شرح صحيح البخارى لابن بطال

بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَاب التَّيَمُّمِ
- كتاب التَّيَمُّمِ
قَوْلُه تَعَالَى: (فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً، فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) [المائدة: 6] . / 1 - فيه: عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتْ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى بَعْضِ أَسْفَارِهِ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْبَيْدَاءِ، أَوْ بِذَاتِ الْجَيْشِ، انْقَطَعَ عِقْدٌ لِى، فَأَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْتِمَاسِهِ، وَأَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، فَأَتَى النَّاسُ إِلَى أَبِى بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَقَالُوا: أَلا تَرَى مَا صَنَعَتْ عَائِشَةُ؟ أَقَامَتْ بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسِ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى فَخِذِى، قَدْ نَامَ، فَقَالَ: حَبَسْتِ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَالنَّاسَ، وَلَيْسُوا عَلَى مَاءٍ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ؟ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: فَعَاتَبَنِى أَبُو بَكْرٍ، وَقَالَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، وَجَعَلَ يَطْعُنُنِى بِيَدِهِ فِى خَاصِرَتِى، فَلا يَمْنَعُنِى مِنَ التَّحَرُّكِ إِلا مَكَانُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى فَخِذِى، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) حِينَ أَصْبَحَ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَتَيَمَّمُوا، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ الْحُضَيْرِ: مَا هِىَ بِأَوَّلِ بَرَكَتِكُمْ يَا آلَ أَبِى بَكْرٍ؟ . قَالَتْ: فَبَعَثْنَا الْبَعِيرَ الَّذِى كُنْتُ عَلَيْهِ، فَأَصَبْنَا الْعِقْدَ تَحْتَهُ. / 2 - وفيه: جَابِر، قَالَ النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت أُعْطِيتُ خَمْسًا، لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِى، نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَجُعِلَتْ لِىَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِى أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، فَلْيُصَلِّ، وَأُحِلَّتْ لِىَ

(1/464)


الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى، وَأُعْطِيتُ الشَّفَاعَةَ، وَكَانَ النَّبِىُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ عَامَّةً -. قال المؤلف: قوله تعالى: (فتيمموا صعيدًا طيبًا) [المائدة: 6] يعنى اقصدوا وتعمدوا، تقول العرب: يَمَّمت كذا إذا قصدته، ومنه قوله تعالى: (ولا آمين البيت الحرام) [المائدة: 2] ، يعنى قاصدين. واختلف أهل التأويل فى الصعيد ما هو؟ . فقال قتادة: الصعيد الأرض التى ليس فيها شجر ولا نبات، وقال ابن دريد: الصعيد المستوى، وقال غيره: الصعيد التراب. وقوله: تمت طيبًا -، يعنى طاهرًا، واختلف الفقهاء فى الصعيد الذى يجوز به التيمم، فقالت طائفة: يجوز التيمم على كل أرض طاهرة، سواء كانت حجرًا لا تراب عليها، أو عليها تراب، أو رمل، أو زرنيخ، أو تورة، أو غير ذلك. هذا قول مالك، وأبى حنيفة، ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يجوز التيمم على صخر لا تراب عليه، وهو قول الشافعى، والتراب عندهما شرط فى صحة التيمم. قال الطحاوى: ولما اختلفوا فى ذلك، ولم نجد لما اختلفوا فيه دليلاً فى الكتاب التمسناه فى سنة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، فوجدنا قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا -، فلما أخبر أن الله جعل له الأرض مسجدًا وطهورًا، وكان المراد بالمسجد الصلاة عليها، والمراد

(1/465)


بالطهور التيمم بها كانت كل أرض جازت الصلاة عليها جاز التيمم بها. قال ابن القصار: والدليل على أن المراد الأرض كلها قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت فأيما رجل أدركته الصلاة، فليصل -، ولم يخص موضعًا منها دون موضع، وقد يدركه فى موضع منها من الأرض لا تراب عليه فيه رمل، أو جص كما تدركه فى أرض عليها تراب. فإن قيل: قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) [المائدة: 6] شرط الممسوح به لأنه لا يقال: مسح منه إلا إذا أخذ منه جزءًا، وهذه صفة التراب لا صفة الجبل الذى لا يمكن الأخذ منه. فالجواب: أنه لا يجوز أن تكون تمت منه - صلة فى الكلام كقوله: (وننزل من القرآن ما هو شفاء) [الإسراء: 82] ، والقرآن كله شفاء. ولو سلمنا أنه أراد غير الصلة لقلنا: إنه أراد ب تمت منه - الموضع الطاهر من الصعيد الذى يجوز السجود عليه، ولو أراد بالصعيد التراب لقال تعالى: فامسحوا بوجوهكم وأيديكم به. ولم يقل: منه، فلما قال: منه، دل أنه أراد مما تصاعد من الأرض، ولم يخص بعض ما تصاعد منها دون بعض. وقال ابن الأعرابى: الصعيد اسم للأرض، واسم للتراب، واسم للطريق، واسم للقبر، فإذا تناول كل واحد من هذه حقيقة، فيجعل للعموم فى جميعها. فإن قالوا: قد روى فى الحديث: تمت جعلت لى الأرض مسجدًا

(1/466)


وتربتها طهورًا -، وهذا نص فى التراب، فدل أن غير التراب ليس بطهور، والتراب زيادة يجب قبولها، والحديث رواه ابن أبى شيبة، عن محمد بن فضيل، عن أبى مالك الأشجعى، عن ربعى بن حراش، عن حذيفة، عن النبى (صلى الله عليه وسلم) . قال الأصيلى: انفرد أبو مالك الأشجعى بذكر التراب فى هذا الحديث، ولا اعتداد بمن خالفه الناس، فكذلك ما يذكرونه فى حديث أبى ذر: تمت التراب كافيك، ولو إلى عشر سنين -، المشهور من رواية الثقات عن أبى قلابة، وابن سيرين: تمت الصعيد كافيك، ولو إلى عشر سنين -، وكذلك فى حديث أبى رجاء، عن عمران بن حصين، أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال له: تمت عليك بالتراب، فإنه كافيك -. وقولكم: إن التراب زيادة يجب قبولها، فإننا نقول بالزائد والمزيد عليه، فيجوز الأمرين جميعًا، وهذه زيادة فى الحكم لا محالة، فهى أولى من الاقتصار على الزائد فقط. فإن قالوا: إن الحجر والجص معدن من الأرض، فلا يجوز التيمم به كالحديد والذهب والفضة، قيل: الصعيد عندنا هو الأرض نفسها، فالتيمم يقع عليها سواء كانت جصية أو رملية، فأما على الجص مفردًا، أو الكحل مفردًا، أو الزرنيخ مفردًا، فلا يجوز التيمم به، وقد قال الله تعالى: (صعيدًا زلقًا) [الكهف: 40] ، و) صعيدًا جرزًا) [الكهف: 8] ، والجرز الأرض الغليظة التى لا تنبت شيئًا.

