وَالشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ وَالْعَمَلِ
وَالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ أَنَّهُ يُظْهِرُ
ذَلِكَ لِلْمَلَكِ وَيَأْمُرُهُ بِإِنْفَاذِهِ
وَكِتَابَتِهِ وَإِلَّا فَقَضَاءُ اللَّهِ تَعَالَى
سَابِقٌ عَلَى ذَلِكَ وَعِلْمُهُ وَإِرَادَتُهُ
لِكُلِّ ذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الْأَزَلِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(فَوَاَلَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا
يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ
فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ
أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا وَإِنَّ أَحَدَكُمْ
لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ إِلَخْ)
الْمُرَادُ بِالذِّرَاعِ التَّمْثِيلُ لِلْقُرْبِ مِنْ
مَوْتِهِ وَدُخُولِهِ عَقِبَهُ وَأَنَّ تِلْكَ
الدَّارُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَصِلَهَا
إِلَّا كَمَنْ بَقِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوْضِعٍ مِنَ
الْأَرْضِ ذِرَاعٌ وَالْمُرَادُ بِهَذَا الْحَدِيثِ
أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَعُ فِي نَادِرٍ مِنَ النَّاسِ
لَا أَنَّهُ غَالِبٌ فِيهِمْ ثُمَّ أَنَّهُ مِنْ
لُطْفِ اللَّهِ تَعَالَى وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ
انْقِلَابُ النَّاسِ مِنَ الشَّرِّ إِلَى الْخَيْرِ
فِي كَثْرَةٍ وَأَمَّا انْقِلَابُهُمْ مِنَ الْخَيْرِ
إِلَى الشَّرِّ فَفِي غَايَةِ النُّدُورِ وَنِهَايَةِ
الْقِلَّةِ وَهُوَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعَالَى إِنَّ
رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَغَلَبَتْ غَضَبِي
وَيَدْخُلُ فِي هَذَا مَنِ انْقَلَبَ إِلَى عَمَلِ
النَّارِ بِكُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ لَكِنْ
يَخْتَلِفَانِ فِي التَّخْلِيدِ وَعَدَمِهِ
فَالْكَافِرُ يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَالْعَاصِي
الَّذِي مَاتَ مُوَحِّدًا لَا يُخَلَّدُ فِيهَا كَمَا
سَبَقَ تَقْرِيرُهُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ
بِإِثْبَاتِ الْقَدَرِ وَأَنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ
الذنوب قبلها وأن من مات على شئ حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ
خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِلَّا أَنَّ أَصْحَابَ الْمَعَاصِي
غَيْرَ الْكُفْرِ
(16/192)
فِي الْمَشِيئَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ
[2644] (عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أَسِيدٍ) هُوَ بِفَتْحِ
الْهَمْزَةِ قَوْلُهُ صَلَّى الله عليه وسلم (فيقول
يارب أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَيُكْتَبَانِ فَيَقُولُ
أَيْ رَبِّ أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى فَيُكْتَبَانِ)
يُكْتَبَانِ فِي
(16/193)
الْمَوْضِعَيْنِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ
وَمَعْنَاهُ يُكْتَبُ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ
[2645] (دَخَلْتُ عَلَى أَبِي سَرِيحَةَ) هُوَ
بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ الرَّاءِ
وَبِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي
الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ يَتَصَوَّرُ
عَلَيْهَا الْمَلَكُ) هكذا هو جَمِيعِ نُسَخِ
بِلَادِنَا يَتَصَوَّرُ بِالصَّادِ وَذَكَرَ الْقَاضِي
يتسور بالسين قال والمراد بيتسور يَنْزِلُ وَهُوَ
اسْتِعَارَةٌ مِنْ تَسَوَّرْتُ الدَّارَ إِذَا نزلت
فيها من أعلاها ولا يكون التسورالا مِنْ فَوْقٍ
فَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الصَّادُ الْوَاقِعَةُ فِي
نُسَخِ بِلَادِنَا مُبَدَّلَةٌ مِنَ السِّينِ
وَاَللَّهُ اعلم
(16/194)
قَوْلُهُ
[2647] (فَنَكَّسَ فَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ)
أَمَّا نَكَّسَ فَبِتَخْفِيفِ الْكَافِ وَتَشْدِيدِهَا
لُغَتَانِ فَصِيحَتَانِ يُقَالُ نَكَسَهُ ينكسه فهو
ناكس كقتله يقتله فهوقاتل وَنَكَّسَهُ يُنَكِّسُهُ
تَنْكِيسًا فَهُوَ مُنَكِّسٌ أَيْ خَفَضَ رَأْسُهُ
وَطَأْطَأَ إِلَى الْأَرْضِ عَلَى هَيْئَةِ
الْمَهْمُومِ وَقَوْلُهُ يَنْكُتُ بِفَتْحِ الْيَاءِ
وَضَمِّ الْكَافِ وَآخِرِهِ تاء مُثَنَّاةٌ فَوْقُ
أَيْ يَخُطُّ بِهَا خَطًّا يَسِيرًا مَرَّةً بَعْدَ
مَرَّةٍ وَهَذَا فِعْلُ الْمُفَكِّرِ الْمَهْمُومِ
والمخصرة بِكَسْرِ الْمِيمِ مَا أَخَذَهُ الْإِنْسَانُ
بِيَدِهِ وَاخْتَصَرَهُ مِنْ عَصًا لَطِيفَةٍ
وَعُكَّازٍ لَطِيفٍ وَغَيْرِهِمَا وَفِي هَذِهِ
الْأَحَادِيثِ كُلِّهَا دَلَالَاتٌ ظَاهِرَةٌ
لِمَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْقَدَرِ
وَأَنَّ جَمِيعَ الْوَاقِعَاتِ
(16/195)
بقضاء الله تعالى وقدره خيرها وشرها نفعها
وَضَرِّهَا وَقَدْ سَبَقَ فِي أَوَّلِ كِتَابِ
الْإِيمَانِ قِطْعَةٌ صَالِحَةٌ مِنْ هَذَا قَالَ
اللَّهُ تَعَالَى لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون فَهُوَ
مِلْكٌ لِلَّهِ تَعَالَى يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَلَا
اعْتِرَاضَ عَلَى الْمَالِكِ فِي مُلْكِهِ وَلِأَنَّ
