شرح صحيح
البخارى لابن بطال 56 - كِتَاب الأحْكَامِ
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِى الأمْرِ مِنْكُمْ)
[النساء: 59]
/ 1 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِى فَقَدْ أَطَاعَ
اللَّهَ، وَمَنْ عَصَانِى فَقَدْ عَصَى اللَّهَ، وَمَنْ
أَطَاعَ أَمِيرِى فَقَدْ أَطَاعَنِى، وَمَنْ عَصَى
أَمِيرِى فَقَدْ عَصَانِي) . / 2 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ
قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : أَلا كُلُّكُمْ رَاعٍ،
وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَالإمَامُ
الَّذِى عَلَى النَّاسِ رَاعٍ، وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ
رَعِيَّتِهِ. . . الحديث. قال المهلب: هذا يدل على وجوب
طاعة السلطان وجوبًا مجملا؛ لأن فى ذلك طاعة الله وطاعة
رسوله، فمن ائتمر لطاعة أولى الأمر لأمر الله ورسوله بذلك
فطاعتهم واجبة فيما رأوه من وجوه الصلاح حتى إذا خرجوا إلى
ما يشك أنه معصية لله لم تلزمهم طاعتهم فيه وطلب الخروج عن
طاعتهم بغير مواجهة فى الخلاف. وروى عن أبى هريرة فى قوله
تعالى: (وأولى الأمر منكم) [النساء: 59] ، قال: هم
الأمراء. وقال الحسن: هم الأمراء والعلماء. وكان مجاهد
يقول: هم أصحاب محمد. وربما قال: أولو العقل والفقه فى دين
الله. وقال عطاء: هم أهل العلم والفقه، وطاعة الرسول اتباع
الكتاب والسنة.
(8/209)
قال ابن عيينة: سألت زيد بن أسلم، ولم يكن
أحد بالمدينة يفسر القرآن بعد محمد بن كعب تفسيره، قلت له:
ما تقول فى قول الله: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى
الأمر منكم) [النساء: 59] ؟ فقال: اقرأ ما قبلها حتى تعرف.
فقرأت: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا
حكمتم بين الناس أن) [النساء: 58] الآية. قال: هذه فى
الولاة. وفى حديث ابن عمر أن فرضًا على الأمراء نصح من
ولاهم الله أمرهم، وكذلك كل من ذكر فى الحديث ممن استرعى
أمرًا أو اؤتمن عليه فالواجب عليه بذل النصيحة فيه، وقد
قال (صلى الله عليه وسلم) : (من استرعى رعية فلم يحطها
بنصيحة لم يرح رائحة الجنة) وسيأتى هذا الحديث بعد هذا فى
باب من استرعى رعية ولم ينصح.
- باب الأمَرَاءُ مِنْ قُرَيْشٍ
/ 3 - فيه: مُعَاوِيَةَ أَنَّه بلغه أَنَّ عَبْدَاللَّهِ
بْنَ عَمْرٍو يُحَدِّثُ أَنَّهُ سَيَكُونُ مَلِكٌ مِنْ
قَحْطَانَ، فَغَضِبَ، فَقَامَ فَأَثْنَى عَلَى اللَّهِ
بِمَا هُوَ أَهْلُهُ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ،
فَإِنَّهُ بَلَغَنِى أَنَّ رِجَالا مِنْكُمْ يُحَدِّثُونَ
أَحَادِيثَ لَيْسَتْ فِى كِتَابِ اللَّهِ، وَلا تُوثَرُ
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، وَأُولَئِكَ
جُهَّالُكُمْ، فَإِيَّاكُمْ وَالأمَانِىَّ الَّتِى تُضِلُّ
أَهْلَهَا، فَإِنِّى سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) ، يَقُولُ: (إِنَّ هَذَا الأمْرَ فِى قُرَيْشٍ
لا يُعَادِيهِمْ أَحَدٌ إِلا كَبَّهُ اللَّهُ فِى النَّارِ
عَلَى وَجْهِهِ، مَا أَقَامُوا الدِّينَ) . / 4 - وفيه:
ابْنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبىُّ (صلى الله عليه وسلم) : (لا
يَزَالُ هَذَا الأمْرُ فِى قُرَيْشٍ مَا بَقِىَ مِنْهُمُ
اثْنَانِ) . قال المؤلف: هذا يرد قول النظام وضرار ومن
وافقهما من الخوارج أن الإمام ليس من شرطه أن يكون قرشيا.
قالوا: وإنما استحق
(8/210)
الإمامة من كان قائمًا بالكتاب والسنة من
أفناء الناس من العجم وغيرهم. قال ضرار: وإن اجتمع رجلان
قرشى ونبطى ولَّينا النبطى؛ لأنه أقل عشيرة، فإذا عصى الله
وأردنا خلعه كانت شوكته علينا أهون. قال أبو بكر بن الطيب:
وهذا قول ساقط لم يعرج المسلمون عليه، وقد ثبت عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) أن الخلافة فى قريش، وعمل بذلك
المسلمون قرنًا بعد قرن فلا معنى لقولهم، وقد صح عن النبى
(صلى الله عليه وسلم) أنه أوصى بالأنصار، وقال: (من ولى
منكم من هذا الأمر شيئًا فليتجاوز عن مسيئهم) ولو كان
الأمر إليهم كما أوصى بهم. ومما يشهد لصحة هذه الأحاديث
احتجاج أبى بكر وعمر بها على رءوس الأنصار فى السقيفة، وما
كان من إذعان الأنصار، وخنوعهم لها عند سماعها وإذكارهم
بها حتى قال سعد بن عبادة: منا الوزراء، ومنكم الأمراء.
ورجعت الأنصار عما كانوا عليه حين تبين لهم الحق بعد أن
نصبوا الحرب، وقال الحباب بن المنذر: أنا جذيلها المحكك،
وعذيقها المرجب. وانقادوا لأبى بكر مذعنين. ولولا علمهم
بصحة هذه الأخبار لم يلبثوا أن يقدحوا فيها، ويتعاطوا
ردها، ولا كانت قريش بأسرها تقر كذبًا يدعى عليها؛ لأن
العادة جرت فيما لم يثبت من الأخبار أن يقع الخلاف والقدح
فيها عند التنازع، ولا سيما إذا احتج به فى هذا الأمر
العظيم مع إشهار السيوف، واختلاط القول. ومما يدل على كون
الإمام قريشا اتفاق الأمة فى الصدر الأول وبعده من الأعصار
على اعتبار ذلك فى صفة الإمام قبل حدوث الخلاف فى
(8/211)
ذلك، فثبت أن الحق فى اجتماعها وإبطال قول
من خالفها، وسيأتى فى كتاب الرجم فى باب الرجم للحبلى من
الزنا إذا أحصنت شىء من هذا المعنى. قال المهلب: وأما حديث
عبد الله بن عمرو أنه سيكون ملك من قحطان، فيحتمل أن يكون
ملكًا غير خليفة على الناس من غير رضا به، وإنما أنكر ذلك
معاوية لئلا يظن أحد أن الخلافة تجوز فى غير قريش، ولو كان
عند أحد فى ذلك علم من النبى (صلى الله عليه وسلم) لأخبر
به معاوية حين خطب بإنكار ذلك عليهم، وقد روى فى الحديث أن
ذلك إنما يكون عند ظهور أشراط الساعة وتغيير الدين، روى
أبو هريرة عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: (لا
تقوم الساعة حتى يخرج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه)
فقوله: (لا تقوم الساعة) يدل أن ذلك من أشراط القيامة ومما
لا يجوز، ولذلك ترجم البخارى بهذا الحديث فى كتاب الفتن فى
باب تغير الزمان حتى تعبد الأوثان، وفهم منه هذا المعنى.
3 - باب أَجْرِ مَنْ قَضَى بِالْحِكْمَةِ وَقَوْلِهِ
تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ
فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [المائدة: 44]
. / 5 - فيه: عَبْدِاللَّهِ: قَالَ النَّبىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (لا حَسَدَ إِلا فِى اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ
آتَاهُ اللَّهُ مَالا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِى
الْحَقِّ، وَآخَرُ آتَاهُ اللَّهُ حِكْمَةً فَهُوَ يَقْضِى
بِهَا وَيُعَلِّمُهَا) . قال المؤلف: روى عن الشعبى أنه
سئل عن قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم
الكافرون) [المائدة: 44] و) الظلمون) [المائدة: 45] و)
الفاسقون) [المائدة: 47] فقال: الكافرون فى أهل الإسلام،
والظالمون فى
(8/212)
اليهود، والفاسقون فى النصارى. وقال الحسن:
نزلت فى أهل الكتاب، تركوا أحكام الله كلها، يعنى فى الرجم
والديات. قال الحسن: وهى علينا واجبة. قال عطاء وطاوس: كفر
ليس ككفر الشرك وظلم ليس كظلم الشرك، وفسق ليس كفسق الشرك.
قال إسماعيل بن إسحاق: وظاهر الآيات تدل أن من فعل مثل ما
فعلوا، واخترع حكمًا خالف به حكم الله وجعله دينًا يعمل به
لزمه مثل ما لزمهم من لزوم الوعيد حاكمًا كان أو غيره، ألا
ترى أن ذلك نسب إلى جملة اليهود حين عملوا به؟ قال المؤلف:
ودلت الآيات على أن من قضى بما أنزل الله فقد استحق جزيل
الأجر، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) أباح حسده
ومنافسته، فدل أن ذلك من أشرف الأعمال وأجل ما تقرب به إلى
الله، وقد روى ابن المنذر، عن محمد بن إسماعيل، حدثنا
الحسن بن على، حدثنا عمران القطان أبو العوام، عن أبى
إسحاق الشيبانى، عن ابن أبى أوفى قال: قال رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) : (الله مع القاضى ما لم يجر؛ فإذا جار
تخلى عنه، ولزمه الشيطان) .
4 - باب السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِلإمَامِ مَا لَمْ تَكُنْ
مَعْصِيَةً
/ 6 - فيه: أَنَسِ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) : (اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا، وَإِنِ اسْتُعْمِلَ
عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ)
. / 7 - وفيه: ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا
فَكَرِهَهُ، فَلْيَصْبِرْ فَإِنَّهُ لَيْسَ أَحَدٌ
يُفَارِقُ الْجَمَاعَةَ شِبْرًا، فَيَمُوتُ إِلا مَاتَ
مِيتَةً جَاهِلِيَّةً) .
