شرح صحيح
البخارى لابن بطال الجزء الثانى
(2/4)
بسم الله الرحمن الرحيم
كِتَاب الصَّلاةِ
كَيْفَ فُرِضَتِ الصَّلاةُ فِي الإسْرَاءِ وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: حَدَّثَنِي أَبُو سُفْيَانَ فِي حَدِيثِ
هِرَقْلَ، فَقَالَ: يَأْمُرُنَا - يَعْنِي النَّبِيَّ (صلى
الله عليه وسلم) - بِالصَّلاةِ وَالصِّدْقِ وَالْعَفَافِ.
/ 1 - فيه: أنس قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ يُحَدِّثُ:
(أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ:
فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ
جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ
زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ
حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ
أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي، فَعَرَجَ بِي إِلَى
السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فلما جئت إلى السماء الدنيا. .) ،
الحديث، وذكر حديث الإسراء. قَالَ (صلى الله عليه وسلم) :
(فَفَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ
صَلاةً، فَرَجَعْتُ بِذَلِكَ، حَتَّى مَرَرْتُ عَلَى
مُوسَى، فَقَالَ: مَا فَرَضَ اللَّهُ لَكَ عَلَى
أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: فَرَضَ خَمْسِينَ صَلاةً، قَالَ:
فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ
ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُ، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ
إِلَى مُوسَى، قُلْتُ: وَضَعَ شَطْرَهَا، فَقَالَ: رَاجِعْ
رَبَّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ، فَرَاجَعْتُ،
فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ:
ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ، فَإِنَّ أُمَّتَكَ لا تُطِيقُ
ذَلِكَ، فَرَاجَعْتُهُ، فَقَالَ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ
خَمْسُونَ، لا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ، فَرَجَعْتُ
إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ، فَقُلْتُ:
اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي، ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، حَتَّى
انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا
أَلْوَانٌ لا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ
الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا حَبَايِلُ اللُّؤْلُؤِ،
وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ) .
(2/5)
/ 2 - وفيه: عائشة قالت: (فَرَضَ اللَّهُ
الصَّلاةَ حِينَ فَرَضَهَا رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ فِي
الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَأُقِرَّتْ صَلاةُ السَّفَرِ،
وَزِيدَ فِي صَلاةِ الْحَضَرِ) . أجمع العلماء على أن فرض
الصلاة كان فى الإسراء، واختلفوا فى تاريخ الإسراء، فقال
الذهبى فى تاريخه: أسرى برسول الله بعد مبعثه بثمانية عشر
شهرًا. وقال أبو إسحاق الحربى: أُسرى بالنبى ليلة سبع
وعشرين من ربيع الأول قبل الهجرة بسنة، وفرضت الصلاة عليه.
وقال موسى بن عقبة، عن ابن شهاب: إن الإسراء كان قبل
الهجرة بسنة، وروى يونس ابن بكير، عن عثمان بن عبد الرحمن
الوقاصى، عن ابن شهاب: أن الصلاة فرضت بمكة بعد ما أوحى
إليه بخمس سنين. فعلى قول موسى بن عقبة إذا كان الإسراء
قبل الهجرة بسنة، فهو بعد مبثعه بتسع سنين، أو باثنتى عشرة
سنة على اختلافهم فى مقامه بمكة بعد مبعثه، وقول الزهرى
أولى من قول الذهبى؛
(2/6)
لأن ابن إسحاق قال: أسرى برسول الله وقد
فشا الإسلام بمكة، وفى القبائل كلها، ورواية الوقاصى أولى
من رواية موسى بن عقبة؛ لأنهم لا يختلفون أن خديجة صلت معه
بعد فرض الصلاة عليه، وتوفيت قبل الهجرة بأعوام. قال ابن
إسحاق: ثم إن جبريل أتى الرسول حين فرضت الصلاة عليه فى
الإسراء، فهمز له بعقبه فى ناحية من الوادى فانفجرت عين
ماء مزن، فتوضأ جبريل ومحمد ينظر، فرجع رسول الله، وقد
أقرّ الله عينه، فأخذ بيد خديجة، ثم أتى بها العين فتوضأ
كما توضأ جبريل، ثم صلى هو وخديجة ركعتين كما صلى جبريل،
فهذا يدل أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام؛ لأن خديجة
قيل: إنها توفيت قبل الهجرة بخمس سنين، وقيل: بثلاث. وأما
قول ابن إسحاق أن جبريل نزل عليه بالوضوء، فإنما أخذه،
والله أعلم، من حديث زيد بن حارثة، رواه عقيل عن ابن شهاب،
عن عروة، عن أسامة بن زيد، عن أبيه: (أن النبى فى أول ما
أوحى إليه أتاه جبريل فَعَلَّمَهُ الوضوء، فلما فرغ من
الوضوء أخذ غرفة من ماء فنضح فرجه) . وقال نافع بن جبير:
(أصبح النبى ليلة الإسراء، فنزل عليه جبريل حين زاغت
الشمس، فصلى به، ولذلك سميت: الأولى، وقال جماعة من
العلماء: لم يكن على الرسول صلاة مفروضة قبل الإسراء إلا
ما كان أُمِرَ به من قيام الليل من غير تحديد ركعات
معلومات،
(2/7)
ولا وقت محصور، فكان يقوم أدنى من ثلثيه
ونصفه وثلثه، وقامه المسلمون معه نحوًا من حولٍ حتى شق
عليهم، فأنزل الله التخفيف عنهم ونسخه. وقال ابن عباس: لما
نزلت: (يا أيها المزمل) [المزمل: 1] ، كانوا يقومون نحوًا
من قيامهم فى رمضان، حتى نزل آخرها، وكان بَيْن أولها
وآخرها حول. وفى حديث الإسراء إعلام فرض الصلاة كيف كان،
وتقدم. وإجماع الأمة على عدد فرض الصلاة وأنها خمس صلوات
وعددها وركوعها وسجودها غير أبى حنيفة، فإنه شَذَّ وزاد أن
الوتر فرض وليس ذلك فى حديث الإسراء، فأدخل البخارى حديث
عائشة فى هذا الباب ليبينَ أن فرض الصلاة كان ركعتين
ركعتين، وإن كان السلف قد اختلفوا فى ذلك، فروى عن ابن
عباس، ونافع بن جبير ابن مطعم، والحسن البصرى، وابن جريج:
أن الصلاة فرضت فى الحضر أربعًا وفى السفر ركعتين، وأن
جبريل نزل صبيحة ليلة الإسراء، فأقام لرسول الله (صلى الله
عليه وسلم) الظهر أربعًا، والعصر أربعًا، والعشاء أربعًا.
وقال ميمون بن مهران، والشعبى، وابن إسحاق، وجمهور
العلماء: بظاهر حديث عائشة أن الصلاة فرضت ركعتين ركعتين
فى الحضر والسفر، على أن عائشة قد أفتت بخلاف هذا الحديث،
فكانت تُتِمُّ فى السفر، وقد قال بعض من أنكر حديث عائشة:
أنه
(2/8)
معارض لكتاب الله، عز وجل، وهو قوله تعالى:
(وإذا ضربتم فى الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من
الصلاة) [النساء: 101] ، وهذا يدل أن صلاة السفر كانت
كاملة؛ لأنه لا يجوز أن يؤمروا بالقصر إلا من شىءٍ تامٍّ
قبل القصر، قال: ويدل على هذا ما رواه قتادة، عن سليمان
اليشكرى أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة فى
الخوف أى يوم أنزل، وأين هو؟ قال: انطلقنا نتلقَّى عير
قريش من الشام حتى إذا كنا بنخل، جاء رجل إلى رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) فقال: يا محمد، تخافنى؟ قال: (لا) ؟
، قال: فمن يمنعك منى، قال: (الله) قال: فسل السيف فتهدده
القوم وأوعدوه، فنادى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
بالرحيل، وأخذ السلاح، ونودى بالصلاة، فصلى رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) بطائفة من القوم ركعتين، وطائفة من القوم
يحرسونهم، ثم جاء الآخرون، فصلى بهم ركعتين والآخرون
يحرسونهم، فكان للنبى (صلى الله عليه وسلم) أربع ركعات
وللقوم ركعتان ركعتان، فيومئذ أنزل الله صلاة الخوف) .
فالجواب: أنه لا تعارض بين حديث عائشة وبين كتاب الله،
تعالى، وذلك أنه يجوز أن يكون فرض الصلاة كان ركعتين
ركعتين فى الحضر والسفر كما قالت عائشة، فلما زيد فى صلاة
الحضر، قيل لهم: إذا ضربتم فى الأرض، فصلوا ركعتين مثل
الفريضة الأولى، ولا جناح عليكم فى ذلك، وقد جاء هذا
المعنى بينًا فى حديث عائشة؛ روى داود بن أبى هند عن
الشعبى، عن عائشة، قالت: (أول ما فرضت الصلاة ركعتين
ركعتين، فلما قدم النبى (صلى الله عليه وسلم) المدينة صلى
إلى كل صلاة مثلها غير المغرب؛ فإنها وتر صلاة النهار،
وصلاة الصبح؛ لطول
(2/9)
قراءتها، وكان إذا سافر عاد إلى صلاته
الأولى) ، رواه معمر عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة قالت:
(فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم هاجر النبى (صلى الله عليه
وسلم) ، ففرضت أربعًا، وتركت صلاة السفر على الأولى) ، [.
. .] هذا المعنى للطحاوى بل هو فى كتاب البخارى الذى شرحته
بهذا الكتاب فى باب: التأريخ بعد الهجرة. فإن قيل: فقد
يكون قوله تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة)
[النساء: 101] ، بعد إتمام الصلاة فى الحضر، قلت: فما معنى
ذكر الجناح فى ذلك؟ . قيل: المعنى فى ذلك، والله أعلم، أن
الله تعالى، ذكر قصة الصلاة فى حال الخوف وسنَّ النبى (صلى
الله عليه وسلم) من الرخصة فى هيئتها صفةً مفارقةً لجميع
صلوات حال الأمن، فوضع الله الجناح عن عباده فى قصر عددها
وتغيير هيئتها، وجعل القصر فى السفر رفقًا بعباده وتخفيفًا
عنهم كما قال عمر بن الخطاب، رضى الله عنه، ليعلى بن أمية
حين قال له: ما لنا نقصر وقد أَمنَّا؟ قال: (تلك صدقة تصدق
الله عليكم، فاقبلوا صدقته) ، فدل إتمام عائشة فى السفر أن
القصر ليس بمعنى الحتم ولا إلزام للمسافر، إذ لو كان كذلك
لم يجز أن تتم فى السفر، وإنما أتمت لأنها فهمت المعنى فى
ذلك من النبى (صلى الله عليه وسلم) ، ويشهد لصحة تأويلها
فى ذلك قول عمر ابن الخطاب، رضى الله عنه، تلك صدقة تصدق
الله بها عليكم فاقبلوا صدقته. وقد أجمعت الأمة أنه لا
يلزم المتصدق عليه قبول الصدقة فرضًا وسأزيد فى هذا الباب
بيانًا فى أبواب قصر الصلاة فى السفر، إن شاء الله تعالى.
قال إسماعيل بن إسحاق: وأما حديث قتادة عن سليمان اليشكرى
(2/10)
فهو ضعيف؛ لأن قتادة لم يسمع منه شيئًا،
وسمعت على بن المدينى يقول: مات سليمان اليشكرى قبل جابر
ابن عبد الله، وإنما كانت صحيفة، فكان قتادة وغيره يحدثون
بما وجدوا فيها. وقد روى عن جابر خلاف حديث سليمان
اليشكرى، روى شعبة عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر قال:
(صلينا مع النبى (صلى الله عليه وسلم) صلاة الخوف فركع
بالصف المقدم ركعة وسجد سجدتين، ثم تأخروا وتقدم الآخرون
فركع بهم ركعة واحدة) ، فهذا معارض لحديث اليشكرى. قال
المهلب: وقوله فى حديث الإسراء: (ففرج صدرى، ثم غسله، ثم
جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانًا، فأفرغه فى صدرى) .
فيه من الفقه: أن أمور الله تعالى، المعظمة لا بأس
بتحليتها واستعمال الذهب والفضة فيها بخلاف سائر أمور
الدنيا التى نهى عن استعمال الذهب والفضة فيها من أجل
السرف، ألا ترى أنه أبيح تحلية المصحف الذى فيه كلام الله
عز وجل كما جاءه جبريل بالحكمة والإيمان من عند الله، عز
وجل، من طست من ذهب، وذكر أبو عبيد فى كتاب فضائل القرآن،
باب: تزيين المصاحف وحليتها بالذهب والفضة، وقال الأعمش:
عن أبى وائل: كان ابن مسعود إذا مُرَّ عليه بمصحف وقد زين
بالذهب، قال: (إن أحسن ما زُيِّنَ به المصحف تلاوته) .
(2/11)
وعن ابن عباس أنه كان إذا رأى المصحف قد
فُضِّضَ أو أذهب قال: (تُغْرُون به السارق، وزينته فى
جوفه) ، وأجاز ابن سيرين تزيين المصحف وتحليته، وكذلك أبيح
حلية السيف الذى هو من أمر الله تعالى، وسلطانه على من كفر
به، والخاتم الذى يطبع به عهود الله، وعهود رسله النافذة
إلى أقطار الأرض بالدين، وما سوى ذلك من متاع الدنيا
فممنوع من التحلية غير حُلِىِّ النساء والمباح لهن ليتزين
به للرجال. وفيه: أن أرواح المؤمنين يُصعد بها إلى السماء؛
ألا ترى أنه وجد آدم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء فى
السماء. وقوله فى آدم: (عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة،
فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى) ، فيه دليل
على أن أعمال بنى آدم الصالحة تَسُرُّ أباهم آدم، عليه
السلام، وأن أعمالهم السيئة تسوءه وتحزنه. وفيه: دليل أنه
يجب أن يرحبَ بكل أحد من الناس فى حسن لقائه بأكرم المنازل
وأقرب القرابة؛ ألا ترى أنه لما كان محمد من ذريته قال:
مرحبًا بالابن الصالح، ومن كان من غير ذريته قال له:
مرحبًا بالأخ الصالح، فكذلك يحب أن يُلاقى المرءُ بأحسن
صفاته وأعمها بجميل الثناء عليه؛ ألا ترى أن كلهم قال له:
(الصالح) لشمول الصلاح على سائر الخلال الممدوحة من الصدق،
والأمانة، والعفاف، والصلة، والفضل ولم يقل أحد: مرحبًا
بالنبى الصادق الأمين وما شاكله؛ لشمول الصلاح وعمومه
لسائر خلال الخير.
(2/12)
وفيه: دليل أن أوامر الله تعالى، تكتب
بأقلام شتَّى؛ لقوله: (أسمع صريف الأقلام) ، ففى هذا أن
العلم ينبغى أن يكتب بأقلام كثيرة، تلك سنة فى سماواته،
فكيف فى أرضه. وقوله: (لا يبدل القول لدى) ، يعنى: ما قضاه
وأحكمه من آثار معلومة، وآجال مكتوبة، وأرزاق معدودة، وشبه
ذلك مما لا يبدل لديه، وأما ما نسخه تعالى رفقًا بعباده،
فهو الذى قال فيه تعالى: (يمحو الله ما يشاء ويثبت)
[الرعد: 39] . وفيه: جواز النسخ قبل الفعل؛ ألا ترى أنه عز
وجل نسخ الخمسين صلاة قبل أن تُصلى بخمس صلوات تخفيفًا عن
عباده، ثم تفضل عليهم بأن جعل ثواب الخمس صلوات كثواب
الخمسين، أو جعل الحسنة عشرًا. وفيه: جواز الاستشفاع
والمراجعة فى الشفاعة مرة بعد أخرى. وفيه: الاستحياء من
التكثير فى الحوائج، خشية الضعف عن القيام بشكرها. وفيه:
دليل أن الجنة فى السماء. وفيه: (ودخلت الجنة فإذا فيها
جبايل اللؤلؤ) ، هو تصحيف، والله أعلم، والصواب: (جنابذ
اللؤلؤ) ، كذلك فسره ثابت عن ابن السكيت، وقال: (الجنبذة)
، ما ارتفع من البناء، وبهذا اتضح معنى اللفظة؛ لأنه عليه
السلام إنما وصف أرض الجنة وبنيانها، فقال: ترابها مسك،
وبنيانها لؤلؤ، وقد ذكر البخارى هذه اللفظة فى كتاب
الأنبياء عن عنبسة، عن يونس، عن ابن شهاب، كما فسرها أهل
(2/13)
اللغة: (جنابذ اللؤلؤ) ، وإنما جاء الغلط
فيها، والله أعلم، من قبل الليث عن يونس، وقد ذكر الطبرى
هذا المعنى مبينًا فى بعض طرق حديث الإسراء من طريق ميمون
بن سياه، عن أنس قال فيه: (ثم انطلق به إلى باب الجنة فإذا
هو بنهر هو أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل، بجنبتيه
قباب الدر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذى
أعطاك الله، وهذه مساكنك، وأخذ جبريل بيده من تربته فإذا
هو مسك أذفر. . . .) وذكر الحديث. وروى الأصيلى بإسناده،
عن محمد بن العلاء الأيلى، عن يونس الأيلى، عن الزهرى،
وقال فيه: (دخلت الجنة فرأيت فيها جنابذ من اللؤلؤ،
وترابها المسك، فقلت: لمن هذا يا جبريل؟ قال: للمؤذنين
والأئمة من أمتك) . وقوله: عن يساره أسودة فهو جمع سواد،
والسواد الشخص كما قال الشاعر: يغشون حتى ما تهر كلابهم لا
يسألون عن السواد المقبل
- باب وُجُوبِ الصَّلاةِ فِي الثِّيَابِ وَقَوْلهِ
تَعَالَى: (خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ)
[الأعراف 31] وَمَنْ صَلَّى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ
وَاحِدٍ
، وَيُذْكَرُ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأكْوَعِ أَنَّ
النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (يَزُرُّهُ وَلَوْ
بِشَوْكَةٍ) . فِي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ وَمَنْ صَلَّى فِي
الثَّوْبِ الَّذِي يُجَامِعُ فِيهِ مَا لَمْ يَرَ أَذًى،
وَأَمَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) أَلاَّ يَطُوفَ
بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
(2/14)
/ 3 - فيه: أم عطية قالت: أُمِرْنَا أَنْ
نُخْرِجَ الْحُيَّضَ يَوْمَ الْعِيدَيْنِ وَذَوَاتِ
الْخُدُورِ، فَيَشْهَدْنَ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ
وَدَعْوَتَهُمْ، وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ عَنْ المُصَّلى،
قَالَتِ امْرَأَةٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِحْدَانَا
لَيْسَ لَهَا جِلْبَابٌ؟ قَالَ: لِتُلْبِسْهَا
صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا) . الواجب من اللباس فى
الصلاة ما يستر به العورة، وأما غير ذلك من الثياب فالتجمل
بها فى الصلاة حسن، والله أحق من تجمل له، وأجمع أهل
التأويل على أن قوله: (خذوا زينتكم عند كل مسجد) [الأعراف:
31] ، نزلت من أجل الذين كانوا يطوفون بالبيت عراة، ولذلك
أمر الرسول ألا يطوف بالبيت عريان. وقوله: (يزره ولو
بشوكة) ، و (لتلبسها صاحبتها من جلبابها) ، يدل على وجوب
ستر العورة فى الصلاة؛ لأنه إذا زره أمن عند ركوعه وسجوده
أن تبدو عورته. قال ابن القصار: وقد اختلف الناس فى ستر
العورة فى الصلاة، فبعض أصحاب مالك يقول: إن الستر من سنن
الصلاة، وإليه ذهب إسماعيل القاضى، وأبو الفرج المالكى بعد
أن ذكر أنه يجىء على مذهب مالك أن يكون فرضًا لقوله فى
كفارة المساكين: إن كساهم وكانوا نساء، فدرع درع وخمار،
وإن كانوا رجالاً فثوب ثوب، وذلك أدنى ما تجزئ به الصلاة،
فدل أن الصلاة لا تجزئ إلا بذلك. وكان أبو بكر الأبهرى
يقول: إن ستر العورة فرض فى الجملة، على الإنسان أن يسترها
عن أعين المخلوقين فى الصلاة وغيرها،
(2/15)
والصلاة أوكد من غيرها، وقال أبو حنيفة،
والشافعى: إنها من فرض الصلاة، فاحتج إسماعيل بأنه يجوز له
ستر عورته قبل الدخول فى الصلاة بغير نية، وإنما هى آلةُ
يؤتى بها قبل الصلاة، فلو كانت فرضًا لما صح الإتيان بها
إلا بنية كالطهارة. قال ابن القصار: فالجواب أن التوجه إلى
القبلة مما تختص به الصلاة، ويجوز بغير نية، ولا يدل ذلك
على سقوط فرضه مع القدرة عليه، واحتج إسماعيل أيضًا بأنه
لو كان فرضًا فى الصلاة لكان العريان لا يجوز له أن يصلى؛
لأن كل شىء من فروض الصلاة يجب الإتيان به مع القدرة عليه
أو ببدله مع عدمه كالعاجز عن القيام يصلى قاعدًا، وكالعاجز
عن الركوع والسجود يومئ، أو كالتيمم مع عدم وجود الماء،
والذى صلى عريانًا لم يفعل فى اللبس فعلاً يقوم مقام اللبس
مع عدمه. وقد أجيب عن ذلك بأننا لا نقول: إن ستر العورة
يجب لأجل الصلاة، فلا معنى لاعتباره بأفعال الصلاة، وبما
يجب لأجلها كالوضوء الواقع إلى بدل، وكالقبلة وغير ذلك مما
تختص به الصلاة، وإنما هو فرض فى الجملة، ويتأكد حكم
الصلاة فيه، وليس كل شىء من فروض الصلاة يسقط إلى بدل مع
الضرورة؛ لأن القراءة واجبة على المنفرد وتسقط عنه خلف
الإمام لا إلى بدل، وكذلك الأُمِّى الذى لا يحسن القراءة
ولا التسبيح تصح صلاته من غير بدل. فإن قيل: فعلى أى شىء
يُحمل قول مالك: إن الحرة إذا صلتْ بغير خمار أنها تعيد فى
الوقت، ولو كان فرضًا؛ لوجب أن تعيد فى الوقت وبعده؟ قيل:
يحمل على أنه يعفى عن القليل منها لاختلاف
(2/16)
الناس فى ذلك، فلم يقل مالك: إنها لو صلت
مكشوفة السوأة أنها تعيد فى الوقت مع قدرتها على ستر ذلك،
ولو قال ذلك، لم يمنع من كون الستر فرضًا؛ ألا ترى أن
الصلاة فى الدار المغصوبة وفى الثوب المغصوب والوضوء
بالماء المغصوب فرض عليه ألا يصلى بشىء من ذلك، ولو صلى
بجميع ذلك كان قد ترك الفرض وعصى وعليه الإعادة فى الوقت
ولا يعيد بعد الوقت، وكذلك التسمية على الذبيحة. فبعض
الفروض إذا تركها عمدًا أعاد فى الوقت، وبعضها يختلف حكمها
فى العمد والنسيان، وبعضها يتفق، وإنما هو على حسب الأدلة
فى قوة بعضه وانخفاض بعضه، وحديث سلمة بن الأكوع أصل فى
هذه المسألة وهو قوله: (يزره ولو بشوكة) ، ولو كان ستر
العورة سنة لم يقل له ذلك، وإنما قال البخارى: وفى إسناده
نظر؛ لأن رواية الدراوردى عن موسى بن محمد بن إبراهيم، عن
أبيه، عن سلمة بن الأكوع، قال: قلت: يا رسول الله، إنى
أعالج الصيد فأصلى فى القميص الواحد، قال: (نعم، وزره ولو
بشوكة) . وموسى بن محمد فى حديثه مناكير، قاله البخارى فى
كتاب الضعفاء، ورخص مالك فى الصلاة فى القميص محلول الإزار
ليس عليه سراويل ولا رداء، وهو قول الكوفيين والشافعى وأبى
ثور، إلا أنه إن رأى من جيبه عورته أعاد الصلاة عندهم.
3 - باب عَقْدِ الإزَارِ عَلَى الْقَفَا فِي الصَّلاةِ
وَقَالَ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ صَلَّوْا مَعَ النَّبِيِّ (صلى
الله عليه وسلم) عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ.
/ 4 - فيه: جابر: أنه صَلَّى فِي إِزَارٍ قَدْ عَقَدَهُ
مِنْ قِبَلِ قَفَاهُ، وَثِيَابُهُ مَوْضُوعَةٌ
(2/17)
عَلَى الْمِشْجَبِ، فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ:
تُصَلِّي فِي إِزَارٍ وَاحِدٍ؟ قَالَ لَهُ: إِنَّمَا
صَنَعْتُ ذَلِكَ، لِيَرَانِي أَحْمَقُ مِثْلُكَ،
وَأَيُّنَا كَانَ لَهُ ثَوْبَانِ عَلَى عَهْدِ الرَسُول
(صلى الله عليه وسلم) . / 5 - وقال جابر مرة: (رَأَيْتُ
النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ
وَاحِدٍ) . عقدُ الإزار على القفا فى الصلاة إذا لم يكن مع
الإزار سراويل ولا مئرز، وهو معنى قوله (صلى الله عليه
وسلم) : (زره ولو بشوكة) ، وهذا كله تأكيد فى ستر العورة
فى الصلاة؛ لأنه إذا عقد إزاره فى قفاه وركع لم تبد عورته،
فكذلك كان أصحاب الرسول يعقدون أزرهم فى الصلاة إذا لم يكن
تحتها ثوب آخر. وفى حديث جابر من الفقه أن العالم قد يأخذ
بأيسر الشىء وهو يقدر على أكثر منه توسعة على العامة
وليقتدى به؛ ألا ترى أنه صلى فى ثوب واحد وثيابه على
المشجب. ففى ذلك جواز الصلاة فى الثوب الواحد لمن يقدر على
أكثر منه، وهو قول جماعة من الفقهاء إلا أنه قد روى عن ابن
عمر خلاف ذلك، وروى عن ابن مسعود مثل قول ابن عمر، وسأذكره
فى الباب بعد هذا، إن شاء الله تعالى، وروى ابن جريج، عن
نافع أن ابن عمر كساه فدخل المسجد، فوجده يصلى متوشحًا،
فقال له: أليس لك ثوبان؟ قال: بلى، قال: أرأيت لو استعنت
بك وراء الدار كنت لابسهما؟ قال: نعم، قال: فالله أحق أن
تتزين له، فأخبره عن النبى، أو عن عمر، قال: لا يشتمل
أحدكم فى الصلاة اشتمال اليهود، ومن كان له ثوبان فليتزر
(2/18)
وليرتد، ومن لم يكن له ثوبان فليتزر ثم
يصلى، وقد رواه موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر، عن
الرسول من غير شك. قال الطحاوى: وقد روى هذا الحديث عن ابن
عمر غير نافع، فذكره سالم لا عن الرسول ورواه الليث، عن
عقيل، عن ابن شهاب، عن ابن عمر، عن أبيه. . . فذكره، وسالم
أثبت من نافع وأحفظ، ولم يذكر فيه الرسول ورواه مالك، عن
نافع، عن ابن عمر: (أنه كسا نافعًا ثوبين، فقام يصلى فى
ثوب واحد فعاب ذلك عليه، وقال: احذر ذلك؛ فإن الله أحق من
تجمل له) ، لم يذكر فيه رسول الله ولا عمر. وقد روى عن
النبى: (الصلاة فى ثوب واحد) جماعة منهم: جابر، وأبو
هريرة، وعمر ابن أبى سلمة، وسلمة بن الأكوع، وهذه أحاديث
تضاد ما روى عن ابن عمر فى منع الصلاة فى الثوب الواحد،
وبها أخذ الفقهاء ولم يتابع ابن عمر على قوله فى ذلك. و
(المشجب) عود ينصب فى البيوت تعلق فيه الثياب. وفى قول
جابر للذى أنكر عليه الصلاة فى ثوب واحد: (إنما فعلت ذلك
ليرانى أحمق مثلك) ، أنه لا بأس للعالم أن يصف بالحمق من
جهل دينه، وأنكر على العلماء ما غاب عنه علمه من السُّنة،
وقد قال فى حديث آخر: (أحببت أن يرانى الجهال مثلكم) ،
فجعل الحمق كناية عن الجهل، ذكره فى باب الصلاة بغير رداء.
(2/19)
4 - باب الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ
الْوَاحِدِ مُلْتَحِفًا بِهِ
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: الْمُلْتَحِفُ
الْمُتَوَشِّحُ، وَهُوَ الْمُخَالِفُ بَيْنَ طَرَفَيْهِ
عَلَى عَاتِقَيْهِ، وَهُوَ الاشْتِمَالُ عَلَى
مَنْكِبَيْهِ، وقَالَتْ أُمُّ هَانِئٍ: الْتَحَفَ
النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِثَوْبٍ وَخَالَفَ
بَيْنَ طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ. / 6 - فيه: عمر بن
أبى سلمة: أن نبى الله صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ قَدْ
خَالَفَ بَيْنَ طَرَفَيْهِ. / 7 - وقال مرة: (رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي فِي ثَوْبٍ
وَاحِدٍ، مُشْتَمِلا بِهِ فِي بَيْتِ أُمِّ سَلَمَةَ،
وَاضِعًا طَرَفَيْهِ عَلَى عَاتِقَيْهِ) . / 8 - وفيه: أم
هانئ: (أنها رأت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عام الفتح
يصلى مُلْتَحِفًا فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ) . / 9 - وفيه: أبو
هريرة (أَنَّ سَائِلا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) عَنِ الصَّلاةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : أَوَلِكُلِّكُمْ
ثَوْبَانِ) ؟ قال المؤلف: التوشح هو نوع من الاشتمال تجوز
الصلاة به؛ لأن فيه مخالفة لطرفى الثوب على عاتقه كما قال
(صلى الله عليه وسلم) : (من صلى فى ثوب واحد، فليخالف بين
طرفيه) ، واشتمال الصماء المنهى عنه بخلاف ذلك. وقال ابن
السكيت: التوشيح هو أن يأخذ طرف الثوب الذى ألقاه على
منكبه الأيمن من تحت يده اليسرى، ويأخذ طرفه الذى ألقاه
على عاتقه الأيسر من تحت يده اليمنى، ثم يعقد طرفهما على
صدره، ومعنى مخالفته بين طرفيه لئلا ينظر المصلى من عورة
نفسه إذا ركع، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن الفقهاء
مجمعون على جواز الصلاة فى ثوب واحد، وقد روى عن ابن مسعود
خلاف ذلك، كما روى عن ابن عمر.
(2/20)
ذكر عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن
الحسن قال: اختلف أبى بن كعب، وابن مسعود فى الصلاة فى
الثوب الواحد، فقال أُبى: لا بأس به، وقد صلى فيه النبى،
عليه السلام، فالصلاة فيه اليوم جائزة، وقال ابن مسعود:
إنما كان ذلك إذ كان الناس لا يجدون ثيابًا، فأما إذا
وجدوها، فالصلاة فى ثوبين، فقام عمر على المنبر، فقال:
الصواب ما قال أُبى، ولم يَأْلُ ابن مسعود. قال الطحاوى:
وقد تواترت الأخبار عن النبى (صلى الله عليه وسلم) بالصلاة
فى الثوب الواحد منتوشحًا به فى حال وجود غيره، وذلك أن
السائل سأل النبى (صلى الله عليه وسلم) فى حديث أبى هريرة:
أيصلى أحدنا فى ثوب واحد؟ فأجابه جوابًا مطلقًا، فقال: (أو
كلكم يجد ثوبين) ، أى: لو كانت الصلاة مكروهة فى الثوب
الواحد لكرهت لمن لا يجد إلا ثوبًا واحدًا، ودل جوابه ذلك
أن حكم الصلاة فى الثوب الواحد لمن يجد الثوبين كهو فى
الصلاة فى الثوب الواحد لمن لا يجد غيره. قال غيره: وفهم
من قوله (صلى الله عليه وسلم) : (أو لكلكم ثوبان) ، أن من
صلى فى أكثر من ثوب واحد فقد أحسن؛ ألا ترى قول عمر:
(الصواب ما قال أُبى، ولم يأل ابن مسعود) ، أى: لم يقصر فى
الاجتهاد، وإن كان قد حكم لأبى بالصواب، فهذا من قول عمر،
يوافق ما روى عن الرسول من إجازته الصلاة فى ثوب واحد لمن
وجد غيره، وهو أولى أن يؤخذ به مما روى عن ابن عمر وغيره
مما يخالف ذلك.
(2/21)
5 - باب إِذَا صَلَّى فِي الثَّوْبِ
الْوَاحِدِ فَلْيَجْعَلْ عَلَى عَاتِقَيْهِ
/ 10 - فيه: أبو هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) : (لاَ يُصَلِّى أَحَدَكُم فِى الثَّوْبِ الوَاحِد
لَيْسَ عَلَى عَاتِقَيهِ شَىء) . / 11 - وقال مرة: سمعت
الرسول يقول: (مَنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ،
فَلْيُخَالِفْ بَيْنَ طَرَفَيْهِ) . إنما أمر الرسول من
صلى فى ثوب واحد أن يجعله على عاتقيه إذا لم يكن متزرًا؛
لأنه إذا لم يكن متزرًا لم يأمن أن ينظر من عورة نفسه فى
صلاته، فإذا جعله على عاتقيه وخالف بين طرفيه أمن من ذلك،
واستترت عورته، على ما تقدم فى الباب قبل هذا، وإنما هذا
فى الثوب إذا كان واسعًا، فحينئذ يجعله على عاتقيه، وأما
إذا كان ضيقًا، فإنه يتزر به على ما يأتى فى الباب بعد
هذا، إن شاء الله، وهذا كله تأكيد فى ستر العورة فى
الصلاة.
6 - باب إِذَا كَانَ الثَّوْبُ ضَيِّقًا
/ 12 - فيه: جابر أنه سئل عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ
الْوَاحِدِ، فَقَالَ: (خَرَجْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله
عليه وسلم) فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَجِئْتُ لَيْلَةً
لِبَعْضِ أَمْرِي، فَوَجَدْتُهُ يُصَلِّي، وَعَلَيَّ
ثَوْبٌ وَاحِدٌ، فَاشْتَمَلْتُ بِهِ، وَصَلَّيْتُ إِلَى
جَانِبِهِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ: مَا السُّرَى يَا
جَابِرُ؟ فَأَخْبَرْتُهُ بِحَاجَتِي، فَلَمَّا فَرَغْتُ،
قَالَ: مَا هَذَا الاشْتِمَالُ الَّذِي رَأَيْتُ؟ قُلْتُ:
كَانَ ثَوْبٌ وَاحِدٌ قَالَ: فَإِنْ كَانَ وَاسِعًا،
فَالْتَحِفْ بِهِ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا فَاتَّزِرْ بِهِ)
.
(2/22)
/ 13 - وفيه: سهل بن سعد قال: (كَانَ
رِجَالٌ يُصَلُّونَ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم)
عَاقِدِي أُزْرِهِمْ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، كَهَيْئَةِ
الصِّبْيَانِ، وَيُقَالُ لِلنِّسَاءِ: لا تَرْفَعْنَ
رُءُوسَكُنَّ حَتَّى يَسْتَوِيَ الرِّجَالُ جُلُوسًا) .
قال المؤلف: حديث جابر هذا يفسر حديث أبى هريرة الذى فى
الباب قبل هذا أن النبى قال: (لا يصلين أحدكم فى الثوب
الواحد ليس على عاتقيه منه شىء) ، أنه أراد الثوب الواسع
الذى يمكن أن يشتمله، وأما إذا كان ضيقًا ولم يمكنه أن
يشتمله فليتزر به كما قال (صلى الله عليه وسلم) . فإن قيل:
قوله: (لا يصلين أحدكم فى الثوب الواحد ليس على عاتقيه منه
شىء) ، هو نهى عن الصلاة فى الثوب الواحد متزرًا به.