اللَّهَ تَعَالَى لَا عِلَّةَ لِأَفْعَالِهِ قَالَ
الْإِمَامُ أَبُو الْمُظَفَّرِ السَّمْعَانِيُّ
سَبِيلُ مَعْرِفَةِ هَذَا الْبَابِ التَّوْقِيفُ مِنَ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ مَحْضِ الْقِيَاسِ
وَمُجَرَّدِ الْعُقُولِ فَمَنْ عَدَلَ عَنِ
التَّوْقِيفِ فِيهِ ضَلَّ وَتَاهَ فِي بِحَارِ
الْحَيْرَةِ وَلَمْ يَبْلُغْ شِفَاءَ النَّفْسِ وَلَا
يَصِلْ إِلَى مَا يَطْمَئِنُّ بِهِ الْقَلْبُ لِأَنَّ
الْقَدَرَ سِرٌّ مِنْ أَسْرَارِ اللَّهِ تَعَالَى
الَّتِي ضُرِبَتْ مِنْ دُونِهَا الْأَسْتَارُ اختص
اللَّهُ بِهِ وَحَجَبَهُ عَنْ عُقُولِ الْخَلْقِ
وَمَعَارِفِهِمْ لِمَا عَلِمَهُ مِنَ الْحِكْمَةِ
وَوَاجِبُنَا أَنْ نَقِفَ حَيْثُ حَدَّ لَنَا وَلَا
نَتَجَاوَزَهُ وَقَدْ طَوَى اللَّهُ تَعَالَى عِلْمَ
الْقَدَرِ عَلَى الْعَالَمِ فَلَمْ يعلمه نبي مرسل
ولاملك مُقَرَّبٌ وَقِيلَ إِنَّ سِرَّ الْقَدَرِ
يَنْكَشِفُ لَهُمْ إِذَا دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَلَا
يَنْكَشِفُ قَبْلَ دُخُولِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
وَفِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ النَّهْيُ عَنْ تَرْكِ
الْعَمَلِ وَالِاتِّكَالِ عَلَى مَا سَبَقَ بِهِ
الْقَدَرُ بَلْ تَجِبُ الْأَعْمَالُ وَالتَّكَالِيفُ
الَّتِي وَرَدَ الشَّرْعُ بِهَا وَكُلٌّ مُيَسَّرٌ
لِمَا خُلِقَ لَهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى غَيْرِهِ وَمَنْ
كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ يَسَّرَهُ اللَّهُ
لِعَمَلِ السَّعَادَةِ وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ
الشَّقَاوَةِ يَسَّرَهُ اللَّهُ
(16/196)
لعملهم كما قَالَ فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى وَلِلْعُسْرَى وَكَمَا صَرَّحَتْ بِهِ
هَذِهِ الْأَحَادِيثُ قَوْلُهُ
[2648] (جَفَّتْ بِهِ الْأَقْلَامُ) أَيْ مَضَتْ بِهِ
الْمَقَادِيرُ وَسَبَقَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ
وَتَمَّتْ كِتَابَتُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ
وَجَفَّ القلم الذي
(16/197)
كُتِبَ بِهِ وَامْتَنَعَتْ فِيهِ
الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ قَالَ الْعُلَمَاءُ
وَكِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى وَلَوْحُهُ وَقَلَمُهُ
وَالصُّحُفُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْأَحَادِيثِ كُلُّ
ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَأَمَّا
كَيْفِيَّةُ ذَلِكَ وَصِفَتُهُ فَعِلْمُهَا إلى الله
تعالى ولا يحيطون بشئ من علمه الا بما شاء وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ قَوْلُهُ
[2650] (مَا يَعْمَلُ النَّاسُ وَيَكْدَحُونَ فيه
(16/198)
أي يسعون والكدح هوالسعي فِي الْعَمَلِ
سَوَاءٌ كَانَ لِلْآخِرَةِ أَمْ لِلدُّنْيَا قَوْلُهُ
0لِأَحْزُرَ عَقْلَكَ) أَيْ لِأَمْتَحِنَ عَقْلَكَ
وَفَهْمَكَ ومعرفتك والله اعلم
(16/199)
(باب حجاج آدم وموسى صلى الله عليهما وسلم
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2652] (احْتَجَّ آدَمُ وَمُوسَى) قَالَ أَبُو
الْحَسَنِ الْقَابِسِيُّ الْتَقَتْ أَرْوَاحُهُمَا فِي
السَّمَاءِ فَوَقَعَ الْحِجَاجُ بَيْنَهُمَا قَالَ
الْقَاضِي عِيَاضٌ وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَلَى
ظَاهِرِهِ وَأَنَّهُمَا اجْتَمَعَا بِأَشْخَاصِهِمَا
وَقَدْ ثَبَتَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
اجْتَمَعَ بِالْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ فِي السَّمَاوَاتِ
وَفِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصَلَّى بِهِمْ قَالَ فَلَا
يَبْعُدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحْيَاهُمْ كَمَا
جَاءَ فِي الشُّهَدَاءِ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ
ذَلِكَ جَرَى فِي حَيَاةِ مُوسَى سَأَلَ اللَّهَ
تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ آدَمَ فَحَاجَّهُ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَقَالَ مُوسَى
يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُونَا خَيَّبْتَنَا
وَأَخْرَجْتَنَا مِنَ الْجَنَّةِ) وَفِي رِوَايَةٍ
أَنْتَ آدَمُ الَّذِي أَغْوَيْتَ النَّاسَ
وَأَخْرَجْتَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ
أَهْبَطْتَ النَّاسَ بِخَطِيئَتِكَ إِلَى الْأَرْضِ
مَعْنَى خَيَّبْتَنَا أَوْقَعْتَنَا فِي الْخَيْبَةِ
وَهِيَ الْحِرْمَانُ وَالْخُسْرَانُ وَقَدْ خَابَ
يَخِيبُ وَيَخُوبُ وَمَعْنَاهُ كُنْتَ سَبَبَ
خَيْبَتِنَا وَإِغْوَائِنَا بِالْخَطِيئَةِ الَّتِي
تَرَتَّبَ عَلَيْهَا إِخْرَاجُكَ مِنَ الْجَنَّةِ
ثُمَّ تَعَرُّضُنَا نَحْنُ لِإِغْوَاءِ الشَّيَاطِينِ
وَالْغَيُّ الِانْهِمَاكُ فِي الشَّرِّ وَفِيهِ
جَوَازُ اطلاق الشئ عَلَى سَبَبِهِ وَفِيهِ ذِكْرُ
الْجَنَّةِ وَهِيَ مَوْجُودَةٌ مِنْ قَبْلِ آدَمَ
هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ قَوْلُهُ (اصْطَفَاكَ
اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ) فِي
الْيَدِ هُنَا الْمَذْهَبَانِ السَّابِقَانِ فِي
كِتَابِ الْإِيمَانِ وَمَوَاضِعَ فِي أَحَادِيثِ
الصِّفَاتِ أَحَدُهُمَا الْإِيمَانُ بِهَا وَلَا
يُتَعَرَّضُ لِتَأْوِيلِهَا مَعَ أَنَّ ظَاهِرَهَا
