شرح صحيح
البخارى لابن بطال بسم الله الرحمن الرحيم
6 - كِتَاب الْحَيْض
قَالَ اللَّه تَعَالَى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ
قُلْ هُوَ أَذًى (إِلَى: (الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:
222] . اختلف العلماء فى تأويل هذه الآية، فقالت طائفة: لا
يجوز وطء الحائض، وإن انقطع دمها حتى تغتسل بالماء، روى
هذا عن الحسن، والنخعى، ومكحول، وسليمان بن يسار، وعكرمة،
ومجاهد، وهو قول مالك، والليث، والثورى، والشافعى، وأحمد،
وإسحاق، وأبى ثور. واختلف العلماء فى الحائض هل يجوز وطؤها
إذا انقطع دمها قبل أن تغتسل أم لا؟ فقال مالك، والليث،
والثورى، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: لا توطأ حتى
تغتسل بالماء، وهو قول الشعبى، ومجاهد، والحسن، ومكحول،
وسليمان بن يسار، وعكرمة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن
انقطع دمها بعد عشرة أيام، الذى هو عنده أكثر الحيض، جاز
له أن يطأها قبل الغسل، وإن انقطع دمها قبل العشرة لم يجز
حتى تغتسل أو يمر عليها وقت صلاة، لأن الصلاة تجب عنده آخر
الوقت، فإذا مضى عليها آخر الوقت ووجبت عليها الصلاة، علم
أن الحيض قد زال، لأن الحائض لا يجب عليها صلاة. وقال
الأوزاعى: إن غسلت فرجها جاز لزوجها وطؤها، وإن
(1/408)
لم تغسله لم يجز، وبه قالت طائفة من أصحاب
الحديث، وروى مثله عن عطاء، وطاوس، وقتادة. واحنج أهل هذه
المقالة بقوله: (حتى يطهرن) [البقرة: 222] أى حتى ينقطع
دمهن، فجعل تعالى غاية منع قربها انقطاع دمها، والدليل على
ذلك أن الصوم قد حل لها بانقطاع دمها، فوجب أن يحل وطؤها
قبل الغسل، كالجنب يجوز مجامعتها قبل الغسل، قالوا: ولا
يخلو بعد انقطاع الدم وقبل الغسل أن تكون طاهرًا أو
حائضًا، فإن كانت حائضًا فالغسل ساقط عنها، وفى اتفاقهم أن
الغسل عليها واجب بانقطاع الدم دليل أنها قد طهرت من
حيضتها، والطاهر جائز وطؤها، وقوله تعالى: (فإذا تطهرن)
[البقرة: 222] إباحة ثانية، وابتداء كلام غير الأول، لأن
الطهر شىء والتطهير غيره، مثال ذلك، لو أن رجلا صائمًا قال
لرجل: لا تكلمنى حتى أفطر، فإذا صليت المغرب كلمنى، وإنما
وقع التحريج فى المخاطبة فى وقت الصوم، لأن غاية التحريج
كانت إلى الإفطار، ثم إباحة أن يكلمه بعد وجوب الإفطار
وبعد أن يصلى المغربن كما أبيح وطء الحائض بعد الطهر، وبعد
التطهير تأكيدًا للتحليل، غير أن قوله: (يحب التوابين ويحب
المتطهرين) [البقرة: 222] دلالة أن الذى يأتى زوجته بعد أن
تنتظف بالماء أحمد عند الله، كمن توضأ ثلاثًا ثلاثًا كان
أحمد ممن توضأ مرة مرة. واحتج أهل المقالة الأولى، فقالوا:
الدليل على أن المراد بالآية التطهر بالماء قوله تعالى:
(فإذا تطهرن) [البقرة: 222] فأضاف الفعل إليهن، ولا يجوز
أن يعود إلى انقطاع الدم، لأنه لا فعل لها فى قطعه، فعلم
أنه أراد التطهير بالماء، ألا ترى أنه تعالى أثنى على من
فعل ذلك بقوله:
(1/409)
) إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين)
[البقرة: 222] ، والثناء لا يقع إلا على فعل يقع من جهتهن،
وتقدير الآية: لا تقربوهن حتى يطهرن ويتطهرن وهذا كقولك:
لا تعط زيدًا شيئًا حتى يدخل الدار، فإذا دخل الدار وقعد
فأعطه، فيقتضى ألا يستحق العطاء إلا بشرطين وهما: الدخول
والقعود، وقد يقع التحريم بشىء، ولا يزول بزواله بعلة
أخرى، كقوله فى المبتوتة: (فلا تحل له من بعد حتى تنكح
زوجًا غيره) [البقرة: 230] ، وليس بنكاح الزوج تحل له حتى
يطلقها الزوج، وتعتد منه، وكقوله (صلى الله عليه وسلم) :
تمت لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل حتى تحيض - ومعلوم
أنها لا توطأ نفساء ولا حائض حتى تطهر، ولم تكن هاهنا تمت
حتى - بمبيحة لما قام الدليل على خَطَرِه. وقول أبى حنيفة
لا وجه له، وقد حكم أبو حنيفة وأصحابه للحائض بعد انقطاع
دمها بحكم الحائض فى العدة، وقالوا: لزوجها عليها الرجعة
ما لم تغتسل، فعلى قياس قولهم هذا لا يجب أن توطأ حتى
تغتسل. قال إسماعيل بن إسحاق: ولا أعلم أحدًا ممن روى عنه
العلم من التابعين ذكر فى ذلك وقت صلاة.
(1/410)
- باب كَيْفَ كَانَ بَدْءُ الْحَيْضِ
وَقَوْلُ الرَسُولُ: (هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى
بَنَاتِ آدَمَ
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ أَوَّلُ مَا أُرْسِلَ الْحَيْضُ
عَلَى بَنِى إِسْرَائِيلَ. وَحَدِيثُ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) أَكْثَرُ. / 1 - فيه: عَائِشَةَ خَرَجْنَا لا
نَرَى إِلا الْحَجَّ، فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ،
فَدَخَلَ عَلَىَّ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا أَبْكِى، قَالَ:
تمت مَا لَكِ أَنُفِسْتِ؟ - قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: تمت
إِنَّ هَذَا شَىْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ،
فَاقْضِى مَا يَقْضِى الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى
بِالْبَيْتِ - الحديث. قال المؤلف: هذا الحديث يدل على أن
الحيض مكتوب على بنات آدم فمن بعدهن من البنات كما قال
(صلى الله عليه وسلم) ، وهو من أصل خلقتهن الذى فيه
صلاحهن، قال الله فى زكريا (صلى الله عليه وسلم) :
(فاستجبنا له ووهبنا له يحيى وأصلحنا له زوجه) [الأنبياء:
90] . قال أهل التأويل: يعنى رد الله إليها حيضها لتحمل،
وهو من حكمة البارى الذى جعله سببًا للنسل، ألا ترى أن
المرأة إذا ارتفع حيضها لم تحمل، هذه عادة لاتنخرم. قال
غيره: وليس فيما أتى به من قصة زكريا حجة، لأن زكريا من
أولاد بنى إسرائيل، والحجة القاطعة فى ذلك، قول الله فى
قصة إبراهيم حين بُشِّر بالولد: (وامرأته قائمة فضحكت)
[هود: 71] . قال قتادة: يعنى حاضت وهذا معروف فى اللغة،
يقال: ضحكت المرأة إذا حاضت، وكذلك الأرنب. وإبراهيم
(1/411)
هو جد إسرائيل، لأن إسرائيل هو يعقوب بن
إسحاق بن إبراهيم، ولم ينزل على بنى إسرائيل كتاب إلا على
موسى، فدل ذلك على أن الحيض كان قبل بنى إسرائيل، وحديث
النبى يشهد لصحة هذا التأويل، وسيأتى تفسير قوله: تمت
أنفست؟ - فى باب من سمى النفاس حيضًا، بعد هذا إن شاء
الله.
- باب غَسْلِ الْحَائِضِ رَأْسَ زَوْجِهَا وَتَرْجِيلِهِ
/ 2 - فيه: عَائِشَةَ: كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا حَائِضٌ. / 3 -
وفيه: عُرْوَةَ أَنَّهُ سُئِلَ أَتَخْدُمُنِى الْحَائِضُ،
أَوْ تَدْنُو مِنِّى الْمَرْأَةُ وَهِيَ جُنُبٌ؟ قَالَ
عُرْوَةُ: كُلُّ ذَلِكَ عَلَىَّ هَيِّنٌ، وَلَيْسَ عَلَى
أَحَدٍ فِى ذَلِكَ بَأْسٌ، أَخْبَرَتْنِى عَائِشَةُ،
أَنَّهَا كَانَتْ تُرَجِّلُ رَأْسَ رَسُولِ اللَّهِ وَهِىَ
حَائِضٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
حِينَئِذٍ مُجَاوِرٌ فِى الْمَسْجِدِ، يُدْنِى لَهَا
رَأْسَهُ، وَهِىَ فِى حُجْرَتِهَا. لا اختلاف بين العلماء
فى جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله، إلا شىء روى عن ابن
عباس فى ذلك. ذكر ابن أبى شيبة، قال: حدثنا ابن عيينة، عن
منبوذ، عن أمه قالت: دخل ابن عباس على ميمونة، فقالت: أى
بنى، مالى أراك شعثًا رأسك، قال: إن أم عمار مرجلتى حائض،
فقالت: أى بنى، وأين الحيضة من اليد؟ كان رسول الله يضع
رأسه فى حجر إحدانا وهى حائض. واستدلال عروة فى ذلك حسن،
كاستدلال ميمونة، وهو حجة فى
(1/412)
طهارة الحائض وجواز مباشرتها، وفيه دليل
على أن المباشرة التى قال الله: (ولا تباشروهن وأنتم
عاكفون فى المساجد) [البقرة: 187] لم يرد بها كل ما وقع
عليه اسم لمس، وإنما أراد بها تعالى الجماع، وما دونه من
دواعى اللذة، ألا ترى أنه معتكفًا فى المسجد، ويدنى لها
رأسه ترجله. تمت والجوار - هو الاعتكاف. وفى الحديث حجة
على الشافعى فى أن المباشرة الحقيقية مثل ما فى الحديث لا
تنقض الوضوء. وفيه: ترجيل الشعر للرجال وما فى معناه من
الزينة. وفيه: خدمة الحائض زوجها وتنظيفها له، وقد قال
(صلى الله عليه وسلم) حين طلب منها الخمرة: تمت ليس حيضتك
فى يدك -. وفيه: أن الحائض لا تدخل المسجد تنزيهًا له
وتعظيمًا.
3 - باب قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حَجْرِ امْرَأَتِهِ
وَهِىَ حَائِضٌ
وَكَانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وَهِيَ حَائِضٌ
إِلَى أَبِى رَزِينٍ، لتَأْتِيهِ بِالْمُصْحَفِ،
فَتُمْسِكُهُ بِعِلاقَتِهِ. / 4 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ:
كَانَ رَسُولِ اللَّهِ يَتَّكِئُ فِى حَجْرِى وَأَنَا
حَائِضٌ، ثُمَّ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ.
(1/413)
قال المؤلف: غرض البخارى فى هذا الباب أن
يدل على جواز حمل الحائض المصحف، وقراءتها للقرآن، لأ
المؤمن الحافظ له أكبر أوعيته وها هو ذا (صلى الله عليه
وسلم) أفضل المؤمنين بنبوته وحرمة ما أودعه الله من طيب
كلامه فى حجر حائض تاليًا للقرآن. وقد اختلف العلماء فى
ذلك فمن رخص للحائض والجنب فى حمل المصحف بعلاقته، الحكم
بن عيينة، وعطاء بن أبى رباح، وسعيد بن جبير، وحماد بن أبى
سليمان، وهو قول أهل الظاهر. واحتجوا بأن تأويل قوله: (لا
يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79] أنهم السفرة الكرام
البررة، ولو كان ذلك نهيًا لقال تعالى: لا يَمَسَّه.
وقالوا أيضًا: لما جاز للحائض والجنب حمل الدنانير
والدراهم وفيها ذكر الله فكذلك المصحف. واحتجوا بقوله (صلى
الله عليه وسلم) : تمت المؤمن لا ينجس -، وبكتابه (صلى
الله عليه وسلم) إلى هرقل آية من القرآن، ولو كان حرامًا
ما كتب رسول الله بآى القرآن، وهو يعلم أنهم يمسونه
بأيديهم وهم أنجاس، قالوا: وقد قامت الدلالة بأن ذكر الله
مطلق للجنب والحائض، وقراءة القرآن فى معنى ذكر الله، ولا
حجة تفرق بينهما. وذكر ابن أبى شيبة أن سعيد بن جبير دفع
المصحف بعلاقته إلى غلام له مجوسى، وأجاز الشعبى، ومحمد بن
سيرين مس المصحف على غير وضوء، وقال جمهور العلماء: لا يمس
المصحف حائض
(1/414)
ولا جنب، ولا يحمله إلا طاهر غير محدث، روى
ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالك، والأوزاعى، والثورى، وأبى
حنيفة، والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبى ثور، واحتج أكثرهم
بقوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79] ،
قالوا: فلا يحمله إلا طاهر، إلا أن مالكًا قال: لا بأس أن
يحمله المسافر غير طاهر فى خرج أو عيبة، إذا لم يقصد لحمله
ولا مسه، ولا بأس أن يحمله اليهودي والنصرانى فى القلم
للضرورة، وأرجو أن يكون إمساك الصبيان للمصاحف للتعليم على
غير وضوء خفيفًا، إن شاء الله. واحتج هؤلاء الذين لم
يجيزوا حمل المصحف إلا للطاهر بكتابه (صلى الله عليه وسلم)
إلى عمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن: تمت لا يمس المصحف
إلا طاهر - وأن عائشة كانت تقرأ القرآن وهى حائض ويُمسَكُ
لها المصحف ولا تمسكه هى، ولو كان إمساكها له وهى حائض
كإمساك غيرها لما أمسكه غيرها، ولعرفها أحد من الصحابة أن
قراءتها فيه جائز، وسأذكر اختلافهم فى قراءة الحائض، وحجة
كل فريق منهم فى باب تقضى الحائض المناسك كلها إلا الطواف
بالبيت، بعد هذا إن شاء الله.
