شرح صحيح
البخارى لابن بطال بسم الله الرحمن الرحيم
عونك اللهم
كِتَاب الْغُسْل
- باب الغسل وَقَوله تَعَالَى: (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا
فَاطَّهَّرُوا) [المائدة: 6] ) وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِى
سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا) [النساء: 43]
اختلف العلماء فى صفة الغسل الذى عنى الله فى هاتين
الآيتين، فقالت طائفة: يجزئ الجنب الانغماس فى الماء دون
إمرار اليد على جسده، هذا قول الحسن، وعطاء، وسالم،
والنخعى، والشعبى، والزهرى، وبه قال الثورى، والكوفيون،
والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن عبد الحكم،
وأبو الفرج المكى. وقالت طائفة: لا يجزئه حتى يمر يديه على
جسده، هذا قول القاسم، وأبى العالية، وميمون بن مهران،
وإليه ذهب مالك، والمزنى. واحتج أهل المقالة الأولى،
فقالوا: إن كل من صب عليه الماء، فقد اغتسل، تقول العرب:
غسلتنى السماء، ولا مدخل فيه لإمرار اليد، وقد وصفت عائشة
وميمونة غسل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الجنابة،
ولم تذكرا تدلكًا. واحتج المزنى لصحة قول من أوجب التدلك،
فقال: إن الله
(1/367)
تعالى أمر الجنب بالاغتسال، كما أمر
المتوضئ بغسل وجهه ويديه إلى المرفقين، ولم يكن بد للمتوضئ
من إمرار يديه مع الماء على وجهه ويديه، فكذلك جميع جسد
الجنب ورأسه، فى حكم وجه المتوضئ ويديه وهذا لازم. قال
غيره: ألا تراهم أجمعوا أن الوضوء للصلاة لا يجزئ فيه إلا
إمرار اليد، وأجمعوا أن الوضوء فى الغسل من الجنابة ليس
بفرض؟ وإذا كان ذلك، فإن المغتسل من الجنابة الذى لا يقول
بإمرار اليد إذًا لم يتوضأ لاغتساله، فقد أوجب وضوءًا
للصلاة دون إمرار اليد، وهو لا يقول بذلك فنقض قوله.
- باب الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ
/ 1 - فيه عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ بَدَأَ
فَغَسَلَ يَدَيْهِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ كَمَا يَتَوَضَّأُ
لِلصَّلاةِ، ثُمَّ يُدْخِلُ أَصَابِعَهُ فِى الْمَاءِ،
فَيُخَلِّلُ بِهَا أُصُولَ الشَعْرِ، ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى
رَأْسِهِ ثَلاثَ غُرَفٍ بِيَده، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ
عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ. / 2 - وفيه: مَيْمُونَةَ زَوْجِ
النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَتْ: تَوَضَّأَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وُضُوءَهُ
لِلصَّلاةِ غَيْرَ رِجْلَيْهِ، وَغَسَلَ فَرْجَهُ، وَمَا
أَصَابَهُ مِنَ الأذَى، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَيْهِ الْمَاءَ،
ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ فَغَسَلَهُمَا، هَذِهِ صفة
غُسْلُهُ مِنَ الْجَنَابَةِ. قال المؤلف: العلماء مجمعون
على استحباب الوضوء قبل الغسل
(1/368)
تأسيًا برسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى
ذلك، ويحتمل أن يكون قدّم الوضوء قبل الغسل، لفضل أعضاء
الوضوء، أو لغير ذلك، وأما الوضوء بعد الغسل، فلا وجه له
عند العلماء. وروى نافع، عن ابن عمر، أنه سئل عن الوضوء
بعد الغسل، فقال: وأى وضوء أعم من الغسل. وقد ذكر ابن أبى
شيبة، قال: حدثنا معمر بن سليمان، عن أبيه، عن عطاء بن
السائب، عن أبى البخترى، أن عليًا كان يتوضأ بعد الغسل.
وروى الزهرى، عن سالم، قال: كان أبى يغتسل، ثم يتوضأ،
فأقول أما يجزئك الغسل؟ فقال: وأى وضوء أتم من الغسل
للجنب، ولكنى يخيل إلىَّ أنه يخرج من ذكرى شىء فأمسه
فأتوضأ لذلك. وأما حديث علىّ فهو مرسل، لأن يحيى بن معين،
قال: أبو البخترى الطائى اسمه سعيد ابن عبيد ثقة، ولم يسمع
من على بن أبى طالب، ولو ثبت عن علىّ لكان إنما فعله
لانتقاض وضوئه، أو شكَّ فيه كما قال ابن عمر، وروى أبو
إسحاق السبيعى، عن أبى الأسود بن يزيد، عن عائشة، قالت:
كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا يتوضأ بعد الغسل من
الجنابة.
3 - باب غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرَأَتِه
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا
وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ
مِنْ قَدَحٍ يُقَالُ لَهُ: الْفَرَقُ. فيه: دليل على جواز
الغسل والوضوء بفضل الجنب والحائض.
(1/369)
وقد تقدم اختلاف العلماء فى هذه المسألة،
وحجة كل فريق فى باب وضوء الرجل مع امرأته، فأغنى عن
إعادته، وذكر ابن أبى شيبة، عن أبى هريرة أنه كان ينهى أن
يغتسل الرجل والمرأة من إناء واحد. وأظنه غاب عنه هذا
الحديث، والحجة فى السنة لا فيما خالفها. وقال ابن جرير:
الفَرَق بفتح الراء. وقال ابن يزيد الأنصارى: الفرق بفتح
الراء وإسكانها. وقال أبو عبيد: الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة
عشر رطلاً، فكان لكل واحد منهما ثمانية أرطال، وقال أبو
داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة
عشر رطلاً. وقال ابن مدين، عن عيسى بن دينار، قال ابن
القاسم، وسفيان بن عيينة: الفرق ثلاثة أصوع، وإذا كان
الفرق ثلاثة أصوع كما قال الأئمة، نصفه صاع ونصف، وذلك
ثمانية أرطال فالصاع ثلثها، وهو خمسة أرطال وثلث، كما ذهب
إليه أهل المدينة.
4 - باب الْغُسْلِ بِالصَّاعِ وَنَحْوِهِ
/ 4 - فيه: أَبُو سَلَمَةَ، أنه دَخَل عَلَى عَائِشَةَ
مَعَ أَخِيهَا، فَسَأَلَهَا أَخُوهَا عَنْ غُسْلِ رسُول
اللَّه (صلى الله عليه وسلم) ، فَدَعَتْ بِإِنَاءٍ نَحْو
مِنْ الصَّاع، فَاغْتَسَلَتْ، وَأَفَاضَتْ عَلَى
رَأْسِهَا، قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: وَبَيْنَنَا وَبَيْنَهَا
حِجَابٌ. / 5 - وفيه: جَابِر أنه سُئل عَنِ الْغُسْلِ،
فَقَالَ: يَكْفِيكَ صَاعٌ. فَقَالَ رَجُلٌ: مَا
يَكْفِينِى، قَالَ جَابِرٌ: قَدْ كَانَ يَكْفِى مَنْ هُوَ
أَوْفَى مِنْكَ شَعَرًا، وَخَيْرٌ مِنْكَ، ثُمَّ أَمَّنَا
فِى ثَوْبٍ.
