رَضِيتُ وَأَتَانَا سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى فَرَسٍ، فَدَعَا عَلَيْهِ فَطَلَبَ إِلَيْهِ سُرَاقَةُ أَنْ لاَ يَدْعُوَ عَلَيْهِ وَأَنْ يَرْجِعَ، فَفَعَلَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (محمود) هو ابن غيلان قال: (أخبرنا النضر) بالنون المفتوحة والمعجمة الساكنة ابن شمير قال: (أخبرنا شعبة) بن الحجاج (عن أبي إسحاق) عمرو السبيعي أنه (قال: سمعت البراء) بن عازب (-رضي الله عنه- قال: قدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من مكة) لما هاجر منها إلى المدينة (وأبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- (معه قال أبو بكر: مررنا) في طريقنا (براع وقد) أي والحال أنه قد (عطش رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال أبو بكر -رضي الله عنه-: فحلبت كثبة) بضم الكاف وسكون المثلثة بعدها موحدة مفتوحة قطعة من اللبن أو ملء القدح أو قدر حلبة ناقة (من لبن في قدح) وفي الهجرة أنه أمر الراعي فحلب فنسب الحلب لنفسه هنا على طريق المجاز (فشرب) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منه (حتى رضيت) أي علمت أنه شبع (وأتانا) ولأبي ذر وابن عساكر وأتاه أي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (سراقة بن جعشم) بضم الجيم وسكون العين المهملة وضم الشين المعجمة الكناني بنونين المدلجي أسلم آخرًا (على فرس فدعا عليه) النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فطلب إليه) صلوات الله وسلامه عليه (سراقة أن لا يدعو عليه وأن يرجع ففعل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي فلم يدع عليه.
وهذا الحديث سبق في الهجرة.
5608 - حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «نِعْمَ الصَّدَقَةُ اللِّقْحَةُ الصَّفِيُّ مِنْحَةً، وَالشَّاةُ
الصَّفِيُّ مِنْحَةً، تَغْدُو بِإِنَاءٍ وَتَرُوحُ بِآخَرَ».
وبه قال: (حدّثنا أبو اليمان) الحكم بن نافع قال: (أخبرنا شعيب) هو ابن أبي حمزة قال: (حدّثنا أبو الزناد) عبد الله بن ذكوان (عن عبد الرحمن) بن هرمز الأعرج (عن أبي هريرة رضي الله أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(نعم الصدقة اللقحة) بكسر اللام وتفتح وسكون القاف وبالحاء المهملة الناقة الحلوب (الصفي) بفتح الصاد المهملة وكسر الفاء وتشديد التحتية الكثيرة اللبن أي مصطفاة مختارة فعيل إذا كان بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر والمؤنث (منحة) بكسر الميم وسكون النون وفتح الحاء المهملة نصب على التمييز عطية تعطيها غيرك ليحتلبها ثم يردها إليك (و) نعم الصدقة (الشاة الصفي منحة) تعطيها غيرك فيحتلبها (تغدو) أول النهار (بناء) من اللبن (وتروح) آخره (بآخر) بالمد وفيه إشارة إلى أن المستعير لا يستأصل لبنها قاله في الفتح.
والحديث سبق في باب فضل المنحة من العارية.
5609 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ عَنِ الأَوْزَاعِيِّ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رضي الله عنهما- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ وَقَالَ: «إِنَّ لَهُ دَسَمًا».
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك النبيل بن مخلد (عن الأوزاعي) عبد الرحمن (عن ابن شهاب) الزهري (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله) بن عتبة بن مسعود (عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شرب لبنًا فمضمض) منه (وقال):
(إن له) أي اللبن (دسمًا) بفتحتين بيان لعلة المضمضة منه.
5610 - وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ: عَنْ شُعْبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «رُفِعْتُ إِلَى السِّدْرَةِ، فَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهَرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهَرَانِ بَاطِنَانِ، فَأَمَّا الظَّاهِرَانِ النِّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَأَمَّا الْبَاطِنَانِ فَنَهَرَانِ فِي الْجَنَّةِ، فَأُتِيتُ بِثَلاَثَةِ أَقْدَاحٍ: قَدَحٌ فِيهِ لَبَنٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ عَسَلٌ، وَقَدَحٌ فِيهِ خَمْرٌ. فَأَخَذْتُ الَّذِي فِيهِ اللَّبَنُ فَشَرِبْتُ، فَقِيلَ لِي: أَصَبْتَ الْفِطْرَةَ أَنْتَ وَأُمَّتُكَ» قَالَ هِشَامٌ وَسَعِيدٌ وَهَمَّامٌ: عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الأَنْهَارِ نَحْوَهُ وَلَمْ يَذْكُرُوا ثَلاَثَةَ أَقْدَاحٍ.
(وقال إبراهيم بن طهمان) بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء الهروي مما وصله عوانة والإسماعيلي والطبراني في معجمه الصغير من طريقه (عن شعبة) بن

(8/325)


الحجاج (عن قتادة) بن دعامة السدوسي (عن أنس بن مالك) -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(رفعت) بسكون العين المهملة وضم الفوقية وللحموي والكشميهني دفعت بالدال المهملة
بدل الراء (إلى السدرة) جار ومجرور، وقال في الفتح: رفعت كذا للأكثر بضم الراء وكسر الفاء وفتح العين المهملة وسكون المثناة على البناء للمجهول وإليّ بتشديد التحتية والسدرة مرفوعة، وللمستملي: دفعت بدال بدل الراء وسكون العين وضم المثناة بنسبة الفعل إلى المتكلم وإلى حرف جر، والمراد سدرة المنتهى وسميت بذلك لأن علم الملائكة ينتهي إليها ولم يجاوزها أحد إلا سيدنا محمد رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وشرف وكرّم، وعن ابن مسعود وسميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها وما يصعد من تحتها من أمر الله تعالى ومعنى الرفع تقريب الشيء وكأنه أراد أن سدرة المنتهى استبينت له بنعوتها كل الاستبانة حتى اطلع عليها كل الاطّلاع بمثابة الشيء المقرب إليه (فإذا أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فأما) النهران (الظاهران فـ) ـهما (النيل) وهو نهر مصر (والفرات) بضم الفاء والمثناة الفوقية المجرورة وهو نهر الكوفة وأصله من أطراف أرمينية (وأما) النهران (الباطنان فنهران في الجنة) وهما فيما قاله مقاتل السلسبيل والكوثر والظاهر أن النيل والفرات يخرجان من أصلهما ثم يسيران حيث أراد الله ثم يخرجان من الأرض ويسيران فيها وهذا لا يمنعه شرع ولا عقل وهو ظاهر الحديث فوجب المصير إليه (فأتيت) بفاء فهمزة مضمومة ولأبي الوقت وأتيت بالواو بدل الفاء (بثلاثة أقداح) ومفهوم العدد لا اعتبار له فلا منافاة بين قوله هنا بثلاثة، وقوله في السابق قدحان وأيضًا فالقدحان قبل رفعه إلى السدرة وهو في بيت المقدس والثلاثة بعده وهو عند السدرة أحدها (قدح فيه لبن و) الثاني (قدح فيه عسل و) الثالث (قدح فيه خمر فأخذت الذي فيه اللبن فشربت فقيل لي أصبت الفطرة) أي علامة الإسلام والاستقامة (أنت) تأكيد للضمير الذي في أصبت (و) لتصب (أمتك). قال ابن المنير: ذكر السر في عدوله عن الخمر ولم يذكر في عدوله عن العسل وظاهره تفضيل اللبن على العسل لأنه الأيسر والأنفع وهو بمجرده قوت وليس من الطيبات التي تدخل في السرف بوجه وهو أقرب إلى الزهد فكأنه ترك العسل الذي هو حلال لأنه من اللذائذ التي يخشى على صاحبها أن يندرج في قوله عز وجل: {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا} [الأحقاف: 20] وأما اللبن فلا شبهة فيه ولا منافاة بينه وبين الورع بوجه، وأما ما ورد من محبته -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للعسل فعلى وجه الاقتصاد في تناوله إلا أنه جعله ديدنًا والنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مشرع بفعل ما يجوز للبيان.
(وقال هشام) الدستوائي: (وسعيد) هو ابن أبي عروبة فيما وصله المؤلف عنهما في باب ذكر الملائكة من كتاب بدء الخلق (وهمام) بتشديد الميم الأولى ابن يحيى كلهم (عن قتادة) بن دعامة (عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الأنهار) أي اتفقوا من متن الحديث على ذكر الأنهار (نحوه) أي نحو المذكور في الحديث السابق (ولم يذكروا) هؤلاء في روايتهم ولأبي ذر عن الكشميهني ولم يذكر أي هشام (ثلاثة أقداح).

13 - باب اسْتِعْذَابِ الْمَاءِ
(باب استعذاب الماء) أي طلب الماء الحلو.
5611 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ مَالِكٍ عَنْ إِسْحَاقَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يَقُولُ: كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ أَنْصَارِيٍّ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ، وَكَانَ أَحَبُّ مَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرَحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَ الْمَسْجِدِ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ قَالَ أَنَسٌ: فَلَمَّا نَزَلَتْ {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قَامَ أَبُو طَلْحَةَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وَإِنَّ أَحَبَّ مَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ. وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ، فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «بَخٍ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ أَوْ رَايِحٌ» شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ «وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الأَقْرَبِينَ» فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَفِي بَنِي عَمِّهِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى: رَايِحٌ.
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن سلمة) بن قعنب القعنبي الحارث أحد الأعلام (عن مالك) إمام الأئمة (عن إسحاق بن عبد الله) بن أبي طلحة (أنه سمع) عنه (أنس بن مالك) -رضي الله عنه- (يقول: كان أبو طلحة) زيد الأنصاري (أكثر أنصاري بالمدينة مالًا) نصب على التمييز (من نخل) الجار للبيان (وكان أحب ماله إليه بيرحاء) برفع الراء اسم كان وأحب نصب خبرها أو أحب اسمها وبير خبرها وحاء بالهمز والمد ولأبي ذر بالقصر، واختلف في فتح الموحدة وكسرها وهل بعدها همزة ساكنة أو تحتية أو غير ذلك مما سبق في الزكاة فارجع

(8/326)