2 - باب مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضًا
/ 5 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ
النَّبِىِّ مُضْطَجِعَةٌ فِي خَمِيصَةٍ إِذْ حِضْتُ
فَانْسَلَلْتُ فَأَخَذْتُ ثِيَابَ حِيضَتِى، قَالَ: تمت
أَنُفِسْتِ؟ - قُلْتُ: نَعَمْ، فَدَعَانِى فَاضْطَجَعْتُ
مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ.
(1/415)
قال المهلب: كان حق الترجمة أن يقول باب من
سمى الحيض نفاسًا، فلما لم يجد البخارى للنبى نصا فى
النفساء، وحكم دمها فى المدة المختلفة، وسمى الحيض نفاسًا
فى هذا الحديث، فهم منه أن حكم دم النفاس حكم دم الحيض فى
ترك الصلاة، لأنه إذا كان الحيض نفاسًا وجب أن يكون النفاس
حيضًا، لاشتراكهما فى التسمية من جهة اللغة العربية أن
الدم هو النفس، ولزم الحكم بما لم ينص عليه مما نص وحكم
للنفساء بترك الصلاة ما دان دمها موجودًا. وقال أبو سليمان
الخطابى: إنما هو تمت أَنَفِسْتِ - بفتح النون وكسر الفاء،
ومعناه حضت، يقال: نَفِسَت المرأة إذا حاضت ونُفِست من
النفاس مضمومة النون. قال المؤلف: رواية أهل الحديث
نُفِسْتِ بضم النون فى الحيض صحيحة فى لغة العرب،. ذكر أبو
على، عن أبى حاتم، عن الأصمعى، قال: نُفست المرأة تنفُس،
فى الحيض والولادة، وهى نُفساء ونَفِساء. وفى كتاب
الأفعال: نُفِسَت ونَفِسَت لغتان من النفاس.
5 - باب مُبَاشَرَةِ الْحَائِضِ
/ 6 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا
وَالنَّبِىُّ مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ كِلانَا جُنُبٌ،
وَكَانَ يَأْمُرُنِى فَأَتَّزِرُ، فَيُبَاشِرُنِى، وَأَنَا
حَائِضٌ. / 7 - وقَالَتْ مرة: كَانَتْ إِحْدَانَا إِذَا
كَانَتْ حَائِضًا وَأَرَادَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) أَنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَهَا أَنْ تَتَّزِرَ
فِى ثوب حَيْضَتِهَا، ثُمَّ يُبَاشِرُهَا. قَالَتْ:
وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ إِرْبَهُ كَمَا كَانَ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) يَمْلِكُ إِرْبَهُ؟ .
(1/416)
/ 8 - وفيه: مَيْمُونَةَ: كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ
نِسَائِهِ أَمَرَهَا فَاتَّزَرَتْ، وَهِىَ حَائِضٌ. اختلف
العلماء فى مباشرة الحائض، فقال مالك، والأوزاعى، وأبو
حنيفة، وأبو يوسف، والشافعى: له منها ما فوق الإزار، ولا
يقرب ما دون الإزار، وهو ما دون الركبة إلى الفرج، وهو قول
سعيد بن المسيب، وسالم، والقاسم، وطاوس، وشريح، وقتادة،
وسليمان ابن يسار. وحجة أهل هذه المقالة ظاهر حديث عائشة
وميمونة، لأنه لو كان الممنوع منها موضع الدم فقط لم يقل
لها (صلى الله عليه وسلم) : تمت شدى عليك إزارك - لأنه لا
يخاف منه (صلى الله عليه وسلم) التعرض لمكان الدم الممنوع،
لملكه لإربه، ولكنه امتنع مما قارب الموضع الممنوع، لأنه
من دواعيه، وقد جاء فى الشريعة المنع من دواعى الشىء
المحرم لغلظه، من ذلك: الخطبة فى العدة، ونكاح المحرم،
وتطيبه، لأن ذلك يدعو إلى شهوة الجماع المفسد للحج، وحكم
لما قرب من الفأرة من السمن بحكم الفأرة، وقال (صلى الله
عليه وسلم) : تمت من رتع حول الحمى يوشك أن يواقعه - وقالت
طائفة: يجوز له أن يستمع منها بما دون الفرج، روى هذا عن
ابن عباس، ومسروق، والنخعى، والشعبى، والحكم، وعكرمة، وهو
قول الثورى، ومحمد بن الحسن، وبعض أصحاب الشافعى، وأحمد،
وإسحاق، وأصبغ بن الفرج. واحتجوا بما رواه أيوب، عن أبى
معشر، عن النخعى، عن مسروق، قال: سألت عائشة، رضى الله
عنها، ما يحل لى من امرأتى وهى حائض؟ قالت: كل شىء إلا
الفرج. فلما منع من الإيلاج فى الفرج لم يمنع مما قاربه.
(1/417)
واحتجوا أيضًا بما رواه الأعمش، عن ثابت بن
عبيد، عن القاسم، عن عاشة، أن النبى قال لها: تمت ناولينى
الخمرة - قلت: إنى حائض، قال: تمت إن حيضتك ليست فى يدك -
فبان أن كل موضع لا يكون موضعًا للحيض لا يتعلق به حكم
الحيض. وقال الطحاوى: لما كان الجماع فى الفرج يوجب الحد،
والمهر والغسل، ورأينا الجماع فى غيره لا يوجب شيئًا من
ذلك، دل أن الجماع فيما دون الفرج تحت الإزار أشبه بالجماع
فوق الإزار منه بالجماع فى الفرج، وثبت أن ما دون الفرج
مباح. وفى حديث عائشة وميمونة من الفقه بيان قول الله:
(فاعتزلوا النساء فى المحيض) [البقرة: 222] أن المراد به
الجماع، لا المؤاكلة، ولا الاضطجاع فى ثوب واحد وشبهه،
ورفع الله عنا الإصر الذى كان على بنى إسرائيل فى ذلك،
وذلك أن المرأة منهن كانت إذا حاضت أخروها عن البيت، ولم
يؤاكلوها، ولم يشاربوها، فسئل عن ذلك النبى، (صلى الله
عليه وسلم) ، فأنزل الله تعالى: (يسألونك عن المحيض قل هو
أذى فاعتزلوا النساء فى المحيض) [البقرة: 222] فقال النبى:
تمت جالسوهن فى البيوت، واصنعوا كل شىء إلا النكاح -. رواه
حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس.
6 - باب تَرْكِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ
/ 9 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) فِى أَضْحَى، أَوْ فِطْرٍ، إِلَى
الْمُصَلَّى، فَمَرَّ عَلَى النِّسَاءِ، فَقَالَ: تمت يَا
مَعْشَرَ النِّسَاءِ تَصَدَّقْنَ فَإِنِّى
(1/418)
أُرِيتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ -
قُلْنَ: وَلمَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تمت تُكْثِرْنَ
اللَّعْنَ، وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، مَا رَأَيْتُ مِنْ
نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَذْهَبَ لِلُبِّ الرَّجُلِ
الْحَازِمِ مِنْ إِحْدَاكُنَّ -، قُلْنَ: وَمَا نُقْصَانُ
دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: تمت
أَلَيْسَ شَهَادَةُ الْمَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ
الرَّجُلِ؟ - قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: تمت فَذَلِكِ مِنْ
نُقْصَانِ عَقْلِهَا - قَالَ: تمت أَلَيْسَ إِذَا حَاضَتْ
لَمْ تُصَلِّ وَلَمْ تَصُمْ؟ - قُلْنَ: بَلَى، قَالَ: تمت
فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِهَا -. قال المؤلف: قوله
(صلى الله عليه وسلم) : تمت أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم
- نص أن الحائض يسقط عنها فرض الصلاة، ولا يجوز لها الصوم
فى أيام حيضها، والأمة على ذلك، وأجمعوا أن عليها قضاء ما
تركت من الصيام، ولا قضاء عليها للصلاة، إلا طائفة من
الخوارج يرون عليها قضاء الصلاة، وعلماء الأمة من السلف
والخلف على خلافهم. وفيه: خروج النساء إلى العيدين. وفيه:
الشفاعة للمساكين وغيرهم أن يسأل لهم. وفيه: حجة على من
كره السؤال لغيره. قال المهلب: وفيه أن على الخطيب فى
العيدين أن يفرد النساء باللقاء لهن والموعظة، ويخبرهن بما
يخصهن من تقوى الله، والنهى عن كفران العشير، وما يلزمهن
من ذلك، إذا لم يمكنه إسماعهن، فحينئذ يمر بهن ويعظهن
بالكلمة والكلمتين فى موضعهن، كما فعل النبى. وفيه: دليل
أن الصدقة تكفر الذنوب التى بين المخلوقين.
(1/419)
وفيه: دليل أن الكلام القبيح من اللعن
والسخط مما يعذب الله عليه. وفيه: أن للعالم أن يكلم من
دونه من المتعلمين بكلام يكون عليهم فيه بعض الشدة
والتنقيص فى العقل. وقال غيره: مقابلة الجماعة بالوعظ تسهل
فيه الشدة، لأنه يسليهم شموله لجماعتهم، وكذلك فعل النبى
بالنساء، لم يخص منهن واحدة، وإنما قابل جماعتهن، وكذلك
الواعظ والخطيب له أن يشتد فى وعظه للجماعة، ولا يقابل
واحدًا بعينه بالشدة، بل يلين له ويرفق به. وفى هذا الحديث
ترك العتب للرجل أن تغلب محبة أهله عليه، لأن النبى (صلى
الله عليه وسلم) قد عذره، بقوله: تمت ما رأيت من ناقصات
عقل ودين أغلب للب الرجل الحازم منكن - فإذا كن يغلبن
الحازم فما الظن بغيره.
7 - باب تَقْضِى الْحَائِضُ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا إِلا
الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: لا بَأْسَ أَنْ تَقْرَأَ الآيَةَ،
وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ بِالْقِرَاءَةِ لِلْجُنُبِ
بَأْسًا. وَكَانَ الرَسُول يَذْكُرُ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
أَحْيَانِهِ، وَقَالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ: كُنَّا نُؤْمَرُ
أَنْ نَخْرُجَ الْحُيَّضُ، فَيُكَبِّرْنَ بِتَكْبِيرِهِمْ
وَيَدْعُونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَخْبَرَنِى أَبُو
سُفْيَانَ أَنَّ هِرَقْلَ دَعَا بِكِتَابِ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم)
(1/420)
فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ:
بِسْم اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَ:
(قَل يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ)
[آل عمران: 64] الآيَةَ. قَالَ عَطَاءٌ عَنْ جَابِرٍ:
حَاضَتْ عَائِشَةُ، فَنَسَكَتِ الْمَنَاسِكَ كُلَّهَا
غَيْرَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ، وَلا تُصَلِّى. وَقَالَ
الْحَكَمُ: إِنِّى لأذْبَحُ وَأَنَا جُنُبٌ. وَقَالَ
اللَّهُ: (وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ) [الأنعام: 121] . / 10 - فيه:
عَائِشَةَ: أنها حاضت بسَرِفَ، فَقَالَ لها النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّ ذَلِكِ شَىْءٌ كَتَبَهُ
اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلِى مَا يَفْعَلُ
الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لا تَطُوفِى بِالْبَيْتِ حَتَّى
تَطْهُرِى -. قال المؤلف: هذا الباب كله مبنى على مذهب من
إجاز للحائض والجنب تلاوة القرآن، وهو قول حماد بن أبى
سفيان، والحكم بن عتيبة، وأهل الظاهر. وقال إبراهيم
النخعى: لا بأس أن يقرأ الجنب والحائض الآية ونحوها، وأجاز
عكرمة للجنب أن يقرأ، وليس له أن يتم سورة كاملة، ذكره
الطبرى. واختلف قول مالك فى قراءة الحائض، فروى عنه ابن
القاسم وغيره إباحة الحائض أن تقرأ ما شاءت من القرآن،
وروى عنه ابن عبد الحكم منعها من ذلك إلا الآية والآيتين.
ومنعها أبو حنيفة، والشافعى، وأحمد، وأبو ثور من قليله
(1/421)
وكثيره، وروى مثله عن جابر ابن عبد الله،
وعن عطاء، وأبى العالية، وسعيد بن جبير، والزهرى. وكذلك
اختلف قول مالك فى قراءة الجنب، فروى عنه ابن القاسم أنه
يقرأ الآية والاثنتين للارتباع وشبهه، وذكر ابن شعبان، عن
مالك، قال: إنه ليأخذ بنفسى أن يقرأ الجنب القرآن. وقال
الأوزاعى: لا يقرأ الجنب إلا آية الركوب، وآية النزول: تمت
سبحان الذى سخر لنا هذا) [الزخرف: 13] الآية،) وقل رب
أنزلنى منزلا مباركًا) [المؤمنون: 29] الآية. وقال أبو
حنيفة: لا يقرأ الجنب إلا بعض آية، ومنعه الشافعى قليله
وكثيره. وأما اختلاف السلف فى ذلك فروى عن جابر أن الحائض
لا تقرأ القرآن، وهو قول أبى العالية، وعطاء، وسعيد بن
جبير، والزهرى، وروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب،
وجابر أنه لا يقرأ الجنب القرآن، وهو قول أبى وائل. وحجة
الذين كرهوا ذلك، ما رواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن
عمر أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال: تمت لا يقرأ
الجنب والحائض شيئًا من القرآن -. واحتج من منع الجنب بما
رواه شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن على،
قال: لم يكن النبى (صلى الله عليه وسلم) يحجبه عن القرآن
شىء غير الجنابة.