غَيْرُ مُرَادٍ وَالثَّانِي تَأْوِيلُهَا عَلَى
الْقُدْرَةِ وَمَعْنَى اصْطَفَاكَ أَيْ اخْتَصَّكَ
وَآثَرَكَ بِذَلِكَ قَوْلُهُ (أَتَلُومُنِي عَلَى
أَمْرِ قَدَّرَهُ اللَّهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ)
(16/200)
يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً)
الْمُرَادُ بِالتَّقْدِيرِ هُنَا الْكِتَابَةُ فِي
اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ وَفِي صُحُفِ التَّوْرَاةِ
وَأَلْوَاحِهَا أَيْ كَتَبَهُ عَلَيَّ قَبْلَ خَلْقِي
بِأَرْبَعِينَ سَنَةً وَقَدْ صَرَّحَ بِهَذَا فِي
الرِّوَايَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ فَقَالَ بِكَمْ
وَجَدْتَ اللَّهَ كَتَبَ التَّوْرَاةَ قَبْلَ أَنْ
أُخْلَقَ قَالَ مُوسَى بِأَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ
أَتَلُومُنِي عَلَى أَنْ عَمِلْتُ عَمَلًا كَتَبَ
اللَّهُ عَلَيَّ أَنْ أَعْمَلُهُ قَبْلَ أَنْ
يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَهَذِهِ
الرِّوَايَةُ مُصَرِّحَةٌ بِبَيَانِ الْمُرَادِ
بِالتَّقْدِيرِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ
حَقِيقَةُ الْقَدَرِ فَإِنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى
وَمَا قَدَّرَهُ عَلَى عِبَادِهِ وَأَرَادَ مِنْ
خَلْقِهِ أَزَلِيٌّ لَا أَوَّلَ لَهُ وَلَمْ يَزَلْ
سُبْحَانَهُ مُرِيدًا لِمَا أَرَادَهُ مِنْ خَلْقِهِ
مِنْ طَاعَةٍ وَمَعْصِيَةٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (فَحَجَّ آدَمُ
مُوسَى) هَكَذَا الرِّوَايَةُ فِي جَمِيعِ كُتُبِ
الْحَدِيثِ بِاتِّفَاقِ النَّاقِلِينَ وَالرُّوَاةِ
وَالشُّرَّاحِ
(16/201)
وَأَهْلِ الْغَرِيبِ فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى
بِرَفْعِ آدَمَ وَهُوَ فَاعِلٌ أَيْ غَلَبَهُ
بِالْحُجَّةِ وَظَهَرَ عَلَيْهِ بِهَا وَمَعْنَى
كَلَامِ آدَمَ أَنَّكَ يَا مُوسَى تَعْلَمُ أَنَّ
هَذَا كُتِبَ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أخلق وقدر علي فلابد
مِنْ وُقُوعِهِ وَلَوْ حَرَصْتُ أَنَا وَالْخَلَائِقُ
أَجْمَعُونَ عَلَى رَدِّ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ مِنْهُ
لَمْ نَقْدِرْ فَلِمَ تَلُومُنِي عَلَى ذَلِكَ
وَلِأَنَّ اللَّوْمَ عَلَى الذَّنْبِ شَرْعِيِّ لَا
عَقْلِيِّ وَإِذْ تَابَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى آدَمَ
وَغَفَرَ لَهُ زَالَ عَنْهُ اللَّوْمُ فَمَنْ لَامَهُ
كَانَ مَحْجُوجًا بِالشَّرْعِ فَإِنْ قِيلَ
فَالْعَاصِي مِنَّا لَوْ قَالَ هَذِهِ الْمَعْصِيَةُ
قَدَّرَهَا اللَّهُ عَلَيَّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ
اللَّوْمُ وَالْعُقُوبَةُ بِذَلِكَ وَإِنْ كَانَ
صَادِقًا فِيمَا قَالَهُ فَالْجَوَابُ أَنَّ هَذَا
الْعَاصِي بَاقٍ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ جَارٍ
عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُكَلَّفِينَ مِنَ الْعُقُوبَةِ
وَاللَّوْمِ وَالتَّوْبِيخِ وَغَيْرِهَا وَفِي
لَوْمِهِ وَعُقُوبَتِهِ زَجْرٌ لَهُ وَلِغَيْرِهِ عَنْ
مِثْلِ هَذَا الْفِعْلِ وَهُوَ محتاج إلى الزجر مالم
يَمُتْ فَأَمَّا آدَمُ فَمَيِّتٌ خَارِجٌ عَنْ دَارِ
التَّكْلِيفِ وَعَنِ الْحَاجَةِ إِلَى الزَّجْرِ
فَلَمْ يَكُنْ
(16/202)
فِي الْقَوْلِ الْمَذْكُورِ لَهُ فَائِدَةٌ
بَلْ فِيهِ إِيذَاءٌ وَتَخْجِيلٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ
[2653] (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ
قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
بِخَمْسِينَ أَلِفَ سَنَةٍ وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)
قَالَ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ تَحْدِيدُ وَقْتِ
الْكِتَابَةِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ أَوْ
غَيْرِهِ لَا أَصْلُ التَّقْدِيرِ فَإِنَّ ذَلِكَ
أَزَلِيٌّ لَا أَوَّلَ لَهُ وَقَوْلُهُ وَعَرْشُهُ
عَلَى الْمَاءِ أَيْ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
(16/203)
(بَاب تَصْرِيفِ اللَّهِ تَعَالَى
الْقُلُوبَ كَيْفَ شَاءَ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2654] (إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ
إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ كَقَلْبٍ
وَاحِدٍ يُصَرِّفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ هَذَا مِنْ
أَحَادِيثِ الصِّفَاتِ وَفِيهَا الْقَوْلَانِ
السَّابِقَانِ قَرِيبًا أَحَدُهُمَا الْإِيمَانُ بِهَا
مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِتَأْوِيلٍ وَلَا لِمَعْرِفَةِ
الْمَعْنَى بَلْ يُؤْمَنُ بِأَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّ
ظَاهِرَهَا غَيْرُ مُرَادٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ليس
كمثله شئ وَالثَّانِي يُتَأَوَّلُ بِحَسَبِ مَا
يَلِيقُ بِهَا فَعَلَى هَذَا الْمُرَادُ الْمَجَازُ
كَمَا يُقَالُ فُلَانٌ فِي قَبْضَتِي وَفِي كَفِّي لَا
يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ حَالٌّ فِي كَفِّهِ بَلِ
الْمُرَادُ تَحْتَ قُدْرَتِي وَيُقَالُ فُلَانٌ بَيْنَ
إِصْبَعِي أُقَلِّبُهُ كَيْفَ شِئْتُ أَيْ أَنَّهُ
مِنِّي عَلَى قَهْرِهِ وَالتَّصَرُّفِ فِيهِ كَيْفَ