إليه إن أردته ففيه ما يكفي ويشفي وفي الفائق أنها فيعلاه من البراح وهي الأرض الطاهرة (وكانت مستقبل المسجد) وفي رواية أبي ذر كالزكاة مستقبلة المسجد (وكان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب) بالجر صفة للمجرور (قال أنس) -رضي الله عنه- (فلما نزلت: {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إن الله) عز وجل (يقول: {لن تنالوا البر}) أي لن تكونوا أبرارًا محسنين فكأنه جعل البر شيئًا متناولًا مبالغة ({حتى تنفقوا مما تحبون}) [آل عمران: 92]. (وإن أحب مالي) بالإفراد (إليّ بيرحاء) ولأبي ذر بيرحا بالقصر (وإنها صدقة لله أرجو برها) خيرها (وذخرها) بضم الذال وسكون الخاء المعجمتين أي أقدمها فأدخرها لأجدها (عند الله فضعها يا رسول الله حيث أراك الله، فقال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(بخ) فيه لغتان إسكان الخاء وكسرها منوّنة كلما يقولها المتعجب من الشيء وعند المدح والرضا بالشيء وقد تكرر للمبالغة فيقال: بخ بخ (ذلك مال رابح) بالموحدة ذو ربح (أو) قال: (رايح) بالتحتية بدل الموحدة من الرواح نقيض الغدوّ أي قريب الفائدة يصل نفعه إلى صاحبه (شك عبد الله) بن مسلمة (وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين) فإن أفضل البر ما أولي إلى الأقرباء (فقال أبو طلحة: أفعل) برفع اللام ذلك (يا رسول الله فقسمها أبو طلحة في أقاربه وفي بني عمه) من باب عطف الخاص على العام (وقال إسماعيل) بن أبي أويس مما وصله
في التفسير (ويحيى بن يحيى) أبو زكريا التميمي الحنظلي مما وصله في الوصايا كلاهما عن مالك (رايح) بالمثناة التحتية من الرواح.
ومطابقة الحديث للترجمة في قوله: ويشرب من ماء فيها طيب. وفي حديث عائشة عند أبي داود كان رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يستعذب له الماء من بيوت السقيا بضم السين المهملة وبالقاف والتحتية عين بينها وبين المدينة يومان فاستعذاب الماء لا ينافي الزهد ولا يدخل في الترفه المذموم، نعم كره مالك -رحمه الله- تطييب الماء بنحو المسك لما فيه من السرف.
وهذا الحديث سبق في الزكاة والوصايا والوكالة والتفسير.

14 - باب شَوْبِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ
(باب شوب اللبن بالماء) بفتح المعجمة وسكون الواو أي خلط اللبن بالماء، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي: شرب بضم الشين والراء الساكنة بدل الواو أي شرب اللبن ممزوجًا بالماء البارد كسرًا لحرارته عقب حلبه مع شدّة حر القطر.
5612 - حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ -رضي الله عنه- أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَرِبَ لَبَنًا وَأَتَى دَارَهُ فَحَلَبْتُ شَاةً فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنَ الْبِئْرِ فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِيٌّ فَأَعْطَى الأَعْرَابِيَّ فَضْلَهُ ثُمَّ قَالَ: «الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ».
وبه قال: (حدّثنا عبدان) عبد الله بن عثمان المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم (قال: أخبرنا) بالإفراد (أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه رأى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شرب لبنًا وأتى داره) أي دار أنس والجملة حالية أي رآه حين أتى داره (فحلبت شاة فشبت) بضم الشين المعجمة أي خلطت (لرسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) اللبن الذي حلبته بماء (من البئر) ليبرد (فتناول) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (القدح فشرب) منه (وعن يساره أبو بكر) الصديق (وعن يمينه أعرابي) زاد في رواية أبي طوالة السابقة في الهبة وعمر تجاهه وفي الشرب من طريق شعيب عن الزهري في هذا الحديث فقال عمر: وخاف أن يعطيه الأعرابي أعط أبا بكر، وفي رواية أبي طوالة فقال عمر: هذا أبو بكر (فأعطى) عليه الصلاة والسلام (الأعرابي فضله) أي اللبن الذي فضل منه بعد شربه (ثم قال): ولأبي ذر عن الكشميهني، وقال بالواو بدل ثم قدموا (الأيمن فالأيمن) أو النصب على الحال أي اشربوا مترتبين على هذا النمط، ويجوز الرفع أي الأيمن مقدم أو أحق بالشرب من غيره. وفي الحديث أن السنة تقديم الأيمن وإن كان مفضولًا ولا يلزم من ذلك حط رتبة الفاضل، ولعل عمر -رضي الله عنه- كان احتمل عنده أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقدم أبا بكر فيكون سنّة في تقديم الأفضل في الشرب
على الأيمن، فلذا ذكر أبا بكر فبيّن له -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن السنّة تقديم الأيمن على الأفضل.
وهذا الحديث سبق في الهبة.
5613 - حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِي شَنَّةٍ وَإِلاَّ كَرَعْنَا». قَالَ: وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِي حَائِطِهِ قَالَ: فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، عِنْدِي مَاءٌ بَائِتٌ فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيشِ قَالَ: فَانْطَلَقَ بِهِمَا فَسَكَبَ فِي قَدَحٍ ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ قَالَ: فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِي جَاءَ مَعَهُ. [الحديث 5613 - أطرافه في: 5621].
وبه قال: (حدّثنا عبد الله بن محمد) المسندي

(8/327)


الجعفي قال: (حدّثنا أبو عامر) عبد الملك العقدي بفتح العين المهملة والقاف قال: (حدّثنا فليح بن سليمان) بفاء مضمومة آخره مهملة وضم السين مصغرين العدوي مولاهم المدني (عن سعيد بن الحارث) الأنصاري قاضي المدينة (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنه- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل على رجل من الأنصار) قيل هو أبو الهيثم بن التيهان الأنصاري (ومعه صاحب له) هو أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- (فقال له) أي للرجل الأنصاري الذي دخل عليه (النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إن كان عندك ماء بات هذه الليلة في شنة) بفتح الشين المعجمة والنون المشدّدة قربة خلقة فاسقنا منها (وإلاّ كرعنا) بفتح الراء وتكسر شربنا من غير إناء ولا كف بل بالفم (قال) جابر (والرجل) الأنصاري (يحول الماء في حائطه) ينقله من عمق البئر إلى ظاهرها أو يجري الماء جانب إلى جانب من بستانه ليعم أشجاره بالسقي (قال) جابر (فقال الرجل) الأنصاري وسقط لابن عساكر لفظ الرجل (يا رسول الله عندي ماء بائت فانطلق) بكسر اللام وسكون القاف (إلى العريش) المسقف من البستان بالأغصان وأكثر ما يكون في الكروم (قال فانطلق) الرجل الأنصاري (بهما) بالنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وبالصديق -رضي الله عنه- إلى العريش (فسكب في قدح) ماء (ثم حلب عليه) لبنًا (من داجن له) بالجيم والنون شاة تألف البيوت (قال) جابر (فشرب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم شرب الرجل الذي جاء معه) وهو أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود وابن ماجة في الأشربة.

15 - باب شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: لاَ يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ، لأَنَّهُ رِجْسٌ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِي السَّكَرِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
(باب شراب الحلواء) بالمد للمستملي وبالقصر لغيره لغتان (و) شراب (العسل) وليس المراد بقوله شراب الحلواء الحلواء المعهودة المعقودة بالنار بل كل حلواء تشرب من نقيع حلو وغيره مما يشبهه وقوله الحلواء شامل للعسل فذكره بعدها من التخصيص بعد التعميم.
(وقال الزهري) محمد بن مسلم فيما وصله عبد الرزاق (لا يحل شرب بول الناس لشدّة) أي لضرورة عطش ونحو (تنزل الآية) أي البول (رجس) نجس (قال الله تعالى: {أحل لكم الطيبات}) [المائدة: 4]. وقال عز وجل: {ويحرّم عليهم الخبائث} [الأعراف: 7: 1] والرجس: من جملة الخبائث وأورد عليه جواز أكل الميتة عند الشدّة وهي رجس وقد جوّز شرب البول للتداوي. وأجيب: باحتمال أن يكون الزهري يرى أن القياس لا يدخل الرخص فإن الرخصة قد وردت في الميتة لا في البول، وفي شُعب البيهقي أن الزهري كان يصوم يوم عاشوراء في السفر فقيل له: أنت تفطر في رمضان في السفر؟ فقال: إن الله عز وجل قال في رمضان: {فعدّة من أيام أُخر} [البقرة: 184] وليس ذلك لعاشوراء.
(وقال ابن مسعود) عبد الله (في السكر) بفتح السين المهملة والكاف بعدها راء الخمر بلغة العجم وفي فوائد علي بن حرب الطائي عن سفيان بن عيينة عن منصور أخرجه ابن أبي شيبة بسند صحيح على شرط الشيخين عن جرير عن منصور عن أبي وائل قال: اشتكى رجل منا يقال له خيثم بن العداء داء ببطنه يقال له الصفر فنعت له السكر فأرسل إلى ابن مسعود يسأله فقال: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما) ولأبي ذر مما (حرم عليكم).
فإن قلت: قد جوزوا إساغة اللقمة بالجرعة من الخمر فلِم يجوزوا التداوي به وأي فرق بينهما؟ أجيب: بأن الإساغة يتحقق بها المراد بخلاف الشفاء فإنه غير محقق كما لا يخفى، وقد قال بعضهم: إن المنافع في الخمر قبل التحريم سلبت بعده فتحريمها مجزوم به وكونها دواء مشكوك فيه بل الراجح أنها ليست بدواء بإطلاق الحديث. نعم يجوز تناولها في صورة واحدة وهي ما إذا اضطر إلى إزالة عقله لقطع عضو من الأكلة والعياذ بالله تعالى، فقد خرّجه الرافعي على الخلاف في جواز التداوي بالخمر وصحح النووي هنا الجواز وهو المنصوص. قال في الفتح: ينبغي أن يكون محله فيما إذا تعين ذاك طريقًا إلى سلامة بقية الأعضاء ولم يجد مرقدًا غيرها.
فإن قلت: ما وجه المطابقة بين الترجمة والأثرين؟ جاب

(8/328)


ابن المنير بأنه ترجم على شيء وأعقبه بضده قال: وبضدها تتبين الأشياء ثم عاد إلى ما يطابق الترجمة نصًّا، ويحتمل أن يكون مراده بقول الزهري الإشارة بقوله تعالى: {أُحلّ لكم الطيبات} [المائدة: 4] إلى أن الحلواء والعسل من الطيبات فهما حلال وبقول ابن مسعود الإشارة إلى قوله تعالى: {فيه شفاء للناس} [النحل: 69] فدلّ الامتنان به على حقه فلم يجعل الله الشفاء فيما حرم.
5614 - حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ
-رضي الله عنها- قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا أبو أسامة) حماد بن أسامة قال: (أخبرني) بالإفراد (هشام عن أبيه) عروة بن الزبير بن العوّام (عن عائشة -رضي الله عنها-) أنها (قالت: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يعجبه الحلواء) بالمد ويجوز القصر (والعسل) قال النووي: المراد بالحلواء في هذا الحديث كل شيء حلو وذكر العسل بعدها للتنبيه على شرفه ومزيته، وفي شعب البيهقي عن أبي سليمان الداراني قول عائشة كان يحب الحلواء ليس على معنى كثرة التشهي لها وشدّة نزاع النفس إليها وتأنق الصنعة في اتخاذها كفعل أهل الترف والشره وإنما كان إذا قدمت إليه نال منها نيلًا جيدًا فيعلم بذلك أنها تعجبه قاله في الفتح.
وهذا الحديث قد مرّ في كتاب الأطعمة.