(1/422)
واحتج الذين أجازوا ذلك بأن ابن عباس كان
يقرأ ورده وهو جنب، فقيل له فى ذلك، فقال: ما فى جوفى أكثر
منه. وقال حماد: سألت ابن المسيب أيقرأ الجنب القرآن؟ قال:
أليس فى جوفه؟ . وبما رواه عبادة بن نسى، عن عبد الرحمن بن
غنم أنه سأل معاذ بن جبل أيقرأ الجنب القرآن؟ قال: نعم، إن
شاء، قلت: والحائض والنفساء؟ قال: نعم، لا يدعن أحد ذكر
الله، وتلاوة كتابه على حال، قلت: فإن الناس يكرهونه، قال:
من كرهه فإنما كرهه تنزهًا، ومن نهى عنه فإنما يقول بغير
علم، ما نهى رسول الله عن شىء من ذلك. قال الطبرى: واعتلوا
من طريق النظر بأن تلاوة القرآن قد ندب إليها الناس كما
ندبوا إلى ذكر الله والتسبيح والتهليل، قالوا: وقد قامت
الدلالة بأن ذكر الله مطلق للجنب والحائض، قالوا: وقراءة
القرآن فى معنى ذلك فى أنها مطلقة لهما، إذ لا حجة تفرق
بين ذلك. قال الطبرى: والصواب عندنا فى ذلك ما روى عنه
(صلى الله عليه وسلم) أنه كان يقرأ القرآن ما لم يكن
جنبًا، وخبر عائشة أنه (صلى الله عليه وسلم) كان يذكر الله
على كل أحيانه، فإن قراءته القرآن طاهرًا كان اختيارًا منه
لأفضل الحالتين، والحال التى كان يذكر الله فيها ويقرأ
القرآن غير طاهر، فإن ذلك كان تعليمًا منه أن ذلك جائز لهم
وغير محظور عليهم ذكر الله وتلاوة القرآن، إذ بعثه الله
إلى خلقه معلمًا وهاديًا، غير أنى أستحب له أن يقرأ القرآن
على أتم أحوال الطهارة،
(1/423)
وليس ذلك وإن أحببته بواجب، لأن الله لم
يوجب فرض الطهارة على عبادة المؤمنين إلا إذا قاموا إلى
الصلاة. قال المهلب: فى شهود الحائض المناسك كلها وتكبيرها
فى العيدين دليل على جواز قراءتها للقرآن، لأنه من السنة
ذكر الله فى المناسك، وفى كتابه إلى هرقل بآية من القرآن
دليل على ذلك، وعلى جواز حمل الحائض والجنب القرآن، لأنه
لو كان حرامًا لم يكتب النبى إليهم بآى من القرآن، وهو
يعلم أنه يمسونه بأيديهم وهم أنجاس، لكن القرآن وإن كان لا
يلحقه أذى، ولا تناله نجاسة، فالواجب تنزيهه وترفيعه عمن
لم يكن على أكمل أحوال الطهارة، لقوله تعالى: (فى صحف
مكرمة مرفوعة مطهرة) [عبس: 13، 14] ، فلم يكن إطهاره
تكريمه وترفيعه ما ظهر ملك مكرم الصحف التى وصفها الله
تعالى بالطهارة، كما أراك فى رواية القاسم أن قوله تعالى:
(لا يمسه إلا المطهرون) [الواقعة: 79] ليس بمعنى الإلزام
والحتم بل بمعنى الأدب والتوقير، وأباح للحائض قراءة
القرآن لطول أمرها، وكرهه للجنب إلا الشىء اليسير، لقرب
أمره.
8 - باب الاسْتِحَاضَةِ
/ 11 - فيه: عَائِشَةَ أَنَّ فَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِى
حُبَيْشٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لا
أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّمَا ذَلِكِ عِرْقٌ
وَلَيْسَ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ،
فَاتْرُكِى الصَّلاةَ، فَإِذَا ذَهَبَ قَدْرُهَا،
فَاغْسِلِى عَنْكِ الدَّمَ وَصَلِّى -.
(1/424)
قال ابن القصار: فى هذا الحديث حجة لمالك
والشافعى فى أن المستحاضة إذا ميزت دم الحيض من دم
الاستحاضة أنها تعتبر الدم وتعمل على إقباله وإدباره، فإذا
أقبلت الحيضة تركت الصلاة، وإذا أدبرت اغتسلت وصلت. وقال
أبو حنيفة: إنما تعمل على عدد الليالى والأيام، واحتج
بحديث أبى أسامة، عن هشام بن عروة، عن عائشة، أن النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، قال لفاطمة بنت أبى حبيش: تمت إنما
ذلك عرق، ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين
فيها، ثم اغتسلى وصلى -. وقد روى: تمت دعى الصلاة قدر
أقرائك -، واحتج أيضًا بحديث سليمان بن يسار، عن أم سلمة،
أن امرأة كانت تهراق الدماء على عهد رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) فاستفتت لها أم سلمة رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) ، فقال: تمت لتنظر عدد الليالى والأيام التى كانت
تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الدم الذى أصابها، فلتترك
الصلاة قدر ذلك الشهر -. قالوا: فردها (صلى الله عليه
وسلم) إلى الأيام، وتركوا حديث مالك، عن هشام بن عروة الذى
فيه اعتبار الدم، وهو يرد قولهم، ويدل أن الأيام لا حكم
لها بمجردها، وإنما لها حكم مع الدم، فيجب أن يدار معه حيث
دار، لأنه لا يقول لها: تمت إنما ذلك عرق، وليس بالحيضة،
وإذا أقبلت الحيضة فدعى الصلاة -، إلا وهى عارقة بالحيضة،
فإذا ميزتها عملت على إقبال الدم وإدباره، وكذلك قوله (صلى
الله عليه وسلم) لفاطمة: تمت دعى الصلاة أيام أقرائك -،
الذى احتج به أبو حنيفة فى مراعاة الأيام
(1/425)
والليالى، حجة عليه أيضًا، لأنه (صلى الله
عليه وسلم) قال لها: تمت دعى الصلاة أيام أقرائك -، فدل
أنها كانت مميزة، فأحالها على أيام أقرائها التى تعرفها مع
وجود الدم الذى لا تعرفه، لأنه لما قال: أيام حيضتك، أو
أيام أقرائك، فلابد أن تكون عرفت الحيض بلونه ورائحته،
وإلا كان مشكلا، لأنها سألت عن الزائد على دمها هل هو حيض
أو غيره، ولو أراد أيام حيضتك فيما مضى، لكان أيضًا مشكلا
إن لم تكن تعرف دم الحيض وتميزه، فإنما أحالها على حيض
تعرفه، وقد يمكن أن تكون هذه المرأة لها تمييز وظنت مع
التمييز أنه إذا انقطع عنها دم الحيض بعد أيامها وتغير أن
حكمها واحد فى ترك الصلاة، فأعلمها أنه إذا تغير بعد تقضى
أيامها التى كانت تحيضها أنها تغتسل وتصلى، وأنها إذا رأت
الدم الذى تعرفه فى تلك الأيام أنها تترك الصلاة. هذا قول
ابن القصار، قال: ويحتمل أن يكون قوله فى حديث مالك، عن
هشام بن عروة: تمت إذا أقبلت الحيضة، فدعى الصلاة -، فى
امرأة لها تمييز، وقوله: تمت لتنظر عدد الأيام والليالى -،
فى امرأة لا تمييز لها، فيكون الحديثان فى امرأتين مختلفتى
الأحوال. قال المؤلف: وهذا يشبه قول الكوفيين، لأن
الكوفيين يقولون: إذا لم تميز دم الحيض من دم الاستحاضة
فإنها تترك الصلاة عدد أيام حيضتها المعروفة إن كان لها
أيام، وإن لم تكن لها أيام فعدة عشرة أيام، الذى هو عند
أبى حنيفة أكثر الحيض، ثم تكون مستحاضة، تصوم وتصلى،
ويأتيها زوجها، حتى تأتى على مثل أيامها من الشهر
المستقبل، فتترك الصلاة عددها، ثم هى مستحاضة، ثم لا تزال
تفعل ذلك فى كل شهر، ولا تراعى تغير الدم. وعند مالك إذا
لم تميز إقبال الدم وإدباره، فهى - قبل: تقضى أكثره، تقعد
إلى أكثر أيامها المعروفة إن كان لها أيام، أو قعدت
(1/426)
خمسة عشر يومًا، الذى هو أكثر الحيض - وبعد
ذلك تصلى أبدًا، وإن طال انتظارها لأن دمها دم عرق حتى
يتغير إلى دم الحيض، ولا تشك فيه فتعمل على إقباله
وإدباره، وهذا قول الكوفيين الذين يراعون الأيام أيضًا،
فيمن لم تميز دم الحيض من دم الاستحاضة، ولا يراعون الدم،
ووافقهم الشافعى، وعند مالك أنه لابد من مراعاة الدم مع
مقدار الأيام سواءً ميزت دم الحيض من دم الاستحاضة أو لم
تميزه، فإن ميزته عملت على إقبال الدم وإدباره سواء كان
قبل تقضى مدة أكثر الحيض، أو بعده، فإن لم تميزه فهى قبل
تقضى أكثره تقصد إلى الكثرة، وبعد ذلك تصلى أبدًا حتى ترى
دمًا لا شك فيه، فتعمل على إقباله وإدباره. والدليل على أن
لفظ الحديثين، وإن كان مختلفًا فهو فى امرأة واحدة فى حالة
واحدة، أن فاطمة هذه سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) لما
تمادى الدم بها وجاز أيام حيضتها المعروفة، فقال لها: إن
دمك ليس دم حيض، وإنما هو دم عرق، ودم العرق لا يوجب
حكمًا، فإذا أقبلت الحيضة وميزت دمها بلونه ورائحته فدعى
الصلاة، لأنه لا يقول لها ذلك إلا وهى عارفة بالحيضة،
وكذلك قوله: تمت إذا أدبرت -، لا يقوله إلا للمميزة لدم
الاستحاضة من دم الحيضة، ثم لما تمادى بها الدم، سألته
سؤالاً ثانيًا، ليزيدها شفاء فى مقدار جلوسها، إذ لم يكن
فى جوابها الآخر، فى رواية مالك عن هشام، مقدار الأيام
التى تجلسها، وإنما كان فيه اعتبار الدم خاصة، فأرادت
الاستثبات فى أمرها، إذ قد يمكن أن يطول ذلك الدم بها،
فقال لها: تمت دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها
-، فأخبرها بمقدار مدة الأيام،
(1/427)
وقد كان أمرها مرة أخرى أن تعمل على إقبال
دم الحيض وإدباره، فوجب اعتبار تغير الدم، واعتبار قدر
الأيام، واستعمال الحديثين جميعًا إذ كان كل واحد منهما
يبين معنى صاحبه ولا يخالفه. وإن قيل: كيف يعتبر قدر
الأيام؟ . قيل: وجه ذلك، والله أعلم، لو أن امرأة كانت
تحيض عن رأس كل هلال ثمانية أيام، فأطبق عليها الدم ولم
ينقطع عنها، فإنا نقول لها: صلى حتى ترى دمًا تنكرينه، فإن
رأت الدم المنكر قبل رأس الهلال بثلاثة أيام أو أربعة
احتسبت بتلك الأيام، وجلست عن الصلاة تمام ثمانية أيام على
ما كانت تعتاده، وهكذا تفعل أيضًا إن تغير الدم بعد رأس
الهلال بأيام، فإن بقى الدم بحاله لم تترك الصلاة، لأن
دمها دم عرق، وإنما تعتبر أبدًا تغير الدم مع مقدار
الأيام. ومما يدل على صحة ما قلنا، أن الحديثين وإن اختلف
لفظ الجواب فيهما عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى
امرأة واحدة وقصة واحدة أن حديث سليمان بن يسار، عن أم
سلمة، أن امرأة كانت تهراق الدماء فاستفتت لها أم سلمة
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) . إنما كان فى قصة فاطمة
بنت أبى حبيش، وأنها كانت تسأل عن حالها أبدًا بنفسها،
وتبعث غيرها على السؤال رغبة فى الاستثبات، وتزيد اليقين
فى أمرها ويدل على ذلك ما رواه الحميدى عن سفيان بن عيينة،
قال: حدثنا أبو أيوب السختيانى، عن سليمان بن يسار، أنه
سمعه يحدث عن أم سلمة أنها قالت: كانت فاطمة بنت أبى حبيش
تستحاض، فسألت النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: تمت إنه
ليس بالحيضة، ولكنه عرق،
(1/428)
وأمرها أن تدع الصلاة قدر أقرائها، أو قدر
حيضتها، ثم تغتسل. وهذا يدل أن قدر الدم أو قدر أيام الدم
واحد فى المعنى، لأن القُرء اسم للدم واسم للوقت، وأن أم
سلمة فهمت ذلك فى جواب واحد، فى مسألة واحدة. واختلفوا فى
مقدار المدة التى تترك فيها المستحاضة الصلاة، فأما
المبتدأة فى الحيض يتمادى بها الدم، ففى رواية المدونة عن
مالك أنها تقعد خمسة عشر يومًا ثم تصلى، وروى عن على بن
زياد عن مالك أنها تقعد أيام لداتها، ثم هى مستحاضة. وحكى
ابن حبيب أن قول مالك اختلف فيها، فقال مرة: تقعد خمسة عشر
يومًا، وأخذ به الأكابر من أصحابه: المغيرة، وابن دينار،
وابن أبى حازم، ومطرف، وابن الماجشون، وابن نافع. وقال بعد
مالك: تقعد قدر أيام لداتها، وأخذ به: ابن كنانة، وابن
وهب، وابن القاسم، وأشهب، وابن عبد الحكم، وأصبغ. قال ابن
حبيب: ثم اختلفوا فى الاستطهار على أيام لداتها، فقال ابن
كنانة وأصبغ: تستطهر على أيام لداتها بثلاثة أيام، وقال
ابن القاسم: لا تستطهر، والمعروف عن ابن القاسم خلاف ما
حكاه ابن حبيب. وقد حكى أبو الفرج أن ابن القاسم روى عن
مالك فى المبتدأة بالدم أنها تقعد أيام لداتها، ثم تستطهر
بثلاثة أيام كاستطهار التى لها أيام معروفة.