فظاهره: يعارض قوله: (فإن كان ضيقًا فليتزر به) ، ويعارض
حديث بريدة الأسلمى أن الرسول نهى أن يصلى الرجل فى سراويل
وحده، رواه ابن وهب، عن زيد بن الحباب، عن أبى المنيب، عن
عبد الله بن بريدة، عن أبيه. قال الطحاوى: ومحمل النهى فى
ذلك عندنا للواجد للغيره، وأما من لم يجد غيره فلا بأس
بالصلاة فيه كما لا بأس بالصلاة فى الثوب الضيق متزرًا به
فعلى هذا تتفق معانى الآثار ولا تتضاد. قال المؤلف: ويشهد
لصحة ما قال الطحاوى، أن الذين كانوا يعقدون أزرهم على
أعناقهم لم يكن لهم غيرها، والله أعلم؛ إذ لو كان لهم
غيرها للبسوها فى الصلاة، وما احتيج أن ينهى النساء عن رفع
رءوسهن حتى يستوى الرجال جلوسًا، وتختلف أحكامهم فى
(2/23)
الصلاة، وذلك مخالف لقول الرسول فى الإمام:
(فلا تختلفوا عليه) ، ولقوله: (فإذا رفع فارفعوا) ، ألا
ترى أن عمرو بن سلمة حين كان يصلى بقومه، وتنكشف عورته، لم
تكن له غير تلك الجبة القصيرة، فلما اشتريت له جبة سابغة
تستره فى الصلاة، قال: فما فرحت بشىء فرحى بها. وفى حديث
سهل أن الثوب إذا أمكن أن يشتمل به، وإن لم يكن سابغًا أن
الاشتمال أولى به من الاتزار؛ لأن الاشتمال أستر للعورة من
الاتزار ولذلك لم يؤمر الذين عقدوا أزرهم على عواتقهم
بالاتزار بها، والله أعلم. وإنما نهى النساء عن رفع رءوسهن
خشية أن يلمحن شيئًا من عورات الرجال عند الرفع من السجود،
وهذا كله حماية من النظر إلى عورة المصلى، ولا خلاف بين
العلماء أن المصلى إذا تقلص مئزره أو كشفت الريح ثوبه،
فظهرت عورته، ثم رجع الثوب فى حينه وفوره أنه لا يضر ذلك
المصلى شيئًا، وكذلك المأموم إذا رأى من العورة مثل ذلك لا
تنتقض صلاته؛ لأنه إنما يحرم النظر مع العمد ولا يحرم
النظر فجأة، وإذا صحت صلاة الإمام فأحرى أن تصح صلاة
المأموم، وقال ابن القاسم فى العتبية: إن فرط فى رد إزاره،
فصلاته وصلاة من تأمل عورته باطل. قال المهلب: والاشتمال
الذى أنكره الرسول هو اشتمال الصماء المنهى عنه، وهو أن
يجلل نفسه بثوبه، لا يرفع شيئًا من جوانبه، ولا يمكنه
إخراج يديه إلا من أسفله، فيخاف أن تبدو عورته عند ذلك،
(2/24)
فلذلك قال له النبى: (إن كان واسعًا فالتحف
به، وإن كان ضيقًا فاتزر به) . وقوله: (ما السُّرَى يا
جابر؟) ، إنما سأله عن سُراه إذ علم أنه لا يأتيه أحد
ليلاً إلا لحاجة، فسأله عن ذلك، يدل على ذلك قول جابر:
فأخبرته بحاجتى، وفيه طلب الحوائج بالليل من السلطان لخلاء
موضعه وسره.
7 - باب الصَّلاةِ فِي الْجُبَّةِ الشَّامِيَّةِ
وَقَالَ الْحَسَنُ: فِي الثِّيَابِ يَنْسُجُهَا الْمَجُوس
لَمْ يَرَ بِهَا بَأْسًا. وَقَالَ مَعْمَرٌ: رَأَيْتُ
الزُّهْرِيَّ يَلْبَسُ مِنْ ثِيَابِ الْيَمَنِ مَا صُبِغَ
بِالْبَوْلِ، وَصَلَّى عَلِيُّ ابْنُ أَبِي طَالِبٍ فِي
ثَوْبٍ غَيْرِ مَقْصُورٍ. / 14 - فيه: المغيرة بن شعبة
قال: (كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فِي
سَفَرٍ فَقَالَ: يَا مُغِيرَةُ خُذِ الإدَاوَةَ،
فَأَخَذْتُهَا، فَانْطَلَقَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) حَتَّى تَوَارَى عَنِّي، وَقَضَى حَاجَتَهُ،
وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ شَأْمِيَّةٌ، فَذَهَبَ لِيُخْرِجَ
يَدَهُ مِنْ كُمِّهَا، فَضَاقَتْ، فَأَخْرَجَ يَدَهُ مِنْ
أَسْفَلِهَا، فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ، فَتَوَضَّأَ، وُضُوءَهُ
لِلصَّلاةِ، وَمَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى) .
فيه من الفقه: إباحة لبس ثياب المشركين؛ لأن الشام كانت
ذلك الوقت دار كفر، وكان ذلك فى غزوة تبوك سنة تسع من
الهجرة، وكانت ثياب المشركين ضيقة الأكمام. واختلف العلماء
فى الصلاة فى ثياب الكفار، فذهب مالك وجمهور العلماء إلى
أنه لا بأس بالصلاة فيما نسجوه، وكره مالك
(2/25)
الصلاة فى ما لبسوه، وقال: إن صلى فيه
فيعيد فى الوقت، وأجاز ذلك الكوفيون والثورى والشافعى،
وقالوا: لا بأس بلباسها، وإن لم تغسل حتى يتبين فيها
النجاسة، إلا أن أبا حنيفة، قال: أما السراويل، والأزر
فأكره أن يلبسها المسلم إلا بعد الغسيل. وقال إسحاق: تُطهر
جميع ثيابهم، وليس فى حديث الجبة الشامية ما يقطع به، وإن
كان النبى غسلها قبل لباسه أم لا، فلا حجة فيه لواحد منهم،
وأما صلاة الزهرى فى ثوب صبغ بالبول، فمعلوم أنه لم يصل
فيه إلا بعد غسله وإنما على المرء أن يغسل ثوبه حتى يتيقن
طهارته. وفيه: خدمة العالم فى السفر، وفيه إخراج اليد من
أسفل الثوب إذا احتيج إلى ذلك. وفيه: لباس الثياب الضيقة
الأكمام فى السفر، والثياب القصار كالأقبية وغيرها.
8 - باب كَرَاهِيَةِ التَّعَرِّي فِي الصَّلاةِ
وَغَيْرِهَا
/ 15 - فيه: جابر: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) كَانَ يَنْقُلُ مَعَهُمُ الْحِجَارَةَ لِلْكَعْبَةِ،
وَعَلَيْهِ إِزَارُهُ، فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ عَمُّهُ:
يَا ابْنَ أَخِي لَوْ حَلَلْتَ إِزَارَكَ، فَجَعَلْتَ
عَلَى مَنْكِبَيْكَ دُونَ الْحِجَارَةِ، قَالَ: فَحَلَّهُ،
فَجَعَلَهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ، فَسَقَطَ مَغْشِيًّا
عَلَيْهِ، فَمَا رُئِيَ بَعْدَ ذَلِكَ عُرْيَانًا (صلى
الله عليه وسلم)) . بنيان الكعبة كان والنبى غلام قبل
البعثة بمدة، وقيل: كان يومئذ ابن خمسة عشر عامًا، وقد
بعثه الله بالرسالة إلى خلقه، وعلَّمه ما لم
(2/26)
يكن يعلم، وأنزل عليه فى القرآن ما حمله أن
يأمر: (ألا يطوف بالبيت عريانًا) ، ونسخ بذلك ما كانوا
عليه من جاهليتهم من مسامحتهم فى النظر إلى العورات، وكان
قد جبله الله على جميل الأخلاق وشريف الطباع، ألا ترى أنه
غشى عليه وما رُئى بعد ذلك عريانًا. وفائدة هذا الحديث
قوله: (فما رُئى بعد ذلك عريانًا) . ففيه أنه لا ينبغى
التعرى للمرء بحيث تبدو عورته لعين الناظر إليها، والمشى
عريانًا بحيث لا يأمن أعين الآدميين إلا ما رُخص فيه من
رؤية الحلائل لأزواجهن عراةً. قال الطبرى: وقد حدثنا ابن
حميد، عن هارون بن المغيرة، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن
ابن عباس، عن العباس بن عبد المطلب، وذكر الحديث وقال فيه:
أنه لما سقط النبى (صلى الله عليه وسلم) نظر إلى السماء
وأخذ إزاره، وقال: (نُهيت عن أن أمشى عريانًا) ، فقلت:
(اكتمها الناس مخافة أن يقولوا مجنون) . فدل هذا الحديث
أنه لا يجوز التعرى فى الخلوة ولا لأعين الناس. وقيل: إنما
مخرج القول منه لذلك الحال التى كان عليها، فحيث كانت قريش
نساؤها ورجالها تنقل معه الحجارة، فقال: (نهيت أن أمشى
عريانًا) ، فى مثل هذه الحالة ولو كان ذلك نهيًا من الله
له
(2/27)
عن التعرى فى كل مكان لكان قد نهاه عن
التعرى للغسل من الجنابة فى الموضع الذى قد أمن أن يراه
فيه أحد إلا الله، إذ كان المغتسل لا يجد بدًا من التعرى،
ولكنه نُهى عن التعرى بحيث يراه أحد. وفى نهيه عليه
السلام، عن المشى عريانًا بيان أنه لا يجوز القعود عريانًا
فى موضع يكون معناه معنى الموضع الذى نهى فيه عن المشى
عريانًا، وذلك القعود بحيث يراه من لا يحل له أن يرى
عورته؛ فكان القعود عريانًا فى معنى المشى عريانًا، ولذلك
نهى النبى عن دخول الحمام بغير إزار. فإن قيل: فما أنت
قائل فى حديث القاسم، عن أبى أمامة، عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) ، أنه قال: (لو استطيع أن أوارى عورتى من شعارى
لواريتُها) ، وفى قول على بن أبى طالب، رضى الله عنه: (إذا
كشف الرجل عورته أعرض عنه الملك) ، وفى قول أبى مجلز قال:
قال أبو موسى الأشعرى: (إنى لأغتسل فى البيت المظلم فما
أقيم صُلبى حياءً من ربى) . قال الطبرى: قيل له: حديث أبى
أمامة إن صح عن الرسول، فهو منه محمول على وجه الاستحباب،
لاستعمال السترة والندب لأمته إلى ذلك؛ وكذلك كان ذلك من
على وأبى موسى لا على أنهما رأيا أن ذلك حرام؛ لأن الله لا
يغيب عنه شىء من خلقه عراةً كانوا أو عليهم ثياب، فلا وجه
لترك إقامة الصلب عند
(2/28)
الاغتسال ولو كان العبد إذا لم يقم صلبه
استتر من جسده عن ربه شىء كان ذلك معنى صحيحًا؛ فأما وهو
لو انطبق بعضه على بعض لم يغب شىء من أجزاء جسده عن عين
ربه، تعالى ذكره، فلا وجه لترك إقامة الصلب عند الاغتسال
فى الخلوة حياءً من الله، تعالى، بل ذلك داعية إلى أن يكون
سببًا لتضييع غسل بعض جسده أقرب منه إلى أن يكون حياءً من
الله.
9 - باب الصَّلاةِ فِي الْقَمِيصِ وَالسَّرَاوِيلِ
وَالتُّبَّانِ وَالْقَبَاءِ
/ 16 - فيه: أبو هريرة: أَنَّ رَجُلاً سَأَلَ رَسُول
اللَّه (صلى الله عليه وسلم) عَنِ الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ
الْوَاحِدِ، فَقَالَ: أَوَكُلُّكُمْ يَجِدُ ثَوْبَيْنِ) .
ثُمَّ سَأَلَ رَجُلٌ عُمَرَ فَقَالَ: إِذَا وَسَّعَ
اللَّهُ: فَأَوْسِعُوا، جَمَعَ رَجُلٌ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ،
صَلَّى رَجُلٌ فِي إِزَارٍ وَرِدَاءٍ، فِي إِزَارٍ
وَقَمِيصٍ، فِي إِزَارٍ وَقَبَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ
وَرِدَاءٍ، فِي سَرَاوِيلَ وَقَمِيصٍ، فِي سَرَاوِيلَ
وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ وَقَبَاءٍ، فِي تُبَّانٍ
وَقَمِيصٍ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ قَالَ: فِي تُبَّانٍ
وَرِدَاءٍ. / 17 - وفيه: ابن عمر: سَأَلَ رَجُلٌ النبى
(صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ؟
فَقَالَ: لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلا السَّرَاوِيلَ وَلا
الْبُرْنُسَ. . .) الحديث. قال المهلب: اللازم من الثياب
فى الصلاة ثوب واحد ساتر للعورة، وقول عمر: (إذا أوسع الله
عليكم فأوسعوا، جمع رجل عليه ثيابه. . .) ، يدل على ذلك،
وجمع الثياب فى الصلاة اختيار واستحسان وعليه جماعة
الفقهاء، والله أحق من تجمل له. وقول عمر: (فى تبان ورداء)
، يدل أن الرداء يشتمل فى الصلاة؛ لأنه لا يكون الرداء مع
التبان والسراويل الكاملة إلا مشتملاً به، وقال الخليل:
التبان يشبه سراويل صغير، تذكره العرب. وقد اختلف أصحاب
مالك فيمن صلى فى سراويل وهو قادر
(2/29)
على التبان؛ ففى المدونة: لا يعيد فى وقت
ولا غيره، وفى المجموعة عن ابن القاسم مثله، وعن أشهب:
عليه الإعادة فى الوقت؛ وعن أشهب أيضًا أن صلاته تامة إن
كان صفيقًا. وقول عمر: (جمع رجل عليه ثيابه) ، يعنى ليجمع
عليه ثيابه وليصلى فيها، فجاء بلفظ الفعل الماضى وهو يريد
المستقبل، وذلك كثير فى التنزيل كقوله تعالى: (وإذ قال
الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس) [المائدة: 116] ،
والمعنى: إذ يقول الله دل على ذلك قول عيسى: (ما قلت لهم
إلا ما أمرتنى به أن اعبدوا الله ربى وربكم وكنت عليهم
شهيدًا ما دمت فيهم فلما توفيتنى) [المائدة: 117] ، فدل
قوله: (فلما توفيتنى (أن هذا الكلام إنما يكون بعد وفاة
عيسى ومبعثه يوم القيامة.
- باب مَا يَسْتُرُ مِنَ الْعَوْرَةِ
/ 18 - فيه: أبو سعيد وأبو هريرة: أَنَّ الرَسُولُ (صلى
الله عليه وسلم) نَهَى عَنِ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ،
وَأَنْ يَحْتَبِيَ الرَّجُلُ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، لَيْسَ
عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ) . / 19 - وفيه: أبو هريرة
قال: (بَعَثَنِي الرسول (صلى الله عليه وسلم) نُؤَذن يوم
النحر بِمِنًى: أَنْ لا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ) .
قال أبو عبيد: (اشتمال الصماء عند العرب: أن يشتمل الرجل
بثوب فيجلل به جسده كله، ولا يرفع منه جانبًا فيخرج منه
يده، قال: وربما اضطجع فيه على هذه الحال، كأنه يذهب إلى
أنه لا يدرى لعله يصيبه شىء يريد الاحتراس منه والاتقاء
بيديه، فلا يقدر، لإدخالهما فى ثيابه، فهذا كلام العرب،
وأما تفسير الفقهاء فهو عندهم مثل
(2/30)
الاضطباع، وهو أن يشتمل بثوب واحد ليس عليه
غيره، ويرفعه من أحد جانبيه، فيضعه على منكبيه، فيبدو منه
فرجه) . إلا أن الاضطباع أن يدخل الثوب تحت يده اليمنى،
ويبرز منكبه الأيمن، وقد ذكر البخارى فى كتاب اللباس فى
حديث أبى هريرة، وأبى سعيد عن النبى تفسير اشتمال الصماء
والاحتباء؛ قال: (الصماء أن يجعل ثوبه على أحد عاتقيه
فيبدو أحد شقيه ليس عليه ثوب) ، وهو نحو ما حكاه أبو عبيد
عن الفقهاء؛ واختلف قول مالك فى اشتمال الصماء إذا كان
تحتها ثوب فمرة أجازها ومرة كرهها. والاحتباء: هو أن يحتزم
بالثوب على حقويه وركبتيه وفرجه بادٍ، كانت العرب تفعله؛
لأنه أرفق لها فى جلوسها، وفى حديث أبى سعيد، وأبى هريرة
فى اللباس قال: الاحتباء أن يحتبى فى ثوب وهو جالس ليس على
فرجه منه شىء. وقال الخطابى: الاحتباء أن يجمع ظهره ورجليه
بثوب، يقال: العمائم تيجان العرب، والحباء حيطانها، يقال:
حبْوَة، وحُبُوَة والكسر أعلى. والاحتباء على ثوب جائز؛
لأن رسول الله إنما نهى عنه إذا كان كاشفًا عن فرجه. وكره
الصلاة محتبيًا: ابن سيرين، وأجازها الحسن، والنخعى،
وعروة، وسعيد بن المسيب، وعبيد بن عمير، وكان سعيد بن جبير
يصلى محتبيًا فإذا أراد أن يركع حلّ حبوته ثم قام وركع،
وصلى التطوع محتبيًا عطاء، وعمر بن عبد العزيز.
(2/31)
واختلف العلماء فى حدِّ العورة، فقالت
طائفة: لا عورة من الرجال إلا القبل والدبر، هذا قول ابن
أبى ذئب وأهل الظاهر، وعند مالك حَدُّ العورة: ما بين
السرة إلى الركبة وهو قول أبى حنيفة، والأوزاعى، والشافعى،
وأبى ثور، وليست السُّرة والركبة عندهم بعورة غير أبى
حنيفة، فإن الركبة عنده عورة، وهو قول عطاء، وأحمد، وعند
بعض أصحاب الشافعى: السُّرة عورة. وجه القول الأول: (نهيه
عن اشتمال الصماء، وأن يحتبى فى ثوب واحد ليس على فرجه منه
شىء) ، وقوله تعالى: (قد أنزلنا عليكم لباسًا يوارى
سوءاتكم) [الأعراف: 26] ، وقال: (فبدت لهما سوءاتهما)
[الأعراف: 22] ، وقال: (يوارى سوءة أخيه) [المائدة: 31] ،
فدل أنه لا عورة غير السوءة. وحجة من قال: ما بين السُّرة
إلى الركبة عورة، قوله (صلى الله عليه وسلم) لجرهد: (الفخذ
عورة) ، ومنعهم من كشف الفخذ كمنعهم من الرعى حول الحمى.
وحجة من قال: إن السُّرة ليست بعورة أن النبى قبّل سُرة
الحسن بن على، وأن أبا هريرة سأل الحسن كشف سُرته فقبلها،
وقال: أقبل منك ما رأيت رسول الله يقبله، ولو كانت عورة ما
قَبَّلها أبو هريرة ولا مكنه الحسن منها، وقال الآخرون:
ليس هذا بحجة؛ لأن عورات الصبيان ليست بمحرمة؛ لأنه لا
يلزمهم الأحكام والحدود.
- باب الصَّلاةِ بِغَيْرِ رِدَاءٍ
/ 20 - فيه: جابر (أنه صلى فى ثوب واحد وَرِدَاؤُهُ
مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا انْصَرَفَ،
(2/32)
قُلْنَا يَا أَبَا عَبْدِاللَّهِ، تُصَلِّي
وَرِدَاؤُكَ مَوْضُوعٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، أَحْبَبْتُ أَنْ
يَرَانِي الْجُهَّالُ مِثْلُكُمْ، رَأَيْتُ النَّبِيَّ
(صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي هَكَذَا. كل من صلى بغير
رداء إذا كان عليه قميص، فلا يكره له ذلك أحد من العلماء
إلا أن مالكًا ذكر عنه ابن عبد الحكم أنه قال: لا يصلى
إمام إلا برداء إلا من ضرورة وهذا على الاستحسان فى كمال
أحوال الأئمة، ولو كان من جهة الوجوب، لكان الإمام
والمأموم فيه سواء.
- باب مَا يُذْكَرُ فِي الْفَخِذِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَجَرْهَدٍ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَحْشٍ عَنِ النَّبِيِّ (صلى
الله عليه وسلم) الْفَخِذُ عَوْرَةٌ. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ
مَالِكٍ: حَسَرَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) عَنْ
فَخِذِهِ، وَحَدِيثُ أَنَسٍ أَسْنَدُ، وَحَدِيثُ جَرْهَدٍ
أَحْوَطُ، حَتَّى يُخْرَجَ مِنِ اخْتِلافِهِمْ. وَقَالَ
أَبُو مُوسَى: غَطَّى النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم)
رُكْبَتَيْهِ حِينَ دَخَلَ عُثْمَانُ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ
ثَابِتٍ: أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ (صلى الله عليه
وسلم) وَفَخِذُهُ، عَلَى فَخِذِي فَثَقُلَتْ عَلَيَّ
حَتَّى خِفْتُ أَنْ تَرُضَّ فَخِذِي. / 21 - فيه: أنس: أن
نبى الله (صلى الله عليه وسلم) غَزَا خَيْبَرَ،
فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ،
فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرَكِبَ
أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ،
فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي
زُقَاقِ خَيْبَرَ، وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ
نَبِيِّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ حَسَرَ
الإزَارَ عَنْ فَخِذِهِ، حَتَّى إِنِّي أَنْظُرُ إِلَى
بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) :
فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ، قَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ،
خَرِبَتْ خَيْبَرُ) ، وذكر الحديث. قال المؤلف: احتج بحديث
أنس، وحديث زيد بن ثابت من قال: إن الفخذ ليست بعورة؛
لأنها لو كانت عورة يجب سترها ما كشفها النبى يوم خيبر،
ولا تركها مكشوفة بحضرة أبى بكر وعمر، وقد قال الأوزاعى:
(الفخذ عورة وليست بعورة فى الحمام) ، فدل أنها لا تقوى
عندهم قوة العورة، وإن كانوا يأمرون بسترها.
(2/33)
قال المهلب: وإنما ذلك خوف النظر إلى
العورة والذريعة إليها، فيكون معنى قوله: (الفخذ عورة) ،
على المقاربة والجوار، وقد أجمعوا أن من صلى منكشف القبل
والدبر، أن عليه الإعادة واختلفوا فيمن صلى منكشف الفخذ،
فدل أن حكمه مخالف لحكم القبل والدبر لاختلاف المعنى فى
ذلك. فإن قال قائل: لم غطى النبى ركبته حين دخل عليه عثمان
بن عفان؟ . قيل: قد بَيَّن النبى، معنى ذلك بقوله: (ألا
أستحى ممن تستحيى منه ملائكة السماء) ، وإنما كان يخص كل
واحد من أصحابه من الفضائل بما يتبين به عن غيره، ويمتاز
به عمن سواه، وإن كان قد شركه غيره من أصحابه فى معنى تلك
الفضيلة، وله النصيب الوافر منها غير أنه عليه السلام،
إنما كان يصف كل واحد من أصحابه بما هو الغالب عليه من
أخلاقه وهو مشهور فيه؛: فلما كان الحياء الغالب على عثمان
استحيا منه، وغطى ركبته بحضرته، وذكر أن الملائكة تستحيى
منه فكانت المجازاة له من جنس فعله.
- باب فِي كَمْ تُصَلِّي الْمَرْأَةُ من الثِّيَابِ؟
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَوْ وَارَتْ جَسَدَهَا فِي ثَوْبٍ
جَازَ. / 22 - فيه: عائشة قالت: (لَقَدْ كَانَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي الْفَجْرَ،
فَيَشْهَدُ مَعَهُ نِسَاءٌ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ
مُتَلَفِّعَاتٍ فِي مُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَرْجِعْنَ إِلَى
بُيُوتِهِنَّ، مَا يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ) .
(2/34)
اختلف العلماء فى عدد ما تصلى فيه المرأة
من اليثاب، فقالت طائفة: تصلى فى درع وخمار، وروى ذلك عن
ميمونة، وعائشة، وأم سلمة أزواج الرسول، ورُوى أيضًا ذلك
عن ابن عباس، وهو قول مالك، والليث، والأوزاعى، والثورى،
وأبى حنيفة، والشافعى، وقالت طائفة: إنما تصلى فى ثلاثة
أثواب: درع، وخمار، وحَقْو، وهو الإزار فى لغة الأنصار،
روى ذلك عن ابن عمر، وعبيدة، وعطاء، وقالت طائفة: تصلى فى
أربعة أثواب وهو: الخمار، والدرع، والإزار، والملحفة، وروى
ذلك عن مجاهد، وابن سيرين. وقال ابن المنذر: على المرأة أن
تستر فى الصلاة جميع بدنها سوى وجهها وكفيها سواء سترته
بثوب واحد أو أكثر، ولا أحسب ما روى عن المتقدمين فى ذلك
من الأمر بثلاثة أثواب أو أربعة إلا من طريق الاستحباب،
والله أعلم. قال غيره: لأن صلاة النساء المتلفعات مع النبى
يحتمل أن تكون بثوب واحد والمرأة كلها عورة، حاشا ما يجوز
لها كشفه فى الصلاة والحج، وذلك وجهها وكفاها فإن المرأة
لا تلبس القفازين محرمة، ولا تنتقب فى الصلاة ولا تتبرقع
فى الحج، وأجمعوا أنها لا تصلى منتقبة ولا متبرقعة، وفى
هذا أوضح دليل على أن وجهها وكفيها ليس بعورة، ولهذا يجوز
النظر إلى وجهها فى الشهادة عليها، وقال أبو بكر بن عبد
الرحمن: كل شىء من المرأة عورة حتى ظفرها، وهذا قول لا
نعلم أحدًا قاله إلا أحمد بن حنبل، وقال مالك، والشافعى:
قدم المرأة عورة، فإن صلت وقدمها مكشوفة أعادت فى الوقت
عند مالك، وكذلك إن صلت وشعرها مكشوف، وعند الشافعى تعيد
أبدًا، وقال أبو حنيفة، والثورى: قدم المرأة ليست بعورة،
فإن صلت
(2/35)
وقدمها مكشوفة لم تُعد، واختلفوا فى تأويل
قوله تعالى: (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) [النور:
31] ، فروى عن ابن عباس، وابن عمر قالا: الوجه والكفان،
وعن ابن مسعود: التبان، والقرط، والدملج، والخلخال،
والقلادة، وعلى قول ابن عباس، وابن عمر جماعة الفقهاء.
والمروط: أكسية من صوف، واحدها مرط.
- باب إِذَا صَلَّى فِي ثَوْبٍ لَهُ أَعْلامٌ وَنَظَرَ
إِلَيهَا
/ 23 - فيه: عائشة: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه
وسلم) صَلَّى فِي خَمِيصَةٍ لَهَا أَعْلامٌ، فَنَظَرَ
إِلَى أَعْلامِهَا نَظْرَةً، فَلَمَّا انْصَرَفَ، قَالَ:
اذْهَبُوا بِخَمِيصَتِي هَذِهِ إِلَى أَبِي جَهْمٍ،
وَائَتُونِى بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِي جَهْمٍ، فَإِنَّهَا
أَلْهَتْنِي آنِفًا عَنْ صَلاتِي) ، وقال مرة: (كُنْتُ
أَنْظُرُ إِلَى عَلَمِهَا وَأَنَا فِي الصَّلاةِ،
فَأَخَافُ أَنْ تَفْتِنَنِى) . قال المؤلف: النظر فى
الصلاة إلى الشىء إذا لم يقدح فى الركوع والسجود لا يفسد
الصلاة، وإن كان مكروهًا كل ما يشغل المصلى عن صلاته
ويلهيه عن الخشوع، فلما شغلته عليه السلام، عن بعض خشوعه
تشاءم بها وردها، وقال سفيان بن عيينة: إنما رد رسول الله
الخميصة إلى أبى جهم؛ لأنها كانت سبب غفلته وشغله عن ذكر
الله، كما قال: (اخرجوا عن هذا الوادى الذى أصابكم فيه
الغفلة، فإنه وادٍ به شيطان) ، قال: ولم يكن رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) ليبعث إلى غيره بشىء يكرهه لنفسه؛
ألا ترى قوله عليه السلام، لعائشة فى الضب: (إنا لا نتصدق
بما لا نأكل) ، وكان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أقوى
(2/36)
خلق الله على دفع الوسوسة، ولكن كرهها لدفع
الوسوسة كما قال لعائشة: (أميطى عنا قرامك، فإنه لا تزال
تصاويره تعرض لى فى صلاتى) . وفى ردّه (صلى الله عليه
وسلم) الخميصة تنبيه منه وإعلام أنه يجب على أبى جهم من
اجتنابها فى الصلاة مثلما وجب على النبى؛ لأن أبا جهم أحرى
أن يعرض له من الشغل بها أكثر مما خشى الرسول، ولم يُرد
النبى برد الخميصة عليه منعه من تملكها ولباسها فى غير
الصلاة، وإنما معناها كمعنى الحُلة التى أهداها لعمر بن
الخطاب، وحرَّم عليه لباسها وأباح له الانتقاع بها وبيعها.
وفيه دليل: أن الواهب والمُهدى إذا ردت عليه هديته من غير
أن يكون هو الراجع فيها، فله أن يقبلها؛ إذ لا عار عليه فى
قبولها. وفيه: أن النبى آنس أبا جهم ردها إليه بأن سأله
ثوبًا مكانها يعلمه أنه لم يرد عليه هديته استخفافًا به،
ولا كراهة لكسبه. وفيه: تكنية الإمام والعالم لمن هو دونه.
قال أبو عبيد: و (الخميصة) كساء مُرَبَّع أسود له علمان،
وقال ثعلب: (أنبجانية) ، بفتح الباء وكسرها، كل ما كثف
والتف، قالوا: شاة أنبجانية كثيرة الصوف ملتفة، وقال
الأصمعى: يقال: كساء منبجانى منسوب إلى منبج، ولا يقال:
أنبجانى، قال أبو حاتم: قلت: لم فتحت الباء وإنما نسبت إلى
منبج، قال: خرج مخرج منظرانى ومخيرانى ألا ترى أن الزيادة
فيه، والنسب مما يتغير له البناء.
(2/37)
- باب إِنْ صَلَّى فِي ثَوْبٍ مُصَلَّبٍ
أَوْ تَصَاوِيرَ هَلْ تَفْسُدُ صَلاتُهُ وَمَا يُنْهَى
عَنْ ذَلِكَ
/ 24 - فيه: أنس قال: (كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ
بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ (صلى الله
عليه وسلم) : أَمِيطِي عَنَّا قِرَامَكِ هَذَا، فَإِنَّهُ
لا تَزَالُ تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ فِي صَلاتِى) . فهذا
الباب يشبه الذى قبله؛ لأنه لما نهى عن القرام الذى فيه
التصاوير، علم أن النهى عن لباسه أشد وأوكد، وهذا كله على
الكراهية، ومن صلى بذلك أو نظر إليه، فصلاته مجزئة عند
العلماء؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يُعد الصلاة. قال
المهلب: وإنما أمر باجتناب مثل هذا لإحضار الخشوع فى
الصلاة وقطع دواعى الشغل، والقرام: ثوب صوف ملوّن، عن
الخليل.
- باب مَنْ صَلَّى فِي فَرُّوجِ حَرِيرٍ ثُمَّ نَزَعَهُ
/ 25 - فيه: عقبة بن عامر قال: (أُهْدِيَ إِلَى النَّبِيِّ
(صلى الله عليه وسلم) فَرُّوجُ حَرِيرٍ، فَلَبِسَهُ
فَصَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا
شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، وَقَالَ: لا يَنْبَغِي هَذَا
لِلْمُتَّقِينَ) . قال أبو عبيد: الفروج: القَبَاء الذى
فيه شق من خلفه، وهو من لباس الأعاجم. اختلف العلماء فيمن
صلى فى ثوب حرير، فقال الشافعى، وأبو ثور: يجزئه ويكره،
وقال ابن القاسم، عن مالك: من صلى بثوب حرير يعيد فى الوقت
إن وجد ثوبًا غيره، وعليه جُلُّ أصحابه، وقال أشهب فى كتاب
ابن المواز: لا إعادة عليه فى وقت ولا غيره.
(2/38)
وهو قول أصبغ، ورواه عبد الملك بن الحسن،
عن ابن وهب فى العتبية، واستحب ابن الماجشون لباس الحرير
فى الحرب والصلاة به للترهيب على العدو والمباهاة؛ ذكره
ابن حبيب، وقال آخرون: إن صلى بثوب حرير، وهو يعلم أن ذلك
لا يجوز أعاد الصلاة، ومن أجاز الصلاة فيه احتج بأنه لم
يُرو عن الرسول أنه أعاد الصلاة التى صلى فيه، ومن لم يجز
الصلاة فيه أخذ بعموم تحريمه عليه السلام، لباس الحرير
للرجال.
- باب الصَّلاةِ فِي الثَّوْبِ الأحْمَرِ
/ 26 - فيه: أبو جحيفة: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) فِي قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ،
وَرَأَيْتُ بِلالا أَخَذَ وَضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) ، وَرَأَيْتُ النَّاسَ يَبْتَدِرُونَ
ذَلِكَ الْوَضُوءَ، فَمَنْ أَصَابَ مِنْهُ شَيْئًا
تَمَسَّحَ بِهِ، وَمَنْ لَمْ يُصِبْ مِنْهُ شَيْئًا أَخَذَ
مِنْ بَلَلِ يَدِ صَاحِبِهِ، ثُمَّ رَأَيْتُ بِلالا أَخَذَ
عَنَزَةً، فَرَكَزَهَا، وَخَرَجَ النَّبِيُّ (صلى الله
عليه وسلم) فِي حُلَّةٍ حَمْرَاءَ، مُشَمِّرًا صَلَّى
إِلَى الْعَنَزَةِ بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ
النَّاسَ وَالدَّوَابَّ، يَمُرُّونَ مِنْ بَيْنِ يَدَيِ
الْعَنَزَةِ) . قال المهلب: فيه إباحة لباس الحمرة فى
الثياب، والرد على من كره ذلك وأنه يجوز لباس الثياب
الملونة للسيد الكبير والزاهد فى الدنيا، والحمرة أشهر
الملونات وأجل الزينة فى الدنيا، وقد قيل فى قوله تعالى:
(فخرج على قومه فى زينته) [القصص: 79] ، أنه خرج فى ثياب
حُمر، ويؤيد هذا قوله تعالى: (قل من حرم زينة الله)
[الأعراف: 32] ، فدخل فيه كل
(2/39)
زينة مباحة، وسيأتى قول من كره لباس الثياب
الحمر، ومن أجازها فى كتاب اللباس إن شاء الله.