16 - باب الشُّرْبِ قَائِمًا
(باب) حكم (الشرب) حال كون الشارب (قائمًا).
5615 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَيْسَرَةَ عَنِ النَّزَّالِ قَالَ أَتَى عَلِيٌّ -رضي الله عنه- عَلَى بَابِ الرَّحَبَةِ فَشَرِبَ قَائِمًا فَقَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُ أَحَدُهُمْ أَنْ يَشْرَبَ وَهْوَ قَائِمٌ، وَإِنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَعَلَ كَمَا رَأَيْتُمُونِى فَعَلْتُ. [الحديث 5615 - أطرافه في: 5616].
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا مسعر) بكسر الميم وسكون السين وفتح العين المهملتين آخره راء ابن كدام الكوفي (عن عبد الملك بن ميسرة) ضد الميمنة الزراد (عن النزال) بالنون والزاي المشددة المفتوحتين أنه (قال: أتى علي -رضي الله عنه-) بفتح الهمزة ولأبي ذر أُتي بضمها وكسر تاليها (على باب الرحبة) بفتح الراء والحاء المهملة والموحدة أي رحبة المسجد والمراد مسجد الكوفة ولأبي ذر زيادة بماء (فشرب) منه حال كونه (قائمًا فقال: إن ناسًا يكره أحدهم أن يشرب) أي بأن وأن مصدرية أي يكره الشرب (وهو قائم) أي في حالة القيام (وإني رأيت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فعل كما رأيتموني فعلت) من الشرب قائمًا.
وهذا الحديث أخرجه أبو داود في الأشربة والنسائي في الطهارة.
5616 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَيْسَرَةَ سَمِعْتُ النَّزَّالَ بْنَ سَبْرَةَ يُحَدِّثُ عَنْ عَلِيٍّ -رضي الله عنه- أَنَّهُ صَلَّى الظُّهْرَ ثُمَّ قَعَدَ فِي حَوَائِجِ النَّاسِ فِي رَحَبَةِ الْكُوفَةِ حَتَّى حَضَرَتْ صَلاَةُ الْعَصْرِ، ثُمَّ أُتِىَ بِمَاءٍ فَشَرِبَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، وَذَكَرَ رَأْسَهُ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ قَامَ فَشَرِبَ فَضْلَهُ وَهْوَ قَائِمٌ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ نَاسًا يَكْرَهُونَ الشُّرْبَ قَائِمًا، وَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُ.
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج قال: (حدّثنا عبد الملك بن ميسرة) قال: (سمعت النزال بن سبرة) بفتح السين المهملة وسكون الموحدة بعدها راء فهاء (يحدّث عن علي -رضي الله عنه- أنه صلّى الظهر ثم قعد في حوائج الناس) جمع حاجة على غير قياس. قال في القاموس: الجمع حاج وحاجات وحوج وحوائج غير قياسي أو مولدة أو كأنهم جمعوا حائجة (في رحبة الكوفة) قال في القاموس: ورحبة المكان وتسكن ساحته ومتسعه (حتى حضرت صلاة العصر ثم أتي) بضم الهمزة (بماء فشرب وغسل وجهه ويديه وذكر رأسه ورجليه) زاد النسائي من طرق عن شعبة وهذا وضوء من لم يحدّث وهي على شرط الصحيح (ثم قام فشرب فضله) أي فضل الماء الذي توضأ منه (وهو قائم ثم قال: إن ناسًا يكرهون الشرب قائمًا) أي يكرهون أن يشرب كلٌّ منهم قائمًا، ولأبي ذر عن الكشميهني قيامًا وهي واضحة (وإن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صنع مثل ما صنعت) من شرب فضل الوضوء قائمًا.
5617 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ عَنِ الشَّعْبِىِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَرِبَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَائِمًا مِنْ زَمْزَمَ.
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا سفيان) الثوري أو ابن عيينة ورجح الأول في الفتح وجزم به المزي لأنه أشهر بصحبته وأكثر رواية عنه من ابن عيينة (عن عاصم الأحول عن الشعبي) عامر بن شراحيل (عن ابن عباس) -رضي الله عنهما- أنه (قال: شرب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) حال كونه (قائمًا من زمزم) وقد كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- طاف على بعيره ثم أناخه بعد طوافه فصلّى ركعتين ثم شرب إذ ذاك من زمزم قبل أن يعود إلى بعيره، واستدلّ بهذه الأحاديث على جواز الشرب قائمًا وهو مذهب الجمهور، وكرهه قوم لحديث أنس عند مسلم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- زجر عن الشرب قائمًا، وحديث أبي هريرة في مسلم أيضًا: لا يشربن أحدكم قائمًا فمن نسي فليستقئ. وعند أحمد من حديثه أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رأى رجلاً يشرب

(8/329)


قائمًا فقال: (قه) قال: لمه؟ قال: "أيسرك أن يشرب معك الهر" قال: لا. قال: "قد شرب معك من هو شر منه الشيطان" لكنهم حملوا النهي على الاستحباب والحث على ما هو أولى وأكمل وذلك لأن في الشرب قائمًا ضررًا ما فكره من أجله لأنه يحرك خلطًا يكون القيء دواءه، وقوله في الحديث فمن نسي لا مفهوم له بل يستحب ذلك للعامد أيضًا بطريق الأولى، وقد سلك الأئمة في هذه الأحاديث مسالك أحسنها حمل الأحاديث النهي على كراهة التنزيه وأحاديث الجواز على بيانه، وقيل النهي إنما هو من جهة الطب مخافة وقوع ضرر به فإن الشرب قاعدًا أمكن وأبعد من السرف وحصول وجع الكبد والحلق وقد لا يأمن منه من شرب قائمًا على ما لا يخفى.

17 - باب مَنْ شَرِبَ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ
(باب) حكم (من شرب وهو) أي والحال أنه (واقف على بعيره) استشكل قوله واقف على
بعيره لأن الراكب على البعير قاعد لا قائم وأجيب بأن الراكب من حيث كونه سائرًا يشبه القائم ومن حيث كونه مستقرًّا على الدابة يشبه القاعد فمراده بيان حكم هذه الحالة، هل تدخل تحت النهي أم لا؟.
5618 - حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِى سَلَمَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ بِنْتِ الْحَارِثِ أَنَّهَا أَرْسَلَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهُوَ وَاقِفٌ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ فَشَرِبَهُ. زَادَ مَالِكٌ عَنْ أَبِى النَّضْرِ عَلَى بَعِيرِهِ.
وبه قال: (حدّثنا مالك بن إسماعيل) أبو غسان النهدي قال: (حدّثنا عبد العزيز بن أبي سلمة) الماجشون واسم أبي سلمة دينار وهو جد عبد العزيز لأنه ابن عبد الله بن أبي سلمة قال: (أخبرنا أبو النضر) بالضاد المعجمة سالم بن أبي أمية مولى عمر بن عبد الله (عن عمير) بضم العين وفتح الميم مصغرًا (مولى ابن عباس عن أم الفضل) لبابة (بنت الحارث أنها أرسلت إلى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقدح لبن وهو واقف عشية عرفة فأخذ) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بيده) الكريمة القدح (فشربه) ولأبي ذر وابن عساكر فأخذه وشربه (زاد مالك) الإمام في روايته (عن أبي النضر) سالم (على بعيره) تابع عبد العزيز بن أبي سلمة على روايته هذا الحديث عن أبي النضر وقال: شرب وهو واقف على بعيره.
وهذا الحديث قد سبق في الحج والله أعلم.

18 - باب الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ فِى الشُّرْبِ
(باب الأيمن فالأيمن في الشرب) ماء وغيره ونصب الأيمن بفعل مقدر وهو الذي على يمين الشارب.
5619 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِى مَالِكٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِىَ بِلَبَنٍ قَدْ شِيبَ بِمَاءٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِىٌّ وَعَنْ شِمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، فَشَرِبَ ثُمَّ أَعْطَى الأَعْرَابِىَّ وَقَالَ: الأَيْمَنَ الأَيْمَنَ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس قال: (حدّثني) بالإفراد (مالك) الإمام (عن ابن شهاب) الزهري (عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتي) بضم الهمزة (بلبن قد شيب) بكسر الشين المعجمة وأصل شيب شوب قلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها أي مزج (بماء وعن يمينه أعرابي) لم أقف على اسمه (وعن شماله أبو بكر) الصديق -رضي الله عنه- (فشرب) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- منه (ثم أعطى الأعرابي) قبل أبي بكر (وقال):
قدّموا (الأيمن فالأيمن) وقد كان -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يحب التيامن في الأكل والشرب وجميع الأمور لما شرف الله به أهل اليمين وقيل إن الأعرابي كان من كبراء قومه فلذا جلس عن يمينه عليه الصلاة والسلام.
وهذا الحديث سبق مرارًا.

19 - باب هَلْ يَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ مَنْ عَنْ يَمِينِهِ فِى الشُّرْبِ لِيُعْطِىَ الأَكْبَرَ؟
هذا (باب) بالتنوين (هل يستأذن الرجل من) أي هل يطلب الإذن من الذي هو جالس (عن يمينه في الشرب ليعطي أكبر).
5620 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ قَالَ: حَدَّثَنِى مَالِكٌ عَنْ أَبِى حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُتِىَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ، وَعَنْ يَمِينِهِ غُلاَمٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلاَمِ: «أَتَأْذَنُ لِى أَنْ أُعْطِىَ هَؤُلاَءِ»؟ فَقَالَ الْغُلاَمُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لاَ أُوثِرُ بِنَصِيبِى مِنْكَ أَحَدًا قَالَ فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى يَدِهِ.
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) الأويسي قال: (حدّثني) بالإفراد (مالك) هو ابن أنس الإمام (عن أبي حازم بن دينار) سلمة (عن سهل بن سعد) الساعدي (-رضي الله عنه- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أتي بشراب فشرب منه وعن يمينه غلام) هو ابن عباس (وعن يساره الأشياخ) خالد بن الوليد وغيره (فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (للغلام):
(أتأذن لي أن أعطي هؤلاء) الذين على اليسار (فقال الغلام) له: (والله يا رسول الله لا أوثر بنصيبي منك أحدًا. قال) سهل: (فتله) بفتح الفوقية واللام المشددة أي وضعه (رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في يده) في يد ابن عباس وفيه بيان استحباب التيامن في كل ما كان من أنواع الإكرام وأن الأيمن في الشرب ونحوه يقدم وإن كان صغيرًا أو مفضولاً وأما تقديم الأفاضل والكبار فهو عند التساوي في باقي الأوصاف.