شِئْتُ فَمَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى مُتَصَرِّفٌ فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ
وَغَيْرِهَا كَيْفَ شَاءَ لا يمتنع عليه منها شئ ولا
يفوته ما أراده كما لايمتنع عَلَى الْإِنْسَانِ مَا
كَانَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ فَخَاطَبَ الْعَرَبَ بِمَا
يَفْهَمُونَهُ وَمَثَّلَهُ بِالْمَعَانِي
الْحِسِّيَّةِ تَأْكِيدًا لَهُ فِي نُفُوسِهِمْ
فَإِنَّ قِيلَ فَقُدْرَةُ اللَّهِ تَعَالَى وَاحِدَةٌ
وَالْإِصْبَعَانِ لِلتَّثْنِيَةِ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ
قَدْ سَبَقَ أَنَّ هَذَا مَجَازٌ وَاسْتِعَارَةٌ
فَوَقَعَ التَّمْثِيلُ بحسب ما اعتادوه غَيْرُ
مَقْصُودٍ بِهِ التَّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ
(باب كل شئ بِقَدَرٍ)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2655] (كُلُّ شئ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ
وَالْكَيْسُ أَوْ قَالَ الْكَيْسُ والعجز) قال
(16/204)
الْقَاضِي رَوَيْنَاهُ بِرَفْعِ الْعَجْزُ
وَالْكَيْسُ عَطْفًا عَلَى كُلُّ وَبِجَرِّهِمَا
عَطْفًا عَلَى شَيْءٍ قَالَ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ
الْعَجْزَ هُنَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ عَدَمُ
الْقُدْرَةِ وَقِيلَ هُوَ تَرْكُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ
وَالتَّسْوِيفُ بِهِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ
قَالَ وَيُحْتَمَلُ الْعَجْزُ عَنِ الطَّاعَاتِ
وَيُحْتَمَلُ الْعُمُومُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَالْكَيْسُ ضِدُّ الْعَجْزِ وَهُوَ
النَّشَاطُ وَالْحِذْقُ بِالْأُمُورِ وَمَعْنَاهُ
أَنَّ الْعَاجِزَ قَدْ قَدَّرَ عَجْزَهُ وَالْكَيِّسُ
قَدْ قَدَّرَ كَيْسَهُ قَوْلُهُ
[2656] (جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ فِي
الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ
عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سقر إنا كل شئ خلقناه
بقدر المراد بالقدر هنا القدر المعروف وهو ما قدر الله
وقضاه وسبق به علمه وارادته وأشار الباجي إلى خلاف هذا
وَلَيْسَ كَمَا قَالَ وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ
الْكَرِيمَةِ وَالْحَدِيثِ تَصْرِيحٌ بِإِثْبَاتِ
الْقَدَرِ وَأَنَّهُ عَامٌّ فِي كل شئ فَكُلُّ ذَلِكَ
مُقَدَّرٌ فِي الْأَزَلِ مَعْلُومٌ لِلَّهِ مراد له
(باب قدر على بن آدم حظه
من الزنى وغيره)
قوله
[2657] (ما رأيت شيئا أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا
قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ الله كتب على
بن آدم حظه من الزنى أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ
فَزِنَا الْعَيْنَيْنِ النَّظَرُ وَزِنَا اللِّسَانِ
النُّطْقُ وَالنَّفْسُ تَمَنَّى وَتَشْتَهِي
وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ أَوْ يُكَذِّبُهُ) وَفِي
الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ كتب على بن آدم نصيبه من
الزنى مُدْرِكٌ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَالْعَيْنَانِ
زِنَاهُمَا النَّظَرُ وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا
الِاسْتِمَاعُ وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ
وَالْيَدُ زِنَاهَا الْبَطْشُ وَالرِّجْلُ زِنَاهَا
الْخُطَى وَالْقَلْبُ يَهْوَى وَيَتَمَنَّى
وَيُصَدِّقُ ذَلِكَ الْفَرْجُ وَيُكَذِّبُهُ
(16/205)
معنى الحديث أن بن آدم قدر عليه نصيب من
الزنى فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ زِنَاهُ حَقِيقِيًّا
بِإِدْخَالِ الْفَرْجِ فِي الْفَرْجِ الْحَرَامِ
وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ زِنَاهُ مجازا بالنظر الحرام
اوالاستماع إلى الزنى وَمَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْصِيلِهِ
أَوْ بِالْمَسِّ بِالْيَدِ بِأَنْ يَمَسَّ
أَجْنَبِيَّةً بِيَدِهِ أَوْ يُقَبِّلُهَا أَوْ
بِالْمَشْيِ بالرجل إلى الزنى اوالنظر أَوِ اللَّمْسِ
أَوِ الْحَدِيثِ الْحَرَامِ مَعَ أَجْنَبِيَّةٍ
وَنَحْوِ ذَلِكَ أَوْ بِالْفِكْرِ بِالْقَلْبِ فَكُلُّ
هَذِهِ انواع من الزنى الْمَجَازِيِّ وَالْفَرْجُ
يُصَدِّقُ ذَلِكَ كُلَّهُ أَوْ يُكَذِّبُهُ معناه أنه
قد يحقق الزنى بالفرج وقد لا يحققه بأن لا يُولِجُ
الْفَرْجُ فِي الْفَرْجِ وَإِنْ قَارَبَ ذَلِكَ والله
اعلم واما قول بن عَبَّاسٍ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا
أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ
فَمَعْنَاهُ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى الَّذِينَ
يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ
إِلَّا اللَّمَمَ إن ربك واسع المغفرة وَمَعْنَى
الْآيَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ
الْمَعَاصِي غَيْرَ اللَّمَمِ يُغْفَرُ لَهُمُ
اللَّمَمُ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ
تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عنه نكفر عنكم
سيئاتكم فَمَعْنَى الْآيَتَيْنِ أَنَّ اجْتِنَابَ
الْكَبَائِرَ يُسْقِطُ الصَّغَائِرَ وهي اللمم وفسره
بن عَبَّاسٍ بِمَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنَ
النَّظَرِ وَاللَّمْسِ وَنَحْوهِمَا وَهُوَ كَمَا
قَالَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي تَفْسِيرِ اللَّمَمِ
وَقِيلَ أَنْ يُلِمَّ بالشئ وَلَا يَفْعَلُهُ وَقِيلَ
الْمَيْلُ إِلَى الذَّنْبِ وَلَا يُصِرُّ عَلَيْهِ
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ بظاهر واصل اللمم
والالمام الميل إلى الشئ وطلبه من غير مداومة والله
اعلم
(16/206)
(باب معنى كل
مولود يولد علىالفطرة)
وحكم موتى اطفال الكفار وأطفال المسلمين قَوْلُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2658] (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى
الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ
وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ
الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ
فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ ثُمَّ يَقُولُ ابو هريرة اقرؤوا
إِنْ شِئْتُمْ فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ
النَّاسَ عليها لا تبديل لخلق الله الآية) وفي رواية
مامن مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَهُوَ عَلَى
الْمِلَّةِ وَفِي رِوَايَةٍ لَيْسَ مِنْ مَوْلُودٍ
يُولَدُ إِلَّا عَلَى هَذِهِ الْفِطْرَةِ حَتَّى
يُعَبِّرُ عَنْهُ لِسَانُهُ قَالُوا يَا رَسُولَ
اللَّهِ أَفَرَأَيْتَ مَنْ يَمُوتُ صَغِيرًا قَالَ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ
[2660] وَفِي رِوَايَةٍ إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي
قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا وَلَوْ عَاشَ
لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا
[2661] وَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ تُوُفِّي صَبِيٌّ مِنَ
الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ
عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ
يُدْرِكْهُ قَالَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ
إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ
لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَخَلَقَ
لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي
أَصْلَابِ آبَائِهِمْ أَجْمَعَ مَنْ يُعْتَدُّ بِهِ
مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ
مِنْ أَطْفَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُكَلَّفًا وَتَوَقَّفَ
فِيهِ بَعْضُ مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِهِ لِحَدِيثِ
عَائِشَةَ هَذَا وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ بِأَنَّهُ
لَعَلَّهُ نَهَاهَا عَنِ الْمُسَارَعَةِ إِلَى
الْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهَا دَلِيلٌ
قَاطِعٌ كَمَا أَنْكَرَ عَلَى سَعْدِ بْنِ أَبِي
وَقَّاصٍ فِي قَوْلِهِ أَعْطِهِ إِنِّي لَأَرَاهُ
مُؤْمِنًا قَالَ أَوْ مُسْلِمًا الْحَدِيثَ
وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ هَذَا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ
أَطْفَالَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْجَنَّةِ فَلَمَّا
عَلِمَ قَالَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه
وسلم مامن مُسْلِمٍ يَمُوتُ لَهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ
الْوَلَدِ لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ إِلَّا
أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ
إِيَّاهُمْ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ
[2660] وَأَمَّا أَطْفَالُ الْمُشْرِكِينَ فَفِيهِمْ
ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ قال
(16/207)
الْأَكْثَرُونَ هُمْ فِي النَّارِ تَبَعًا
لِآبَائِهِمْ وَتَوَقَّفَتْ طَائِفَةٌ فِيهِمْ
وَالثَّالِثُ وَهُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي ذَهَبَ
إِلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ وَيُسْتَدَلُّ لَهُ بِأَشْيَاءَ مِنْهَا
حَدِيثُ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْجَنَّةِ وَحَوْلَهُ
أَوْلَادُ النَّاسِ قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ
وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ قَالَ
[2659] وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ رَوَاهُ
الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ وَمِنْهَا قَوْلُهُ
تَعَالَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ
رَسُولًا وَلَا! يَتَوَجَّهُ عَلَى الْمَوْلُودِ
التَّكْلِيفِ وَيَلْزَمُهُ قَوْلُ الرَّسُولِ حَتَّى
يَبْلُغَ وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ وَأَمَّا الْفِطْرَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي
هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فقال المازري قيل هي ما أخذ
عليهم فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَأَنَّ الْوِلَادَةَ
تَقَعُ عَلَيْهَا حتى يحصل التغيير بِالْأَبَوَيْنِ
وَقِيلَ هِيَ مَا قُضِي عَلَيْهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ
شَقَاوَةٍ يَصِيرُ إِلَيْهَا وَقِيلَ هِيَ ما هئ لَهُ
هَذَا كَلَامُ الْمَازِرِيِّ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ
سَأَلْتُ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ عَنْ هَذَا
الْحَدِيثِ فَقَالَ كَانَ هَذَا فِي أَوَّلِ