(1/467)


وقد جوز الشافعى التيمم على السباخ اليابسة، ولا غبار عليها يعلق باليد، فكذلك ينبغى أن يجوز فى غيرها مما لا تراب عليه. وقال المهلب: فى حديث عائشة من الفقه: السفر بالنساء. وفيه: النهى عن إضاعة المال، لأن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، أقام على تفتيش العقد بالعسكر ليلةً، وقد ذكر فى غير هذا الحديث أن العقد كان لأختها، وكان ثمنه اثنى عشر درهمًا. وفيه: شكوى المرأة إلى أبيها، وإن كان لها زوج. وفيه: الإنصاف منها، وإن كان لها زوج. وفيه: أن للأب أن يدخل على ابنته وزوجها معها إذا علم أنها معه فى غير خلوة مباشرة، وأن له أن يعاتبها فى أمر الله، وأن يضربها عليه. وفيه: أنه يعاتب من نسب إلى ذنب أو جريمة، كما عاتب أبو بكر ابنته على حبس النبى (صلى الله عليه وسلم) والناس بسببها. وفيه: نسبة الفعل إلى من هو سببه، وإن لم يفعله، لقولهم: ألا ترى ما صنعت عائشة أقامت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وبالناس، وليسوا على ماء. فنسب الفعل إليها إذْ كانت سببه. قال غيره: وقولهم: تمت ليس معهم ماء -، دليل أن الوضوء قد كان لازمًا لهم قبل ذلك، وأنهم لم يكونوا يصلون بغير وضوء قبل نزول آية التيمم، ألا ترى قوله: فأنزل الله آية التيمم، وهى آية الوضوء التى فى المائدة، والآية التى فى النساء، وليس التيمم مذكورًا

(1/468)


فى غير هاتين الآيتين، وهما مدنيتان، ومعلوم أن غسل الجنابة لم يفترض قبل الوضوء، كما أنه معلوم عند جميع أهل السير أن الصلاة فرضت بمكة، والغسل من الجنابة، وأنه لم يصلِّ قط إلا بوضوء مثل وضوئه بالمدينة، ونزلت آية الوضوء، ليكون فرضها التقدم متلوا فى التنزيل، فقولهم: تمت نزلت آية التيمم -، ولم يذكر الوضوء يدل أن الذى طرأ عليهم من العلم فى ذلك حكم التيمم لا حكم الوضوء، وذلك رفق من الله بعباده أن أباح لهم التيمم بالصعيد عند عدم الماء، وكذلك قال أسيد بن الحضير: تمت ما هى بأول بركتكم يا آل أبى بكر -. قال المهلب: وقوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا -، والذى خُصَّ به من ذلك (صلى الله عليه وسلم) أن جعلت طهورًا للتيمم، ولم يكن ذلك للأنبياء قبله، وأما كونها مسجدًا، فلم يأت فى أثر أنها منعت من غيره، وقد كان عيسى (صلى الله عليه وسلم) يسيح فى الأرض ويصلى حيث أدركته الصلاة، فكأنه قال (صلى الله عليه وسلم) : جعلت لى الأرض مسجدً وطهورًا، وجعلت لغيرى مسجدًا، ولم تجعل له طهورًا. وفى قوله: تمت فأيما رجل أدركته الصلاة، فليصل -، يعنى يتيمم ويصلى، دليل على تيمم الحضرى إذا عُدم الماء، وخاف فوت الصلاة. وفيه: ما خصه الله تعالى به من الشفاعة، ويدل أنه لا يشفع فى أحد يوم القيامة إلا شُفِّع فيه.

(1/469)


قوله فى حديث الشفاعة: تمت قل يا محمد نسمع، واشفع تشفع، وسل تعط -، ولم يعط ذلك من قبله من الأنبياء، ولا تكون الشفاعة إلا فى المذنبين المستحقين للعقوبة، لأن من لا يستحق العقوبة لا يحتاج إلى الشفاعة. وقوله: تمت بعثت إلى الناس كافة -، دليل أن الحجة تلزم بالخبر، كما تلزم بالمشاهدة، وذلك أن الآية المعجزة باقية مساعدة للخبر، مبينة له، رافعة لما يخشى من آفات الأخبار، وهى القرآن الباقى، ولذلك خص الله نبيه ببقاء آيته، لبقاء دعوته، ووجوبها على من بلغته إلى آخر الزمان.
- باب إِذَا لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلا تُرَابًا
/ 3 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اسْتَعَارَتْ مِنْ أَسْمَاءَ قِلادَةً، فَهَلَكَتْ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَجُلا، فَوَجَدَهَا، فَأَدْرَكَتْهُمُ الصَّلاةُ، وَلَيْسَ مَعَهُمْ مَاءٌ، فَصَلَّوْا، فَشَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ آيَةَ التَّيَمُّمِ، فَقَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ لِعَائِشَةَ: جَزَاكِ اللَّهُ خَيْرًا، فَوَاللَّهِ مَا نَزَلَ بِكِ أَمْرٌ تَكْرَهِينَهُ، إِلا جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكِ لَكِ، وَلِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ خَيْرًا. قال المؤلف: الذى لا يجد ماءً ولا ترابًا هو المكتوف والمحبوس والمهدوم عليه والمعطوب ومن أشبههم تحضره الصلاة، فاختلف العلماء فى ذلك، فقالت طائفة: يصلون إيماءً بغير وضوء ولا تيمم، كصلاة الطالبين للعدو، ولا إعادة عليهم. ذكر ابن أبى زيد أن هذا

(1/470)


قول ابن نافع وسحنون، وحكاه ابن القصار، عن أشهب والمزنى، وذكره ابن المنذر، عن أبى ثور. وقالت طائفة: يصلون وعليهم الإعادة، هذا قول الثورى، وابن القاسم، وأكثر أصحاب مالك، وهو قول أبى يوسف، ومحمد، والشافعى. وقال ابن خويز منداد: روى المدنيون عن مالك فيمن لا يقدر على الماء، ولا على الصعيد حتى يخرج الوقت، أنه لا يصلى ولا إعادة عليه والصلاة عنه ساقطة، قال: وهو الصحيح من مذهب مالك. وروى معن بن عيسى عن مالك فى الذى يكتفه الوالى ويمنعه من الصلاة، حتى يخرج وقتها، أنه لا إعادة عليه، وهذا القول اختيار ابن القصار، وحكى أنه مذهب أبى حنيفة. ووجه القول الأول، أنهم يصلون ولا قضاء عليهم، أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم يأمر الذين طلبوا العقد حين صلوا بغير وضوء ولا تيمم بالإعادة. قال المهلب: إن حُكْمنا فى عدم الشرعين، الوضوء والتيمم، كحكمهم فى عدم الشرع الواحد، وهو الوضوء الذى كان عليهم، فلما ساغ لهم الصلاة بالتيمم بغير وضوء، ساغ لنا الصلاة بغير تيمم ولا وضوء. وقال أبو ثور: القياس فيمن لم يقدر على الطهارة أن يصلى

(1/471)