20 - باب الْكَرْعِ فِى الْحَوْضِ
(باب الكرع في الحوض) بسكون الراء أي تناول الماء بالفم من الحوض بغير إناء ولا كف.
5621 - حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ صَالِحٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ، فَسَلَّمَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَصَاحِبُهُ، فَرَدَّ الرَّجُلُ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى، وَهْىَ سَاعَةٌ حَارَّةٌ، وَهْوَ يُحَوِّلُ فِى حَائِطٍ لَهُ يَعْنِى الْمَاءَ فَقَالَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ فِى شَنَّةٍ». وَإِلاَّ كَرَعْنَا وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِى حَائِطٍ فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِى مَاءٌ بَاتَ فِى شَنَّةٍ فَانْطَلَقَ إِلَى الْعَرِيشِ فَسَكَبَ فِى قَدَحٍ مَاءً ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ فَشَرِبَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ أَعَادَ فَشَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِى جَاءَ مَعَهُ.
وبه قال: (حدّثنا

(8/330)


يحيى بن صالح) الحمصي الحافظ الفقيه قال: (حدّثنا فليح بن سليمان) العدوي مولاهم المدني (عن سعيد بن الحارث) قاضي المدينة (عن جابر بن عبد الله) الأنصاري (-رضي الله عنهما- أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دخل على رجل من الأنصار) سبق فيما قبل أنه أبو الهيثم بن التيهان بستانه (ومعه) عليه الصلاة والسلام (صاحب له) وهو أبو بكر -رضي الله عنه- (فسلّم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وصاحبه) أبو بكر عليه (فردّ الرجل) الأنصاري عليهما (فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي) أي مفدي بأبي وأمي (وهي) أي الساعة التي أتيت فيها (ساعة حارة وهو) أي والحال أنّ الرجل (يحوّل في حائط له يعني الماء) من قعر البئر إلى ظاهرها (فقال النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) للرجل:
(إن كان عندك ماء بات في شنة) بفتح المعجمة قربة خلقة (وإلاّ كرعنا) شربنا بفينا (والرجل) أي والحال أن الرجل (يحوّل الماء في حائط) يجريه من جانب إلى جانب في بستانه (فقال الرجل: يا رسول الله عندي ماء بات) وللكشميهني بائت (في شنة فانطلق) بفتحات النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ومعه أبو بكر (إلى العريش) موضع مظلل عليه في البستان بخشب وثمام (فسكب) الرجل (في قدح ماء ثم حلب عليه) لبنًا (من) شاة (داجن له) وهي التي تألف البيوت (فشرب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثم أعاد فشرب الرجل الذي جاء معه) وهو أبو بكر -رضي الله عنه-، ولأحمَد وسقى صاحبه.
فإن قلت: ما المطابقة بين الترجمة والحديث؟ أجيب: من جهة أن جابرًا أعاد قوله وهو يحوّل الماء في أثناء مخاطبة النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- للرجل مرتين وإن كان الظاهر أنه كان ينقله من أسفل البئر إلى أعلاها فكأنه كان هناك حوض يجمعه فيه ثم يحوّله من جانب إلى جانب.
وهذا الحديث سبق قريبًا في باب شوب اللبن بالماء.

21 - باب خِدْمَةِ الصِّغَارِ الْكِبَارَ
(باب خدمة الصغار الكبار).
5622 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسًا - رضى الله عنه - قَالَ: كُنْتُ قَائِمًا عَلَى الْحَىِّ أَسْقِيهِمْ عُمُومَتِى وَأَنَا أَصْغَرُهُمُ الْفَضِيخَ، فَقِيلَ حُرِّمَتِ الْخَمْرُ، فَقَالُوا: أَكْفِئْهَا، فَكَفَأْنَا، قُلْتُ لأَنَسٍ: مَا شَرَابُهُمْ؟ قَالَ: رُطَبٌ وَبُسْرٌ. فَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ أَنَسٍ: وَكَانَتْ خَمْرَهُمْ. فَلَمْ يُنْكِرْ أَنَسٌ وَحَدَّثَنِى بَعْضُ أَصْحَابِى أَنَّهُ سَمِعَ أَنَسًا يَقُولُ: كَانَتْ خَمْرَهُمْ يَوْمَئِذٍ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا معتمر عن أبيه) سليمان أنه (قال: سمعت أنسًا -رضي الله عنه- قال: كنت قائمًا على الحيّ أسقيهم) بالحاء المهملة والتحتية المشددة واحد أحياء العرب (عمومتي) جمع عم (وأنا أصغرهم الفضيخ) بالمعجمتين أي الخمر المتخذ من البسر المشدوخ (فقيل حرمت الخمر) بضم الحاء المهملة مبنيًّا للمفعول (فقالوا: أكفئها) بكسر الهمزة هنا في الفرع كأصله وكسر الفاء بعدها همزة ساكنة (فكفأنا) بحذف ضمير المفعول ولأبي ذر
عن الكشميهني فكفأناها، قال سليمان: (قلت لأنس ما) كان (شرابهم؟ قال: رطب وبسر) أي خمر متخذ منهما (فقال أبو بكر بن أنس: وكانت خمرهم) يومئذ (فلم ينكر أنس) ذلك قال بكر بن عبد الله المزني، أو قتادة (وحدّثني) بالإفراد (بعض أصحاب أنه سمع أنسًا) -رضي الله عنه- (يقول: كانت) خمرة الفضيخ (خمرهم يومئذ).
وهذا الحديث سبق في باب نزول تحريم الخمر وهي من البسر والتمر أوائل كتاب الأشربة وهو ظاهر فيما ترجم له هناك.

22 - باب تَغْطِيَةِ الإِنَاءِ
(باب تغطية الإناء).
5623 - حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ أَخْبَرَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ أَخْبَرَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا كَانَ جُنْحُ اللَّيْلِ أَوْ أَمْسَيْتُمْ فَكُفُّوا صِبْيَانَكُمْ، فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ تَنْتَشِرُ حِينَئِذٍ، فَإِذَا ذَهَبَ سَاعَةٌ مِنَ اللَّيْلِ فَحُلُّوهُمْ، فَأَغْلِقُوا الأَبْوَابَ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لاَ يَفْتَحُ بَابًا مُغْلَقًا، وَأَوْكُوا قِرَبَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَخَمِّرُوا آنِيَتَكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ، وَلَوْ أَنْ تَعْرُضُوا عَلَيْهَا شَيْئًا وَأَطْفِئُوا مَصَابِيحَكُمْ».
وبه قال: (حدّثنا) ولأبي ذر حدّثني بالإفراد (إسحاق بن منصور) الكوسج أبو يعقوب المروزي قال: (أخبرنا روح بن عبادة) بفتح الراء في الأول وضم العين وتخفيف الموحدة في الثاني قال: (أخبرنا ابن جريج) عبد الملك بن عبد العزيز (قال: أخبرني) بالإفراد (عطاء) هو ابن أبي رباح (أنه سمع جابر بن عبد الملك) الأنصاري (-رضي الله عنهما- يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا كان جنح الليل) بكسر الجيم في الفرع كأصله وتضم طائفة من الليل وأراد به هاهنا الطائفة الأولى منه عند ابتداء فحمة العشاء (أو أمسيتم) شك من الراوي أي دخلتم في المساء (فكفوا) بضم الكاف والفاء المشددة امنعوا (صبيانكم) من الخروج حينئذٍ (فإن الشياطين تنتشر) تذهب وتجيء (حينئذ) فربما يحصل لهم إيذاء منهم من صرع أو غيره (فإذا ذهب ساعة من الليل فحلوهم) بضم الحاء المهملة واللام المشددة (وأغلقوا الأبواب واذكروا اسم الله فإن الشيطان) بالإفراد، ولأبي ذر عن الحموي والمستملي فخلوهم بالخاء المعجمة المفتوحة

(8/331)


واللام المشددة فإن الشياطين بالجمع (لا يفتح بابًا مغلقًا) إذا ذكر اسم الله عليه (وأوكوا) بضم الكاف وسكون الواو بلا همز (قربكم) شدوا رؤوسها بالوكاء (واذكروا اسم الله) عند ذلك (وخمروا) بفتح الخاء المعجمة وتشديد الميم مكسورة غطوا (آنيتكم واذكروا اسم الله) عند تغطيتها (ولو أن تعرضوا) بضم الراء (عليها) على الآنية ولأبي ذر عن الحموي والمستملي عليه أي الإناء (شيئًا) وجواب لو محذوف أي لو خمرتموها بشيء نحو العود وذكرتم اسم الله عليها لكان كافيًا والمقصود ذكر اسم الله تعالى مع
كل فعل صيانة عن الشيطان والوباء والحشرات والهوام على ما ورد بسم الله الذي لا يضرّ مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء (وأطفئوا مصابيحكم) بكسر الفاء بعدها همزة مضمومة فإن الفأرة ربما تضرم عليكم البيوت بالنار.
وفي هذا الحديث جملة من الآداب من جلب المصالح ودفع المضار من كف الصبيان وغلق الأبواب وإيكاء القرب وغير ذلك مما لا يخفى.
وهذا الحديث سبق في صفة إبليس.
5624 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ جَابِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «أَطْفِئُوا الْمَصَابِيحَ إِذَا رَقَدْتُمْ، وَغَلِّقُوا الأَبْوَابَ وَأَوْكُوا الأَسْقِيَةَ وَخَمِّرُوا الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ، وَأَحْسِبُهُ، قَالَ: وَلَوْ بِعُودٍ تَعْرُضُهُ عَلَيْهِ».
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا همام) بفتح الهاء والميم المشددة
ابن يحيى (عن عطاء) هو ابن أبي رباح (عن جابر) الأنصاري -رضي الله عنه- (أن رسول الله-
قال):
(اطفئوا المصابيح إذا رقدتم) خوف الفويسقة أن تضرم على أهل البيت بيتهم، وفي حديث ابن عباس عند أبي داود: جاءت فأرة فأخذت تجرّ الفتيلة فجاءت بها فألقتها بين يدي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- على الخمرة التي كان قاعدًا عليها فأحرقت منها موضع درهم، وفي الصحيح أنه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: (لا تتركوا النار في بيوتكم حين تنامون) قال النووي: هذا عام يدخل فيه نار السراج وغيرها وأما القناديل المعلقة في المساجد وغيرها فإن خيف حريق بسببها دخلت في الأمر بالإطفاء وإن أمن ذلك كما هو الغالب، فالظاهر أنه لا بأس بها لانتفاء العلة التي علل بها -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وإذا انتفت العلة زال المنع (وغلقوا) بتشديد اللام المكسورة ولأبي ذر وأغلقوا (الأبواب وأوكوا الأسقية) بلا همز بعد الكاف المضمومة (وخمروا) بالخاء المعجمة غطوا (الطعام والشراب، وأحسبه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: ولو) أن تخمروها (بعود تعرضه عليه) على الإناء فإنه كاف في ذلك مع التسمية قال: في شرح المشكاة يقال: عرضت العود على الإناء أعرضه بكسر الراء في قول عامة الناس إلا الأصمعي فإنه قال أعرضه مضمومة الراء في هذا خاصة والمعنى هلا تغطيه بغطاء فإن لم تفعل فلا أقل من أن تعرض عليه شيئًا.