(1/370)
/ 6 - وفيه: ابْنُ عَبَّاس، أَنَّ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَمَيْمُونَةَ كَانَا
يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ. اختلف أهل الحجاز،
وأهل العراق فى مقدار الصاع الذى كان يغتسل به النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، فذهب أهل الحجاز إلى أنه خمسة أرطال
وثلث، وذهب أهل العراق إلى أن وزنه ثمانية أرطال، واحتجوا
بما رواه موسى بن الجهم الجهمى، عن مجاهد، قال: دخلنا على
عائشة واستسقى بعضنا، فأتى بعس، فقالت عائشة: كان رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) يغتسل مثل هذا. قال مجاهد:
فحزرته ثمانية أرطال، تسعة أرطال، عشرة أرطال. واحتج أهل
المدينة بحديث عائشة المتقدم فى الباب قبل هذا قالت: كنت
أغتسل أنا والنبى (صلى الله عليه وسلم) من إناء واحد من
قدح يقال له: الفرق. وقد ذكرنا هنا أقوال العلماء، أن
الفرق ثلاثة أصوع، وهى ستة عشر رطلاً. وإذا صح ذلك فنصف
الفرق صاع ونصف، وذلك ثمانية أرطال، ثبت أن الصاع ثلثها،
وذلك خمسة أرطال وثلث على ما قاله أهل المدينة، وقد رجع
أبو يوسف القاضى إلى قول مالك فى ذلك حين قدم إلى المدينة،
فأخرج إليه مالك صاعًا، وقال له: هذا صاع النبى (صلى الله
عليه وسلم) ، قال أبو يوسف: فقدرته فوجدته خمسة أرطال
وثلث، وأهل المدينة أعلم بمكيالهم، ولا يجوز أن يخفى عليهم
قدره، ويعلمه أهل العراق، وإنما توارث أهل المدينة مقداره
خلفًا عن السلف، نقل ذلك عالمهم وجاهلهم، إذْ كانت الضرورة
بهم إليه فيما خصهم من أمر دينهم فى زكواتهم، وكفَّاراتهم،
وبيوعهم، ولا يجوز أن يترك مثل نقل هؤلاء الذين لا يجوز
عليهم التواطؤ والتشاعر إلى رواية واحد تحتمل روايته
التأويل، وذلك أن قول مجاهد: فحزرته فوجدته ثمانية أرطال
إلى
(1/371)
تسعة أرطال، إلى عشرة أرطال. لم يقطع حزره
على حقيقة فى ذلك، إذ الحزر لا يُعصم من الغلط وتعصم منه
الكافة التى نقلت مقداره بالوزن لا بالحزر، وأيضًا فإن ذلك
العس لو صح أن مقداره عشرة أرطال، أو تسعة أرطال، لم يكن
لهم فى ذلك حجة، إذ ليس فى الخبر مقدار الماء الذى كان
يكون فيه، هل هو ملؤه، أو أقل من ذلك؟ فقد يجوز أن يغتسل
هو (صلى الله عليه وسلم) وحده بدون ملئه، وقد يجوز أن
يغتسل هو وهى بملئه، فيكون بينهما عشرة أرطال، أو أقل،
فيوافق ما قاله أهل المدينة. فلما احتمل هذا ولم يكن فى
الخبر بيان يُقطع به لا يجوز خلافه، كان المصير إلى ما نقل
أهل المدينة، خلفهم عن سلفهم، أن الصاع وزنه خمسة أرطال
وثلث، مع ما ثبت عن عائشة أنها كانت تغتسل هى، وهو (صلى
الله عليه وسلم) من قدح يقال له: الفرق. وقد روى عن
النخعى، وهو إمام أهل الكوفة، ما يخالف قول الكوفيين،
ويوافق قول أهل المدينة. وذكر ابن أبى شيبة، عن حسين بن
على، عن زائدة، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان يقال: يكفى
الرجل لغسله ربع الفرق، قال غيره: وإنما احتيج إلى مقدار
الماء الذى كان يغتسل به (صلى الله عليه وسلم) ليردّ به
قول الإباضية فى الإكثار من الماء، وهو مذهب قديم، وجملة
الآثار المنقولة فى ذلك عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ،
يدل على أنه لا توقيت فيما يكفى من الغسل والطهارة، لذلك
استحب السلف ذكر المقدار من غير كيل. وروى عبد الرزاق، عن
ابن جريج، قال: قلت لعطاء: كم بلغك
(1/372)
أنه يكفى الجنب؟ قال: صاع للغسل من غير أن
يكال، قال ابن جريج: وسمعت عبيد بن عمير يقول مثله. روى
القعنبى، عن سليمان بن بلال، عن عبد الرحمن بن عطاء، قال:
إنه سمع سعيد بن المسيب، وسأله رجل من أهل العراق عما يكفى
الإنسان فى غسل الجنابة، فقال سعيد: إن لى تورًا يسع مدين
ماء، أو نحوهما، أغتسل به فيكفينى ويفضل منه فضل، فقال
الرجل: والله إنى لأستنثر بمدين من ماء، فقال سعيد: فما
تأمن إن كان الشيطان يلعب بك، فقال له سعيد: ثلاثة أمداد،
فقال: آلله هو قليل، فقال سعيد: فصاع، قال عبد الرحمن:
فذكرته لسليمان بن يسار، فقال مثله، وذكرته لأبى عبيدة بن
محمد بن عمار بن ياسر، فقال: هكذا سمعنا أصحاب رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) يقولون.
5 - باب مَنْ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثًا
/ 7 - فيه: جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِم، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت أَمَّا أَنَا
فَأُفِيضُ عَلَى رَأْسِى ثَلاثًا، وَأَشَارَ بِيَدَيْهِ
كِلْتَيْهِمَا -. / 8 - حَدَّثَنَا جَابِر، كَانَ رَسُول
اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَأْخُذُ ثَلاثَةَ أَكُفٍّ
وَيُفِيضُهَا عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ يُفِيضُ عَلَى سَائِرِ
جَسَدِهِ. فَقَالَ لِىَ الْحَسَنُ: إِنِّى رَجُلٌ كَثِيرُ
الشَّعَرِ، فَقُلْتُ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) أَكْثَرَ شَعَرًا مِنْكَ. فيه: غسل الرأس من الجنابة
ثلاثًا، والعدد فى ذلك مستحب عند العلماء، وما أسبغ وعَمَّ
فى ذلك أجزأ، وليس فى حديث هذا الباب الوضوء فى غسل
الجنابة، ولذلك قال جماعة الفقهاء: إنه من سنن الغسل.
(1/373)
6 - باب الْغُسْلِ مَرَّةً وَاحِدَةً
/ 9 - فيه: ابْن عَبَّاس، أَن مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ
لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مَاءً لِلْغُسْلِ،
فَغَسَلَ يَدَهِ مَرَّتَيْنِ، أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ
أَفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ، فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ، ثُمَّ
مَسَحَ يَدَهُ بِالأرْضِ، ثُمَّ مَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَرَ،
وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى
جَسَدِهِ، ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ، فَغَسَلَ
قَدَمَيْهِ. فيه: الوضوء فى الغسل من الجنابة، وموضع
الترجمة من الحديث فى قوله: تمت ثم أفاض على جسده -، ولم
يذكر مرة ولا مرتين، فحمل على أقل ما يسمى غسلاً وهو مرة
واحدة، والعلماء مجمعون أنه ليس الشرط فى الغسل إلا العموم
والإسباغ لا عددًا من المرات.
7 - باب مَنْ بَدَأَ بِالْحِلابِ أَوِ الطِّيبِ عِنْدَ
الْغُسْلِ
/ 10 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ دَعَا بِشَىْءٍ
نَحْوَ الْحِلابِ، فَأَخَذَ بِكَفِّهِ، فَبَدَأَ بِشِقِّ
رَأْسِهِ الأيْمَنِ، ثُمَّ الأيْسَرِ، فَقَالَ بِهِمَا
عَلَى وَسَطِ رَأْسِهِ. قال أبو سليمان الخطابى: الحلاب:
إناء يسع حَلْبة ناقة، وهو المِحْلب، بكسر الميم، فأما
المَحْلب، بفتح الميم، فهو الحَب الطيب الريح. قال المؤلف:
وأظن البخارى جعل الحلاب فى هذه الترجمة ضربًا من الطيب،
وإن كان ظن ذلك فقد وهم، وإنما الحلاب: الإناء الذى كان
فيه طيب النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الذى كان يستعمله
عند الغسل.
(1/374)
وفى الحديث: الحث على استعمال الطيب عند
الغسل تأسيًا بالنبى (صلى الله عليه وسلم) .
8 - باب الْمَضْمَضَةِ وَالاسْتِنْشَاقِ من الْجَنَابَةِ
/ 11 - فيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، عن مَيْمُونَةُ، قَالَتْ:
صَبَبْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، غُسْلا،
فَأَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ، فَغَسَلَهُمَا،
ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ، ثُمَّ قَالَ بِيَدِهِ الأرْضَ
فَمَسَحَهَا بِالتُّرَابِ، ثُمَّ غَسَلَهَا، ثُمَّ
تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ، ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ،
وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ
قَدَمَيْهِ، ثُمَّ أُتِىَ بِمِنْدِيلٍ، فَلَمْ يَنْفُضْ
بِهَا. وترجم له: بَاب مَسْحِ الْيَدِ بِالتُّرَابِ
لِيَكُونَ أَنْقَى. قد تقدم اختلاف العلماء فى هذا الباب
فى باب المضمضة فى الوضوء، فأغنى عن إعادته، ونزيد بيانًا،
وذلك أن العلماء مجمعون على سقوط الوضوء فى غسل الجنابة،
والمضمضة والاستنشاق سنتان فى الوضوء، فإذا سقط فرض الوضوء
فى الجنابة سقطت توابعه، فدل أن ما روته ميمونة فى ذلك فى
غسله، (صلى الله عليه وسلم) ، فهو سنة، لأنه كان يلتزم
الكمال والأفضل فى جميع عباداته. قال المهلب: وقوله: تمت
ثم قال بيده إلى الأرض - سمى الفعل قولا، كما سمى القول
فعلا، فى حديث: تمت لا حسد إلا فى اثنتين - فى قوله فى
الذى يتلو القرآن: تمت لو أوتيت مثل ما أوتى لفعلت مثل ما
فعل -. وفيه: أن الإشارة باليد والعمل قد تسمى قولا، فقول
العرب:
(1/375)
قل لى برأسك أى: أَمِلْهُ، وقالت الناقة،
وقال البعير، وقال الحائط، وهذا كله مجاز. وتركه، (صلى
الله عليه وسلم) ، للمنديل فإنه أراد، والله أعلم، إبقاء
بركة الماء والتواضع بذلك وسنذكر اختلاف العلماء فى المسح
بالمنديل فى باب نقض اليدين من غسل الجنابة، بعد هذا، إن
شاء الله. وقوله: تمت فقال بيده الأرض، فمسحها بالتراب -،
يدل، والله أعلم، أنه كان فيها أذى، وإلا فلو لم يكن فيها
أذى، لاكتفى بصب الماء وحده عليها كما فعل غير مرة.
والغُسل، بضم الغين، الماء الذى يغتسل به، والغَسل، بفتح
الغين، فعل المغتسل، كالوُضوء والوَضوء، والوُقود
والوَقود، فالوُضوء، بضم الواو، الماء الذى يتوضأ به،
والوَضوء، بفتح الواو، فعل المتوضئ، والوُقود، بضم الواو،
التوقد والتلهب، والوَقود، بفتح الواو، الحطب، وكذلك
السُّحور، والسَّحور، بضم السين، الطعام، وبفتح السين،
الفعل. قال ابن الأنبارى: وأجاز النحويون أن يكون الوضوء
والسحور والوقود مصادر، والأول هو الذى عليه أهل اللغة.
9 - باب هَلْ يُدْخِلُ الْجُنُبُ يَدَهُ فِى الإنَاءِ
قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَهَا، إِذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ
قَذَرٌ غَيْرُ الْجَنَابَةِ؟
وَأَدْخَلَ ابْنُ عُمَرَ وَالْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ يَدَهُ
فِى الطَّهُورِ، وَلَمْ يَغْسِلْهَا، ثُمَّ تَوَضَّأَ.
وَلَمْ يَرَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ بَأْسًا بِمَا
يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الْجَنَابَةِ.