ولا يعيد، كمن لم يقدر على الثوب وصلى عريانًا الصلاة لازمة له، يصلى على ما يقدر، ويؤدى ما عليه بقدر طاقته. وقال ابن القصار: كل من أدّى فرضه على ما كلفه لم يلزمه إعادة، كالمستحاضة، ومن به سلس البول، والعاجز عن أركان الصلاة يصلى على حسب حاله، وكالمسايف، والمسافر يحبس الماء خوفًا على نفسه من العطش، يتيمم ويصلى، كل هؤلاء إذا صلوا على حسب تمكنهم لم تجب عليهم إعادة. ووجه قول من قال: يصلون وعليهم إعادة الصلاة: فإنهم احتاطوا للصلاة فى الوقت على حسب الاستطاعة لاحتمال قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يقبل الله صلاة بغير طهور -، لمن قدر عليه، ولم يكونوا على يقين من هذا التأويل فرأوا الإعادة واجبة مع وجود الطهارة، إذ ليس فى الحديث أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، لم يأمرهم بالإعادة، وقد يحتمل أن يكون أمرهم ولم ينقل ذلك، والله أعلم. ووجه قول الذين قالوا: لا يصلون حتى يجدوا ماءً أو ترابًا: أن الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: تمت لا تقبل الصلاة بغير طهور -، وليس فرض الوقت بأوكد من فرض الطهور. وأما رواية معن، عن مالك التى اختارها ابن القصار، فإنه قال: وجه ذلك قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت لا يقبل الله صلاة بغير طهور -، قال: وهذا دليل على سقوط حكمها إذا صلى بغير طهور، فإذا سقط عنه أن يصلى بغير طهور، ومعه عقله لم يجب عليه قضاء كالحائض، وأيضًا فلو وجب عليه ابتداءً الدخول فى الصلاة لو كان طاهرًا لوجب

(1/472)


أن يسقط فرضه، فلما قالوا: لا يسقط فرضه، لم تجب عليه، ولو وجب عليه أن يبتدئ الصلاة حتى يتمها ويقضى، لأوجبنا عليه صلاتى فرض من جنس واحد فى يوم واحد، وهذا لا يجوز. وأما قوله: تمت فبعث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) رجلاً فوجدها -، فإنه يعارض ما رواه القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: تمت فبعثنا البعير الذى كنت عليه، فأصبنا العقد تحته -، وقد حمل إسماعيل بن إسحاق على هشام بن عروة، وجعل حديثه مناقضًا لحديث عبد الرحمن بن القاسم. قال أبو عبد الله بن أبى صفرة: وليس بمناقض، ويحتمل أن يكون قوله: تمت فبعث رجلاً -، يعنى أسيدًا، فوجدها أسيد بعد رجوعه من طلبها، ويحتمل أن يكون النبى (صلى الله عليه وسلم) وجدها عند إثارة البعير بعد انصراف المبعوثين من موضع طلبها، ويتفق الحديثان بغير تعارض، والحمد لله.
3 - باب التَّيَمُّمِ فِى الْحَضَرِ إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمَاءَ، وَخَافَ فَوْتَ الصَّلاةِ
وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ، فِى الْمَرِيضِ عِنْدَهُ الْمَاءُ، وَلا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ: يَتَيَمَّمُ. وَأَقْبَلَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ أَرْضِهِ بِالْجُرُفِ، فَحَضَرَتِ الْعَصْرُ بِمَرْبَدِ النَّعَمِ، فَتَيَمَّمَ، ثُمَّ دَخَلَ الْمَدِينَةَ وَالشَّمْسُ مُرْتَفِعَةٌ فَلَمْ يُعِدْ. / 4 - فيه: أَبُو جُهَيْمِ، أَقْبَلَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ، فَلَقِيَهُ رَجُلٌ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ، فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ، ثُمَّ رَدَّ (صلى الله عليه وسلم) .

(1/473)


واختلف العلماء فى الحضرى يخاف فوات الصلاة إن علاج الماء، هل له أن يتيمم؟ . فقال مالك: يتيمم ويصلى ولا يعيد، وهو قول الأوزاعى، والثورى، وأبى حنيفة، ومحمد. وروى عن مالك: أنه يصلى بالتيمم ويعيد الصلاة، وهو قول الليث، والشافعى. وروى عن مالك أنه يعالج الماء، وإن طلعت الشمس، وهو قول أبى يوسف، وزفر، قالا: لا يصلى أصلا ويتعلق الفرض بذمته إلى أن يقدر على الماء، لأنه لا يجوز التيمم عندهما فى الحضر، واحتجا بأن الله جعل التيمم رخصة للمريض والمسافر، ولم يبحه إلا بشرط المرض والسفر، فلا دخول للحاضر ولا للصحيح فى ذلك، لخروجهما من شرط الله. واحتج من قال: يتيمم ويصلى ويعيد، قال: لأنا قد رأينا من يفعل ما أمر به ولا تسقط عنه الإعادة، وهو واقع موقع فساد، مثل من أفسد حجه أو صومه المفترض عليه، فإنه مأمور بالمضى فيه فرض عليه ومع هذا فعليه الإعادة، وأيضًا فإن المسافر والمريض قد أبيح لهما الفطر فى رمضان، ففعلا المأمور به ولم يسقط عنهما القضاء، كذلك الحاضر إذا تيمم وصلى لا يسقط عنه القضاء.

(1/474)


واحتج عليه من قال: يتيمم ويصلى ولا يعيد، وهم أهل المقالة الأولى، فقالوا: هذاسهو، لأن الفطر رخصة لهما ولم يفعلا الصوم، والمتيمم فعل الواجب وفعل الصلاة، فلو رخص له فى الخروج من الصلاة كما رخص للمسافر فى الفطر لوجب عليه القضاء. وأما من أفسد حَجَّه أو صومه فإنما أمر بالمضى فيه عقوبة لإفساده له، ثم وجب عليه قضاؤه، ليؤدى الفرض كما أمر به. والحاضر إذا تعذر عليه الماء، وخاف فوت الصلاة صار مطيعًا بالتيمم والصلاة ابتداءً، ولم يفسد شيئًا يجب معه عليه القضاء. والحجة لأهل المقالة الأولى فى أنه لا إعادة عليه ما ذكره البخارى عن ابن عمر أنه تيمم بمربد النعم وهو فى طرف المدينة، لأنه خشى فوت الوقت الفاضل ولم يجد ماء، ثم صلى، وهو حجة للحاضر يخاف فوت الوقت كله أنه يجوز له التيمم، لأنه لما جاز لابن عمر التيمم والصلاة، ثم دخل المدينة وقد بقى عليه من الوقت بقية، ولم يعد الصلاة، كمان أحرى أن يجوز التيمم والصلاة للحضرى يخاف خروج الوقت كله. قال المهلب: وأما حديث بئر جمل، فإن فيه التيمم فى الحضر، إلا إنه لا دليل فيه أنه رفع بذلك التيمم الحدث رفعًا استباح به الصلاة، لأنه أراد أن يجعله تحية لرد السلام، إذ كره أن يذكر الله على غير طهارة، هكذا رواه حماد بن سلمة فى مصنفه فى هذا الحديث. قال المؤلف: فذكرت هذا لبعض أهل العلم، فقال لى: وهو وإن كان كما ذكره المهلب فإنه يستنبط منه جواز التيمم فى الحضر، إذا لم يستطع الوصول إلى الماء، وخاف فوات الصلاة، لأنه لما تيمم فى الحضر لرد السلام، وكان له أن يرد (صلى الله عليه وسلم) قبل تيممه، استدل منه أنه إذا خشى فوات الصلاة فى الحضر أن له التيمم، بل ذلك أوكد، لأنه لا يجوز له الصلاة بغير وضوء ولا تيمم، ويجوز له أن

(1/475)