(8/213)
/ 8 - وفيه: ابْنُ عُمَرَ، قَالَ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) : (السَّمْعُ
وَالطَّاعَةُ عَلَى الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ فِيمَا أَحَبَّ
وَكَرِهَ، مَا لَمْ يُؤْمَرْ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِذَا أُمِرَ
بِمَعْصِيَةٍ فَلا سَمْعَ وَلا طَاعَةَ) . / 9 - وفيه:
عَلِىٍّ: أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) بَعَثَ
سَرِيَّةً، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ رَجُلا مِنَ الأنْصَارِ،
وَأَمَرَهُمْ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَغَضِبَ عَلَيْهِمْ،
وَقَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَمَرَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) أَنْ تُطِيعُونِى؟ قَالُوا: بَلَى قَالَ: قَدْ
عَزَمْتُ عَلَيْكُمْ لَمَا جَمَعْتُمْ حَطَبًا،
وَأَوْقَدْتُمْ نَارًا، ثُمَّ دَخَلْتُمْ فِيهَا،
فَجَمَعُوا حَطَبًا، فَأَوْقَدُوا نَارًا، فَلَمَّا
هَمُّوا بِالدُّخُولِ، فَقَامَ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى
بَعْضٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا تَبِعْنَا
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) فِرَارًا مِنَ النَّارِ،
أَفَنَدْخُلُهَا؟ فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ؛ إِذْ
خَمَدَتِ النَّارُ وَسَكَنَ غَضَبُهُ، فَذُكِرَ
لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: (لَوْ
دَخَلُوهَا مَا خَرَجُوا مِنْهَا أَبَدًا إِنَّمَا
الطَّاعَةُ فِى الْمَعْرُوفِ) . قال محمد بن جرير: فى حديث
على وحديث ابن عمر البيان الواضح عن نهى الله على لسان
رسوله عباده عن طاعة مخلوق فى معصية خالقه، سلطانًا كان
الآمر بذلك، أو سوقة، أو والدًا، أو كائنًا من كان. فغير
جائز لأحد أن يطيع أحدًا من الناس فى أمر قد صح عنده نهى
الله عنه. فإن ظن ظان أن فى قوله (صلى الله عليه وسلم) فى
حديث أنس: (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشى) وفى
قوله فى حديث ابن عباس: (من رأى من أميره شيئًا يكرهه
فليصبر) حجة لمن أقدم على معصية الله بأمر سلطان أو غيره،
وقال: قد وردت الأخبار بالسمع والطاعة لولاة الأمر فقد ظن
خطئًا، وذلك أن أخبار رسول الله (صلى الله عليه وسلم) لا
يجوز أن تتضاد، ونهيه وأمره لا يجوز أن يتناقض أو يتعارض،
وإنما الأخبار الواردة بالسمع والطاعة لهم ما لم يكن
خلافًا لأمر الله وأمر
(8/214)
رسوله، فإذا كان خلافًا لذلك فغير جائز
لأحد أن يطيع أحدًا فى معصية الله ومعصية رسوله، وبنحو ذلك
قال عامة السلف. حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن إدريس،
قال: حدثنا إسماعيل بن أبى خالد، عن مصعب بن سعد قال: قال
على، رضى الله عنه: حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله
ويؤدى الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا
ويطيعوا. وروى مثله عن معاذ بن جبل. قال المهلب: قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد
حبشى) لا يوجب أن يكون المستعمل للعبد إلا إمام قرشى، لما
تقدم أنه لا تجوز الإمامة إلا فى قريش، وإنما أجمعت الأمة
على أنه لا يجوز أن تكون الإمامة فى العبيد. وقوله: (من
رأى شيئًا يكرهه فليصبر) يعنى: من الظلم والجور. فأما من
رأى شيئًا من معارضة الله ببدعة أو قلب شريعة، فليخرج من
تلك الأرض ويهاجر منها، وإن أمكنه إمام عدل واتفق عليه
جمهور الناس فلا بأس بخلع الأول، فإن لم يكن معه إلا قطعة
من الناس أو ما يوجب الفرقة فلا يحل له الخروج. قال أبو
بكر بن الطيب: أجمعت الأمة أنه يوجب خلع الإمام وسقوط فرض
طاعته كفره بعد الإيمان، وتركه إقامة الصلاة والدعاء
إليها، واختلفوا إذا كان فاسقًا ظالمًا غاصبًا للأموال؛
يضرب الأبشار ويتناول النفوس المحرمة ويضيع الحدود ويعطل
الحقوق فقال كثير من الناس: يجب خلعه لذلك. وقال الجمهور
من الأمة وأهل الحديث: لا يخلع بهذه الأمور، ولا يجب
الخروج عليه؛ بل يجب وعظه وتخويفه وترك طاعته فيما
(8/215)
يدعو إليه من معاصى الله، واحتجوا بقوله
(صلى الله عليه وسلم) : (اسمعوا، وأطيعوا وإن استعمل عليكم
عبد حبشى) وأمره بالصلاة وراء كل بر وفاجر، وروى أنه قال:
أطعهم وإن أكلوا مالك وضربوا ظهرك ما أقاموا الصلاة) . قال
القاضى أبو بكر: ومما يوجب خلع الإمام تطابق الجنون عليه
وذهاب تمييزه حتى ييئس من صحته، وكذلك إن صم أو خرس وكبر
وهرم، أو عرض له أمر يقطعه من مصالح الأمة؛ لأنه إنما نصب
لذلك؛ فإذا عطل ذلك وجب خلعه، وكذلك إن جعل مأسورًا فى
أيدى العدو إلى مدة يخاف معها الضرر الداخل على الأمة
وييئس من خلاصه وجب الاستبدال به. فإن فك أسره وثاب عقله
أو برئ من زمانته ومرضه لم يعد إلى أمره وكان رعية للأول؛
لأنه عقد له عند خلعه وخروجه من الحق فلا حق له فيه، ولا
يوجب خلعه حدوث فضل فى غيره كما يقول أصحابنا: إن حدوث
الفسق فى الإمام بعد العقد لا يوجب خلعه، ولو حدث عند
ابتداء العقد لبطل العقد له ووجب العدول عنه. وأمثال هذا
فى الشريعة كثير، منها أن المتيمم لو وجد الماء قبل دخوله
فى الصلاة لوجب عليه الوضوء به، ولو طرأ عليه وهو فيها لم
يلزمه، وكذلك لو وجبت عليه الرقبة فى الكفارة وهو موسر لم
يجزئه غيرها، ولو حدث له اليسار بعد مضيه فى شىء من الصيام
لم يبطل حكم صيامه ولا لزمه غيره. قال المهلب: وقوله فى
حديث على: (لو دخلوها ما خرجوا منها أبدًا) فالأبد هاهنا
يراد به أبد الدنيا؛ لقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن
يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) [النساء: 48] ، ومعلوم
أن الذين هموا بدخول النار لم يكفروا بذلك فيجب عليهم
التخليد أبد
(8/216)
الآخرة، ألا ترى قولهم: (إنما اتبعنا النبى
(صلى الله عليه وسلم) فرارًا من النار) فدل هذا أنه أراد
(صلى الله عليه وسلم) : لو دخلوها لماتوا فيها ولم يخرجوا
منها مدة الدنيا، والله أعلم.
5 - باب مَنْ لَمْ يَسْأَلِ الإمَارَةَ أَعَانَهُ اللَّهُ
عَلَيْهَا
/ 10 - فيه: عَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ، قَالَ:
قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : يَا
عَبْدَالرَّحْمَنِ، لا تَسْأَلِ الإمَارَةَ، فَإِنَّكَ
إِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا،
وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ
عَلَيْهَا، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ، فَرَأَيْتَ
غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ،
وَأْتِ الَّذِى هُوَ خَيْرٌ) . وترجم له باب من سأل
الإمارة وكل إليها. قال المهلب: فيه دليل على أنه من تعاطى
أمرًا وسولت له نفسه أنه قائم بذلك الأمر أنه يخذل فيه فى
أغلب الأحوال؛ لأنه من سأل الإمارة لم يسألها إلا وهو يرى
نفسه أهلا لها، فقد قال (صلى الله عليه وسلم) : (وكل
إليها) بمعنى لم يعن على ما أعطاه، والتعاطى أبدًا مقرون
بالخذلان، وإن من دعى إلى عمل أو إمامة فى الدين فقصر نفسه
عن تلك المنزلة وهاب أمر الله؛ رزقه الله المعونة، وهذا
إنما هو مبنى على أنه من تواضع لله رفعه، وذكر ابن المنذر
من حديث أبى عوانة، عن عبد الأعلى التغلبى، عن بلال بن
مرداس الفزارى، عن حميد، عن أنس، عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) قال: (من ابتغى القضاء واستعان عليه بالشفعاء وكل
إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل الله إليه ملكًا يسدده) وهذا
تفسير قوله: (أعنت عليها) فى حديث ابن سمرة.
(8/217)
6 - باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الْحِرْصِ عَلَى
الإمَارَةِ
/ 11 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ لَهُ النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) : إِنَّكُمْ سَتَحْرِصُونَ عَلَى
الإمَارَةِ، وَسَتَكُونُ نَدَامَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
فَنِعْمَ الْمُرْضِعَةُ، وَبِئْسَتِ الْفَاطِمَةُ) . / 12
- وفيه: أَبُو مُوسَى: (دَخَلْتُ عَلَى النَّبِىِّ (صلى
الله عليه وسلم) أَنَا وَرَجُلانِ مِنْ قَوْمِى، فَقَالَ
أَحَدُ الرَّجُلَيْنِ: أَمِّرْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ،
وَقَالَ الآخَرُ مِثْلَهُ، فَقَالَ: إِنَّا لا نُوَلِّى
هَذَا مَنْ سَأَلَهُ، وَلا مَنْ حَرَصَ عَلَيْهِ) . قال
المهلب: حرص الناس على الإمارة ظاهر العيان، وهو الذى جعل
الناس يسفكون عليها دماءهم، ويستبيحون حريمهم، ويفسدون فى
الأرض حين يصلون بالإمارة إلى لذاتهم، ثم لابد أن يكون
فطامهم إلى السوء وبئس الحال؛ لأنه لا يخلو أن يقتل عليها
أو يعزل عنها وتلحقه الذلة أو يموت عليها فيطالب فى الآخرة
فيندم. والحرص الذى اتهم النبى (صلى الله عليه وسلم) صاحبه
ولم يوله هو أن يطلب من الإمارة ما هو قائم لغيره متواطئًا
عليه، فهذا لا يجب أن يعان عليه ويتهم طالبه، وأما إن حرص
على القيام بأمر ضائع من أمور المسلمين أو حرص على سد خلة
فيهم، وإن كان له أمثال فى الوقت والعصر لم يتحركوا لهذا،
فلا بأس أن يحرص على القيام بالأمر الضائع ولا يتهم هذا إن
شاء الله. وبين هذا المعنى حديث خالد بن الوليد حين أخذ
الراية من غير إمرة ففتح له.
(8/218)
7 - باب مَنِ اسْتُرْعِىَ رَعِيَّةً فَلَمْ
يَنْصَحْ
/ 13 - فيه: الْحَسَنِ، أَنَّ عُبَيْدَاللَّهِ بْنَ
زِيَادٍ عَادَ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ فِى مَرَضِهِ الَّذِى
مَاتَ فِيهِ، فَقَالَ لَهُ مَعْقِلٌ: إِنِّى مُحَدِّثُكَ
حَدِيثًا سَمِعْتُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) ، سَمِعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
يَقُولُ: (مَا مِنْ عَبْدٍ اسْتَرْعَاهُ اللَّهُ
رَعِيَّةً، فَلَمْ يَحُطْهَا بِنَصِيحَةٍ، إِلا لَمْ
يَجِدْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ) . وقال مرة: (ما من وال يلى
رعية من المسلمين، فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه
الجنة) . قال المؤلف: النصيحة فرض على الوالى لرعيته وقد
قال (صلى الله عليه وسلم) : (الأمير الذى على الناس راع
ومسئول عن رعيته) فمن ضيع من استرعاه الله أمرهم أو خانهم
أو ظلمهم؛ فقد توجه إليه الطلب بمظالم العباد يوم القيامة
فكيف يقدر على التحلل من ظلم أمة عظيمة؟ وهذا الحديث بيان
وعيد شديد على أئمة الجور. وقوله (صلى الله عليه وسلم) :
(لم يجد رائحة الجنة) و (حرم الله عليه الجنة) فمعناه عند
أهل السنة إن لم يرض الله الطالبين عنه فأراد تعالى أن
ينفذ عليه الوعيد؛ لأن المذنبين من المؤمنين فى مشيئة الله
تعالى. ويجب على الوالى أن لا يحتجب عن المظلومين، فقد جاء
فى ذلك وعيد شديد. روى الوليد بن مسلم، عن يزيد بن أبى
مريم، عن القاسم بن مخيمرة، عن أبى مريم الفلسطينى، وكان
من أصحاب النبى (صلى الله عليه وسلم) ، قال: سمعت النبى
(صلى الله عليه وسلم) يقول: (من ولى
(8/219)
من أمور الناس شيئًا فاحتجب عن خلتهم
وحاجتهم وفاقتهم احتجب الله عن خلته وحاجته وفاقته) . ويجب
على الوالى أن لا يولى أحدًا من عصابته، وفى الناس من هو
أرضى منه، فقد روى عن ابن عباس، عن النبى (صلى الله عليه
وسلم) أنهم إن فعلوا ذلك فقد خانوا الله ورسوله، وخانوا
جميع المؤمنين.
8 - باب مَنْ شَاقَّ شَقَّ اللَّهُ عَلَيْهِ
/ 14 - فيه: طَرِيفٍ أَبُو تَمِيمَةَ، قَالَ: شَهِدْتُ
صَفْوَانَ، وَجُنْدَبًا، وَأَصْحَابَهُ وَهُوَ يُوصِيهِمْ،
فَقَالُوا: هَلْ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) شَيْئًا؟ قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (مَنْ
سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ
يُشَاقِقْ يَشْقُقِ اللَّهُ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،
فَقَالُوا: أَوْصِنَا، فَقَالَ: إِنَّ أَوَّلَ مَا
يُنْتِنُ مِنَ الإنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ
أَنْ لا يَأْكُلَ إِلا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ
اسْتَطَاعَ أَنْ لا يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ
بِمِلْءِ كَفِّهِ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ) .
قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سمع سمع الله به) قال
صاحب العين: سمعت بالرجل: إذا أذعت عنه عيبًا والسمعة: ما
سمع به من طعام أو غيره ليرى ويسمع (ومصداق هذا الحديث فى
كتاب الله قوله تعالى: (إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة فى
الذين آمنوا لهم عذاب أليم فى الدنيا والآخرة) [النور: 13]
. وقوله: (ومن يشاقق يشقق الله عليه) فالمشاقاة فى اللغة
مشتقة من
(8/220)
الشقاق وهو الخلاف، ومنه قوله تعالى: (ومن
يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) [النساء: 115]
الآية. والمراد بالحديث النهى عن القول القبيح فى المؤمنين
وكشف مساوئهم وعيوبهم وترك مخالفة سبيل المؤمنين، ولزوم
جماعتهم، والنهى عن إدخال المشقة عليهم والإضرار بهم. وفى
الحديث من المعانى أن المجازاة قد تكون من جنس الذنب، ألا
ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (من سمع سمع الله به، ومن
يشاقق يشقق الله عليه) قال صاحب العين: شق الأمر عليك
مشقة: أضر بك. وفى وصية أبى تميمة الحض على أكل الحلال
والكف عن الدماء.
9 - باب الْقَضَاءِ وَالْفُتْيَا فِى الطَّرِيقِ
وَقَضَى يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الطَّرِيقِ، وَقَضَى
الشَّعْبِىُّ عَلَى بَابِ دَارِهِ. / 15 - فيه: أَنَسُ:
بَيْنَمَا أَنَا وَالنَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
خَارِجَانِ مِنَ الْمَسْجِدِ، فَلَقِيَنَا رَجُلٌ عِنْدَ
سُدَّةِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَتَى
السَّاعَةُ؟ قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : مَا
أَعْدَدْتَ لَهَا؟ فَكَأَنَّ الرَّجُلَ اسْتَكَانَ، ثُمَّ
قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا أَعْدَدْتُ لَهَا كَبِيرَ
صِيَامٍ، وَلا صَلاةٍ، وَلا صَدَقَةٍ، وَلَكِنِّى أُحِبُّ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ، قَالَ: أَنْتَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ)
. قال المهلب: الفتوى فى الطريق على الدابة وما يشاكلها من
التواضع لله عز وجل فإن كان الفتوى لضعيف أو جاهل فهو
(8/221)
محمود عند الله وعند الناس وإن تكلف ذلك
لرجل من أهل الدنيا أو لمن يخشى لسانه فهو مكروه للحاكم أن
يترك مكانه وخطته. واختلف أصحاب مالك فى القضاء سائرًا أو
ماشيئًا، فقال أشهب: لا بأس بذلك إذا لم يشغله السير أو
المشى عن الفهم. وقال سحنون: لا ينبغى أن يقضى وهو يسير أو
يمشى، وقال ابن حبيب: ما كان من ذلك يسيرًا كالذى يأمر
بسجن من وجب عليه أو يأمر بشىء أو يكف عن شىء فلا بأس
بذلك، وأما أن يبتدئ نظرًا ويرجع الخصوم وما أشبه ذلك فلا
ينبغى. وهذا قول حسن. وقول أشهب أشبه بدليل الحديث. وفيه
دليل على جواز تنكيب العالم بالفتيا عن نفس ما سئل عنه إذا
كانت المسألة لا تعرف أو كان مما لا حاجة بالناس إلى
معرفتها، وكانت مما يخشى منها الفتنة وسوء التأويل.
- باب مَا ذُكِرَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
لَمْ يَكُنْ لَهُ بَوَّابٌ
/ 16 - فيه: أَنَسَ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
مَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهِىَ تَبْكِى عِنْدَ قَبْرٍ، فَقَالَ
لَهَا: اتَّقِى اللَّهَ وَاصْبِرِى، فَقَالَتْ: إِلَيْكَ
عَنِّى فَإِنَّكَ خِلْوٌ مِنْ مُصِيبَتِى، فَجَاوَزَهَا،
وَمَضَى فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ، فَقَالَ: مَا قَالَ لَكِ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَتْ: مَا
عَرَفْتُهُ، قَالَ: إِنَّهُ لَرَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) ، قَالَ: فَجَاءَتْ إِلَى بَابِهِ، فَلَمْ
تَجِدْ عَلَيْهِ بَوَّابًا، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، وَاللَّهِ مَا عَرَفْتُكَ، فَقَالَ النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ
صَدْمَةٍ) . قال المهلب: لم يكن للنبى بواب راتب، وقد جاء
فى حديث القف
(8/222)
والمشربة أنه كان له بواب، فدل حديث أنس
أنه (صلى الله عليه وسلم) إذا لم يكن على شغل من أهله ولا
انفراد لشىء من أمره أنه كان يرفع حجابه بينه وبين الناس
ويبرز لطالبيه وذوى الحاجة إليه؛ لأن الله قد كان أمنه أن
يغتال أو يهاج أو تطلب غرته فيقتل، قال تعالى: (والله
يعصمك من الناس) [المائدة: 67] وقد أراد عمر بن عبد العزيز
أن يسلك هذه الطريقة تواضعًا لله فمنع الشرط والبوابين
فتكاثر الناس تكاثرًا اضطره إلى الشرط فقال: لابد للسلطان
من وزعة. قال الطبرى: دل حديث عمر حين استأذن له الأسود
على النبى (صلى الله عليه وسلم) فى المشربة أنه فى وقت
خلوته وشغله بنفسه فيما لابد له منه كان يتخذ بوابًا؛
ليعلم من قصده أنه خال فيما لابد له منه، ولولا ذلك لم يكن
لعمر حاجة إلى مسألة الأسود للاستئذان له على رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) ؛ بل كان يكون هو المستأذن لنفسه
فبان بحديث عمر أن معنى رواية من روى عنه أنه لم يكن له
بواب يريد فى الأوقات التى كان يظهر فيها للناس ويبرز
إليهم، وأما فى وقت حاجته وخلوته فلا. وعلى هذا النحو من
فعله (صلى الله عليه وسلم) فى اتخاذه البواب، ورفعه الحجاب
والبواب عن بابه وبروزه لطالبه كان احتجاب من احتجب من
اللأئمة واتخاذ من اتخذ البواب وظهور من ظهر للناس منهم.
وروى شعبة، عن أبى عمران الجونى، عن عبد الله بن الصامت أن
أبا ذر لما قدم على عثمان قال: (يا أمير المؤمنين، افتح
الباب يدخل الناس) فدل هذا الحديث عن عثمان أنه كان يبرز
أحيانًا، ويظهر لأهل الحاجة، ويحتجب أحيانًا فى أوقات
حاجاته، ونظير ذلك كان يفعل عمر بن عبد العزيز. روى عن
جرير، عن مغيرة،
(8/223)
عن زيد الطيب قال: دخلت على عمر بن عبد
العزيز فقال لى: ما يقول الناس؟ قلت: يقولون: إنك شديد
الحجاب. فقال: لابد لى أن أخلو فيما يرفع إلىّ الناس من
المظالم، فأنظر فيها.
- باب الْحَاكِمِ يَحْكُمُ بِالْقَتْلِ عَلَى مَنْ وَجَبَ
عَلَيْهِ دُونَ الإمَامِ الَّذِى فَوْقَهُ
/ 17 - فيه: أَنَسِ: إِنَّ قَيْسَ بْنَ سَعْدٍ كَانَ
يَكُونُ بَيْنَ يَدَىِ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنَ الأمِيرِ) . / 18 -
وفيه: أَبُو مُوسَى أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
بَعَثَهُ، وَأَتْبَعَهُ بِمُعَاذٍ بن جبل. / 19 - وفيه:
أَبُو مُوسَى: أَنَّ رَجُلا أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ،
فَأَتَى مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَهُوَ عِنْدَ أَبِى مُوسَى،
فَقَالَ: مَا لِهَذَا؟ قَالَ: أَسْلَمَ ثُمَّ تَهَوَّدَ،
قَالَ: لا أَجْلِسُ حَتَّى أَقْتُلَهُ. اختلف العلماء فى
هذا الباب فقال ابن القاسم فى المجموعة: لا يقيم الحدود فى
القتل ولاة المياه، وليجلب إلى الأمصار ولا يقام القتل
بمصر كلها إلا بالفسطاط أو يكتب إلى والى الفسطاط بذلك.
وقال أشهب: من ولاه الأمير وجعله واليًا على بعض المياه،
وجعل ذلك إليه فليقم الحد فى القتل والقطع وغيره، وإن لم
يجعله إليه فلا يقيمه. وذكر الطحاوى عن أصحابه الكوفيين
قال: لا يقيم الحدود إلا أمراء الأمصار وحكامها، ولا
يقيمها عامل السواد ونحوه. وذكر عن مالك قال: لا يقيم
الحدود كل الولاة فى الأمصار والسواد. وقال
(8/224)
الشافعى: إذا كان الوالى عدلا يضع الصدقة
مواضعها فله عقوبة غل صدقته، وإن لم يكن عدلا لم يكن له أن
يعزره. والحجة لمن رأى للحاكم والوالى إقامة الحدود دون
الإمام الذى فوقه حديث معاذ أنه قتل المرتد دون أن يرفع
أمره إلى النبى (صلى الله عليه وسلم) . وذهب الكوفيون إلى
أن القاضى حكمه حكم الوكيل لا تنطلق يده إلا على ما أذن له
فيه وأطلق عليه، وحكمه عند من خالفهم حكم الوصى له التصرف
فى كل شىء، وتنطلق يده على النظر فى جميع الأشياء ما لم
يستثن عليه وجه، فلا يجوز أن ينظر فيه.
- باب هَلْ يَقْضِى الْقَاضِى أَوْ يُفْتِى وَهُوَ
غَضْبَانُ؟
/ 20 - فيه: أَبُو بَكْرَةَ، أَنَّه كَتَبَ إِلَى ابْنِهِ،
وَكَانَ بِسِجِسْتَانَ، بِأَنْ لا تَقْضِىَ بَيْنَ
اثْنَيْنِ وَأَنْتَ غَضْبَانُ، فَإِنِّى سَمِعْتُ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (لا يَقْضِيَنَّ
حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ) . / 21 - وفيه:
أَبُو مَسْعُودٍ: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنِّى وَاللَّهِ لأتَأَخَّرُ عَنْ صَلاةِ الْغَدَاةِ مِنْ
أَجْلِ فُلانٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فِيهَا، قَالَ: فَمَا
رَأَيْتُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) قَطُّ أَشَدَّ
غَضَبًا فِى مَوْعِظَةٍ مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ،
فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُوجِزْ، فَإِنَّ
فِيهِمُ الْكَبِيرَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ) . / 22
- وفيه: ابْنَ عُمَرَ، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِىَ
حَائِضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه
وسلم) ، فَتَغَيَّظَ عَلَيْهِ النَّبىُّ (صلى الله عليه
وسلم) ، ثُمَّ قَالَ: (لِيُرَاجِعْهَا، ثُمَّ
لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ فَتَطْهُرَ،
فَإِنْ بَدَا لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا) .
(8/225)
قال المهلب: قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(لا يقضى بين اثنين وهو غضبان) ندب منه خوف التجاوز، ولذلك
كره العلماء أن يقضى القاضى وهو غضبان، روى ذلك عن عمر بن
الخطاب وشريح وعمر بن عبد العزيز، وهو قول مالك والكوفيين
والشافعى. فإن قيل: فقد قضى النبى (صلى الله عليه وسلم)
وهو غضبان. قيل: إنما فعل ذلك لأنه لم يخش التجاوز والميل
فى حكمه؛ لأنه معصوم بخلاف غيره من البشر، وإنما يستعمل
الغضب فى القضاء والفتيا كما استعمله النبى (صلى الله عليه
وسلم) أنه رأى شيئًا من الشريعة والسنة قد غير عن حاله،
ومن الأحوال التى تكره للقاضى أن يقضى فيها أن يكون
جائعًا، روى عن شريح أنه كان إذا غضب أو جاع قام. وكان
الشعبى يأكل عند طلوع الشمس فقيل له. فقال: آخذ حلمى قبل
أن أخرج إلى القضاء. ولا يقضى ناعسًا ولا مغمومًا. قال
الشعبى: وأى حال جاءت عليه مما يعلم أنها تغير عقله أو
فهمه امتنع من القضاء فيها.