- باب الصَّلاةِ فِي السُّطُوحِ وَالْمِنْبَرِ وَالْخَشَبِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: وَلَمْ يَرَ الْحَسَنُ بَأْسًا
أَنْ يُصَلَّى عَلَى الْجُمْدِ وَالْقَنَاطِرِ، وَإِنْ
جَرَى تَحْتَهَا بَوْلٌ أَوْ فَوْقَهَا أَوْ أَمَامَهَا،
إِذَا كَانَ بَيْنَهُمَا سُتْرَةٌ. وَصَلَّى أَبُو
هُرَيْرَةَ عَلَى ظَهْرِ الْمَسْجِدِ بِصَلاةِ الإمَامِ
وَصَلَّى ابْنُ عُمَرَ عَلَى الثَّلْجِ. / 27 - فيه: أبو
حازم: سَأَلُوا سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ
الْمِنْبَرُ؟ فَقَالَ: مَا بَقِيَ بِالنَّاسِ أَعْلَمُ
مِنِّي، هُوَ مِنْ أَثْلِ الْغَابَةِ، عَمِلَهُ فُلانٌ
مَوْلَى فُلانَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
، وَقَامَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
حِينَ عُمِلَ، وَوُضِعَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ
كَبَّرَ، وَقَامَ النَّاسُ خَلْفَهُ، فَقَرَأَ وَرَكَعَ
وَرَكَعَ النَّاسُ خَلْفَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ، ثُمَّ
رَجَعَ الْقَهْقَرَى، فَسَجَدَ عَلَى الأرْضِ، ثُمَّ عَادَ
إِلَى الْمِنْبَرِ، ثُمَّ رَكَعَ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ،
ثُمَّ رَجَعَ الْقَهْقَرَى، حَتَّى سَجَدَ بِالأرْضِ،
فَهَذَا شَأْنُهُ. قال على بن المدينى: سألنى أحمد بن
حنبل، عن هذا الحديث قال: فإنما أردت أن النبى كان أعلى من
الناس فلا بأس أن يكون الإمام أعلى من الناس لهذا الحديث،
قال: فقلت: إن سفيان بن عيينة كان يسأل عن هذا كثيرًا، فلم
تسمعه منه؟ قال: لا. / 28 - وفيه أنس: (أَنَّ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) سَقَطَ عَنْ فَرَسِ،
فَجُحِشَتْ سَاقُهُ أَوْ كَتِفُهُ، وَآلَى مِنْ نِسَائِهِ
شَهْرًا، فَجَلَسَ فِي مَشْرُبَةٍ لَهُ دَرَجَتُهَا مِنْ
جُذُوعٍ، فَأَتَاهُ أَصْحَابُهُ يَعُودُونَهُ، فَصَلَّى
بِهِمْ جَالِسًا، وَهُمْ قِيَامٌ) ، وذكر الحديث. اختلف
العلماء فى الإمام يصلى أرفع من المأمومين، فأجاز ذلك
(2/40)
الليث، والشافعى، واحتجا بهذا الحديث وزاد
الشافعى: إذا أراد الإمام تعليمهم ليقتدى به من وراءه
ويسجد على الأرض. وفيه: فلما فرغ النبى أقبل على الناس،
فقال: (أيها الناس إنما صنعتُ هذا لتأتموا بى ولتعلموا
صلاتى) . ذكره البخارى فى صلاة الجمعة وكره ذلك أبو حنيفة،
وقال: صلاتهم تامة. وقال الأوزاعى: لا يجزئ ذلك حتى يستوى
معهم بالأرض، وقال أبو يوسف: إن كان موضع الإمام أرفع بقدر
قامة فهو المكروه، وإن كان أقل فليس بمكروه. وقد قيل: إن
المنبر الذى صلى عليه الرسول كان بثلاث درجات، روى عن سهل
بن سعد، وقال مالك: لا يعجبنى إن صلى إمام على ظهر المسجد
والناس أسفل منه أو يصلى على شىء أرفع مما عليه أصحابه،
فإن فعل فعليهم الإعادة أبدًا؛ لأنهم يعبثون إلا أن يكون
ارتفاعًا يسيرًا فصلاتهم مجزئة. وقال ابن أبى زيد: قال بعض
أصحابنا: إن الشبر وعظم الذراع خفيف فى ذلك، وقال فضل بن
سلمة: وقوله: يعبثون يدل أنما ذلك إذا كان الإمام يصلى
بموضع واسع ويصلى بصلاته ناس أسفل منه، وهو يقدرون على أن
يصلوا معه فى مكانه، فأما إذا كان الموضع قد ضاق بأهله فلا
بأس أن يصلى بصلاة الإمام ناس أسفل منه، وروى أشهب عن
مالك، فيمن أتى مسجدًا مغلقًا قد امتلأ، فله أن يصلى أسفل
فى الفضاء بصلاة الإمام، وروى ابن وهب عن مالك أنه إذا صلى
إمام القوم فى السفينة وبعضهم فوقه وتحته ولم يجدوا بُدًا
منه فلا بأس.
(2/41)
قال ابن اللباد: إنما كره مالك هذا؛ لأن
بنى أمية فعلوه على وجه الكبر والجبرية فرآه من العبث ومما
يفسد الصلاة، وقال غيره: لا معنى لقول من قال: (لا يجوز
مثل هذا إلا إذا أراد أن يعلم الناس كما روى فى الحديث) ؛
لأن ذلك لو كان مُفسدًا للصلاة لم يجز أن يُفعل مرة فما
دونها ولا لتعليم ولا غيره، وإنما الاختيار أن لا يُفعل،
فإن فعل لم تفسد صلاته بدليل فعله صلى الله عليه مرةً،
وأما تحديد القامة وغيرها فمحتاج إلى توقيف، ولا بأس أن
يصلى المأموم على سطح والإمام أسفل المسجد عند الكوفيين،
وهو قول مالك فى غير الجمعة. وقال الليث: لا بأس أن يصلى
الجمعة ركعتين على ظهر المسجد وفى الدور وعلى الدكاكين،
وفى الطرق إذا اتصلت الصفوف، ورأى الناس بعضهم بعضًا حتى
يصلون بصلاة الإمام، وعن الشافعى مثله، وصلى أبو هريرة
الجمعة فوق ظهر المسجد بصلاة الإمام. وإنما ذكر حديث
المشربة فى هذا الباب وهى الغرفة؛ لأنه عليه السلام صلى
بهم على ألواحها وخشبها، وترجم (باب الصلاة على الخشب) ،
واختلف فى ذلك؛ فذكر ابن أبى شيبة قال: كان حذيفة مريضًا،
فكان يصلى قاعدًا فجعل له وسادة وجعل له لوح عليها يسجد
عليه، وكره قوم السجود على العود، روى ذلك عن ابن عمر،
وابن مسعود. قال علقمة: دخل عبد الله على أخيه عتبة يعوده
فوجده يصلى على عود فطرحه، وقال: إن هذا شىء عرض به
الشيطان، ضع وجهك على الأرض، وإن لم تستطع فأومئ إيماءً،
وكرهه الحسن وابن سيرين، وأئمة الفتوى على جواز الصلاة
عليه وحجتهم صلاته عليه السلام، على المشربة وعلى المنبر.
(2/42)
- باب إِذَا أَصَابَ ثَوْبُ الْمُصَلِّي
امْرَأَتَهُ إِذَا سَجَدَ
/ 29 - فيه: ميمونة قالت: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَأَنَا حِذَاءَهُ، وَأَنَا
حَائِضٌ، وَرُبَّمَا أَصَابَنِي ثَوْبُهُ إِذَا سَجَدَ،
قَالَتْ: وَكَانَ يُصَلِّي عَلَى الْخُمْرَةِ) . وقد تقدم
فى كتاب الوضوء جواز مباشرة الحائض للمصلى وغيره وأنها
محمولة على الطهارة فى جسمها وثيابها حتى يبدو خلاف ذلك.
وترجم له باب: الصلاة على الخمرة، قال الطبرى: الخُمرة:
مصلى صغير ينسج من سعف النخل ويزمل بالخيوط ويسجد عليه،
فإن كان كبيرًا قدر طول الرجل أو أكبر، فإنه يقال له
حينئذ: حصير، ولا يقال له: خمرة، وقال ابن دريد: هى
السجادة وجمعها خمر. ولا خلاف بين فقهاء الأمصار فى جواز
الصلاة على الخمرة إلا شىء روى عن عمر ابن عبد العزيز أنه
كان لا يصلى على الخمرة، ويؤتى بتراب فيوضع على الخمرة فى
موضع سجوده ويسجد عليه، وقال شعبة، عن حماد: رأيت فى بيت
إبراهيم النخعى حصيرًا، فقلت: أتسجد عليه؟ فقال: الأرض أحب
إلىّ، وهذا منهما على جهة المبالغة فى الخشوع لا أنهما لم
يريا السجود على الخمرة؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم)
قد صلى عليها، وقال سعيد بن المسيب: الصلاة على الخمرة
سنة، فلا يجوز لهما مخالفة سنته عليه السلام، وإنما فعلا
ذلك على الاختيار، إذ قد ثبت عنه عليه السلام، أنه كان
يباشر الأرض بوجهه فى سجوده، وقد انصرف من الصلاة وعلى
جبهته وأنفه أثر الماء والطين؛ فذلك كله مباح بسنته عليه
السلام.
(2/43)
- باب الصَّلاةِ عَلَى الْحَصِيرِ
وَصَلَّى جَابِرُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ وَأَبُو سَعِيدٍ فِي
السَّفِينَةِ قَائِمًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: (تُصَلِّى
قَائِمًا، مَا لَمْ تَشُقَّ عَلَى أَصْحَابِكَ، تَدُورُ
مَعَهَا، وَإِلا فَقَاعِدًا) . / 30 - فيه: أنس: (أَنَّ
جَدَّتَهُ مُلَيْكَةَ دَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) لِطَعَامٍ صَنَعَتْهُ لَهُ، فَأَكَلَ مِنْهُ،
ثُمَّ قَالَ: قُومُوا، فَلأصَلِّ لَكُمْ، قَالَ أَنَسٌ:
فَقُمْتُ إِلَى حَصِيرٍ لَنَا قَدِ اسْوَدَّ مِنْ طُولِ
مَا لُبِسَ، فَنَضَحْتُهُ بِمَاءٍ، فَقَامَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : وَصَفَفْتُ، وَالْيَتِيمَ
وَرَاءَهُ، وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا فَصَلَّى لَنَا
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ
انْصَرَفَ) . لا خلاف بين الفقهاء فى جواز الصلاة على
الحصير على ما ذكرناه فى الباب قبل هذا. قال المهلب: وفيه
أنه ما يوطأ ويبسط فإنه ملبوس، فمن حلف أن لا يلبس ثوبًا
وجلس عليه، فهو حانث إذا لم يخص وجهًا من اللباس. ونضح أنس
للحصير إنما كان لِيَلينَ، لا لنجاسة كانت فيه، هذا قول
إسماعيل بن إسحاق، وقال غيره: النضح طهارة لما شك فيه
فنضحه لتطيب النفس عليه، وهذا كقول عمر: اغسل ما رأيت
وانضح ما لم تر. قال المهلب: وفيه الإمامة فى النافلة،
وفيه إجابة الطعام إلى غير الوليمة، وفيه أن المرأة
المتجالة الصالحة إذا دعت إلى طعام أجيبت، وسيأتى بقية
الكلام فى هذا الحديث فى موضعه بعد هذا، إن شاء الله.
(2/44)
وأما الصلاة فى السفينة، فأجاز قوم من
السلف أن يصلوا فيها جلوسًا وهو قول الثورة وأبى حنيفة،
وقال مالك، والشافعى: لا يجوز أن يصلى قاعدًا من يقدر على
القيام فى سفينة ولا غيرها.
- باب الصَّلاةِ عَلَى الْفِرَاشِ
وَصَلَّى أَنَسٌ عَلَى فِرَاشِهِ. وَقَالَ كُنَّا نُصَلِّي
مَعَ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَيَسْجُدُ
أَحَدُنَا عَلَى ثَوْبِهِ. / 31 - فيه: عائشة أنها قالت:
(كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ، فَإِذَا سَجَدَ
غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا قَامَ
بَسَطْتُهُمَا، قَالَتْ: وَالْبُيُوتُ يَوْمَئِذٍ لَيْسَ
فِيهَا مَصَابِيحُ) . / 32 - وقالت مرة: (أَنَّ النَّبِّى
كَانَ يُصَلِّي - وَهِيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ -
عَلَى فِرَاشِ أَهْلِهِ اعْتِرَاضَ الْجَنَازَةِ) . / 33 -
وقال عروة: (أَنَّ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم) كَانَ
يُصَلِّي، وَعَائِشَةُ - مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْقِبْلَةِ - عَلَى الْفِرَاشِ الَّذِي يَنَامَانِ
عَلَيْهِ) . قال المؤلف: الصلاة جائزة على كل شىء طاهر
فراشًا كان أو غيره. وقد اختلف العلماء فى اختيارهم بعض ما
يصلى عليه دون غيره، فروى عن عمر بن الخطاب، رضى الله عنه،
أنه صلى على عبقرى وهى الطنفسة، وعن على بن أبى طالب، وابن
عباس، وابن مسعود، وأنس أنهم صلوا على المسوح، وصلى ابن
عباس، وجابر بن عبد الله، وأبو الدرداء، والنخعى، والحسن
على طنفسة.
(2/45)
وصلى قيس بن عبادة على لِبْدِ دابة، وقال
الثورى: يصلى على البساط والطنفسة واللِّبْد، وهو قول أبى
حنيفة، والشافعى، وروى عن ابن مسعود أنه لا يسجد إلا على
الأرض، وعن عروة مثله، وكرهت طائفة الصلاة إلا على الأرض
أو نباتها، روى ذلك عن جابر بن زيد وقال: أكره الصلاة على
كل شىء من الحيوان، وأستحب الصلاة على كل شىء من نبات
الأرض، وهو قول مجاهد، وقال قتادة: قال سعيد بن المسيب:
الصلاة على الطنفسة محدث، وقاله ابن سيرين أيضًا، وقال
مالك فى بساط الصوف والشعر: إذا وضع المصلى جبهته ويديه
على الأرض فلا أرى بالقيام عليها بأسًا، وعن عطاء مثله.
وقال مغيرة: قلت لإبراهيم حين ذكر كراهية الصلاة على
الطنفسة: إن أبا وائل يصلى عليها، قال: أما إنه خير منى.
وفيه من الفقه: أن المرأة لا تبطل صلاة من صلى إليها ولا
من مرت بين يديه، وهو قول جمهور الفقهاء ومعلوم أن
اعتراضها بين يديه أشدّ من مرورها. وقولها: (ورجلاى فى
قبلته فإذا سجد غمزنى) ، فيه دليل على أن الملامسة باليد
لا تنقض الطهارة؛ لأن الأصل فى الرِّجْل أن تكون بلا حائل،
وكذلك اليد حتى يثبت الحائل، وزعم الشافعى أن غمز رسول
الله لها كان على ثوب وهو بعيد؛ لأنه يقول: إن الملامسة
تنقض الوضوء وإن لم تكن معها لذة إذا أفضى بيده إلى جسم
امرأته، وقد تقدم اختلافهم فى الملامسة فأغنى عن إعادته.
وقول عائشة: (والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح) ، يدل أنه
إذْ حدثت بهذا الحديث كانت المصابيح فى بيوتهم؛ لأن الله
فتح عليهم الدنيا بعده (صلى الله عليه وسلم) فوسعوا على
أنفسهم حين وسع الله عليهم.
(2/46)
- باب السُّجُودِ عَلَى الثَّوْبِ فِي
شِدَّةِ الْحَرِّ
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْقَوْمُ يَسْجُدُونَ عَلَى
الْعِمَامَةِ وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ. /
34 - فيه: أنس: (كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ (صلى
الله عليه وسلم) فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ
شِدَّةِ الْحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ) . واختلف
العلماء فى السجود على الثوب من شدة الحر والبرد، فرخص فى
ذلك عمر ابن الخطاب، وعطاء، وطاوس، والنخعى، والشعبى،
والحسن، وهو قول مالك، والأوزاعى، والكوفيين، وأحمد،
وإسحاق، واحتجوا بهذا الحديث، وقال الشافعى: لا يجزئه
السجود على الجبهة ودونها ثوب إلا أن يكون جريحًا، ورخص فى
وضع اليدين على الثوب من شدة الحرِّ والبرد. واختلفوا فى
السجود على كور العمامة، فرخص فيه: ابنُ أبى أوفى، والحسن،
ومكحول، وسعيد بن المسيب، والزهرى، وهو قول أبى حنيفة،
والأوزاعى، وقال مالك: أكرهه ويجوز، وقال ابن حبيب: هذا
فيما خف من طاقاتها، فأما ما كثر فهو كمن لم يسجد، وكره
على، وابن عمر، وعبادةُ السجود عليها، وعن النخعى، وابن
سيرين، وعبيدة مثله. وقال الشافعى: لا يجزئ السجود عليها،
وقال أحمد: لا يعجبنى إلا فى الحر والبرد، واحتج أصحاب
الشافعى: بأنه لما لم يقم المسح على العمامة مقام مسح
الرأس وجب أن يكون السجود كذلك. قال ابن القصار: والجواب
أن الفرض فى السجود: التذلل
(2/47)
والخشوع، فيكون العضو على الأرض وهو يحصل
بحائل وبغير حائل، على أن اعتبارهم يفسده الرجلين؛ لأنه
يسجد عليهما فى اللفافة والمسح عليهما لا يجوز، وقد أجمعوا
أنه يجوز السجود على الركبتين والقدمان مستورة بالثياب،
وهى بعض الأعضاء التى أمر المصلى بالسجود عليها، فكذلك
سائر أعضاء السجود إلا ما أجمعوا عليه من كشف الوجه. فإن
قالوا: لو جوزنا السجود على كور العمامة على حصير لجوزنا
الجمع بين بدلين أحدهما الحصير الذى هو بدل الأرض والآخر
العمامة التى هى بدل الجبهة ولا يصح الجمع بين بدلين فى
موضع، ألا ترى أن التيمم بدل الماء ومسح الخفين بدل
الرجلين، ولا يجوز الجمع بينهما، قيل: هذا ساقط لأننا لا
نقول: إن الحصير بدل من الأرض، وإن العمامة بدل من الجبهة،
بل هو مخير إن شاء باشر بجبهته الأرض، وإن شاء بحائل على
جبهته وعلى الأرض، والمسح على الخفين هو مخير فيه أيضًا إن
شاء مسح، وإن شاء غسل كالسجود، وليس التيمم كذلك وليس
بدلاً، وكل حائل جاز السجود عليه منفصلاً جاز متصلاً،
دليله: الركبتان والقدمان. وأجمع الفقهاء أنه يجوز السجود
على اليدين فى الثياب، وإنما كره ذلك ابن عمر، وسالم، وبعض
التابعين، وسيأتى بعض هذا المعنى فى باب: لا يكف شعرًا ولا
ثوبًا فى الصلاة بعد هذا، إن شاء الله.
(2/48)
- باب إِذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ
/ 35 - فيه: حُذَيْفَةَ: (أنه رَأَى رَجُلاً لا يُتِمُّ
رُكُوعَهُ وَلا سُجُودَهُ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ
لَهُ حُذَيْفَةُ: مَا صَلَّيْتَ، قَالَ: وَأَحْسِبُهُ،
قَالَ: لَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غَيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ)
. قال المهلب: قوله: (ما صليت) ، يعنى صلاة كاملة، ونفى
عنه العمل؛ لقلة التجويد فيه، كما تقول للصانع إذا لم
يجود: ما صنعت شيئًا، يريدون الكمال، ومثله قول الرسول
للذى لم يحسن الصلاة: (ارجع فصل فإنك لم تصل) ، وإنما نقص
من صلاته الطمأنينة فى الركوع والسجود وهى من كمال الصلاة.
وقوله: (لو متَّ متَّ على غير سنة محمد) ، يدل أن
الطمأنينة سنة، وسيأتى تمام هذا المعنى فى أبواب الركوع
والسجود.
- باب الصَّلاةِ فِي النِّعَالِ
/ 36 - فيه: أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قال: (كَانَ النَّبِيُّ
(صلى الله عليه وسلم) يُصَلِّي فِي نَعْلَيْهِ) . قال
المؤلف: معنى هذا الحديث عند العلماء إذا لم يكن فى
النعلين نجاسة فلا بأس بالصلاة فيهما، فإن كان فيهما نجاسة
فليمسحهما وليصلى فيهما. وقد روى هذا المعنى عن النبى، روى
حماد بن سلمة قال: حدثنا أبو نعامة السعدى، عن أبى نضرة،
عن أبى سعيد الخدرى، قال: (بينما رسول الله يصلى إذ خلع
نعليه فوضعهما على يساره، فلما رأى الناس ذلك ألقوا
نعالهم، فلما قضى رسول الله صلاته، قال: (ما حملكم على
إلقائكم نعالكم؟) ، قالوا: رأيناك ألقيت
(2/49)
نعليك فألقينا، قال: (إن جبريل أخبرنى أن
فيهما أذى، أو قذرًا، فألقيتهما فإذا جاء أحدكم إلى المسجد
فلينظر، فإن كان فيهما أذى أو قذرًا فليمسحه وليصل فيهما)
. واختلف العلماء فى تطهير النعال والخفين من النجاسات،
فقالت طائفة: إذا وطئ القذر الرطب يجزئه أن يمسحه بالتراب
ويصلى فيه هذا قول الأوزاعى، وأبى ثور. وقال أحمد فى السيف
يصيبه الدم، فيمسحه وهو حار: يصلى فيه إذا لم يبق فيه أثر،
وكان عروة، والنخعى يمسحان الروث من نعالهما ويصليان فيها.
وقال الأعمش: رأيت يحيى بن وثاب، وعبد الله بن عياش
وغيرهما يخوضون الماء قد خالطه السرقين والبول، فإذا
انتهوا إلى باب المسجد لم يزيدوا على أن ينفضوا أقدامهم ثم
يدخلون فى الصلاة. وقالت طائفة: لا يجزئه أن يطهر القذر
الرطب إلا بالماء، وإن كان يابسًا أجزأه حَكُّهُ، هذا قول
مالك وأبى حنيفة، وقال محمد: لا يجزئه فى اليابس أيضًا حتى
يغسل موضعه من الخف والنعل وغيره إلا المنى خاصة، وقال
الشافعى: لا يطهر النجاسات كلها إلا الماء فى النعل والخف
وغيره. واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا بحديث سعيد
المقبرى، عن القعقاع بن حكيم، عن عائشة قالت: (سألت رسول
الله عن الرجل يطأ بنعليه
(2/50)
الأذى قال: (التراب له طهور) ، وحديث سعيد
بن أبى سعيد: أن امرأة سألت عائشة عن المرأة تجرُّ ذيلها
فى المكان القذر، قالت: (يطهره ما بعده) . وقال ابن أبى
زيد: قال أبو بكر بن اللباد: قال بعض أصحابنا: معنى قوله:
(يطهره ما بعده) ، أنها تسحب ذيلها على أرض ندية نجسة، وقد
رخص لها أن ترخيه بعد ذلك على أرض طاهرة فذلك له طهور، قال
مالك: معناه عندنا فى القشب اليابس الذى لا يتعلق منه شىء،
وقد سمح فى الرطب من أرواث الدواب وأبوالها لما يلحق الناس
من المضرة فى غسله فى كل وقت، إذ لا تخلو الطرق من أرواث
الدواب وأبوالها. وقال الداودى: قال بعض أصحاب مالك بظاهر
الحديث، ورأى ذلك فى الرطب واليابس، وذكر غير الداودى أنه
قول ابن وهب قال: وهذا قول أبى حنيفة وأصحابه؛ لأنه يقول:
إن النجاسات يجوز إزالتها بكل ما أذهب عينها، والماء وغيره
فى ذلك سواء، واحتج من قال: إنه فى القذر الرطب: بأن قوله
(صلى الله عليه وسلم) : (يطهره ما بعده) ، يدل أنها جرته
على رطب، وإلا فنحن عالمون أنها إذا جرته على يابس لم يعلق
به شىء من النجس، فكيف يخبر أنه قد طهر ما لم يحل فيه
نجاسة.
- باب الصَّلاةِ فِي الْخِفَافِ
/ 37 - فيه: جَرِيرَ: (أنه بَالَ، وتَوَضَّأَ، وَمَسَحَ
عَلَى خُفَّيْهِ، ثُمَّ صَلَّى، فَسُئِلَ، فَقَالَ:
(2/51)
رَأَيْتُ الرسولَ (صلى الله عليه وسلم)
صَنَعَ مِثْلَ هَذَا، وكَانَ يُعْجِبُهُمْ؛ لأنَّ جَرِيرًا
كَانَ مِنْ آخِرِ مَنْ أَسْلَمَ) . / 38 - وفيه: حديث
الْمُغِيرَةِ: (أن نَبِيَّ الله مَسَحَ عَلَى خُفَّيْهِ ثم
صَلَّى) . وهذا الباب كالذى قبله إذا كانت الخفاف طاهرة من
الأقذار والأذى، فحينئذ يجوز المسح عليها والصلاة فيها،
وإن كان فيها قذر فحكمها حكم النعلين المذكورة فى الباب
قبل هذا، هذا مذهب العلماء فى ذلك. وأما إعجابهم بأن
جريرًا كان من آخر من أسلم؛ فلأن بعض الناس يزعم أن المسح
على الخفين منسوخ بالغسل فى آية الوضوء التى فى المائدة،
وقد روى فى حديث جرير أنه كان يعجبهم؛ لأنه أسلم بعد نزول
المائدة، فاستعمال جرير للمسح على الخفين بعد نزول المائدة
يدل على أن المسح غير منسوخ بل هو سنة، وقد ذكرت هذا
المعنى فى كتاب الوضوء فى باب: المسح على الخفين.
- فَضْلِ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ
/ 39 - فيه: أنس: قال نبى الله: (مَنْ صَلَّى صَلاتَنَا،
وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا،
فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ
وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلا تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي
ذِمَّتِهِ) . / 40 - وقال: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ
النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ،
فَإِذَا قَالُوهَا، وَصَلَّوْا صَلاتَنَا، وَاسْتَقْبَلُوا
قِبْلَتَنَا، وَذَبَحُوا ذَبِيحَتَنَا، فَقَدْ حَرُمَتْ
عَلَيْنَا دِمَاؤُهُمْ وَأَمْوَالُهُمْ إِلا بِحَقِّهَا،
وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ) .
(2/52)
هذا يدل على تعظيم شأن القبلة وهى من فرائض
الصلاة، والصلاة أعظم قربات الدين، ومن ترك القبلة متعمدًا
فلا صلاة له، ومن لا صلاة له فلا دين له. قال الطبرى: فإن
قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد علمت أن أجناسًا من أهل
الكفر أمرنا بقتالهم وهم يشهدون أن لا إله إلا الله. قيل:
قد جاء فى بعض طرق هذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى
يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) ، وحديث
هذا الباب إنما قاله عليه السلام، فى حال قتاله لأهل
الأوثان الذين كانوا لا يقرون بتوحيد الله، وكانوا إذا قيل
لهم: لا إله إلا الله يستكبرون، فدعاهم النبى (صلى الله
عليه وسلم) إلى الإقرار بالوحدانية وخلع ما دونه من
الأوثان، فمن أقر بذلك منهم كان فى الظاهر داخلاً فى صبغة
الإسلام، وقاتل آخرين من أهل الكفر كانوا يوحدون الله غير
أنهم كانوا ينكرون نبوة محمد فقال: (أمرت أن أقاتل الناس
حتى يقولوا: لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله) ، وذلك
أن كفرهم كان جحدًا بالنبوة فمن أقر بما عليه قوتل، فقد
حرم دمه وماله إلا بظهور نقض شرائط ما أقرَّ به بعد
الإقرار بجملته، وذلك هو الحق الذى قال (صلى الله عليه
وسلم) : (إلا بحقها) ، ولو أن أهل الأوثان وَحَّدَ بعضهم
وشهد أن لا إله إلا الله، وحكم له بحكم الإسلام فى منع
نفسه وماله، ثم عرضت عليه شرائع الإسلام بعد ذلك، فامتنع
من الإقرار برسول الله كان لا شك بالله
(2/53)
كافرًا، وعاد حربيًا، وكذلك الذى أقر بنبوة
محمد لو أنكر شيئًا من الفرائض حلّ دمه وعاد حربيًا
كافرًا.
- باب قِبْلَةِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَأَهْلِ الشَّأْمِ
وَالْمَشْرِقِ لَيْسَ فِي الْمَشْرِقِ وَلا فِي
الْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ
، لِقَوْلِ الرَّسُول: (لا تَسْتَقْبِلُوا الْقِبْلَةَ
بِغَائِطٍ أَوْ بَوْلٍ، وَلَكِنْ شَرِّقُوا أَوْ
غَرِّبُوا) . / 41 - فيه: أبو أيوب الأنصارى أن نبى الله
قَالَ: (إِذَا أَتَيْتُمُ الْغَائِطَ، فَلا تَسْتَقْبِلُوا
الْقِبْلَةَ، وَلا تَسْتَدْبِرُوهَا، وَلَكِنْ شَرِّقُوا
أَوْ غَرِّبُوا) . قَالَ أَبُو أَيُّوبَ: فَقَدِمْنَا
الشَّامَ، فَوَجَدْنَا مَرَاحِيضَ بُنِيَتْ قِبَلَ
الْقِبْلَةِ، فَنَنْحَرِفُ، وَنَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. قال
المؤلف: قوله: باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق،
يعنى: وقبلة مشرق الأرض كلها إلا ما قابل مشرق مكة من
البلاد التى تكون تحت الخط المار عليها من المشرق إلى
المغرب، فحكم مشرق الأرض كلها كحكم مشرق أهل المدينة
والشام فى الأمر بالانحراف عند الغائط؛ لأنهم إذا شرقوا أو
غربوا لم يستقبلوا القبلة ولم يستدبروها، وهؤلاء أمروا
بالتشريق والتغريب واستعمال هذا الحديث. وأما ما قابل مشرق
مكة من البلاد التى تكون تحت الخط المارِّ عليها من مشرقها
إلى مغربها، فلا يجوز لهم استعمال هذا الحديث، ولا يصح لهم
أن يشرقوا ولا أن يغربوا؛ لأنهم إذا شرقوا استدبروا القبلة
وإذا غربوا استقبلوا، وكذلك من كان موازيًا لمغرب مكة إن
غرب استدبر القبلة وإن شرق استقبلها، وإنما ينحرف إلى
الجنوب أو الشمال،
(2/54)
فهذا هو تغريبه وتشريقه، ولم يذكر البخارى
مغرب الأرض كلها؛ إذ العلة فيها مشتركة مع المشرق فاكتفى
بذكر المشرق عن المغرب؛ لأن المشرق أكبر الأرض المعمورة
وبلاد الإسلام فى جهة مغرب الشمس قليل. وتقدير الترجمة:
باب قبلة أهل المدينة وأهل الشام والمشرق والمغرب، ليس فى
المشرق ولا فى المغرب يعنى أنهم عند الانحراف للتشريق
والتغريب ليسوا مواجهين القبلة ولا مستدبرين لها. فإن قال
قائل: (كيف يكون قوله: ليس فى المشرق والمغرب) ، بمعنى
التشريق والتغريب؟ . قيل: هذا صحيح فى لغة العرب ومعروف
عندهم. أنشد ثعلب فى المجالس: أبعد مغربهم نجدًا وساحتها
أرجو من الدمع تغييضًا وإقلاعًا قال ثعلب: معناه أبعد
تغريبهم. وحمل أبو أيوب الحديث على العموم فى الصحارى
وغيرها، وخالفه غيره لحديث ابن عمر، وقد تقدم ما للعلماء
فى ذلك فى كتاب الطهارة فأغنى عن إعادته.
- باب قَوْلِهِ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى) [البقرة 125]
/ 42 - فيه: ابن عمر: (أن النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم)
قَدِمَ إلى الْبَيْتِ فطاف به سَبْعًا، وَصَلَّى خَلْفَ
الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ) . / 43 - وفيه: أن بلالاً قال:
(صَلَّى النَّبِيُّ رَكْعَتَيْنِ فِي الْكَعْبَةِ بَيْنَ
السَّارِيَتَيْنِ اللَّتَيْنِ عَلَى يَسَارِهِ، إِذَا
دَخَلْتَ، ثُمَّ خَرَجَ، فَصَلَّى فِي وَجْهِ الْكَعْبَةِ
رَكْعَتَيْنِ) .
(2/55)
/ 44 - وفيه: ابْنَ عَبَّاسٍ: (لَمَّا
دَخَلَ الرسول الْبَيْتَ دَعَا فِي نَوَاحِيهِ كُلِّهَا،
وَلَمْ يُصَلِّ، حَتَّى خَرَجَ مِنْهُ، فَلَمَّا خَرَجَ،
رَكَعَ رَكْعَتَيْنِ فِي قُبُلِ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ:
هَذِهِ الْقِبْلَةُ) . اختلف أهل التأويل فى قوله:
(واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى) [البقرة: 125] ، فقال ابن
عباس: الحج كله مقام إبراهيم، وقال مجاهد: الحرم كله مقام
إبراهيم، وقال عطاء: مقام إبراهيم: عرفة والمزدلفة،
والجدار، والجمار فى أخرى، وقال السُدى: هو الحجر بعينه
الذى وقف عليه إبراهيم. واختلفوا فى قوله: (مصلى (، فقال
مجاهد: مَدْعَى، كأنه أخذه من صليت بمعنى دعوت، وقال
الحسن: قبلة، وقال قتادة والسدى: أمروا أن يصلوا عنده. قال
الطحاوى: ولما اختلفوا فى تأويل هذه الآية، واختلفت الآثار
فى صلاته عليه السلام، فروى ابن عمر أنه عليه السلام، صلى
عند المقام ركعتين، وقال بلال: إنه صلى فى الكعبة ثم خرج
فصلى فى وجه الكعبة ركعتين، وقال ابن عباس: إنه صلى ركعتين
فى قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة، أردنا أن نعلم الصحيح من
ذلك، فوجدنا ابن عباس قال: الحج كله مقام إبراهيم، وقال
مجاهد: الحرم كله، ووجدنا من صلى إلى الكعبة من الجهات
الثلاث التى لا تقابل مقام إبراهيم، فقج أدى فرضه علمنا أن
الفرض فى القبلة إنما هو البيت لا مقام إبراهيم، ويشهد
لذلك قول ابن عباس أنه صلى حين صلى
(2/56)
خارج البيت قبل الكعبة، وقال: هذه القبلة،
لم يستقبل المقام، وكذلك حين صلى فى البيت على ما رواه
بلال لم يستقبل المقام، وإنما يكون المقام قبلة إذا جعله
المصلِّى بينه وبين القبلة على ما جاء فى حديث ابن عمر،
وأجمع العلماء أن الكعبة كلها قبلة من أى ناحية استقبلت.
وأما اختلاف الآثار أنه صلى فى البيت وأنه لم يصل، فالآثار
أنه صلى أكثر، ولو تساوت فى الكثرة لكان الأخذ بالمثبت
أولى من النافى على ما يقوله العلماء فى الشهادات. فقد روى
أنه عليه السلام صلى فى البيت غير بلال جماعة منهم: أسامة
بن زيد، وعمر ابن الخطاب، وجابر، وشيبة بن عثمان، وعثمان
بن طلحة، من طرقٍ حسان ذكرها الطحاوى كلها فى شرح معانى
الآثار. وقال المهلب: ويحتمل أن يكون عليه السلام دخل
البيت مرتين، فالمرة الواحدة صلى فيه، والمرة الأخرى دعا
ولم يصل، فلم تتضاد الأخبار فى ذلك. وقد اختلف العلماء فى
الصلاة فى البيت وعلى ظهر الكعبة، فقال أبو حنيفة،
والشافعى: يصلى فيه الفريضة والنافلة، وقال مالك: لا يصلى
فيه الفريضة ولا ركعتى الطواف الواجب، فإن صلى أعاد فى
الوقت، ويجوز أن يصلى فيه النافلة، وقال الطبرى: لا تصلى
فيه فريضة ولا نافلة، وحجة مالك قوله تعالى: (وحيث ما كنتم
فولوا وجوهكم شطره) [البقرة: 144، 150] ، وهى قبالته، ومن
صلى فى جوف الكعبة لم يقابل شطرها؛ لأنه يحصل مستقبلاً
للبعض مستدبرًا للبعض ولا تحصل كلها قبالته إلا أن يكون
خارجًا منها.
(2/57)
وحجة أبى حنيفة، والشافعى أنه من صلى
خارجًا منها، فإنه يستقبل بعضها، وصلاته جائزة بإجماع؛ لأن
ما عن يمين ما استقبل من البيت وما عن يساره ليس هو
مستقبله، فلم يتعبد باستقبال كل جهاته، فكان النظر على ذلك
أن كل من صلى فيه، فقد استقبل إحدى جهاته وترك غيرها، وما
ترك من ذلك فهو فى حكم ما كان عن يمينه وشماله إذا كان
خارجًا منه، فثبت قول من أجاز الصلاة فيها، هذا قول أبى
جعفر الطحاوى.