بغير وضوء ولا تيمم، وأيضًا فإن التيمم إنما ورد فى المسافرين والمرضى لإدراك وقت الصلاة وخوف فوته، فكل من لم يجد الماء وخاف فوت الصلاة، تيمم إن كان مسافرًا أو مريضًا بالنص، وإن كان حاضرًا صحيحًا بالمعنى، وهذا دليل قاطع. وقد احتج الطحاوى بهذا الحديث فى جواز التيمم للجنازة إذا خاف فوت الصلاة عليها. وهو قول الكوفيين، والليث، والأوزاعى. قال الطحاوى: فتيمم (صلى الله عليه وسلم) لرد السلام فى المصر وهو فرض لخوف الفوت، لأنه لو فعل بعد التراخى لم يكن جوابًا. فإن قيل: ليست الطهارة شرطًا فى صحة رد السلام؟ قيل: قد ثبت لهذه الطهارة حكم لولاه لم يفعلها النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ولو لم يكن ثبت حكم التيمم فى هذه الحالة لما فعله النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، ومنع مالك، والشافعى، وأحمد بن حنبل، الصلاة على الجنائز بالتيمم. قال ابن القصار: وفى تيمم النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالجدار رد على أبى يوسف، والشافعى فى قولهما: إن التراب شرط فى صحة التيمم، لأنه (صلى الله عليه وسلم) تيمم بالجدار، ومعلوم أنه لم يعلق بيده منه تراب إذ لا تراب على الجدار، وقد تقدم فى باب ما يقول عند الخلاء زيادة فى معنى تركه (صلى الله عليه وسلم) لرد السلام حين تيمم بالجدار، كرهنا تكراره فتأمله هناك إن شاء الله. والمربد والجرين، والبيدر الأندر.

(1/476)


4 - باب هَلْ يَنْفُخُ فِيهِمَا
/ 5 - فيه: سَعِيدِ بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبْزَى، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى عُمَرَ ابْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: إِنِّى أَجْنَبْتُ، فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ، فَقَالَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ: أَمَا تَذْكُرُ أَنَّا كُنَّا فِى سَفَرٍ أَنَا وَأَنْتَ، أَمَّا أَنْتَ فَلَمْ تُصَلِّ، وَأَمَّا أَنَا فَتَمَعَّكْتُ، فَصَلَّيْتُ، فَذَكَرْتُ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا -، فَضَرَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِكَفَّيْهِ الأرْضَ، وَنَفَخَ فِيهِمَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. اختلف العلماء فى نفض اليدين من التيمم فكان الشعبى يقول بنفضهما وهو قول الكوفيين، وقال مالك أيضًا: نفضًا خفيفًا. وقال الشافعى: لا بأس أن ينفضهما إذا بقى فى يديه غبار يماس الوجه وهو قول إسحاق. وقال أحمد: لا يضر فعل أو لم يفعل وكان ابن عمر لا ينفض يديه. قال المهلب: فيه من الفقه أن المتأول لا إعادة عليه ولا لوم، ألا ترى أن عمارًا قال: تمت أما أنا فتمرغت فى التراب -، لأنه تأول أن التيمم للوجه والكفين، لا يجزئ فى الجنابة، كما يجزئ فى الوضوء وكان فى السفر، فلم يأمره النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بإعادة التيمم

(1/477)


والصلاة لأنه عمل أكثر مما كان يجب عليه فى التيمم، بل أخبره أنه كان يجزئه ضربة للوجه والكفين عن غسل الجنابة، وسيأتى الخلاف فى تيمم الجنب بعد هذا، إن شاء الله.
5 - باب التَّيَمُّمُ لِلْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ
/ 6 - فيه: عَمَّارٌ قال لعمر: تَمَعَّكْتُ، فَأَتيت النَّبِىّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: تمت يَكْفِيكَ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ -. / 7 - وقَالَ عَمَّارٌ مرة: فَضَرَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بِيَدِهِ الأرْضَ فَمَسَحَ وَجْهَهُ وَكَفَّيْهِ. اختلف العلماء فى حد مسح الكفين فى التيمم، فقال قوم: هو إلى الكوعين روى هذا عن على بن أبى طالب وسعيد بن المسيب، والأعمش، وعطاء، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق. وروى ابن القاسم عن مالك أنه إن تيمم إلى الكوعين أعاد فى الوقت وهذا يدل أن التيمم إلى المرفقين مستحب عنده. وقال قوم: التيمم إلى المرفقين. روى هذا عن ابن عمر، وجابر، والنخعى، والحسن، وهو قول مالك، وأبى حنيفة وأصحابه والثورى، والليث، والشافعى، قالوا: لا يجزئه إلا ضربتان ضربة للوجه، وضربة لليدين إلى المرفقين، ولا يجزئه دون المرفقين.

(1/478)


وقال الزهرى: هو إلى الآباط. واحتج الزهرى بما رواه عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار بن ياسر، قال: تيممنا مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ، إلى المناكب، رواه جويرية، عن مالك، عن ابن شهاب. وحجة من ذهب إلى أن المراد مسحهما إلى المرفقين فما رواه الثورى عن سلمة بن كهيل، عن أبى مالك، عن عبد الرحمن بن أبزى، عن عمار بن ياسر، عن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قال له: تمت إنما كان يكفيك هكذا، وضرب بيديه، ثم نفخهما ومسحهما بوجهه وكفيه وذراعيه إلى نصفيهما -. وأنصاف الذراعين عندهم هو نهاية المرفقين، ومن جهة النظر أن التيمم بدل من الوضوء، ولما أجمعوا أن الوضوء إلى المرفقين، وجب أن يكون التيمم كذلك. وكان من حجة من ذهب إلى أن المسح إلى الكوعين قوله تعالى: (والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما) [المائدة: 38] ، قال ابن القصار: واسم اليد تخصيص إلى الكوعين، لقطع النبى (صلى الله عليه وسلم) ، والمسلمين بعده من الكوع مع إطلاق اسم اليد فى الآية، والحكم إذا تعلق بما هذه صفته تعلق بأول الاسم وأخصه. واحتجوا من الآثر بقوله فى حديث عمار: تمت أن النبى ضرب بيده

(1/479)


الأرض، ثم مسح بهما وجهه وكفيه -. قالوا: وهذا توقيف من النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لعمار على المراد من قوله تعالى: (فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه) [المائدة: 6] يرفع الإشكال. ويدل على ذلك أيضًا حديث أبى جهيم: تمت حين تيمم النبى (صلى الله عليه وسلم) ، على الجدار فمسح وجهه ويديه -، وما روى أنه مسح الذراعين إلى المرافق، فنحمله على الاستحباب، وأما التيمم إلى المناكب، فالأمة فى جميع الأمصار على خلافه. قال الطحاوى: ولم يرو عن أحد من المتقدمين غير ابن شهاب، وليس فى حديث ابن شهاب، عن عمار أن النبى (صلى الله عليه وسلم) ، أمرهم بالتيمم إلى المناكب، ولا أنه تيمم هو كذلك، فيكون فيه حجة، بل الآثار أنه تيمم إلى الكوعين وإلى المرفقين. قال الطحاوى: وأما النظر فى ذلك، فرأينا التيمم قد أسقط عن بعض أعضاء الوضوء، وهو الرأس والرجلان، فكان التيمم على بعض ما عليه الوضوء، فبطل بذلك قول من قال: إنه إلى المناكب، لأنه لما بطل على الرأس والرجلين، وهم مما يتوضآن كان أحرى ألا يجب على ما لا يتوضأ.