الْإِسْلَامِ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الْفَرَائِضُ
وَقبْلَ الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ وَقَالَ أَبُو
عُبَيْدٍ كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَوْ كَانَ
يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ
يُهَوِّدَهُ أَبَوَاهُ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ لَمْ
يَرِثْهُمَا وَلَمْ يَرِثَاهُ لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ
وَهُمَا كَافِرَانِ وَلَمَا جَازَ أن يسبى فَلَمَّا
فُرِضَتِ الْفَرَائِضُ وَتَقَرَّرَتِ السُّنَنُ عَلَى
خِلَافِ ذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ يُولَدُ عَلَى
دِينِهِمَا وَقَالَ بن الْمُبَارَكِ يُولَدُ عَلَى مَا
يَصِيرُ إِلَيْهِ مِنْ سَعَادَةٍ أَوْ شَقَاوَةٍ
فَمَنْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ يَصِيرُ
مُسْلِمًا وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَمَنْ
عَلِمَ أَنَّهُ يَصِيرُ كَافِرًا وُلِدَ عَلَى
الْكُفْرِ وَقِيلَ مَعْنَاهُ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ
عَلَى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِقْرَارِ
بِهِ فَلَيْسَ أَحَدٌ يُولَدُ إِلَّا وَهُوَ يُقِرُّ
بِأَنَّ لَهُ صَانِعًا وَإِنْ سَمَّاهُ بِغَيْرِ
اسْمِهِ أَوْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ وَالْأَصَحُّ
أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَوْلُودٍ يُولَدُ
مُتَهَيِّئًا لِلْإِسْلَامِ فَمَنْ كَانَ أَبَوَاهُ
أَوْ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا اسْتَمَرَّ عَلَى
الْإِسْلَامِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا
وَإِنْ كَانَ أَبَوَاهُ كَافِرَيْنِ جَرَى عَلَيْهِ
حُكْمُهُمَا فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا وَهَذَا مَعْنَى
يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ
أَيْ يَحْكُمُ لَهُ بِحُكْمِهِمَا فِي الدُّنْيَا
فَإِنْ بَلَغَ اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الْكُفْرِ
وَدِينِهِمَا فَإِنْ كَانَتْ سَبَقَتْ لَهُ سَعَادَةٌ
أَسْلَمَ وَإِلَّا مَاتَ عَلَى كُفْرِهِ وَإِنْ مَاتَ
قَبْلَ بُلُوغِهِ فَهَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
أَمِ النَّارِ أَمْ يَتَوَقَّفُ فِيهِ فَفِيهِ
الْمَذَاهِبُ الثَّلَاثَةُ السَّابِقَةُ قَرِيبًا
الْأَصَحُّ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
كَانُوا عَامِلِينَ أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ
بِأَنَّهُمْ فِي النَّارِ وَحَقِيقَةُ لَفْظِهِ
اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْ
بَلَغُوا وَلَمْ يَبْلُغُوا إِذِ التَّكْلِيفُ لَا
يَكُونُ إِلَّا بِالْبُلُوغِ وَأَمَّا غُلَامُ
الْخَضِرِ فَيَجِبُ تَأْوِيلُهُ قَطْعًا لِأَنَّ
أَبَوَيْهِ كَانَا مُؤْمِنَيْنِ فَيَكُونُ هُوَ
مُسْلِمًا فَيَتَأَوَّلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ
اللَّهَ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَوْ بَلَغَ لَكَانَ
كَافِرًا لَا أَنَّهُ كَافِرٌ فِي الْحَالِ وَلَا
يَجْرِي عَلَيْهِ فِي الْحَالِ أَحْكَامُ الْكُفَّارِ
وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وسلم
(16/208)
(كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً)
فَهُوَ بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى وَفَتْحِ
الثَّانِيَةِ وَرَفْعِ الْبَهِيمَةِ وَنَصْبِ
بَهِيمَةٍ وَمَعْنَاهُ كَمَا تَلِدُ الْبَهِيمَةُ
بَهِيمَةً (جَمْعَاءُ) بِالْمَدِّ أَيْ مُجْتَمِعَةُ
الْأَعْضَاءِ سَلِيمَةٌ مِنْ نَقْصٍ لَا تُوجَدُ
فِيهَا جَدْعَاءُ بِالْمَدِّ وَهِيَ مَقْطُوعَةُ
الْأُذُنِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْأَعْضَاءِ
وَمَعْنَاهُ أَنَّ الْبَهِيمَةَ تَلِدُ الْبَهِيمَةَ
كَامِلَةَ الْأَعْضَاءِ لَا نَقْصَ فِيهَا وَإِنَّمَا
يَحْدُثُ فِيهَا الْجَدْعُ وَالنَّقْصُ بَعْدَ
وِلَادَتِهَا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ زهير بن حرب (مامن مَوْلُودٍ
إِلَّا يُلِدَ عَلَى الْفِطْرَةِ) هَكَذَا هُوَ فِي
جَمِيعِ النُّسَخِ يُلِدَ بِضَمِّ الْيَاءِ
الْمُثَنَّاةِ تَحْتُ وَكَسْرِ اللَّامِ عَلَى وَزْنِ
ضُرِبَ حَكَاهُ الْقَاضِي عَنْ رِوَايَةِ
السَّمَرْقَنْدِيِّ قَالَ وَهُوَ صَحِيحٌ عَلَى
إِبْدَالِ الْوَاوِ يَاءً لِانْضِمَامِهَا قَالَ
وَقَدْ ذَكَرَ الْهِجْرِيُّ فِي نَوَادِرِهِ يُقَالُ
وُلِدَ وَيُلِدَ بمعنى قال
(16/209)
القاضي ورواه غير السَّمَرْقَنْدِيُّ
يُولَدُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (كُلُّ إِنْسَانٍ تَلِدُهُ أُمُّهُ
يَلْكُزُهُ الشَّيْطَانُ فِي حِضْنَيْهِ إِلَّا
مَرْيَمَ وَابْنَهَا) هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيعِ
النُّسَخِ فِي حِضْنَيْهِ بِحَاءٍ مُهْمَلةٍ
مَكْسُورَةٍ ثُمَّ ضَادٍ مُعْجَمَةٍ ثُمَّ نُونٍ ثُمَّ
يَاءِ تَثْنِيَةُ حِضْنٍ وَهُوَ الْجَنْبُ وَقِيلَ
الخاصرة قال القاضي ورواه بن مَاهَانَ خُصْيَيْهِ
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَالصَّادِ الْمُهْمَلَةِ
وَهُوَ الْأُنْثَيَانِ قَالَ الْقَاضِي وَأَظُنُّ
هَذَا وَهَمًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ إِلَّا مَرْيَمَ