23 - باب اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ
(باب اختناث الأسقية) المتخذة من الأدم والاختناث بالخاء المعجمة الساكنة والفوقية المكسورة
وبعد النون ألف فمثلثة افتعال من الخنث وهو الانطواء والتكسر والانثناء.
5625 - حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِىِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ عَنْ
أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِىِّ - رضى الله عنه - قَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ، يَعْنِى أَنْ تُكْسَرَ أَفْوَاهُهَا فَيُشْرَبَ مِنْهَا. [الحديث 5625 - أطرافه في: 5626].
وبه قال: (حدّثنا آدم) بن أبي إياس قال: (حدّثنا ابن أبي ذئب) محمد بن عبد الرحمن فقيه أهل المدينة (عن الزهري) محمد بن مسلم (عن عبيد الله) بضم العين (ابن عبد الله بن عتبة) بن مسعود (عن أبي سعيد) سعد بن مالك (الخدري -رضي الله عنه-) أنه (قال: نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- اختناث الأسقية يعني أن تكسر) أي تثنى (أفواهها فيشرب منها) وليس المراد كسرها حقيقة ولا إبانتها وفي رواية أبي النضر عن ابن أبي ذئب عند أحمد حذف يعني وحينئذٍ فالتفسير مدرج في الحديث.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأشربة وكذا أبو داود والترمذي وابن ماجة.
5626 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ: حَدَّثَنِى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَنْهَى عَنِ اخْتِنَاثِ الأَسْقِيَةِ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: قَالَ مَعْمَرٌ أَوْ غَيْرُهُ هُوَ الشُّرْبُ مِنْ أَفْوَاهِهَا.
وبه قال: (حدّثنا محمد بن مقاتل) المروزي قال: (أخبرنا عبد الله) بن المبارك المروزي قال: (أخبرنا يونس) بن يزيد الأيلي (عن الزهري) محمد بن مسلم بن شهاب أنه (قال: حدّثني) بالإفراد (عبيد الله) بضم العين وفتح الموحدة (ابن عبد الله) بن عتبة بن مسعود (أنه سمع أبا سعيد الخدري) -رضي الله عنه- (يقول: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ينهى) نهي إرشاد (عن اختناث الأسقية قال عبد الله) بن المبارك (قال معمر) هو ابن راشد (أو غيره) أي غير معمر (هو) أي الاختناث (الشرب من أفواهها).
قال في القاموس: الفاه

(8/332)


والفوه بالضم والفيه بالكسر والفم سواء الجمع أفواه وأفمام ولا واحد لها لأن فما أصله فوه حذفت الهاء كما حذفت من سنة وبقيت الواو طرفًا متحركة فوجب إبدالها ألفًا لانفتاح ما قبلها فبقي فا، ولا يكون الاسم على حرفين أحدهما التنوين فأبدل مكانها حرف جلد مشاكل لها وهو الميم لأنهما شفهيتان وفي الميم هويّ في الفم يضارع امتداد الواو ويقال في تثنيته فمان وفموان وفميان والأخيران نادران انتهى.
وعند مسلم من طريق وهب بن يونس عن ابن شهاب نهى عن اختناث الأسقية أن يشرب من أفواهها وقد جزم الخطابي أن تفسير الاختناث من قول الزهري ويحمل تفسير الطلق وهو الشرب من أفواهها على المقيد بكسر فمها أو قلب رأسها.

24 - باب الشُّرْبِ مِنْ فَمِ السِّقَاءِ
(باب الشرب من فم السقاء) بتخفيف الميم وقد تشدد وفي نسخة من في السقاء بالياء بدل الميم.
5627 - حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: لَنَا عِكْرِمَةُ: أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِأَشْيَاءَ قِصَارٍ حَدَّثَنَا بِهَا أَبُو هُرَيْرَةَ؟ نَهَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فَمِ الْقِرْبَةِ أَوِ السِّقَاءِ وَأَنْ يَمْنَعَ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِى دَارِهِ.
وبه قال: (حدّثنا علي بن عبد الله) المديني قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة قال: (حدّثنا أيوب) بن تميمة السختياني (قال: قال لنا عكرمة) مولى ابن عباس وعند الحميدي عن سفيان حدّثنا أيوب السختياني أخبرنا عكرمة (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام (أخبركم بأشياء قصار) فقلنا أخبرنا فقال: (حدّثنا بها) أي بالأشياء (أبو هريرة) -رضي الله عنه- (نهى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الشرب من فم القربة أو السقاء) لأن جريان الماء دفعه وانصبابه في المعدة يضرّ بها أو لأنه ربما يغير رائحتها بنفسه وربما يكون فيها حيّة أو شيء من الهوام لا يراه الشارب فيدخل جوفه، وعند ابن ماجة والحاكم أن رجلاً قام من الليل إلى السقاء فاختنثه فخرجت منه حيّة وإن ذلك بعد نهيه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن اختناث الأسقية (و) نهى (أن يمنع) الشخص (جاره أن يغرز خشبه) بالهاء على الجمع ولأبي ذر خشبة بالفوقية على الإفراد (في داره) ولأبي ذر: في جداره وهو محمول على الاستحباب، وقال: ألا أخبركم بأشياء بصيغة الجمع ولم يذكر إلا شيئين، فيحتمل أن يكون أخبر بالثالث فاختصره الراوي، ويؤيده أن الإمام أحمد زاد في الحديث المذكور النهي عن الشرب قائمًا.
وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة في الأشربة.
5628 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ أَخْبَرَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ - رضى الله عنه قَالَ: - نَهَى النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنْ يُشْرَبَ مِنْ فِى السِّقَاءِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) هو ابن مسرهد قال: (حدّثنا إسماعيل) ابن علية قال: (أخبرنا أيوب) السختياني (عن عكرمة عن أبي هريرة -رضي الله عنه-) أنه (قال: نهى النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن يشرب) بضم أوله وفتح ثالثه (من في السقاء) قال في القاموس: السقاء ككساء جلد السخلة إذا أجذع يكون للماء واللبن الجمع أسقية وأسقيات والنهي للتنزيه وما ذكر من أنه لا يؤمن من دخول شيء من الهوام مع الماء في جوف الشارب من السقاء وهو لا يشعر يقتضي أنه لو ملأ السقاء وهو يشاهد الماء الداخل وأحكم ربطه ثم شرب منه بعد لا يتناوله النهي، وما روي في حديث عائشة بسند قوي عند الحاكم بلفظ ينهى أن يشرب من في السقاء لأن ذلك ينتنه يقتضي أن يكون النهي خاصًّا بمن شرب فيتنفس داخله أو باشر بفتح باطن السقاء فلو صمت من فم السقاء داخل فمه من غير مماسة فلا.
5629 - حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ زُرَيْعٍ حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رضى الله عنهما - قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الشُّرْبِ مِنْ فِى السِّقَاءِ.
وبه قال: (حدّثنا مسدد) قال: (حدّثنا يزيد بن زريع) بضم الزاي وفتح الراء آخره عين مهملة مصغرًا قال: (حدّثنا خالد) الحذاء (عن عكرمة عن ابن عباس -رضي الله عنهما-) أنه (قال: نهى النبي-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عن الشرب من في السقاء) وقد قيل في علة ذلك زيادة على ما سبق أنه ربما يغلبه الماء فينصب منه أكثر من حاجته فتبتل ثيابه وربما فسد الوعاء ويتقذره غيره لما يخالط الماء من ريق الشارب فيؤول إلى إضاعة المال. قال ابن العربي: واحدة مما ذكر تكفي في ثبوت الكراهة ومجموعها يقوّي الكراهة جدًّا. وقال ابن أبي حمزة الذي يقتضيه الفقه أنه لا يبعد أن يكون النهي بمجموع هذه الأمور وفيها ما يقتضي الكراهة وما يقتضي التحريم والقاعدة في مثل ذلك ترجيح القول بالتحريم انتهى.
وقول النووي يؤيد كون النهي للتنزيه أحاديث الرخصة في ذلك تعقبه في الفتح بأنه لم ير في شيء من الأحاديث المرفوعة ما يدل

(8/333)


على الجواز إلا من فعله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وأحاديث النهي كلها من قوله فهي أرجح إذا نظرنا إلى علة النهي عن ذلك، فإن جميع ما ذكروه في ذلك يقتضي أنه مأمون منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-أما أوّلاً فلعصمته وطيب نكهته وأما خوف دخول شيء من الهوام في الجوف فقد سبق ما فيه.
وهذا الحديث أخرجه ابن ماجة في الأشربة.

25 - باب التَّنَفُّسِ فِى الإِنَاءِ
(باب التنفس) أي حكمه ولأبي ذر باب النهي عن التنفس (في الإناء).
5630 - حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ عَنْ يَحْيَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى قَتَادَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «إِذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَنَفَّسْ فِى الإِنَاءِ وَإِذَا بَالَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَمْسَحْ ذَكَرَهُ بِيَمِينِهِ وَإِذَا تَمَسَّحَ أَحَدُكُمْ فَلاَ يَتَمَسَّحْ بِيَمِينِهِ».
وبه قال: (حدّثنا أبو نعيم) الفضل بن دكين قال: (حدّثنا شيبان) بالشين المعجمة ابن عبد الرحمن النحوي (عن يحيى) بن أبي كثير (عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه) أبي قتادة الحارث بن ربعي الأنصاري -رضي الله عنه- أنه (قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-):
(إذا شرب أحدكم) ماء أو غيره (فلا يتنفس في) داخل (الإناء) خوف ما ذكره من تقذر في الباب السابق فلو كان وحده أو مع من لا يتقذر منه فلا بأس به (وإذا بال أحدكم فلا يمسح ذكره) ولا دبره (بيمينه وإذا تمسح أحدكم فلا يتمسح بيمينه) تشريفًا لليمين عن مماسة ما فيه أذى والنهي للتنزيه عند الجمهور ومباحث ذلك مرت في باب النهي عن الاستنجاء باليمين في الطهارة.