(1/376)
/ 12 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ
أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مِنْ
إِنَاءٍ وَاحِدٍ تَخْتَلِفُ أَيْدِينَا فِيهِ. / 13 -
وقَالَ: أَبُو بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ
عَائِشَةَ، قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا وَالنَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنْ
جَنَابَةٍ. / 14 - وفيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىّ، (صلى
الله عليه وسلم) ، إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ
غَسَلَ يَدَيهُ. / 15 - وفيه: أَنَس، كَانَ النَّبِىُّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، وَالْمَرْأَةُ مِنْ نِسَائِهِ
يَغْتَسِلانِ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ مِنَ الجَنَابِةِ. قال
المهلب: قوله فى الترجمة: تمت هل يدخل الجنب يده فى الإناء
قبل أن يغسلها إذا لم يكن على يديه قذر غير الجنابة -،
يريد إذا كانت يده طاهرة من الجنابة ومن سائر النجاسات،
وهو جنب، فإنه يجوز له أن يدخل يده فى الإناء قبل أن
يغسلها، وليس شىء من أعضائه نجسًا بسب حال الجنابة، لقوله
(صلى الله عليه وسلم) : تمت المؤمن لا ينجس -. فإن قال
قائل: فأين موضع الترجمة من الأحاديث، فأكثرها لا ذكر فيه
لغسل اليد، وإنما جاء ذكر اليد فى حديث هشام بن عروة، عن
أبيه؟ . قيل له: حديث هشام بن عروة مُفسِّر لمعنى الباب،
والله أعلم، وذلك أن البخارى حمل حديث غسل اليد قبل
إدخالها فى الماء الذى رواه هشام، إذا خشى أن يكون قد علق
بها شىء من أذى الجنابة، أو غيرها، وما لا ذكر فيه لغسل
اليد من الأحاديث، حملها على يقين طهارة اليد من أذى
الجنابة أو غيرها، فاستعمل من اختلاف الأحاديث فائدتين جمع
بهما بين معانيها، وانتفى بذلك
(1/377)
التعارض عنها، وقد روى هذا المعنى عن ابن
عمر، ذكر ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن أبى سنان
ضرار، عن محارب، عن ابن عمر، قال: من اغترف من ماء وهو جنب
فما بقى منه نجس. فهذا محمول من قوله على أنه كان بيده قذر
الجنابة، وإلا فهو معارض لما روى البخارى عن ابن عمر، وقد
روى مثل هذا التأويل عن جماعة من السلف. روى عبد الرزاق،
عن ابن جريج، عن عطاء، قال: إذا أمنت أن يكون بكفيك قشب،
فما يضرك أن تدخلهما فى وضوئك قبل أن تغسلهما. وعن معمر،
عن قتادة، أن ابن سيرين كان يخرج من الكنيف، فيدخل يده فى
وضوئه قبل أن يغسلها، فقيل له: ما هذا؟ فقال: إنى لا أمس
بها شيئًا. وعن سالم، وسعيد بن جبير مثله. وممن كان يدخل
يده فى غسل الجنابة قبل أن يغسلها سعد بن أبى وقاص، وسعيد
بن المسيب. وقال الشعبى: كان أصحاب رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) يدخلون أيديهم الماء قبل أن يغسلوها وهم جنب،
والنساء وهن حيض، ولا يفسد ذلك بعضهم على بعض، وذكر ذلك
كله ابن أبى شيبة، وعبد الرزاق. وأما قوله: تمت ولم ير ابن
عمر، وابن عباس بأسًا بما ينتضح من غسل الجنابة -، فروى
مثله عن أبى هريرة، وابن سيرين، والنخعى، والحسن، وقال
الحسن: ومن ذلك انتشار الماء، إنّا لنرجو من رحمة الله ما
هو أوسع من هذا.
(1/378)
- باب مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى
شِمَالِهِ فِى الْغُسْلِ
/ 16 - فيه: مَيْمُونَةَ، قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِىّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، غُسْلا فَسَتَرْتُهُ، فَصَبَّ
عَلَى يَدِهِ، فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ،
ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِينِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ
فَرْجَهُ، ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأرْضِ أَوْ
بِالْحَائِطِ، ثُمَّ مَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ. . . . وذكر
تمام الغسل. هذا الحديث محمول عند البخارى على أنه كان فى
يده أو فى فرجه جنابة أو أذى، فلذلك دلك يده بالأرض وغسلها
قبل إدخالها فى وضوئه على ما قدمنا ذكره فى هذا الباب قبل
هذا، والله أعلم.
- باب تَفْرِيقِ الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ
بَعْدَمَا جَفَّ وَضُوءُهُ. / 17 - فيه: مَيْمُونَةُ
قَالَتْ: وَضَعْتُ لِلنَّبِى، (صلى الله عليه وسلم) ،
مَاءً يَغْتَسِلُ بِهِ. . . وذكر الحديث إلى قوله: ثُمَّ
أَفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ، ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مغتسله،
فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ. اختلف العلماء فى تفريق الوضوء
والغسل، فممن أجاز ذلك: ابن عمر، وابن المسيب، وعطاء،
وطاوس، والنخعى، والحسن، والثورى، وأبو حنيفة، والشافعى،
ومحمد بن عبد الله ابن عبد الحكم. وممن لم يُجز تفرقته:
عمر بن الخطاب، وهو قول قتادة، وربيعة، والأوزاعى، والليث
إذا فرقه حتى جف، وهو ظاهر مذهب مالك إذا فرقه حتى جف، وإن
فرقه يسيرًا جاز، وإن فرقه على وجه
(1/379)
النسيان يجزئه وإن طال، وأما إن تَعمِّد
ذلك، فلا يجزئه. هذا قول ابن القصار. قال: ومن أصحاب مالك
من قال: الموالاة مستحبة، وروى ابن وهب، عن مالك، قال: ولو
نزع خفيه، وأقام طويلاً لم يغسل رجليه وأحب إلىَّ أن يأتنف
الوضوء، وإن غسل رجليه وصلى أجزأه. وحجة من أجاز تفرقته،
حديث ميمونة: تمت أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، تنحى
عن مقامه، فغسل قدميه -، وفعل ابن عمر، ولو كان لا يجزئه،
لبينه (صلى الله عليه وسلم) ، واحتجوا أيضًا بأن الله
تعالى أمر المتوضئ بغسل الأعضاء، فمن أتى بغسل ما أمر به
متفرقًا، فقد أدى ما أُمر به، وتمت الواو - فى الآية لا
تعطى الفور. وقال الطحاوى: جفوف الوضوء ليس بحدث فلا ينقض،
كما أن جفوف سائر الأعضاء لا يبطل الطهارة. واحتج من لم
يجز التفرقة، بأن التنحى فى حديث ميمونة من موضع الغسل
يقرب ويبعد، واسم التنحى بالقرب أولى، وأما جفوف الوضوء فى
فعل ابن عمر فلا يكون إلا بالبعد، لكن الذى مضى عليه عمل
النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، الموالاة، وتواطأ على ذلك
فعل السلف، واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا، أنه لما جاز
التفريق اليسير جاز الكثير، أصله الحج، وعكسه الصلاة، لأنه
لو وقف بعرفة وطاف يوم النحر أجزأه، وهذا تفريق يسير، ولو
وقف وطاف بعد شهر أجزأه، ولو طاف خمسة أشواط، وطاف شوطين
فى وقت آخر أجزأه. فعارضهم أهل المقالة الثانية، فقالوا:
أما قياسكم على التفريق اليسير فغلط، لأن الأصول قد جوزت
العمل اليسير فى الصلاة،
(1/380)
ومنعت من الكثير، ولو تعمد قتل عقرب، أو دب
ليسدَّ الصفَ جاز، ولو اشتغل بإخراج غريق وهو فى الصلاة
بطلت الصلاة، والقياس على الصلاة أولى من القياس على الحج،
لأن الطهارة تراد للصلاة.
- باب إِذَا جَامَعَ ثُمَّ عَاوَدَ وَمَنْ دَارَ عَلَى
نِسَائِهِ بِغُسْل وَاحِدٍ
(1) / 18 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ،
ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِمًا، يَنْضَحُ طِيبًا. / 19 - وفيه:
أَنَس، كَانَ رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) يَدُورُ
عَلَى نِسَائِهِ فِى السَّاعَةِ الْوَاحِدَةِ مِنَ
اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَهُنَّ إِحْدَى عَشْرَةَ امرأة،
قُلْتُ لأنَسٍ: أَوَكَانَ يُطِيقُهُ؟ قَالَ: كُنَّا
نَتَحَدَّثُ أَنَّهُ أُعْطِىَ قُوَّةَ ثَلاثِينَ. وَقَالَ
سَعِيدٌ، عَنْ قَتَادَةَ: عَن أَنَس: تمت تِسْعُ نِسْوَةٍ
-. لم تختلف العلماء فى جواز وطء جماعة نساء فى غسل واحد
على ما جاء فى حديث عائشة، وأنس. وروى ذلك عن ابن عباس،
وقاله عطاء، ومالك، والأوزاعى. وإنما اختلفوا إذا وطئ
جماعة نسائه فى غسل واحد، هل عليه أن يتوضأ وضوءه للصلاة
عند وطء كل واحدة منهن أم لا؟ فروى عن عمر بن الخطاب، وابن
عمر أنه إذا أراد أن يعود توضأ وضوءه للصلاة، وبه قال عطاء
وعكرمة، وكان الحسن البصرى لا يرى بأسًا أن يجامع الرجل
امرأته، ثم يعود قبل أن يتوضأ، وعن ابن سيرين مثله، وبهذا
قال مالك وأكثر الفقهاء أنه لا وضوء عليه.