- باب التَّوَجُّهِ نَحْوَ الْقِبْلَةِ حَيْثُ كَانَ
وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه
وسلم) : (اسْتَقْبِلِ الْقِبْلَةَ وَكَبِّرْ) . / 45 -
فيه: البراء: (صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ
سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُوَجَّهَ
إِلَى الْكَعْبَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: (قَدْ نَرَى
تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ) [البقرة 144] ،
فَتَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ، وَقَالَ السُّفَهَاءُ
مِنَ النَّاسِ - وَهُمُ الْيَهُودُ -: (مَا وَلاهُمْ عَنْ
قِبْلَتِهِمِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) [البقرة 142]
الآية، فَصَلَّى مَعَ النَّبِيِّ رَجُلٌ، ثُمَّ خَرَجَ
بَعْدَ مَا صَلَّى، فَمَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الأنْصَارِ
فِي صَلاةِ الْعَصْرِ يصلون نَحْوَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ،
فَقَالَ: هُوَ يَشْهَدُ أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُولِ
اللَّهِ، وَأَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَ الْكَعْبَةِ
فَتَحَرَّفَ الْقَوْمُ، حَتَّى تَوَجَّهُوا نَحْوَ
الْكَعْبَةِ) . / 46 - وفيه: جَابِرِ قَالَ: (كَانَ نبى
اللَّهِ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيْثُ تَوَجَّهَتْ
به، فَإِذَا أَرَادَ الْفَرِيضَةَ، نَزَلَ، فَاسْتَقْبَلَ
الْقِبْلَةَ) . / 47 - وفيه: ابن مسعود قال: صلى النبى،
عليه السلام، قال إبراهيم:
(2/58)
لا أَدْرِي أزَادَ أَوْ نَقَصَ - فَلَمَّا
سَلَّمَ، قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي
الصَّلاةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: (وَمَا ذَاكَ؟) قَالُوا:
صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ،
وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ
سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ:
(إِنَّهُ، لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاةِ شَيْءٌ
لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ
مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ
فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاتِهِ،
فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ، فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ
يُسَلِّمْ، ثُمَّ ليَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ) . قال المؤلف:
قال ابن جريج: صلى نبى الله أول ما صلى إلى الكعبة، ثم صرف
إلى بيت المقدس، فصلت الأنصار إلى نحو بيت المقدس قبل
قدومه المدينة بثلاث حجج، وصلى بعد قدومه ستة عشر شهرًا،
ثم وجهه الله إلى الكعبة البيت الحرام. وروى أبو عوانة عن
سليمان، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: (صلى رسول الله نحو
بيت المقدس وهو بمكة والكعبة بين يديه، وبعدما هاجر إلى
المدينة ستة عشر شهرًا ثم صرف إلى الكعبة) . وقال ابن
إسحاق: (كانت قبلة رسول الله بمكة إلى الشام، وكانت صلاته
بين الركن اليمانى والركن الأسود، ويجعل الكعبة بينه وبين
الشام) . وقال على بن أبى طلحة، عن ابن عباس: (أول ما نسخ
من القرآن القبلة، وذلك أن رسول الله لما هاجر إلى
المدينة، وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله أن يستقبل بيت
المقدس، ففرحت اليهود، فاستقبلها رسول الله بضعة عشر
شهرًا، ثم انصرف إلى الكعبة) . ففى خبر على بن أبى طلحة،
عن ابن عباس أنه عليه السلام، لم يصل إلى بيت المقدس إلا
بالمدينة خلاف ما فى خبر مجاهد عنه، وخلاف
(2/59)
ما قال ابن جريج، وخبر مجاهد أولى بالصواب؛
لأن ابن أبى طلحة لم يسمع من ابن عباس. وقال قتادة: كان
نبى الله يقلب وجهه إلى السماء، يحب أن يصرفه الله إلى
الكعبة، حتى صرفه الله إليها، فأنزل تعالى: (قد نرى تقلب
وجهك فى السماء (إلى) المسجد الحرام) [البقرة: 144] ،
فارتاب اليهود، وقالوا: (ما ولاهم عن قبلتهم التى كانوا
عليها) [البقرة: 142] ، يعنون بيت المقدس، فأنزل الله: (قل
لله المشرق والمغرب) [البقرة: 142] ،) وما جعلنا القبلة
التى كنت عليها (يعنى: مكة،) إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن
ينقلب على عقبيه) [البقرة: 143] . وأجمع العلماء أن المراد
بقوله تعالى: (فول وجهك شطر المسجد الحرام) [البقرة: 149]
، أنه استقبال الكعبة، وأن على المسلمين استقبالها فى
صلواتهم إذا كانوا يعاينوها، والتوخى لاستقبالها وطلب
الدلائل عليها إذا كانوا غائبين عنها، وسيأتى ما فى انحراف
القوم فى الصلاة إلى الكعبة من الفقه بعد هذا، إن شاء
الله. وأما قوله عليه السلام، فى حديث ابن مسعود: (إذا شك
أحدكم فى صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه) ، فإن العلماء
اختلفوا فى تأويله، فذهبت طائفة إلى أنه يريد بالتحرى
البناء على أكثر ظنه، ومعنى ذلك عندهم أنه إن كان أكثر ظنه
أنه صلى أربعًا فى الأغلب يسلم ويسجد، وإن كان لا يدرى
أثلاثًا صلى أم أربعًا، ولم يكن أحدهما أغلب فى قلبه من
الآخر بنى على الأقل، وأتى بركعة حتى يعلم يقينًا أنه أدى
ما عليه، وروى هذا عن ابن مسعود، وابن
(2/60)
عمر، وأبى هريرة، وأنس، وأبى سعيد الخدرى،
والنخعى، وهو قول أبى حنيفة وأصحابه، والأوزاعى، إلا أن
أبا حنيفة قال: إن كان ذلك أول ما عرض له، فليستأنف صلاته
ولا يتحّر، وإن وقع له كثيرًا تحرّى. وذهبت طائفة إلى أن
معنى قوله: (فليتحرى الصواب) البناء على اليقين كقوله (صلى
الله عليه وسلم) فى حديث أبى سعيد الخدرى: (إذا شك أحدكم
فلم يدر أصلى ثلاثًا أم أربعًا، فليصل ركعة، ثم يسجد
سجدتين وهو جالس، فإن كانت تلك الركعة خامسةً شفعها
بالسجدتين، وإن كانت رابعةً كانتا ترغيمًا للشيطان) ، رواه
سليمان بن بلال، عن عطاء بن يسار، عن أبى سعيد الخدرى،
رُوى هذا القول عن على بن أبى طالب، وابن عمر، وعن سالم،
والقاسم، والحسن، ومكحول، وهو قول مالك، والشافعى. قال ابن
القصار: والحجة لهذا القول أن التحرى عندنا هو القصد إلى
الصواب وطلبه حتى يكون البناء على اليقين، ألا تراه عليه
السلام، قال: (لا يتحر أحدكم بصلاته طلوع الشمس ولا
غروبها) ، أى: لا يقصد ذلك، والتحرى رجوع إلى اليقين؛ ألا
ترى أنه لو شك هل صلى أم لا رجع إلى يقينه وصلى، ولو شك فى
صلاة من يوم وليلة لا يدرى أيما صلاة هى لم يجزئه التحرى،
ورجع إلى يقينه فصلى خمس صلوات، فكان النظر على هذا أن
يكون كذلك فى كل شىء من صلاته وعليه أن يأتى به ليؤدى
صلاته بيقين، فكان حديث أبى سعيد تفسيرًا لحديث ابن مسعود.
وقال الكوفيون: قوله: (فليتحر الصواب) ، يوجب العمل
بالتحرى وإلا انتفى الحديث، والواجب العمل بالأحاديث
واستعمالها، ووجه
(2/61)
استعمال التحرى إذا كان له رأيان، أحدهما
أغلب فى قلبه من الآخر عمل به ويجزئ ذلك، وإذا لم يكن له
رأيان أحدهما أغلب عنده من الآخر، وجب البناء على الأقل
على ما فى حديث أبى سعيد، فصار كل واحد من الحديثين له
معنى غير معنى صاحبه، وهكذا تستعمل الأحاديث ولا تتضاد.
وقال محمد بن جرير: إن حديث ابن مسعود فى التحرى، وحديث
البناء على اليقين لا يخالف واحد منهما صاحبه، وذلك أن
أمره عليه السلام بالبناء على اليقين، والأخذ بالاحتياط
ليس فيه إعلام أنه من بنى على الأغلب عنده أنه قد صلى أنها
لا تجزئه صلاته، فإن احتاط للشك، فبنى على اليقين فهو أفضل
وأسلم لدينه، وإن بنى على أكثر رأيه متحريًا فى ذلك الأغلب
عنده لم يكن مخطئًا فى فعله؛ لأن كل مصلٍ إنما كلف أن يعمل
بما عنده من علمه، لا على إحاطة العلم بيقينه ذلك، فلو كلف
اليقين من العلم دون الظاهر لم يكن لأحد صلاة إذ لا سبيل
لأحد إلى يقين العلم بذلك. وذلك أن الله أمر عباده بالصلاة
فى الثياب الطاهرة والتطهر بالمياه الطاهرة، ولا خلاف بين
سلف الأمة وخلفها أنهم لم يكلفوا فى شىء من ذلك إحاطة
العلم بيقينه، فكذلك عدد الصلاة إنما كلف فى ذلك العلم
الذى هو عنده، فإن بنى على العلم الظاهر الذى هو عنده
أجزأه، وإن أخذ بالاحتياط فبنى على اليقين، فهو أفضل له
إذا كان له سبيل إلى الوصول إلى يقين ذلك، وإن لم يكن له
سبيل إليه عمل على الأغلب من ظاهر علمه، وكذلك القول فى
جميع أحكام الدين، ومن أبى شيئًا من ذلك سُئل عن المصلى فى
موضع لا يعلمه طاهرًا ولا نجسًا إلا علمًا ظاهرًا، وعن من
توضأ بماء لا يعلمه إلا
(2/62)
كذلك، فإن زعم أن عليه الإعادة خرج من قول
جميع الأئمة، وإن قال: صلاته ماضية سئل أيفرق بينه وبين
الشاك فى صلاته بإتمامها، البانى على الأغلب من علمه؟ فلن
يقول فى شىء من ذلك قولاً إلا ألزم فى الآخر مثله، هذا قول
الطبرى. وفى أمر الرسول الشاك فى صلاته بإتمامها دليل أن
الزيادة فى الصلاة سهوًا أو لإصلاحها لا تفسدها؛ لأن الشاك
إذا أمره بالبناء على يقينه وهو يشك هل صلى واحدة أو
اثنتين، وممكن أن يكون صلى اثنتين، وقد حكمت السنة أن ذلك
لا يضره فهذا يبطل قول من قال: إن من زاد فى صلاته مثل
نصفها ساهيًا أن صلاته فاسدة، وهو قول ابن القاسم، وابن
كنانة، وابن نافع. وقد أجمع العلماء أن من شك فى مثل ذلك
فى صلاة الصبح هل صلى واحدة أو اثنتين أن حكمه فى ذلك حكم
من شك فى مثل ذلك من الظهر أو العصر، وقد صلى رسول الله
الظهر خمسًا ساهيًا، فسجد لسهوه، وحُكم الركعة والركعتين
فى ذلك سواء فى القياس والمعقول. وقال ابن حبيب عن مطرف:
أنه من صلى ستًا أو ثمانيًا سجد لسهوه وهو قول ابن عبد
الحكم وأصبغ، وحكى أبو زيد، عن ابن الماجشون مثله. وقد روى
ابن القاسم عن مالك أن من صلى المغرب خمسًا ساهيًا أنه
يجزئه سجود السهو، قال يحيى بن عمر: هذا يرد قول من قال
فيمن زاد فى صلاته مثل نصفها.
(2/63)
30 - باب مَا جَاءَ فِي الْقِبْلَةِ،
وَمَنْ لَمْ يَرَ الإعَادَةَ عَلَى مَنْ سَهَا، وصَلَّى
إِلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ وَقَدْ سَلَّمَ نبِيُّ الله فِي
رَكْعَتَيِ الظُّهْرِ، وَأَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ
بِوَجْهِهِ، ثُمَّ أَتَمَّ مَا بَقِيَ.
/ 48 - فيه: أنس قال: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
(وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلاثٍ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ لَوِ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلًّى، فَنَزَلَتْ: (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) [البقرة 125] الآيَةُ) . / 49 -
وفيه: ابن عمر: (بيَنْا النَّاسُ بِقُبَاء فِى صَلاَة
الصُّبْحِ إِذ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ
اللَّه (صلى الله عليه وسلم) قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ
اللَّيلةَ قُرآَنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنَّ يَسْتَقْبِلَ
الكَعْبَةَ فَاسْتَقْبَلُوهَا، وَكَانَتْ وُجُوهُهْم إِلَى
الشَّامِ فَاسْتَدَارُوا إِلَى الكَعْبَةِ) . / 50 - وفيه:
ابن مسعود: (أن نَّبِيُّ الله صَلَّى الظُّهْرَ خَمْسًا،
فَقَالُوا: أَزِيدَ فِي الصَّلاةِ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟
قَالُوا: صَلَّيْتَ خَمْسًا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَسَجَدَ
سَجْدَتَيْنِ) . اختلف العلماء فيمن اجتهد فى القبلة
فاستدبرها أو شرق أو غرب، فقال أبو حنيفة، وأصحابه،
والثورى: لا يعيد، وهو قول عطاء، والشعبى، وسعيد بن
المسيب، والنخعى، وقال النخعى: إن كان قد صلى بعض صلاته
لغير القبلة، ثم عرف ذلك فى الصلاة فاستقبل القبلة ببقية
صلاته، فإنه يحتسب بما كان صلى كما فعل أصحاب النبى بقباء،
وهو قول الثورى، وقال مالك: من اجتهد فى القبلة فأخطأ،
فإنه يعيد فى الوقت استحبابًا، وهو قول الحسن، والزهرى،
وقال الشافعى: إن فرغ من صلاته ثم بان له أنه صلى إلى
المغرب استأنف الصلاة، وإن لم يَبِنْ له ذلك إلا باجتهاده،
فلا إعادة عليه، والذى ذهب إليه البخارى فى هذا الباب قول
من قال: لا يعيد. قال ابن القصار: لأن المجتهد فى القبلة
إنما أُمر بالطلب ولم يكلف
(2/64)
الإصابة، وإنما أمر الله بإصابة عين القبلة
من نظر إليها، وأما من غاب عنها فلا سبيل إلى علم حقيقتها؛
لأنه إنما يعلم القبلة بغلبة الظن من مهب الرياح ومسير
النجوم، وإذا كان كذلك فإنما يرجع من اجتهاد إلى اجتهاد
ولا يرتفع حكم الاجتهاد الأول؛ كالحاكم يحكم باجتهاده، ثم
تبين له اجتهاد آخر فلا يجوز له فسخ الأول. وليس للشافعى
أن يقول: إن مستدبر القبلة قد رجع من اجتهاده إلى يقين؛
لأنه لا يتيقن باستقباله نفس القبلة فى هذه الجهة، وإنما
يغلب ذلك على ظنه ويُبين ذلك الإجماع على جواز صلاة أهل
الآفاق ومعلوم أن كل واحدٍ منهم غير محاذ للكعبة، وإنما
يحصل ذلك للأقل منهم، وقد جازت صلاتهم لوقوع ذلك
بالاجتهاد، والدليل على ذلك من حديث أهل قُباء أنهم صلوا
إلى غير القبلة بعد الصلاة، ثم لم يؤمروا بالإعادة؛ لأنهم
لم يمكنهم الوصول إلى العلم بالجهة التى كانوا مأمورين
بالصلاة إليها، وإنما صلوا إلى قبلة مفترضة عليهم كما
المجتهد مُصلٍّ عند نفسه إلى القبلة. وقال المهلب: وجه
احتجاج البخارى بحديث ابن عمر فى هذا الباب هو انحرافهم
إلى القبلة التى افترضت وهم فى انحرافهم مصلون إلى غير
القبلة، ولم يؤمروا بالإعادة بل بنوا على ما كانوا صلوا فى
حال الانحراف وقبله، وكذلك المجتهد فى القبلة لا يلزمه
الإعادة. وقد أشار البخارى فى ترجمته إلى هذا الاستدلال من
حديث ابن مسعود فقال: وقد سلم النبى، عليه السلام، فى
ركعتى الظهر وأقبل على الناس بوجهه، وذلك أن انصرافه
وإقباله على الناس بوجهه بعد سلامه، كان وهو عند نفسه فى
غير صلاة، فلما بنى على صلاته بأنه كان فى وقت استدبار
القبلة فى حكم المصلى؛ لأنه لو خرج من
(2/65)
الصلاة لم يجز له أن يبنى على ما مضى منها
عند أهل الحجاز، فوجب بهذا أن من أخطأ القبلة أنه لا يعيد.
وقال الطحاوى: فى انحراف أهل قباء إلى الكعبة وهم فى إحرام
الصلاة التى دخلوا فيها بالتوجه إلى بيت المقدس دليل أنه
من لم يعلم بفرض الله ولم تبلغه الدعوة إليه، ولم يمكنه
استعلام ذلك من غيره، فالفرض فى ذلك غير لازم له، وأن
الحجة فيه غير قائمة عليه، وإنما يجب عليه الفرض حين يعلمه
وتقوم عليه الحجة حين يمكنه استعماله؛ ولهذا دعا رسول الله
المشركين قبل أن يقاتلهم إلى الإسلام، وبَيَّنَ لهم ذلك،
ثم ترك ذلك فى آخرين سواهم من بنى المصطلق وغيرهم،
فقاتلوهم وهم غادون على الماء؛ لأن الدعوة قد كانت بلغتهم.
فإن قال قائل: قد كان فرض استقبال الكعبة فى الصلاة وجب
على أهل قباء قبل دخولهم فى الصلاة؛ لأن الآية التى أمر
بذلك فيها نزلت ليلاً، إنما انحرفوا إلى الكعبة فى الصلاة
التى علموا بنزول الآية فيها وقد لحقهم الفرض قبل دخولهم
فى الصلاة، وإنما عُذِروا فى صلاتهم إلى غير القبلة بالجهل
منهم بها. قيل له: وكيف يكون لله فرض على من لم يعلم بفرضه
عليه؟ لو كان كذلك للحقت فرائضه المجانين الذين لا علم
معهم، فلما كان المجانين بارتفاع العلم عنهم غير داخلين فى
الفرض؛ كذلك كان كل من لم يعلم بالفرض غير واجب عليه
الفرض. فإن قال: ما تقولون فى الرجل يسلم فى دار الحرب أو
دار
(2/66)
الإسلام، ويمر عليه شهر رمضان لم يصمه،
وتمر عليه صلوات ولم يصلها، ولم يعلم أن الله فرض شيئًا من
ذلك على المسلمين، ثم علم بعد ذلك بأن هذا قد كان فرضًا من
الله على المسلمين؟ . قيل له: للعلماء فى هذا قولان:
أحدهما: أنه إن كان فى دار الحرب حيث لا يجد من يستعلم ذلك
منه أنه لا يجب عليه قضاء شىء مما مر عليه من الفرائض، وإن
كان فى دار الإسلام أو فى دار الحرب بحضرة من يمكنه
استعلام ذلك منه من المسلمين أنه يجب عليه قضاء ما مر عليه
من فرض الصلاة والصوم؛ لأنه قد كان يلزمه استعلام ذلك ممن
بحضرته من المسلمين، وهذا قول أبى حنيفة. والقول الآخر:
أنه يقضى ما مر عليه من الصلوات والصيام ويستوى فى ذلك
مروره عليه فى دار الحرب أو دار السلام هذا قول أبى يوسف.
قال المؤلف: وهو قول مالك والشافعى. قال الطحاوى: القول
الأول أولى وليس على أهل قباء من هذا شىء؛ لأنهم كانوا على
حقائق فرض قد كان لله عليهم، ولم يكن عليهم السؤال
والاستعلام عن زواله عنهم ولا عن حدوث فرض غيره عليهم،
لفما لم يكن ذلك عليهم سقط عنهم الفرض الحادث الذى لم
يعلموا به، وليس كذلك من سواهم ممن عليه السؤال والاستعلام
عن فرائض الله. وفى حديث ابن عمر: أن أفعال الرسول لازمة
كأقواله حتى يأتى دليل الخصوص. وفيه: أنه يجوز أن يفتح من
ليس فى الصلاة على من فى الصلاة
(2/67)
إذا عدم المصلى اليقين؛ لأن الذى أخبرهم
وهم فى الصلاة بصلاة النبى إلى الكعبة كان حاضرًا واقتدى
بقوله. وفيه: قبول خبر الواحد والعمل به؛ لأن الصحابة قد
استعملوه وقضوا به وتركوا قبلتهم بخبر الواحد، ولم ينكر
ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
31 - باب حَكِّ الْبُزَاقِ بِالْيَدِ مِنَ الْمَسْجِدِ
/ 51 - فيه: أنس: (أَنَّ نَّبِيَّ الله رَأَى نُخَامَةً
فِي الْقِبْلَةِ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، حَتَّى رُئِيَ
فِي وَجْهِهِ، فَقَامَ، فَحَكَّهُ بِيَدِهِ، فَقَالَ:
إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا قَامَ فِي الصَلاة، فَإِنَّهُ
يُنَاجِي رَبَّهُ، وإِنَّ رَبَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْقِبْلَةِ، فَلا يَبْزُقَنَّ أَحَدُكُمْ قِبَلَ
قِبْلَتِهِ، وَلَكِنْ عَنْ يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ
قَدَمَهِ، ثُمَّ أَخَذَ طَرَفَ رِدَائِهِ، فَبَزقَ فِيهِ،
ثُمَّ رَدَّ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، فَقَالَ: أَوْ
يَفْعَلُ هَكَذَا) . قال المهلب: فيه إكرام القبلة
وتنزيهها؛ لأن المصلى يناجى ربه فواجب عليه أن يكرم القبلة
مما يكرم منه المخلوقين إذا ناجاهم واستقبلهم بوجهه؛ بل
قبلة الله تعالى أولى بالإكرام. وقال طاوس، رحمه الله:
أكرموا قبلة الله لا تبزقوا فيها. وأبان (صلى الله عليه
وسلم) فى هذا الحديث أن معنى نهيه عن البزاق فى القبلة
إنما هو من أجل مناجاته لربه عند استقباله القبلة فى
صلاته، ومن أعظم الجفاء وسُوءِ الأدب أن تتوجه إلى رب
الأرباب وملك الملوك وتتنخم فى توجهك؛ وقد أعلمنا الله
تعالى، بإقباله على من توجه إليه ومراعاته لحركاته.
(2/68)
وفيه: طهارة البزاق؛ لأنه لو كان غير طاهر
ما بزق عليه السلام، فى ثوبه ولا أمر بذلك. وفيه: فضل
الميمنة على الميسرة.
32 - باب حَكِّ الْمُخَاطِ بِالْحَصَى مِنَ الْمَسْجِدِ
/ 52 - فيه: أبو هريرة، وأبو سعيد: (أَنَّ نبى اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) رَأَى نُخَامَةً فِي جِدَارِ
الْمَسْجِدِ، فَتَنَاوَلَ حَصَاةً، فَحَكَّهَا، فَقَالَ:
إِذَا تَنَخَّمَ أَحَدُكُمْ فَلا يَتَنَخَّمَنَّ قِبَلَ
وَجْهِهِ، وَلا عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَبْصُقْ عَنْ
يَسَارِهِ، أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ الْيُسْرَى) . والذى يرى
البزاق فى المسجد مخير فيه إن شاء حته بحصاة أو بيده أو
بما يزيله، وفائدة هذه الأحاديث تنزيه المسجد وإكرام
القبلة، وقد ترجم لحديث أبى هريرة: (باب دفن النخامة فى
المسجد) ، وزاد فيه: (ولا يبزق عن يمينه، فإن عن يمينه
ملكًا) ، فذكر علة نهيه عن يمينه أنه من أجل كون الملك عن
يمينه إكرامًا له وتنزيهًا. وقال صاحب العين: حَتَتُّ
الشىء عن الثوب، فركته، والحتات: ما تحات منه، أى: تساقط.
33 - باب كَفَّارَةِ الْبُزَاقِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 53 - فيه: أنس قال نبى الله: (الْبُزَاقُ فِي
الْمَسْجِدِ خَطِيئَةٌ، وَكَفَّارَتُهَا دَفْنُهَا) . إنما
كان البزاق فى المسجد خطيئة لنهيه عنها، ومن فعل ما نهى
(2/69)
عنه فقد أتى بخطيئة، ثم إن النبى (صلى الله
عليه وسلم) علم أنه لا يكاد يسلم من ذلك؛ فعرف أمته كفارة
تلك الخطيئة، وأمر المصلى أن يبزق فى ثوبه، أو تحت قدمه
ليعركه ويغيره، ولا تقع عليه عين أحد، غير أن ارتكاب
الخطيئة لا يكون إلا بالقصد والعلم بالنهى عنها، وأما من
غلبته النخامة فقد ندب إلى دفنها وحتِّها وإزالتها، ومن
فعل ما ندب إليه فمأجور. وروى الطبرى قال: حدثنا عمرو بن
على، ثنا ابن أبى عدى، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن
محمد بن أبى عتيق، عن عامر بن سعد، عن أبيه قال: سمعت
النبى يقول: (إذا تنخم أحدكم فى المسجد فليغيب نخامته لا
تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه) . قال الطبرى: وفى هذا من
الفقه ترخيص الرسول فى التفل فى المسجد والتنخم فيه إذا
دفنه، وأبان عن معنى كراهته لذلك إذا لم تدفن، وذلك أن
تصيب جلد مؤمن أو ثوبه فتؤذيه، وإذا كان ذلك كذلك فبين أن
متنخمًا لو تنخم فى المسجد فى غير قبلته بحيث يأمن أن تصيب
جلد مؤمن أو ثوبه، فلا حرج عليه فيه واستحب له أن يدفنه،
وإن كان بموضع يأمن أن يصيب به أحدًا لقوله: (البزاق فى
المسجد خطيئة وكفارتها دفنها) ، يعم بذلك المسجد كله، ولم
يخصص منه موضعًا دون موضع، فخبرُ سعد مُفسر لما أُجمل فى
حديث أنس، وأبى هريرة، وأَمرهُ بدفنها إنما هو فى الحال
التى يخشى فيها أن تصيب جلد مؤمن أو ثوبه.
(2/70)
34 - باب عِظَةِ الإمَامِ فِي إِتْمَامِ
الصَّلاةِ
/ 54 - فيه: أبو هريرة: قال نبى الله: (هَلْ تَرَوْنَ
قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ ، فَوَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ
رُكُوعُكُمْ وَلا خُشُوعُكُمْ، إِنِّي لأرَاكُمْ مِنْ
وَرَاءِ ظَهْرِي) . فيه: أنه ينبغى للإمام إذا رأى أحدًا
مقصرًا فى شىء من أمر دينه أو ناقصًا للكمال منه أنه ينهاه
عن فعله، ويحضه على ما له فيه جزيل الحظ؛ ألا ترى أن
الرسول وبخ من نقص كمال الركوع والسجود ووعظهم فى ذلك بأنه
يراهم، وقد أخذ الله على المؤمنين ذلك إذا مكنهم فى الأرض
بقوله تعالى: (الذين إن مكناهم فى الأرض أقاموا الصلاة
وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) [الحج: 41]
. قال المهلب: وقوله: (إنى أراكم من وراء ظهرى) ، يحتمل أن
يراهم بما يوحى إليه من أفعالهم وهيئاتهم فى الصلاة؛ لأن
الرؤية قد يعبر بها عن العلم والاعتقاد، ويحتمل أن يكون
يراهم بما خص به أن زيدَ فى قوة بصره حتى يرى من ورائه،
وقال أحمد بن حنبل فى هذا الحديث: إنه كان يرى من وراءه
كما يرى بعينه، فالله أعلم بما أراد من ذلك.
35 - باب هَلْ يُقَالُ مَسْجِدُ بَنِي فُلانٍ
/ 55 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ نبى اللَّهِ سَابَقَ بَيْنَ
الْخَيْلِ الَّتِي أُضْمِرَتْ مِنَ الْحَفْيَاءِ،
وَأَمَدُهَا ثَنِيَّةُ الْوَدَاعِ، وَسَابَقَ بَيْنَ
الْخَيْلِ الَّتِي لَمْ تُضْمَرْ مِنَ الثَّنِيَّةِ إِلَى
مَسْجِدِ بَنِي زُرَيْقٍ، وَأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ
عُمَرَ كَانَ فِيمَنْ سَابَقَ بِهَا) . قال المؤلف:
المساجد بيوت الله، وأهلها أهل الله، وفى هذا
(2/71)
الحديث جواز إضافتها إلى البانين لها،
والمصلى فيها، وفى ذلك جواز إضافة أعمال البر إلى أربابها
ونسبتها إليهم، وليس فى ذلك تزكية لهم، وليست إضافة المسجد
إلى بنى زريق إضافة ملك، وإنما هى إضافة تمييز. وروى عن
النخعى أنه كان يكره أن يقال: مسجد بنى فلان، ولا يرى
بأسًا أن يقال: مصلى بنى فلان، وهذا الحديث يرد قوله، ولا
فرق بين قوله: مصلى، ومسجد، والله الموفق.
36 - باب الْقِسْمَةِ وَتَعْلِيقِ الْقِنْوِ فِي
الْمَسْجِدِ
قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ: الْقِنْوُ: الْعِذْقُ،
وَالاثْنَانِ قِنْوَانِ، وَالْجَمَاعَةُ أَيْضًا
قِنْوَانٌ، مِثْلَ صِنْوٍ وَصِنْوَانٍ. وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ - يَعْنِي ابْنَ طَهْمَانَ -: عَنْ
عَبْدِالْعَزِيزِ بْنِ صُهَيْبٍ عَنْ أَنَسِ (أُتِيَ
النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) بِمَالٍ مِنَ
الْبَحْرَيْنِ: فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ،
وَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) ، فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) إِلَى الصَّلاةِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ،
فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ، جَاءَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ، فَمَا
كَانَ يَرَى أَحَدًا إِلا أَعْطَاهُ، إِذْ جَاءَهُ
الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَعْطِنِي،
فَإِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلا، فَقَالَ
لَهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : خُذْ فَحَثَا
فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ، يُقِلُّهُ، فَلَمْ
يَسْتَطِعْ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اؤْمُرْ
بَعْضَهُمْ، يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: لا، قَالَ:
فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لا، فَنَثَرَ مِنْهُ،
ثُمَّ ذَهَبَ، يُقِلُّهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
اؤْمُرْ بَعْضَهُمْ، يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لا،
قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لا، فَنَثَرَ
مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ، فَأَلْقَاهُ عَلَى كَاهِلِهِ،
ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ، حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا،
عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ، فَمَا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) وَثَمَّ مِنْهَا دِرْهَمٌ) .
(2/72)
قال المهلب: فيه وضع ما الناس مشتركون فيه
من صدقة أو غيرها فى المسجد؛ لأن المسجد لا يُحجب أحد من
ذوى الحاجة من دخوله والناس فيه سواء، وكذلك أمور جماعة
المسلمين يجب أن تعمل فى المسجد، وليس فى هذا الباب تعليق
قنو فى المسجد وأغفله البخارى. وتعليق القنو فى المسجد أمر
مشهور، ثم ذكر ابن قتيبة فى غريب الحديث أن نبى الله خرج،
فرأى أقناء معلقة فى المسجد، وذكر ثابت فى (غريب الحديث)
أن نبى الله أمر من كل حائط بقنو، يعنى للمسجد، معنى ذلك
أن ناسًا كانوا يقدمون على رسول الله لا شىء لهم، فقالت
الأنصار: (يا رسول الله، لو عجلنا قنوًا من كل حائط
لهؤلاء، قال: أجل فافعلوا) ، فجرى ذلك إلى اليوم، فهى
الأقناء التى تعلق فى المسجد فيعطاها المساكين، وكان عليها
على عهد رسول الله، معاذ بن جبل. قال ابن القاسم: قد سئل
مالك عن أقناء تكون فى المسجد وشبه ذلك، فقال: لا بأس بها،
وسئل عن الماء الذى يسقى فى المسجد أترى أن يشرب منه قال:
نعم إنما يجعل للعطشى، ولم يرد به أهل المسكنة؛ فلا أرى أن
يترك شربه، ولم يزل هذا من أمر الناس قال: وقد سقى سعد بن
عبادة، فقيل له: فى المسجد؟ قال: لا، ولكن فى منزله الذى
كان فيه، وليس ما ذكره ثابت أن الأقناء كانت تجعل فى
المسجد للمساكين بخلاف لقول مالك؛ لأن مالكًا إِذْ سئل عن
الأقناء لم تكن تجعل حينئذ للمساكين خاصة؛ لأن
(2/73)
زمان مالك كان الناس فيه أوسع حالاً منهم
فى أول الإسلام، فكان يجعل فى وقت مالك على طريق التوسعة
للناس لا يراد بها المساكين، وإنما يراد بها كل من دخل
المسجد من غنى أو مسكين، ألا ترى أن مالكًا شبه ذلك بالماء
الذى يجعل للعطشان ولا يراد به المساكين. قال المهلب: وفيه
من الفقه أن القسمة إلى الإمام على قدر اجتهاده. وفيه:
العطاء لأحد الأصناف الذين ذكرهم الله فى كتابه دون غيرهم؛
لأنه أعطى العباس لما شكا إليه من الغرم الذى فدحه، ولم
يسوه فى القسمة مع الثمانية الأصناف، ولو قسم ذلك على
التساوى لما أعطى العباس بغير مكيال ولا ميزان، وإنما
أعطاه بقدر استقلاله عن الأرض، ولم يعط لأحدٍ غيره مثل
ذلك. وفيه: أن السلطان إذا علم من الناس حاجة إلى المال
أنه لا يحل له أن يدخر منه شيئًا كما فعل رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) . وفيه: كرم رسول الله وزهده فى الدنيا
وأنه لم يمنع شيئًا سُئله إذا كان عنده. وفيه: أن للسلطان
أن يرتفع عما يدعى إليه من المهنة والعمل بيده، وله أن
يمتنع من تكليف ذلك غيره إذا لم يكن للسلطان فى ذلك حاجة،
وإن كان فيه نفع لخاصة من الناس إذا كان فيه ضرر لعامتهم.
قال المؤلف: وإنما لم يأمر برفع المال على عنق العباس،
والله أعلم، ليزجره ذلك عن الاستكثار فى المال الذى ظهر
منه، وألا يأخذ من الدنيا فوق حاجته ويقتصر على ما يبلغ
منها المحل، كما كان يفعله عليه السلام، ولهذا لم يرفعه
على عنقه لئلا يعينه على ما لا يرضاه وما نهى عنه.
(2/74)
37 - باب مَنْ دُعي لِطَعَامٍ فِي
الْمَسْجِدِ وَمَنْ أَجَابَ فِيهِ
/ 56 - فيه: أنس: وَجَدْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه
وسلم) فِي الْمَسْجِدِ مَعَهُ نَاسٌ، فَقُمْتُ، قَالَ لى:
(آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ؟ ، قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ:
لِطَعَامٍ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ لِمَنْ حوله: قُومُوا،
فَانْطَلَقَوا، وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) . فيه:
الدعاء إلى الطعام وإن لم يكن طعام وليمة. وفيه: أن الدعاء
إلى ذلك من المسجد وغيره سواء؛ لأن ذلك من أعمال البر وليس
ثواب الجلوس فى المسجد بأقل ثوابًا من إطعام الناس الطعام،
وقد قال رجل: يا رسول الله، أى الإسلام خير؟ قال: (تطعم
الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف) ، وأيضًا
فإن النبى كان محتاجًا إلى الأكل، فقد جاء فى هذا الحديث
أنه إنما دعاه إليه؛ لأنه سمع صوتًا ضعيفًا فعرف فيه
الجوع. وفيه: دعاء السلطان إلى الطعام القليل. وفيه: أن
الرجل الكبير إذا دُعِى إلى طعام وعلم أن صاحبه لا يكره أن
يجلب معه غيره، وأن الطعام يكفيهم أنه لا بأس أن يحمل معه
من حضره، وإنما حملهم الرسول إلى طعام أبى طلحة، وهو قليل،
لعلمه أنه يكفى جميعهم، وأنه لا ينقص منه شىء لبركته وما
خصه الله به من كرامة النبوة وفضيلتها، وهذا من علامات
نبوته عليه السلام، وكذلك إذا علم الرئيس المدعو إلى طعام
أن صاحبه يُسَرُّ بمن يأكل طعامه، وأن طعامه لا يعجز عنهم
لكثرته وجدة صاحبه أنه لا بأس أن يحمل غيره، وسأزيد فى
معنى هذا الحديث فى كتاب الأطعمة، إن شاء الله.
(2/75)
38 - باب الْقَضَاءِ وَاللِّعَانِ فِي
الْمَسْجِدِ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ
/ 57 - فيه: سهل بن سعد: (أَنَّ رَجُلا قَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَرَأَيْتَ رَجُلا وَجَدَ مَعَ امْرَأَتِهِ
رَجُلا أَيَقْتُلُهُ؟ فَتَلاعَنَا فِي الْمَسْجِدِ وَأَنَا
شَاهِدٌ) . قال المؤلف: القضاء جائز فى المسجد عند عامة
العلماء، وقال مالك: جلوس القاضى فى المسجد للقضاء من
الأمر القديم المعمول به، وكان شريح، وابن أبى ليلى يقضيان
فى المسجد، وروى عن سعيد بن المسيب كراهية ذلك قال: لو كان
لى من الأمر شىء ما تركت اثنين يختصمان فى المسجد. وقد
ترجم باب: (من قضى ولاعنَ فى المسجد) ، فى كتاب الأحكام
وفيه زيادة على ما فى هذا الحديث. وفيه: أن اللعان يكون فى
المساجد ويحضره الخلفاء أو من استخلفه الحاكم، وأن أيمان
اللعان تكون فى الجوامع؛ لأنها مقاطع الحقوق.