26 - باب الشُّرْبِ بِنَفَسَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةٍ
(باب الشرب بنفسين أو ثلاثة).
5631 - حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ قَالاَ: حَدَّثَنَا عَزْرَةُ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ: أَخْبَرَنِى ثُمَامَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كَانَ أَنَسٌ يَتَنَفَّسُ فِى الإِنَاءِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَتَنَفَّسُ ثَلاَثًا.
وبه قال: (حدّثنا أبو عاصم) الضحاك بن مخلد النبيل (وأبو نعيم) الفضل بن دكين (قالا: حدّثنا عزرة) بفتح العين المهملة وسكون الزاي بعدها راء فهاء تأنيث (ابن ثابت) التابعي الصغير الأنصاري الأصل المدني نزيل البصرة (قال: أخبرني) بالإفراد (ثمامة بن عبد الله) بضم المثلثة وتخفيف الميم ابن أنس (قال: كان أنس) أي جده -رضي الله عنه- (يتنفس في) الشرب من (الإناء مرتين أو ثلاثًا) بأن يبين الإناء عن فمه ثم يتنفس خارجه ثم ليعد ولا يجعل نفسه داخل الإناء لأنه قد يقع منه شيء من الريق فيعافه الشارب وأو للتنويع أو للشك من الراوي وفي حديث ابن عباس رفعه بسند ضعيف عند الترمذي لا تشربوا واحدة كما يشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث ولم يقل أو (وزعم أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أي قال: (كان يتنفس ثلاثًا). ولمسلم والسنن من طريق عاصم هو أروى وأمرأ وأبرأ أي أكثر ربا وأمرأ بالميم صار مريئًا وأبرأ بالهمز أي يبرئ من الأذى والعطش فهو أقمع للعطش وأقوى على الهضم وأقل أثرًا في برد المعدة وضعف الأعصاب، وفي حديث أبي هريرة المروي في الأوسط للطبراني بسند حسن أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان يشرب في ثلاثة أنفاس إذا أدنى الإناء إلى فيه سمى الله فإذا أخّره حمد الله يفعل ذلك ثلاثًا.
وحديث الباب أخرجه مسلم والترمذي وابن ماجة في الأشربة والنسائي في الوليمة.

27 - باب الشُّرْبِ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ
(باب) حكم (الشرب في آنية الذهب).
5632 - حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْحَكَمِ عَنِ ابْنِ أَبِى لَيْلَى قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَايِنِ، فَاسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِقَدَحِ فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ فَقَالَ: إِنِّى لَمْ أَرْمِهِ إِلاَّ أَنِّى نَهَيْتُهُ فَلَمْ يَنْتَهِ وَإِنَّ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نَهَانَا عَنِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالشُّرْبِ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَقَالَ: «هُنَّ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا، وَهْىَ لَكُمْ فِى الآخِرَةِ».
وبه قال: (حدّثنا حفص بن عمر) الحوضي قال: (حدّثنا شعبة) بن الحجاج (عن الحكم) بفتحتين ابن عتيبة بضم العين وفتح الفوقية مصغرًا (عن ابن أبي ليلى) عبد الرحمن أنه (قال: كان حذيفة) بن اليمان (بالمدائن) مدينة عظيمة على دجلة بينها وبين بغداد سبعة فراسخ بها إيوان كسرى (فاستسقى) طلب ماء ليشرب (فأتاه دهقان) بكسر الدال المهملة وسكون الهاء وفتح القاف وبعد الألف نون كبير القرية بالفارسية ولم أقف على اسمه (بقدح فضة) بالإضافة (فرماه به) فكسره (فقال) معتذرًا لمن حضره (إني لم أرمه إلا أني نهيته) أن يسقيني فيه (فلم ينته وأن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نهانا) نهي تحريم (عن) استعمال (الحرير والديباج) في اللبس والديباج ثياب متخذة من إبريسم فارسيّ
معرّب (و) عن (الشرب في آنية الذهب والفضة) وعند أحمد من طريق مجاهد عن ابن أبي ليلى نهى أن يشرب في آنية الذهب والفضة وأن يؤكل فيها (وقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(هنّ) بنون مشددة ولأبي داود هي ولمسلم هو أي ما ذكر (لهم)

(8/334)


أي للكفار كما يدل عليه السياق (في الدنيا) يستعملونها مخالفة للمسلمين (وهي لكم) معاشر المؤمنين تستعملونها (في الآخرة) مكافأة لكم على تركها في الدنيا ويمنعها أولئك جزاء لهم على معصيتهم باستعمالها كذا قرّره الإسماعيلي.
وهذا الحديث مرّ في باب الأكل في إناء مفضض من كتاب الأطعمة.

28 - باب آنِيَةِ الْفِضَّةِ
(باب) حكم استعمال (آنية الفضة).
5633 - حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِى عَدِىٍّ عَنِ ابْنِ عَوْنٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ أَبِى لَيْلَى قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ حُذَيْفَةَ وَذَكَرَ النَّبِىَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «لاَ تَشْرَبُوا فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلاَ تَلْبَسُوا الْحَرِيرَ وَالدِّيبَاجَ، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِى الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِى الآخِرَةِ».
وبه قال: (حدّثنا محمد بن المثنى) أبو موسى العنزي الحافظ قال: (حدّثنا ابن أبي عدي) محمد واسم أبي عدي إبراهيم البصري (عن ابن عون) عبد الله (عن مجاهد) هو ابن جبر (عن ابن أبي ليلى) عبد الرحمن أنه (قال: خرجنا مع حذيفة) بن اليمان، زاد الإسماعيلي إلى بعض السواد فاستسقى فأتاه دهقان بإناء من فضة فرماه به في وجهه قال: فقلنا اسكتوا فإنّا إن سألناه لم يحدّثنا قال: فسكتنا فلما كان بعد ذلك قال: أتدرون لِمَ رميته بهذا في وجهه؟ قلنا: لا. قال: ذاك أني كنت نهيته قال: (وذكر النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) أنه (قال):
(لا تشربوا في آنية الذهب والفضة) ويقاس بالشرب والأكل غيرهما وإنما خصا بالذكر لغلبتهما وهل حرم الذهب والفضة لعينهما أو للسرف أو للخيلاء قولان. الجديد أنهما لعينهما، وقد يعللون بالثاني فالوجه مراعاة كل منهما في الآخر شرطًا ليصح الحكم في المموّه والمغشى بنحاس وليفارق الضعيف المعلل بالثاني في المموّه وفهم من حرمتهما حرمة الاستئجار لفعلهما وأخذ الأجرة على صنعتهما وعدم الغرم على كاسر ذلك كآلات الملاهي ومن التقييد بالذهب والفضة حلّ غيرهما ولو من جوهر نفيس كياقوت لانتفاء علة التحريم (ولا تلبسوا الحرير والديباج فإنها) أي جميع ما نهى عنه (لهم في الدنيا) يتعلق قوله لهم بخبر إن والضمير يعود على المشركين أو على من عصى بها من المؤمنين فإنه لا ينعم بها في الآخرة وإن دخل الجنة (ولكم في الآخرة) أي الاختصاص بها لمن اجتنبها في الدنيا.
5634 - حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ حَدَّثَنِى مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: «الَّذِى يَشْرَبُ فِى إِنَاءِ الْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِى بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ».
وبه قال: (حدّثنا إسماعيل) بن أبي أويس (قال: حدّثني) بالتوحيد (مالك بن أنس) الأصبحي الإمام (عن نافع) مولى ابن عمر (عن زيد بن عبد الله بن عمر) التابعي الثقة (عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق) -رضي الله عنه- (عن) خالته (أم سلمة) هند بنت أبي أمية -رضي الله عنها- (زوج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال):
(الذي يشرب في إناء الفضة) ولأبي ذر: في آنية الفضة ولمسلم من طريق عثمان بن مرّة عن عبد الله بن عبد الرحمن من شرب من إناء ذهب أو فضة وله أيضًا من رواية عليّ بن مسهر عن عبيد الله بن عمر العمري عن نافع أن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة لكن تفرّد علي بن مسهر بقوله يأكل (إنما يجرجر في بطنه نار جهنم) بضم التحتية وفتح الجيم الأولى وكسر الثانية بينهما راء ساكنة وآخره راء أيضًا صوت تردد البعير في حنجرته إذا هاج وصب الماء في الحلق كالتجرجر والتجرجر أن يجرعه جرعًا متداركًا جرجر الشراب وجرجره سقاه على تلك الصفة، وقول النووي اتفقوا على كسر الجيم الثانية من يجرجر تعقب بأن الموفق ابن حمزة في كلامه على المهذّب حكى فتحها، وحكى الوجهين ابن الفركاح وابن مالك في شواهد التوضيح وتعقب بأنه لا يعرف أن أحدًا من الحفاظ رواه مبنيًّا للمفعول ويبعد اتفاق الحفاظ قديمًا وحديثًا على ترك رواية ثابتة قال: وأيضًا إسناده إلى الفاعل هو الأصل إلى المفعول فرع فلا يصار إليه بغير فائدة، وقوله نار جهنم بنصب نار في الفرع على أن الجرجرة هي التي تصوّت في البطن والأشهر الأول.
وقال في شرح المشكاة: وأما الرفع فمجاز لأن جهنم في الحقيقة لا تجرجر في جوفه والجرجرة صوت البعير عند الضجر ولكنه جعل صوت تجرّع الإنسان للماء في هذه الأواني المخصوصة لوقوع النهي عنها واستحقاق العقاب على استعمالها كجرجرة نار جهنم في بطنه من طريق المجاز وقد يجعل

(8/335)