(1/381)
وقال أحمد بن حنبل: إن توضأ أعجب إلىّ، فإن
لم يفعل فأرجو ألا يكون به بأس. وبه قال إسحاق، وقال: لابد
من غسل الفرج إذا أراد أن يعود. ويحتمل أن يكون دورانه
(صلى الله عليه وسلم) عليهن فى يوم واحد لمعان: أحدها: أن
يكون ذلك عند إقباله من سفره، حيث لا قسمة تلزمه لنسائه،
لأنه كان إذا سافر أقرع بين نسائه فأيتهن أصابتها القرعة
خرجت معه، فإذا انصرف استأنف القسمة بعد ذلك، ولم تكن
واحدة منهن أولى بالابتداء من صاحبتها، فلما استوت حقوقهن،
جمعهن كلهن فى ليلة، ثم استأنف القسمة بعد ذلك. والوجه
الثانى: يحتمل أن يكون استطاب أنفس أزواجه، فاستأذنهن فى
ذلك كنحو استئذانهن أن يُمرَّض فى بيت عائشة، قاله أبو
عبيد. والوجه الثالث: قاله المهلب، قال: يحتمل أن يكون
دورانه عليهن فى يوم يفرغ من القسمة بينهن، فيقرع فى هذا
اليوم لهن كلهن يجمعهن فيه، ثم يستأنف بعد ذلك القسمة،
والله أعلم. وفى هذا الحديث أن الإماء يعددن من نسائه،
لقوله: تمت وهن إحدى عشرة امرأة -، لأنه لم يحل له من
الحرائر إلا تسع، وهو حجة لمالك فى قوله: إن من ظاهر من
أمته لزمه الظهار، لأنها من نسائه، واحتج بظاهر قوله
تعالى: (الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم)
[المجادلة: 2] وسيأتى فى كتاب النكاح زيادة من الكلام فى
هذا الحديث، إن شاء الله عز وجل.
(1/382)
وقد احتج بحديث عائشة من لا يوجب التدلك فى
الغسل، وقال: لو تدلك (صلى الله عليه وسلم) لم ينتضح منه
الطيب. قال الطحاوى: وقد يجوز أن يكون دَلَكَ وقد غسله،
وهكذا الطيب إذا كان كثيرًا، ربما غسله، فذهب وبقى وَبيصه.
قال المؤلف: ومن روى هذا الحديث: تمت ينضخ طيبًا - بالخاء،
فالنضخ عند العرب كاللطخ، يقال: نضخ ثوبه بالطيب، هذا قول
الخليل. وفى كتاب الأفعال: نضخت العين بالماء نضخًا إذا
فارت، واحتج بقوله الله تعالى: (فِيهِمَا عَيْنَانِ
نَضَّاخَتَانِ) [الرحمن: 66] ، ومن رواه تمت ينضح -
بالحاء، فقال صاحب العين: نضحت العين بالماء إذا رأيتها
تفور، وكذلك العين الناظرة، إذا رأيتها تغرورق، والوبيص:
البريق واللمعان.
- باب غَسْلِ الْمَذْىِ وَالْوُضُوءِ مِنْهُ
/ 20 - فيه: عَلِىّ بن أَبِى طالب، قَالَ: كُنْتُ رَجُلا
مَذَّاءً، فَأَمَرْتُ رَجُلا أَنْ يَسْأَلَ النَّبِىَّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، لِمَكَانِ ابْنَتِهِ، فَسَأَلَه،
فَقَالَ: تمت تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ -. اختلف
العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت طائفة: يغسل الذكر كله
من المذى، ثم يتوضأ مثل وضوئه للصلاة، روى هذا عن عمر بن
الخطاب، وابن عباس، وهو قول مالك فى المدوّنة، وحجتهم قوله
(صلى الله عليه وسلم) : تمت توضأ واغسل ذكرك -، وهذا ظاهره
العموم.
(1/383)
وقال آخرون: إنما يجب غسل موضع الأذى من
الذكر فقط مع الوضوء، لا غسل الذكر كله، وروى هذا عن ابن
عباس أيضًا، وعن سعيد بن جبير، وعطاء، وهو قول الكوفيين.
وقال ابن أبى زيد: قال البغداديون من أصحاب مالك: إن معنى
غسل الذكر من المذى: غسل موضع الأذى فقط. واحتج الكوفيون
بما رواه الأعمش، عن حبيب بن أبى ثابت، عن سعيد بن جبير،
عن ابن عباس، قال: قال على: كنت رجلاً مذاءً فأمرت رجلاً
فسأل النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: فيه الوضوء.
ورواه أبو حصين، عن أبى عبد الرحمن، عن على، قال: كنت
رجلاً مذاءً، فأرسلت رجلاً إلى النبى، (صلى الله عليه
وسلم) ، فقال: تمت توضأ واغسله -. واحتج أبو عبد الله بن
الفخار لقول البغداديين من أصحاب مالك، قال الدليل على
صحته: أن مالكًا روى فى موطئه حديث المقداد فى غسل المذى،
وفيه: تمت فليغسل فرجه وليتوضأ -، هكذا رواه القعنبى، وابن
وهب، وابن بكير، وجماعة. قال: والفرج فى اللغة: الشق بين
الجبلين، فحقيقة الفرج إنما تقع على موضع مخرج البول
والمذى فقط. وروى يحيى بن يحيى تمت فلينضح فرجه -، ومعناه
الغسل. قال الطحاوى: وأما النظر فى هذا الباب، فإنا رأينا
خروج المذي
(1/384)
حدثًا، فأردنا أن نعلم ما يجب فى خروج
الأحداث، فكان خروج الغائط يجب فيه غسل ما أصاب البدن لا
غسل ما سوى ذلك، إلا التطهر للصلاة، فالنظر على ذلك أن
يكون خروج المذى كذلك لا يجب فيه غسل غير الموضع الذى
أصابه من البدن غير التطهر للصلاة.
- باب مَنْ تَطَيَّبَ ثُمَّ اغْتَسَلَ وَبَقِىَ أَثَرُ
الطِّيبِ
/ 21 - فيه: عَائِشَةَ، أَنّه ذُكر لَهَا قَوْلَ ابْنِ
عُمَرَ: مَا أُحِبُّ أَنْ أُصْبِحَ مُحْرِمًا أَنْضَحُ
طِيبًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَنَا طَيَّبْتُ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ طَافَ فِى
نِسَائِهِ، ثُمَّ أَصْبَحَ مُحْرِمًا. / 22 - وفيه:
وَقَالَتْ عَائِشَة: كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ
الطِّيبِ فِى مَفْرِقِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ،
وَهُوَ مُحْرِمٌ. قال المهلب: فيه أن السنة اتخاذ الطيب
للنساء والرجال عند الجماع، فكان (صلى الله عليه وسلم)
أملك لأربه من سائر أمته، فلذلك كان لا يتجنب الطيب فى
الإحرام ونهانا عنه، لضعفنا عن ملك الشهوات، إذ الطيب من
أسباب الجماع ودواعيه، والجماع يفسد الحج، فمنع فيه الطيب
للذريعة. وسيأتى اختلاف العلماء فى الطيب للمحرم فى كتاب
الحج، والوبيص: البريق واللَّمعان. وقد احتج بحديث عائشة
من لا يوجب التدلك فى الغسل، وقالوا: لو تدلك فى غسله لم
ينضح الطيب منه. وقال الطحاوى: وقد يجوز أن يكون دلك وقد
غسله، وهكذا الطيب إذا كان كثيرًا، ربما غسله فذهب وبقى
وبيصه.
(1/385)
- باب تَخْلِيلِ الشَّعَرِ حَتَّى إِذَا
ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ أَفَاضَ عَلَيْهِ
/ 23 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) إِذَا اغْتَسَلَ مِنَ الْجَنَابَةِ،
غَسَلَ يَدَيْهِ، وَتَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلاةِ، ثُمَّ
اغْتَسَلَ، ثُمَّ يُخَلِّلُ بِيَدِهِ شَعَرَهُ، حَتَّى
إِذَا ظَنَّ أَنَّهُ قَدْ أَرْوَى بَشَرَتَهُ، أَفَاضَ
عَلَيْهِ الْمَاءَ ثَلاثَ غرفات، ثُمَّ غَسَلَ سَائِرَ
جَسَدِهِ -. قال المؤلف: أما تخليل شعر الرأس فى غسل
الجنابة فالعلماء مجمعون عليه، وعليه قاسوا شعر اللحية،
لأنه شعر مثله، فحكمه حكمه فى التخليل، إلا أنهم اختلفوا
فى تخليل اللحية، فممن كان يخلل لحيته: عثمان بن عفان،
وعلى بن أبى طالب، وعمار بن ياسر، وابن عباس، وابن عمر،
وأنس، ومن التابعين أبو قلابة، والنخعى، وسعيد بن جبير،
وعطاء. وممن رخص فى تخليلها: الشعبى، وطاوس، والقاسم،
والحسن، وأبو العالية، ورواية عن النخعى. واختلف قول مالك
فى تخليلها، فروى عنه ابن القاسم أنه لا يجب تخليلها فى
غسل الجنابة، ولا فى الوضوء، وروى عنه ابن نافع، وابن وهب
فى المجموعة إيجاب تخليلها مطلقًا، ولم يذكرا غسلاً ولا
وضوءًا، وروى عنه أشهب فى العتبية أن تخليلها فى الغسل
واجب، ولا يجب فى الوضوء، وبه قال أبو حنيفة، والثورى،
والأوزاعى، والليث، وأحمد، وإسحاق. وحكى ابن القصار، عن
الشافعى أن التخليل مسنون، وإيصال الماء إلى البشرة مفروض
فى الجنابة مثل أن يغلغل الماء فى شعره، أو يبله
(1/386)
حتى يعلم أن الماء قد وصل إلى البشرة، وقال
المزنى، ومحمد بن عبد الحكم: تخليلها واجب فى الوضوء
والغسل جميعًا. وحجة من قال بتخليلها فى الغسل حديث عائشة
أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، اغتسل وخلل شعره بيديه.