(1/480)


6 - باب الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ وَضُوءُ الْمُسْلِمِ، يَكْفِيهِ مِنَ الْمَاءِ
وَقَالَ الْحَسَنُ وابن عَبَّاس: يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ مَا لَمْ يُحْدِثْ، وَأَمَّ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ مُتَيَمِّمٌ. وَقَالَ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ: لا بَأْسَ بِالصَّلاةِ عَلَى السَّبَخَةِ، وَالتَّيَمُّمِ بِهَا. / 8 - فيه: عِمْرَانَ قَالَ: كُنَّا فِى سَفَرٍ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : وَإِنَّا سْرَيْنَا، حَتَّى كُنَّا فِي آخِرِ اللَّيْلِ، وَقَعْنَا وَقْعَةً، وَلا وَقْعَةَ أَحْلَى عِنْدَ الْمُسَافِرِ مِنْهَا، فَمَا أَيْقَظَنَا إِلا حَرُّ الشَّمْسِ، وَكَانَ أَوَّلَ مَنِ اسْتَيْقَظَ فُلانٌ ثُمَّ فُلانٌ ثُمَّ فُلانٌ يُسَمِّيهِمْ أَبُو رَجَاءٍ، فَنَسِىَ عَوْفٌ ثُمَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ الرَّابِعُ، وَكَانَ النَّبِيُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، إِذَا نَامَ، لَمْ نُوقَظْه حَتَّى يَكُونَ هُوَ المسْتَيْقِظُ، لأنَّا لا نَدْرِي مَا يَحْدُثُ لَهُ فِى نَوْمِهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ عُمَرُ وَرَأَى مَا أَصَابَ النَّاسَ، وَكَانَ رَجُلا جَلِيدًا، فَكَبَّرَ وَرَفَعَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، فَمَا زَالَ يُكَبِّرُ، وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، حَتَّى اسْتَيْقَظَ لِصَوْتِهِ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ، شَكَوْا إِلَيْهِ الَّذِي أَصَابَهُمْ، قَالَ: تمت لا ضَيْرَ، أَوْ لا يَضِيرُ، ارْتَحِلُوا -، فَارْتَحَلَوا، فَسَارَ غَيْرَ بَعِيدٍ، ثُمَّ نَزَلَ، فَدَعَا بِالْوَضُوءِ، فَتَوَضَّأَ وَنُودِيَ بِالصَّلاةِ، فَصَلَّى بِالنَّاس، فَلَمَّا انْفَتَلَ مِنْ صَلاتِهِ، إِذْ هُوَ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ لَمْ يُصَلِّ مَعَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: تمت مَا مَنَعَكَ يَا فُلانُ أَنْ تُصَلِّيَ مَعَ الْقَوْمِ -؟ قَالَ: أَصَابَتْنِى جَنَابَةٌ، وَلا مَاءَ، قَالَ: تمت عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ -، ثُمَّ سَارَ (صلى الله عليه وسلم) فَاشْتَكَى إِلَيْهِ النَّاسُ مِنَ الْعَطَشِ، فَنَزَلَ، فَدَعَا فُلانًا كَانَ يُسَمِّيهِ أَبُو رَجَاءٍ، نَسِيَهُ عَوْفٌ، وَدَعَا عَلِيًّا، فَقَالَ: تمت اذْهَبَا، فَابْتَغِيَا الْمَاءَ -، فَانْطَلَقَا، فَتَلَقَّيَا امْرَأَةً بَيْنَ مَزَادَتَيْنِ أَوْ

(1/481)


سَطِيحَتَيْنِ مِنْ مَاءٍ عَلَى بَعِيرٍ لَهَا، فَقَالا لَهَا: أَيْنَ الْمَاءُ؟ فقَالَتْ: عَهْدِي بِالْمَاءِ أَمْسِ هَذِهِ السَّاعَةَ، وَنَفَرُنَا خُلُوفًا، قَالا لَهَا: انْطَلِقِي إِذًا، قَالَتْ: إِلَى أَيْنَ؟ قَالا: إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَتِ: الَّذِي يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ؟ قَالا: هُوَ الَّذِي تَعْنِينَ، فَانْطَلِقِي، فَجَاءَا بِهَا إِلَى رَسُولِ الله (صلى الله عليه وسلم) وَحَدَّثَاهُ الْحَدِيثَ. قَالَ: تمت فَاسْتَنْزَلُوهَا عَنْ بَعِيرِهَا -، وَدَعَا النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِإِنَاءٍ، فَفَرَّغَ فِيهِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَزَادَتَيْنِ أَوْ السَطِيحَتَيْنِ، وَأَوْكَأَ أَفْوَاهَهُمَا، وَأَطْلَقَ الْعَزَالِيَ، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ اسْتَقُوا واسْقُوا، فَسَقَى مَنْ سقى، وَاسْتَقَى مَنْ شَاءَ، وَكَانَ آخِرُ ذَاكَ أَنْ أَعْطَى الَّذِي أَصَابَتْهُ الْجَنَابَةُ إِنَاءً مِنْ مَاءٍ، قَالَ: تمت اذْهَبْ، فَأَفْرِغْهُ عَلَيْكَ -، وَهِيَ قَائِمَةٌ، تَنْظُرُ إِلَى مَا يُفْعَلُ بِمَائِهَا، وَايْمُ اللَّهِ لَقَدْ أُقْلِعَ عَنْهَا، وَإِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْنَا أَنَّهَا أَشَدُّ مِلأةً مِنْهَا حِينَ ابْتَدَأَ فِيهَا، قَالَ النَّبِىُّ، (صلى الله عليه وسلم) : تمت اجْمَعُوا لَهَا -، فَجَمَعُ لَهَا مِنْ بَيْنِ عَجْوَةٍ وَدَقِيقَةٍ وَسَوِيقَةٍ حَتَّى جَمَعُوا لَهَا طَعَامًا، فَجَعَلُوه فِي الثَوْب، وَحَمَلُوهَا عَلَى بَعِيرِهَا، وَوَضَعُوا الثَّوْبَ بَيْنَ يَدَيْهَا، قَالَ لَهَا: تمت تَعْلَمِينَ مَا رَزِئْنَا مِنْ مَائِكِ شَيْئًا، وَلَكِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِى أَسْقَانَا -، فَأَتَتْ أَهْلَهَا، وَقَدِ احْتَبَسَتْ عَنْهُمْ، قَالُوا: مَا حَبَسَكِ يَا فُلانَةُ؟ قَالَتِ: الْعَجَبُ لَقِيَنِى رَجُلانِ، فَذَهَبَا بِى إِلَى هَذَا الرَّجُل الَّذِى يُقَالُ لَهُ الصَّابِئُ، فَفَعَلَ كَذَا، وَكَذَا فَوَاللَّهِ إِنَّهُ لأسْحَرُ النَّاسِ مِنْ بَيْنِ هَذِهِ، وَهَذِهِ، وَقَالَتْ بِإِصْبَعَيْهَا الْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ، فَرَفَعَتْهُمَا إِلَى السَّمَاءِ، تَعْنِي السَّمَاءَ وَالأرْضَ، أَوْ إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَكَانَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ ذَلِكَ يُغِيرُونَ عَلَى مَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَلا يُصِيبُونَ الصِّرْمَ الَّذِي هِيَ مِنْهُ، فَقَالَتْ يَوْمًا لِقَوْمِهَا: مَا أُرَى أَنَّ هَؤُلاءِ الْقَوْمَ