39 - باب إِذَا دَخَلَ بَيْتًا، يُصَلِّي حَيْثُ شَاءَ
أَوْ حَيْثُ أُمِرَ، وَلا يَتَجَسَّسُ
/ 58 - فيه: عتبان بن مالك: أَنَّ نَّبِيَّ الله أَتَاهُ
فِي مَنْزِلِهِ، فَقَالَ: (أَيْنَ تُحِبُّ أَنْ أُصَلِّيَ
مِنْ بَيْتِكَ؟) ، قَالَ: فَأَشَرْتُ لَهُ إِلَى مَكَانٍ،
فَكَبَّرَ النَّبِيُّ وَصَفّنَا خَلْفَهُ، فَصَلَّى
رَكْعَتَيْنِ. قال المهلب: قوله: (يصلى حيث شاء أو حيث
أُمر ولا يتجسس) ، لا يقتضى لفظ الحديث أن يصلى حيث شاء،
وإنما يقتضى أن يصلى
(2/76)
حيث أُمر لقوله: (أين تحب أن أصلى لك؟)
ويؤيد هذا قوله: (ولا يتجسس) ، فكأنه قال: باب إذا دخل
بيتًا هل يصلى حيث شاء أو حيث أُمر؛ لأنه (صلى الله عليه
وسلم) استأذنه فى موضع الصلاة، ولم يصل حيث شاء، فبطل حكم
حيث شاء.
40 - باب الْمَسَاجِدِ فِي الْبُيُوتِ
وَصَلَّى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ فِي مَسْجِدِهِ فِي
دَارِهِ جَمَاعَةً. / 59 - وذكر فيه حديث عتبان بن مالك
بطوله. قال المهلب: فيه اتخاذ المساجد فى البيوت والصلاة
بالأهل وغيرهم عند الضرورات، ألا ترى أن عتبان قال لنبى
الله (صلى الله عليه وسلم) : (إنى قد أنكرت بصرى وأنا أصلى
لقومى، فإذا سال الوادى الذى بينى وبينهم لم أستطع أن أتى
مسجدهم، وودت يا رسول الله أنك تأتينى، فتصلى فى بيتى
فأتخذه مصلى) ، ففعل ذلك نبى الله، فبان بهذا أنه لولا
العذر لم يتخلف عن مسجد الجماعة. فيه من الفقه: التخلف عن
الصلاة فى الجماعة للعذر. وقال عبد الله بن أبى صفرة: ترك
السنن للمشقة رخصة، ومن شاء أن يأخذ بالشدة أخذ، كما خرج
نبى الله (صلى الله عليه وسلم) يُهادى بين رجلين إلى
الصلاة. قال المهلب: وفيه التبرك بمصلى الصالحين ومساجد
الفاضلين. وفيه: أنه من دُعى من الصالحين إلى شىء يتبرك به
منه، فله أن يجيب إذا أمن الفتنة من العجب.
(2/77)
وفيه: الوفاء بالعهد. وفيه: صلاة النافلة
فى جماعة بالنهار. وفيه: إكرام العالم إذا دعى إلى شىء
بالطعام وشبهه. وفيه: التنبيه على أهل الفسق والنفاق عند
السلطان. وفيه: أن السلطان يجب أن يستثبت فى أمر من يذكر
عنده بفسق ويوجه له أجمل الوجوه. وفيه: أن الجماعة إذا
اجتمعت للصلاة وغاب أحدهم أن يسألوا عنه، فإن كان له عذر
وإلا ظن به الشَّر، وهو مفسر فى قوله: (لقد هممت أن آمر
بحطب) . وقوله: (ثاب رجال) ، قال صاحب العين: ثاب الحوض،
امتلأ، والمثابة: مجتمع الناس بعد تفرقهم، ومنه قوله: (وإذ
جعلنا البيت مثابة للناس) [البقرة: 125] .
41 - باب التَّيَمُّنُ فِي دُخُولِ الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يَبْدَأُ بِرِجْلِهِ الْيُمْنَى
فَإِذَا خَرَجَ بَدَأَ بِرِجْلِهِ الْيُسْرَى. / 60 - فيه:
عائشة قَالَتْ: (كَانَ النَّبِيُّ يُحِبُّ التَّيَمُّنَ
مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنِهِ كُلِّهِ فِي طُهُورِهِ،
وَتَرَجُّلِهِ، وَتَنَعُّلِهِ) . وقد تقدم هذا فى كتاب
الطهارة، ونذكر هنا ما لم ينص هناك. قال عطاء: قال عبد
الله بن عمرو: خير المسجد المقام، ثم ميامين المسجد.
(2/78)
وكان ابن المسيب يصلى فى الشق الأيمن من
المسجد. وكان إبراهيم يعجبه أن يقوم عن يمين الإمام. وكان
أنس بن مالك يصلى فى الشق الأيسر من المسجد، وعن الحسن،
وابن سيرين مثله.
42 - باب هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي
الْجَاهِلِيَّةِ، وَيُتَّخَذُ مَكَانُهَا مَسَاجِدَ
، لِقَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) : لَعَنَ
اللَّهُ الْيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ، وَمَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ فِي الْقُبُورِ.
وَرَأَى عُمَرُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ
قَبْرٍ، فَقَالَ: (الْقَبْرَ، الْقَبْرَ، وَلَمْ
يَأْمُرْهُ بِالإعَادَةِ) . / 61 - فيه: عائشة: أَنَّ
أُمَّ حَبِيبَةَ وَأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً
رَأَيْنَهَا بِالْحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَذَكَرَتَا
ذلك لِلنَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ
أُولَئِكَ إِذَا كَانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ
فَمَاتَ، بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا،
فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ، فَأُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ
عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . / 62 - وفيه: أنس
قَالَ: (قَدِمَ نَّبِيُّ الله الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ
أَعْلَى الْمَدِينَةِ فِي حَيٍّ يُقَالُ لَهُمْ: بَنُو
عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، فَأَقَامَ الرسول فِيهِمْ أَرْبَعَ
عَشْرَةَ لَيْلَةً، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى بَنِي
النَّجَّارِ، فَجَاءُوا مُتَقَلِّدِين السُّيُوفِ،
فكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى نَّبِيِّ الله عَلَى
رَاحِلَتِهِ، وَأَبُو بَكْرٍ رِدْفُهُ، وَمَلأ بَنِي
النَّجَّارِ حَوْلَهُ، حَتَّى أَلْقَى بِفِنَاءِ أَبِي
أَيُّوبَ، وَكَانَ يُحِبُّ أَنْ يُصَلِّيَ، حَيْثُ
أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ، وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ
الْغَنَمِ، وَإنَّهُ أَمَرَ بِبِنَاءِ الْمَسْجِدِ،
فَأَرْسَلَ إِلَى مَلأ بَنِي النَّجَّارِ، فَقَالَ: يَا
بَنِي
(2/79)
النَّجَّارِ، ثَامِنُونِي بِحَائِطِكُمْ
هَذَا، قَالُوا: لا، وَاللَّهِ لا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إِلا
إِلَى اللَّهِ، فَقَالَ أَنَسٌ: فَكَانَ فِيهِ مَا أَقُولُ
لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْرِكِينَ، وَكان فِيهِ خَرِبٌ،
ونَخْلٌ، فَأَمَرَ الرسول بِقُبُورِ الْمُشْرِكِينَ
فَنُبِشَتْ، ثُمَّ بِالْخَرِبِ فَسُوِّيَتْ، وَبِالنَّخْلِ
فَقُطِعَ، فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ،
وَجَعَلُوا عِضَادَتَيْهِ الْحِجَارَةَ، وَجَعَلُوا
يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ، وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ، والرسول
مَعَهُمْ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لا خَيْرَ إِلا
خَيْرُ الآخِرَهْ فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَه
قال المؤلف: أما نبش قبور المشركين ليتخذ مكانها مساجد،
فلم أجد فيه نصًا لأحدٍ من العلماء، غير أنى وجدت اختلافهم
فى نبش قبورهم طلبًا للمال، فأجاز ذلك الكوفيون والشافعى،
وقال الأوزاعى: لا يفعل؛ لأن الرسول لما مر بالحجر قال:
(لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا أن تكونوا باكين مخافة أن
يصيبكم مثل ما أصابهم) ، فنهى أن ندخل عليهم بيوتهم فكيف
قبورهم. قال الطحاوى: وقد أباح دخولها على وجه البكاء،
واحتج من أجاز ذلك بحديث أنس أن نبى الله أمر بقبور
المشركين، فنبشت عند بناء المسجد. قال الطحاوى: واحتج من
أجاز ذلك أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) لما خرج إلى
الطائف قال: (هذا قبر أبى رغال) ، وهو أبو ثقيف، وكان من
ثمود وكان بهذا الحرم يدفع عنه، فلما خرج أصابته النقمة
بهذا المكان، وآية ذلك أنه دفن معه غصن من ذهب، فابتدره
الناس ونبشوه،
(2/80)
واستخرجوا منه الغصن، وإذا جاز نبشها لطلب
المال، فنبشها للانتفاع بمواضعها لبناء مسجد أو غيره أولى.
فإن قيل: فهل يجوز أن يبنى المسجد على قبور المسلمين؟ وهل
يدخل ذلك فى معنى لعنة اليهود لاتخاذهم قبور أنبيائهم
مساجد؟ . قيل: لا يدخل فى ذلك لافتراق المعنى؛ وذلك أنه
عليه السلام، أخبر أن اليهود يتخذون قبور أنبيائهم مساجد
ويقصدونها بعبادتهم، وقد نسخ الله جميع المعبودات بالإسلام
والتوحيد، وأمر بعبادته وحده لا شريك له. قال غيره:
والقبور التى أمر النبى بنبشها لبناء المسجد كانت قبورًا
لا حرمة لأهلها؛ لأن العرب هنالك لم يكونوا أهل كتاب، فلم
يكن لعظامهم حرمة، ولو كانوا أهل كتاب لم تنبش؛ لأنهم
ماتوا قبل الإسلام فهم على أديان أنبيائهم لهم حرمة
الإيمان بأنبيائهم، وهم والمسلمون سواء، وكذلك أهل الذمة
اليوم من اليهود والنصارى، لا يجوز نبش قبورهم لاتخاذ مسجد
ولا غيره، فإن لم يكونوا أهل ذمة، وكانوا أهل حرب واحتيج
إلى موضع قبورهم، فلا بأس بنبشها إن كانت قبرت بعد
الإسلام، وإن كانت قديمة قبل الإسلام، فلا يجوز ذلك لما
قلنا إن لهم حرمة الإسلام بأنبيائهم، إلا أن يعلم أنهم لم
يكونوا أهل كتاب. وأجاز أكثر الفقهاء نبش قبور المشركين
طلبًا للمال، وهذا قول أشهب وقال: ليس حرمتهم موتى بأعظم
منها أحياء، وهو مأجور فى فعل ذلك بالأحياء منهم. وقال
مالك فى المدونة: أكرهه وليس بحرام. وقال ابن القاسم: لو
أن مقبرة من مقابر المسلمين عَفَتْ، فبنى قوم
(2/81)
عليها مسجدًا لم أر بذلك بأسًا، وكذلك ما
كان لله لا بأس أن يستعان ببعضه على بعض، وينقل بعضه إلى
بعض، فمعناه أن المقابر هى وقف من أوقاف المسلمين لدفن
موتاهم لا يجوز لأحد تملكها، فإذا عفت ودثرت واستغنى عن
الدفن فيها جاز صرفها إلى المسجد؛ لأن المسجد أيضًا وقف من
أوقاف المسلمين لا يجوز تملكه لأحد كما لا يجوز تملك
المقبرة فنقلها إذا دثرت إلى المسجد معناهما واحد فى
الحكم. وقوله: (فأولئك شرار الخلق عند الله) ، فيه نهى عن
اتخاذ القبور مساجد، وعن فعل التصاوير. قال المهلب: وإنما
نهى عن ذلك، والله أعلم، قطعًا للذريعة ولقرب عبادتهم
الأصنام واتخاذ القبور والصورة آلهة، ولذلك نهى عُمر أنسًا
عن الصلاة إلى القبر، وكان له مندوحة عن استقباله وكان
يمكنه الانحراف عنه يمنة أو يسرة، ولما لم يأمره بإعادة
الصلاة علم أن صلاته جائزة.
43 - باب الصَّلاةِ فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ
/ 63 - فيه: أنس قال: (كَانَ نَّبِيُّ الله يُصَلِّي فِي
مَرَابِضِ الْغَنَمِ، ثُمَّ سَمِعْتُهُ بَعْدُ يَقُولُ:
كَانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الْغَنَمِ، قَبْلَ أَنْ
يُبْنَى الْمَسْجِدُ) . قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ
عنه العلم على إباحة الصلاة فى مرابض الغنم إلا الشافعى،
فإنه قال: لا أكره الصلاة فى مرابض الغنم إذا كان سليمًا
من أبوالها وأبعارها. وممن روينا عنه إجازة الصلاة فى
مرابض الغنم: عبد الله بن عمر، وجابر بن سمرة، ودخل أبو ذر
زرب غنم، فصلى فيه، وعن الزبير
(2/82)
أنه صلى فى مراح الغنم وهو يجد مكانًا
غيره، وصلى ابن عمر فى رتق، فى أخرى: فى دِمَن الغنم، وروى
ذلك عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وصلى النخعى فى دمنة
الغنم، وهذا الحديث مع ما ذكرنا من أقوال السلف حجة على
الشافعى، ومن قال بقوله؛ لأن قول أنس كان نبى الله (صلى
الله عليه وسلم) يصلى فى مرابض الغنم، ولم يخص مكانًا من
مكان، ومعلوم أن مرابضها لا تسلم من أبعارها وأبوالها يدل
أن الصلاة مباحة على ذلك، ويدل أن أبوالها وأبعارها طاهرة.
قال ابن المنذر: والصلاة أيضًا جائزة فى مراح البقر
استدلالاً بقوله (صلى الله عليه وسلم) : (أينما أدركتك
الصلاة فصلّ) ، وهو قول عطاء، ومالك، وجماعة.
44 - باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الإبِلِ
/ 64 - فيه: ابن عمر: (أنه كان يُصَلِّي إِلَى بَعِيرِهِ،
فَقَالَ: رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم)
يَفْعَلُهُ) . اختلف العلماء فى هذا الباب، فكره مالك،
والشافعى الصلاة فى أعطان الإبل، وقال ابن القاسم: لا بأس
بالصلاة فيها إن سلمت من مذاهب الناس، وقال أصبغ: من صلى
فيها أعاد فى الوقت. وقال الطحاوى: ذهب قوم إلى أن الصلاة
فى أعطان الإبل مكروهة حتى غلا بعضهم فى ذلك فأفسد الصلاة،
واحتجوا بما رواه يونس عن الحسن، عن عبد الله بن مغفل أن
نبى الله قال: (صلوا
(2/83)
فى مرابض الغنم، ولا تصلوا فى أعطان الإبل)
، وبما روى أبو معاوية، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد
الله، مولى بنى هاشم، وكان ثقة، وكان الحكم يأخذ عنه، عن
عبد الرحمن بن أبى ليلى، عن البراء بن عازب، عن النبى،
عليه السلام، أنه قال: (لا تصلوا فى مبارك الإبل وصلوا فى
مرابض الغنم) ، وخالفهم آخرون فأجازوا الصلاة فى أعطان
الإبل، واحتجوا بأن الآثار التى جاءت بالنهى عن الصلاة فى
أعطان الإبل قد تكلم الناس فى معناها، والسبب الذى من أجله
كان النهى، فقال قوم: إنما ذلك؛ لأن من عادة أصحاب الإبل
التغوط بقربها فتنجس أعطانها، ومن عادة أصحاب الغنم ترك
التغوط بينها، وروى عن شريك بن عبد الله أنه كان يفسر
الحديث بهذا. وقال يحيى بن آدم: ليس العلة عندى هذه، وإنما
هى لما يخاف من وثوبها، وعطب من تلاقى حينئذٍ، ألا تراه
يقول: (فإنها جن خلقت من جنّ) ، وقال فى حديث رافع بن
خديج: (إن لهذه الإبل أوابد كأوابد الوحش) ، وهذا غير مخوف
من الغنم، فأمر باجتناب الصلاة فى معاطن الإبل خوف ذلك لا
لنجاسة، وقد ثبت حديث ابن عمر أن نبى الله (صلى الله عليه
وسلم) : (كان يصلى إلى بعيره) ، فعلم بذلك أنه لم ينه عن
الصلاة فى أعطان الإبل؛ لأنه لا تجوز الصلاة بحذائها،
واحتمل أن تكون الكراهية لعلة ما يكون فى معاطنها من
أرواثها وأبوالها، فنظرنا فى ذلك، فرأينا مرابض الغنم كل
قد أجمع على جواز الصلاة فيها، وكان حكم أبوال الإبل
وأرواثها كحكم أبوال الغنم وأرواثها لا فرق بين ذلك فى
نجاسة وطهارة؛ لأن من جعل
(2/84)
أبوال الإبل طاهرة جعل أبوال الغنم كذلك،
ومن جعل أبوال الإبل نجسة جعل أبوال الغنم كذلك، فلما
أبيحت الصلاة فى مرابض الغنم فى الحديث الذى نهى فيه عن
الصلاة فى أعطان الإبل ثبت أن النهى عن ذلك ليس العلة
نجاسة ما يكون منها، فإن كان لما قاله شريك، فإن الصلاة
مكروهة حيث يكون الغائط والبول عطنًا كان أو غيره، وإن كان
لما قاله يحيى، فإن الصلاة مكروهة بحيث يخاف على النفوس،
عطنًا كان أو غيره، فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار،
وأما من طريق النظر، فإنا رأيناهم لا يختلفون فى مرابض
الغنم أن الصلاة فيها جائزة، وإنما اختلفوا فى الإبل،
فرأينا حكم لحمان الإبل كحكم لحمان الغنم فى طهارتها،
ورأينا حكم أبوالها كحكم أبوالها فى طهارتها أو نجاستها،
فكان يجىء فى حكم النظر أن يكون حكم الصلاة فى مواضع الإبل
كهو فى مواضع الغنم قياسًا ونظرًا، وهذا قول أبى حنيفة،
وأبى يوسف، ومحمد.
45 - باب مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَوْ نَارٌ
أَوْ شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَدُ، فَأَرَادَ بِهِ وجه اللَّهَ
وَقَالَ أَنَسُ قَالَ الرَّسُولُ (صلى الله عليه وسلم) :
عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأَنَا أُصَلِّي. / 65 - فيه:
ابن عباس: (انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى نبى اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: أُرِيتُ النَّارَ،
فَلَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ قَطُّ أَفْظَعَ) .
الصلاة جائزة إلى كل شىء إذا لم يقصد الصلاة إليه وقصد بها
الله، تعالى، والسجود لوجهه خالصًا، ولا يضره استقبال شىء
من المعبودات وغيرها كما لم يضر الرسول ما رآه فى قبلته من
النار.
(2/85)
وقال أشهب فى المجموعة: وإن صلى إلى قبلة
فيها تماثيل لم يُعِدْ، وهو مكروه.
46 - باب كَرَاهِيَةِ الصَّلاةِ فِي الْمَقَابِرِ
/ 66 - فيه: ابن عمر: قال نَّبِيِّ الله (صلى الله عليه
وسلم) : (اجْعَلُوا مِنْ صَلاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ، وَلا
تَتَّخِذُوهَا قُبُورًا) . اختلف العلماء فى الصلاة فى
المقبرة، فروى عن عمر بن الخطاب، وعلى بن أبى طالب، وابن
عباس، وعبد الله بن عمرو أنهم كرهوا الصلاة فى المقبرة،
وروى عن عطاء، والنخعى، وبه قال أبو حنيفة، والثورى،
والأوزاعى، والشافعى، واختلف فيه قول مالك فروى عنه أبو
المصعب أنه قال: لا أحب ذلك، وروى عنه ابن القاسم أنه قال:
لا بأس بالصلاة فيها. وكل من كره الصلاة من هؤلاء لا يرى
على من صلى فيها إعادة، وقال أهل الظاهر: لا تجوز الصلاة
فى المقبرة، قال ابن المنذر: وحجة الذين كرهوا ذلك قول
الرسول: (اجعلوا من صلاتكم فى بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا)
، وفى قوله هذا دليل على أن المقبرة ليست بموضع للصلاة،
وسيأتى ما قيل فى هذا المعنى فى آخر كتاب الصلاة فى باب:
التطوع فى البيت، إن شاء الله. وحجة من أجاز الصلاة فيها
قوله عليه السلام: (جعلت لى الأرض مسجدًا وطهورًا؛ فأينما
أدركتنى الصلاة صليت) ، فلم يخص موضعًا من موضع، فهو عام
فى المقبرة وغيرها.
(2/86)
قال مالك: وقد بلغنى أن بعض أصحاب رسول
الله كان يصلى فى المقابر، وحكى ابن المنذر أن واثلة بن
الأسقع كان يصلى فى المقبرة غير أنه كان لا يستتر بقبر،
وصلى الحسن البصرى فى المقابر.
47 - باب الصَّلاةِ فِي مَوَاضِعِ الْخَسْفِ وَالْعَذَابِ
وَيُذْكَرُ أَنَّ عَلِيًّا رَضِي اللَّهُ عَنْهُ كَرِهَ
الصَّلاةَ بِخَسْفِ بَابِلَ. / 67 - فيه: ابن عمر: أَنَّ
نبى اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لا تَدْخُلُوا
عَلَى هَؤُلاءِ الْمُعَذَّبِينَ إِلا أَنْ تَكُونُوا
بَاكِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا بَاكِينَ، فَلا
تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ، لا يُصِيبُكُمْ مَا أَصَابَهُمْ) .
قال المهلب: إنما هذا من جهة التشاؤم بالبقعة التى نزل بها
سخط الله يدل على ذلك قوله: (وسكنتم فى مساكن الذين ظلموا
أنفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الأمثال)
[إبراهيم: 45] ، فوبخهم تعالى على ذلك، وكذلك تشاءم عليه
السلام، بالبقعة التى نام فيها عن الصلاة ورحل عنها ثم
صلى، فكراهية الصلاة فى موضع الخسف أولى، إلا أن إباحة
الدخول فيه على وجه البكاء والاعتبار يدل أن من صلى هناك
لا تفسد صلاته؛ لأن الصلاة موضع بكاء وتضرع وخشوع واعتبار،
فإن صلى هناك غير باكٍ لم تبطل صلاته، وذكر بعض أهل الظاهر
أن من صلى فى الحجر، بلاد ثمود، وهو غير باك، فعليه سجود
السهو إن كان ساهيًا، وإن تعمد ذلك بطلت صلاته، وكذلك من
صلى فى موضع مسجد الضرار، وهذا خُلْف
(2/87)
من القول لا خفاء بسقوطه، إن كان لا يجوز
عنده فيه صلاة من تعمد ترك البكاء، فكيف أجاز صلاة الساهى
بعد سجود السهو، وإسقاط الواجبات لا تجبر بسجود السهو عند
العلماء، وهو تخليط منه، فقد بين الرسول (صلى الله عليه
وسلم) فى الحديث معنى نهيه عن دخول مواضع الخسف لغير
الباكى وهو قوله: (لا يصيبكم مثل ما أصابهم) ، وليس فى هذا
ما يدل على فساد صلاة من لم يبك، وإنما فيه خوف نزول
العذاب به، وتسويته بين الصلاة فى موضع مسجد الضرار
بالصلاة فى موضع الخسف ليس فى هذا الحديث، وهو قياس فاسد
منه، وهو لا يقول بالقياس، فقد تناقض.
48 - باب الصَّلاةِ فِي الْبِيعَةِ
وَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا لا نَدْخُلُ كَنَائِسَكُمْ مِنْ
أَجْلِ التَّمَاثِيلِ الَّتِي فِيهَا الصُّوَرُ. وَكَانَ
ابْنُ عَبَّاسٍ يُصَلِّي فِي الْبِيعَةِ، إِلا بِيعَةً
فِيهَا تَمَاثِيلُ. / 68 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ أُمَّ
سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ، يُقَالُ لَهَا:
مَارِيَةُ، فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنَ
الصُّوَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
: (أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمُ الْعَبْدُ
الصَّالِحُ - أَوِ الرَّجُلُ الصَّالِحُ - بَنَوْا عَلَى
قَبْرِهِ مَسْجِدًا، وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ،
أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ) . / 69 -
وفيه: عائشة، وابْنَ عَبَّاسٍ: أن نبى اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) قال عند موته: (لَعْنَ اللَّه الْيَهُودِ
وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ
مَسَاجِدَ، يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا) . / 70 - وفيه: أبو
هريرة بمثل معناه.
(2/88)
اختلف العلماء فى الصلاة فى البيع والكنائس
فكره عمر، وابن عباس الصلاة فيها من أجل الصور، وروى عن
عمر بن الخطاب قال: انضحوها بماء وسدر وصلوا، وهو قول
مالك. ذكر إسماعيل بن إسحاق، عن مالك قال: أكره الصلاة فى
الكنائس لما يصيب فيها أهلها من لحم الخنازير والخمور،
وقلة احتياطهم من النجس، إلا أن يضطر إلى ذلك من شدة طين
أو مطر، إلا أن يتيقن أنه لم يصبها نجس، وكره الصلاة فيها
الحسن، وأجاز الصلاة فيها النخعى، والشعبى، وعطاء، وابن
سيرين؛ ورواية عن الحسن وهو قول الأوزاعى، وصلى أبو موسى
الأشعرى فى كنيسة يوحنا بالشام. وقال المهلب: هذا الباب
غير معارض للباب الذى قبله باب: (من صلى وقُدَّامَهُ نار
أو تنور) ، وقول عمر، وابن عباس: (إنا لا ندخل كنائسكم من
أجل الصور) ، فإنما ذلك على الاختيار والاستحسان دون ضرورة
تدعوه إليه، والاختيار أن لا يبتدئ فيها الصلاة ولا إلى
شىء من معبودات الكفار؛ ألا ترى أن الرسول عينت له النار
فى صلاة الخسوف ولم يبتدئ الصلاة إليها وتمت صلاته.
49 - باب قَوْلِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) :
جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا
/ 71 - فيه: جابر قال نبى الله (صلى الله عليه وسلم) :
(جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، فَأَيُّمَا
رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي، أَدْرَكَتْهُ الصَّلاةُ،
فَلْيُصَلِّ) . الحديث يدل أن هذه الأبواب المتقدمة
المكروه الصلاة فيها ليس ذلك على التحريم والمنع؛ لأن
الأرض كلها مباحة الصلاة فيها بكونها له
(2/89)
مسجدًا، فدخل فى عمومها الكنائس والمقابر
ومرابض الإبل وغيرها إذا كانت طاهرة، وهذا مما خص به
نبينا، عليه السلام، أن أباح الله له جملة الأرض للصلاة،
والاختيار ألا يبدأ بهذه المواضع المكروهة إلا عن ضرورة،
فهو أخلص للصلاة وأنزه لها من الخواطر.
50 - باب نَوْمِ الْمَرْأَةِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 72 - فيه: عائشة: أن وليدة كَانَتْ سَوْدَاءَ لِحَيٍّ
مِنَ الْعَرَبِ، فَأَعْتَقُوهَا، فَكَانَتْ مَعَهُمْ،
قَالَتْ: فَخَرَجَتْ صَبِيَّةٌ لَهُمْ عَلَيْهَا وِشَاحٌ
أَحْمَرُ مِنْ سُيُورٍ، قَالَتْ: فَوَضَعَتْهُ، أَوْ
وَقَعَ مِنْهَا، فَمَرَّتْ حُدَيَّاةٌ، وَهُوَ مُلْقًى،
فَحَسِبَتْهُ لَحْمًا، فَخَطِفَتْهُ، قَالَتْ:
فَالْتَمَسُوهُ فَلَمْ يَجِدُوهُ، قَالَتْ: فَاتَّهَمُونِي
بِهِ، قَالَتْ: فَطَفِقُوا يُفَتِّشُونَ حَتَّى فَتَّشُوا
قُبُلَهَا، قَالَتْ: وَاللَّهِ إِنِّي لَقَائِمَةٌ
مَعَهُمْ، إِذْ مَرَّتِ الْحُدَيَّاةُ، فَأَلْقَتْهُ،
قَالَتْ: فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: هَذَا
الَّذِي اتَّهَمْتُمُونِي بِهِ - زَعَمْتُمْ - وَأَنَا
مِنْهُ بَرِيئَةٌ، وَهُوَ ذَا هُوَ، قَالَتْ: فَجَاءَتْ
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَأَسْلَمَتْ، قَالَتْ عَائِشَةُ: فَكَانَ لَهَا خِبَاءٌ
فِي الْمَسْجِدِ، أَوْ حِفْشٌ، قَالَتْ: فَكَانَتْ
تَأْتِينِي فَتَحَدَّثُ عِنْدِي، قَالَتْ: فَلا تَجْلِسُ
عِنْدِي مَجْلِسًا إِلا قَالَتْ: وَيَوْمَ الْوِشَاحِ مِنْ
تَعَاجِيبِ رَبِّنَا أَلا إِنَّهُ مِنْ بَلْدَةِ الْكُفْرِ
أَنْجَانِي قال المهلب: فيه أنه من لم يكن له مسكن ولا
مكان مبيت أنه يباح له المبيت فى المسجد واصطناع الخيمة
وشبهها للمسكن، امرأةً كانت أو رجلاً. وفيه: أن السنة
الخروج من بلدة جرت فيها فتنة على الإنسان تشاؤمًا
(2/90)
بمكان المحن، ودليل هذا قوله تعالى: (ألم
تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها) [النساء: 97] ، فالواجب
على كل من أدركته ذلة أو جرت عليه محنة أن يخرج إلى ما وسع
الله عليه من الأرض، فإن له فى ذلك خيرهُ، وربما كان الذى
جرى عليه من المحنة سببًا أراد الله به إخراجه من تلك
البلدة لخير قدره له فى غيرها كما قدر لهذه السوداء، ألا
ترى تمثلها بهذا المعنى فى بيت الشعر الذى أنشدته، فجعلت
المحنة والذلة فى يوم الوشاح هما الذى أنجياها من الكفر؛
إذ كانا سببًا لذلك. والوشاح عند العرب خيطان من لؤلؤ
مخالف بينهما تتوشح به المرأة، والرجل يتوشح بثوبه تشبيهًا
بالوشاح، وشاة موشحة إذا كانت ذات خطتين، والسير: الشراك،
والجمع: سيور، من العين. والحِفْشُ: البيت الصغير، من
العين أيضًا.
51 - باب نَوْمِ الرِّجَالِ فِي الْمَسْجِدِ
وَقَالَ أَنَسِ: قَدِمَ رَهْطٌ مِنْ عُكْلٍ عَلَى
النَّبِيِّ (صلى الله عليه وسلم) فَكَانُوا فِي
الصُّفَّةِ. وَقَالَ عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ
الصِّدِّيقِ: كَانَ أَصْحَابُ الصُّفَّةِ الْفُقَرَاءَ. /
73 - فيه: ابن عمر: أَنَّهُ كَانَ يَنَامُ، وَهُوَ شَابٌّ
أَعْزَبُ، لا أَهْلَ لَهُ، فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ، عليه
السلام. / 74 - وفيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: (أن عليًا غاضب
فَاطِمَةَ، فَخَرَجَ، وَلَمْ يَقِلْ عِنْدِها، فَجَاءَ
الْمَسْجِدِ فرَقِد فيه، فطلبه رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) ، فجاءه وَهُوَ
(2/91)
مُضْطَجِعٌ، وقَدْ سَقَطَ رِدَاؤُهُ عَنْ
شِقِّهِ، وَأَصَابَهُ تُرَابٌ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ
يَمْسَحُهُ عَنْهُ، وَيَقُولُ: قُمْ أَبَا تُرَابٍ) . قال
المهلب: فى هذا الباب من الفقه: جواز سكنى الفقراء فى
المسجد وجواز النوم فيه لغير الفقراء. وقد اختلف العلماء
فى ذلك، فممن رخص النوم فى المسجد ابنُ عمر، وقال: كنا
نبيت فيه ونقيل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ،
وعن سعيد بن المسيب، والحسن البصرى، وعطاء، وابن سيرين
مثله، وهو قول الشافعى، واختلف عن ابن عباس، فروى عنه أنه
قال: لا تتخذوا المسجد مرقدًا، وروى عنه أنه قال: إن كنت
تنام فيه لصلاة فلا بأس. وقال مالك: لا أحب لمن له منزل أن
يبيت فى المسجد، وسَهَّل فيه للضعيف ولمن لا منزل له، وهو
قول أحمد وإسحاق، وقال مالك: وقد كان أضياف الرسول يبيتون
فى المسجد، وكره النوم فى المسجد: ابن مسعودُ، وطاوسُ،
ومجاهدُ، وهو قول الأوزاعى. وقول من أجاز النوم فيه
للغرباء وغيرهم أولى لأحاديث هذا الباب، وقد سئل سعيد ابن
المسيب، وسليمان بن يسار عن النوم فى المسجد، فقالا: كيف
تسألون عنها، وقد كان أهل الصفة ينامون فيه وهم قوم كان
مسكنهم المسجد. وذكر الطبرى عن الحسن قال: رأيت عثمان بن
عفان نائمًا فى المسجد ليس حوله أحد، وهو أمير المؤمنين،
قال: وقد نام فى المسجد جماعة من السلف، قال الطبرى: فغير
محذور الانتفاع بالمساجد فى ما يحل: كالأكل والشرب والجلوس
وشبه النوم من الأعمال.
(2/92)
وقال الحربى: الصفة فى مسجد الرسول موضع
مظلل يأوى إليه المساكين. وفى حديث سهل من الفقه: الممازحة
للغاضب بالتكنية بغير كنيته إذا كان ذلك لا يغضبه ولا
يكرهه؛ بل يؤنسه من حرجه. وفيه: مداراة الصهر وتسلية أمره
من عتابه. وفيه: جواز التكنية بغير الولد. وفيه: أن
الملابس كلها يحاول بها ستر العورة وأنه لا ملبس لمن بدت
عورته.
52 - باب إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ،
فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ
/ 75 - فيه: أبو قتادة، أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم)
قال: (إِذَا دَخَلَ أَحَدُكُمُ الْمَسْجِدَ، فَلْيَرْكَعْ
رَكْعَتَيْنِ، قَبْلَ أَنْ يَجْلِس) . اتفق جماعة أهل
الفتوى على أن تأويل هذا الحديث محمول على الندب والإرشاد
مع استحبابهم الركوع لكل من دخل المسجد، وهو طاهر، فى وقت
تجوز فيه النافلة. قال مالك: ذلك حسن وليس بواجب. وأوجب
ذلك أهل الظاهر فرضًا على كل داخل فى وقت تجوز فيه الصلاة،
وقال بعضهم: ذلك واجب فى كل وقت؛ لأن فعل الخير لا يُمنع
منه إلا بدليل لا معارض له. قال الطحاوى: وحجة الجماعة أن
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمر سُلَيْكًا حين
(2/93)
جاء يوم الجمعة وهو يخطب أن يركع ركعتين،
وأمر مرةً أخرى رجلاً رآه يتخطى رقاب الناس بالجلوس ولم
يأمره بالركوع، حدثنا بًحْر بن نصر، حدثنا عبد الله بن
وهب، عن معاوية بن صالح، عن أبى الزاهرية، عن عبد الله بن
بسر قال: (جاء رجل يتخطى رقاب الناس فى يوم الجمعة فقال له
رسول الله: (اجلس فقد آذيت وآنيت) ، فهذا يخالف حديث سليك،
واستعمال الأحاديث هو على ما تأولها عليه جماعة الفقهاء.