يجرجر بمعنى يصب ويكون نار جهنم منصوبًا على أن ما كافة أو مرفوعًا على أنه خبر إن واسمها ما الموصولة ولا تجعل حينئذ كافة، وفي الحديث حرمة استعمال الذهب والفضة في الأكل والشرب والطهارة والأكل بملعقة من أحدهما والتجمر بمجمرة والبول في الإناء وحرمة الزينة به واتخاذه، ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة وإنما فرّق بينهما في التحلي لما يقصد فيها من الزينة للزوج ولا في الإناء بين الكبير والصغير ولو بقدر الضبة الجائزة كإناء الغالية وخرج بالتقييد بالاستعمال والزينة والاتخاذ حلّ شم رائحة مجمرة الذهب والفضة من بعد قال في المجموع: أن يكون بعدها بحيث لا يعدّ متطيّبًا بها فإن جمّر بها ثيابه أو بيته حرم وإن ابتلي بطعام فيهما فليخرجه إلى إناء آخر من غيرهما أو بدهن في إناء من أحدهما فليصبه في يده اليسرى ويستعمله.
ورجال هذا الحديث كلهم مدنيون وأخرجه مسلم في الأطعمة والنسائي في الوليمة وابن ماجة في الأشربة.
5635 - حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الأَشْعَثِ بْنِ سُلَيْمٍ عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ سُوَيْدِ بْنِ مُقَرِّنٍ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْعٍ وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَاتِّبَاعِ الْجِنَازَةِ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ وَإِجَابَةِ الدَّاعِى، وَإِفْشَاءِ السَّلاَمِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ، وَإِبْرَارِ الْمُقْسِمِ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمِ الذَّهَبِ، وَعَنِ الشُّرْبِ فِى الْفِضَّةِ وَعَنِ الْمَيَاثِرِ، وَالْقَسِّىِّ، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ وَالإِسْتَبْرَقِ.
وبه قال: (حدّثنا موسى بن إسماعيل) التبوذكي قال: (حدّثنا أبو عوانة) الوضاح اليشكري (عن الأشعث) ولأبي ذر عن أشعث (بن سليم) بضم السين مصغرًا (عن معاوية بن سويد بن مقرّن) بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة بعدها نون (عن البراء بن عازب) -رضي الله عنه- أنه (قال: أمرنا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بسبع) أي بسبع خصال أو نحوه فمميز العدد محذوف ومنها ما هو للإيجاب وما هو للندب لا يقال إن ذلك من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه لأن ذلك إنما هو في صيغة أفعل أما لفظ الأمر فيطلق عليهما حقيقة على المرجح لأنه حقيقة في القول المخصوص (ونهانا عن سبع أمرنا) بدل من أمرنا الأول (بعيادة المريض) مصدر مضاف إلى مفعوله والأصل في عيادة عوادة لأنه مَن عاده يعوده فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها من مادّة العود وهو الرجوع إلى الشيء بعد الانصراف عنه إما بالذات أو بالقول أو بالعزم وقد يطلق العود على الطريق القديم فإن أخذ من الأول فقد يشعر بتكرار العيادة وإن أخذ من الثاني بعد نقله عرفًا إلى الطريق لم يدل على ذلك قاله في شرح الإلمام. (واتّباع الجنازة) بتشديد المثناة الفوقية (وتشميت العاطس) بالشين المعجمة في الأولى بأن يقول له يرحمك الله إذا حمد الله (وإجابة الداعي) إلى الوليمة أو غيرها (وإفشاء السلام) انتشاره وظهوره (ونصر المظلوم) إعانته سواء كان مسلمًا أو ذميًّا وكفّه عن الظلم (وإبرار المقسم) بكسر الهمزة في الأول وضم الميم وكسر السين بينهما قاف ساكنة آخره ميم مصدر مضاف إلى المفعول كالسوابق وهي اتّباع الجنازة وما بعدها والمعنى إبرار يمين المقسم ولأبي ذر: وإبرار القسم بفتح القاف والسين بغير ميم قبل القاف الحلف وهو مصدر محذوف الزوائد لأن الأصل أقسم إقسامًا، ويحتمل أن يكون المراد إبرار الإنسان قسم نفسه بأن يفي بمقتضى يمينه أو إبرار قسم غيره بأن لا يحنثه (ونهانا عن) لبس (خواتيم الذهب) جمع خاتم بكسر التاء وفتحها وخيتام وخاتام أربع لغات (وعن الشرب في الفضة أو قال آنية الفضة) ففي آنية الذهب أولى والشك من الراوي وذكر الشراب ليس قيدًا بل خرج مخرج الغالب (وعن) استعمال (المياثر) بفتح الميم والتحتية وبعد الألف مثلثة مكسورة فراء جمع ميثرة بكسر الميم وسكون التحتية من غير همز والأصل مؤثرة بالواو المكسورة وما قبلها فقلبت ياء لسكونها بعد الكسر لأنها من الوثار وهو الفراش الوطيء وهو من مراكب العجم يعمل من حرير أو ديباج ويتخذ كالفراش الصغير ويحشى
بقطن أو صوف يجعلها فوق الرحل والسرج (و) عن استعمال ثياب (القسي) بفتح القاف وكسر السين المهملة المشددة وتشديد التحتية أيضًا نسبة إلى قرية على ساحل بحر مصر قريبة من تنيس يعمل بها ثياب من كتان مخلوط بحرير، وفي البخاري فيها حرير أمثال الأترج وفي أبي داود عن علي -رضي الله عنه- أنه ثياب من الشام أو من مصر يصنع فيها أمثال الأترج. قال النووي: إن كان

(8/336)


حريرها أكثر فالنهي للتحريم وإلاّ فللتنزيه (وعن لبس الحرير) بضم اللام (والديباج) بكسر الدال وتفتح آخره جيم ما غلظ وثخن من ثياب الحرير (والإستبرق) بكسر الهمزة غليظ الديباج فارسي معرّب قاله الجواليقي، وذكره بعد الديباج من ذكر الخاص بعد العام أو أريد به ما رق من الديباج ليقابل ما غلظ منه فهو من التعبير عن الخاص بالعام واعلم أن هذه المنهيات كلها للتحريم بخلاف الأوامر.
وهذا الحديث قد مرّ في أوائل الجنائز في باب الأمر باتباع الجنائز.

29 - باب الشُّرْبِ فِى الأَقْدَاحِ
(باب) جواز (الشرب في الأقداح).
5636 - حَدَّثَنِى عَمْرُو بْنُ عَبَّاسٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَالِمٍ أَبِى النَّضْرِ عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ أَنَّهُمْ شَكُّوا فِى صَوْمِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ عَرَفَةَ فَبُعِثَ إِلَيْهِ بِقَدَحٍ مِنْ لَبَنٍ فَشَرِبَهُ.
وبه قال: (حدّثني) بالإفراد (عمرو بن عباس) بفتح العين وسكون الميم في الأول وبالموحدة المشددة والسين المهملة في الثاني البصري قال: (حدّثنا عبد الرحمن) بن مهدي قال: (حدّثنا سفيان) بن عيينة (عن سالم أبي النضر) بفتح النون وسكون الضاد المعجمة مولى عمر بن عبيد الله (عن عمير) بضم العين مصغرًا (مولى أم الفضل عن أم الفضل) لبابة أم عبد الله بن عباس رضي الله عنهم (أنهم شكوا في صوم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يوم عرفة) وهو بعرفة (فبعث) بضم الموحدة وكسر العين مبنيًّا للمفعول وفي الحج من طريق سفيان عن الزهري عن سالم أبي النضر فبعثت بسكون المثلثة وفي رواية فبعثت بسكون آخره أي لبابة (إليه) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (بقدح من لبن فشربه).
وهذا الحديث سبق في الحج والصوم.

30 - باب الشُّرْبِ مِنْ قَدَحِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآنِيَتِهِ وَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ: قَالَ لِى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلاَمٍ: أَلاَ أَسْقِيكَ فِى قَدَحٍ شَرِبَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِ
(باب الشرب من قدح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- و) الشرب من (آنيته) وهو من عطف العام على الخاص للتبرك به (وقال أبو بردة): عامر بن أبي موسى الأشعري مما وصله مطوّلاً في كتاب الاعتصام
(قال لي عبد الله بن سلام) بتخفيف اللام الصحابي المشهور -رضي الله عنه- (ألا) بفتح الهمزة وتخفيف اللام للعرض (أسقيك في قدح شرب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيه)؟
5637 - حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ حَدَّثَنَا أَبُو غَسَّانَ حَدَّثَنِى أَبُو حَازِمٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ - رضى الله عنه - قَالَ: ذُكِرَ لِلنَّبِىِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امْرَأَةٌ مِنَ الْعَرَبِ، فَأَمَرَ أَبَا أُسَيْدٍ السَّاعِدِىَّ أَنْ يُرْسِلَ إِلَيْهَا، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا فَقَدِمَتْ. فَنَزَلَتْ فِى أُجُمِ بَنِى سَاعِدَةَ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى جَاءَهَا فَدَخَلَ عَلَيْهَا، فَإِذَا امْرَأَةٌ مُنَكِّسَةٌ رَأْسَهَا، فَلَمَّا كَلَّمَهَا النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْكَ فَقَالَ: «قَدْ أَعَذْتُكِ مِنِّى»، فَقَالُوا: لَهَا أَتَدْرِينَ مَنْ هَذَا؟ قَالَتْ: لاَ. قَالُوا: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَ لِيَخْطُبَكِ. قَالَتْ: كُنْتُ أَنَا أَشْقَى مِنْ ذَلِكَ. فَأَقْبَلَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ حَتَّى جَلَسَ فِى سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ ثُمَّ قَالَ: اسْقِنَا يَا سَهْلُ، فَخَرَجْتُ لَهُمْ بِهَذَا الْقَدَحِ فَأَسْقَيْتُهُمْ فِيهِ. فَأَخْرَجَ لَنَا سَهْلٌ ذَلِكَ الْقَدَحَ فَشَرِبْنَا مِنْهُ، قَالَ: ثُمَّ اسْتَوْهَبَهُ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بَعْدَ ذَلِكَ فَوَهَبَهُ لَهُ.
وبه قال (حدّثنا سعيد بن أبي مريم) سالم الجمحي مولاهم المصري ونسبه لجده واسم أبيه محمد بن الحكم بن أبي مريم قال (حدّثنا أبو غسان) بالغين المعجمة المفتوحة والسين المهملة المشددة محمد بن مطرف بضم الميم وفتح المهملة وتشديد الراء المكسورة بعدها قال (حدّثني) بالإفراد (أبو حازم) بالحاء المهملة والزاي سلمة بن دينار (عن سهل بن سعد) الساعدي (-رضي الله عنه-) أنه (قال ذكر) بضم المعجمة وكسر الكاف (للنبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- امرأة من العرب) هي الجونية بضم الجيم وسكون الواو وكسر النون واسمها فيما قيل أميمة فأراد أن يتزوجها (فأمر أبا أسيد) بضم الهمزة وفتح المهملة مالك بن ربيعة (الساعدي) -رضي الله عنهما- (أن يرسل إليها) من يأتي بها (فأرسل إليها فقدمت فنزلت في أجم بني ساعدة) بضم الهمزة والجيم بناء يشبه القصر وهو من حصون المدينة (فخرج النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حتى جاءها فدخل عليها فإذا امرأة منكسة) بكسر الكاف المشددة (رأسها فلما كلمها النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-) وفي كتاب الطلاق قال: "هبي نفسك لي" (قالت) لشقائها (أعوذ بالله منك، فقال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-:
(قد أعذتك مني) الحقي بأهلك، (فقالوا لها أنذرين مَن هذا؟ قالت: لا، قالوا: هذا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جاء ليخطبك. قالت: كنت أنا أشقى من ذلك) يعني لما فاتها من التزويج به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فأقبل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومئذ حتى جلس في سقيفة بني ساعدة) موضع المبايعة بالخلافة لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه- (هو وأصحابه ثم قال) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (اسقنا يا سهل) قال سهل (فخرجت لهم بهذا القدح) وللأصيلي وأبي ذر عن الحموي والمستملي فأخرجت لهم هذا القدح (فأسقيتهم فيه) قال أبو حازم: (فأخرج لنا سهل ذلك القدح) الذي شرب منه -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (فشربنا منه) تبركًا به -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- (قال: ثم استوهبه عمر بن عبد العزيز بعد ذلك) لما كان أميرًا بالمدينة زادها الله شرفًا ورزقني الوفاة في عافية بلا محنة من سهل (فوهبه له) قال في الفتح:

(8/337)