(1/429)
وقال الكوفيون والشافعى: إذا استمر
بالمبتدأة الدم تدع الصلاة عشرًا، ثم تغتسل وتصلى عشرين
يومًا، ولا تزال تفعل ذلك كل شهر حتى ينقطع عنها الدم،
واحتجوا بما رواه الخالد ابن أيوب، عن أنس، قال: أقل الحيض
ثلاثة، وأكثره عشرة. وهذا لا حجة فيه لأن الخالد ابن أيوب
مجهول، ولا يعتد بنقله. وقال الأوزاعى: تقعد كما تقعد
نساؤها: أمها، وخالتها، وعمتها، ثم هى بعد ذلك مستحاضة،
فإن لم تعرف أقراء نسائها، فلتقعد على أقراء النساء سبعة
أيام، ثم تغتسل وتصلى وهى مستحاضة، وبه قال أحمد، وإسحاق،
وهو أحد قولى الشافعى. فإن كانت المرأة ممن قد حاضت، ولها
أيام متفقة لم تختلف، فإن قول مالك اختلف فيها إذا تمادى
بها الدم، فكان أول قوله: أنها تقعد خمسة عشر يومًا، وبه
أخذ الأكابر من أصحابه الذين ذكرنا أولاً، ثم رجع فقال:
تستطهر على أيامها بثلاث ما لم تجاوز خمسة عشر يومًا، وأخذ
به: ابن كنانة، وابن وهب، وابن القاسم، وأشهب، وابن عبد
الحكم، وأصبغ. فإن اختلفت أيامها، فقال ابن القاسم، ومن
قال معه بالاستطهار: أنها تستطهر على أكثر أيامها، حاشا
أصبغ، فإنه قال: على أقلها. فإن أطبق عليها الدم، ولم
ينقطع عنها، فإنها تغتسل بعد خمسة عشر يومًا على قول مالك
الأول من بعد أيامها، والاستطهار بثلاث على قوله الآخر، ثم
تصلى، وتصوم، ويأتيها زوجها، ودمها دم عرق حتى يتغير إلى
دم الحيض. والنساء يعرفنه بلونه ورائحته. فإذا تغير دم
الاستحاضة إلى دم الحيض، وتمادى بها الدم المتغير، ففى
المستخرجة روى عيسى، عن ابن القاسم، أنها تستطهر بثلاثة
أيام على مقدار أيامها المعهودة، وقاله ابن الماجشون.
(1/430)
وروى أصبغ عن ابن القاسم أنها تجلس مقدار
أيامها المعهودة ولا تستطهر بشىء، وفى العتبية عن ابن
القاسم أنها تستطهر مقدار أيامها إذا كان لون دمها
متغيرًا، وأما إن انقطع التغير قبل تمام أيام حيضتها
المعهودة، وعاد إلى دم الاستحاضة، فإنها تغتسل حينئذ،
ويكون بمنزلة من انقطع دمها، وهو قول أصحاب مالك كلهم إلا
أصبغ، فإن ابن مزين حكى عنه أنه إذا تغير دمها إلى الحيض
قبل تمام أيامها، ثم عاد بعد ذلك إلى دم الاستحاضة، فإنها
تقعد مقدار أيامها تلفق من أيام الاستحاضة مع أيام الدم
المتغير مقدار أيام حيضتها المعهودة، وهذا خلاف الحديث،
لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أمر فاطمة إذا أدبرت
الحيضة، وأقبل دم الاستحاضة، أنها تغتسل وتصلى. قال ابن
حبيب: وإنما انتهى فى أكثر الحيض إلى خمسة عشر يومًا من
أجل أنه يقال: أكثر ما تدع المرأة الصلاة نصف عمرها،
أخبرنى بذلك مطرف، وقد روى ذلك عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) . ودفع الكوفيون والشافعى الاستطهار، واحتجوا بقوله
لفاطمة: تمت دعى الصلاة عدد الأيام التى كنت تحيضين فيها،
ثم اغتسلى -. فأمرها بالغسل بعد أيامها المعروفة، ولم
يأمرها بالاستطهار، ولا بالزيادة على أيام حيضتها، قالوا:
فالسنة تنفى الاستطهار، لأن دمها جائز أن يكون حيضة، وجائز
أن يكون استحاضة، والصلاة فرض بيقين،
(1/431)
فلا يجوز أن تدعها حتى تتيقن أنها حائض،
قالوا: وقد قال مالك ما يدل على ذلك، قال: لأن تصلى
المستحاضة وليست عليها، خير من أن تدع الصلاة، وهى واجبة
عليها. وروى ابن وهب عن مالك، قال: إنا لنقول: تستطهر
الحائض، وما ندرى أحق هو أم لا، ذكره ابن المواز. واختلفوا
فى المستحاضة تترك الصلاة أيام استحاضتها جاهلة، أو
متأولة، فروى أبو زيد عن ابن القاسم: إنها إذا تركت الصلاة
جاهلة، أنها لا تعيدها ولو أعادتها كان أحب إلىّ. وقال ابن
شعبان: إذا تركت المستحاضة الصلاة شهرًا تظنه حيضًا أنه لا
قضاء عليها، وكذلك النفساء لو طال بها الدم ثلاثة أشهر،
وظنت أنه دم نفاس. وأنكر سحنون هذا من قول ابن القاسم،
وقال: عليها الإعادة، وقال: لا يعذر أحد فى الصلاة بالجهل،
وبهذا قال: أبو حنيفة، والشافعى. واحتج أبو عبد الله بن
أبى صفرة لقول ابن القاسم أنه لا إعادة عليها بحديث فاطمة
بنت أبى حبيش، فقال: ألا ترى قولها: إنى لا أطهر، أفأدع
الصلاة؟ . فدل ذلك أنه طال انتظارها للدم حتى تفاحش عليها،
وهى فى ذلك تاركة الصلاة، فقالت للنبى (صلى الله عليه
وسلم) : إنى لا أطهر، أفأدع الصلاة؟ فقال: تمت إنما ذلك
عرق -، ولم يأمرها بإعادة ما تركته من الصلوات فى أول
انتظارها. وقال غيره: بل حديث فاطمة هذا يدل أن عليها
الإعادة، لأنها إنما قالت للنبى (صلى الله عليه وسلم) :
إنى لا أطهر أفأدع الصلاة؟ فدل أنها كانت مصلية
(1/432)
تلك الأيام، لأنها لا تقول: أفأدع الصلاة
إلا مَنْ هى فاعلة للصلاة وغير تاركة لها، إلا أنه لما
تمادى بها الدم، خشيت أن يكون حيضًا، فسألت النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، هل تتمادى على ما كانت عليه من التزام
الصلاة أم هل تتركها؟ فأجابها (صلى الله عليه وسلم) بجواب
دل على أنها لو تركتها لكان عليها قضاؤها، وذلك قوله: تمت
ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها، ثم
اغتسلى وصلى -. فدل أنه لا تسقط الصلاة عنها إلا فى مقدار
أيام حيضتها خاصة. وأما قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت
فاغسلى عنك الدم وصلى -. فإن العلماء مجمعون على أن
المستحاضة تغتسل عند إدبار الحيضة، ودل أيضًا هذا الحديث
أن المستحاضة لا يلزمها الوضوء عند كل صلاة، ولا يلزمها
غير ذلك الغسل، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم
يأمرها بغيره، ولو لزمها غيره لأمرها به، وفى ذلك رد على
من رأى عليها الغسل لكل صلاة، ولقول من رأى عليها أن تجمع
بين صلاتى النهار بغسل واحد، وبين صلاتى الليل بغسل واحد،
وتغتسل للصبح، لأن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لم
يأمرها بشىء من ذلك كله فى حديث هشام بن عروة، وهو أصح ما
فى هذا الباب. وأما مذاهب العلماء فى ذلك: فإن طائفة منهم
ذهبت إلى أنه يجب على المستحاضة الغسل لكل صلاة، ورووا فى
ذلك آثارًا عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وروى هذا عن
على، وابن عباس، وابن الزبير، وقالوا: لا يأتى عليها وقت
صلاة إلا وهى شاكة هل هى طاهر، أو حائض؟ . فوجب عليها
الغسل لكل صلاة.
(1/433)
وعن سعيد بن جبير مثله، وقال آخرون: يجب
عليها أن تغتسل للظهر والعصر غسلاً واحدًا، وللمغرب
والعشاء غسلاً واحدًا، وللصبح غسلاً واحدًا، ورووا بذلك
آثارًا. وروى عن على، وابن عباس مثل ذلك، وهو قول النخعى،
وقال آخرون: تغتسل كل يوم مرة أى وقت شاءت، وروى ذلك عن
على. وقال آخرون: تغتسل من طهر إلى طهر، هذا قول ابن عمر،
وأنس، وعن الحسن، وعطاء، وسالم، وسعيد بن المسيب مثله. وقد
روى عن ابن المسيب أنها لا تغتسل إلا من طهر إلى طهر، وهو
انقضاء أيام دمها، أو تمييز إقبال استحاضتها، وهو قول
مالك، وسائر فقهاء الأمصار، إلا أنهم اختلفوا، هل تتوضأ
لكل صلاة بعد الغسل؟ فذهب الثورى، وأبو حنيفة، والليث،
والأوزاعى، والشافعى، إلى أنها تغتسل غسلاً واحدًا عند
إدبار حيضتها أو إقبال استحاضتها، ثم تغسل عنها الدم،
وتتوضأ لكل صلاة. واحتجوا بما رواه حماد بن سلمة، عن هشام
بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، فى حديث فاطمة بنت أبى حبيش،
أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال لها: تمت فإذا ذهب
قدرها فاغسلى عند الدم، وتوضئ وصلى -. قالوا: وهذه زيادة
لحماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، يجب قبولها، وقد كانت
عائشة تفتى بالوضوء لكل صلاة، وهى رواية الحديث، فهى أعلم
بمخرجه. وذهب عكرمة، وربيعة، ومالك، وأيوب، وجماعة: إلى
أنها
(1/434)
تغتسل عند إدبار حيضتها، وإقبال استحاضتها،
ولا تتوضأ إلا عند إيجاب الحدث، على ما جاء فى حديث هذا
الباب. وقالوا: هكذا رواه مالك، والليث، وعمرو بن الحارث،
عن هشام بن عروة وهم الحفاظ، ولم يأمرها بالوضوء لكل صلاة،
وقد علل ذلك (صلى الله عليه وسلم) بقوله: تمت إنما ذلك دم
عرق، وليس بالحيضة -. ودم العروق لا يوجب وضوءًا للصلاة
كالفصاد. ولما كان دم الاستحاضة لا يفسد الصلاة، لم يوجب
طهارة، لأنَّا نجدها تصلى، وإن قطر الدم على الحصير، ولا
لجرح تتوضأ، وحرمة الصلاة أوكد، فوجب أن تكون فى غير
الصلاة كذلك.