(1/482)


يَدْعُونَكُمْ عَمْدًا، فَهَلْ لَكُمْ فِي الإسْلامِ؟ فَأَطَاعُوهَا، فَدَخَلُوا فِي الإسْلامِ. قال المهلب: قوله للجنب: تمت عليك بالصعيد فإنه يكفيك من الماء -، فيحتمل أن يكفيه ما لم يحدث إذا لم يجد ماء كما يكفيه الوضوء، وإنما قال أهل العلم: إنه يتيمم لكل صلاة خوفًا أن يضيع طلب الماء ويتكل على التيمم ويأنسوا إلى الأخف، ويحتمل أن يكفيه لتلك الصلاة وحدها، لأنها هى التى يستباح فيها خوف فوات وقتها. واختلف العلماء فى ذلك فقالت طائفة: يصلى بالتيمم ما لم يحدث جميع الصلوات وروى ذلك عن عطاء، والحسن البصرى، والنخعى، والزهرى، والثورى، والكوفيين. وقالت طائفة: لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة، وعليه أن يتيمم لكل صلاة، روى ذلك عن على، وابن عمر، وعمرو بن العاص، وابن عباس، وسعيد بن المسيب، والشعبى، ومكحول، وربيعة، وهو قول مالك، والليث، والشافعى، وأحمد، وإسحاق. وفيها قول ثالث: أن من صلى الصلوات فى أوقاتهن يتيمم لكل صلاة، وإذا فاتته صلوات صلاها بتيمم واحد، روى هذا عن مالك، وهو قول أبى ثور. واحتج الكوفيون فقالوا: التيمم مرتب على الوضوء، فلما قامت الدلالة على أنه يصلى صلوات كثيرة بوضوء واحد، كان التيمم مثله. وحجة من أوجب التيمم لكل صلاة، قالوا: إن الله أوجب على

(1/483)


كل قائم إلى الصلاة طلب الماء، لقوله: (فلم تجدوا ماء فتيمموا) [النساء: 43، المائدة: 6] ، وحقيقة هذا أنه لا يقال لمن لم يطلب الشىء لم يجده، وأوجب عند عدمه التيمم عند دخول وقت صلاة أخرى مثل ما عليه فى الأولى، وليست الطهارة بالصعيد مثل الطهارة بالماء، وإنما هى طهارة ضرورة لاستباحة الصلاة قبل خروج الوقت بدليل بطلانها بوجود الماء قبل الصلاة، وأن الجنب يعود جنبًا بعدها إذا وجد الماء، والوضوء بالماء لا يبطل، فلذلك أمر من صلى، به أن يطلب الماء لصلاة أخرى. وقال إسماعيل بن إسحاق: المتيمم لا يشبه المتوضئ، لأن المتوضئ له أن يتوضأ للصلاة قبل وقتها، والمتيمم لا يجوز له ذلك، فإذا لم يجز له أن يتيمم للعصر حتى يدخل وقتها، وجب ألا يكون التيمم للعصر يجزئ للمغرب، إذ كان متيممًا لها قبل وقتها، لأن العلة المانعة من المتيمم للعصر قبل وقتها هى المانعة له من المغرب. وأما إمامة المتيمم للمتوضيئن، فهو قول مالك، وأبى حنيفة، وأبى يوسف، وزفر، والثورى، والشافعى. وقال الأوزاعى، ومحمد بن الحسن: لا يؤم متيمم متوضئًا، وروى ذلك عن علىّ، والنخعى. واحتج مالك فى ذلك، فقال: من قام إلى الصلاة، فلم يجد ماءً فتيمم، فقد أطاع الله، وليس الذى وجد الماء بأطهر منه، ولا أتم صلاة، لأنهما أمرا جميعًا، فكل عَمِلَ بما أمره الله.

(1/484)


وحجة الأوزاعى: أن شأن الإمامة الكمال، ومعلوم أن الطهارة بالصعيد طهارة ضرورة كما تقدم، فأشبهت صلاة القاعد المريض يؤم قيامًا، والأمى يؤم من يحسن القراءة. وأما التيمم بالسبخة فهو قول جماعة العلماء على ظاهر قوله (صلى الله عليه وسلم) : تمت جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا -، فدخل فيه السبخة وغيرها. وخالف ذلك إسحاق بن راهويه، فقال: لا يجزئه التيمم بالسبخة. قال المهلب: فى حديث المزادتين من الفقه: أن النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، قد ينام كنوم البشر فى بعض الأوقات، إلا أنه لا يجوز عليه الأضغاث، لقوله: تمت رؤيا الأنبياء وحى -. وفيه: أن الأمور يحكم فيها بالأعم، لقوله: تمت كنا لا نوقظ النبى (صلى الله عليه وسلم) ، لأنا لا نعلم ما يحدث له فى نومه -، وقد يحدث له وحى، أو لا يحدث، فحكموا بالأعم كما حكم على النائم غيره بحكم الحدث، وقد يكون الحدث، أو لا يكون. وفيه: التأدب فى إيقاظ السيد كما فعل عمر، لأنه لم يوقظ النبى (صلى الله عليه وسلم) بالنداء بل أيقظه بذكر الله إذ علم عمر أن أمر الله يحثه على القيام. وفيه: أن عمر أجلد المسلمين كلهم، وأصلبهم فى أمر الله. وفيه: أن من حَلَّت به فتنة فى بلد، فليخرج عنه، وليهرب من الفتنة بدينه كما فعل النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بارتحاله عن بطن الوادى الذى تشاءم به لما فتنهم فيه الشيطان.

(1/485)


وفيه: أن من ذكر صلاة أن له أن يأخذ فيما يصلحه لصلاته طهور ووضوء، وانتقاء البقعة التى تطيب عليها نفسه للصلاة، كما فعل الرسول (صلى الله عليه وسلم) بعد أن ذكر الصلاة الفائتة فارتحل بعد الذكر، ثم توضأ وتوضأ الناس، وهذا لا يتم إلا فى مهلة، ثم أذن واجتمع الناس وصلوا. وفيه: رد لقول عيسى بن دينار أن حديث الوادى هذا، وتأخير الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن المبادرة بالصلاة فى الوادى قبل أن يرتحل منسوخ بقوله: (أقم الصلاة لذكرى) [طه: 14] ، لأنه (صلى الله عليه وسلم) لما خرج عن الوادى وصلى، خطبهم مؤنسًا لهم مما عرض لهم، فقال (صلى الله عليه وسلم) : تمت إن الله قبض أرواحنا، ولو شاء لردها فى حين الصلاة، ولكن من فاتته صلاة، أو نسيها، فليصلها، إذا ذكرها، فإن الله يقول: (أقم الصلاة لذكرى (-، فاحتج النبى، (صلى الله عليه وسلم) ، بالآية على فعله، وآنس القوم بذلك، وأشار لهم إلى قوله تعالى المعروف عندهم، فكيف يكون ما نزل الله قبل ناسخًا لما كان بعد؟ إنما ينسخ الآخر الأول، وهذه الآية نزلت بمكة، وهذه القصة عرضت بعد الهجرة. وفيه من الفقه: أن من فاتتهم صلاة بمعنى واحد أن لهم أن يجمعوها إذا ذكروها بعد خروج وقتها، وأن تأخير المبادرة إليها لا يمنع الإنسان أن يكون ذاكرًا لها، وأن يعيدها. وفيه: طلب الماء للشرب والوضوء، والبعثة فيه. وفيه: أن الحاجة إلى الماء إذا اشتدت أن يؤخذ حيث وجد ويعوض صاحبه منه، كما عُوضت المرأة.