فدخل فيه شعر اللحية وغيرها. وأما تخليلها فى الوضوء، فقال
ابن القاسم، عن مالك: ليس هو من أمر الناس، وعاب ذلك على
من فعله، وقال أبو قرة: يكفيها ما مر عليها من الماء مع
غسل الوجه، واحتج بحديث عبد الله بن زيد فى الوضوء، ولم
يذكر فيه تخليل اللحية، وقال الطحاوى: التيمم فيه واجب مسح
البشرة قبل نبات اللحية، ثم سقط بعدها عند جميعهم، فكذلك
الوضوء، وحجة من لم ير تخليل اللحية فى الجنابة، أنا قد
اتفقنا أن داخل العينين لا يجب غسله، بعلة أن درنه سائر من
نفس الخلقة، وأيضًا فإن الأمرد الذى لا لحية له يجب عليه
غسل ذقنه فى الوضوء والجنابة، ثم يسقط غسله فى الوضوء إذا
غطاه الشعر، فينبغى أن يسقط فى الجنابة.
- باب مَنْ تَوَضَّأَ فِى الْجَنَابَةِ ثُمَّ غَسَلَ
سَائِرَ جَسَدِهِ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ مَوَاضِعِ
الْوُضُوءِ مَرَّةً أُخْرَى
/ 24 - فيه: مَيْمُونَةَ أنها وَضَعَت للنَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) وَضُوء الجَنَابَة، فَأَكْفَأَ بِيَمِينِهِ
عَلَى بَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاثًا، ثُمَّ غَسَلَ
فَرْجَهُ، ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ، ثُمَّ
غَسَلَ جَسَدَهُ. . . . -، الحديث. أجمع العلماء على أن
الوضوء ليس بواجب فى غسل الجنابة،
(1/387)
ولذلك قال ابن عمر: وأى وضوء أعم من الغسل؟
فلما ناب غسل مواضع الوضوء وهى سنة فى الجنابة عن غسلها فى
الجنابة، وغسل الجنابة فريضة، صح بذلك قول مطرف، وابن
الماجشون، وابن كنانة، وابن وهب، وابن نافع، وأشهب: أن غسل
الجمعة يجزئ عن غسل الجنابة، ورووه كلهم عن مالك، وهى خلاف
رواية ابن القاسم. قال المهلب: ووجه ذلك أن النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، لما اجتزأ بغسل أعضاء الوضوء عن أن
يغسلها مرة أخرى للجنابة، دل أن الطهارة إذا نوى بها رفع
الحدث أجزأت عن كل معنى يراد به استباحة الصلاة، ولهذا
الحديث، والله أعلم، قال عطاء: إذا غسلتُ كفَّىَّ قبل
إدخالهما الإناء لم أغسلهما مع الذراعين فى الوضوء. وفى
هذا الحديث أيضًا حجة لأحد قولى مالك فى رجل توضأ للظهر،
ثم صلى، ثم أراد أن يجدد الوضوء للعصر للفضل، فلما صلى
العصر، ذكر أن الوضوء الأول قد انتقض، فقال مرة: تجزئه
صلاته، وقال مرة: إنها لا تجزئه. والصواب أنها تجزئه، لأن
الوضوء عنده للسنن تجزئ به صلوات الفرائض، ومثل هذه
المسألة اختلاف ابن القاسم، وابن الماجشون، فيمن صلى فى
بيته، ثم صلى تلك الصلاة فى المسجد، فذكر أنه كان صلى فى
بيته على غير وضوء، فقال ابن القاسم: تجزئه. وقال ابن
الماجشون: لا تجزئه. وقول ابن القاسم الصواب بدليل هذا
الحديث، فإنه وإن كان صلاها على طريقة الفضيلة، فإنه نوى
بها تلك الصلاة بعينها والقربة إلى الله بتأديتها، كما نوى
بغسل يديه وغسل مواضع الوضوء القربة إلى الله، ولم يحتج
إلى إعادتها فى الغسل من
(1/388)
الجنابة، وقد قال ابن عمر للذى سأله عن
الذى يصلى فى بيته، ثم يصلى تلك الصلاة فى المسجد تمت
أيهما أجعل صلاتى؟ فقال: أو ذلك إليك؟ هى إلى الله يجعل
أيتهما شاء -. وقوله فى الحديث فى الباب قبل هذا: تمت ثم
غسل سائر جسده - كان أولى بهذه الترجمة، وهو تبيين لرواية
من روى فيه: تمت ثم أفاض على جسده الماء، وصب أو أفرغ على
جسده -، والمراد بذلك: الغسل لما بقى من الجسد دون أعضاء
الوضوء بدليل قوله تعالى: (وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي
سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43] ، وقد تقدم
من الحجة فى هذه المسألة فى أول كتاب الغسل ما فيه
الكفاية.
- باب إِذَا ذَكَرَ فِى الْمَسْجِدِ أَنَّهُ جُنُبٌ خَرَجَ
كَمَا هُوَ وَلا يَتَيَمَّمُ
/ 25 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: أُقِيمَتِ
الصَّلاةُ، وَعُدِّلَتِ الصُّفُوفُ قِيَامًا، فَخَرَجَ
إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَلَمَّا قَامَ فِى مُصَلاهُ، ذَكَرَ أَنَّهُ جُنُبٌ،
فَقَالَ لَنَا: تمت مَكَانَكُمْ -، ثُمَّ رَجَعَ،
فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ خَرَجَ إِلَيْنَا، وَرَأْسُهُ
يَقْطُرُ، فَكَبَّرَ، وَصَلَّيْنَا مَعَهُ. قال المؤلف: من
التابعين من يقول: إن الجنب إذا نسى، فدخل المسجد فذكر أنه
جنب يتيمم، وكذلك يخرج، وهو قول الثورى، وإسحاق، وهذا
الحديث يرد قولهم. وقال أبو حنيفة فى الجنب المسافر يمر
على مسجد فيه عين ماء: فإنه يتيمم، ويدخل المسجد، فيستقى،
ثم يخرج الماء من المسجد، وهذا الحديث يدل على خلاف قوله،
لأنه لما لم يلزمه التيمم للخروج، كذلك من اضطر إلى المرور
فيه جنبًا لا يحتاج إلى تيمم.
(1/389)
وقد اختلف العلماء فى مرور الجنب فى
المسجد، فرخص فيه على، وابن مسعود، وابن عباس، وقال جابر:
كان أحدنا يمر فى المسجد وهو جنب. وممن روى عنه إجازة
دخوله عابر سبيل: سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وسعيد بن
جبير، وهو قول الشافعى. ورخصت طائفة للجنب أن يدخل المسجد
ويقعد فيه، قال زيد بن أسلم: كان أصحاب رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) يحتبون فى المسجد وهم جنب. وكان أحمد بن
حنبل يقول: يجلس الجنب فى المسجد ويمر فيه إذا توضأ، ذكره
ابن المنذر. وقال مالك والكوفيون: لا يدخل فيه الجنب، ولا
عابر سبيل، وروى عن ابن مسعود أيضًا أنه كره ذلك للجنب.
وحجة الذين رخصوا فى ذلك قوله تعالى: (لاَ تَقْرَبُواْ
الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا
تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ
تَغْتَسِلُواْ) [النساء: 43] . وأن المراد مكان الصلاة،
فتقديره: لا تقربوا مكان الصلاة جنبًا إلا عابرى سبيل،
قالوا: وقد سمى المسجد باسم الصلاة فى قوله تعالى:
(لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ) [الحج: 40] . وحجة الذين منعوا
الجنب من دخول المسجد: أن المراد بالآية نفس الصلاة وحملها
على مكان الصلاة مجاز، على أنا نحمله على عمومه فنقول: لا
تقربوا الصلاة ولا مكانها على هذه الحال إلا أن تكونوا
مسافرين فتيمموا واقربوا ذلك، وصلوا، ونكون بهذا أسعد منكم
لأن فيه تعظيمًا لحرمة المسجد، ويمكن أن يستدل من هذه
(1/390)
الآية بقول الثورى، وإسحاق، وذلك أن
المسافر إذا عدم الماء منع دخول المسجد والصلاة فيه إلا
بالتيمم وذلك لضرورة، وأنه لا يقدر على ماء، فكذلك الذى
يجنب فى المسجد، فى القياس، لا يخرج إلا بعد التيمم، لأنه
مضطر لا ماء معه، فأشبه المسافر العابر سبيل المذكور فى
الآية لولا ما يعارضه من حديث أبى هريرة المفسر لمعنى
الآية، لجواز خروجه من المسجد دون تيمم، ولا قياس لأحد مع
مجئ السنن، وإنما يُفزع إلى القياس عند عدمها، والله
الموفق.
- باب نَفْضِ الْيَدَيْنِ مِنَ غُسلِ الْجَنَابَةِ
/ 26 - فيه: مَيْمُونَةُ: تمت وَضَعْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى
الله عليه وسلم) ، غُسْلا. . . -، وذكر الحديث: تمت
فَنَاوَلْتُهُ ثَوْبًا، فَلَمْ يَأْخُذْهُ فَانْطَلَقَ،
وَهُوَ يَنْفُضُ يَدَيْهِ -. اختلف العلماء فى المسح
بالمنديل بعد الوضوء، فكره ذلك جابر، وعطاء، وابن أبى
ليلى، وابن المسيب، والنخعى، وأبو العالية، وهو قول الحسن
بن حى. وكره ابن عباس أن يمسح بالمنديل من الوضوء، ولم
يكرهه من الجنابة. وممن رخص فى ذلك عثمان بن عفان، وعلى بن
أبى طالب، وابن عمر، وأنس بن مالك، وبشير بن أبى مسعود،
والحسن، والشعبى، وابن سيرين، وعلقمة، والأسود، ومسروق،
وهو قول مالك، والثورى، وأبى حنيفة، والأوزاعى، وأحمد،
وإسحاق. قال ابن المنذر: ذلك مباح كله. قال المهلب: ويمكن
أن يريد بترك المنديل إبقاء بركة بلل الماء
(1/391)
والتواضع بذلك لله تعالى، أو لشىء رآه فى
المنديل من حرير، أو وسخ، أو لاستعجال كان به، والله أعلم.
وقد روى ابن وهب، عن زيد بن الحباب، عن أبى معاذ، عن ابن
شهاب، عن عروة، عن عائشة، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم)
، كانت له خرقة يتنشف بها بعد الوضوء.