- باب مَنْ رَأَى لِلْقَاضِى أَنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِى
أَمْرِ النَّاسِ إِذَا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ
وَالتُّهَمَةَ
كَمَا قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) لِهِنْدٍ:
(خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) ،
وَذَلِكَ إِذَا كَانَ أَمْرًا مَشْهُورًا. / 23 - فيه:
عَائِشَةَ: جَاءَتْ هِنْدٌ بِنْتُ عُتْبَةَ بْنِ
رَبِيعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
(8/226)
وَاللَّهِ مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِ الأرْضِ
أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَذِلُّوا مِنْ
أَهْلِ خِبَائِكَ، وَمَا أَصْبَحَ الْيَوْمَ عَلَى ظَهْرِ
الأرْضِ أَهْلُ خِبَاءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ أَنْ يَعِزُّوا
مِنْ أَهْلِ خِبَائِكَ، ثُمَّ قَالَتْ: إِنَّ أَبَا
سُفْيَانَ رَجُلٌ مِسِّيكٌ، فَهَلْ عَلَىَّ مِنْ حَرَجٍ
أَنْ أُطْعِمَ مِنِ الَّذِى لَهُ عِيَالَنَا؟ قَالَ لَهَا:
لا حَرَجَ عَلَيْكِ أَنْ تُطْعِمِيهِمْ مِنْ مَعْرُوفٍ) .
اختلف العلماء فى القاضى هل يقضى بعلمه؟ فقال الشافعى وأبو
ثور: جائز له أن يقضى بعلمه فى حقوق الله وحقوق الناس،
سواء علم ذلك قبل القضاء أو بعده. وقال الكوفيون: ما شاهده
الحاكم من الأفعال الموجبة للحدود قبل القضاء أو بعده،
فإنه لا يحكم فيها بعلمه إلا القذف، وما علمه قبل القضاء
من حقوق الناس لم يحكم فيه بعلمه فى قول أبى حنيفة. وقال
أبو يوسف ومحمد: يحكم فيما علمه قبل القضاء بعلمه. وقالت
طائفة: لا يقضى بعلمه أصلا فى حقوق الله وحقوق الآدميين،
وسواء علم ذلك قبل القضاء أو بعده أو فى مجلسه. هذا قول
شريح والشعبى، وهو قول مالك وأحمد وإسحاق وأبى عبيد، وقال
الأوزاعى: ما أقر به الخصمان عنده أخذهما به وأنفذه عليهما
إلا الحدود. واحتج الشافعى بحديث هند وأن النبى (صلى الله
عليه وسلم) قضى لها ولولدها على أبى سفيان بنفقتهم ولم
يسألها على ذلك بينة؛ لعلمه بأنها زوجته وأن نفقتها ونفقة
ولدها واجبة فى ماله، فحكم بذلك على أبى سفيان لعلمه بوجوب
ذلك، وأيضًا فإنه متيقن لصحة ما يقضى به إذا علمه علم يقين
وليس كذلك الشهادة؛ لأنها قد تكون كاذبة أو واهمة.
(8/227)
وقد أجمعوا على أنه له أن يعدل ويسقط
العدول بعلمه إذا علم أن ماشهدوا به على غير ما شهدوا به،
وينفذ علمه فى ذلك ولا يقضى بشهادتهم، مثال ذلك أن يعلم
بنتًا لرجل ولدت على فراشه، فإن أقام شاهدين أنها مملوكته
فلا يجوز أن يقبل شهادتهما ويبيح له فرجًا حرامًا، وكذلك
لو رأى رجلا قتل رجلا، ثم جئ بغير القاتل وشهد شاهدان أنه
القاتل فلا يجوز أن يقبل الشهادة، وكذلك لو سمع رجلا طلق
امرأته طلاقًا بائنًا، ثم ادعت عليه المرأة الطلاق وأنكر
ذلك الزوج، فإن جعل القول قوله فقد أقامه على فرج حرام
فيفسق به، ولم يكن له بد من أن لا يقبل قوله فيحكم بعلمه.
واحتج أصحاب أبى حنيفة بأن ما علمه الحاكم قبل القضاء
فإنما حصل فى حال الابتداء على طريق الشهادة فلم يجز أن
نجعله حاكمًا؛ لأنه لو حكم له لكان قد حكم بشهادة نفسه
فكان متهمًا، وصار بمنزلة من قضى بدعواه على غيره، وأيضًا
فإن علمه لما تعلق به الحكم على وجه الشهادة فإذا قضى به
صار كالقاضى بشاهد واحد. قالوا: والدليل على جواز حكمه بما
علمه فى حال القضاء وفى مجلسه قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(إنما أقضى على نحو ما أسمع) ولم يفرق بين سماعه من الشهود
أو المدعى عليه فيجب أن يحكم بما سمعه من المدعى عليه كما
يحكم بما سمعه من الشهود. واحتج أصحاب مالك فقالوا: الحاكم
غير معصوم، ويجوز أن تلحقه الظنة فى أن يحكم لوليه على
عدوه، فحسمت المادة فى ذلك بأن لا يحكم بعلمه؛ لأنه ينفرد
به ولا يشركه غيره فيه. وأيضًا فإن النبى (صلى الله عليه
وسلم) قال فى حديث اللعان: (إن جاءت به على نعت كذا فهو
(8/228)
للذى رميت به فجاءت به على العنت المكروه)
، فقال (صلى الله عليه وسلم) : (لو كنت راجمًا أحدًا بغير
بينة لرجمت هذه) وقد علم أنها زنت فلم يرجمها لعدم البينة،
والنبى (صلى الله عليه وسلم) وإن كان لم يقطع أنها تأتى به
على أحد النعتين فقد قطع على أنها إن جاءت به على أحدهما،
فهو لمن وصف لا محالة، وهذا لا يكون منه إلا بعلم. وروى عن
أبى بكر الصديق أنه قال: لو رأيت رجلا على حد لم أحده حتى
يشهد بذلك عندى شاهدان. ولا مخالف له فى الصحابة.
- باب الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَطِّ، وَمَا يَجُوزُ مِنْ
ذَلِكَ؟ وَمَا يَضِيقُ فِيهِ وَكِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى
عَامِلِهِ، وَالْقَاضِى
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: كِتَابُ الْحَاكِمِ جَائِزٌ إِلا
فِى الْحُدُودِ، ثُمَّ قَالَ: إِنْ كَانَ الْقَتْلُ خَطَأ
فَهُوَ جَائِزٌ؛ لأنَّ هَذَا مَالٌ بِزَعْمِهِ، وَإِنَّمَا
صَارَ مَالا بَعْدَ أَنْ ثَبَتَ الْقَتْلُ، فَالْخَطَأُ
وَالْعَمْدُ وَاحِدٌ. وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ إِلَى
عَامِلِهِ فِى الْجَارُودِ، وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ
عَبْدِالْعَزِيزِ فِى سِنٍّ كُسِرَتْ، وَقَالَ
إِبْرَاهِيمُ: كِتَابُ الْقَاضِى إِلَى الْقَاضِى جَائِزٌ
إِذَا عَرَفَ الْكِتَابَ وَالْخَاتَمَ. وَكَانَ
الشَّعْبِىُّ يُجِيزُ الْكِتَابَ الْمَخْتُومَ بِمَا فِيهِ
مِنَ الْقَاضِى، وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ نَحْوُهُ،
وَقَالَ مُعَاوِيَةُ بْنُ عَبْدِالْكَرِيمِ الثَّقَفِىُّ:
شَهِدْتُ عَبْدَالْمَلِكِ
(8/229)
بْنَ يَعْلَى قَاضِىَ الْبَصْرَةِ
وَإِيَاسَ بْنَ مُعَاوِيَةَ وَالْحَسَنَ وَثُمَامَةَ بْنَ
عَبْدِاللَّهِ بْنِ أَنَسٍ وَبِلالَ بْنَ أَبِى بُرْدَةَ
وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ بُرَيْدَةَ الأسْلَمِىَّ وَعَامِرَ
بْنَ عَبِيدَةَ وَعَبَّادَ بْنَ مَنْصُورٍ يُجِيزُونَ
كُتُبَ الْقُضَاةِ بِغَيْرِ مَحْضَرٍ مِنَ الشُّهُودِ،
فَإِنْ قَالَ الَّذِى جِىءَ عَلَيْهِ بِالْكِتَابِ:
إِنَّهُ زُورٌ، قِيلَ لَهُ: اذْهَبْ، فَالْتَمِسِ
الْمَخْرَجَ مِنْ ذَلِكَ، وَأَوَّلُ مَنْ سَأَلَ عَلَى
كِتَابِ الْقَاضِى الْبَيِّنَةَ: ابْنُ أَبِى لَيْلَى
وَسَوَّارُ بْنُ عَبْدِاللَّهِ. وَقَالَ أَبُو نُعَيْمٍ:
حَدَّثَنَا عُبَيْدُاللَّهِ بْنُ مُحْرِزٍ، جِئْتُ
بِكِتَابٍ مِنْ مُوسَى بْنِ أَنَسٍ قَاضِى الْبَصْرَةِ،
وَأَقَمْتُ عِنْدَهُ الْبَيِّنَةَ أَنَّ لِى عِنْدَ فُلانٍ
كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ بِالْكُوفَةِ، وَجِئْتُ بِهِ
الْقَاسِمَ بْنَ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَأَجَازَهُ. وَكَرِهَ
الْحَسَنُ وَأَبُو قِلابَةَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى وَصِيَّةٍ
حَتَّى يَعْلَمَ مَا فِيهَا؛ لأنَّهُ لا يَدْرِى لَعَلَّ
فِيهَا جَوْرًا. وَقَدْ كَتَبَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه
وسلم) إِلَى أَهْلِ خَيْبَرَ: إِمَّا أَنْ تَدُوا
صَاحِبَكُمْ، وَإِمَّا أَنْ تُؤْذِنُوا بِحَرْبٍ. وَقَالَ
الزُّهْرِىُّ فِى الشَّهَادَةِ عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ
وَرَاءِ السِّتْرِ: إِنْ عَرَفْتَهَا فَاشْهَدْ، وَإِلا
فَلا تَشْهَدْ. / 24 - فيه: أَنَسِ: أَنَّ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) لما أراد أَنْ يَكْتُبَ إِلَى الرُّومِ،
قَالُوا: إِنَّهُمْ لا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إِلا
مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِهِ
وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. واتفق جمهور
العلماء على أن الشهادة على الخط لا تجوز إذا لم يذكر
الشهادة ولم يحفظها. قال الشعبى: فلا يشهد أبدًا إلا على
شىء يذكر، فإنه من شاء انتقش خاتمًا، ومن شاء كتب كتابًا.
(8/230)
وممن رأى أن لا يشهد على الخط وإن عرفه حتى
يذكر الشهادة: الكوفيون والشافعى وأحمد وأكثر أهل العلم،
وقد فعل مثل هذا فى أيام عثمان صنعوا مثل خاتمه وكتبوا مثل
كتابه فى قصة مذكورة فى مقتل عثمان. وأحسن ما يحتج به فى
هذا الباب بقوله تعالى: (وما شهدنا إلا بما علمنا) [يوسف:
81] ، وقوله: (إلا من شهد بالحق وهم يعلمون) [الزخرف: 86]
، وأجاز مالك الشهادة على الخط، فروى عنه ابن وهب فى الرجل
يقوم يذكر حقا قد مات شهوده ويأتى بشاهدين عدلين يشهدان
على كتاب ذكر الحق، قال: تجوز شهادتهما على كتاب الكاتب.