وليست الهبة حقيقة بل من جهة الاختصاص.
وهذا الحديث أخرجه مسلم في الأشربة.
5638 - حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُدْرِكٍ قَالَ: حَدَّثَنِى يَحْيَى بْنُ حَمَّادٍ أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ عَاصِمٍ الأَحْوَلِ قَالَ: رَأَيْتُ قَدَحَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، وَكَانَ قَدِ انْصَدَعَ فَسَلْسَلَهُ بِفِضَّةٍ قَالَ: وَهْوَ قَدَحٌ جَيِّدٌ عَرِيضٌ مِنْ نُضَارٍ قَالَ أَنَسٌ: لَقَدْ سَقَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِى هَذَا الْقَدَحِ أَكْثَرَ مِنْ كَذَا وَكَذَا. قَالَ: وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: إِنَّهُ كَانَ فِيهِ حَلْقَةٌ مِنْ حَدِيدٍ فَأَرَادَ أَنَسٌ أَنْ يَجْعَلَ مَكَانَهَا حَلْقَةً مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَقَالَ لَهُ أَبُو طَلْحَةَ: لاَ تُغَيِّرَنَّ شَيْئًا صَنَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَرَكَهُ.
وبه قال (حدّثنا) بالجمع ولأبي ذر: حدّثني (الحسن بن مدرك) بفتح الحاء في الأول وضم الميم وكسر الراء في الثاني الطحان أبو علي البصري الحافظ (قال: حدّثني) بالإفراد (يحيى بن حماد) الشيباني مولاهم ختن أبي عوانة قال (أخبرنا أبو عوانة) الوضاح (عن عاصم الأحول) بن سليمان أي عبد الرحمن البصري الحافظ أنه (قال: رأيت قدح النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عند أنس بن مالك) -رضي الله عنه- وفي مختصر البخاري للقرطبي أن في بعض النسخ القديمة من البخاري. قال أبو عبد الله البخاري: رأيت هذا القدح بالبصرة وشربت فيه، وكان اشترى من ميراث النضر بن أنس بثمانمائة ألف (وكان قد انصدع) أي انشق (فسلسله) -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أو أنس أي وصل بعضه ببعض (بفضة، قال) عاصم: (وهو قدح جيد عريض) ليس بمتطاول بل طوله أقصر من عمقه (من) خشب (نضار) بنون مضمومة ومعجمة مخففة والنضار الخالص من كل شيء وقد قيل إنه عود أصفر يشبه لون الذهب وقيل إنه من الأثل وقيل من شجر النبع (قال) عاصم: (قال أنس) -رضي الله عنه- (لقد سقيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في هذا القدح أكثر من كذا وكذا) ولمسلم من طريق ثابت عن أنس لقد سقيت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بقدحي هذا الشراب كله العسل والنبيذ والماء واللبن (قال) عاصم (وقال ابن سيرين) محمد (إنه كان فيه) في القدح (حلقة من حديد) بسكون اللام كاللاحقة (فأراد أنس أن يجعل مكانها حلقة من ذهب أو فضة) بالشك من الراوي أو هو تردد من أن عند إرادة ذلك (فقال له أبو طلحة) زيد بن سهل الأنصاري زوج أم أنس: (لا تغيرن شيئًا صنعه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتركه) وقوله تغيرن بفتح الراء ونون التوكيد الثقيلة ولأبي ذر عن الكشميهني لا تغير بصيغة النهي من غير تأكيد، وفي الحديث جواز اتخاذ ضبة الفضة والسلسلة والحلقة أيضًا مما اختلف فيه ومنع ذلك مطلقًا جماعة من الصحابة والتابعين وهو قول مالك والليث وعن مالك يجوز من الفضة إذا كان يسيرًا وكرهه الشافعي قال: لئلا يكون شاربًا على فضة وأخذ بعضهم أن الكراهة تختص بما إذا كانت الفضة موضع الشرب وبذلك صرّح الحنفية وقال به أحمد، والذي تقرّر عند الشافعية تحريم ضبة الفضة إذا كانت كبيرة للزينة وجوازها إذا كانت صغيرة لحاجة أو صغيرة لزينة أو كبيرة لحاجة وتحريم ضبة الذهب مطلقًا وأصل ضبة الإناء ماء يصلح لها خلله من صفيحة أو غيرها وإطلاقها على ما هو للزينة توسع ومرجع الكبيرة والصغيرة العرف على الأصح، وقيل وهو الأشهر الكبيرة ما تستوعب جانبًا من الإناء كشفة وأذن والصغيرة دون ذلك فإن شك في الكبر فالأصل
الإباحة قاله في شرح المهذّب، والمراد بالحاجة غرض الإصلاح دون التزيين ولا يعتبر العجز عن غير الذهب والفضة لأن العجز عن غيرهما يبيح استعمال الإناء الذي كله ذهب أو فضة فضلاً عن المضبب.
وهذا الحديث قد سبق منه قطعة في باب ما جاء في درع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من كتاب الجهاد.

31 - باب شُرْبِ الْبَرَكَةِ وَالْمَاءِ الْمُبَارَكِ
(باب شرب البركة والماء المبارك) قال العيني: أراد بالبركة الماء وقال المهلب فيما نقله عنه في فتح الباري سمى الماء بركة لأن الشيء إذ كان مباركًا فيه سمي بركة وزاد الكرماني فقال كما قال أيوب لا غنى لي عن بركتك فسمى الذهب بركة.
5639 - حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنِ الأَعْمَشِ حَدَّثَنِى سَالِمُ بْنُ أَبِى الْجَعْدِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - هَذَا الْحَدِيثَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُنِى مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَدْ حَضَرَتِ الْعَصْرُ وَلَيْسَ مَعَنَا مَاءٌ غَيْرَ فَضْلَةٍ فَجُعِلَ فِى إِنَاءٍ فَأُتِىَ النَّبِىُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِهِ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهِ وَفَرَّجَ أَصَابِعَهُ، ثُمَّ قَالَ: «حَىَّ عَلَى أَهْلِ الْوُضُوءِ الْبَرَكَةُ مِنَ اللَّهِ». فَلَقَدْ رَأَيْتُ الْمَاءَ يَتَفَجَّرُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ. فَتَوَضَّأَ النَّاسُ وَشَرِبُوا. فَجَعَلْتُ لاَ آلُومَا جَعَلْتُ فِى بَطْنِى مِنْهُ فَعَلِمْتُ أَنَّهُ بَرَكَةٌ. قُلْتُ لِجَابِرٍ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ. تَابَعَهُ عَمْرٌو عَنْ جَابِرٍ وَقَالَ حُصَيْنٌ وَعَمْرُو بْنُ مُرَّةَ عَنْ سَالِمٍ عَنْ جَابِرٍ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً وَتَابَعَهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ جَابِرٍ.
وبه قال (حدّثنا قتيبة بن سعيد) البلخي قال (حدّثنا جرير) هو ابن عبد الحميد (عن الأعمش) سليمان بن مهران قال (حدّثني) بالإفراد (سالم بن أبي الجعد) الأشجعي مولاهم الكوفي (عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- هذا الحديث) قال الكرماني أشار إلى الذي بعده (قال: قد رأيتني) أي رأيت نفسي (مع النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وقد) أي والحال أن قد (حضرت العصر) أي صلاتها (وليس معنا ماء غير فضلة فجعل) ما فضل (في إناء فأتي النبي

(8/338)


-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- به) بضم همزة فأتي وكسر الفوقية (فأدخل يده) الكريمة (فيه وفرّج أصابعه ثم قال):
(حيّ على أهل الوضوء) بفتح الواو (البركة من الله) أي هذا الذي ترونه من زيادة الماء إنما هو من فضل الله وبركته ليس مني وهو الموجد للأشياء لا غيره وللنسفي على الوضوء بإسقاط لفظ أهل، قال في الفتح والعمدة والتنقيح: وهو أصوب كما في الحديث الآخر حيّ على الطهور المبارك، وتعقبه في المصابيح فقال كل صواب فإن حيّ بمعنى أقبل فإن كان المخاطب المأمور بالإقبال هو الذي يريد به الطهور كان سقوط أهل صوابًا أي أقبل أيها المريد للتطهر على الماء الطهور وإن جعلنا المخاطب هو الماء أراد النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- انبعاثه وتفجره من بين أصابعه نزله منزلة المخاطب تجوّزًا بإثبات أهل صواب أي أقبل أيها الماء الطهور على أهل الوضوء ووجه القاضي هذه
الرواية بأن يكون أهل منصوبًا على النداء بحذف حرف النداء كأنه قال: حي على الوضوء المبارك يا أهل الوضوء لكن يلزم عليه حذف المجرور وبقاء حرف الجر غير داخل في اللفظ على معموله وهو باطل ولا أعلم أحدًا أجازه، وقيل الصواب حي هلا على الوضوء المبارك فتحرفت لفظة أهل وحوّلت عن مكانها وحي اسم فعل للأمر بالإسراع وتفتح لسكون ما قبلها وهلا بتخفيف اللام وتنوينها كلمة استعجال. وقال الكرماني وفي بعضها حيّ على بتشديد الياء وأهل الوضوء منادى محذوف منه حرف النداء. قال جابر: (فلقد رأيت الماء يتفجر من بين أصابعه) من نفسها أو من بينها لا من نفسها وكلاهما معجزة عظيمة والأول أقعد في المعجزة كما لا يخفى (فتوضأ الناس) من ذلك الماء (وشربوا) منه قال جابر (فجعلت لا آلو ما جعلت في بطني منه فعلمت أنه بركة) آلو بالمد وتخفيف اللام المضمومة أي لا أقصر والمعنى أنه جعل يستكثر من شربه من ذلك الماء لأجل البركة وشرب البركة يغتفر فيه الإكبار لا كالشرب المعتاد الذي ورد أن يجعل له الثلث فلأجل ذلك أكثر وإن كان فوق الري قال سالم بن أبي الجعد (قلت لجابر كم كنتم يومئذ قال ألفًا) أي كنا ألفًا (وأربعمائة) وللأكثرين كما في الفتح وغيره ألف بالرفع أي ونحن يومئذ ألف (تابعه) أي تابع سالمًا (عمرو بن دينار عن جابر) وثبت ابن دينار لأبي الوقت وهذه المتابعة وصلها المؤلّف في سورة الفتح مختصرًا بلفظ كنا يوم الحديبية ألفًا وأربعمائة قال الحافظ ابن حجر وهذا القدر هو مقصود بالمتابعة لا جميع سياق الحديث.
(وقال حصين) بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين فيما وصله المؤلّف في المغازي (وعمرو بن مرة) بفتح العين ومرة بضم الميم وتشديد الراء المفتوحة الجهني فيما وصله مسلم وأحمد كلاهما (عن سالم) هو ابن أبي الجعد (عن جابر خمس عشرة مائة، وتابعه) أيضًا (سعيد بن المسيب عن جابر) قال الكرماني فإن قلت: القياس أن يقال ألف وخمسمائة، وأجاب: بأنه أراد الإشارة إلى عدد الفرق وإن كل فرقة مائة، وفي التفصيل زيادة تقرير لكثرة الشاربين فهو أقوى في بيان كونه خارقًا للعادة كما أن خروج الماء من اللحم أخرق لها من خروجه من الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام.
هذا آخر ربيع الثالث من صحيح البخاري فيما ضبطه المعتنون بشأن البخاري فيما نقله في الكواكب الدراري.