- باب مَنِ اغْتَسَلَ عُرْيَانًا وَحْدَهُ فِى الْخَلْوَةِ
وَمَنْ تَسَتَّرَ، وَالتَّسَتُّرُ أَفْضَلُ
وَقَالَ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ،
عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ اللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَا مِنْهُ مِنَ النَّاسِ -. / 27 -
فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه
وسلم) ، قَالَ: تمت كَانَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ
يَغْتَسِلُونَ عُرَاةً، يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ،
وَكَانَ مُوسَى يَغْتَسِلُ وَحْدَهُ، فَقَالُوا: وَاللَّهِ
مَا يَمْنَعُ مُوسَى أَنْ يَغْتَسِلَ مَعَنَا إِلا أَنَّهُ
آدَرُ، فَذَهَبَ مَرَّةً يَغْتَسِلُ، فَوَضَعَ ثَوْبَهُ
عَلَى حَجَرٍ، فَفَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِهِ، فَخَرَجَ
مُوسَى فِى إِثْرِهِ، يَقُولُ: ثَوْبِى يَا حَجَرُ،
ثَوْبِى يَا حَجَرُ، ثَوْبِى يَا حَجَرُ، حَتَّى نَظَرَتْ
بَنُو إِسْرَائِيلَ إِلَى مُوسَى، وَقَالتْ: وَاللَّهِ مَا
بِمُوسَى مِنْ بَأْسٍ، وَأَخَذَ ثَوْبَهُ، وَطَفِقَ
بِالْحَجَرِ ضَرْبًا -. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ
إِنَّهُ لَنَدَبٌ بِالْحَجَرِ سِتَّةٌ، أَوْ سَبْعَةٌ
ضَرْبًا بِالْحَجَرِ. / 28 - وَعَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ،
عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: تمت بَيْنَا
أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ عُرْيَانًا فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ
مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِى فِى ثَوْبِهِ،
فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ أَلَمْ أَكُنْ
أَغْنَيْكَ عَمَّا تَرَى؟ قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ،
وَلَكِنْ لا غِنَى بِى عَنْ بَرَكَتِكَ -.
(1/392)
قال المهلب: فى حديث موسى، وأيوب دليل على
إباحة التعرى فى الخلوة للغسل وغيره، بحيث يأمن أعين
الناس، لأن أيوب وموسى من الذين أمرنا أن نهتدى بهداهم،
ألا ترى أن الله عاتب أيوب على جمع الجراد، ولم يعاتبه على
غسله عريانًا، ولو كلف الله عباده الاستتار فى الخلوة كان
فى ذلك حرج على العباد، إذ كان المغتسل من الجنابة لا يجد
بدًا من التعرى والله تعالى لا يغيب عنه شىء من خلقه، عراة
كانوا أو مكتسين، وسيأتى شىء من هذا المعنى فى كتاب
الصلاة، فى باب كراهية التعرى فى الصلاة وغيرها، إن شاء
الله، إلا أن الاستتار فى الخلوة من حسن الأدب. وقد روى
ابن وهب، عن ابن مهدى، عن خالد بن حميد، عن بعض أهل الشام،
أن ابن عباس لم يكن يغتسل فى بحر ولا نهر إلا وعليه إزار،
فإذا سئل عن ذلك، قال: إن له عامرًا. وروى برد، عن مكحول،
عن عطية، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت من
اغتسل بليل فى فضاء فليتحاذر على عورته، ومن لم يفعل ذلك
فأصابه لمم فلا يلومن إلا نفسه -. وفى مرسلات الزهرى، عن
النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا تغتسلوا فى
الصحراء إلا أن لا تجدوا متوارى، فإن لم تجدوا متوارى
فليخط أحدكم كالدائرة، ثم يسمى الله ويغتسل فيها -. وفى
حديث موسى دليل على إباحة النظر إلى العورة عند الضرورة
الداعية إلى ذلك من مداواة، أو براءة مما رمى به من العيوب
كالبرص وغيره من الأدواء التى يتحاكم الناس فيها مما لابد
فيها من
(1/393)
رؤية أهل النظر بها، فلا بأس برؤية العورات
للبراءة من ذلك أو لإثبات العيوب فيه والمعالجة. وفيه: آية
لموسى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى مشى الحجر. وفيه: إجراء
خُلق الإنسان عند الضجر على من يعقل، ومن لا يعقل، كما جرى
من موسى فى ضربه للحجر، وإن كان الحجر قد جعل الله فيه
قوةً مشى بها فلذلك ضربه، لأنه إذا أمكن أن يمشى بثوبه،
أمكن أن يخشى الضرب، ألا ترى قول أبى هريرة: والله إنه
لندب بالحجر، يعنى آثار ضرب موسى، (صلى الله عليه وسلم) ،
بقيت فى الحجر آية لهم. وفيه: جواز الحلف على الأخبار لحلف
أبى هريرة أن موسى ضرب الحجر وأَثَّر فيه ضربه. وقوله: تمت
إنه لندب بالحجر -، قال صاحب العين: الندب أثر الجرح. وأما
غتسال بنى إسرائيل عراة ينظر بعضهم إلى بعض، فيدل أنهم
كانوا عصاة له فى ذلك غير مقتدين بسنته إذ كان هو يغتسل
حيث لا يراه أحد، ويطلب الخلوة، فكان الواجب عليهم
الاقتداء به فى ذلك، ولو كان اغتسالهم عراةً فى غير الخلوة
عن علم موسى وإقراره لذلك، لم يلزمنا فعله، لأن فى شريعتنا
الأمر بستر العورة عن أعين الآدميين، وذلك فرض علينا، وهو
فى الخلاء حسن غير واجب. وأما حديث بهز بن حكيم: أن النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، قال:
(1/394)
تمت إن الله أحق أن يستحى منه -، فهو محمول
عند الفقهاء على الندب والاستحباب للتستر فى الخلوة لا على
الإيجاب لما ذكرناه. وفى حديث أيوب جواز الحرص على المال
الحلال وفضل الغنى، لأنه سماه بركةً.
- باب التَّسَتُّرِ فِى الْغُسْلِ عِنْدَ النَّاسِ
/ 29 - فيه: أُمَّ هَانِئٍ بِنْتَ أَبِى طَالِبٍ، قَالَتْ:
ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
عَامَ الْفَتْحِ، فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ، وَفَاطِمَةُ
تَسْتُرُهُ، فَقَالَ: تمت مَنْ هَذِهِ -؟ قُلْتُ: أَنَا
أُمُّ هَانِئٍ. / 30 - وفيه: مَيْمُونَةَ، قَالَتْ:
سَتَرْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ
يَغْتَسِلُ مِنَ الْجَنَابَةِ. . . الحديث. أجمع العلماء
على وجوب ستر العورة عن أعين الناظرين، وأصل هذين الحديثين
ومصداقهما فى كتاب الله تعالى، قال الله تعالى: (يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ
مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ) [النور: 58] الآية. ثم قال:
(ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ
عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ) [النور: 58] ، وفى هذا دليل على أن
الجناح غير مرفوع فيهن، وقوله: (ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ
(أى إن هذه الأوقات أكثر ما يخلو فيها الرجل بأهله للجماع،
حظر الله ذلك على الأطفال الذين لم يظهروا على عورات
النساء، ولا جرت عليهم الأقلام، يدل أنه واجب على غيرهم من
الرجال والنساء التستر الذى أراده الله. وقد قال
(1/395)
تعالى: (يَا بَنِى آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا
عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِى سَوْءَاتِكُمْ) [الأعراف:
26] ، فعد علينا نعمته فى ذلك. وقال تعالى: (قُل
لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ
وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور: 30] ، فقرن غض الأبصار
عن العورات بحفظ الفروج، وقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت
لا يطوفن بالبيت عريان -، فكما لا يحل لأحد أن يبدى عن
فرجه لأحد من غير ضرورة مضطرة له إلى ذلك، فكذلك لا يجب أن
ينظر إلى فرج أحد من غير ضرورة، واتفق أئمة الفتوى على أنه
من دخل الحمام بغير مئزر أنه تسقط شهادته بذلك، هذا قول
مالك، والثورى، وأبى حنيفة، وأصحابه، والشافعى. واختلفوا
إذا نزع مئزره، ثم دخل الحوض وبدت عورته عند دخوله، فقال
مالك والشافعى: تسقط شهادته بذلك أيضًا. وقال أبو حنيفة
والثورى: لا تسقط شهادته بذلك، وهذا يعذر به، لأنه لا يمكن
التحرز منه. وروى بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، أن النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، قال له: تمت احفظ عورتك واسترها
إلا عن زوجتك وأمتك -. وأجمع العلماء على أن للرجل أن يرى
عورة أهله وترى عورته.
- باب إِذَا احْتَلَمَتِ الْمَرْأَةُ
/ 31 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، جَاءَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ
امْرَأَةُ أَبِى طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ
لا يَسْتَحْيِى مِنَ الْحَقِّ، هَلْ عَلَى الْمَرْأَةِ
مِنْ غُسْلٍ، إِذَا هِىَ احْتَلَمَتْ؟ فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت نَعَمْ، إِذَا رَأَتِ
الْمَاءَ -.
(1/396)
لا خلاف بين العلماء أن النساء إذا احتلمن
ورأين الماء، أن عليهن الغسل وحكمهن حكم الرجال فى ذلك،
وفيه دليل أن ليس كل النساء يحتلمن، لأن فى غير هذه
الرواية أن أم سلمة غطت وجهها استحياءً من رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) ، وقالت لأم سليم: وهل ترى ذلك المرأة؟ .
وكذلك أنكرت عائشة أيضًا فى حديث مالك، عن ابن شهاب، عن
عروة. وقد يفقد بعض الرجال الاحتلام، فكذلك النساء. وفى
قول أم سليم: تمت إن الله لا يستحى من الحق -، أنه يلزم كل
من جهل شيئًا من دينه أن يسأل عنه العالمين به، وأنه محمود
بذلك، ألا ترى قول عائشة، رضى الله عنها: تمت نعم النساء
نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء من التفقه فى الدين -.