وَابْنَهَا وَسَبَقَ شَرْحُ هَذَا الحديث في كتاب
الفضائل وسبق ذكر الغلام
(16/210)
الذي قتله الخضر في فضائل الخضر قوله0عن
رقبة بن مسقلة) هكذا هو في جميع النسخ مسقلة بالسين
وهو صحيح يقال بالسين والصاد وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا
كَانُوا عَامِلِينَ بَيَانٌ لِمَذْهَبِ أَهْلِ
الْحَقِّ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يكون
ما لَا يَكُونُ لَوْ كَانَ كَيْفَ كَانَ يَكُونُ
وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُ نَظَائِرِهِ مِنَ القرآن
والحديث
(16/211)
(باب بيان أن
الآجال والأرزاق وغيرها)
لا تزيد ولا تنقص عما سبق به القدر قَوْلُهُ
[2663] (قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ اللَّهُمَّ
أَمْتِعْنِي بِزَوْجِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِأَبِي أَبِي سُفْيَانَ
وَبِأَخِي
(16/212)
مُعَاوِيَةَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ سألت الله عزوجل
لِآجَالٍ مَضْرُوبَةٍ وَأَيَّامٍ مَعْدُودَةٍ
وَأَرْزَاقٍ مَقْسُومَةٍ وَلَنْ يُعَجِّلَ شَيْئًا
قَبْلَ حِلِّهِ أَوْ يُؤَخِّرَ شَيْئًا عَنْ حِلِّهِ
وَلَوْ كُنْتِ سَأَلْتِ اللَّهَ أَنْ يُعِيذَكَ مِنْ
عَذَابٍ فِي النَّارِ أَوْ عَذَابٍ فِي الْقَبْرِ
كَانَ خَيْرًا وَأَفْضَلَ) أَمَّا حِلِّهِ
فَضَبَطْنَاهُ بِوَجْهَيْنِ فَتْحِ الْحَاءِ
وَكَسْرِهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْخَمْسَةِ مِنْ هَذِهِ
الرِّوَايَاتِ وَذَكَرَ الْقَاضِي أَنَّ جَمِيعَ
الرُّوَاةِ عَلَى الْفَتْحِ وَمُرَادُهُ رُوَاةُ
بِلَادِهِمْ وَإِلَّا فَالْأَشْهَرُ عِنْدَ رُوَاةِ
بِلَادِنَا الْكَسْرُ وَهُمَا لُغَتَانِ وَمَعْنَاهُ
وُجُوبُهُ وَحِينُهُ يُقَالُ حَلَّ الْأَجَلُ يَحِلُّ
حِلًّا وَحَلًّا وَهَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي أَنَّ
الْآجَالَ وَالْأَرْزَاقَ مُقَدَّرَةٌ لَا تَتَغَيَّرُ
عَمَّا قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَعَلِمَهُ فِي
الْأَزَلِ فَيَسْتَحِيلُ زِيَادَتُهَا وَنَقْصُهَا
حَقِيقَةً عَنْ ذَلِكَ وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي
حَدِيثِ صِلَةِ الرَّحِمِ تُزِيدُ فِي الْعُمْرِ
وَنَظَائِرِهِ فَقَدْ سَبَقَ تَأْوِيلُهُ فِي بَابِ
صِلَةِ الْأَرْحَامِ وَاضِحًا قَالَ الْمَازِرِيُّ
هُنَا قَدْ تَقَرَّرَ بِالدَّلَائِلِ الْقَطْعِيَّةِ
أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالْآجَالِ
وَالْأَرْزَاقِ وَغَيْرِهَا وَحَقِيقَةُ الْعِلْمِ
مَعْرِفَةُ الْمَعْلُومِ على ماهو عَلَيْهِ فَإِذَا
عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ زَيْدًا يَمُوتُ
سِنُّهُ خَمْسُمِائَةٌ اسْتَحَالَ أَنْ يَمُوتَ
قَبْلَهَا أَوْ بَعْدَهَا لِئَلَّا يَنْقَلِبَ
الْعِلْمُ جَهْلًا فَاسْتَحَالَ أَنَّ الْآجَالَ
الَّتِي عَلِمَهَا اللَّهُ تَعَالَى تَزِيدُ
وَتَنْقُصُ فَيَتَعَيَّنُ تَأْوِيلُ الزِّيَادَةِ
أَنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ أَوْ
غَيْرِهِ مِمَّنْ وَكَّلَهُ اللَّهُ بِقَبْضِ
الْأَرْوَاحِ وَأَمَرَهُ فِيهَا بِآجَالٍ مَمْدُودَةٍ
فَإِنَّهُ بَعْدَ أَنْ يَأْمُرُهُ بِذَلِكَ أَوْ
يُثْبِتُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ يَنْقُصُ
مِنْهُ وَيَزِيدُ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ بِهِ
عِلْمُهُ فِي الْأَزَلِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ
تَعَالَى يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ ويثبت وعلى
ماذكرناه يُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعَالَى ثُمَّ قَضَى
أَجَلًا وَأَجَلٌ مسمى عنده وَاعْلَمْ أَنَّ مَذْهَبَ
أَهْلِ الْحَقِّ أَنَّ الْمَقْتُولَ مَاتَ بِأَجَلِهِ
وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ قُطِعَ أَجَلُهُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ فَإِنْ قِيلَ مَا الْحِكْمَةُ فِي نَهْيِهَا
عَنِ الدُّعَاءِ بِالزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ
لِأَنَّهُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ وَنَدْبِهَا إِلَى
الدُّعَاءِ بِالِاسْتِعَاذَةِ مِنَ الْعَذَابِ مَعَ
أَنَّهُ مَفْرُوغٌ مِنْهُ أَيْضًا كَالْأَجَلِ
فَالْجَوَابُ أن الجميع مفروع مِنْهُ لَكِنِ
الدُّعَاءَ بِالنَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ
(16/213)
النَّارِ وَمِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ
وَنَحْوِهِمَا عِبَادَةٌ وَقَدْ أَمَرَ الشَّرْعُ
بِالْعِبَادَاتِ فَقِيلَ أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَى
كِتَابِنَا وَمَا سَبَقَ لَنَا مِنَ الْقَدَرِ فَقَالَ
اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ
وَأَمَّا الدعاء بطول الأجل فليس عبادة وكمالا
يَحْسُنُ تَرْكُ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالذِّكْرِ
اتِّكَالًا عَلَى الْقَدَرِ فَكَذَا الدُّعَاءُ
بِالنَّجَاةِ مِنَ النَّارِ وَنَحْوِهِ وَاللَّهُ
أَعْلَمُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانُوا قَبْلَ
ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ مَسْخِ بَنِي إِسْرَائِيلَ
فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ الْمَسْخِ
وَجَاءَ كَانُوا بِضَمِيرِ الْعُقَلَاءِ مَجَازًا