9 - باب غَسْلِ دَمِ الْحَيْضِ
/ 12 - فيه: أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِى بَكْر، أن امْرَأَةٌ
سَألت رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِحْدَانَا إِذَا أَصَابَ
ثَوْبَهَا الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ، كَيْفَ تَصْنَعُ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا
أَصَابَ ثَوْبَ إِحْدَاكُنَّ الدَّمُ مِنَ الْحَيْضَةِ،
فَلْتَقْرُضْهُ، ثُمَّ لِتَنْضَحْهُ بِمَاءٍ، ثُمَّ
لِتُصَلِّى فِيهِ -. / 13 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ:
كَانَتْ إِحْدَانَا تَحِيضُ، ثُمَّ تَقْتَرِضُ الدَّمَ
مِنْ ثَوْبِهَا عِنْدَ طُهْرِهَا فَتَغْسِلُهُ، وَتَنْضَحُ
عَلَى سَائِرِهِ، ثُمَّ تُصَلِّى فِيهِ. قد تقدم القول فى
هذين الحديثين فى باب غسل الدم فى كتاب الوضوء، وحديث
عائشة يفسر حديث أسماء، وأن ما روته من نضح الدم، فمعناه
الغسل كما قالت عائشة، فأما نضحها على سائره، فهو رش لا
غسل، وإنما فعلت ذلك، لتطيب نفسها لأنها لم تنضح
(1/435)
على مكان فيه دم، لأنه قد بان فى هذه
الرواية أنها كانت تغسل الدم، فلا يجوز أن تغسل بعضه وتنضح
بعضه، وإنما نضحت ما لا دم فيه دفعًا للوسوسة، وكذلك حكم
الثوب إذا شك فيه هل أصابه نجاسة أم لا. فالنضح عند
الفقهاء لأن الأصل فى كل شىء طاهر أنه على طهارته، حتى
يتيقن حلول النجاسة فيه. وقوله: تمت تقرضه -، بمعنى تغسله
بأطراف أصابعها، ومنه قيل: قرضت فلانًا. وإنما أمر النبى،
(صلى الله عليه وسلم) ، بقرضه، لأن الدم وغيره مما يصيب
الثوب إذا قرض بالغسل كان أحرى بأن يذهب أثره، يُنَقَّى
الثوب منه من أن يعنف عليه، ويغسل باليد كلها، قاله ابن
قتيبة. وفى كتاب العين: قرضت الشىء قطعته. وتمت الحيضة -
بكسر الحاء الاسم، مثل القعدة والجلسة والركبة اسم للقعود
والجلوس والركوب، والحيضة، بفتح الحاء، الفعلة الواحدة.
- باب اعْتِكَافُ الْمُسْتَحَاضَةِ
/ 14 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه
وسلم) اعْتَكَفَ مَعَهُ بَعْضُ نِسَائِهِ، وَهِىَ
مُسْتَحَاضَةٌ تَرَى الدَّمَ، فَرُبَّمَا وَضَعَتِ
الطَّسْتَ تَحْتَهَا مِنَ الدَّمِ. وَأَنَّ عَائِشَةَ
رَأَتْ مَاء، الْعُصْفُرِ. / 15 - وَقَالَتِ مرة:
فَكَانَتْ تَرَى الدَّمَ وَالصُّفْرَةَ، وَالطَّسْتُ
تَحْتَهَا، وَهِىَ تُصَلِّى. قال المهلب: فيه من الفقه أن
المستحاضة حكمها حكم الطاهر
(1/436)
واستحاضتها غير الحيض المتروك له الصلاة،
وهو عرق كما قال (صلى الله عليه وسلم) ، ولذلك اعتكفت فى
المسجد. والعلماء مجمعون أن الحائض لا يجوز لها دخول
المسجد، ولا الاعتكاف فيه. قال عبد الواحد: وفيه دليل على
إباحة الاعتكاف لمن به سلس البول، أو المذى، أو به جرح
يسيل قياسًا على المستحاضة.
- باب هَلْ تُصَلِّى الْمَرْأَةُ فِى ثَوْبٍ حَاضَتْ
فِيهِ؟
/ 16 - فيه: عَائِشَة قَالَتْ: مَا كَانَ لإحْدَانَا إِلا
ثَوْبٌ وَاحِدٌ، تَحِيضُ فِيهِ، فَإِذَا أَصَابَهُ شَىْءٌ
مِنْ الدَّمِ، قَالَتْ بِرِيقِهَا، فَمَصَعَتْهُ
بِظُفْرِهَا. قال المهلب: من لم تكن لها إلا ثوب واحد تحيض
فيه فمعلوم أنها فيه تصلى عند انقطاع حيضتها وتطهيرها لأثر
الدم من ثوبها، وقد جعل الله الماء طهورًا لكل نجاسة، وليس
هذا الحديث بمخالف لحديث عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه،
عن عائشة، أنها قالت: كانت إحدانا تقرض الدم من ثوبها عند
طهرها، فتغسله. وإنما هو مبنى عليه ومحمول على غسلها الدم
الثابت عنها، أو يكون هذا الدم الذى مصعته قليلاً معفوًا
عنه لا يجب عليها بغسله، فلذلك لم تذكر أنها غسلته بالماء.
وقال صاحب العين: المصع: التحريك، والدابة تمصع
(1/437)
بذنبها، ومصع الطائر بذرقه: رمى به، وإنما
أرادت فى الحديث أنها كانت تحكه وتحته بظفرها وتقلعه.
- باب الطِّيبِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ غُسْلِهَا مِنَ
الْمَحِيضِ
/ 17 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: تمت كُنَّا نُنْهَى
أَنْ نُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاثٍ، إِلا عَلَى
زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلا نَكْتَحِلَ،
وَلا نَتَطَيَّبَ، وَلا نَلْبَسَ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إِلا
ثَوْبَ عَصْبٍ، وَقَدْ رُخِّصَ لَنَا عِنْدَ الطُّهور،
إِذَا اغْتَسَلَتْ إِحْدَانَا مِنْ مَحِيضِهَا فِى
نُبْذَةٍ مِنْ كُسْتِ أَظْفَارٍ، وَكُنَّا نُنْهَى عَنِ
اتِّبَاعِ الْجَنَائِزِ -. قال المهلب: أبيح للحائض مُحِدا
كانت أو غير مُحدٍّ عند غسلها من المحيض أن تدرأ رائحة
الدم عن نفسها بالبخور بالقسط لما هى مستقبلة من الصلاة
ومجالسة الملائكة لئلا تؤذيهم برائحة الدم. وقولها: تمت
نبذة من كست -، يعنى ما تنبذه وتطرحه فى النار مرةً واحدةً
عند الطهى، وإنما أرادت بذلك التقليل منه بمقدار ما يقطع
زفرة رائحة دم المحيض. وقولها فى الحديث: تمت كست أظفار -،
هكذا روى فيه، وصوابه: كست ظفار، منسوب إلى ظفار وهو ساحل
من سواحل عدن، والكست والقسط لغتان.
(1/438)
- باب دَلْكِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا إِذَا
تَطَهَّرَتْ مِنَ الْمَحِيضِ، وَكَيْفَ تَغْتَسِلُ،
وَتَأْخُذُ فِرْصَةً مُمَسَّكَةً تَتَّبِعُ بِهَا أَثَرَ
الدَّمِ
/ 18 - فيه: عَائِشَة، أَنَّ امْرَأَةً سَأَلَتِ
النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) ، عَنْ غُسْلِهَا مِنَ
الْمَحِيضِ، فَأَمَرَهَا كَيْفَ تَغْتَسِلُ، فَقَالَ: تمت
خُذِى فِرْصَةً مِنْ مَسْكٍ فَتَطَهَّرِى بِهَا -،
قَالَتْ: كَيْفَ أَتَطَهَّرُ؟ قَالَ: تمت تَطَهَّرِى بِهَا
-، قَالَتْ: كَيْفَ؟ قَالَ: تمت سُبْحَانَ اللَّهِ،
تَطَهَّرِى -، فَاجْتَبَذْتُهَا إِلَىَّ، فَقُلْتُ:
تَتَبَّعِى بِهَا أَثَرَ الدَّمِ. الفرصة: القطعة، وفرصت
الشىء فرصًا قطعته، ومن سمى المفراص: الحديدة التى يقطع
بها الجلد. وقال ابن قتيبة: اختلف الناس فى تأويل الفرصة،
فذهب بعض الفقهاء إلى أنها المطيبة بالمسك، وبعضهم يذهب
إلى أنها المأخوذة من مسك شاة وهو الجلد، ولا أرى هذين
التفسيرين صحيحين، ومن كان منهم يستطيع أن يمتهن بالمسك
هذا الامتهان حتى تمسح به دم الحيضة؟ ولا نعلم فى الصوف
لتتبع الدم معنى يخصه به دون القطن والخرق، والذى عندى فى
ذلك، والله أعلم، أن الناس يقولون للحائض: احتملى معك كذا،
يريدون عالجى به قُبُلك، أو احتشى به، أو أمسكى معك كذا
وكذا يكنون به، فيكون أحسن من الإفصاح فقوله: خذى معك
فرصة، أى قطعة من صوف، أو قطن، أو خرقة. وقوله: تمت
ممسَّكة -، يعنى متحملة، يريد تحملينها معك تمسح القبل،
والعرب تقول: مسكت كذا، بمعنى أمسكت وتمسكت، قال الله
تعالى: (والذين يمسكون بالكتاب) [الأعراف: 170] ، فالكتاب
على هذا ممسك.
(1/439)
وقال غيره: هذا تأويل حسن، وهو خارج على
رواية من روى فى هذا الحديث: تمت فرصه ممسَّكة -، وهى
رواية وهيب، عن منصور، وأما على رواية ابن عيينة، عن
منصور: تمت خذى فرصة من مسك -، فلا مسوغ أن تكون الفرصة
إلا من مسك. قال المهلب: وإنما يريد قطعة من جلد فيها
صوفها لم تنتف، وإذا كان كذلك مَنَعَ الجلد أن يصل بلل
الصوف بالدم إلى يدها، فتسلم يدها من زفرته، ويكون أنظف
لها. وقوله: تمت تتبعى بها أثر الدم -، يريد فى فرجها حيث
كان الأذى، وليس ذلك بموجب لدلك الجسم كله، إذا لم يكن فيه
أذى، وهكذا حكم النجاسات الثابتة العرك والدلك، والمتابعة
لصب الماء عليها. وفيه: أنه ليس على المرأة عار أن تسأل عن
أمر حيضتها وما تستبين به إذا كان من أمر دينها. وفيه: أن
العالم يجيب بالتعريض فى الأمور المستورة. وفيه: تكرير
الجواب لإفهام السائل دون أن يكشف. وفيه: مراجعة السائل
إذا لم يفهم. وفيه: أن السائل إذا لم يفهم وفهمه بعض من فى
مجلس العالم والعالم يسمع، أن ذلك سماع من العالم يجوز أن
يقول فيه حدثنى وأخبرنى. وترجم له باب غسل المحيض، وذكر
فيه حديث وهيب عن منصور: تمت خذى فرصة ممسَّكة -.
(1/440)
- باب امْتِشَاطِ الْمَرْأَةِ عِنْدَ
غُسْلِهَا مِنَ الْمَحِيضِ
/ 19 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: أَهْلَلْتُ مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ،
فَكُنْتُ مِمَّنْ تَمَتَّعَ، وَلَمْ يَسُقِ الْهَدْىَ،
فَحَاضَتْ، وَلَمْ تَطْهُرْ، حَتَّى دَخَلَتْ لَيْلَةُ
عَرَفَةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) : تمت انْقُضِى رَأْسَكِ، وَامْتَشِطِى، وَأَمْسِكِى
عَنْ عُمْرَتِكِ -، فَفَعَلْتُ، فَلَمَّا قَضَيْتُ
الْحَجَّ، أَمَرَ عَبْدَالرَّحْمَنِ لَيْلَةَ الْحَصْبَةِ،
فَأَعْمَرَنِى مِنَ التَّنْعِيمِ، مَكَانَ عُمْرَتِى
الَّتِى نَسَكْتُ. وترجم له باب نقض المرأة شعرها عند غسل
الحيض. اختلف العلماء فى نقض المرأة شعرها للاغتسال، فروى
عن عبد الله بن عمرو أنه كان يأمر نساءه إذا اغتسلن أن
ينقضن رءوسهن. وروى همام، عن حذيفة أنه قال لامرأته: خللى
رأسك بالماء لا تُحِلِّهِ، فإن قليل بقاؤه عليه. وقال
النخعى: تنقض العروس رأسها للغسل وحجتهم حديث عائشة. وقال
طاوس: تنقض الحائض شعرها إذا اغتسلت، فأما من الجنابة فلا.
وقال ابن المنذر: لا فرق بين الحائض والجنابة. وفيه قول
آخر روى عن عائشة، وأم سلمة، وابن عمر، وجابر، أنهم قالوا:
ليس على المرأة نقض شعرها للاغتسال من الحيض ولا من
الجنابة، وهو قول عكرمة، وعطاء، والزهرى، والحكم،
(1/441)
ومالك، والكوفيين، والشافعى، وعامة الفقهاء
كلهم يقولون: أن المرأة بأى وجه أوصلت الماء إلى أصول
شعرها، وعمته بالغسل، أنها قد أدت ما عليها، وحجتهم حديث
أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله، إنى امرأة أشد ضفر رأسى،
أفأنقضه للجنابة؟ قال: تمت لا، إنما كان يكفيك أن تحثى
عليه ثلاث حثيات، وتغمرى قرونك، فإذا أنت قد طهرت -. وحديث
عائشة أصح إسنادًا غير أن العمل عند الفقهاء على حديث أم
سلمة، وقد قال حماد قولاً جمع فيه بين الحديثين، فقال: إن
كانت ترى أن الماء أصاب أصول شعرها أجزأ عنها، وإن كانت
ترى أن الماء لم يصب، فلتنقضه. وقد استدل الكوفيون بحديث
عائشة، وعلله المالكيون ودفعوه بما سنورده فى رفض العمرة
للحائض والمراهق، وسنذكره فى كتاب الحج.
- باب كَيْفَ تُهِلُّ الْحَائِضُ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ
/ 20 - فيه: عَائِشَةَ، خَرَجْنَا مَعَ رسُول اللَّه (صلى
الله عليه وسلم) عام حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَمِنَّا مَنْ
أَهَلَّ بِعُمْرَةٍ، وَمِنَّا مَنْ أَهَلَّ بِحَجٍّ،
فَقَدِمْنَا مَكَّةَ، فَحِضْتُ، فَلَمْ أَزَلْ حَائِضًا
حَتَّى كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ، فَأَمَرَنِى النَّبِىُّ،
(صلى الله عليه وسلم) ، أَنْ أَنْقُضَ رَأْسِى،
وَأَمْتَشِطَ، وَأُهِلَّ بِحَجٍّ، وَأَتْرُكَ الْعُمْرَةَ.