يعنى: إذا كان قد كتب شهادته على المطلوب بما كتب عليه فى
ذكر الحق؛ لأنه قد يكتب ذكر الحق من لا يشهد على المكتوب
عليه. قاله ابن القاسم. وإن كان على خط اثنين جاز وكان
بمنزلة الشاهدين إذا كان عدلا مع يمين الطالب وهو قول ابن
القاسم. وذكر ابن شعبان، عن ابن وهب قال: لا آخذ بقول مالك
فى الشهادة على معرفة الخط ولا تقبل الشهادة فيه. وقال
الطحاوى: خالف مالكًا جميع الفقهاء فى الشهادة على الخط
وعدوا قوله شذوذا؛ إذ الخط قد يشبه الخط، وليست الشهادة
على قول منه ولا معاينة فعل. وقال محمد بن حارث: الشهادة
على الخط خطأ؛ لأن الرجل قد يكتب شهادته على من لا يعرفه
بعينه طمعًا أن لا يحتاج فى ذلك إليه وأن غيره يغنى عنه،
أو لعله يشهد فى قريب من وقت
(8/231)
الشهادة فيذكر العين، ولقد قال فى رجل قال:
سمعت فلانًا يقول: رأيت فلانًا قتل فلانًا، أو سمعت فلانًا
طلق امرأته أو قذفها أنه لا يشهد على شهادته إلا أن يشهده
فالخط أبعد من هذا وأضعف. قال محمد بن حارث: وقد قلت لبعض
الفضلة: أتجوز شهادة الموتى؟ فقال: ما هذا الذى تقول؟
فقلت: إنكم تجيزون شهادة الرجل بعد موته إذا وجدتم خطه فى
وثيقة. فسكت. وقال محمد بن عبد الحكم: لا نقضى فى دهرنا
بالشهادة على الخط؛ لأن الناس قد أحدثوا ضروبًا من الفجور،
وقد قال مالك: إن الناس تحدث لهم أقضية على نحو ما أحدثوا
من الفجور. وقد كان الناس فيما مضى يجيزون الشهادة على
خاتم القاضى، ثم رأى مالك أن ذلك لا يجوز. وأما اختلاف
الناس فى كتب القضاة، فذهب جمهور العلماء إلى أن كتب
القضاة إلى القضاة جائزة فى الحدود، وسائر الحقوق، وذهب
الكوفيون إلى أنها تجوز فى كل شىء إلا فى الحدود، وهو أحد
قولى الشافعى، وله مثل قول الجمهور، وحجة البخارى على
الكوفى من تناقضه فى جواز ذلك فى قتل الخطأ وأنه إنما صار
مالا بعد ثبوت القتل فهى حجة حسنة. وذكر أن عمر بن عبد
العزيز كتب إلى عماله فى الحدود وأحكامه حجة ولا سلف لأبى
حنيفة فى قوله. وذكر البخارى عن جماعة من قضاة التابعين
وعلمائهم أنهم كانوا يجيزون كتب القضاة إلى القضاة بغير
شهود عليها إذا عرف الكتاب والخاتم، وحجتهم أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) بعث
(8/232)
بكتبه إلى خيبر وإلى الروم، ولم يذكر أن
النبى، عليه السلام، أشهد عليها. وأجمع فقهاء المصار
وحكامها على فعل سوار وابن أبى ليلى، اتفقوا أنه لا يجوز
كتاب قاض إلى قاض حتى يشهد عليه شاهدان لما دخل الناس من
الفساد، واستعمال الخطوط ونقش الخواتيم، فاحتيط لتحصين
الدماء والأموال بشاهدين. وروى ابن نافع، عن مالك قال: كان
من أمر الناس القديم إجازة الخواتم حتى إن القاضى ليكتب
للرجل الكتاب فما يزيد على ختمه فيجاز له حتى اتهم الناس،
فصار لا يقبل إلا بشاهدين، واختلفوا إذا أشهد القاضى
شاهدين على كتابه ولم يقرأ عليهما ولا عرفهما بما فيه فقال
مالك: يجوز ذلك ويلزم القاضى المكتوب إليه قبوله بقول
الشاهدين: هذا كتابه ودفعه إلينا مختومًا. وقال أبو حنيفة
والشافعى وأبو ثور: إذا لم يقرأه عليهما القاضى لم يجز ولا
يعمل القاضى للمكتوب إليه بما فيه. وروى عن مالك مثله.
وحجتهم أنه لا يجوز أن يشهد الشاهد إلا بما يعلم؛ لقوله
تعالى: (وما شهدنا إلا بما علمنا) [يوسف: 81] . وحجة من
أجاز ذلك أن الحاكم إن أقر أنه كتابه فقد أقر بما فيه،
وليس للشاهدين أن يشهدا على ما ثبت عند الحاكم فيه، وإنما
الغرض منهما أن يعلم القاضى المكتوب إليه أن هذا كتاب
القاضى إليه، وقد يثبت عند القاضى من أمور الناس ما لا يجب
أن
(8/233)
يعلمه كل أحد مثل الوصية التى يتخوف الناس
فيها ويذكرون ما فرطوا فيه. ولهذا يجوز عند مالك أن يشهدوا
على الوصية المختومة وعلى الكتاب المدرج ويقولوا للحاكم:
نشهد على إقراره بما فى هذا الكتاب. وقد كان رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) يكتب إلى عماله ولا يقرؤها على رسله
وفيها الأحكام والسنن. واختلفوا إن انكسر ختم الكتاب فقال
أبو حنيفة وزفر: لا يقبله الحاكم. وقال أبو يوسف: يقبله
ويحكم به إذا شهدت به البينة وهو قول الشافعى، واحتج
الطحاوى لأبى يوسف فقال: كتب رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) إلى الروم كتابًا وأراد أن يبعثه غير مختوم حتى قيل
له: إنهم لا يقرءونه إلا مختومًا، فاتخذ الخاتم من أجل
ذلك، فدل أن كتاب القاضى حجة، وإن لم يكن مختومًا، وخاتمه
أيضًا حجة.
- باب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ
لا يَتَّبِعُوا الْهَوَى وَلا يَخْشَوُا النَّاسَ، وَلا
يَشْتَرُوا بآيَاتِ الله ثَمَنًا قَلِيلا، ثُمَّ قَرَأَ:
(يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِى الأرْضِ)
[ص: 26] الآية، وَقَرَأَ: (إِنَّا أَنْزَلْنَا
التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا
النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا (إلى) بِمَا
اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ) [المائدة: 44] .)
بِمَا اسْتُحْفِظُوا (اسْتُوْدِعُوا،) مِنْ كِتَابِ
اللَّهِ (، وَقَرَأَ: (وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ
يَحْكُمَانِ فِى الْحَرْثِ) [الأنبياء: 78] فَحَمِدَ
سُلَيْمَانَ، وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ، وَلَوْلا مَا ذَكَرَ
(8/234)
اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ
أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا
بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ وَقَالَ
مُزَاحِمُ بْنُ زُفَرَ: قَالَ لَنَا عُمَرُ بْنُ
عَبْدِالْعَزِيزِ: خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ الْقَاضِى
مِنْهُنَّ خَصْلَةً كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: أَنْ يَكُونَ
فَهِمًا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صَلِيبًا، عَالِمًا، سَئُولا
عَنِ الْعِلْمِ. قال المهلب: أما استحباب الرجل القضاء فإن
أهل العلم قالوا فى ذلك: إذا رآه الناس أهلا لذلك ورأى هو
نفسه أهلا لها، وليس أن يرى نفسه أهلا لذلك فقط؛ أنه إذا
علم الناس منه هذا الرأى لم يفقد من يزين له ذلك ويستحمد
إليه. قال مالك: ولا يستقضى من ليس بفقيه. وذكر ابن حبيب،
عن مالك أنه قال: إذا اجتمع فى الرجل خصلتان رأيت أن يولى:
الورع والعلم. قال ابن حبيب: فإن لم يكن علم فعقل وورع؛
لأنه بالورع يقف، وبالعقل يسأل، وإذا طلب العلم وجده، وإن
طلب العقل لم يجده. فإن قيل: فإذا استوجب القضاة هل
للسلطان أن يجبره على ولايته؟ قيل: قد روى ابن القاسم، عن
مالك أنه لا يجبر على ولاية القضاء إلا أن يوجد منه عوض.
قيل له: أيجبر بالحبس والضرب؟ قال: نعم. قال المهلب:
والحكم الذى ينبغى أن يلزمه القاضى هو توسعة خلقه للسماع
من الخصمين، وأن لا يحرج بطول ما يورده أحدهما، وإن رآه
غير نافع له فى خصامه فليصبر له حتى يبلغ المتكلم مراده؛
لأنه قد
(8/235)
يمكن أن يكون ذلك الكلام الذى لا ينتفع به
سببًا إلى ما ينتفع به، وأيضًا فإنه إذا لم يترك أن يتكلم
بما يريد نسب إليه الخصم أنه جار عليه ومنعه الإدلاء بحجته
وأثار على نفسه عداوة، وربما كان ذلك شيئًا لفتنة الخصم،
ووجد إليه الشيطان السبيل، وأوهمه أن الجور من الدين.
وقوله: صليبًا، يريد الصلابة فى إنفاذ الحق حتى لا يخاف فى
الله لومة لائم ولا يهاب ذا سلطان أو ذا مال وعشيرة وليكن
عنده الضعيف والقوى، والكبير والصغير فى الحق سواء. وقول
الحسن: أخذ الله على الحكام أن لا يتبعوا الهوى ولا يخشوا
الناس. وما استشهد عليه من كتاب الله فكل ذلك يدل أن الله
تعالى فرض على الحكام أن يحكموا بالعدل، وقد قال عز وجل:
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء: 85] ،
وكذلك فرض عليهم أن لا يخشوا الناس. ولهذا قال عمر بن عبد
العزيز فى صفة القاضى أن يكون صليبًا. وقوله: أن يكون
عفيفًا. أخذه من قوله تعالى: (ولا تشتروا بآياتى ثمنًا
قليلا) [البقرة: 41] . واختلف العلماء فى تأويل قوله
تعالى: (فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى) [ص: 26] ،
فقالت طائفة: الآية عامة فى كل الناس، وكل خصمين تقدما إلى
حاكم فعليه أن يحكم بينهما، وسواء كان للحاكم ولد أو والد
أو زوجة، وهم وسائر الناس فى ذلك سواء.
(8/236)
وذهب الكوفيون والشافعى إلى أنه لا تجوز
شهادته له ويحكم لسائر الناس. وزاد أبو حنيفة: لا يحكم
لولد والده وإن كانوا من قبل النساء، ولا لعبده وكاتبه وأم
ولده؛ لأن هؤلاء: لا تجوز شهادته لهم. واحتلف أصحاب مالك
فى ذلك فقال مطرف وسحنون: كل من لا يجوز للحاكم أن يشهد له
لا يجوز حكمه له، وهم الآباء فمن فوقهم والأبناء فمن دونهم
وزوجته ويتيمه الذى يلى ماله. وقال ابن الماجشون: يجوز
حكمه للآباء والأبناء فمن فوقهم ومن دونهم إلا الولد
الصغير الذى يلى ماله أو يتيمه أو زوجته، ولا يتهم فى
الحكم كما يتهم فى الشهادة؛ لأنه إنما يحكم بشهادة غيره من
العدول. وقال أصبغ مثل قول مطرف إذا قال: ثبت له عندى. ولا
يدرى أثبت له أم لا ولم يحضر الشهود، فإذا حضروا وكانت
الشهادة ظاهرة بحق بيّن؛ فحكمه له جائز ما عدا زوجته وولده
الصغير ويتيمه الذى يلى ماله. كقول ابن الماجشون؛ لأن
هؤلاء كنفسه، فلا يجوز له أن يحكم لهم، والقول الأول أولى
بشهادة عموم القرآن له قال تعالى: (يا داود إنا جعلناك
خليفة فى الأرض) [ص: 26] الآية. وخاطب تعالى الحكام فقال:
(وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) [النساء: 58] فعم
جميع الناس، وقد حكم النبى (صلى الله عليه وسلم) لزوجته
عائشة على الذين رموها بالإفك وأقام عليهم الحد. وليس رد
شهادة الولد لوالده، والوالد لولده بإجماع من الأمة فيكون
أصلا لذلك، وقد أجاز شهادة الولد لوالده، والوالد لولده
عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز وإياس بن معاوية، وهو
قول أبى ثور والمزنى وإسحاق.