قال الطحاوى: وأما قول من قال من أهل الظاهر أن عليه أن
يركع فى كل وقت دخل المسجد فهو خطأ؛ لنهيه عليه السلام عن
الصلاة عند طلوع الشمس وعند غروبها وغير ذلك من الأوقات
المنهى عنها، فمن دخل المسجد فى هذه الأوقات، فليس بداخل
فى أمره بالركوع عند دخوله فى المسجد، وإنما يدخل فى أمره
بذلك كل من لو كان فى المسجد قبل ذلك فأراد الصلاة، كان له
ذلك، فأما من لو كان فى المسجد قبل ذلك لم يكن له أن يصلى،
فليس بداخل فى ذلك. وقد روى عن جماعة من السلف أنهم كانوا
يمرون فى المسجد ولا يركعون، فروى ابن أبى شيبة عن عبد
العزيز الدراوردى، عن زيد بن أسلم قال: كان كبار أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يدخلون المسجد ثم يخرجون
ولا يصلون. قال زيد: وقد رأيت ابن عمر يفعله، وذكر ذلك
مالك عن زيد بن ثابت، وسالم بن عبد الله، وكان القاسم بن
محمد يدخل المسجد، فيجلس فيه ولا يصلى وفعله الشعبى، وقال
جابر بن زيد: إذا دخلت مسجدًا فصلّ فيه، فإن لم تصل فيه
فاذكر الله فكأنك قد صليت.
(2/94)
53 - باب الْحَدَثِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 76 - فيه: أبو هريرة أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم)
قال: (الْمَلائِكَةُ تُصَلِّي عَلَى أَحَدِكُمْ مَا دَامَ
فِي مُصَلاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ، مَا لَمْ يُحْدِثْ،
تَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ)
. قال المهلب: معنى هذا الباب أن الحدث فى المسجد خطيئة
يُحرم بها المحدث استغفار الملائكة ودعاؤهم المرجو بركته،
ويدل على ذلك قول الرسول: (النخامة فى المسجد خطيئة
وكفارتها دفنها) ، فلما كان للنخامة كفارة قيل للمتنخم:
تمادى فى المسجد فى صلاتك وابق فيه مدعوًا لك، ولما لم يكن
للحدث فى المسجد كفارة ترفع أذاه كما رفع الدفن أذى
النخامة لم يتمادى الاستغفار له ولا الدعاء، وجب زوال
الملائكة عنه لما آذاهم به من الرائحة الخبيثة، والله
أعلم. قال المؤلف: فمن كان كثير الذنوب وأراد أن يحطها
الله عنه بغير تعب فليغتنم ملازمة مكان مصلاه بعد الصلاة
ليستكثر من دعاء الملائكة واستغفارهم له، فهو مرجو إجابته
لقوله: (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى) [الأنبياء: 28] ، وقد
أخبر عليه السلام أنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر
له ما تقدم من ذنبه، وتأمين الملائكة إنما هو مرة واحدة
عند تأمين الإمام ودعاؤهم لمن قعد فى مصلاه دائمًا أبدًا
ما دام قاعدًا فيه، فهو أحرى بالإجابة، وقد شبه (صلى الله
عليه وسلم) انتظاهر الصلاة بعد الصلاة بالرباط وأكد ذلك
بتكراره مرتين بقوله: (فذلكم الرباط) ، فعلى كل مؤمن عاقل
سمع هذه الفضائل الشريفة أن يحرص على الأخذ بأوفر الحظ
منها ولا تمر عنه صفحًا.
(2/95)
وقد اختلف السلف فى جلوس المُحدث فى المسجد
فروى عن أبى الدرداء أنه خرج من المسجد فبال، ثم دخل وتحدث
مع أصحابه ولم يمس ماءً، وعن على بن أبى طالب مثله، وروى
ذلك عن عطاء، والنخعى، وسعيد بن جبير. وكره أن يتعمد
الجلوس فى المسجد على غير وضوءٍ سعيدُ بن المسيب، والحسن
البصرى وقالا: يمر مارًا ولا يجلس فيه.
54 - باب بُنْيَانِ الْمَسْجِدِ
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ الخدرى: كَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ
مِنْ جَرِيدِ النَّخْلِ. وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِنَاءِ
الْمَسْجِدِ، وَقَالَ: أَكِنَّ النَّاسَ مِنَ الْمَطَرِ،
وَإِيَّاكَ أَنْ تُحَمِّرَ أَوْ تُصَفِّرَ، فَتَفْتِنَ
النَّاسَ. وَقَالَ أَنَس: ٌ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا، ثُمَّ لا
يَعْمُرُونَهَا إِلا قَلِيلا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
لَتُزَخْرِفُنَّهَا، كَمَا زَخْرَفَتِ الْيَهُودُ
وَالنَّصَارَى. / 77 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ الْمَسْجِدَ
كَانَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
مَبْنِيًّا بِاللَّبِنِ، وَسَقْفُهُ الْجَرِيدُ،
وَعُمُدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ، فَلَمْ يَزِدْ فِيهِ أَبُو
بَكْرٍ شَيْئًا، وَزَادَ فِيهِ عُمَرُ، وَبَنَاهُ عَلَى
بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ بِاللَّبِنِ
وَالْجَرِيدِ، وَأَعَادَ عُمُدَهُ خَشَبًا، ثُمَّ
غَيَّرَهُ عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيَادَةً كَثِيرَةً
وَبَنَى جِدَارَهُ بِالْحِجَارَةِ الْمَنْقُوشَةِ
وَالْقَصَّةِ، وَجَعَلَ عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ
مَنْقُوشَةٍ، وَسَقَفَهُ بِالسَّاجِ) . قال المؤلف: جاءت
الآثار عن الرسول، وعن السلف الصالح بكراهية تشييد المساجد
وتزيينها، وروى حبيب بن الشهيد، عن الحسن قال: (لما بنى
المسجد قالوا: يا رسول الله، كيف نبنيه؟ قال: (ليس
(2/96)
رغبة عن أخى موسى، عريش كعريش موسى) ، وروى
سفيان عن أبى فزارة، عن يزيد بن الأصم أن رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) قال: (ما أمرت بتشييد المساجد) . وقال
أبى: إذا زوقتم مساجدكم وحليتم مصاحفكم، فالدمار عليكم.
وقال ابن عباس: أمرنا أن نبنى المساجد حما والمدائن شرفًا.
وقال مجاهد: نهينا أن نصلى فى مسجد مشرف. وهذه الآثار مع
ما ذكر البخارى فى هذا الباب تدل أن السنة فى بنيان
المساجد: القصد، وترك الغلو فى تشييدها خشية الفتنة
والمباهاة ببنائها؛ ألا ترى أن عمر قال للذى أمره ببناء
المسجد: (أَكِنَّ الناس من المطر، وإياك أن تحمر أو تصفر
فتفتن الناس) ، ويمكن أن يفهم هذا عمر من رد الرسول
الخميصة إلى أبى جهم حين نظر إلى أعلامها فى الصلاة، وقال:
(أخاف أن تفتننى) . وكان عمر قد فتح الله الدنيا فى أيامه
ومكنه من المال، فلم يغير المسجد عن بنيانه الذى كان عليه
فى عهد النبى، ثم جاء الأمر إلى عثمان، والمال فى زمانه
أكثر، فلم يزد أن جعل فى مكان اللبن حجارة وقصَّة، وسقفه
بالساج مكان الجريد، فلم يُقصر هو وعمر عن البلوغ فى
تشييده إلى أبلغ الغايات إلا عن علم منهما عن الرسول
بكراهة
(2/97)
ذلك، وليقتدى بهما فى الأخذ من الدنيا
بالقصد والكفاية، والزهد فى معالى أمورها وإيثار البلغة
منها. روى برد أبو العلاء، عن القاسم بن عبد الرحمن قال:
(جمعت الأنصار مالاً، فقالوا: يا رسول الله، ابن بهذا
المسجد فقال: (إذًا يعجب ذلك المنافقين) ، فدل هذا الحديث
أن المؤمنين لا ينبغى أن يعجبهم ذلك.
55 - باب التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ الْمَسْجِدِ وقول الله:
(مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ
اللَّهِ) [التوبة: 17] ، الآية
. / 78 - فيه: عِكْرِمَةَ: (أن ابْنُ عَبَّاسٍ قَالَ له
وَلابْنِهِ: انْطَلِقَا إِلَى أَبِي سَعِيدٍ فَاسْمَعَا
مِنْ حَدِيثِهِ، فَانْطَلَقْنَا، فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ
يُصْلِحُهُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ، فَاحْتَبَى به، ثُمَّ
أَنْشَأَ فحَدِّثُنَا، حَتَّى أَتَى على ذِكْرُ بِنَاءِ
الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً،
وَعَمَّارٌ لَبِنَتَيْنِ لَبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ نَّبِيُّ
الله (صلى الله عليه وسلم) ، فَنْفُضُ التُّرَابَ عَنْهُ،
وَيَقُولُ: وَيْحَ عَمَّارٍ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ
وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ:
أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ) . التعاون فى بنيان
المسجد من أفضل الأعمال؛ لأن ذلك مما يجرى للإنسان أجره
بعد مماته، ومثل ذلك حفر الآبار وتحبيس الأموال التى يعم
العامة نفعها. قال المهلب: وفى هذا الحديث بيان ما اختلف
فيه من قصة عمار وقوله: (يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى
النار) ، إنما يصح ذلك فى الخوارج الذين بعث إليهم على
عمارًا ليدعوهم إلى الجماعة، وليس
(2/98)
يصح فى أحد من الصحابة؛ لأنه لا يجوز لأحد
من المسلمين أن يتأول عليهم إلا أفضل التأويل؛ لأنهم أصحاب
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذين أثنى الله عليهم
وشهد لهم بالفضل، فقال تعالى: (كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس)
[آل عمران: 110] . قال المفسرون: هم أصحاب رسول الله، وقد
صح أن عمارًا بعثه على إلى الخوارج يدعوهم إلى الجماعة
التى فيها العصمة بشهادة الرسول (لا تجتمع أمتى على ضلال)
. وفيه: أن عمارًا فهم عن الرسول أن هذه الفتنة فى الدين
يستعاذ بالله منها، وفى الاستعاذة منها دليل أنه لا يدرى
أحد فى الفتنة أمأجور هو أم مأزور إلا بغلبة الظن، ولو كان
مأجورًا ما استعاذ بالله من الأجر، وهذا يرد الحديث الذى
روى: (لا تستعيذوا بالله من الفتنة، فإنها حصاد المنافقين)
. وقول عكرمة، عن أبى سعيد: (فأخذ رداءه فاحتبى به، ثم
أنشأ فحدثنا) ، فيه أن العالم له أن يتهيأ للحديث ويجلس له
جلسته. وفيه: أن الرجل العالم يبعث ابنه إلى عالم آخر
ليتعلم منه؛ لأن العلم لا يحوى جميعه أحد ولا يحيط به
مخلوق. وفيه: أن أفعال البر للإنسان أن يأخذ منها ما يشق
عليه إن شاء كما أخذ عمار لبنتين، فاستحق بذلك كرامةً من
الرسول فى نفضه عنه الغبار، وذكر فضيلته التى تأتى فى
الزمن الذى بعده. وفيه: علامة النبوة؛ لأنه عليه السلام،
أخبر بما يكون فكان كما قال.
(2/99)
56 - باب الاسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ
وَالصُّنَّاعِ فِي أَعْوَادِ الْمِنْبَرِ وَالْمَسْجِدِ
/ 79 - فيه: سهل بن سعد قال: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) إِلَى امْرَأَةٍ قال: (مُرِي غُلامَكِ
النَّجَّارَ، يَعْمَلْ لِي أَعْوَادًا أَجْلِسُ
عَلَيْهِنَّ) . / 80 - وقال جابر: (قَالَتْ امْرَأَةً: يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَلا أَجْعَلُ لَكَ شَيْئًا، تَقْعُدُ
عَلَيْهِ، فَإِنَّ لِي غُلامًا نَجَّارًا؟ قَالَ: (إِنْ
شِئْتِ) ، فَعَمِلَتِ الْمِنْبَرَ) . فيه: الاستعانة بأهل
الصناعات والمقدرة فى كل شىء يشمل المسلمين نفعه، وأن
المبادر إلى ذلك مشكور له فعله. فإن قيل: فإن حديث سهل
يخالف معنى حديث جابر، وذلك أن فى حديث سهل أن الرسول سأل
المرأة أن تأمر عبدها بعمل المنبر، وفى حديث جابر أن
المرأة سألت النبى (صلى الله عليه وسلم) ذلك. قيل: يحتمل
أن تكون المرأة بدأت النبى بالمسألة وتبرعت له بعمل
المنبر، فلما أباح لها ذلك وقبل رغبتها، أمكن أن يبطئ
الغلام بعمله، فتعلقت نفس الرسول به فاستنجزها إتمامه
وإكمال عدتها، إذ علم عليه السلام طيب نفس المرأة بما
بذلته من صنعة غلامها، وقد يمكن أن يكون إرساله عليه
السلام، إلى المرأة ليعرفها بصفة ما يصنع الغلام فى
الأعواد وأن يكون ذلك منبرًا. وفيه: أنه من وعد غيره
بِعَدةٍ أنه يجوز استنجازه فيها، وتحريكه فى إتمامها.
(2/100)
57 - باب مَنْ بَنَى مَسْجِدًا
/ 81 - فيه: عُثْمَانَ أنه قال - عِنْدَ قَوْلِ النَّاسِ
فِيهِ حِينَ بَنَى مَسْجِدَ الرَّسُولِ -: إِنَّكُمْ
أَكْثَرْتُمْ، وَإِنِّي سَمِعْتُ رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) يَقُولُ: (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا - قَالَ بُكَيْرٌ:
حَسِبْتُ أَنَّهُ قَالَ: يَبْتَغِي بِهِ وَجْهَ اللَّهِ -
بَنَى اللَّهُ لَهُ مِثْلَهُ فِي الْجَنَّةِ) . المساجد
بيوت الله وقد أضافها الله إلى نفسه بقوله: (إنما يعمر
مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) [التوبة: 18] ،
حسبك بهذا شرفًا لها، وقال: (فى بيوت أذن الله أن ترفع)
[النور: 36] ، الآية فهى أفضل بيوت الدنيا وخير بقاع
الأرض، وقد تفضل الله على بانيها بأن بنى له قصرًا فى
الجنة، وأجر المسجد جارٍ لمن بناه فى حياته وبعد مماته ما
دام يُذكر الله فيه ويُصلَّى فيه، وهذا مما جازت المجازاة
فيه من جنس الفعل.
58 - بَاب يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي
الْمَسْجِدِ
/ 82 - فيه: جابر قال: مَرَّ رَجُلٌ فِي الْمَسْجِدِ،
وَمَعَهُ سِهَامٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ:
(أَمْسِكْ بِنِصَالِهَا) . / 83 - وفيه: أبو بردة: قال نبى
الله (صلى الله عليه وسلم) : (مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ مِنْ
مَسَاجِدِنَا أَوْ أَسْوَاقِنَا بِنَبْلٍ، فَلْيَأْخُذْ
عَلَى نِصَالِهَا، لا يَعْقِرْ بِكَفِّهِ مُسْلِمًا)
(2/101)
هذا من تأكيد حرمة المسلم لئلا يروع بها أو
يؤذى؛ لأن المساجد مورودة بالخلق، ولا سيما فى أوقات
الصلوات، فخشى عليه السلام أن يؤذى بها أحد، وهذا من كريم
خلقه، ورأفته بالمؤمنين. والمراد بهذا الحديث: التعظيم
لقليل الدم وكثيره. وفيه: أن المسجد يجوز فيه إدخال
السلاح، وأما حيث جابر، فإنه لا يظهر فيه الإسناد؛ لأن
سفيان قال لعمرو: أسمعت جابرًا يقول: مر رجل فى المسجد
ومعه سهام، فقال له رسول الله: (أمسك بنصالها) ، ولم يُنقل
أن عمرًا، قال له: نعم، وقد ذكره البخارى فى غير كتاب
الصلاة، عن على بن عبد الله، عن سفيان قال: قلت لعمرو:
سمعت جابر بن عبد الله يقول: مر رجل بسهام فى المسجد، فقال
له رسول الله: (أمسك بنصالها) ، فقال: نعم، فبان بقوله:
نعم، إسناد الحديث.
59 - باب إنشاد الشِّعْرِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 84 - فيه: أبو سلمة: أَنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بْنَ
ثَابِتٍ يَسْتَشْهِدُ أَبَا هُرَيْرَةَ: أَنْشُدُكَ
اللَّهَ، هَلْ سَمِعْتَ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يَقُولُ: (يَا حَسَّانُ، أَجِبْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ،
اللَّهُمَّ أَيِّدْهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ؟) قَالَ أَبُو
هُرَيْرَةَ: نَعَمْ. قال المؤلف: ليس فى حديث هذا الباب
بيان أن حسان أنشد شعرًا فى المسجد بحضرة النبى، وقد ذكر
البخارى هذا الحديث فى كتاب بدء الخلق، وبه يتم معنى هذا
الباب، قال سعيد بن المسيب:
(2/102)
(مر عمر فى المسجد وحسان ينشد، فقال: كنت
أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، ثم التفت إلى أبى هريرة
فقال: أنشدك بالله أسمعت النبى يقول: أجب عنى اللهم أيده
بروح القدس؟ قال: نعم) ، يدل هذا أن قول الرسول لحسان:
(أجب عن رسول الله) ، كان فى المسجد، وأنه أنشد فيه ما
جاوب به المشركين. واختلف العلماء فى إنشاد الشعر فى
المسجد، فأجازته طائفة إذا كان الشعر مما لا بأس بروايته،
قال ابن حبيب: رأيت ابن الماجشون، ومحمد بن سلام ينشدان
فيه الشعر ويذكران أيام العرب وقد كان اليربوع، والضحاك بن
عثمان ينشدان مالكًا ويحدثانه بأخبار العرب، فيصغى إليهما،
وخالفهم فى ذلك آخرون، فكرهوا إنشاد الشعر فى المسجد،
واحتجوا بما رواه الليث، عن ابن عجلان، عن عمرو بن شعيب،
عن أبيه، عن جده: (أن الرسول كره أن ينشد الشعر فى المسجد،
وأن تباع فيه السلع، وأن يتحلق فيه قبل الصلاة) . قال
الطحاوى: وحجة أهل المقالة الأولى ما ذكره البخارى فى بدء
الخلق، أن عمر مر فى المسجد وحسان ينشد فيه، فزجره، فقال:
كنت أنشد فيه، وفيه من هو خير منك، وكان ذلك بحضرة أصحاب
الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فلم ينكره أحد منهم ولا
أنكره عمر أيضًا، فكأن الشعر الذى نهى عن إنشاده فى
المسجد: الشعر الذى فيه الخنا والزور، ويجوز أن يكون الشعر
الذى يغلب على المسجد حتى يكون كل من فى المسجد متشاغلاً
به، كما تأول أبو عبيد فى قوله عليه السلام: (لأن يمتلئ
جوف أحدكم قيحًا حتى يَرِيَهُ، خير له من أن يمتلئ شعرًا)
، أنه الذى يغلب على صاحبه.
(2/103)
65 - باب أَصْحَابِ الْحِرَابِ فِي
الْمَسْجِدِ
/ 85 - فيه: عائشة قالت: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) يَوْمًا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي،
وَالْحَبَشَةُ يَلْعَبُونَ فِي الْمَسْجِدِ، وَرَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَسْتُرُنِي بِرِدَائِهِ،
أَنْظُرُ إِلَى لَعِبِهِمْ) . قال المهلب: المسجد موضوع
لأمر جماعة المسلمين، فما كان من الأعمال مما يجمع منفعة
الدين وأهله، فهو جائز فى المسجد، واللعب بالحراب من تدريب
الجوارح على معانى الحروب، وهو من الاشتداد للعدوِّ،
والقوة على الحرب فهو جائز فى المسجد وغيره. وفيه: جواز
النظر إلى اللهو المباح وقد يمكن أن يكون ترك الرسول عائشة
لتنظر إلى اللعب بالحراب؛ لتضبط السنة فى ذلك وتنقل بعض
تلك الحركات المحكمة إلى بعض من يأتى من أبناء المسلمين
وتعرفهم بذلك. وفيه: من حسن خلق الرسول وكريم معاشرته
لأهله ما يلزم المسلم امتثاله والاقتداء به فيه، ألا ترى
وقوفه عليه السلام وستره لعائشة وهى تنظر إلى اللعب.
61 - باب ذِكْرِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ عَلَى الْمِنْبَرِ
فِي الْمَسْجِدِ
/ 86 - فيه: عائشة: أن بَرِيرَةُ أَتَتْهَا تَسْأَلُهَا
كِتَابَتِهَا، فقام رَسُولُ اللَّهِ عَلَى الْمِنْبَرِ
فَقَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا
لَيْسَت فِي كِتَابِ اللَّهِ) . وذكر الحديث.
(2/104)
قال المؤلف: المساجد إنما اتخذت لذكر الله
تعالى وتلاوة القرآن، والصلاة، وإنما يجوز فيها من البيع
والشراء وسائر أمور الدنيا ما يكون بمعنى تعليم الناس
والتنبيه لهم على الاحتراس من مواقعة الحرام ومخالفة
السنن، والموعظة فى ذلك، وقد روى عن نبى الله (صلى الله
عليه وسلم) أنه نهى عن البيع والشراء فى المسجد، وهو قول
مالك وجماعة من العلماء، وروى الدراوردى، عن يزيد بن
الخصيفة، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبى هريرة أن
الرسول قال: (إذا رأيتم الرجل يبيع ويشترى فى المسجد،
فقولوا: لا أربح الله تجارتك، وإذا رأيتم الرجل ينشد فيه
الضالة، فقولوا: لا ردَّ الله عليك) ، وذكر مالك، عن عطاء
بن يسار أنه كان يقول لمن أراد أن يبيع فى المسجد: عليك
بسوق الدنيا، فإنما هذا سوق الآخرة. قال الطحاوى: ومعنى
البيع الذى نهى عنه فى المسجد الذى يغلب على المسجد ويعمه،
حتى يكون كالسوق، فذلك مكروه، وأما ما سوى ذلك فلا بأس به،
وكذلك التحلق الذى نهى عنه قبل الصلاة إذا عم المسجد
وغلبه، فهو مكروه، وغير ذلك لا بأس به، وقد أجمع العلماء
أن ما عقد من البيع فى المسجد أنه لا يجوز نقضه، إلا أن
المسجد ينبغى أن يجنب جميع أمور الدنيا، ولذلك بنى عمر بن
الخطاب البطحاء خارج المسجد، وقال: (من أراد أن يلغط،
فليخرج إليها) ، فوجب تنزيه المسجد عما لم يكن من أمور
الله تعالى.
(2/105)
62 - باب التَّقَاضِي وَالْمُلازَمَةِ فِي
الْمَسْجِدِ
/ 87 - فيه: كَعْبٍ بن مالك: أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي
حَدْرَدٍ دَيْنًا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْجِدِ،
فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى سَمِعَهَا رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ فِي بَيْتِهِ،
فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا، حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ،
فَنَادَى: (يَا كَعْبُ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ: ضَعْ مِنْ دَيْنِكَ هَذَا، وَأَوْمَأَ
إِلَيْهِ، أَيِ الشَّطْرَ، قَالَ: قَدْ فَعَلْتُ يَا
رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: قُمْ فَاقْضِهِ) . قال المؤلف:
فيه: المخاصمة فى المسجد فى الحقوق والمطالبة بالديون،
وقال مالك: لا بأس أن يقضى الرجل الرجل فيه ذهبًا، فأما
بمعنى التجارة والصرف فلا أحبه. قال المهلب: وفيه الحض على
الوضع عن المُعْسِرِ. وفيه: القضاء بالصالح إذا رآه
السلطان صلاحًا ولم يشاور الموضوع عنه إن كان يقبل الوضيعة
أم لا. وفيه: الحكم عليه بالصالح إذا كان فيه رشده وصلاح
له لقوله: (قم فاقضه) . وفيه: أن الإشارة باليد تقوم مقام
الإفصاح باللسان إذا فهم المراد بها. وفيه: الملازمة فى
الاقتضاء. وفيه: إنكار رفع الصوت بالمسجد بغير القراءة،
إلا أنه عليه السلام، لم يعنفهما على ذلك لما كان لابد
لهما منه.
63 - باب كَنْسِ الْمَسْجِدِ وَالْتِقَاطِ الْخِرَقِ
وَالْقَذَى وَالْعِيدَانِ
/ 88 - فيه: أبو هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَجُلا أَسْوَدَ - أَوِ
امْرَأَةً سَوْدَاءَ - كَانَ يَقُمُّ الْمَسْجِدَ،
(2/106)
فَمَاتَ، فَسَأَلَ الرسول (صلى الله عليه
وسلم) عَنْهُ، فَقَالُوا: مَاتَ، قَالَ: أَفَلا كُنْتُمْ
آذَنْتُمُونِي بِهِ؟ دُلُّونِي عَلَى قَبْرِهِ - أَوْ
قَالَ: قَبْرِهَا - فَأَتَى قَبْرَهَا، فَصَلَّى
عَلَيْهَا) . وترجم له: باب الخدم للمسجد. قال ابن عباس:
قوله تعالى: (إنى نذرت لك ما فى بطنى محررًا) [آل عمران:
35] ، يعنى: محررًا للمسجد. قال المؤلف: فيه الحض على كنس
المساجد وتنظيفها؛ لأنه عليه السلام، إنما خصه بالصلاة
عليه بعد دفنه لأجل ذلك، وقد روى عن الرسول (صلى الله عليه
وسلم) أنه كنس المسجد، ذكر ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن موسى
بن عبيدة، عن يعقوب بن زيد: (أن الرسول كان يتبع غبار
المسجد بجريدة) ، وعن وكيع، قال: حدثنا كثير بن زيد، عن
المطلب بن عبد الله بن حنطب: (أن عمر أتى مسجد قباء على
فرس له، فصلى فيه، ثم قال: يا يرفأ ائتنى بجريدة فأتاه
بها، فاحتجز عمر بثوبه، ثم كنسه) . وفى حديث أبى هريرة:
خدمة الصالحين والتبرك بذلك. وفيه: السؤال عن الخادم
والصديق إذا غاب وافتقاده. وفيه: المكافأة بالدعاء والترحم
على من أوقف نفسه على نفع المسلمين ومصالحهم. وفيه: الرغبة
فى شهود جنائز الصالحين. قال ابن القصار: وفى صلاة الرسول
على قبر السوداء بعد دفنها
(2/107)
دليل على جواز الصلاة فى المقبرة، وقال
صاحب الأفعال: قَمَّ البيت قمًا: كنسه، والقمامة: الكناسة،
وقمت الشاة: رعت، ويقال للمكنسة: المقمة.
64 - باب تَحْرِيمِ تِجَارَةِ الْخَمْرِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 89 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (لَمَّا أُنْزِلَتِ
الآيَاتُ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا، خَرَجَ
النَّبِيُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَرَأَهُنَّ عَلَى
النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ تِجَارَةَ الْخَمْرِ) . قال
المؤلف: غرضه فى هذا الباب، والله أعلم، أن المسجد لما كان
مسجدًا للصلاة ولذكر الله منزهًا عن ذكر الفواحش، والخمرُ
والربا من أكبر الفواحش، فلما ذكر الرسول تحريمها فى
المسجد، دل أنه لا بأس بذكر المحرمات والأقذار فى المسجد
على وجه النهى عنها والمنع منها.
65 - باب الأسِيرِ أَوِ الْغَرِيمِ يُرْبَطُ فِي
الْمَسْجِدِ
وكان شريح يأمر الغريم أن يحبس إلى سارية المسجد. / 90 -
فيه: أبو هريرة: قال الرسول: (إِنَّ عِفْرِيتًا مِنَ
الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ - أَوْ كَلِمَةً
نَحْوَهَا - لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلاةَ، فَأَمْكَنَنِي
اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى
سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ، حَتَّى تُصْبِحُوا،
وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي
سُلَيْمَانَ: (رَبِّ اغفر لى وهَبْ لِي مُلْكًا لا
يَنْبَغِي لأحَدٍ مِنْ بَعْدِي) [ص 53] ) قَالَ رَوْحٌ:
فَرَدَّهُ خَاسِئًا.
(2/108)
وفى هذا الحديث إباحة ربط الأسير فى
المسجد، قال المهلب: فيه ربط من خشى هروبه لحق عليه أو
دينٍ والتوثق منه فى المسجد وغيره، ورؤيته عليه السلام
للعفريت هو ما خُصَّ به كما خُصَّ برؤية الملائكة، فقد
أخبر أن جبريل له ستمائة جناح، وأخبرنا الله بذلك بقوله:
(لقد رأى من آيات ربه الكبرى) [النجم: 18] ، وبقوله: (ولقد
رآه نزلةً أخرى) [النجم: 13] ، وقد رآهم يوم انصرافهم عن
الخندق، ورأى الشيطان فى هذه الليلة وأقدر عليه لتجسمه؛
لأن الأجسام ممكن القدرة عليها، ولكنه ألقى فى روعه ما وهب
سليمان، فلم ينفذ ما قوى عليه من حبسه رغبة عما أراد
سليمان الانفراد به، وحرصًا على إجابة الله دعوته، وأما
غير الرسول (صلى الله عليه وسلم) من الناس فلا يمكن من هذا
ولا يرى أحد الشيطان على صورته غير الرسول؛ لأن الله يقول:
(إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم) [الأعراف: 27] ،
لكنه يراه سائر الناس إذا تشكل فى غير شكله، وتصور فى غير
صورته، كما تشكل الذى طعنه الأنصارى حين وجده فى بيته فى
صورة حية، فقتلهُ، فمات الرجل به، وبين الرسول ذلك فى
قوله: (إن بالمدينة جنًا قد أسلموا) . وقوله: (فرده
خاسئًا) ، يقال: خسأ الكلب خسوءًا: تباعدًا، وخسأته قلت
له: اخسأ.
66 - باب: الاغْتِسَالِ إِذَا أَسْلَمَ
/ 91 - فيه: أبو هريرة قال: (بَعَثَ الرسول (صلى الله عليه
وسلم) خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ
بَنِي حَنِيفَةَ، يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ،
فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي
(2/109)
الْمَسْجِدِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ الرسول،
فَقَالَ: (أَطْلِقُوا ثُمَامَةَ) ، فَانْطَلَقَ إِلَى
نَخْلٍ قَرِيبٍ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ
دَخَلَ الْمَسْجِدَ، فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ
إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) . اختلف
العلماء هل على من أسلم غسل؟ على ثلاثة أقوال، واختلف فى
ذلك قول مالك أيضًا، فقال فى (المدونة) : إذا أسلم
النصرانى فعليه الغسل؛ لأنهم لا يتطهرون، وممن أوجب عليه
الغسل أحمد بن حنبل، وأبو ثور. والقول الثانى: روى ابن
وهب، وابن أبى أويس، عن مالك أنه سئل عن رجل أسلم هل يجب
عليه غسل أم يكفيه الوضوء؟ قال: لم يبلغنا أن رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) أمر أحدًا أسلم بالغسل. والقول
الثالث: قال ابن المنذر: قال الشافعى: أحب أن يغتسل، فإن
لم يكن جنبًا أجزأه أن يتوضأ، ولابن القاسم فى (العتبية)
مثله قال: من أسلم فعليه أن يغتسل، فإن توضأ وصلى ولم
يغتسل أعاد أبدًا إذا كان قد جامع أو كان جنبًا، وهذا يدل
من قوله: إن لم يكن جنبًا أنه يجزئه الوضوء كما قال
الشافعى، قال المهلب: وحديث ثمامة حجة لرواية ابن وهب،
وابن أبى أويس؛ لأن ثمامة حين انطلق فاغتسل، ثم دخل
المسجد، ثم شهد بالإسلام، وليس فى الحديث أن نبى الله أمره
بالاغتسال، ولذلك قال مالك: لم يبلغنا أن رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) أمر أحدًا أسلم بالغسل. قال أبو عبد الله
بن أبى صفرة: وأما قول مالك الآخر: (عليه الغسل؛ لأنهم لا
يتطهرون) ، فإن معناه لا يتطهرون من النجاسة فى أبدانهم،
لا يجوز غير هذا؛ لأنه يستحيل عليهم التطهير من الجنابة
وإن نووها؛ لعدم الشرع، فسقط قول الشافعى وابن القاسم. قال
(2/110)
أبو عبد الله: فإن قيل: إذا كان عندك غير
جنب فلا يكون محدثًا فأبيح له الصلاة بغير وضوء. فالجواب:
أنه إذا أسلم وهو غير جنب ولا متوضئ، فوجب أن يتوضأ للصلاة
إذا كان غير متوضئ، كما لا يغتسل لأنه غير جنب، وإنما
اغتساله سنة لما قال مالك أنهم لا يتطهرون من النجاسة فى
أبدانهم.
67 - باب الْخَيْمَةِ فِي الْمَسْجِدِ لِلْمَرْضَى
وَغَيْرِهِمْ
/ 92 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ
الْخَنْدَقِ فِي الأكْحَلِ، فَضَرَبَ الرسول (صلى الله
عليه وسلم) خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ، لِيَعُودَهُ مِنْ
قَرِيبٍ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ، وَفِي الْمَسْجِدِ خَيْمَةٌ
مِنْ بَنِي غِفَارٍ، إِلا الدَّمُ يَسِيلُ إِلَيْهِا،
فَقَال: يَا أَهْلَ الْخَيْمَةِ، مَا هَذَا الَّذِي
يَأْتِينَا مِنْ قِبَلِكُمْ؟) فَإِذَا سَعْدٌ يَغْذُو
جُرْحُهُ دَمًا، فَمَاتَ منهَا. قال المهلب: فيه جواز سكنى
المسجد للعذر. وفيه: أن السلطان أو العالم إذا شق عليه
النهوض إلى عيادة مريض يزوره ممن يهمه أمره، أن ينقل
المريض إلى الموضع يخف عليه فيه زيارته ويقرب منه. وفيه:
أن النجاسات ليست إزالتها بفرض، ولو كان فرضًا لحيل بينها
وبين الذريعة إليها، ولما أجاز الرسول للجريح أن يسكن فى
المسجد، علمنا أن الأمر ليس على الفرض، وكذلك حين ترك
الأعرابى يبول فى المسجد، وقال: دعوه، ولو كان حرامًا
فرضًا، ما قال: دعوه يستديم البول. وقال صاحب (العين) :
غَذَا العِرْقُ يغذو: إذا سال الدم.
(2/111)
68 - باب إِدْخَالِ الْبَعِيرِ فِي
الْمَسْجِدِ لِلْعِلَّةِ
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ طَافَ النَّبِيُّ (صلى الله عليه
وسلم) عَلَى بَعِيرٍ. / 93 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ:
(شَكَوْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
أَنِّي أَشْتَكِي، قَالَ: (طُوفِي مِنْ وَرَاءِ النَّاسِ،
وَأَنْتِ رَاكِبَةٌ) ، فَطُفْتُ، وَرَسُولُ اللَّهِ
يُصَلِّي إِلَى جَنْبِ الْبَيْتِ، يَقْرَأُ بِالطُّورِ
وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ) . قال المهلب: فيه جواز دخول الدواب
التى تؤكل لحومها، ولا ينجس بولها المسجد إذا احتيج إلى
ذلك، وأما دخول سائر الدواب فلا يجوز وهو قول مالك، وفيه
أن راكب الدابة ينبغى له أن يتجنب ممر الناس ما استطاع،
ولا يخالط الرجالة، وكذلك ينبغى أن تخرج النساء إلى حواشى
الطرق، وقد استنبط بعض العلماء من هذا الحديث طواف النساء
بالبيت من وراء الرجال لعلة التزاحم والتناطح، قال غيره:
طواف النساء من وراء الرجال هى السنة؛ لأن الطواف صلاة ومن
سنة النساء فى الصلاة أن يكن خلف الرجال، فكذلك الطواف.
وقوله: (طوفى وأنت راكبة) فهو ضرورة، وقد اختلف العلماء فى
الصحيح يطوف راكبًا على ما يأتى فى كتاب الحج، إن شاء
الله.