لِكَوْنِهِ جَرَى فِي الْكَلَامِ مَا يَقْتَضِي
مُشَارَكَتَهَا لِلْعُقَلَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ
تَعَالَى رَأَيْتُهُمْ لي ساجدين وكل في فلك يسبحون
(16/214)
(باب الايمان
للقدر والاذعان له)
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
[2664] (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ
إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي
كُلٍّ خَيْرٌ) وَالْمُرَادُ بِالْقُوَّةِ هُنَا
عَزِيمَةُ النَّفْسِ وَالْقَرِيحَةُ فِي أُمُورِ
الْآخِرَةِ فَيَكُونُ صَاحِبُ هَذَا الْوَصْفِ
أَكْثَرَ إِقْدَامًا عَلَى الْعَدُوِّ فِي الْجِهَادِ
وَأَسْرَعَ خُرُوجًا إِلَيْهِ وَذَهَابًا فِي طَلَبِهِ
وَأَشَدَّ عَزِيمَةً فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالصَّبْرِ عَلَى
الْأَذَى فِي كُلِّ ذَلِكَ وَاحْتِمَالِ الْمَشَاقِّ
فِي ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَرْغَبَ فِي الصَّلَاةِ
وَالصَّوْمِ وَالْأَذْكَارِ وَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ
وَأَنْشَطَ طَلَبًا لَهَا وَمُحَافَظَةً عَلَيْهَا
وَنَحْوَ ذَلِكَ وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ فَمَعْنَاهُ
فِي كُلٍّ مِنَ الْقَوِيِّ وَالضَّعِيفِ خَيْرٌ
لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْإِيمَانِ مَعَ مَا يَأْتِي
بِهِ الضَّعِيفُ مِنَ الْعِبَادَاتِ قَوْلُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (احْرِصْ عَلَى مَا
يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاَللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ)
أَمَّا احْرِصْ فَبِكَسْرِ الرَّاءِ وَتَعْجِزْ
بِكَسْرِ الْجِيمِ وَحُكِي فَتْحُهُمَا جَمِيعًا
وَمَعْنَاهُ احْرِصْ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى
وَالرَّغْبَةِ فِيمَا عِنْدَهُ وَاطْلُبِ الْإِعَانَةَ
مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى ذَلِكَ وَلَا تَعْجِزْ
وَلَا تَكْسَلْ عَنْ طَلَبِ الطَّاعَةِ وَلَا عَنْ
طَلَبِ الْإِعَانَةِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ (وَإِنْ أَصَابَكَ شئ فَلَا تَقُلْ لَوْ
أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ
قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ
تَفْتَحُ عَمَلَ
(16/215)
الشَّيْطَانِ) قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ بَعْضُ
الْعُلَمَاءِ هَذَا النَّهْيُ إِنَّمَا هُوَ لِمَنْ
قَالَهُ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ حَتْمًا وَأَنَّهُ لَوْ
فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ تُصِبْهُ قَطْعًا فَأَمَّا مَنْ
رَدَّ ذَلِكَ إِلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى
بِأَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إِلَّا ماشاء اللَّهُ
فَلَيْسَ مِنْ هَذَا وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ أَبِي
بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي
الْغَارِ لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ رَفَعَ رَأْسَهُ
لَرَآنَا قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا لَا حُجَّةٌ فِيهِ
لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنْ مُسْتَقْبَلٍ
وَلَيْسَ فِيهِ دَعْوَى لِرَدِّ قدر بعد وقوعه قال
وكذا جميع ماذكره الْبُخَارِيُّ فِي بَابِ مَا يَجُوزُ
مِنَ اللَّوِّ كَحَدِيثِ لَوْلَا حِدْثَانُ عَهْدِ
قَوْمِكِ بِالْكُفْرِ لَأَتْمَمْتُ الْبَيْتَ عَلَى
قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ ولوكنت راجما بغير بينة لرجمت
هذه ولولا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ
بِالسِّوَاكِ وَشِبْهِ ذَلِكَ فَكُلُّهُ مُسْتَقْبَلٌ
لَا اعْتِرَاضَ فِيهِ عَلَى قَدَرٍ فَلَا كَرَاهَةَ
فِيهِ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَخْبَرَ عَنِ اعْتِقَادِهِ
فِيمَا كَانَ يَفْعَلُ لَوْلَا الْمَانِعُ وَعَمَّا
هُوَ فِي قُدْرَتِهِ فَأَمَّا مَا ذَهَبَ فَلَيْسَ فِي
قُدْرَتِهِ قَالَ الْقَاضِي فَاَلَّذِي عِنْدِي فِي
مَعْنَى الْحَدِيثِ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى ظَاهِرِهِ
وَعُمُومِهِ لَكِنَّهُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ وَيَدُلُّ
عَلَيْهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ أَيْ
يُلْقِي فِي الْقَلْبِ مُعَارَضَةَ الْقَدَرِ
وَيُوَسْوِسُ بِهِ الشَّيْطَانُ هَذَا كَلَامُ
الْقَاضِي قُلْتُ وَقَدْ جَاءَ مِنَ اسْتِعْمَالِ لَوْ
فِي الْمَاضِي قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أَمْرِي مَا
اسْتَدْبَرْتُ مَا سُقْتُ الْهَدْيَ وَغَيْرُ ذَلِكَ
فَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ
إِطْلَاقِ ذَلِكَ فِيمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ
فَيَكُونُ نَهْيُ تَنْزِيهٍ لَا تَحْرِيمٍ فَأَمَّا من
قاله تأسفا على مافات من طاعة الله تعالى أو ماهو
مُتَعَذَّرٌ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ وَنَحْوِ هَذَا
فَلَا بَأْسَ بِهِ وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ أَكْثَرُ
الِاسْتِعْمَالِ الْمَوْجُودِ فِي الْأَحَادِيثِ
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