. . . الحديث. فيه: أن الحائض تهل بالحج والعمرة، وتبقى
على حكم إحرامها، وتفعل فعل الحج كله غير الطواف بالبيت
على ما روته عائشة عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، فى
كتاب الحج، فإذا طهرت اغتسلت،
(1/442)
وطافت بالبيت وأكملت حجها، ويحتمل أن
يأمرها (صلى الله عليه وسلم) بالاغتسال ونقض رأسها عند
إهلالها بالحج، وهى حائض لا أنه يجب الغسل عليها. قال بعض
الناس: فأمره (صلى الله عليه وسلم) أن تنقض شعرها،
وامتشاطها وهى حائض، لا يُجب ذلك عليها، وإنما ذلك، والله
أعلم، لإهلالها بالحج، لأن من سنة الحائض والنفساء أن
يغتسلا عند الميقات بالحج والإهلال، كما أمر النبى، (صلى
الله عليه وسلم) ، أسماء بنت عميس حين ولدت محمد بن أبى
بكر بالبيداء بالاغتسال والإهلال، وكان مذهب ابن عمر أن
تغتسل لدخول مكة ولوقوف عشية عرفة، فلما حاضت بسرف، أمرها
(صلى الله عليه وسلم) أن تغتسل لإهلالها بالحج، فدل ذلك
على أن اغتسال الحائض والنفساء عند الإهلال سنة لهما، ذلك
على أن اغتسال الحائض، والنفساء عند الإهلال سنة لهما،
وسأزيد فى بيان ذلك فى كتاب الحج فى باب كيف تهل الحائض
والنفساء، إن شاء الله، حين أمرها أن تدع العمرة وتهل
بالحج.
- باب: مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ
/ 21 - فيه: أَنَس، عَنِ النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم)
، قَالَ: تمت إِنَّ اللَّهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا،
يَقُولُ: يَا رَبِّ نُطْفَةٌ، يَا رَبِّ عَلَقَةٌ، يَا
رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْضِىَ خَلْقَهُ،
قَالَ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ شَقِىٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟
فَمَا الرِّزْقُ؟ وَمَا الأجَلُ؟ فَيُكْتَبُ فِى بَطْنِ
أُمِّهِ -. قال المهلب: فيه أن الله قد علم أحوال خلقه قبل
أن يخلقهم، ووقت آجالهم، وأرزاقهم، وسبق علمه فيهم
بالسعادة، أو الشقاء، وهذا مذهب أئمة أهل السنة.
(1/443)
قال غيره: ويمكن أن يكون أراد البخارى بهذا
التبويب، معنى ما روى عن علقمة فى تأويل هذه الآية، قال
علقمة: تمت إذا وقعت النطفة فى الرحم، قال الملك: مخلقة أو
غير مخلقة؟ فإن قال: غير مخلقة محت الرحم دمًا، وإن قال:
مخلقة، قال: أذكر، أو أنثى -؟ فغرضه فى هذا الباب، والله
أعلم، أن الحامل لا تحيض كما ذهب إليه أهل الكوفة،
والأوزاعى، وهو أحد قولى الشافعى، قالوا: لأن اشتمال الرحم
على الدم منع خروج دم الحيض. وفى الآية تأويل ثان، قيل: إن
معنى غير مخلقة أنها تكون أولاً غير مخلقة وهى الحالة
الثانية، ثم تخلق بعد ذلك، والواو لا توجب الترتيب. وأجمع
العلماء أن الأمة تكون أم ولد بما أسقطته من ولدٍ تام
الخلق، واختلفوا فيما لم يتم خلقه من المضغة والعلقة، فقال
مالك، والأوزاعى، وجماعة: تكون بالمضغة أم ولد كانت مخلقة،
أو غير مخلقة وتنقضى بها العدة، وقال أبو حنيفة، والشافعى،
وجماعة: إن كان قد تبين فى المضغة شىء من الخلق أصبع، أو
عين، أو غير ذلك، فهى أم ولد، وكلا القولين تحتمله الآية،
والله أعلم بما أراد.
- باب إِقْبَالِ الْمَحِيضِ وَإِدْبَارِهِ
وَكُنَّ نِسَاءٌ يَبْعَثْنَ إِلَى عَائِشَةَ بِالدُّرَجَةِ
فِيهَا الْكُرْسُفُ فِيهِ الصُّفْرَةُ، فَتَقُولُ: لا
تَعْجَلْنَ حَتَّى تَرَيْنَ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ،
تُرِيدُ بِذَلِكَ الطُّهْرَ مِنَ الْحَيْضَةِ.
(1/444)
وَبَلَغَ بِنْتَ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ
نِسَاءً يَدْعُونَ بِالْمَصَابِيحِ مِنْ جَوْفِ اللَّيْلِ،
يَنْظُرْنَ إِلَى الطُّهْرِ، فَقَالَتْ: مَا كَانَ
النِّسَاءُ يَصْنَعْنَ هَذَا، وَعَابَتْ عَلَيْهِنَّ. / 22
- فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِى حُبَيْشٍ
كَانَتْ تُسْتَحَاضُ، فَسَأَلَتِ النَّبِىَّ، (صلى الله
عليه وسلم) ، (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: تمت ذَلِكِ
عِرْقٌ وَلَيْسَتْ بِالْحَيْضَةِ، فَإِذَا أَقْبَلَتِ
الْحَيْضَةُ، فَدَعِى الصَّلاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ
فَاغْتَسِلِى، وَصَلِّى -. أما إقبال المحيض فهو دفعة من
دم، فإذا رأتها المرأة أمسكت عن الصلاة، وهذا إجماع من
العلماء، إلا أن الدفعة من الدم لا تحسب قرء فى العدة
عندهم. وأما إدبار الحيض، فهو إقبال الطهر، وله علامتان:
القصة البيضاء، والجفوف، وهو أن تدخل الخرقة فتخرجها جافة.
اختلف أصحاب مالك عنه فى أيهما أبلغ براءة فى الرحم من
الحيض؟ فروى ابن القاسم عن مالك: أنه إذا كانت ممن ترى
القصة البيضاء، فلا تطهر حتى تراها، وإن كانت ممن لا تراها
فطهرها الجفوف، وبه قال عيسى بن دينار، أن القصة أبلغ من
الجفوف. وممن روى عنه ذلك من السلف: أسماء بنت أبى بكر،
ومكحول. وذكر ابن عبد الحكم، عن مالك: أنها تطهر بالجفوف،
وإن كانت ممن ترى القصة البيضاء، لأن أول الحيض دم، ثم
صفرة، ثم كدرة، ثم يكون رقيقًا كالقصة، ثم ينقطع، فإذا
انقطع قبل هذه المنازل، فقد برئت الرحم من الحيض، لأنه ليس
بعد الجفوف انتظار شىء. وممن قال: إن الجفوف أبلغ: عمر،
وعطاء بن أبى رباح، وهو
(1/445)
قول عائشة: تمت لا تعجلن حتى ترين القصة
البيضاء -، يدل على أنها آخر ما يكون من علامات الطهر،
وأنه لا علامة بعدها أبلغ منها، ولو كانت علامة أبلغ منها،
لقالت: حتى ترين القصة أو الجفوف. وفى قولها: تمت لا تعجلن
حتى ترين القصة -، دليل أن الصفرة والكدرة فى أيام الحيض
حيض، لأنها فى حكم الحائض حتى ترى القصة البيضاء، وقد ترى
قبلها صفرة، أو كدرة. والقصة: الماء الأبيض الذى يدفعه
الرحم عند انقطاع الحيض، شبه لبياضه بالقص، وهو الجص، وفى
الحديث: تمت نهى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن تقصيص
القبور -، ويروى: تمت عن تجصيص القبور -، وهو تلييسها
بالجص. قال المهلب: فيه من الفقه أن العادة الرافعة للحرج
هى السنة، ومن خالفها بما يدخل الحرج، فهو مذموم، كما ذمته
بنت زيد بن ثابت. قال غيره: إنما أنكرت ابنة زيد افتقاد
أمر الحيض فى غير أوقات الصلوات، لأن جوف الليل ليس بوقت
صلاة، وإنما على النساء افتقاد أحوالهن للصلاة، فإن كن قد
طهرن تأهبن للغسل لها. واختلف الفقهاء فى الحائض تطهر قبل
الفجر، ولا تغتسل حتى يطلع الفجر، فقال مالك، والثورى،
والشافعى، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور: هى بمنزلة الجنب تغتسل
وتصوم، ويجزئها صوم ذلك اليوم. وقال الأوزاعى: تصومه،
وتقضيه.
(1/446)
وقال أبو حنيفة: إن كانت أيامها أقل من
عشرة صامته وقضت، وإن كانت أكثر من عشرة صامته ولم تقضه.
قال بعض الناس: قد اتفق هؤلاء على صومه، واختلفوا فى
قضائه، ولا حجة مع من أوجب قضاءه إلا الرأى والدعوى،
والفرائض لا تثبت إلا من جهة التوقيف، وقد قال عبد الملك
بن الماجشون: يومها ذلك يوم فطر، ولا أدرى إن كان يرى صومه
أم لا، فإن كان لا يراه فهو شذوذ لا يعرج عليه، ولا معنى
لمن اعتل به من أن الحيض ينقض الصوم، والاحتلام لا ينقضه،
لأن من طهرت من حيضتها ليست بحائض، والغسل إنما يجب عليها
إذا طهرت، ولا يجب الغسل على حائض. وقوله: تمت كن نساء
يبعثن إلى عائشة بالدرجة فيها الكرسف -، هكذا يرويه أصحاب
الحديث الدرجة، بكسر الدال وتشديدها وفتح الراء، يعنون
بذلك جمع دِرَج، وهو الذى يجعل فيه النساء الطيب، وأهل
اللغة ينكرون ذلك، ويقولون: أما الذى كن يبعثن به الخرَق
فيها القطن، كن يمتحن بها أمور طهورهن، واحدتها دُرْجة،
بضم الدال وسكون الراء. قال ابن الأعرابى: يقال للذى يدخل
فى حياء الناقة إذا أرادوا إرآمها الدُّرَجَة والدُّرْج،
وجمعه أَدْراج ودِرَجَة ودريج، وقد أدرجت الناقة، واستدرجت
المرأة. والكرسف: القطن.
(1/447)
- باب لا تَقْضِى الْحَائِضُ الصَّلاةَ
وَقَالَ جَابِرُ، وَأَبُو سَعِيدٍ، عَنِ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) : تمت تَدَعُ الصَّلاةَ -. / 23 - فيه:
مُعَاذَةُ، أَنَّ امْرَأَةً قَالَتْ لِعَائِشَةَ:
أَتَجْزِئ إِحْدَانَا صَلاتَهَا، إِذَا طَهُرَتْ؟
فَقَالَتْ: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ كُنَّا نَحِيضُ مَعَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَلا يَأْمُرُنَا بِهِ،
أَوْ قَالَتْ: فَلا نَفْعَلُهُ. قال المهلب: معنى قولها:
تمت أتجزئ إحدانا صلاتها؟ - معناه أتقضى إحدانا صلاتها؟
ولذلك سمى يوم القيامة يوم الجزاء إذا جوزى الناس بأعمالهم
يوم القضاء. وهذا الحديث أصل إجماع المسلمين: أن الحائض لا
تقضى الصلاة، ولا خلاف فى ذلك بين الخلف والسلف، إلا طائفة
من الخوارج يرون على الحائض قضاء الصلاة لا يشتغل بهم، ولا
يُعَدون خلافًا، لشذوذهم عن سلف الأمة، فلذلك قالت عائشة:
تمت أحرورية أنت؟ - للمرأة التى سألت عن ذلك منكرة عليها،
إذ خشيت أن تعتقد مذهب الحرورية فى ذلك، ونزعت لها بالحجة
التى لا يجوز خلافها، وهو قولها: تمت قد كنا نحيض مع النبى
(صلى الله عليه وسلم) فلا يأمرنا به -، تعنى بقضاء الصلوات
أيام الحيض، وقد سئل ابن عباس عن الحائض والنفساء هلى
يقضيان الصلاة؟ فقال: هؤلاء نساء النبى، (صلى الله عليه
وسلم) ، لو فعلن ذلك أمرنا نساءنا به. وقال معمر: قال
الزهرى: تقضى الحائض الصوم، ولا تقضى الصلاة. قلت: عمن؟
قال: اجتمع الناس عليه، وليس فى كل شىء نجد الإسناد. قال
ابن جريج: قلت لعطاء: أتقضى الصلاة؟ قال: ذلك بدعة.
(1/448)
وقال حذيفة: ليكونن فى آخر هذه الأمة قوم
يكذبون أولهم ويلعنونهم، يقولون: جلدوا فى الخمر، وليس فى
كتاب الله، ورجموا وليس فى كتاب الله، ومنعوا الحائض
الصلاة، وليس فى كتاب الله.