69 - باب
/ 94 - فيه: أنس، (أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَصْحَابِ الرسول
خَرَجَا مِنْ عِنْدِ الرسول فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ،
وَمَعَهُمَا مِثْلُ الْمِصْبَاحَيْنِ، يُضِيئَانِ بَيْنَ
أَيْدِيهِمَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا، صَارَ مَعَ كُلِّ
وَاحِدٍ، مِنْهُمَا وَاحِدٌ حَتَّى أَتَى أَهْلَهُ) . قال
المؤلف: إنما ذكر البخارى هذا الحديث فى باب أحكام
(2/112)
المساجد، والله أعلم؛ لأن الرجلين كانا مع
الرسول وهو موضع جلوسه مع الصحابة، فلما كان معه هذان
الرجلان فى علم ينشره أو فى صلاة، أكرمهم الله، تعالى،
بالنور فى الدنيا ببركة الرسول وفضل مسجده وملازمته
والرجلان هما عباد بن بشر، وأُسيد بن حضير. قال المهلب:
وتلك آية للنبى (صلى الله عليه وسلم) وكرامة له، وأنه خص
فى الآيات بما لم يخص به من كان قبله، أن أعطى أن يكرم
أصحابه بمثل هذا النور عند حاجتهم إليه، وذلك من خرق
العادات، وكان يصلح أن يترجم لهذا الحديث باب قوله تعالى:
(ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور) [النور: 40] ،
يشير إلى أن الآية عامة فيما يحتمل أن يستثبت منها المعنى،
لا سيما وقد ذكر الله النور فى المشكاة والزجاجة) فى بيوت
أذن الله ترفع) [النور: 36] الآية، فاستدل أن الله تعالى،
يجعل لمن يسبح فى تلك المساجد نورًا فى قلوبهم، ونورًا فى
جميع أعضائهم ونورًا بين أيديهم ومن خلفهم فى الدنيا
والآخرة، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور، فلما
خرجا من عند النبى فى الليلة المظلمة أراهم بركة نبيه
وكرامته بما جعل الله لهما من النور بين أيديهما يستضيئان
به فى ممشاهما مع قوله: (بشر المشائين فى الظلم إلى
المساجد بالنور التام يوم القيامة) ، فجعل لهم منه فى
الدنيا، ليزدادوا إيمانًا بالنبى مع إيمانهم، ويُوقِنَا أن
كذلك يكون ما وعدهم الله من النور الذى يسعى بين أيديهم
وبأيمانهم يوم القيامة؛ برهانًا
(2/113)
لمحمد، عليه السلام، على صدق ما وعد به أهل
الإيمان الملازمين للبيوت التى أذن الله أن ترفع ويذكر
فيها اسمه.
70 - باب الْخَوْخَةِ وَالْمَمَرِّ فِي الْمَسْجِدِ
/ 95 - فيه: أبو سعيد الخدرى قَالَ: خَطَبَ الرسول (صلى
الله عليه وسلم) فَقَالَ: (إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْدًا
بَيْنَ الدُّنْيَا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا
عِنْدَ اللَّهِ) ، فَبَكَى أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ،
فَقُلْتُ فِي نَفْسِي: مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ؟ إِنْ
يَكُنِ اللَّهُ خَيَّرَ عَبْدًا بَيْنَ الدُّنْيَا
وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ، فَاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ،
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) هُوَ
الْعَبْدَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ أَعْلَمَنَا، قَالَ: (يَا
أَبَا بَكْرٍ لا تَبْكِى إِنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ
فِي صُحْبَتِهِ وَمَالِهِ أَبُو بَكْرٍ، وَلَوْ كُنْتُ
مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً، لاتَّخَذْتُ أَبَا
بَكْرٍ، وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإسْلامِ وَمَوَدَّتُهُ، لا
يَبْقَيَنَّ فِي الْمَسْجِدِ بَابٌ إِلا سُدَّ إِلا بَابُ
أَبِي بَكْرٍ) . / 96 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ، أن نبى
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) قال فِي مَرَضِهِ الَّذِي
مَاتَ فِيهِ: (لَيْسَ مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنَّ
عَلَيَّ فِي نَفْسِهِ وَمَالِهِ. . .) الحديث. قال المهلب:
فيه التعريض بالعلم للناس، وإن قل فهماؤه، خشية أن يدخل
عليهم مساءة أو حزن. وفيه: أنه لا يستحق أحد العلم حقيقة
إلا من فهم، والحافظ لا يبلغ درجة الفهم، وإنما يقال
للحافظ عالم بالنص لا بالمعنى والتأويل؛ ألا ترى أن أبا
سعيد جعل لأبى بكر مزية بفهمه، أوجب له بها العلم حقيقة
وإن كان قد أوجب العلم للجماعة.
(2/114)
وفيه: أن أبا بكر أعلم الصحابة؛ لأن أبا
سعيد شهد له بذلك بحضرة جماعتهم، ولم ينكر ذلك عليه أحد،
ويدل على صحة ذلك مقامه بعد موت النبى (صلى الله عليه
وسلم) ، ووقت ارتداد العرب على بديهة منه دون أن يطيش له
جنان، أو يختلج له لسان، وشدة نفسه وثبات قدمه، ولذلك حلف
أبو هريرة بالله الذى لا إله إلا هو: لولا أبو بكر الصديق
ما عبد الله، وسيأتى تمام هذا المعنى فى كتاب الزكاة.
وفيه: الحض على اختيار ما عند الله والزهد فى الدنيا
والإعلام بمن اختار ذلك من الصالحين. وفيه: أن على السلطان
شكر من أحسن صحبته ومعونته بنفسه وماله، والاعتراف له
بالمنة، واختصاصه بالفضيلة التى لم يُشارك فيها، كما اختص
هو أبا بكر بما لم يخص به غيره، وذلك أنه جعل بابه فى
المسجد؛ ليخلفه فى الإمامة ليخرج من بيته إلى المسجد، كما
كان الرسول يخرج، ومنع الناس كلهم من ذلك دليل على خلافة
أبى بكر بعد الرسول، ودليل على أن المرشح للخلافة يُخصُّ
بكرامة تدل على ترشحه. وفيه: دليل أن الخليل فوق الصديق
والأخ. وفيه: استئلاف النفوس بقوله: (ولكن أخوة الإسلام
أفضل) ، فاستألفهم بأن حرمة الخُلَّة بمعنى شامل لهم عنده،
وإن كان قد فضل أبا بكر بما دل على ترشحه للخلافة بعده،
وهكذا وقع فى الحديث: (ولكن خُوَّة الإسلام أفضل) ، ولا
أعرف معناه وقد وجدت الحديث فى الباب بعده: (ولكن خلة
الإسلام أفضل) ، وهو الصواب؛ لأنه عليه السلام، صرف الكلام
على ما تقدمه من ذكر
(2/115)
(الخلالة) ، فأتى بلفظ مشتق منها، وهو
(الخُلَّة) ، ولم أجد (خُوَّة) ، بمعنى (خُلَّة) فى كلام
العرب، وقال أبو سليمان الخطابى: قوله: (أَمَنَّ) ، أسمح
بماله وأبذل له، ولم يرد به معنى الامتنان؛ لأن المنة تفسد
الصنيعة، ولا منَّةَ لأحد على رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) ، بل له المنة على الأمة قاطبة، و (المَنُّ) فى كلام
العرب: الإحسان إلى من لا يستثيبه، قال الله تعالى: (هذا
عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب) [ص: 39] ، وقال: (ولا
تمنن تستكثر) [المدثر: 6] ، أى: لا تعط لتأخذ من المكافأة
أكثر مما أعطيت.
71 - باب الأبْوَابِ وَالْغَلَقِ لِلْكَعْبَةِ
وَالْمَسَاجِدِ
قال ابن أبى مليكة لابن جريج: لو رأيت مساجد ابن عباس
وأبوابها. / 97 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ نَّبِيَّ الله
قَدِمَ مَكَّةَ، فَدَعَا عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ،
فَفَتَحَ الْبَابَ، فَدَخَلَ الرسول (صلى الله عليه وسلم)
، وَبِلالٌ، وَأُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ
طَلْحَةَ، ثُمَّ أَغْلَقَ الْبَابَ، فَلَبِثَ فِيهِ
سَاعَةً، ثُمَّ خَرَجُوا) . قال المؤلف: اتخاذ الأبواب
للمساجد واجب لتصان عن مكان الريب، وتنزه عما لا يصلح فيها
من غير الطاعات. قال المهلب: وإدخال الرسول معه هؤلاء
الثلاثة، لمعانٍ تخص كل واحد منهم، فأما دخول عثمان
فلخدمته البيت فى الغلق والفتح والكنس، ولو لم يدخله لغلق
بابها؛ لتوهم الناس أنه عزله، وأما بلال فمؤذنه وخادم أمر
صلاته، وأما أسامة فمتولى خدمة ما يحتاج إليه وهم خاصته؛
فللإمام أن يستخص خاصته ببعض ما يستتر به عن
(2/116)
الناس وأما غلق الباب، والله أعلم، حين صلى
فى البيت؛ لئلا يظن الناس أن الصلاة فيه سنة، فيلزمون ذلك.
72 - باب دُخُولِ الْمُشْرِكِ الْمَسْجِدَ
/ 98 - فيه: أبو هريرة: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) خَيْلا قِبَلَ نَجْدٍ، فَجَاءَتْ بِرَجُلٍ مِنْ
بَنِي حَنِيفَةَ يُقَالُ لَهُ: ثُمَامَةُ بْنُ أُثَالٍ،
فَرَبَطُوهُ بِسَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ) .
اختلف الفقهاء فى دخول المشرك المسجد، فأجازه أبو حنيفة
والشافعى، إلا أن الشافعى قال: لا يدخل المسجد الحرام
خاصة، ويدخل سائر المساجد، وجوزه أبو حنيفة فى المسجد
الحرام وسائر المساجد، وأجاز ابن محيريز، ومجاهد دخول أهل
الكتاب فى المسجد، وقال أبو صالح: ليس للمشركين أن يدخلوا
المسجد الحرام إلا خائفين، وقال مالك، والمزنى: لا يدخل
المشرك كل مسجد أصلاً. وروى مثله عن عمر بن عبد العزيز،
والحجة لهم قوله تعالى: (ومن يعظم شعائر الله فإنها من
تقوى القلوب) [الحج: 32] ، ومن تعظيم الشعائر منع الكافر
دخول البيت والمساجد كلها، وقد اتفقنا على منع الجنب
والحائض من دخول المسجد؛ لمنعهما من القراءة، والكافر أولى
بذلك، وحجة من أجاز ذلك حديث ثمامة، وأن الرسول (صلى الله
عليه وسلم) حبسه فى المسجد وهو مشرك. قال ابن المنذر: فى
حديث ثمامة دخول المشرك المسجد وإباحة دخول الجنب فيه، وهو
أولى بذلك؛ لأن النبى أخبر أن المسلم ليس بنجس ومما رواه
ابن جريج، عن عثمان بن أبى سليمان أن مشركى
(2/117)
قريش حين أتوا النبى فى فداء من أُسِرَ
منهم ببدر، كانوا يبيتون فى مسجد الرسول، فمنهم: جبير بن
مطعم، فكان جبير يسمع قراءة الرسول (صلى الله عليه وسلم)
وجبير مشرك، والحجة على أبى حنيفة فى جواز دخوله فى المسجد
الحرام، قوله تعالى: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد
الحرام بعد عامهم هذا) [التوبة: 28] الآية، وهذا خطاب
للمؤمنين أن يمنعوهم من المسجد الحرام، وقال أبو حنيفة:
معناه لا يقربوه للطواف خاصة، وقيل: هو عموم وظاهره أن لا
يقربوه أصلاً. فإن قال: هو موضع من الحرم فأشبه سائر الحرم
فى جواز دخولهم فيه. قيل: يلزمكم هذا فى دخولهم البيت، فإن
امتنعوا من البيت انتقض تعليلهم وإن جوزوه فهو قبيح جدًا،
وقد أمر الله تعالى بتعظيم شعائره وذلك يوجب منعهم منه.
73 - باب رَفْعِ الصَّوْتِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 99 - فيه: السائب بم زيد قال: كُنْتُ قَائِمًا فِي
الْمَسْجِدِ، فَحَصَبَنِي رَجُلٌ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا
عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: اذْهَبْ، ائتِنِي
بِهَذَيْنِ، فَجِئْتُهُ بِهِمَا، فقَالَ: مَنْ أَنْتُمَا -
أَوْ مِنْ أَيْنَ أَنْتُمَا؟ - قَالا: مِنْ أَهْلِ
الطَّائِفِ، قَالَ: لَوْ كُنْتُمَا مِنْ أَهْلِ الْبَلَدِ،
لأوْجَعْتُكُمَا، تَرْفَعَانِ أَصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) . / 100 - وفيه:
كَعْبِ: (أَنَّهُ تَقَاضَى ابْنَ أَبِي حَدْرَدٍ دَيْنًا
لَهُ عَلَيْهِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ فِي
الْمَسْجِدِ، فَارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، حَتَّى
سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
(2/118)
وَهُوَ فِي بَيْتِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا
حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ، وَنَادَى: (يا كَعْبَ
بْنَ مَالِكٍ) ، قَالَ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ،
فَأَشَارَ بِيَدِهِ أَنْ ضَعِ الشَّطْرَ مِنْ دَيْنِكَ،
قَالَ كَعْبٌ: قَدْ فَعَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ: قُمْ فَاقْضِهِ) . قال بعض الناس: أما
إنكار عمر رفع الصوت فى المسجد، فيدل أنهم رفعوا أصواتهم
فيما لا يحتاجون إليه من اللغط الذى لا يجوز فى المسجد،
ولذلك بنى عمر البطحاء خارج المسجد؛ لينزهه عن الخنا
والرفث، فسألهم إن كانوا من أهل البلد ممن تقدم العلم
إليهم بإنكار رفع الصوت فى اللغط فيه، فلما أخبراه أنهما
من غير البلد عذرهما بالجهل. وأما ارتفاع صوت كعب وابن أبى
حدرد فى المسجد، فلما كان على طلب حقٍ واجبٍ، لم يغير
الرسول ذلك عليهم، ولو كان لا يجوز رفع الصوت فيه فى حق
ولا غيره لما ترك النبى، عليه السلام، بيان ذلك إذ هو
مُعَلِّم، وقد فرض الله، تعالى، عليه ذلك. وأما مذاهب
العلماء فى ذلك، فذهب مالك وطائفة أنه لا يرفع الصوت فى
المسجد فى العلم ولا غيره، قال مالك: ولقد أدركت الناس
قديمًا يعيبون ذلك على بعض من يكون ذلك محله، وما للعلم
ترفع فيه الأصوات، إنى لأكره ذلك، ولا أرى فيه خيرًا رواه
ابن عبد الحكم عنه، وقال محمد بن مسلمة فى المبسوط: لا بأس
برفع الصوت فى المسجد فى الخبر يخبرونه والخصومة تكون
بينهم، ولا بأس بالأحداث التى تكون بين الناس فيه من الشىء
يعطونه، وما يحتاجون إليه؛ لأن المسجد مجتمع للناس فلابد
لهم مما يحتاجون إليه من ذلك، وأجاز أبو حنيفة وأصحابه رفع
الصوت فى المسجد.
(2/119)
ذكر ابن أبى خيثمة قال: حدثنا إبراهيم بن
بشار، حدثنا سفيان بن عيينة قال: مررت بأبى حنيفة وهو مع
أصحابه فى المسجد، وقد ارتفعت أصواتهم، فقلت: يا أبا حنيفة
هذا فى المسجد والصوت لا ينبغى أن يرفع فيه، فقال: دعهم،
فإنهم لا يفهمون إلا بهذا.
74 - باب الْحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي الْمَسْجِدِ
/ 101 - فيه: ابن عمر قَالَ: (سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ
(صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ، مَا تَرَى
فِي صَلاةِ اللَّيْلِ؟ قَالَ: (مَثْنَى مَثْنَى) . / 102 -
وقال مرة: أَنَّ رَجُلا نَادَى النَّبِيَّ وَهُوَ فِي
الْمَسْجِدِ. / 103 - وفيه: أبو وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ:
(بَيْنَمَا الرَسُولُ فِي الْمَسْجِدِ، فَأَقْبَلَ
ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ، وَذَهَبَ وَاحِدٌ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى
فُرْجَةً فِي الْحَلْقَةِ فَجَلَسَ، وَأَمَّا الآخَرُ
فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ
قَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنِ الثَّلاثَةِ؟ ، أَمَّا
أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ،
وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَى فَاسْتَحْيَى اللَّهُ
مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ
عَنْهُ) . أجمع العلماء على جواز التحلق والجلوس فى المسجد
لذكر الله تعالى وللعلم. قال المهلب: وشبه البخارى فى حديث
جلوس الرجال فى المسجد حول الرسول (صلى الله عليه وسلم)
وهو يخطب بالتحلق والجلوس فى المسجد للعلم. وفيه: أن
الخطيب إذا سئل عن أمر الدين أن له أن يجاوب من سأله ولا
يضر ذلك خطبته.
(2/120)
وفيه: فضل حلق الذكر، لقوله: (أوى إلى
الله، فآواه الله) . قال غيره: وفيه سد الفرج فى حلق
الذكر، وقد جاء فى سدِّها فى صفوف الصلاة وفى الصف فى سبيل
الله، ترغيب وآثار، ومعلوم أن حلق الذكر من سبيل الله.
وفيه: أن التزاحم بين يدى العالم من أفضل أعمال البر، ألا
ترى قول لقمان لابنه: (يا بنى جالس العلماء وزاحمهم
بركبتك، فإن الله يحيى القلوب بنور الحكمة، كما يحيى الأرض
بوابل السماء) . وفيه: من حسن الأدب أن يجلس المرء حيث
انتهى به مجلسه، ولا يُقيمُ أحدًا، وقد روى ذلك عن الرسول.
وفيه: ابتداء العالم جلساءه بالعلم قبل أن يسأل عنه. وفيه:
مدح الحياء والثناء على صاحبه. وفيه: ذم من زهد فى العلم
واستجازة القول فيه؛ لأنه لا يدبر أحد عن حلقة رسول الله
وفيه خير. وقوله: (فأوى إلى الله) ، غير ممدود (فآواه
الله) ، بالمد يقال: أويت إلى الشىء بقصر الهمزة، دخلت
فيه، قال الله تعالى: (إذ أوى الفتية إلى الكهف) [الكهف:
10] ، وآويت غيرك إذا ضممته إلى نفسك، بالمد، قال الله
تعالى: (ألم يجدك يتيمًا فآوى) [الضحى: 6] .
(2/121)
75 - باب الاسْتِلْقَاءِ فِي الْمَسْجِدِ
[وَمَدِّ الرِّجْلِ] (1) / 104 - فيه: عباد بن تميم، عن
عمه: (أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
مُسْتَلْقِيًا فِي الْمَسْجِدِ، وَاضِعًا إِحْدَى
رِجْلَيْهِ عَلَى الأخْرَى) . قال سعيد بن المسيب: وكان
عمر وعثمان يفعلان ذلك. فيه أن الاستلقاء وشبهه خفيف فعله
فى المسجد، وقد روى عن النبى (صلى الله عليه وسلم) ما
يعارض هذا الحديث، روى حماد بن سلمة، وابن جريج، والليث بن
سعد، عن أبى الزبير، عن جابر بن عبد الله: (أن الرسول نهى
أن يضع الرجل إحدى رجليه على الأخرى وهو مستلق على ظهره) ،
فنرى والله أعلم، أن البخارى أدخل حديث عبد الله بن زيد
معارضًا لحديث جابر، ولذلك أردفه بما رواه ابن المسيب أن
عمر، وعثمان كانا يفعلان ذلك، قال الزهرى: وجاء الناس بأمر
عظيم فى إنكار ذلك، فكأنه ذهب إلى أن حديث جابر منسوخ بهذا
الحديث، واستدل على نسخه بعمل الخليفتين بعده؛ إذ لا يجوز
أن يخفى عليهما الناسخ من المنسوخ من سنته عليه السلام.
76 - باب الْمَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطَّرِيقِ، مِنْ غَيْرِ
ضَرَرٍ لِلنَّاسِ فِيهِ
وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَأَيُّوبُ وَمَالِكٌ. / 105 -
فيه: عائشة: (لَمْ أَعْقِلْ أَبَوَايَّ إِلا وَهُمَا
يَدِينَانِ الدِّينَ، وَلَمْ يَمُرَّ عَلَيْنَا يَوْمٌ
إِلا يَأْتِينَا فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ طَرَفَيِ
النَّهَارِ بُكْرَةً وَعَشِيَّةً، ثُمَّ بَدَا لأبِي
بَكْرٍ، فَابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، فَكَانَ
يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَيَقِفُ عَلَيْهِ
نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، يَعْجَبُونَ
مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ
(2/122)
رَجُلا بَكَّاءً، لا يَمْلِكُ عَيْنَيْهِ،
إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأَفْزَعَ ذَلِكَ أَشْرَافَ
قُرَيْشٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) . قال المؤلف: أما بناء
المسجد فى الطريق، فذكر ابن شعبان فى كتاب (الزاهى) قال:
وينبغى أن تجتنب الصلاة فى المساجد المبنية حيث لا يجوز
بناؤها من الطرقات والفحوص ومراسى السفن؛ لأنها وضعت فى
غير حقها، فمن صلى فيها متأولاً أنه يصلى فى الطريق وحيث
ما له منه مثل ما لغيره أجزأته صلاته، قال: ولو كان مسجد
فى فحص واحدٍ واسع، فأراد الإمام أن يزيد فيه من الفحص ما
لا يضر بالسالكين لم يمنع عند مالك، ومنع فى قول ربيعة وهو
الأصح عندى، وإنما اخترت قول ربيعة؛ لأنه غير عائد إلى
جميعهم، قد ترتفق به الحائض والنفساء، ومن لا يجب عليه
الصلاة من الأطفال ومن يسلكه من أهل الذمة. ووجه قول مالك:
أن الزيادة فى المسجد هى لهم وإليهم تعود، قال غيره:
والحجة لقول مالك ابتناء أبى بكر مسجدًا بفناء داره، ووجه
ذلك أن أفنية الدور، وإن كان لا ينبغى لأحد استحقاق شىء
منها، ولا الانفراد بمنافعها دون غيره من السالكين، فإن
المسجد بقعة لجماعة المسلمين، ولا يجوز لأحد تملكه، هو فى
معنى الطريق فى البقعة لجماعة المسلمين، بل هو أكثر نفعًا
لإقامة الصلاة فيه التى هى أعظم أمور الإسلام، وأن
الاحتياط فى إقامتها أفضل من الاحتياط فى إرفاق الصبى
والحائض والذمى فى سعة الطريق، إذا بقى منه ما لا يضر
بالمارة والسالكين، وإلى قول مالك ذهب البخارى فى ترجمته.
(2/123)
وفيه: من فضل أبى بكر ما لا يشاركه فيه
أحد؛ لأنه قصد تبليغ كتاب الله وإظهاره مع الخوف على نفسه،
ولا يبلغ أحد هذه المنزلة بعد الرسول.
77 - باب الصَّلاةِ فِي مَسَاجِدِ السُّوقِ
وَصَلَّى ابْنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ
عَلَيْهِمُ الْبَابُ. / 106 - فيه: أبو هريرة: (صَلاةُ
الْجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ،
وَصَلاتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً)
الحديث. قال المؤلف: فيه أن الأسواق مواضع للصلوات، وإن
كان قد جاء فيها حديث عن النبى (صلى الله عليه وسلم) : (أن
سائلاً سأله عن شر البقاع، فلم يكن عنده علم ذلك حتى جاء
جبريل فقال: شر البقاع الأسواق، وخيرها المساجد) ، رواه
الآجرى فى كتبه، وخشى البخارى أن يتوهم من رأى ذلك الحديث
أنه لا تجوز الصلاة فى الأسواق استدلالاً به، إذ كانت
الأسواق شر البقاع، والمساجد خير البقاع فلا يجوز أن تعمل
الصلاة فى شر البقاع، فجاء فى حديث أبى هريرة إجازة الصلاة
فى السوق، وأن الصلاة فيه للمنفرد درجة من خمس وعشرين درجة
كصلاة المنفرد فى بيته، واستدل البخارى أنه إذا جازت
الصلاة فى السوق فُرَادَى كان أولى أن يتخذ فيه مسجد
للجماعات، لفضل الجماعة كما تتخذ المساجد فى البيوت عند
الأعذار لفضل الجماعة، والله أعلم.
(2/124)
78 - باب تَشْبِيكِ الأصَابِعِ فِي
الْمَسْجِدِ وَغَيْرِهِ
/ 107 - فيه: أبو موسى: قال عليه السلام: (إِنَّ
الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ
بَعْضًا، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ) . / 108 - وفيه: أبو
هُرَيْرَةَ: (صَلَّى بِنَا الرَسُولُ إِحْدَى صَلاتَيِ
الْعَشِاء جميعًا، صَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ
إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ
عَلَيْهَا، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى،
فاتكأ عليهما وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ) الحديث. اختلف
العلماء فى تشبيك الأصابع فى المسجد، وفى الصلاة، فرويت
آثار مرسلة عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) أنه نهى عن
تشبيك الأصابع فى المسجد من مراسيل ابن المسيب، ومنها مسند
من طرق غير ثابتة. روى ابن أبى شيبة، عن وكيع، عن عبد الله
بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن مولى لأبى سعيد: (أنه
كان مع أبى سعيد وهو مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ،
فدخل الرسول المسجد فرأى رجلاً جالسًا وسط الناس قد شبك
بين أصابعه يحدث نفسه، فأومأ إليه الرسول فلم يفطن، فالتفت
إلى أبى سعيد فقال: (إذا صلى أحدكم فلا يشبكن بين أصابعه،
فإن التشبيك من الشيطان، وإن أحدكم لا يزال فى صلاة ما دام
فى المسجد حتى يخرج منه) . وهذه الآثار معارضة لحديثى هذا
الباب وهى غير مقاومة لهما فى الصحة ولا مساوية، وكره
إبراهيم تشبيك الأصابع فى الصلاة، وهو قول مالك، ورخص فى
ذلك ابن عمر، وسالم بن عبد الله، وكانا يشبكان بين
أصابعهما فى الصلاة،
(2/125)
ذكرهما ابن أبى شيبة، وكان الحسن البصرى
يشبك بين أصابعه فى المسجد، وقال مالك: إنهم لينكرون تشبيك
الأصابع فى المسجد، وما به بأس وإنما يكره فى الصلاة.
79 - باب الْمَسَاجِدِ الَّتِي عَلَى طُرُقِ الْمَدِينَةِ
وَالْمَوَاضِعِ الَّتِي صَلَّى فِيهَا الرسول (صلى الله
عليه وسلم)
/ 109 - وكان سَالِمَ يَتَحَرَّى أَمَاكِنَ مِنَ
الطَّرِيقِ يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّ أَبَاهُ كَانَ
يُصَلِّي فِيهَا، وَأَنَّهُ رَأَى الرسول يُصَلِّي فِي
تِلْكَ الأمْكِنَةِ فى حديث طويل. قال المؤلف: إنما كان
يصلى ابن عمر فى المواضع التى صلى فيها النبى على وجه
التبرك بتلك الأمكنة، والرغبة فى فضلها، ولم يزل الناس
يتبركون بمواضع الصالحين وأهل الفضل؛ ألا ترى أن عتبان بن
مالك سأل نبى الله أن يصلى فى بيته ليتخذ المكان مصلى،
فصلى فيه النبى (صلى الله عليه وسلم) . وقد جاء عن عمر بن
الخطاب خلاف فعل ابنه عبد الله، روى شعبة، عن سليمان
التيمى، عن المعرور بن سويد، قال: (كان عمر بن الخطاب فى
سفر فصلى الغداة، ثم أتى على مكان، فجعل الناس يأتونه،
ويقولون: صلى فيه النبى، عليه السلام، فقال عمر: إنما هلك
أهل الكتاب أنهم اتبعوا آثار أنبيائهم، فاتخذوها كنائس،
وبيعًا، فمن عرضت له الصلاة، فليصل وإلا فليمض) . إنما خشى
عمر أن يلتزم الناس الصلاة فى تلك المواضع حتى يشكل ذلك
على من يأتى بعدهم، ويرى ذلك واجبًا، وكذلك ينبغى للعالم
إذا رأى الناس يلتزمون النوافل والرغائب التزامًا شديدًا،
أن يترخص فيها فى بعض المرات ويتركها ليعلم بفعله ذلك أنها
غير واجبة، كما
(2/126)
فعل ابن عباس وغيره فى ترك الأضحية، وقد
روى أشهب عن مالك أنه سئل عن الصلاة فى المواضع التى صلى
فيها الرسول (صلى الله عليه وسلم) ، فقال: ما يعجبنى ذلك
إلا مسجد قباء. قال المؤلف: وإنما قال ذلك مالك؛ لأن النبى
(صلى الله عليه وسلم) كان يأتى قباء راكبًا وراجلاً ولم
يكن يفعل ذلك فى تلك الأمكنة، والله أعلم. وفى هذا الحديث
ألفاظ كثيرة من الغريب قوله: (فدحا فيه السيل) ، يقال:
دحا، دفع، ودحا المطر الحصى عن وجه الأرض، والدحو: البسط
أيضًا، والكثيب: رمل أو تراب مجتمع، والهضبة: الصخرة
الرأسية الضخمة، والجمع هضاب، والرضم: حجارة مرصوصة بعضها
فوق بعض، والواحدة رضمة، وبِرْذَوْن مرضوم العَصَب: إذا
صار فيه كالعُقَد، من كتاب العين، والسلَمة، بفتح اللام،
الشجرة، والسلِمة، بكسر اللام، الصخرة. والسرحة: الشجرة،
والجمع سرح. وهرشى: موضع. وقال ابن دريد: الغَلْوة: أن
ترمى بسهم حيثما ما بلغ، وقد غلا وهو من الغلو: الارتفاع
فى الشىء ومجاوزة الحد فيه، وكل مرتفع فقد تغلى والجمع
غِلاء، والأكمة: التلّ، والجمع أَكَم، وإِكَام، وآكام،
وأُكم، والفُرضْةَ: مشرب الماء من النهر، والفرض: حَز فِى
شَبَة القوس.
(2/127)
80 - باب سُتْرَةُ الإمَامِ سُتْرَةُ مَنْ
خَلْفَهُ
/ 110 - فيه: ابن عباس قال: (أَقْبَلْتُ رَاكِبًا عَلَى
حِمَارٍ أَتَانٍ، وَأَنَا يَوْمَئِذٍ قَدْ نَاهَزْتُ
الاحْتِلامَ، وَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
يُصَلِّي بِالنَّاسِ بِمِنًى إِلَى غَيْرِ جِدَارٍ،
فَمَرَرْتُ بَيْنَ يَدَيْ بَعْضِ الصَّفِّ، فَنَزَلْتُ،
وَأَرْسَلْتُ الأتَانَ تَرْتَعُ، وَدَخَلْتُ فِي الصَّفِّ،
فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيَّ أَحَدٌ) . / 111 - وفيه:
ابن عمر: (أَنَّ نبى اللَّهِ كَانَ إِذَا خَرَجَ يَوْمَ
الْعِيدِ أَمَرَ بِالْحَرْبَةِ، فَتُوضَعُ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَيُصَلِّي إِلَيْهَا وَالنَّاسُ وَرَاءَهُ،
وَكَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ فِي السَّفَرِ، فَمِنْ ثَمَّ
اتَّخَذَهَا الأمَرَاءُ) . / 112 - وفيه: أبو جحيفة:
(أَنَّ الرسول صَلَّى بِهِمْ بِالْبَطْحَاءِ، وَبَيْنَ
يَدَيْهِ عَنَزَةٌ، الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَالْعَصْرَ
رَكْعَتَيْنِ، تَمُرُّ بَيْنَ يَدَيْهِ الْمَرْأَةُ
وَالْحِمَارُ) . قال بعض العلماء: سترة الإمام سترة لمن
خلفه بإجماع، قابله المأموم أم لا، فلا يضر من مشى بين يدى
الصفوف خلف الإمام، والسترة عند العلماء سنة مندوب إليها،
ملوم تاركها. واختلف أصحاب مالك فيمن صلى إلى غير سترة فى
فضاء يأمن من أن يمرَّ أحد بين يديه، فقال ابن القاسم:
يجوز له ذلك ولا حرج عليه، وقال ابن الماجشون، ومطرف: سنة
الصلاة أن يصلى إلى سترة لابد منها، وحديث ابن عباس يشهد
لقول ابن القاسم، وروى عن جماعة من السلف منهم عطاء،
وسالم، والقاسم، وعروة، والشعبى، والحسن أنهم كانوا يصلون
فى الفضاء إلى غير سترة. وقال ابن القصار فى قول ابن عباس:
(فمررت بين يدى بعض
(2/128)
الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع) ، حجة لمن
قال: إن الحمار لا يقطع الصلاة، ألا ترى قوله: (فلم ينكر
ذلك علىّ أحد) ، فدل أنه المعروف عندهم، وقد زعم من قال:
إن الحمار يقطع الصلاة أنه لا حجة فى هذا الحديث، وقال: إن
مرور الأتان كان خلف الإمام بين يدى بعض الصف، والإمام
سترة لمن خلفه، وهذا غير صحيح؛ لأنه قد رُوى حديث ابن عباس
بلفظ هو حجة لأهل المقالة الأولى، ذكر البزار، قال: حدثنا
بشر بن آدم، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال: حدثنى
عبد الكريم الجزرى أن مجاهدًا أخبره عن ابن عباس قال:
(أتيت أنا والفضل على أتانٍ، فمررنا بين يدى رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) بعرفة، وهو يصلى المكتوبة، ليس بشىء
يستره يحول بيننا وبينه) . وروى شعبة، عن الحكم، عن يحيى
بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس قال: (مررت برسول الله
وهو يصلى، وأنا على حمار، وغلام من بنى هاشم فلم ينصرف) .
فبان أن مرور ابن عباس كان بين يدى الرسول. وفيه: إجازة
شهادة من علم الشىء صغيرًا، وأَدَّاهُ كبيرًا، وهذا لا
خلاف فيه بين العلماء، وفى حديث ابن عمر جواز الصلاة إلى
الحربة. وفى حديث أبى جُحَيفة: أن المرأة والحمار لا
يقطعان الصلاة. وفيه: أن سترة الإمام سترة لمن خلفه، وقال
صاحب الأفعال: ناهزت الاحتلام: قربت منه، ونهزت الشىء:
تناولته، ونهزت إليه: نهضت.
(2/129)
81 - باب كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
بَيْنَ الْمُصَلِّي وَالسُّتْرَةِ
/ 113 - فيه: سهل قال: (كَانَ بَيْنَ مُصَلَّى رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَبَيْنَ الْجِدَارِ مَمَرُّ
الشَّاةِ) . / 114 - وفيه: سَلَمَةَ قَالَ: (كَانَ جِدَارُ
الْمَسْجِدِ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، مَا كَادَتِ الشَّاةُ أن
تَجُوزُهَا) . قال المؤلف: هذا أقل ما يكون بين المصلى
وسترته، وأكثر ذلك عند قوم من الفقهاء، وقال آخرون: أقل
ذلك ثلاثة أذرع؛ لحديث بلال أن رسول الله حين صلى فى
الكعبة بينه وبين القبلة قريبًا من ثلاثة أذرع، هذا قول
عطاء، وبه قال الشافعى، وأحمد بن حنبل، ولم يَحُدّ مالك فى
ذلك حدًا، وقال أبو إسحاق السبيعى: رأيت عبد الله بن مغفل
يصلى وبينه وبين القبلة ثلاثة أذرع، وفى حديث آخر: فجوة
وهى الفرجة، وهذا شذوذ عند الفقهاء؛ لمخالفة الآثار
الثابتة عن الرسول له، منها أحاديث هذا الباب ومنها ما
رواه ابن عيينة، عن صفوان بن سليم، عن نافع بن جبير، عن
سهل بن أبى حثمة قال: قال رسول الله: (إذا صلى أحدكم إلى
سترة، فليدن منها لا يقطع الشيطان صلاته) .
82 - باب الصَّلاةِ إِلَى الْحَرْبَةِ
/ 115 - فيه: ابن عمر: (أَنَّ الرسولَ (صلى الله عليه
وسلم) كَانَ تُرْكَزُ لَهُ الْحَرْبَةُ، فَيُصَلِّي
إِلَيْهَا) .
83 - باب الصَّلاةِ إِلَى الْعَنَزَةِ
/ 116 - فيه: أبو جحيفة: (أن نبى الله صَلَّى وَبَيْنَ
يَدَيْهِ عَنَزَةٌ. . .) ، الحديث.
(2/130)
/ 117 - وفيه: أنس: (أن الرسول (صلى الله
عليه وسلم) كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ، تَبِعْتُهُ
أَنَا وَغُلامٌ، مَعَنَا عُكَّازَةٌ أَوْ عَصًا أَوْ
عَنَزَةٌ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ حَاجَتِهِ، نَاوَلْنَاهُ
الإدَاوَةَ) . قال المهلب: الحربة والعنزة، إنما هما علم
للناس على موضع صلاته ألا يحرفوه بالمشى بين يديه فى
صلاته، ومعنى حمل العنزة والماء أن الرسول كان التزم أن لا
يكون إلا على طهارة فى أكثر أحواله، وكان إذا توضأ صلى ما
أمكنه بذلك الوضوء مذ أخبره بلال بما أوجب الله له الجنة
من أنه لم يتوضأ قط إلا صلى، فلذلك كان يحمل الماء والعنزة
إلى موضع الخلاء والتبرز، وقال أبو عبد الله بن أبى صفرة:
انظر مناولتهم الإداوة، يدل أنه استنجى بالماء؛ لأن العادة
فى الوضوء أن يَصُبُّوا على يديه، وكذلك تأتى الأحاديث.