(1/486)


وفيه: من دلائل النبوة ومعجزات الرسول (صلى الله عليه وسلم) أن توضأ أهل الجيش، وشربوا واغتسل من كان جنبًا مما سقط من العزالى، وبقيت المزادتان مملوءتين بركته وعظيم برهانه. وفيه: مراعاة ذمام الكافر والمحافظة به كما حفظ النبى (صلى الله عليه وسلم) هذه المرأة فى قومها وبلادها، فراعى فى قومها ذمامها، وإن كانت من صميمهم فهى من أدناهم، وكان ترك الغارة على قومها سببًا لإسلامها، وإسلامهم وسعادتهم. وفيه: بيان مقدار الانتفاع بالاستئلاف على الإسلام، لأن قعودهم عن الغارة على قومها كان استئلافًا لهم، فعلم القوم قدر ذلك، وبادروا إلى الإسلام رعاية لذلك الحق. وقوله: تمت ونفرنا خلوف - قال الخطابى: يقال: الحى خلوف إذا غابوا وخلفوا أثقالهم، وخرجوا فى رعى، أو سقى، أو نحوه، ويقال: أخلف الرجل إذا استقى الماء واستخلف مثله، وأنشد الفراء: وَبَهْمَاء يستاف التراب دليلها وليس بها إلا اليمانىُّ مخلف يقول: إنهم إذا عطشوا بقروا بالسيوف بطون الإبل، فشربوا ما فى أكراشها، ويقال للقطا: المخلفات، لأنها تستقى لأولادها الماء وتخلف. وقال أبو عبيد: الحى خلوف: غُيَّب وحضور، ومنه قوله تعالى: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) [التوبة: 87، 93] أى النساء. وأنشد فى العيب:

(1/487)


أصبح البيت بيت آل بيان مقشعرا والحى حى خلوف أى لم يبق منهم أحد. والعزالى جمع عزلاء، والعزلاء فم المزادة الأسفل، عن أبى عبيد. قال صاحب العين: العزلاء مصب الماء من الراوية، وكذلك عزلاء القربة، ولذلك سميت عزلاء السحاب. والصرم: النفر ينزلون بأهليهم على الماء. يقال: هم أهل صرم والجمع أصرام. فأما الصرمه، بالهاء، فالقطعة من الإبل نحو الثلاثين، عن الخطابى.
7 - بَاب إِذَا خَافَ الْجُنُبُ عَلَى نَفْسِهِ الْمَرَضَ أَوِ الْمَوْتَ أَوْ خَافَ الْعَطَشَ تَيَمَّمَ
وَيُذْكَرُ أَنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ أَجْنَبَ فِى لَيْلَةٍ بَارِدَةٍ فَتَيَمَّمَ وَتَلا: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء: 29] فَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ، (صلى الله عليه وسلم) ، فَلَمْ يُعَنِّفْ. / 9 - فيه: أَبُو مُوسَى أَنّه قَالَ لابْن مَسْعُود: إِذَا لَمْ تَجِدِ الْمَاءَ لا تُصَلِّى، قَالَ عَبْدُاللَّهِ: لَوْ رَخَّصْتُ لَهُمْ فِى هَذَا كَانَ إِذَا وَجَدَ أَحَدُهُمُ الْبَرْدَ، قَالَ:

(1/488)


هَكَذَا - يَعْنِى تَيَمَّمَ - وَصَلَّى، قَالَ: قُلْتُ: فَأَيْنَ قَوْلُ عَمَّارٍ لِعُمَرَ؟ قَالَ إِنِّى لَمْ أَرَ عُمَرَ قَنِعَ بِقَوْلِ عَمَّارٍ. / 10 - وَقَالَ أَبُو مُوسَى مرةٍ لابن مَسْعُود: أَرَأَيْتَ يَا أَبَا عَبْدِالرَّحْمَنِ، إِذَا أَجْنَبَ، فَلَمْ يَجِدْ مَاءً، كَيْفَ يَصْنَعُ؟ فَقَالَ عَبْدُاللَّهِ: لا يُصَلِّى، حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِقَوْلِ عَمَّارٍ حِينَ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت كَانَ يَكْفِيكَ -؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَ عُمَرَ لَمْ يَقْنَعْ بقولِ عَمَّارٍ، فَقَالَ أبُو مُوسَى: فَدَعْنَا مِنْ قَول عَمَّار، كَيْفَ تَصْنَعُ بِهَذِهِ الآيَةِ؟ فَمَا دَرَى عَبْدُاللَّهِ مَا يَقُولُ، فَقَالَ: إِنَّا لَوْ رَخَّصْنَا لَهُمْ فِى هَذَا، لأوْشَكَ إِذَا بَرَدَ عَلَى أَحَدِهِمُ الْمَاءُ أَنْ يَدَعَهُ، وَيَتَيَمَّمَ، قَالَ الأعمش: فَقُلْتُ لِشَقِيقٍ: فَإِنَّمَا كَرِهَ عَبْدُاللَّهِ لِهَذَا؟ فَقَالَ: نَعَمْ. قال ابن القصار: كل من خاف التلف من استعمال الماء جاز له تركه وتيمم بلا خلاف بين فقهاء الأمصار فى ذلك، وأما إن خاف الزيادة فى مرضه، ولم يخف التلف، فقال مالك: يجوز له التيمم، وهو قول أبى حنيفة، والثورى. واختلف قول الشافعى، فقال مثل قول مالك، وقال: لا يعدل عن الماء إلا أن يخاف التلف، وقد روى عن مالك مثل هذا. وقال عطاء، والحسن البصرى، فى رواية: لا يستباح التيمم بالمرض أصلاً، وكرهه طاوس، وإنما يجوز للمريض التيمم عند عدم الماء، فأما مع وجوده فلا، وهو قول أبى يوسف، ومحمد. والدليل لجواز التيمم، وإن لم يخف التلف ما احتج به أبو موسى على ابن مسعود من قوله تعالى: (فلم تجدوا ماءً) [النساء: 43، المائدة: 6] ، ولم يفرق

(1/489)


بين مرض التلف، أو مرض يخاف زيادته، فهو عام فى كل مرض إلا أن يقوم دليل. وأما قصة عمرو بن العاص: تمت فإن الرسول (صلى الله عليه وسلم) ولاه غزوة ذات السلاسل، فاحتلم فى ليلة باردة، فقال: إن اغتسلت هلكت، فتيمم وصلى بالناس، فأتى النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فقال له: صليت بالناس وأنت جنب؟ فقال: سمعت الله يقول: (ولا تقلتوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا) [النساء: 29] ، فضحك النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يقل شيئًا -. ففى هذا الخبر فوائد: منها: جواز التيمم للخائف من استعمال الماء. والثانية: جواز التيمم للجنب، بخلاف ما روى عن عمر، وابن