- باب مَنِ اتَّخَذَ ثِيَابَ الْحَيْضِ سِوَى ثِيَابِ
الطُّهْرِ
/ 24 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا مَعَ
النَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مُضْطَجِعَةٌ فِي
خَمِيلَةٍ، حِضْتُ، فَانْسَلَلْتُ، فَأَخَذْتُ ثِيَابَ
حِيضَتِى، فَقَالَ: تمت أَنُفِسْتِ -؟ فَقُلْتُ: نَعَمْ،
فَدَعَانِى، فَاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِى الْخَمِيلَةِ. قال
المؤلف: إن قيل: هذا الحديث يعارض قول عائشة: تمت ما كان
لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه -، قيل: لا تعارض بينهما،
بحمد الله، ويمكن أن يكون حديث عائشة فى بدء الإسلام،
فإنهما كانوا حينئذ فى شدة وقِلَّة، قبل أن يفتح الله
عليهم الفتوح، ويغنم الغنائم، فلما فتح الله عليهم واتسعت
أحوالهم، اتخذ النساء ثيابًا للحيض سوى ثياب لباسهن،
فأخبرت أم سلمة عن ذلك الوقت. والخميلة والخملة: ثوب مخمل
من الصوف.
- باب شُهُودِ الْحَائِضِ الْعِيدَيْنِ، وَدَعْوَةَ
الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلْنَ الْمُصَلَّى
/ 25 - فيه: حَفْصَةَ، قَالَتْ: كُنَّا نَمْنَعُ
عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِى الْعِيدَيْنِ،
فَقَدِمَتِ امْرَأَةٌ، فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِى خَلَفٍ،
فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا، وَكَانَ زَوْجُ
(1/449)
أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) ثِنْتَىْ عَشَرَةَ غَزْوَةً، وَكَانَتْ أُخْتِى
مَعَهُ فِى سِتٍّ، قَالَتْ: كُنَّا نُدَاوِى الْكَلْمَى،
وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى، فَسَأَلَتْ أُخْتِى
النَّبِىَّ، (صلى الله عليه وسلم) : أَعَلَى إِحْدَانَا
بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ، أَنْ لا
تَخْرُجَ؟ قَالَ: تمت لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ
جِلْبَابِهَا، وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ، وَدَعْوَةَ
الْمُسْلِمِينَ -، فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ
سَأَلْتُهَا: أَسَمِعْتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
؟ قَالَتْ: بِأَبِى نَعَمْ، وَكَانَتْ لا تَذْكُرُهُ إِلا
قَالَتْ: بِأَبِى، سَمِعْتُهُ يَقُولُ: تمت يَخْرُجُ
الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ، أَوِ الْعَوَاتِقُ
ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ، وَلْيَشْهَدْنَ
الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَعْتَزِلُ
الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى -. قَالَتْ حَفْصَةُ: قُلْتُ:
الْحُيَّضُ؟ فَقَالَتْ: أَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرَفَةَ
وَكَذَا وَكَذَا؟ . قال المهلب: فيه جواز خروج النساء
الطاهرات والحُيَّض إلى العيدين وشهود الجماعات، ويعتزل
الحيض المصلى، ويكنَّ فيمن يدعو، ويُؤَمِّن، رجاء بركة
المشهد الكريم، وسأذكر اختلاف العلماء فى ذلك فى كتاب
العيدين، إن شاء الله. وفيه: أن الحائض لا تقرب المسجد،
وتقرب غيره من المواضع التى ليست بمساجد محظرة. وفيه: جواز
استعارة الثياب، للخروج إلى الطاعات. وفيه: جواز اشتمال
المرأتين فى ثوب واحد، لضرورة الخروج إلى طاعة الله. وفيه:
غزو النساء المتجالات ومداواتهن الجرحى، وإن كن
(1/450)
غير ذى محارم منهم، وأما إن كن غير
مُتَجَالات، فيعالجن الجرحى، وإن كن غير ذى محرم منهن
بحائل بينهن وبينهم، أو يأمرن غيرهن بوضع الدواء عليهم.
وفيه: قبول خبر المرأة. وفى قولها: تمت كنا نداوى الكَلْمى
-، جواز نقل الأعمال فى زمن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ،
وإن كان الرسول (صلى الله عليه وسلم) لم يخبر بشىء من ذلك.
وفيه: جواز النقل عمن لا يُعرف اسمه من الصحابة خاصة إذا
بين مسكنه ودل عليه. وقولها: تمت بأبأ - تريد بأبى، وهى
لغة لبعض العرب قالت عمرة الخثعمية من أبيات الحماسة: لقد
زعموا أنى جزعت عليها وهل جزع أن قلت وا بأبأهما؟ تريد
بأبى هما، أى يُفديان بأبى. وعن ابن الجنى: ويجوز أبيبابيا
مخلصة يريد أبًا، ثم يخفف الهمزة، ويحذفها، ويبقى فتحتها
على الياء.
- باب إِذَا حَاضَتْ فِى الشَهْرٍ ثَلاثَ حِيَضٍ وَمَا
تُصَدَّقُ النِّسَاءُ فِى الْحَمْلِ وَالْحَيْضِ فِيمَا
يُمْكِنُ مِنَ الْحَيْضِ، لِقَوْلِ اللَّهِ: (وَلا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِى
أَرْحَامِهِنَّ) [البقرة: 228]
. وَيُذْكَرُ عَنْ عَلِىٍّ وَشُرَيْحٍ، إِنِ [امْرَأَةٌ]
جَاءَتْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا، مِمَّنْ
يُرْضَى دِينُهُ، أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلاثًا فِى كل شَهْرٍ،
صُدِّقَتْ.
(1/451)
وَقَالَ عَطَاءٌ: أَقْرَاؤُهَا مَا
كَانَتْ، وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ. وَقَالَ عَطَاءٌ:
الْحَيْضُ يَوْمٌ إِلَى خَمْسَ عَشْرَةَ ليلة. وَقَالَ
مُعْتَمِرٌ، عَنْ أَبِيهِ: سَأَلْتُ: ابْنَ سِيرِينَ عَنِ
الْمَرْأَةِ تَرَى الدَّمَ بَعْدَ قُرْئِهَا بِخَمْسَةِ
أَيَّامٍ؟ قَالَ: النِّسَاءُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ. / 26 -
فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ أَبِى حُبَيْشٍ
سَأَلَتِ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتْ: إِنِّى
أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ، أَفَأَدَعُ الصَّلاةَ؟
فَقَالَ: تمت لا، إِنَّ ذَلِكِ عِرْقٌ، وَلَكِنْ دَعِى
الصَّلاةَ قَدْرَ الأيَّامِ الَّتِى كُنْتِ تَحِيضِينَ
فِيهَا، ثُمَّ اغْتَسِلِى، وَصَلِّى -. قال ابن المنذر:
اختلف أهل العلم فى العدة التى تصدق فيها المرأة إذا
ادعتها، فروى عن على، وشريح: أنها إذا ادعت أنها حاضت ثلاث
حيض فى شهر، أو خمس وثلاثين ليلة، وجاءت ببينة من النساء
العدول من بطانة أهلها صُدِّقت، وهو قول أحمد بن حنبل. قال
المؤلف: وقد رُوى مثله عن مالك، قال فى كتاب إرخاء الستور
من المدونة، قال: إذا قالت المطلقة: حضت ثلاث حيض فى شهر،
سئل النساء عن ذلك، فإن أمكن ذلك عندهن صُدِّقت. وقالت
طائفة: لا تصدق إذا ادعت أن عدتها انقضت فى أقل من شهرين
إذا كانت من ذوات الحيض، قال: لأنه ليس فى العادة أن تكون
امرأة على أقل الطهر، وأقل الحيض، لأنه إذا كثر الحيض قل
الطهر، وإذا قل الطهر كثر الحيض، وهذا قول أبى حنيفة.
وقالت طائفة: لا تُصدق فى أقل من تسعةٍ وثلاثين يومًا، وهو
(1/452)
قول الثورى، وأبى يوسف، ومحمد، وذلك لأن
أقل الحيض عندهما ثلاثة أيام، وأقل الطهر خمسة عشر يومًا.
وقال أبو ثور: أقل ما يكون فى ذلك إذا طلقها فى أول الطهر
سبعة وأربعون يومًا، وذلك أن أقل الطهر خمسة عشر يومًا،
وأقل الحيض يوم وذكر ابن أبى زيد عن سحنون أن أقل العدة
أربعون ليلة. وقال الشافعى: تُصَدَّق فى أكثر من اثنين
وثلاثين يومًا، وذلك أن يطلقها زوجها وقد بقى من الطهر
ساعة، فتحيض يومًا وتطهر خمسة عشر يومًا، ثم تحيض يومًا
وتطهر خمسة عشر يومًا، فإذا دخلت فى الدم من الحيضة
الثالثة، فقد انقضت عدتها. وقال إسحاق، وأبو عبيد: إن كانت
أقراؤها معلومة قبل أن تبتلى حتى عرفها بطانة أهلها مما
يرضى دينهن فإنها تُصدق، وإن لم تعرف ذلك، وكان أول ما رأت
الحيض أو الطهر، فإنها لا تصدق فى أقل من ثلاثة أشهر، لأن
الله جعل بدل كل حيضة شهرًا فى اللائى يئسن من المحيض،
واللائى لم تحضن، فإذا أشكل على مسلم انقضاء عدة امرأة
ردها إلى الكتاب والسنة. ووجه الموافقة أنه ليس فى العادة
أن تكون امرأة على أقل الطهر وأقل الحيض، لأن إذا كثر
الحيض قل الطهر، وإذا قل الحيض كثر الطهر، فجعل لما ينحصر
الأكثر، ولما لا ينحصر الأقل، وبدأ بالحيض. وقال أبو يوسف،
ومحمد: لا تُصدق فى أقل من تسعة وثلاثين يومًا وهو قول
الثورى، ووجه الموافقة بين الحديثين والترجمة هو قوله (صلى
الله عليه وسلم) : تمت دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت
تحيضين فيها -، فوكل
(1/453)
ذلك إلى أمانتها وعادتها، وقدر الأيام قد
يقل ويكثر على قدر أحوال النساء فى أسنانهن وبلدانهن إلا
أنها إذا ادعت ما لا يكاد يعرف لم يقبل قولها إلا ببينة.
قال إسماعيل بن إسحاق: ألا ترى إلى قول علىّ وشريح فى ذلك،
ولو كان عندهما أن ثلاث حيض لا تكون فى شهر لما قبلا قول
نسائها، وهو معنى قول عطاء وإبراهيم، وقد فسر إسماعيل بن
إسحاق قول علىّ وشريح بتفسير آخر، قال: وليس قولهما عندنا:
تمت إن جاءت ببينة من بطانة أهلها - أنها قد حاضت هذا
الحيض، وإنما هو فيما نرى، والله أعلم، أن تشهد نساء من
نسائها أن هذا يكون، وقد كان فى نسائهن، فإنه أحرى أن يوجد
فيهن مثل ما فيها، وأن يقارب حيضهن وحيضها، وأنه إن لم
يوجد ما قالت من الحيض فى نسائها كانت هى منه أبعد، فعلى
هذا معنى هذا الحديث، وهو يقوى مذهب أهل المدينة أن العدة
إنما تحمل على المعروف من حيض النساء لا على المرأة
والمرأتين الذى لا يكاد يوجد، ولا يعرف. قال غيره: والأشبه
ما أراد علىّ وشريح، والله أعلم، بمعنى أن تكون حاضت،
لقولهما: إن جاءت ببينة من بطانة أهلها أنها حاضت، ولم
يقولا: أن غيرها من النساء حاض كذلك. قال إسماعيل: وفى قول
علىّ وشريح أن أقل الطهر لا يكون خمسة عشر يومًا، وأن أقل
الحيض لا يكون ثلاثة، كما قال أبو حنيفة وأصحابه، وليس فيه
بيان لأقل الطهر، وأقل الحيض كم هو، غير أن فيه بيانًا
أنهما لم ينكرا ما زعمه النساء فى ذلك. قال غيره: والمشهور
عن مالك أنه لا حد عنده لأقل
(1/454)
الطهر، ولا لأقل الحيض إلا ما تثبته
النساء، وقد اختلف فى ذلك، ففى المدونة ما يدل أن أقل
الطهر ثمانية أيام، وهو قول سحنون، وروى يحيى بن يحيى، عن
ابن القاسم، عن مالك: أن أقل الطهر عشرة أيام. وروى ابن
الماجشون، عن مالك: أن أقل الطهر خمسة، وأقل الحيض خمسة،
إلا أنه قال: هذا لا يكون فى حيض واحد، لأنه إذا قل الحيض
كثر الطهر، وإذا قل الطهر كثر الحيض. وقالت طائفة: أقل
الحيض يوم وليلة، روى ذلك عن عطاء، وهو قول الشافعى،
وأحمد، وأبى ثور. وقال الأوزاعى: عندنا امرأة تحيض غدوة
وتطهر عشية، وقال الأوزاعى: يرون أنه جنس، تدع له الصلاة.
وقال محمد بن سلمة: أقل الحيض ثلاثة أيام وأكثره خمسة عشر
يومًا، وهو قول الشافعى فى أكثر الحيض. وقال أبو حنيفة،
والثورى: أقل الحيض ثلاثة، وأكثره عشرة، وهو قول الشافعى،
ومحمد بن مسلمة فى أقل الطهر، وهو الصحيح، لأن الله تعالى
جعل عدة ذوات الأقراء ثلاثة قروء، وجعل عدة من لا تحيض من
صغر أو كبر ثلاثة أشهر، فكان كل قرء عوضًا من شهر، والشهر
يجمع الطهر والحيض، فإذا قل الطهر كثر الحيض، وإذا قل
الحيض كثر الطهر، فلما كان أكثر الحيض خمسة عشر يومًا، وجب
أن يكون بإزائه أقل الطهر خمسة عشر يومًا، ليكمل فى الشهر
الواحد حيض وطهر، وهو المتعارف فى الأغلب من خلقة النساء،
أو جبلتهن مع دلائل القرآن والسنة.