قال المهلب: وفى حديث أنس خدمة السلطان والعالم، قال غيره:
وهكذا مذاهب الفقهاء متقاربة فى أقل ما يجزئ المصلى من
السترة، فقال مالك: يجزئه غلظ الرمح والعصا وارتفاع ذلك
قدر عظم الذراع، ولا تفسد صلاة من صلى إلى غير سترة، وإن
كان مكروهًا له، وهو قول الشافعى، وقال الثورى، وأبو
حنيفة: أقل السترة قدر مؤخرة الرحل يكون ارتفاعها ذراعًا،
وهو قول عطاء، وقال الأوزاعى مثله، إلا أنه لم يَحُدَّ
ذراعًا ولا غيره، وكل هؤلاء لا يجيزون الخَطَّ، ولا أن
تعرض العصا فى الأرض فيصلى إليها غير الأوزاعى والشافعى فى
أحد قوليه، فإنهما قالا: إذا لم يجد شيئًا يقيمه بين يديه
عرضه وصلى إليه، وإن لم يجدُ خطَّ خطا، وروى
(2/131)
مثله عن سعيد بن جبير، وبه قال أحمد، وأبو
ثور، واحتجوا بحديث إسماعيل بن أمية، عن أبى عمرو بن محمد
بن حريث، عن عمه، عن أبى هريرة، عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) قال: (إذا صلى أحدكم، فليجعل تلقاء وجهه شيئًا، فإن
لم يجد فلينصب عصاهُ، فإن لم يكن معه عصا فليخطط بين يديه
خطًا ولا يضره من مرّ بين يديه) . وقال الطحاوى: أبو عمرو
وعمه مجهولان، وقال مالك، والليث: الخَطُّ باطل وليس بشىء،
وأصح ما فى سترة المصلى عن النبى (صلى الله عليه وسلم)
حديث ابن عمر، وحديث أبى جحيفة، وحديث أنس بن مالك. والله
الموفق.
84 - باب السُّتْرَةِ بِمَكَّةَ وَغَيْرِهَا
/ 118 - فيه: أبو جحيفة: (خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) بِالْهَاجِرَةِ، فَصَلَّى بِالْبَطْحَاءِ
الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ، وَنَصَبَ بَيْنَ
يَدَيْهِ عَنَزَةً، وَتَوَضَّأَ، فَجَعَلَ النَّاسُ
يَتَمَسَّحُونَ بِوَضُوئِهِ) . والسترة للمصلى معناها: درء
المارّ بين يديه، فكل من صلى فى مكان واسع، فالمستحب له أن
يصلى إلى سترة بمكة كان أو غيرها، إلا من صلى فى مسجد مكة
بقرب القبلة حيث لا يمكن أحدًا المرور بينه وبينها، فلا
يحتاج إلى سترة إذ قِبْلَةُ مكة سترة له، فإن صلى فى مؤخر
المسجد بحيث يمكن المرور بين يديه أو فى سائر بقاع مكة إلى
غير جدار أو شجرة أو ما أشبههما، فينبغى أن يجعل أمامه ما
يستره من المرور بين يديه كما فعل الرسول حين صلى بالبطحاء
إلى عنزة، والبطحاء خارج مكة، وكذلك حكم أهل مكة إذا كان
فضاء.
(2/132)
85 - باب الصَّلاةِ إِلَى الأسْطُوَانَةِ
وَقَالَ عُمَرُ: الْمُصَلُّونَ أَحَقُّ بِالسَّوَارِي مِنَ
الْمُتَحَدِّثِينَ إِلَيْهَا، وَرَأَى عُمَرُ رَجُلا
يُصَلِّي بَيْنَ أُسْطُوَانَتَيْنِ، فَأَدْنَاهُ إِلَى
سَارِيَةٍ، فَقَالَ: صَلِّ إِلَيْهَا. / 119 - فيه: سلمة:
أن كان يُصَلِّي عِنْدَ الأسْطُوَانَةِ الَّتِي عِنْدَ
الْمُصْحَفِ، وقَالَ: رَأَيْتُ رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) يفعله) . / 120 - وفيه: أنس قَالَ: (رَأَيْتُ
كِبَارَ أَصْحَابِ رسول الله (صلى الله عليه وسلم)
يَبْتَدِرُونَ السَّوَارِيَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ حَتَّى
يَخْرُجَ الرسول) . فلما كان رسول الله يستتر بالعنزة
والرمح فى الصحراء، كانت الأسطوانة أولى بذلك، ولما أجمعوا
أنه يجزئ من السترة قدر مؤخرة الرحل فى حلة الرمح، علم أن
الأسطوانة أشد سترة من ذلك. وفيه: أنه ينبغى أن تكون
الأسطوانة أمامه، ولا تكون إلى جنبه، لئلا يتخلل الصفوف
شىء فلا تكون له سترة.
86 - باب الصَّلاةِ بَيْنَ السَّوَارِي فِي غَيْرِ
جَمَاعَةٍ
/ 121 - فيه: ابن عمر أن بلالاً قال: (صَلَّى الرسول (صلى
الله عليه وسلم) بَيْنَ الْعَمُودَيْنِ الْمُقَدَّمَيْنِ
فى البيت) . / 122 - وقال مرة: (جَعَلَ عَمُودين عَنْ
يَمِينِهِ وَعَمُودًا عَنْ يَسَارِهِ، وَثَلاثَةَ
أَعْمِدَةٍ وَرَاءَهُ، وَكَانَ الْبَيْتُ يَوْمَئِذٍ عَلَى
سِتَّةِ أَعْمِدَةٍ، ثُمَّ صَلَّى) . / 123 - وقال ابن
عمر: كان بينه وبين الجدار الذى قبل وجهه قريب من ثلاثة
أذرع. الصلاة بين السوارى جائزة، وإنما يكره أن يكون الصف
يقطعه أسطوانة إذا صلوا جماعة؛ خشية أن يمر أحد بين يديه،
وإن كان
(2/133)
الإمام سترة لمن خلفه، ويستحب أن تكون
الأسطوانة خلف الصف أو أمامه، ليستتر بها المصلى فى
الجماعة. اختلف السلف فى الصلاة بين السوارى، فأجازه جماعة
وكرهه جماعة، فممن كرهه: أنس بن مالك، وقال: كنا نتقيه على
عهد رسول الله، وقال ابن مسعود: لا تصفوا بين الأساطين،
وكرهه حذيفة، وإبراهيم، وقال إبراهيم: لا تصلوا بين
الأساطين وأتموا الصفوف، وقال معاوية بن قرة، عن أبيه:
رآنى عُمر وأنا أصلى بين أسطوانتين، فأخذ بقفاى فأدنانى
إلى سترة وقال: صل إليها، وأجازه الحسن وابن سيرين، وكان
سعيد بن جبير، وإبراهيم التيمى، وسويد بن غفلة يؤمون قومهم
بين أسطوانتين، وهو قول الكوفيين، وقال مالك فى المدونة:
لا بأس بالصلاة بين الأساطين لضيق المسجد، قال ابن حبيب:
وليس النهى عن تقطيع الصفوف إذا ضاق المسجد، وإنما نهى عنه
إذا كان المسجد واسعًا. وفيه: أن أكثر ما وجد فى المسند من
المقدار الذى يكون بين المصلى وبين سترته ثلاثة أذرع إلا
أن الذى واظب عليه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فى
مقدار ذلك ممر الشاة على ما تقدم من الآثار، وصلاته فى
البيت كان مَرَّةً، وقد تقدم أمره عليه السلام، بالدنوّ من
السترة لئلا يتخلل الشيطان ذلك.
87 - باب الصَّلاةِ إِلَى الرَّاحِلَةِ وَالْبَعِيرِ
وَالشَّجَرِ وَالرَّحْلِ
/ 124 - فيه: ابن عمر، (أن نَّبِيِّ الله (صلى الله عليه
وسلم) : كَانَ يُعَرِّضُ رَاحِلَتَهُ، فَيُصَلِّي
إِلَيْهَا، قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِذَا هَبَّتِ الرِّكَابُ؟
قَالَ: كَانَ يَأْخُذُ الرَّحْلَ، فَيُعَدِّلُهُ،
فَيُصَلِّي إِلَى آخِرَتِهِ) .
(2/134)
هذه الأشياء كلها جائز الاستتار بها،
والصلاة إليها، وكذلك تجوز الصلاة إلى كل شىء طاهر. وقوله:
(كان يأخذ الرحل) ، يعنى ينزله عن الناقة من أجل حركتها
وزوالها عند هبوب الركاب. وقوله: (هبت الركاب) : زالت عن
مواضعها وذهبت، تقول العرب: هبت الناقة فى السير تهب هبّا:
تحركت، وهب النائم من نومه يهب هبوبًا: قام، والركاب:
الإبل.
88 - باب الصَّلاةِ إِلَى السَّرِيرِ
/ 125 - فيه: عَائِشَةَ قَالَتْ: (أَعَدَلْتُمُونَا
بِالْكَلْبِ وَالْحِمَارِ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي
مُضْطَجِعَةً عَلَى السَّرِيرِ، فَيَجِيءُ النَّبِيُّ
فَيَتَوَسَّطُ السَّرِيرَ، فَيُصَلِّي، فَأَكْرَهُ أَنْ
أُسَنِّحَهُ، فَأَنْسَلُّ مِنْ قِبَلِ رِجْلَيِ
السَّرِيرِ، حَتَّى أَنْسَلَّ مِنْ لِحَافِي) . قال
المهلب: هذا قول من قال: إن المرأة لا تقطع الصلاة؛ لأن
انسلالها من لحافها كالمرور بين يدى المصلى، وسيأتى ما
للعلماء فى ذلك بعد هذا، إن شاء الله. وقال صاحب (العين) :
أسنحه: أظهر له، وكل ما عرض لك فقد سنح، والسانح: ما أتاك
عن يمينك من طائر أو غيره.
89 - باب يَرُدُّ الْمُصَلِّي مَنْ مَرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ
ورد ابن عمر فى التشهد وفى الركعة، وقال: إن أبى إلا أن
تقاتله فقاتله. / 126 - فيه: أبو سعيد: (أنه كان يُصَلِّي
يَوْمِ جُمُعَةٍ إِلَى سْتُرُة، فَأَرَادَ شَابٌّ مِنْ
(2/135)
بَنِي أَبِي مُعَيْطٍ أَنْ يَجْتَازَ
بَيْنَ يَدَيْهِ، فَدَفَعَ أَبُو سَعِيدٍ فِي صَدْرِهِ،
فَنَظَرَ الشَّابُّ، فَلَمْ يَجِدْ مَسَاغًا إِلا بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَعَادَ لِيَجْتَازَ، فَدَفَعَهُ أَبُو سَعِيدٍ
أَشَدَّ مِنَ الأولَى، فَنَالَ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ، ثُمَّ
دَخَلَ عَلَى مَرْوَانَ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا لَقِيَ مِنْ
أَبِي سَعِيدٍ، وَدَخَلَ أَبُو سَعِيدٍ خَلْفَهُ عَلَى
مَرْوَانَ، فَقَالَ: مَا لَكَ وَلابْنِ أَخِيكَ يَا أَبَا
سَعِيدٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ (صلى الله عليه وسلم)
يَقُولُ: إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ إِلَى شَيْءٍ يَسْتُرُهُ
مِنَ النَّاسِ، فَأَرَادَ أَحَدٌ أَنْ يَجْتَازَ بَيْنَ
يَدَيْهِ، فَلْيَدْفَعْهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُقَاتِلْهُ
فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ) . قال بعض الفقهاء: واتفق
العلماء على دفع المارَ بين يدى المصلى إذا صلى إلى سترة،
وليس له إذا صلى إلى غير سترة أن يدفع من مَرَّ بين يديه؛
لأن الرسول جعل ما بينه وبين السترة من حقه الذى يجب له
منعه ما دام مصليًا، فأما إذا صلى إلى غير سترة، فليس له
أن يدرأ أحدًا؛ لأن التصرف والمشى مباح لغيره فى ذلك
الموضع الذى يصلى فيه وهو وغيره سواء، فلم يستحق أن يمنع
شيئًا منه إلا ما قام الدليل عليه، وهو السترة التى وردت
السنة بمنعها، وقال مالك: لا يرده وهو ساجد فإنما استحق
المقاتلة؛ لأنه لا عذر له بعد أن جعل له علمًا يمر من
ورائه، والمقاتلة هاهنا: المدافعة فى لطف، وأجمعوا أنه لا
يقاتله بسيف ولا يخاطفه، فى أخرى: ولا يخاطبه، ولا يبلغ به
مبلغًا يفسد صلاته؛ لأنه إن فعل ذلك كان أضر على نفسه من
المارِّ بين يديه. قال المؤلف: والفرق بين ما يدرأُ فيه
المصلى من مرَّ بين يديه وما لا يدرأ من المسافة، هو
المقدار الذى ينال المصلى فيه المار بين يديه إذا مرَّ
ليدفه، لإجماعهم أن المشى فى الصلاة لا يجوز ولو أجزنا له
المشى إليه باعًا أو باعين من غير أثر لركبنا أكثر من ذلك،
وهذا لا يجوز
(2/136)
بإجماع، واتفق الفقهاء أنه إذا مَرَّ بين
يديه وفات ولم يدركه من مقامه أنه لا يمشى وراءه ولا يرده.
واختلفوا إذا جاز بين يديه وأدركه هل يرده أم لا؟ فقال ابن
مسعود: يرده، وروى ذلك عن سالم بن عبد الله، والحسن
البصرى، وقال أشهب: يرده بإشارة ولا يمشى إليه؛ لأن مشيه
إليه أشد من مروره بين يديه، فإن مشى إليه ورده لم تفسد
صلاته، وقال الشعبى: لا يرده إذا جاز بين يديه؛ لأن رده
مرور ثان، ولا وجه له وهو قول مالك، والثورى، وإسحاق. فإن
دافعه فمات فاختلف فيه، فقال اين شعبان: عليه الدية فى
ماله كاملة، وقيل: الدية على عاقلته، وقيل: هو هَدر على
حسب ثَنِيَّةِ العاضّ له؛ لأنه فِعْل تولد من فِعْل أصله
مباح؛ فإنما هو شيطان، يريد أنه فَعَل فِعْلَ الشيطان فى
أنه شغل قلب المصلى عن مناجاة ربه والإخلاص له، كما يخطر
الشيطان بين المرء ونفسه فى الصلاة، فيذكره ما لم يذكر
ليشغله عن مناجاة ربه، ويخلط عليه صلاته. وفيه: أنه يجوز
أن يقال للرجل إذا فتن فى الدين: شيطان، ولا عقوبة على من
قال له ذلك. وفيه: أن الحكم للمعانى لا للأسماء بخلاف ما
يذهب إليه أهل الظاهر فى نفيهم القياس؛ لأنه يستحيل أن
يصير المار بين يدى المصلى شيطانًا لمروره، فثبت أن الحكم
للمعانى لا للأسماء وهو قول جمهور الأمة. وقوله: (فلم يجد
مساغًا) يعنى طريقًا يمكنه المرور منها،
(2/137)
يقال: ساغ الشراب فى الحلق سوغًا: سلس،
وساغ الشىء: طاب، من كتاب (الأفعال) .
90 - باب إِثْمِ الْمَارِّ بَيْنَ يَدَيِ الْمُصَلِّي
/ 127 - فيه: أبو جُهَيم: سمع الرَسُولِ (صلى الله عليه
وسلم) يقول: (لَوْ يَعْلَمُ الْمَارُّ بَيْنَ يَدَيِ
الْمُصَلِّي مَاذَا عَلَيْهِ من الإثم، لَكَانَ أَنْ
يَقِفَ أَرْبَعِينَ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَمُرَّ بَيْنَ
يَدَيْهِ) . قَالَ أَبُو النَّضْرِ: لا أَدْرِي، أَقَالَ
أَرْبَعِينَ يَوْمًا أَوْ شَهْرًا أَوْ سَنَةً. قال
المؤلف: قد روى مائة عام، ذكر ابن أبى شيبة حدثنا وكيع، عن
عبد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه، عن أبى هريرة،
قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) : (لو يعلم أحدكم
ما عليه فى أن يمر بين يدى المصلى معترضًا كان أن يقف مائة
عام خير له من الخطوة التى خطاها) . فهذا الحديث يدل أن
الأربعين التى فى حديث أبى جهيم هى أربعون عامًا، وقال
قتادة: قال عمر بن الخطاب: لو يعلم المار بين يدى المصلى
ماذا عليه كان يقوم حولاً خير له من ذلك، وقال كعب
الأحبار: كان أن يخسف به خير من أن يمر بين يديه. وقوله:
(يعلم المارُّ ماذا عليه) ، يدل أن الإثم إنما يكون على من
علم بالنهى وارتكبه مستخفًا به، ومتى لم يعلم بالنهى فلا
إثم عليه.
(2/138)
91 - اسْتِقْبَالِ الرَّجُلِ الرَّجُلَ
وَهُوَ يُصَلِّي
وَكَرِهَ عُثْمَانُ أَنْ يُسْتَقْبَلَ الرَّجُلُ، وَهُوَ
يُصَلِّي، وَ [إِنَّمَا] هَذَا إِذَا اشْتَغَلَ بِهِ،
فَأَمَّا إِذَا لَمْ يَشْتَغِلْ بِهِ، فَقَدْ قَالَ زَيْدُ
بْنُ ثَابِتٍ: مَا بَالَيْتُ، إِنَّ الرَّجُلَ لا يَقْطَعُ
صَلاةَ الرَّجُلِ. / 128 - فيه: عائشة: ذُكِرَ عِنْدَهَا
مَا يَقْطَعُ الصَّلاةَ، فَقَالُوا: يَقْطَعُهَا الْكَلْبُ
وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ، فقَالَتْ: (لَقَدْ
جَعَلْتُمُونَا كِلابًا، لَقَدْ رَأَيْتُ النَّبِيَّ (صلى
الله عليه وسلم) يُصَلِّي، وَإِنِّي لَبَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْقِبْلَةِ، وَأَنَا مُضْطَجِعَةٌ عَلَى السَّرِيرِ،
فَتَكُونُ لِيَ الْحَاجَةُ، فَأَكْرَهُ أَنْ
أَسْتَقْبِلَهُ، فَأَنْسَلُّ انْسِلالا) . ذهبت طائفة من
العلماء إلى أن الرجل يستر الرجل إذا صلى، إلا أن أكثرهم
كره أن يستقبله بوجهه، قال نافع: كان ابن عمر إذا لم يجد
سبيلاً إلى سارية من سوارى المسجد قال لى: ولنى ظهرك، وهو
قول مالك، وروى أشهب عنه أنه لا بأس أن يصلى إلى ظهر رجل
وأما إلى جنبه فلا، وحققه مالك فى رواية ابن نافع فى
المجموعة، وقال النخعى وقتادة: يستر الرجل الرجل فى الصلاة
إذا كان جالسًا، وقال الحسن: يستر المصلى ولم يشترط أن
يكون جالسًا ولا موليًا ظهره إلى المصلى. وأجاز الكوفيون،
والثورى، والأوزاعى الصلاة خلف المتحدثين. وقال ابن سيرين:
لا يكون الرجل سترةً للمصلى. ودليلُ هذا الحديث حُجة لمن
أجاز ذلك؛ لأن المرأة إذا كانت فى قِبلة الرسول، فالرجل
أولى بذلك والذين كرهوا استقباله كرهوا ذلك لما يخشى عليه
من استقباله بالنظر إليه عن صلاته، ولهذا كره الصلاة إلى
الحِلَقِ لما فيها من الكلام واللفظ المشغلين للمصلين.
(2/139)
وروى عن مالك فى المجموعة قال: لا يصلى إلى
المتحلقين؛ لأن بعضهم يستقبله، وأرجو أن يكون واسعًا. وكره
الصلاة إلى المتحدثين ابن مسعود. وكان ابن عمر لا يصلى خلف
رجل يتكلم إلا يوم الجمعة. وقال سعيد بن جبير: إذا كانوا
يتحدثون بذكر الله فلا بأس أن يأتم بهم.
92 - باب الصَّلاةِ خَلْفَ النَّائِمِ
/ 129 - فيه: عائشة قالت: (كَانَ الرسول (صلى الله عليه
وسلم) يُصَلِّي، وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى
فِرَاشِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ، أَيْقَظَنِي
فَأَوْتَرْتُ) . الصلاة خلف النائم جائزة إلا أن طائفة من
العلماء كرهها خوف ما يحدث من النائم فيشغل المصلى أو
يضحكه، فتفسد صلاته، قال مالك: لا يُصلى إلى النائم إلا أن
يكون دونه سترة، وهو قول طاوس. وقال مجاهد: أصلى وراء قاعد
أحب إلى من أن أصلى وراء نائمٍ، والقول قول من أجاز ذلك
للسنة الثابتة بجوازه، والله الموفق.
93 - باب التَّطَوُّعِ خَلْفَ الْمَرْأَةِ
/ 130 - فيه: (كُنْتُ أَنَامُ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَرِجْلايَ فِي قِبْلَتِهِ،
فَإِذَا سَجَدَ غَمَزَنِي، فَقَبَضْتُ رِجْلَيَّ، فَإِذَا
قَامَ بَسَطْتُهُا. . .) ، الحديث. كره كثير من أهل العلم
أن تكون المرأة سترة للمصلى، قال مالك فى المختصر: لا
يستتر بالمرأة، وأرجو أن يكون السترة بالصبى واسعًا.
(2/140)
وقال فى المجموعة: ولا يصلى وبين يديه
امرأة وإن كانت أُمُّه أو أُختُه إلا أن يكون دونها سترة،
وقال الشافعى: لا يستتر بامرأة ولا دابة ووجه كراهيتهم
لذلك، والله أعلم؛ لأن الصلاة موضوعة للإخلاص والخشوع،
والمصلى خلف المرأة الناظر إليها يخشى عليه الفتنة بها
والاشتغال عن الصلاة بنظره إليها؛ لأن النفوس مجبولة على
ذلك، والناس لا يقدرون من ملك آرابهم على مثل ما كان يقدر
عليه الرسول، فلذلك صلى هو خلف المرأة حين آمن شغل باله
بها، ولم تشغله عن الصلاة.
94 - باب مَنْ قَالَ: لا يَقْطَعُ الصَّلاةَ شَيْءٌ
/ 131 - فيه: عائشة: أنه ذُكِرَ عِنْدَهَا مَا يَقْطَعُ
الصَّلاةَ؛ فقالوا: الْكَلْبُ وَالْحِمَارُ وَالْمَرْأَةُ،
فَقَالَتْ: (شَبَّهْتُمُونَا بِالْحُمُرِ وَالْكِلابِ،
وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الرسول (صلى الله عليه وسلم)
يُصَلِّي، وَإِنِّي عَلَى السَّرِيرِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
الْقِبْلَةِ مُضْطَجِعَةً، فَتَبْدُو لِيَ الْحَاجَةُ،
فَأَكْرَهُ أَنْ أَجْلِسَ، فَأُوذِيَ الرسول، فَأَنْسَلُّ
مِنْ بين رِجْلَيْهِ) . ذهب جمهور أهل العلم إلى أن الصلاة
لا يقطعها شىء روى ذلك عن عثمان، وعلى، وحذيفة، وابن عمر،
ومن التابعين: الشعبى، وعروة، وهو قول مالك، والثورى، وأبى
حنيفة، والشافعى، وأبى ثور، وجماعة، وقال الطحاوى: زعم قوم
أن مرور الحائض والكلب الأسود والحمار يقطع الصلاة، وروى
هذا أنس، والحسن البصرى، وروى عن ابن عباس، وعطاء أن الكلب
الأسود والحائض يقطعان الصلاة.
(2/141)
وقالت طائفة: لا يقطع الصلاة إلا الكلب
الأسود، وبه قال أحمد واحتج هؤلاء بما رواه منصور عن حميد
بن هلال، عن عبد الله بن الصامت، عن أبى ذر قال: قال رسول
الله: (يقطع الصلاة المرأة والحمار والكلب الأسود) قلت: يا
أبا ذر وما بال الكلب الأسود من الأحمر والأبيض؟ قال: سألت
رسول الله عما سألتنى عنه فقال: (الكلب الأسود شيطان) .
وروى ابن أبى عروبة عن قتادة، عن الحسن، عن عبد الله بن
مغفل، أن نبى الله (صلى الله عليه وسلم) قال: (يقطع الصلاة
الكلب والحمار والمرأة) . روى هشام، عن يحيى، عن عكرمة، عن
ابن عباس أحسبه أسنده إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم)
قال: (يقطع الصلاة الحائض والحمارة والكلب الأسود واليهودى
والنصرانى) . واحتج أهل المقالة الأولى بحديث عائشة أن
الرسول كان يصلى وهى بينه وبين القبلة معترضة، وبما رواه
شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن صهيب، عن ابن عباس
قال: (مررت برسول الله (صلى الله عليه وسلم) وهو يصلى وأنا
على حمار ومعى رجل من بنى هاشم فلم ينصرف) . فبان فى هذا
الحديث أنهما مرَّا بين يدى الرسول ودل ذلك أن مرور الحمار
بين يدى الإمام لا يقطع الصلاة. وروى سفيان عن سماك، عن
عكرمة، عن ابن عباس (أنه ذكر عنده ما يقطع الصلاة؟ فقال:
الكلب والحمار، قال ابن عباس: إليه يصعد الكلم الطيب وما
يقطع هذا، ولكنه يكره) . فهذا ابن
(2/142)
عباس قد قال بعد رسول الله: إن الحمار
والكلب لا يقطعان الصلاة، فدل أن ما رواه عنه صهيب كان
متأخرًا عما رواه عنه عكرمة، وأنه ناسخ له؛ لأنه لا يجوز
أن يفتى بخلاف ما رواه عن الرسول (صلى الله عليه وسلم) إلا
بعد ثبوت نسخه عنده، وبقى فى حديث أبى ذر أنه فصل بين
الكلب الأسود وغيره، فجعل الأسود خاصة يقطع الصلاة، وأن
الرسول بين معنى ذلك بأنه شيطان. قال الطحاوى: فأردنا أن
ننظر هل عارض ذلك شىء؟ فإذا أبو سعيد قد روى عن الرسول أنه
قال فى المار بين يدى المصلى: (فليدرأهُ ما استطاع، فإن
أبى فليقاتله فإنما هو شيطان) ، وروى ابن عمر مثله، ففى
هذا الحديث أن كل مارٍّ بين يدى المصلى شيطان، وقد سوى فى
هذا بين بنى آدم والكلب الأسود فى المرور، وقد أجمعوا على
أن مرور بنى آدم بعضهم ببعض لا يقطع الصلاة، روى ذلك عن
الرسول من غير وجه من حديث عائشة وأم سلمة، وميمونة أنه
عليه السلام كان يصلى وكل واحدة منهن معترضة بينه وبين
القبلة، وكلها ثابتة من إخراج البخارى. وقد جعل عليه
السلام فى حديث أبى سعيد، وحديث ابن عمر كُلَّ مارٍّ بين
يدى المصلى شيطانًا، وأخبرنا أبو ذر أن الكلب الأسود أيضًا
يقطع الصلاة؛ لأنه شيطان، وكانت العلة التى جعل لها قطع
الصلاة قد جعلت فى بنى آدم، وقد ثبت عنه عليه السلام أنهم
لا يقطعون الصلاة، فدل ذلك أن كل مارٍّ بين يدى المصلى مما
سوى بنى آدم كذلك أيضًا لا يقطع الصلاة، ومما يدل على ذلك
أيضًا فُتيا ابن عمر أن الصلاة لا يقطعها شىء، وقد روى عن
الرسول درء المصلى من مرَّ بين يديه، فدل ذلك على ثبوت نسخ
ما رواه عنه، عليه السلام، وأنه على وجه الكراهة، والله
أعلم، قاله الطحاوى.
(2/143)
95 - باب إِذَا حَمَلَ جَارِيَةً صَغِيرَةً
عَلَى عُنُقِهِ فِي الصَّلاةِ
/ 132 - فيه: أبو قَتَادَةَ: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) كَانَ يُصَلِّي، وَهُوَ حَامِلٌ أُمَامَةَ
بِنْتَ زَيْنَبَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ، وَلأبِي الْعَاصِ
بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، فَإِذَا سَجَدَ
وَضَعَهَا، وَإِذَا قَامَ حَمَلَهَا) . اختلف قول مالك فى
تأوبل هذا الحديث، فروى عنه أشهب أن حمله أُمامة كان فى
النافلة، وروى عنه أيضًا أشهب، وابن نافع أنه سئل هل للناس
الأخذ بهذا؟ فقال: نعم عند الضرورة إذا لم يجد من يكفيه،
فأما لحُبِّ الولد فلا أرى ذلك. وقد روى عن أبى قتادة أن
حمل الرسول لأمامة كان فى الفريضة، روى الليث، وابن عجلان،
وابن إسحاق كلهم عن سعيد المقبرى، عن عمرو بن سليم الزرقى،
عن أبى قتادة، قال: (بينما نحن فى المسجد جلوس ننتظر
الرسول (صلى الله عليه وسلم) خرج علينا يحمل أُمامة على
عُنُقه، فصلى، فإذا ركع وضعها، وإذا قام رفعها) ، وزاد ابن
إسحاق: (ننتظر الرسول فى الظهر أو العصر) ، وذكره البخارى
فى حديث الليث فى كتاب الأدب فى باب (رحمة الولد وتقبيله)
. وسئل أحمد بن حنبل عن الرجل أيأخذ ولده وهو يصلى؟ قال:
نعم، واحتج بحديث أبى قتادة فى قصة أُمامة، وإنما أدخل
البخارى هذا الحديث فى هذا الموضع، والله أعلم، ليدل على
أن حمل المصلى الجارية على عُنُقه فى الصلاة لا يضر صلاته،
وحملها أشد من مرورها بين يديه، فلما لم يضره حملها، كذلك
لا يضره مرورها بين يديه.
(2/144)
وفيه: جواز العمل الخفيف فى الصلاة
والعلماء مجمعون على جوازه.
96 - باب إِذَا صَلَّى إِلَى فِرَاشٍ فِيهِ حَائِضٌ
/ 133 - فيه: مَيْمُونَةُ قَالَتْ: (كَانَ فِرَاشِي
حِيَالَ مُصَلَّى رسول الله، فَرُبَّمَا وَقَعَ عَلَيَّ
ثَوْبُهُ، وَأَنَا عَلَى فِرَاشِي) . / 134 - وقالت مرةً:
(كَانَ الرسول يُصَلِّي، وَأَنَا إِلَى جَنْبِهِ
نَائِمَةٌ، فَإِذَا سَجَدَ أَصَابَتنِي ثَيابُهُ، وَأَنَا
حَائِضٌ) . وهذا الحديث حجة فى أن الحائض لا تقطع الصلاة،
وهذا الحديث وشبهه من الأحاديث التى فيها اعتراض المرأة
بين المصلى وقبلته فيها دليل أن النهى إنما هو عن المرور
خاصة لا عن القعود بين يدى المصلى، واستدل العلماء على أن
المرور لا يضر بدليل جواز القعود، وحيال وحذاء وتجاه ووجاه
كله بمعنى المقابلة والموازاة عند العرب.
97 - باب الْمَرْأَةِ تَطْرَحُ عَنِ الْمُصَلِّي شَيْئًا
مِنَ الأذَى
/ 135 - فيه: ابن مسعود قال: (بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) قَائِمٌ يُصَلِّي عِنْدَ
الْكَعْبَةِ، وَجَمْعُ قُرَيْشٍ فِي مَجَالِسِهِمْ، إِذْ
قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ: أَلا تَنْظُرُوا إِلَى هَذَا
الْمُرَائِي؟ : أَيُّكُمْ يَقُومُ إِلَى جَزُورِ آلِ
فُلانٍ فَيَعْمِدُ إِلَى فَرْثِهَا وَدَمِهَا وَسَلاهَا
فَيَجِيءُ بِهِ، ثُمَّ يُمْهِلُهُ حَتَّى إِذَا سَجَدَ
وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، فَانْبَعَثَ أَشْقَاهُمْ،
فَلَمَّا سَجَدَ الرَسُولُ وَضَعَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ،
وَثَبَتَ الرسول سَاجِدًا، فَضَحِكُوا، حَتَّى مَالَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنَ الضَّحِكِ، فَانْطَلَقَ
مُنْطَلِقٌ إِلَى فَاطِمَةَ، وَهِيَ جُوَيْرِيَةٌ،
فَأَقْبَلَتْ تَسْعَى، وَثَبَتَ الرسول سَاجِدًا، حَتَّى
أَلْقَتْهُ عَنْهُ، وَأَقْبَلَتْ عَلَيْهِمْ تَسُبُّهُمْ،
فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ الصَّلاةَ، قَالَ:
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ
(2/145)
بِقُرَيْشٍ، ثلاثًا، ثُمَّ سَمَّى:
اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِعَمْرِو بْنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ
بْنِ رَبِيعَةَ وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ
بْنِ عُتْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بْنِ
أَبِي مُعَيْطٍ، وَعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ) . قَالَ
عَبْدُاللَّهِ: فَوَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُهُمْ صَرْعَى
يَوْمَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إِلَى الْقَلِيبِ، قَلِيبِ
بَدْرٍ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
: (وَأُتْبِعَ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ لَعْنَةً) . قال
المؤلف: هذه الترجمة قريبة من معنى الأبواب المتقدمة
قبلها، وذلك أن المرأة إذا تناولت طرح ما على المصلى من
الأذى، فإنها لا تقصد إلى أخذ ذلك من ورائه إلا كما تقصد
إلى أخذه من أمامه، بل تتناول ذلك من أى جهات المصلى
أمكنها تناوله وسهل عليها طرحه، فإن لم يكن هذا المعنى أشد
من مرورها من بين يديه فليس بدونه، ومن هذا الحديث استنبط
العلماء حكم المصلى إذا صلى بثوب نجس وأمكنه طرحه فى
الصلاة فطرحه، فذهب الكوفيون إلى أنه يتمادى فى صلاته ولا
يقطعها، وروى ابن وهب عن مالك مثله، وذكره فى المبسوط،
وروى مثله عن ابن عمر، والقاسم، والنخعى، والحسن البصرى،
والحكم، وحماد. ولمالك فى المدونة قول آخر قال: يقطع وينزع
الثوب النجس ويبتدئ صلاته، قال إسماعيل: وعلى مذهب عبد
الملك يتم صلاته ولا يقطعها، ثم يعيد، وهو قول الكوفيين،
ورواية ابن وهبٍ عن مالك أشبه، بدليل هذا الحديث، وقوله فى
المدونة: يقطع وينزع الثوب النجس ويبتدئ صلاته، هو استحسان
منه واحتياط للصلاة، والأصل فى ذلك ما فعل الرسول من أنه
لم يقطع صلاته للسَّلا الذى وضع على ظهره، بل تمادى فيها
حتى أكملها والحجة فى السُّنَّةِ
(2/146)
لا فيما خالفها، وأما قول عبد الملك: يتم
الصلاة ثم يعيد؛ فلا وجه له؛ لأنه لا يخلو أن يجوز له
التمادى فيها أو لا يجوز، فإن جاز له التمادى فلا معنى
لإعادته، وإن كان لا تجزئه صلاته فلا معنى لأمره بالتمادى
فى ما لا يجزئه. وهؤلاء الذين دعا عليهم رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) كانوا ممن لم تُرجَ إجابتهم ورجوعهم إلى
الإسلام، فلذلك دعا عليهم بالهلاك، فأجاب الله دعاءه فيهم،
وهم الذين أخبره الله أنه كفاه إياهم بقوله تعالى: (إنا
كفيناك المستهزئين) [الحجر: 95] ، وأما كل من رجا منه
الرسول الرجوع والتوبة عما هو عليه فلم يعجل بالدعاء عليه،
بل دعا له بالهدى والتوبة فأجاب الله دعاءه فيهم. وفيه:
الدعاء على أهل الكفر إذا جَنَوْا جنايات وآذوا المؤمنين.
(2/147)
|