(1/490)


مسعود. والثالثة: جواز التيمم لأهل البرد. والرابعة: أن المتيمم يصلى بالمتطهرين. وأيضًا فإن الرخص كلها تستباح بلحوق المشقة، ولا تقف على خوف التلف، كالفطر، وترك القيام فى الصلاة، فإن المريض يفطر إذا شق عليه الصوم، ولا يقال له: لا تفطر حتى تخاف التلف، وكذلك المضطر إلى أكل الميتة، إذا لحقه الجوع الشديد، وإن لم يخف التلف. وأجمع الفقهاء أن المسافر إذا كان معه ماء وخاف العطش أنه يُبقى ماءه للشرب ويتيمم. وأجمعوا أن الجنب يجوز له التيمم، إلا ما روى عن عمر، وابن مسعود أنهما لا يجيزان التيمم للجنب، لقوله تعالى: (وإن كنتم جنبًا فاطهروا) [المائدة: 6] ، وقوله: (ولا جنبًا إلا عابرى سبيل حتى تغتسلوا) [النساء: 43] ، وقد روى مثل هذا عن ابن عمر، واختلف فيه عن علىّ. وخفيت عليهم السنة فى ذلك من رواية عمار، وعمران، وإنما استراب عمر عمارًا فى ذلك، لأنه كان حاضرًا معه، فلم يذكر القصة وأنسيها، فارتاب، ولم يقنع بقوله، وكان عمر وابن مسعود لما كان من رأيهما أن الملامسة فى الآية هى ما دون الجماع، وكان التيمم فى الآية يعقب الملامسة منعا الجنب التيمم، ورأيا أن التيمم إنما جعل بدلاً من الوضوء، ولم يجعل بدلاً من الغسل، فكان من رأى ابن عباس، وأبى موسى: أن الملامسة فى الآية الجماع، فأجازا للجنب التيمم، ألا ترى أن أبا موسى حاجَّ ابن مسعود بالآية التى فى سورة النساء، فإن الملامسة فيها الجماع، فلم يدفعه ابن مسعود عن ذلك، ولا قدر أن يخالفه فى تأويله للآية فلجأ إلى قوله أنه لو رخص لهم فى هذا كان أحدهم إذا برد عليه الماء تيمم، وقد ذكر ابن أبى شيبة قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبى سنان، عن الضحاك قال: رجع عبد الله عن قوله فى تيمم الجنب ولم يتعلق أحد من فقهاء الأمصار، من قال: إن الملامسة الجماع، ومن قال: إنها دون الجماع، بقول عمر وابن مسعود، وصاروا إلى حديث عمار وعمران بن حصين فى ذلك، إلا إنهم اختلفوا، ثم أجازوا للجنب التيمم، فمن قال: الملامسة الجماع أوجب التيمم بالقرآن، وهو قول

(1/491)


الكوفيين، ومن قال: الملامسة ما دون الجماع أوجب التيمم للجنب بحديث عمار وعمران، وهو قول مالك. قال المهلب: وفى قول أبى موسى لابن مسعود: تمت فدعنا من قول عمار، كيف تصنع فى هذه الآية؟ - فيه: الانتقال فى الحجاج مما فيه الخلاف إلى ما عليه الاتفاق، وذلك أنه يجوز للمناظرين عند تعجيل القطع والإفحام للخصم، ألا ترى أن إبراهيم إذ قال: ربى الذى يحيى ويميت، قال له النمروذ: أنا أحيى وأميت، لم يحتج أن يوقفه على كيفية إحيائه وإماتته، بل انتقل إلى مسكت من الحجاج فقال: إن الله يأتى بالشمس من المشرق فائت بها من المغرب.
8 - باب التَّيَمُّمُ ضَرْبَةٌ
/ 11 - فيه: أَبِى مُوسَى وعَبْدِ اللَّهِ إلى قَول النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : تمت إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ أَنْ تَصْنَعَ هَكَذَا -، وضَرَبَ بِكَفِّهِ ضَرْبَةً عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ نَفَضَهَا، ثُمَّ مَسَحَ بِهِا ظَهْرَ كَفِّيهِ شِمَالِهِ، أَوْ ظَهْرَ شِمَالِهِ بِكَفِّهِ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِا وَجْهَهُ -. اختلف العلماء فى صفة التيمم، فقالت طائفة: هو ضربتان: ضربة للوجه يمسح بها وجهه، وضربة لليدين يمسحهما إلى المرفقين اليمنى باليسرى، واليسرى باليمنى، روى هذا عن ابن عمر، والشعبى، والحسن، وسالم، وهو قول مالك، والثورى، والليث، وأبى حنيفة وأصحابه، والشافعى، وذكره الطحاوى، عن الأوزاعى، وهؤلاء كلهم لا يجزئه عندهم المسح دون المرفقين، إلا مالك فإن

(1/492)


الفرض عنده إلى الكوعين، وروى عن على بن أبى طالب مثل هذا، ضربة للوجه وضربة لليدين إلى الكوعين. وقالت طائفة: التيمم ضربتان يمسح بكل ضربة منهما وجهه وذراعيه إلى مرفقيه، هذا قول ابن أبى ليلى والحسن بن حى. وقالت طائفة: التيمم ضربة واحدة للوجه والكفين إلى الكوعين. روى هذا عن عطاء، ومكحول، ورواية عن الشعبى، وهو قول الأوزاعى، وأحمد، وإسحاق، واختيار ابن المنذر. وروى ابن القاسم عن مالك: إن مسح وجهه ويديه بضربة واحدة أرجو أن يجزئه، ولا إعادة عليه، والاختيار عنده ضربتان. فأما الذين اختاروا ضربتين ضربة للوجه وضربة لليدين إلى المرفقين، فإنهم قاسوا ذلك على الوضوء، واتبعوا فعل ابن عمر فى ذلك، وقالوا: لما كان غسل الوجه بالماء غير غسل اليدين، فكذلك يجب أن تكون الضربة للوجه فى التيمم غير الضربة لليدين. وأما قول ابن أبى ليلى والحسن بن حى فهو شذوذ لا سلف له، وأصح ما فى حديث عمار أنه ضرب ضربة واحدة لكفيه ووجهه، رواه الثورى، وأبو معاوية، وجماعة عن الأعمش، عن أبى وائل، وسائر أحاديث عمار مختلف فيها. واحتج ابن القصار لهذا القول فقال: إذا ضرب بيديه إلى الأرض، فبدأ بمسح وجهه، فإلى أن يبلغ حد الذقن لا يبقى فى يديه شىء من التراب، فإذا جاز فى بعض الوجه ذلك ولم يحتج أن يعيد

(1/493)


ضرب يديه على الأرض، لم يحتج أن يضرب بيديه ليديه، لأنه ليس كالماء الذى من شرطه أن يماس كل جزء من الأعضاء. قال غيره: وفيه جواز ترك الترتيب فى التيمم، لأنه (صلى الله عليه وسلم) مسح كفيه قبل وجهه فى إحدى الروايات. تم كتاب الطهارة والحمد لله وصل الله على محمد وآله وصحبه، وبه تم الجزء الأول ويليه بإذن الله الجزء الثانى وأوله - كتاب الصلاة -

(1/494)