(8/237)
- باب رِزْقِ الْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ
عَلَيْهَا
وَكَانَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى يَأْخُذُ عَلَى الْقَضَاءِ
أَجْرًا، وَقَالَتْ عَائِشَةُ: يَأْكُلُ الْوَصِىُّ
بِقَدْرِ عُمَالَتِهِ، وَأَكَلَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ. /
25 - فيه: عَبْدَاللَّهِ بْنَ السَّعْدِىِّ، (أَنَّهُ
قَدِمَ عَلَى عُمَرَ فِى خِلافَتِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ:
أَلَمْ أُحَدَّثْ أَنَّكَ تَلِىَ مِنْ أَعْمَالِ النَّاسِ
أَعْمَالا، فَإِذَا أُعْطِيتَ الْعُمَالَةَ كَرِهْتَهَا؟
فَقُلْتُ: بَلَى، فَقَالَ عُمَرُ: فَمَا تُرِيدُ إِلَى
ذَلِكَ، قُلْتُ: إِنَّ لِى أَفْرَاسًا وَأَعْبُدًا،
وَأَنَا بِخَيْرٍ وَأُرِيدُ أَنْ تَكُونَ عُمَالَتِى
صَدَقَةً عَلَى الْمُسْلِمِينَ، قَالَ عُمَرُ: لا
تَفْعَلْ، فَإِنِّى كُنْتُ أَرَدْتُ الَّذِى أَرَدْتَ
فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يُعْطِينِى
الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى
حَتَّى أَعْطَانِى مَرَّةً مَالا، فَقُلْتُ: أَعْطِهِ
أَفْقَرَ إِلَيْهِ مِنِّى، فَقَالَ لِى النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) : خُذْهُ، فَتَمَوَّلْهُ وَتَصَدَّقْ
بِهِ، فَمَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَأَنْتَ غَيْرُ
مُشْرِفٍ، وَلا سَائِلٍ فَخُذْهُ، وَإِلا فَلا تُتْبِعْهُ
نَفْسَكَ) . أجمع العلماء أن أرزاق الحكام من الفئ، وما
جرى مجراه مما يصرف فى مصالح المسلمين؛ لأن الحكم بينهم من
أعظم مصالحهم. وقال الطبرى: فى هذا الحديث الدليل الواضح
على أن من شُغل بشىء من أعمال المسلمين أخذ الرزق على عمله
ذلك، كالولاة والقضاة وجباة الفئ وعمال الصدقة وشبههم؛
لإعطاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمر العمالة على
عمله الذى استعمله عليه، فكذلك سبيل كل مشغول بشىء من
أعمالهم له من الرزق على قدر استحقاقه عليه وسبيله سبيل
عمر فى ذلك. قال غيره: إلا أن طائفة من السلف كرهت أخذ
الرزق على القضاء.
(8/238)
روى ذلك عن ابن مسعود والحسن البصرى
والقاسم، وذكره ابن المنذر عن عمر بن الخطاب. ورخص فى ذلك
طائفة: وذكر ابن المنذر أن زيد بن ثابت كان يأخذ على
القضاء أجرًا، وروى ذلك عن ابن سيرين وشريح، وهو قول الليث
وإسحاق وأبى عبيد، والذين كرهوه ليس بحرام عندهم. وقال
الشافعى: إذا أخذ القاضى جعلا لم يحرم عليه عندى. واحتج
أبو عبيد فى جواز ذلك بما فرض الله للعاملين على الصدقة،
وجعل لهم منها حقا لقيامهم وسعيهم فيها. قال ابن المنذر:
وحديث ابن السعدى حجة فى جواز أرزاق القضاة من وجوهها. قال
المهلب: وإنما كره من كرهه؛ لأن أمر القضاء إنما هو محمول
فى الأصل على الاحتساب، ولذلك عظمت منازلهم وأجورهم فى
الآخرة، ألا ترى أن الله أمر نبيه وسائر الأنبياء أن
يقولوا: لا أسألكم عليه أجرًا؛ ليكون ذلك دليلا على
البراءة من الاتهام. ولذلك قال مالك: أكره أجر قسام
القاضى؛ لأن من مضى كانوا يقسمون ويحتسبون ولا يأخذون
أجرًا. فأراد أن يجرى هذا الأمر على طريق الاحتساب على
الأصل الذى وضعه الله للأنبياء، عليهم السلام؛ لئلا يدخل
فى هذه الصناعة من لا يستحقها أو يتحيل على أموال
المسلمين، وأما من حكم بالحق إذا تصرف فى مصالح المسلمين
فلا يحرم عليه أخذ الأجر على ذلك. وقد روى عن عمر بن
الخطاب أنه استعمل ابن مسعود على بيت المال، وعمار بن ياسر
على الصلاة، وابن حنيف على الجند، ورزقهم كل يوم شاة شطرها
لعمار؛ وربعها لابن مسعود، وربعها لابن حنيف.
(8/239)
وأما العاملون عليها فهم السعاة المتولون
لقبض الصدقات، ولهم من الأجر بقدر أعمالهم على حسب ما يراه
الإمام فى ذلك، وقد تقدم فى كتاب الزكاة وفى كتاب الوصايا
اختلاف العلماء فيما يجوز للوصى أن يأكل من مال يتيمه.
وأما قول النبى (صلى الله عليه وسلم) لعمر فى العطاء: (خذه
فتموله وتصدق به) فإنما أراد (صلى الله عليه وسلم) الأفضل
والأعلى من الأجر؛ لأن عمر وإن كان مأجورًا بإيثاره بعطائه
على نفسه من هو أفقر إليه منه، فإن أخذه للعطاء ومباشرته
الصدقة بنفسه أعظم لأجره، وهذا يدل أن الصدقة بعد التمول
أعظم أجرًا؛ لأن خلق الشح حينئذ مستول على النفوس. وفيه:
أن أخذ ما جاء من المال من غير مسألة أفضل من تركه؛ لأنه
يقع فى إضاعة المال، وقد نهى النبى (صلى الله عليه وسلم)
عن ذلك.
- باب مَنْ قَضَى وَلاعَنَ فِى الْمَسْجِدِ
وَلاعَنَ عُمَرُ عِنْدَ مِنْبَرِ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) ، وَقَضَى مَرَّوانٌ عَلَى زَيْد بْنِ ثَابِتٍ
عِنْدَ الْمِنْبَرِ، وَقَضَى شُرَيْحٌ وَالشَّعْبِىُّ
وَيَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ فِى الْمَسْجِدِ عِنْدَ
الْمِنْبَرِ، وَكَانَ الْحَسَنُ وَزُرَارَةُ ابْنُ أَوْفَى
يَقْضِيَانِ فِى الرَّحَبَةِ خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ. /
26 - فيه: سَهْلِ: شَهِدْتُ الْمُتَلاعِنَيْنِ، وَأَنَا
ابْنُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَفُرِّقَ بَيْنَهُمَا.
وَقَالَ مرة فَتَلاعَنَا فِى الْمَسْجِدِ وَأَنَا شَاهِدٌ.
استحب القضاء فى المسجد طائفة منهم: شريح والحسن البصرى
والشعبى وابن أبى ليلى. وقال مالك: القضاء فى المسجد من
أمر
(8/240)
الناس القديم؛ لأنه يرضى فيه بالدون من
المجلس ويصل إليه المرأة والضعيف، وإذا احتجب لم يصل إليه
الناس، وبه قال أحمد وإسحاق. وكرهت ذلك طائفة وقالت:
القاضى يحضره الحائض والذمى وتكثر الخصومات بين يديه،
والمساجد تجنب ذلك. وروى عن عمر ابن عبد العزيز أنه كتب
إلى القاسم بن عبد الرحمن ألا تقضى فى المسجد؛ فإنه يأتيك
الحائض والمشرك. وقال الشافعى: أحب إلىّ أن يقضى فى غير
المسجد لكثرة من يغشاه لغير ما بنيت له المساجد. وحديث سهل
بن سعد حجة لمن استحب ذلك. وليس فى اعتلال من اعتل بحضور
الكافر والحائض مجلس الحكم حجة؛ لأنه لا تعلم حجة يجب بها
منع الكافر من الدخول فى المساجد إلا المسجد الحرام، وقد
قدم وفد ثقيف على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فأنزلهم
فى المسجد، وأخذ ثمامة ابن أثال من بنى حنيفة أسيرًا وربط
إلى سارية من سوارى المسجد، فليس فى منع الحائض من دخول
المسجد خبر يثبت، وقد نظر داود نبى الله بين الخصمين
اللذين وعظ بهما فى المحراب وهو فى المسجد.
- باب مَنْ حَكَمَ فِى الْمَسْجِدِ حَتَّى إِذَا أَتَى
عَلَى حَدٍّ أَمَرَ أَنْ يُخْرَجَ مِنَ الْمَسْجِدِ
فَيُقَامَ
وَقَالَ عُمَرُ: أَخْرِجَاهُ مِنَ الْمَسْجِدِ، وَيُذْكَرُ
عَنْ عَلِىٍّ نَحْوُهُ. / 27 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ:
أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ
فِى الْمَسْجِدِ، فَنَادَاهُ، فَقَالَ:
(8/241)
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى زَنَيْتُ،
فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَلَمَّا شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ
أَرْبَعًا، قَالَ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ قَالَ: لا، قَالَ:
اذْهَبُوا بِهِ فَارْجُمُوهُ) . فَقَالَ جَابِرَ: كُنْتُ
فِيمَنْ رَجَمَهُ بِالْمُصَلَّى اختلف العلماء فى إقامة
الحدود فى المسجد فروى عن عمر بن الخطاب أنه أمر بالذى وجب
عليه الحد أن يقام عليه خارج المسجد، وكذلك فعل علىّ بن
أبى طالب بالسارق الذى قدم إليه فقال: يا قنبر، أخرجه من
المسجد فاقطع يده. وكره إقامة الحد فى المسجد مسروق وقال:
إن للمسجد حرمة. وهو قول الشعبى وعكرمة، وإليه ذهب
الكوفيون والشافعى وأحمد وإسحاق. وفيها قول ثان روى عن
الشعبى أنه أقام على رجل من أهل الذمة حدا فى المسجد. وهو
قول ابن أبى ليلى. وفيها قول ثالث: وهو الرخصة فى الضرب
بالأسواط اليسيرة فى المسجد، فإذا كثرت الحدود فلا يقام
فيه وهو قول مالك وأبى ثور. وقول من نزه المسجد عن إقامة
الحدود فيه أولى لما شهد له حديث أبى هريرة أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) أمر برجم الزانى فى المصلى خارج المسجد.
قال ابن المنذر: ولا ألزم من أقام الحد فى المسجد مأثمًا؛
لأنى أجد دليلا عليه. وفى الباب حديثان منقطعان لا يقوم
بهما حجة فى النهى عن إقامة الحدود فى المساجد.
- بَاب مَوْعِظَةِ الإمَامِ لِلْخُصُومِ
/ 28 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ: أَنَّ النَّبىَّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّكُمْ
تَخْتَصِمُونَ إِلَىَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ
أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ،
(8/242)
فَأَقْضِى عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ،
فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا، فَلا
يَأْخُذْهُ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ
النَّارِ) . قوله: (ألحن) . يعنى: أفطن لها وأجدل. وقال
أبو عبيد: اللحن. بفتح الحاء: الفطنة، واللحن بإسكان
الحاء: الخطأ. وقد جاء هذا الحديث فى كتاب المظالم بلفظ
آخر يشهد لقول أهل اللغة قال: (فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من
بعض) . قال المهلب: وفيه أنه ينبغى للحاكم أن يعظ الخصمين
ويحذر من مطالبة الباطل؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم)
وعظ أمته بقوله هذا.
- باب الشَّهَادَةِ تَكُونُ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِى
وِلايَتِهِ الْقَضَاءَ أَوْ قَبْلَ ذَلِكَ لِلْخَصْمِ
وَقَالَ شُرَيْحٌ الْقَاضِى، وَسَأَلَهُ إِنْسَانٌ
الشَّهَادَةَ، فَقَالَ: ائْتِ الأمِيرَ حَتَّى أَشْهَدَ
لَكَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: قَالَ عُمَرُ
لِعَبْدِالرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: لَوْ رَأَيْتَ رَجُلا
عَلَى حَدٍّ زِنًا أَوْ سَرِقَةٍ وَأَنْتَ أَمِيرٌ،
فَقَالَ: شَهَادَتُكَ شَهَادَةُ رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ، قَالَ: صَدَقْتَ، قَالَ عُمَرُ: لَوْلا
أَنْ يَقُولَ النَّاسُ: زَادَ عُمَرُ فِى كِتَابِ اللَّهِ
لَكَتَبْتُ آيَةَ الرَّجْمِ بِيَدِى. وَأَقَرَّ مَاعِزٌ
عِنْدَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) بِالزِّنَا
أَرْبَعًا، فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ، وَلَمْ يُذْكَرْ أَنَّ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَشْهَدَ مَنْ حَضَرَهُ.