وإنما يكون الحياء فيما تجد المرأة من ذكره بدا، وأما ما
يلزم السؤال عنه، فلا حياء فيه. وإنما اعتذرت أم سليم من
مشافهة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، إذ سؤالها
له أثبت فى نفسها، فلذلك قدمت بين يدى قولها: تمت إن الله
لا يستحى من الحق -.
- باب عَرَقِ الْجُنُبِ وَأَنَّ الْمُسْلِمَ لا يَنْجُس
ُ
/ 32 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، (صلى
الله عليه وسلم) ، لَقِيَهُ فِى بَعْضِ طَرِقِ
الْمَدِينَةِ، وَهُوَ جُنُبٌ، فَانْبخَسْتُ مِنْهُ،
فَذَهَبَ فَاغْتَسَلَ، ثُمَّ جَاءَ، فَقَالَ: تمت أَيْنَ
كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ -؟ قَالَ: كُنْتُ جُنُبًا،
فَكَرِهْتُ أَنْ أُجَالِسَكَ، وَأَنَا عَلَى غَيْرِ
طَهَارَةٍ، فَقَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ
الْمُؤمن لا يَنْجُسُ -.
(1/397)
قال المهلب: هذا يدل على أن الجنابة إذا لم
تكن عينًا فى الأجسام، فإن المؤمن حينئذ طاهر الأعضاء،
بحال ما المؤمنون عليه من التطهر والنظافة لأعضائهم، بخلاف
ما عليه المشركون من ترك التحفظ من النجاسات والأقذار،
فحملت كل طائفة على خلقها وعادتها، قال تعالى: (إِنَّمَا
الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ) [التوبة: 28] تغليبًا للحال، وقد
قيل فى قوله الله: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ (ليس
بمعنى نجاسة الأعضاء، لكن بمعنى نجاسة الأفعال، والكراهة
لهم، والإبعاد عما قد بَيَّن الله من بقعة أو كتاب أو رجل
صالح، ولا خلاف بين الفقهاء فى طهارة عرق الجنب والحائض.
قال ابن المنذر: وكذلك عرق اليهودى، والنصرانى، والمجوسى
عندى طاهر. وقال غيره: لما أباح الله نكاح نساء أهل
الكتاب، ومعلوم أن عرقهن لا يسلم منه من ضاجعهن، وأجمعت
الأمة على أنه لا غسل عليه من الكتابية إلا كما عليه من
المسلمة، دل ذلك على أن ابن آدم ليس بنجس فى ذاته، ما لم
تعرض له نجاسة تحل به. وقوله: تمت فانبخست منه -، وهكذا
وقعت هذه اللفظة تمت فانبخست منه - بالخاء، وفى بعض النسخ
لابن السكن تمت فانبجست منه - بالجيم، وأما بالخاء فلا
أعرف له معنى، وأما بالجيم فيحتمل أن يكون من قوله تعالى:
(فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا)
[الأعراف: 16] أى انفجرت وجرت، والأشبه أن يكون فانخسنت
منه، قال صاحب العين: يقال: خنس من بين القوم يخنس خنوسًا:
إذا انقبض، وخنوس الكواكب اختفاؤها.
(1/398)
- باب الْجُنُبُ يَخْرُجُ وَيَمْشِى فِى
السُّوقِ وَغَيْرِهِ
وَقَالَ عَطَاءٌ: يَحْتَجِمُ الْجُنُبُ، وَيُقَلِّمُ
أَظْفَارَهُ، وَيَحْلِقُ رَأْسَهُ، وَإِنْ لَمْ
يَتَوَضَّأْ. / 33 - فيه: أَنَسَ: كَانَ (صلى الله عليه
وسلم) يَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَةِ
الْوَاحِدَةِ، وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعُ نِسْوَةٍ. / 34 -
وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ لَقِيَنِى النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) وَأَنَا جُنُبٌ، فَأَخَذَ بِيَدِى، فَمَشَيْتُ
مَعَهُ، حَتَّى قَعَدَ، فَانْسَلَلْتُ منه وَأَتَيْتُ
الرَّحْلَ فَاغْتَسَلْتُ، ثُمَّ جِئْتُ وَهُوَ قَاعِدٌ،
فَقَالَ: تمت أَيْنَ كُنْتَ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ -
فَقُلْتُ لَهُ، فَقَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ، إِنَّ
الْمُؤْمِنَ لا يَنْجُسُ -. وإنما أراد البخارى أن يريك أن
الجنب لا ينجس بالسنة، وأنه يجوز له التصرف فى أموره كلها
قبل الغسل، ويرد قول طائفة من السلف أوجبت عليه الوضوء.
روى عن سعد بن أبى وقاص أنه كان إذا أجنب لا يخرج لحاجته
حتى يتوضأ وضوءه للصلاة، وعن ابن عباس مثله، وبه قال عطاء
والحسن. ومنهم من قال: لا يأكل ولا يشرب حتى يتوضأ للصلاة.
روى ذلك عن على، وابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعطاء.
والذى عليه الناس فى ذلك ما روى عن أبى الضحى أنه سئل
أيأكل الجنب؟ قال: نعم، ويمشى فى الأسواق، ولم يذكر أنه
توضأ قبل ذلك وهذا قول مالك، وأكثر الفقهاء، أن الوضوء ليس
بواجب عليه إذا أراد الخروج فى حاجاته، وليس فى حديث أنس
أن النبى كان
(1/399)
يتوضأ حين كان يطوف على كل امرأة من نسائه،
ولا فى حديث أبى هريرة أن المؤمن لا ينجس إذا كان قد توضأ
بعد الجنابة. وممن قال لا وضوء عليه إذا أراد أن يطعم:
مالك، والكوفيون، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وهو
الذى يدل عليه حديث أبى هريرة. وفى حديث أبى هريرة: جواز
أخذ الإمام والعالم بيد تلميذه ومن هو دونه ومشيه معه
معتمدًا عليه ومرتفقًا به. وفيه: أن من حسن الأدب لمن مشى
معه معلمه أو رئيسه أن لا ينصرف عنه ولا يفارقه حتى يعلمه
بذلك، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) لأبى هريرة حين
انصرف إليه: تمت أين كنت يا أبا هريرة؟ - فدل ذلك على أنه
استحب له أن لا يفارقه حتى ينصرف معه.
- باب كَيْنُونَةِ الْجُنُبِ فِى الْبَيْتِ
/ 35 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) يَرْقُدُ وَهُوَ جُنُبٌ وَيَتَوَضَّأُ. /
36 - وفيه: عُمَرَ أَنه سَأَلَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) ، أَيَرْقُدُ أَحَدُنَا وَهُوَ جُنُبٌ؟ قَالَ: تمت
نَعَمْ، إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَرْقُدْ - وَهُوَ
جُنُبٌ. / 37 - وقَالَ لَهُ مرة: تمت تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ
ذَكَرَكَ، ثُمَّ نَمْ -. / 38 - وفيه: عَائِشَةَ كَانَ
النَّبِىُّ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنَامَ وَهُوَ جُنُبٌ،
غَسَلَ فَرْجَهُ، وَتَوَضَّأَ لِلصَّلاةِ. واختلف العلماء
فى نوم الجنب، فقالت طائفة: بظاهر خبر رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) ، أنه توضأ وضوءه للصلاة، وكذلك ينام، روى هذا
عن على،
(1/400)
وابن عباس، وعائشة، وأبى سعيد الخدرى، ومن
التابعين: النخعى، وطاوس، والحسن، وبه قال: مالك، والليث،
وأبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، كلهم يستحبون
الوضوء، ويأمرون به. وشذ أهل الظاهر، فأوجبوا عليه الوضوء
فرضًا، وهذا قول مهجور لم يتابعهم عليه أحد، فلا معنى له،
وروى عن سعيد بن المسيب أنه قال: إن شاء أن ينام قبل أن
يتوضأ، وإليه ذهب أبو يوسف، فقال: لا بأس أن ينام الجنب
قبل أن يتوضأ، لأن الوضوء لا يخرجه من حال الجنابة إلى حال
الطهارة، ومن حجته ما رواه الأعمش، عن أبى إسحاق، عن
الأسود بن يزيد، عن عائشة قالت: كان رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) يجنب ثم ينام ولا يمس ماء، حتى يقوم بعد ذلك
فيغتسل. قال الطحاوى: هذا الحديث غلط، اختصره أبو إسحاق من
حديث طويل فأخطأ فيه، وذلك ما حدثنا فهد، قال: حدثنا أبو
غسان، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق، قال: أتيت
الأسود بن يزيد فقلت: حدثنى ما حدثتك عائشة عن صلاة رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) قال: قالت: كان ينام أول الليل،
ويحيى آخره، ثم إن كانت له حاجة، قضى حاجته، ثم ينام
(1/401)
قبل أن يمس ماء، فإذا كان عند النداء
الأول، أفاض عليه الماء، وإن نام جنبًا توضأ وضوء الرجل
للصلاة، فهذا الأسود بن يزيد قد بان فى حديثه أنه كان إذا
أراد أن ينام، وهو جنب، توضأ للصلاة، وبان أن قولها: ثم
ينام قبل أن يمس ماء، يعنى الغسل لا الوضوء، والدليل على
صحة ذلك ما رواه البخارى عن عمر، وعائشة، وعلى هذا التأويل
لا تتضاد الأخبار، وقد روى قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت،
قال: إذا توضأ قبل أن ينام، كان كمن اغتسل فى الثواب الذى
يكتب لمن بات على طهر. وقالت عائشة: لا ينام الجنب حتى
يتوضأ للصلاة فإنه لا يدرى لعل نفسه تصاب فى نومه، فيكون
قد أخذ بأى الطهارتين. فأما ما روى عن ابن عمر أنه كان
يتوضأ، ولا يغسل قدميه، فيدل ذلك أن محمل الحديث عندهم على
الندب، لا على الوجوب، لأن ابن عمر روى الحديث عن أبيه، عن
النبى وعَلِمَهُ فلم يترك غسل قدميه، إلا أنهم تلقوا
الحديث على أن الوضوء على غير الإيجاب.