(1/455)
واحتج أهل العراق لقولهم: إن الأقراء
الحيض، بقوله (صلى الله عليه وسلم) فى حديث فاطمة: تمت
ولكن دعى الصلاة قدر الأيام التى كنت تحيضين فيها -.
قالوا: وهذا مثل قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت دعى
الصلاة أيام أقرائك -. ولا يجوز أن يأمرها (صلى الله عليه
وسلم) بترك الصلاة أيام طهرها، وإنما أمرها أن تترك الصلاة
أيام الحيض، فيقال لهم: ما أنكرتم أن يكون (صلى الله عليه
وسلم) أمرها بترك الصلاة أيام أقرائها التى هى فيهن حائض،
وأضاف الأيام إلى الأقراء والإطهار جميعًا، فكأنه قال: تدع
المستحاضة الصلاة الأيام التى كانت تحيضها من أقرائها،
وهذا سائغ فى كلام العرب، لأن الأقراء عندهم اسم للطهر
واسم للحيض، وسيأتى زيادة بيان فى هذا المعنى فى كتاب
الطلاق فى العدة، إن شاء الله.
- باب الصُّفْرَةِ وَالْكُدْرَةِ فِى غَيْرِ أَيَّامِ
الْحَيْضِ
/ 27 - فيه: أُمِّ عَطِيَّةَ، قَالَتْ: كُنَّا لا نَعُدُّ
الصُّفْرَة وَالْكُدْرَةَ شَيْئًا. ذهب جمهور العلماء فى
معنى الحديث إلى ما ذهب إليه البخارى فى ترجمته، فقال
أكثرهم: الصفرة والكدرة حيض فى أيام الحيض خاصة، وبعد أيام
المحيض ليست بشىء، روى هذا عن علىّ بن أبى طالب، وبه قال
سعيد بن المسيب، وعطاء، والحسن، وابن سيرين، وإليه ذهب
ربيعة، والثورى، والأوزاعى، والليث، وأبو
(1/456)
حنيفة، ومحمد، والشافعى، وأحمد، وإسحاق،
وإليه أشار البخارى فى هذا الباب. وفيه قول ثان: قال أبو
يوسف: لا تكون الصفرة والكدرة قبل الحيض حيضًا، وهى فى آخر
الحيض حيض، وهو قول أبى ثور. قالوا: وهذا ظاهر الحديث
لقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت إذا أقبلت الحيضة، فدعى
الصلاة -، والكدرة والصفرة فى آخر أيام الدم من الدم حتى
ترى النقاء. وفيه قول ثالث: قال مالك فى المدونة: الكدرة
والصفرة حيض فى أيام الحيض وغيرها. وهذا خلاف للحديث، ولا
يوجد فى فتوى مالك أن الصفرة والكدرة ليست بشىء، على ما
جاء فى الحديث، إلا التى انطبق دم حيضتها مع دم استحاضتها،
ولم تميزه، فقال: إذا رأت دمًا أسود فهو حيض، وإذا رأت
صفرة أو كدرة، أو دمًا أحمر، فهو طهر تصلى له وتصوم بعد أن
تغتسل، وأظنه لم يبلغه حديث أم عطية، والله أعلم. والحجة
لأهل المقالة الأولى: أنهم قالوا: لا يجوز أن يكون قول أم
عطية: تمت كنا لا نعد الصفرة والكدرة شيئًا -، عامًا فى
أيام الحيض وغيرها لا يعد شيئًا لما قالته عائشة: تمت لا
تعجلن حتى ترين القصة البيضاء -. ومعلوم أن هؤلاء النساء
كن يرين عند إدبار المحيض صفرة وكدرة، فأخبرتهن أنها من
بقايا الحيض، وأن حكم الصفرة والكدرة حكم الحيض، قالوا:
فلم يبق بحديث أم عطية معنى غير أنا لا نعد الصفرة والكدرة
شيئًا فى غير أيام المحيض، وقد جاء هذا المعنى فى
(1/457)
حديث أم عطية مكشوفًا، روى حماد بن سلمة،
عن قتادة، عن أم الهذيل، عن أم عطية أنها قالت: كنا لا نعد
الصفرة والكدرة بعد الغسل شيئًا.
- باب عِرْقِ الاسْتِحَاضَةِ
/ 28 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ
اسْتُحِيضَتْ سَبْعَ سِنِينَ، فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) عَنْ ذَلِكَ، فَأَمَرَهَا أَنْ
تَغْتَسِلَ، فَقَالَ: تمت هَذَا عِرْقٌ -، فَكَانَتْ
تَغْتَسِلُ لِكُلِّ صَلاةٍ. قال المهلب: قوله: تمت فهذا
عرق - يدل أن المستحاضة لا تغتسل لكل صلاة كما زعم من أوجب
ذلك، واحتج بهذا الحديث، لأن دم العرق لا يوجب غسلاً.
وقوله: تمت فكانت تغتسل لكل صلاة -، يريد تغتسل من الدم
الذى كان يصيب الفرج، لأن المشهور من قول عائشة أنها لا
ترى الغسل لكل صلاة للمستحاضة، وقد ذكر الطحاوى عن يونس،
عن يحيى بن بكير، عن الليث، عن ابن شهاب، عن عروة، عن
عائشة: تمت أن أم حبيبة استحيضت. . . . - وذكر الحديث، قال
الليث: لم يذكر ابن شهاب أن رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) أمر أم حبيبة أن تغتسل لكل صلاة، وقال غيره: ومن ذكر
حديث أم حبيبة أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمرها
بالغسل لكل صلاة، فليس بحجة على من سكت عنه، لأن الحفاظ من
(1/458)
أصحاب ابن شهاب لا يذكرونه، وإيجاب الغسل
عليها إيجاب فرض، والفرائض لا تثبت إلا بيقين، ولا يقين
هنا من بينة ثابتة، ولا من إجماع، وإنما الإجماع فى إيجاب
الغسل من الحيض. قال الطحاوى: وقد قيل: إن حديث أم حبيبة
منسوخ بحديث فاطمة بنت أبى حبيش، لأن عائشة أفتت بحديث
فاطمة بعد النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، وخالفت حديث أم
حبيبة، وقد علمت ما خالفه وما وافقه من قوله (صلى الله
عليه وسلم) ، ولا يجوز عليها أن تدع الناسخ، وتفتى
بالمنسوخ، بل الأمر بضد ذلك، فحديث فاطمة أول ما صير إليه
فى هذا الباب ذكره الطحاوى. وأما قوله: تمت إن أم حبيبة
استحيضت سبع سنين -، ففيه حجة لابن القاسم فى قوله: إن من
استحيضت، فتركت الصلاة جاهلة، وظنته حيضًا أنه لا إعادة
عليها، وذلك أنه (صلى الله عليه وسلم) لم يأمرها بإعادة
صلوات السبعة الأعوام، ووجه ذلك أنها لما سألته فأمرها
بالغسل، علم أنها لم تغتسل قبل، ولو اغتسلت لقالت: إنى قد
اغتسلت، فعلم أن فى السبعة الأعوام كانت عند نفسها حائضًا،
فأمرها بالغسل من ذلك الحيض، ولم يأمرها بإعادة صلوات تلك
المدة.
- باب الْمَرْأَةِ تَحِيضُ بَعْدَ الإفَاضَةِ
/ 29 - فيه: عَائِشَةَ أن صَفِيَّةَ قَدْ حَاضَتْ، فَقَالَ
لِهَا رَسُول اللَّه (صلى الله عليه وسلم) : تمت
لَعَلَّهَا تَحْبِسُنَا، أَلَمْ تَكُنْ قَدْ طَافَتْ
مَعَكُنَّ -؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: تمت فَاخْرُجِن -.
(1/459)
/ 30 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ:
رُخِّصَ لِلْحَائِضِ أَنْ تَنْفِرَ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
يَقُولُ فِى أَوَّلِ أَمْرِهِ: إِنَّهَا لا تَنْفِرُ،
ثُمَّ سَمِعْتُهُ، يَقُولُ: تَنْفِرُ. قوله: تمت ألم تكن
طافت معكن -، يريد يوم النحر، وهو طواف الإفاضة المفترض فى
الحج. ففيه من الفقه أن طواف الإفاضة يغنى عن طواف الوداع،
لأنه غير واجب، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم
يسأل إن كانت طافت لدخول مكة، وإنما سأل إن كانت طافت يوم
النحر، فكما يغنى طواف الإفاضة عن كل طواف قبله، كذلك يغنى
عن كل طواف بعده، فدل هذا على أن على الإنسان فى حجه كله
طوافًا واحدًا، وهو طواف الإفاضة. وقول ابن عباس: تمت رخص
للحائض أن تنفر -، يعنى إذا طافت طواف الإفاضة، وأما إذا
لم تطفه فلا تنفر، ولا حج لها، وسيأتى بيان هذا كله فى
كتاب الحج، إن شاء الله.
- باب إِذَا رَأَتِ الْمُسْتَحَاضَةُ الطُّهْرَ
قَالَ: ابْنُ عَبَّاسٍ تَغْتَسِلُ، وَلَوْ سَاعَةً
وَتُصَلِّى، وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا، والصَّلاةُ أَعْظَمُ.
(1/460)
/ 31 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَ النَّبِىُّ،
(صلى الله عليه وسلم) : تمت إِذَا أَقْبَلَتِ الْحَيْضَةُ،
فَدَعِى الصَّلاةَ، وَإِذَا أَدْبَرَتْ، فَاغْسِلِى عَنْكِ
الدَّمَ، وَصَلِّى -. قوله: تمت إذا رأت المستحاضة الطهر
-، يريد إذا أقبل دم الاستحاضة الذى هو دم عرق، الذى يوجب
الغسل والصلاة، وميزته من دم حيضتها فهو طهر من الحيض،
فاستدل من هذا أن لزوجها وطؤها، وجمهور الفقهاء وعامة
العلماء بالحجاز والعراق على جواز وطء المستحاضة. ومنع من
ذلك قوم، روى ذلك عن عائشة، قالت: تمت المستحاضة لا يأتيها
زوجها -، وهو قول النخعى، والحكم، وابن سيرين، وسليمان بن
يسار، والزهرى، قال الزهرى: إنما سمعنا بالرخصة فى الصلاة.
وحجة الجماعة: أن دم الاستحاضة ليس بأذى يمنع الصلاة
والصوم، فوجب أن لا يمنع الوطء. وقول ابن عباس: تمت الصلاة
أعظم من الجماع -، من أبين الحجة فى ذلك، وقد نزع بمثلها
سعيد بن جبير، ولا يحتاج إلى غير ما فى هذا الباب.
- باب الصَّلاةِ عَلَى النُّفَسَاءِ وَسُنَّتِهَا
/ 32 - فيه: سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، أَنَّ امْرَأَةً
مَاتَتْ فِى بَطْنٍ، فَصَلَّى عَلَيْهَا النَّبِىُّ، (صلى
الله عليه وسلم) ، فَقَامَ وَسَطَهَا. يحتمل أنه قصد فى
هذا الباب أن النفساء، وإن كانت لا تصلى أنها طاهر، لها
حكم غيرها من النساء ممن ليست نفساء، لأنه
(1/461)
(صلى الله عليه وسلم) إذا صلى عليها أوجب
لها حكم الطهارة، وإنما امتناعها من الصلاة ما دام بها
الدم، عبادة لا على طريق التنجيس، وهذا يرد على من ذهب إلى
أن ابن آدم ينجس بموته، لأن النفساء التى صلى عليها النبى
(صلى الله عليه وسلم) ، وأبان لنا سنته فيها جمعت الموت،
وحمل النجاسة بالدم اللازم لها، فلما لم يضرها ذلك كان
الميت الطاهر الذى لا تسيل منه نجاسة أولى بإيقاع اسم
الطهارة عليه. وأشار إلى شىء من هذا المعنى ابن القصار،
وذكر أن لبعض أصحاب مالك فى العتبية: أن ابن آدم طاهر إذا
مات. قال: واختلف فيه قول الشافعى، قال: والصواب عندى أنه
طاهر، ونزع أن الصلاة عليه بعد موته تكرمة له وتعظيم، فخرج
بها عن حكم الإنجاس.
- بَاب
/ 33 - فيه: مَيْمُونَةَ زَوْجَ النَّبِىِّ، (صلى الله
عليه وسلم) ، أَنَّهَا كَانَتْ تَكُونُ حَائِضًا لا
تُصَلِّى، وَهِىَ مُفْتَرِشَةٌ بِحِذَاءِ مَسْجِدِ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَهُوَ يُصَلِّى عَلَى
خُمْرَتِهِ، إِذَا سَجَدَ أَصَابَنِى بَعْضُ ثَوْبِهِ.
وهذا الباب كالذى قبله يدل أن الحائض ليست بنجس، لأنها لو
كانت نجسًا لما وقع ثوبه عليها وهو يصلى، ولا قربت من موضع
مصلاه. وفيه: أن الحائض تقرب من المصلى، ولا يضر ذلك صلاته
(1/462)
ولا يقطعها، لأنها كانت تقرب قبلته، أنه لا
يصيبها بثوبه عند سجوده إلا وهى قريب منه. وأقولا ما يستدل
به على طهارة الحائض مباشرته (صلى الله عليه وسلم) لأزواجه
وهن حيِّض فيما فوق المئزر، إلا أنها، وإن كانت طاهرًا،
فإنه لا يجوز لها دخول المسجد بإجماع، لأمره فى العيدين
باعتزال الحيض المصلى.
(1/463)
|