وَقَالَ حَمَّادٌ: إِذَا أَقَرَّ مَرَّةً عِنْدَ
الْحَاكِمِ رُجِمَ، وَقَالَ: الْحَكَمُ أَرْبَعًا. / 29 -
فيه: أَبُو قَتَادَةَ: (قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم)
يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى قَتِيلٍ
قَتَلَهُ، فَلَهُ سَلَبُهُ، فَقُمْتُ لألْتَمِسَ بَيِّنَةً
عَلَى قَتِيلِى، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا يَشْهَدُ لِى
فَجَلَسْتُ، ثُمَّ بَدَا لِى، فَذَكَرْتُ أَمْرَهُ إِلَى
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ رَجُلٌ
مِنْ جُلَسَائِهِ: سِلاحُ هَذَا الْقَتِيلِ الَّذِى
يَذْكُرُ عِنْدِى، قَالَ: فَأَرْضِهِ مِنْهُ، فَقَالَ
أَبُو بَكْرٍ:
(8/243)
كَلا، لا يُعْطِهِ أُصَيْبِغَ مِنْ
قُرَيْشٍ، وَيَدَعَ أَسَدًا مِنْ أُسْدِ اللَّهِ يُقَاتِلُ
عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ: فَأَمَرَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَأَدَّاهُ إِلَىَّ،
فَاشْتَرَيْتُ مِنْهُ خِرَافًا، فَكَانَ أَوَّلَ مَالٍ
تَأَثَّلْتُهُ) . قَالَ عَبْدُاللَّهِ، عَنِ اللَّيْثِ:
فَقَامَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فَأَدَّاهُ إِلَى
مَنْ لَهُ بَيِّنَةٍ، وَقَالَ أَهْلُ الْحِجَازِ:
الْحَاكِمُ لا يَقْضِى بِعِلْمِهِ شَهِدَ بِذَلِكَ فِى
وِلايَتِهِ أَوْ قَبْلَهَا، وَلَوْ أَقَرَّ خَصْمٌ
عِنْدَهُ لآخَرَ بِحَقٍّ فِى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ،
فَإِنَّهُ لا يَقْضِى عَلَيْهِ فِى قَوْلِ بَعْضِهِمْ
حَتَّى يَدْعُوَ بِشَاهِدَيْنِ فَيُحْضِرَهُمَا
إِقْرَارَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِرَاقِ: مَا
سَمِعَ أَوْ رَآهُ فِى مَجْلِسِ الْقَضَاءِ قَضَى بِهِ،
وَمَا كَانَ فِى غَيْرِهِ لَمْ يَقْضِ إِلا بِشَاهِدَيْنِ،
وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ بَلْ يَقْضِى بِهِ؛ لأنَّهُ
مُؤْتَمَنٌ وَإِنَّمَا يُرَادُ مِنَ الشَّهَادَةِ
مَعْرِفَةُ الْحَقِّ، فَعِلْمُهُ أَكْثَرُ مِنَ
الشَّهَادَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَقْضِى بِعِلْمِهِ فِى
الأمْوَالِ، وَلا يَقْضِى فِى غَيْرِهَا. وَقَالَ
الْقَاسِمُ: لا يَنْبَغِى لِلْحَاكِمِ أَنْ يُمْضِىَ
قَضَاءً بِعِلْمِهِ دُونَ عِلْمِ غَيْرِهِ مَعَ أَنَّ
عِلْمَهُ أَكْثَرُ مِنْ شَهَادَةِ غَيْرِهِ، وَلَكِنَّ
فِيهِ تَعَرُّضًا لِتُهَمَةِ نَفْسِهِ عِنْدَ
الْمُسْلِمِينَ، وَإِيقَاعًا لَهُمْ فِى الظُّنُونِ،
وَقَدْ كَرِهَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) الظَّنَّ
فَقَالَ: إِنَّمَا هَذِهِ صَفِيَّةُ. / 30 - فيه: عَلِىِّ
بْنِ حُسَيْنٍ (أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
أَتَتْهُ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَىٍّ، فَلَمَّا رَجَعَتِ
انْطَلَقَ مَعَهَا، فَمَرَّ بِهِ رَجُلانِ مِنَ
الأنْصَارِ، فَدَعَاهُمَا، فَقَالَ: إِنَّمَا هِىَ
صَفِيَّةُ، قَالا: سُبْحَانَ اللَّهِ، قَالَ: إِنَّ
الشَّيْطَانَ يَجْرِى مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ) .
قال المهلب: معنى الترجمة أن الشهادة التى تكون عند القاضى
فى ولايته القضاء أو قبل ذلك لا يجوز له أن يقضى بها وحده،
وله أن
(8/244)
يشهد بها عند غيره من الحكام كما قال مالك،
ولذلك ذكر قول شريح وهو قول عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن
عوف أن شهادته كشهادة رجل من المسلمين، واستشهد على ذلك
بقول عمر أنه كانت عنده شهادة فى آية الرجم أنها من القرآن
فلم يجز له أن يلحقها بنص المصحف المقطوع على صحته بشهادته
وحده، وقد أفصح عمر بالعلة فى ذلك فقال: لولا أن يقال زاد
عمر فى كتاب الله لكتبتها وعرفك أن ذلك من باب قطع
الذرائع؛ لئلا يجد حكام السوء السبيل إلى أن يدعوا العلم
لمن أحبوا له الحكم أنه على حق. وأما ما ذكر من إقرار ماعز
عند النبى (صلى الله عليه وسلم) وحكم النبى (صلى الله عليه
وسلم) بالرجم دون أن يشهد من حضره، وكذلك إعطاؤه السلب
لأبى قتادة بإقرار الرجل الذى كان عنده السلب وحده مع ما
انضاف إلى ذلك من علم النبى (صلى الله عليه وسلم) ألا ترى
قوله فى الحديث: (فعلم النبى (صلى الله عليه وسلم)) يعنى:
علم أن أبا قتادة هو قاتل القتيل فهو حجة فى قضاء القاضى
بعلمه، وهو خلاف ما ذكره البخارى فى أول الباب عن شريح
وعمر وعبد الرحمن ابن عوف، فأورد البخارى فى هذا الباب
اختلاف أهل العلم، وحجة الفريقين من الحديث بإقرار ماعز،
وحديث أبى قتادة حجة لأهل العراق فى أن يقضى القاضى بعلمه
وشهادته. وحديث صفية، وحديث عمر فى آية الرجم حجة لأهل
الحجاز أن القاضى لا يقضى بعلمه خوف التهمة؛ لأن النبى
(صلى الله عليه وسلم) كان أبعد الخلق من التهمة ولم يقنع
بذلك حتى قال: (إنها صفية) فغيره ممن ليس بمعصوم أولى بخوف
التهمة، وإنما فعل ذلك ليسن
(8/245)
لأمته البعد من مواضع التهم، وقد تقدم فى
باب رأى القاضى أن يقضى بعلمه قبل هذا. وقد رد بعض الناس
حجة أهل العراق بحديث ماعز وأبى قتادة فقال: ليس فيهما أن
النبى (صلى الله عليه وسلم) قضى بعلمه؛ لأن ماعزًا إنما
كان إقراره عند النبى (صلى الله عليه وسلم) بحضرة الصحابة؛
إذ معلوم أنه كان لا يقعد (صلى الله عليه وسلم) وحده، وقصة
ماعز مشهورة رواها عن النبى (صلى الله عليه وسلم) أبو
هريرة وابن عباس وجابر وجماعة، فلم يحتج النبى (صلى الله
عليه وسلم) أن يشهدهم على إقراره بالزنا لسماعهم ذلك منه،
وكذلك حديث أبى قتادة، والصحيح فيه رواية عبد الله بن صالح
عن الليث: (فقام النبى (صلى الله عليه وسلم) فأداه إلى من
له بينة) ورواية قتيبة عن الليث: (فعلم النبى (صلى الله
عليه وسلم)) وهم منه، فيشبه أن تتصحف: (فعلم النبى (صلى
الله عليه وسلم)) مع قوله: (فقام) فلم يقض فيه بعلمه، ويدل
على ذلك أن منادى رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إنما
نادى يوم حنين: (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) فشرط
أخذ السلب لمن أقام البينة، وأول القصة لا يخالف آخرها،
وشهادة الرجل الذى كان عنده سلب قتيل أبى قتادة شهادة
قاطعة لأبى قتادة، لو لم تكن فى مغنم، وكان من الحقوق التى
ليس للنبى أن يعطى منها أحدًا إلا باستحقاق البينة،
والمغانم مخالفة لذلك؛ لأن النبى (صلى الله عليه وسلم) له
أن يعطى منها من شاء ويمنع منها من شاء؛ لقوله تعالى: (وما
آتاكم الرسول فخذوه) [الحشر: 7] فلا حجة فيه لأهل العراق.
- باب أَمْرِ الْوَالِى إِذَا وَجَّهَ أَمِيرَيْنِ إِلَى
مَوْضِعٍ أَنْ يَتَطَاوَعَا وَلا يَتَعَاصَيَا
/ 31 - فيه: أَبُو مُوسَى: أَنَّ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) بَعَثَه وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى
الْيَمَنِ، فَقَالَ: يَسِّرَا وَلا تُعَسِّرَا، وَبَشِّرَا
وَلا تُنَفِّرَا، وَتَطَاوَعَا. . . الحديث.
(8/246)
فيه الحض على الاتفاق وترك الاختلاف لما فى
ذلك من ثبات المحبة والألفة، والتعاون على الحق، والتناصر
على إنفاذه وإمضائه، وسيأتى فى كتاب الأدب فى باب قول
النبى (صلى الله عليه وسلم) : (يسرا ولا تعسرا) فهو أولى
به.
- باب إِجَابَةِ الْحَاكِمِ الدَّعْوَةَ وَقَدْ أَجَابَ
عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ عَبْدًا لِلْمُغِيرَةِ بْنِ
شُعْبَةَ
. / 32 - فيه: أَبِى مُوسَى، عَنِ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) قَالَ: (فُكُّوا الْعَانِىَ، وَأَجِيبُوا
الدَّاعِى. وقد تقدم فى كتاب النكاح الاتفاق على وجوب
إجابة دعوة الوليمة واختلافهم فى غيرها من الدعوات. وذكر
ابن حبيب، عن مطرف وابن الماجشون قال: لا ينبغى للقاضى أن
يجيب الدعوة إلا فى الوليمة وحدها لما فى ذلك من الحديث،
ثم إن شاء أكل وإن شاء ترك، والترك أحب إلينا من غير
تحريم، ولا عيب إن أكل إلا أن ذلك أنزه، وإنا نحب لذى
المروءة والهدى أن لا يأتى الوليمة إلا أن يكون لأخ فى
الله، أو الخالص من ذوى قرابته فلا بأس بذلك. قال أشهب:
وكره مالك لأهل الفضل أن يجيبوا كل من دعاهم.
- باب هَدَايَا الْعُمَّالِ
/ 33 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ: اسْتَعْمَلَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) رَجُلا مِنْ بَنِى أَسْدٍ، يُقَالُ لَهُ:
ابْنُ اللَّتْبِيَّةِ، عَلَى صَدَقَةٍ، فَلَمَّا قَدِمَ
قَالَ: هَذَا لَكُمْ، وَهَذَا أُهْدِىَ لِى، فَقَامَ
النَّبِىُّ
(8/247)
(صلى الله عليه وسلم) عَلَى الْمِنْبَرِ،
فَحَمِدَ اللَّهَ وَقَالَ: مَا بَالُ الْعَامِلِ
نَبْعَثُهُ، فَيَأْتِى يَقُولُ: هَذَا لَكَ، وَهَذَا لِى،
فَهَلا جَلَسَ فِى بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ، فَيَنْظُرُ
أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لا. . . وذكر الحديث. قال المؤلف: فيه
أن ما أهدى إلى العامل وخدمة السلطان بسبب سلطانهم أنه
لبيت مال المسلمين، ألا ترى قوله (صلى الله عليه وسلم) :
(هدايا الأمراء غلول) إلا أن يكون الإمام يبيح له قبول
الهدية لنفسه فلذلك تطيب له، كما قال (صلى الله عليه وسلم)
لمعاذ، حين بعثه إلى اليمن: قد علمت الذى دار عليك فى
مالك، وإنى قد طيبت لك الهدية. فقبلها معاذ وأتى بما أهدى
له النبى (صلى الله عليه وسلم) ، فوجده توفى، فاخبر بذلك
أبا بكر فأجاز له أبو بكر ما كان رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) أجاز له، وسيأتى فى كتاب ترك الحيل فى باب احتيال
العامل ليهدى له.
- باب اسْتِقْضَاءِ الْمَوَالِى وَاسْتِعْمَالِهِمْ
/ 34 - فيه: ابْنَ عُمَرَ: كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِى
حُذَيْفَةَ يَؤُمُّ الْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ،
وَأَصْحَابَ النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) فِى مَسْجِدِ
قُبَاءٍ فِيهِمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَأَبُو سَلَمَةَ
وَزَيْدٌ وَعَامِرُ بْنُ رَبِيعَةَ. قال المهلب: أصل هذا
الباب فى كتاب الله: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)
[الحجرات: 13] والتقى وإن كان بحضرته أتقى منه لا يرفع عنه
اسم التقى والكرامة، وقد قدم النبى (صلى الله عليه وسلم)
فى العمل والصلاة والسعاية المفضول مع وجود الفاضل توسعة
منه على الناس ورفقًا بهم.