- باب إِذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ
/ 39 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: تمت إِذَا جَلَسَ بَيْنَ شُعَبِهَا
الأرْبَعِ، ثُمَّ جَهَدَهَا، فَقَدْ وَجَبَ الْغَسْلُ -.
ذهب جماعة فقهاء الأمصار إلى وجوب الغسل إذا التقى
الختانان، وإن لم ينزلا، على ما ثبت فى هذا الحديث، وقد
روى مالك فى الموطأ عن عائشة أنها قالت: إذا جاوز الختان
الختان فقد وجب الغسل، وهى أعلم بهذا، لأنها شاهدت تطهر
رسول الله حياته وعاينته عملا، فقولها أولى ممن لم يشاهد
ذلك، وروى عن على بن أبى طالب خلافه. قال ابن القصار:
وأجمع التابعون ومن بعدهم على القول بهذا الحديث.
(1/402)
وإذا كان فى المسألة قولان بعد انقراض
الصحابة، ثم أجمع العصر الثانى بعدهم على أحد القولين، كان
ذلك مسقطًا للخلاف قبله ويصير ذلك إجماعًا، وإجماع الأعصار
عندنا حجة كإجماع الصحابة، وسنتقصى الكلام فى هذه المسألة
فى الباب الذى بعد هذا إن شاء الله. وقوله: تمت جهدها - أى
بلغ مشقتها، قال صاحب الأفعال: يقال: جهدته جهدًا، وأجهدته
بلغت مشقته، هذا قول الأصمعى، وقال الأعمش: جهدن لها مع
إجهادها به وجهده المرض وأجهده، وجهد فى الأمر، وأجهد: بلغ
فيه الجهد، وجهدت الفرس، وأجهدته: استخرجت جهده. وقال
الحسن، رحمه الله: إن الحق جهد الناس ولن يصبر عليه إلا من
رجا ثوابه عز وجل.
- باب غَسْلِ مَا يُصِيبُ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ
/ 40 - فيه: زَيْدَ بْنَ خَالِد أَنَّهُ سَأَلَ عُثْمَانَ
بْنَ عَفَّانَ أَرَأَيْتَ إِذَا جَامَعَ الرَّجُلُ
امْرَأَتَهُ فَلَمْ يُمْنِ؟ قَالَ عُثْمَانُ: يَتَوَضَّأُ
كَمَا يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاةِ، وَيَغْسِلُ ذَكَرَهُ،
وَقَالَ عُثْمَانُ: سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِىَّ بْنَ
أَبِى طَالِبٍ، وَالزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ،
وَطَلْحَةَ ابْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَأُبَىَّ بْنَ
كَعْبٍ، فَأَمَرُوهُ بِذَلِكَ. / 41 - وفيه: أَبُو
أَيُّوبَ الأنصارى أَنَّهُ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) .
(1/403)
/ 42 - ورواه أَبُو أَيُّوبَ، مرة، عَنْ
أُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ، عَنْ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) ، وَقَالَ: تمت يَغْسِلُ مَا مَسَّ الْمَرْأَةَ
مِنْهُ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وَيُصَلِّى -. قَالَ البخارى:
الْغَسْلُ أَحْوَطُ، وَذَاكَ الآخِرُ وَإِنَّمَا
بَيَّنَّاه لاخْتِلافِهِمْ. قال المؤلف: قال الأثرم: سألت
أحمد بن حنبل عن حديث عطاء بن يسار، عن زيد بن خالد، قال:
سألت خمسة من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) : عثمان،
وعلى، وطلحة، والزبير، وأُبَىّ بن كعب، فقالوا: الماء من
الماء، فيه علة؟ قال: نعم، ما يروى من خلافه عنهم. وقال
يعقوب بن شيبة: سمعت على بن المدينى وسئل عن هذا الحديث،
فقال: إسناد حسن، ولكنه حديث شاذ، فإن على بن زيد قد روى
عن عثمان، وعلى، وأُبَىّ بأسانيد حسان أنهم أفتوا بخلافه.
قال يعقوب: وهو حديث منسوخ، كانت هذه الفتيا فى أول
الإسلام، ثم جاءت السنة بعد ذلك من رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) : تمت إذا جاوز الختان الختان، فقد وجب الغسل
-. وروى ابن وهب عن عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، قال:
حدثنى بعض من أرضى، عن سهل بن سعد، عن أُبَىّ بن كعب
أخبره، أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) جعل الماء من
الماء رخصة فى أول الإسلام، ثم نهى عن ذلك، وأمر بالغسل
بعد ذلك. وقال موسى بن هارون: رواه أبو حازم، عن سهل بن
سعد، وأظن ابن شهاب سمعه منه، فهذا أُبَىّ يخبر أن هذا من
الناسخ لقوله: تمت الماء من الماء -.
(1/404)
وروى يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن كعب، عن
محمود بن لبيد أنه سأل زيد بن ثابت عن الرجل يصيب أهله ثم
يكسل ولا ينزل؟ فقال زيد: يغتسل، فقلت: إن أُبَىّ بن كعب
كان لا يرى الغسل، قال: إن أُبَىّ نزع عن ذلك قبل أن يموت.
فهذا أُبَىّ قد قال هذا، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) خلافه، فلا يجوز أن يقول هذا إلا وقد ثبت عنده نسخ
ذلك، وأما رجوع عثمان، فرواه مالك، عن ابن شهاب، عن سعيد
بن المسيب، أن عمر وعثمان وعائشة كانوا يقولون: إذا مس
الختان الختان فقد وجب الغسل، فلا يجوز أن يقول هذا عثمان
إلا وقد ثبت عنده النسخ. وأما رجوع على، فرواه معمر، عن
عبد الله بن محمد بن عقيل، عن على، قال: كما يجب الحد يجب
الغسل، ورواه الثورى عن أبى جعفر، عن على، ثم قد كشف عن
ذلك عمر بن الخطاب بحضرة أصحاب رسول الله من المهاجرين
والأنصار فلم يثبت عنده إلا الغسل، فحمل الناس عليه،
فسلموا لأمره، فدل ذلك على رجوعهم إلى قوله. روى الليث، عن
يزيد بن أبى حبيب، عن معمر بن أبى حيية، عن عبيد الله بن
عدى بن الخيار قال: تذاكر أصحاب رسول الله عند عمر بن
الخطاب الغسل من الجنابة، فقال بعضهم: إذا جاوز الختان
الختان فقد وجب الغسل، وقال بعضهم:
(1/405)
الماء من الماء. فقال عمر: قد اختلفتم
وأنتم أهل بدر الأخيار، فكيف بالناس بعدكم؟ فقال على: يا
أمير المؤمنين، إن أردت أن تعلم ذلك، فأرسل إلى أزواج
النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فاسألهن عن ذلك، فأرسل إلى
عائشة، فقالت: إذا جاوز الختان الختان فقد وجب الغسل، فقال
عمر عند ذلك: لا أسمع أحدًا يقول: الما من الماء إلا جعلته
نكالا، فحمل الناس عليه ولم ينكره عليه منكر. قال الطحاوى:
فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار، وأما من طريق النظر،
فإنا رأيناهم لم يختلفوا أن الجماع فى الفرج الذى لا إنزال
معه حدث، فقال قوم: هذا أغلظ الأحداث، فأوجبوا فيه أغلظ
الطهارات، وهو الغسل، وقال قوم: هو كأخف الأحداث، فأوجبوا
فيه الوضوء، فأردنا أن ننظر فى ذلك، لنعلم الصواب فيه،
فوجدنا أشياء يوجبها الجماع، وهو فساد الصيام والحج، فكان
ذلك بالتقاء الختانين، وإن لم يكن معه إنزال فيوجب ذلك فى
الحج: الدم وقضاء الحج، ويوجب فى الصيام: القضاء والكفارة،
ولو جامع فيما دون الفرج لوجب عليه فى الحج الدم فقط، ولم
يجب عليه فى الصيام شىء إلا أن ينزل، وكذلك لو زنا بامرأة
وإن لم ينزل فعليه الحد، ولو فعل ذلك على وجه شبهة لسقط
عنه الحد، ووجب عليه المهر، وكان لو جامعها فيما دون الفرج
لم يجب عليه حد ولا مهر، ولكنه يعزر إن لم يكن هناك شبهة،
وكذلك من تزوج امرأة فجامعها فى الفرج، ثم طلقها كان عليه
المهر أنزل أو لم ينزل ووجبت عليها العدة، وأحلها ذلك
لزوجها الأول، فإن جامعها فيما دون الفرج لم يجب عليه شىء،
وكان عليه فى الطلاق نصف المهر
(1/406)
إن كان سمى لها مهرًا، أو المتعة إن لم يكن
سمى لها مهرًا، فلما وجب فى هذه الأشياء التى لا إنزال
معها ما يجب فى الجماع الذى معه الإنزال من الحد، والمهر،
وغير ذلك، فالنظر على ذلك أن يكون فيه أغلظ مما يجب فى
الأحداث وهو الغسل. وحجة أخرى: وهو أنا رأينا هذه الأشياء
التى وجبت بالتقاء الختانين إذا كان بعدها الإنزال، لم يجب
للإنزال حكم ثان، وإنما الحكم لالتقاء الختانين، ألا ترى
لو أن رجلا زنا بامرأة والتقى ختاناهما، وجب عليهما الحد
بذلك، ولو أقام عليها حتى أنزل لم تجب عليه عقوبة غير الحد
الذى وجب عليه لالتقاء الختانين، فكان الحكم فى ذلك هو
لالتقاء الختانين لا للإنزال الذى بعده، فالنظر فى ذلك أن
يكون الغسل لالتقاء الختانين لا للإنزال الذى بعده، قاله
الطحاوي.
(1/407)
|