(8/248)
- باب الْعُرَفَاءِ لِلنَّاسِ
/ 35 - فيه: مَرْوَانَ، وَالْمِسْوَرَ (أَنَّ النبى (صلى
الله عليه وسلم) قَالَ حِينَ أَذِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ
فِى عِتْقِ سَبْىِ هَوَازِنَ: إِنِّى لا أَدْرِى مَنْ
أَذِنَ مِنْكُمْ مِمَّنْ لَمْ يَأْذَنْ، فَارْجِعُوا
حَتَّى يَرْفَعَ إِلَيْنَا عُرَفَاؤُكُمْ أَمْرَكُمْ،
فَرَجَعَ النَّاسُ فَكَلَّمَهُمْ عُرَفَاؤُهُمْ،
فَرَجَعُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
فَأَخْبَرُوهُ، أَنَّ النَّاسَ قَدْ طَيَّبُوا وَأَذِنُوا)
. اتخاذ الإمام للعرفاء والنظار سنة؛ لأن الإمام لا يمكنه
أن يباشر بنفسه جميع الأمور، فلابد من قوم يختارهم لعونه
وكفايته بعض ذلك، ولهذا المعنى جعل الله عباده شعوبًا
وقبائل ليتعارفوا فأراد تعالى ألا يكون الناس خلطًا واحدًا
فيصعب نفاذ أمر السلطان ونهيه؛ لأن الأمر والنهى إذا توجه
إلى الجماعة وقع الاتكال من بعضهم على بعض فوقع التضييع،
وإذا توجه إلى عريف لم يسعه إلا القيام بمن معه.
- باب مَا يُكْرَهُ مِنْ الثَنَاءِ عَلَى السُّلْطَانِ
وَإِذَا خَرَجَ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ
/ 36 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّا
نَدْخُلُ عَلَى سَلاَطِينَنَا، فَنَقُولُ لَهُمْ خِلافَ
مَا نَتَكَلَّمُ إِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِهِمْ، قَالَ:
كُنَّا نَعُدُّهَا ذَلِكَ نِفَاقًا. / 37 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ: قَالَ النبى (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّ
شَرَّ النَّاسِ ذُو الْوَجْهَيْنِ، الَّذِى يَأْتِى
هَؤُلاءِ بِوَجْهٍ وَهَؤُلاءِ بِوَجْهٍ) . قال المؤلف: لا
ينبغى لمؤمن أن يثنى على سلطان أو غيره فى وجهه وهو عنده
مستحق للذم، ولا يقول بحضرته بخلاف ما يقوله إذا خرج
(8/249)
من عنده؛ لأن ذلك نفاق كما قال ابن عمر،
وقال فيه (صلى الله عليه وسلم) : (شر الناس ذو الوجهين)
وقال: إنه لا يكون عند الله وجيهًا؛ لأنه يظهر لأهل الباطل
الرضا عنهم، ويظهر لأهل الحق مثل ذلك ليرضى كل فريق منهم
ويريه أنه منهم وهذه المداهنة المحرمة على المؤمنين. قال
المهلب: فإن قال قائل: إن حديث ابن عمر وحديث أبى هريرة
يعارضان قوله (صلى الله عليه وسلم) للذى استأذن عليه: (بئس
ابن العشيرة) ثم تلقاه بوجه طلق وترحيب. قيل: ليس بينهما
تعارض بحمد الله؛ لأنه لم يقل (صلى الله عليه وسلم) خلاف
ما قاله عنه؛ بل أبقاه على التجريح عند السامع، ثم تفضل
عليه بحسن اللقاء والترحيب لما كان يلزمه (صلى الله عليه
وسلم) من الاستئلاف، وكان يلزمه التعريف لخاصته بأهل
التخليط والتهمة بالنفاق، وقد قيل: إن تلقيه له بالبشر
إنما كان لاتقاء شره، وليكف بذلك أذاه عن المسلمين، فإنما
قصد بالوجهين جميعًا إلى نفع المسلمين بأن عرفهم سوء حاله
وبأن كفاهم ببشره له أذاه وشره. وذو الوجهين بخلاف هذا؛
لأنه يقول الشىء بالحضرة، ويقول ضده فى غير الحضرة، وهذا
تناقض، والذى فعله (صلى الله عليه وسلم) محكم مبين لا
تناقض فيه؛ لأنه لم يقل لابن العشيرة عند لقائه إنه فاضل
ولا صالح بخلاف ما قال فيه فى غير وجهه. ومن هذا الحديث
استجاز الفقهاء التجريح والإعلام بما يظن من
(8/250)
سوء حال الرجل إذا خشى منه على المسلمين،
وسأتقصى ذلك فى كتاب الأدب من باب المداراة مع الناس.
- باب الْقَضَاءِ عَلَى الْغَائِبِ
/ 38 - فيه: عَائِشَةَ: أَنَّ هِنْدًا قَالَتْ لِلنَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) : إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ
شَحِيحٌ، فَأَحْتَاجُ أَنْ آخُذَ مِنْ مَالِهِ، قَالَ
خُذِى مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ) . اختلف
العلماء فى القضاء على الغائب فأجاز ذلك سوار القاضى ومالك
والليث والشافعى وأبو ثور وأبو عبيد. قال الشافعى: يقضى
بذلك فى كل شىء. وروى ابن القاسم عن مالك: أنه يقضى بذلك
فى الدين ولا يقضى به فى أرض ولا عقار، وفى كل شىء كانت له
فيه حجج إلا أن تكون غيبة المدعى عليه طويلة. قال أصبغ:
مثل الغدوة من الأندلس ومكة ومن إفريقية وشبه ذلك، وأرى أن
يحكم عليه إذا كانت غيبة انقطاع. قال مالك: وكذلك إن غاب
بعد ما توجه عليه القضاء قضى عليه. قال ابن حبيب: عرضت قول
ابن القاسم، عن مالك على ابن الماجشون، فأنكر أن يكون مالك
قاله، وقال: أما علماؤنا وحكامنا بالمدينة؛ فالعمل عندهم
على الحكم على الغائب فى جميع الأشياء. وقالت طائفة: لا
يقضى على الغائب. روى ذلك عن شريح، والنخعى، والقاسم، وعمر
ابن عبد العزيز، وابن أبى ليلى. وقال أبو حنيفة: لا يقضى
على الغائب ولا من هرب عن الحكم بعد إقامة
(8/251)
البينة، ولا على من استتر فى البلد، ولكنه
يأتى من عند القاضى من ينادى على بابه ثلاثة أيام فإن لم
يحضر أنفذ عليه القضاء. واحتج الكوفيون بالإجماع أنه لو
كان حاضرًا لم يسمع بينة المدعى حتى يسأل المدعى إليه،
فإذا غاب فأحرى أن لا يسمع. قالوا: ولو جاز الحكم مع غيبته
لم يكن الحضور عند الحاكم مستحقا عليه، وقد ثبت أن الحضور
مستحق عليه؛ لقوله تعالى: (وإذا دعوا إلى الله ورسوله
ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون) [النور: 48] فذمهم على
الإعراض عن الحكم وترك الحضور، فلولا أن ذلك واجب عليهم لم
يلحقهم الذم. قالوا: وروى عن على حين بعثه النبى (صلى الله
عليه وسلم) إلى اليمن قال له: (لا تقض لأحد الخصمين حتى
تسمع من الآخر) وقد أمر النبى (صلى الله عليه وسلم)
بالمساواة بين الخصمين فى المجلس، واللحظ واللفظ. والحكم
على الغائب يمنع من هذا كله. قال ابن القصار: واحتج الذين
أجازوا القضاء على الغائب بحديث هند وأن النبى (صلى الله
عليه وسلم) قضى لها على زوجها بالأخذ من ماله وهو غائب.
فإن قيل: حكم من غير أن قامت البينة بالزوجية وثبوت الحق
عليه. قيل: ليس يكون الحكم بعد إقامة البينة، وهذا معلوم
لم يحتج إلى نقله. وقال الطبرى: لم يسألها النبى (صلى الله
عليه وسلم) البينة لعلمه بصحة دعواها. قال ابن المنذر:
وإنما حكم عليه وهو غائب لما علم ما يجب لها عليه، فحكم
بذلك عليه ولم ينتظر حضوره، ولعله لو حضر أدلى بحجة فلم
يؤخر (صلى الله عليه وسلم) الحكم بذلك وأمضاه عليه وهو
غائب. وقد تناقض الكوفيون فى ذلك فقالوا: لو ادعى رجل عند
حاكم
(8/252)
أن له على غائب حقًا وجاء برجل فقال: إنه
كفيله واعترف له الرجل أنه كفيله إلا أنه قال: لا شىء له
عليه. فقال أبو حنيفة: يحكم على الغائب ويأخذ الحق من
الكفيل، وكذلك إذا قامت امرأة الغائب وطلبت النفقة من مال
زوجها، فإنه يحكم لها عليه بالنفقة عندهم. قال ابن المنذر:
ومن تناقضهم أنهم يقضون للمرأة والوالدين والولد على الذى
عنده المال الغائب إذا أقر به، ولا يقضون للأخ والأخت ولا
لذى رحم محرم، ووجوب نفقات هؤلاء عندهم كوجوب نفقات الآباء
والأبناء والزوجة، ولو ادعى على جماعة غُيّب دعوى مثل أن
يقول: قتلوا عبدى. وحضر منهم واحد حكم عليه وعلى الغُيّب،
فقد أجازوا الحكم على الغائب.
- باب مَنْ قُضِىَ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ فَلا يَأْخُذْهُ
فَإِنَّ قَضَاءَ الْحَاكِمِ لا يُحِلُّ حَرَامًا وَلا
يُحَرِّمُ حَلالا
/ 39 - فيه: أُمَّ سَلَمَةَ أَنَّ النبى (صلى الله عليه
وسلم) سَمِعَ خُصُومَةً بِبَابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ
إِلَيْهِمْ، فَقَالَ: (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ، وَإِنَّهُ
يَأْتِينِى الْخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ
أَبْلَغَ مِنْ بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أَنَّهُ صَادِقٌ،
فَأَقْضِى لَهُ بِذَلِكَ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ
مُسْلِمٍ، فَإِنَّمَا هِىَ قِطْعَةٌ مِنَ النَّارِ
فَلْيَأْخُذْهَا أَوْ لِيَتْرُكْهَا؟ . / 40 - فيه:
عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ عُتْبَةُ بْنُ أَبِى وَقَّاصٍ
عَهِدَ إِلَى أَخِيهِ سَعْدِ ابْنِ أَبِى وَقَّاصٍ أَنَّ
ابْنَ وَلِيدَةِ زَمْعَةَ مِنِّى فَاقْبِضْهُ إِلَيْكَ،
فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدٌ، فَقَالَ:
ابْنُ أَخِى، قَدْ كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، فَقَامَ
إِلَيْهِ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ، فَقَالَ: أَخِى وَابْنُ
وَلِيدَةِ أَبِى، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَتَسَاوَقَا
إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ،
(8/253)
فَقَالَ سَعْدٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
ابْنُ أَخِى، كَانَ عَهِدَ إِلَىَّ فِيهِ، وَقَالَ عَبْدُ
بْنُ زَمْعَةَ: أَخِى وَابْنُ وَلِيدَةِ أَبِى وُلِدَ
عَلَى فِرَاشِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) : هُوَ لَكَ يَا عَبْدُ بْنَ زَمْعَةَ، ثُمَّ قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : الْوَلَدُ
لِلْفِرَاشِ، وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ، ثُمَّ قَالَ
لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ: احْتَجِبِى مِنْهُ، لِمَا
رَأَى مِنْ شَبَهِهِ بِعُتْبَةَ، فَمَا رَآهَا حَتَّى
لَقِىَ اللَّهَ) . أجمع الفقهاء على أن حكم الحاكم لا يخرج
الأمر عما هو عليه فى الباطن، وإنما ينفذ حكمه فى الظاهر
الذى تعبد به، ولا يحل للمقضى له مال المقضى عليه إذا ادعى
عليه ما ليس عنده ووقع الحكم بشاهدى زور، فالعلماء مجمعون
أن ذلك فى الفروج والأموال سواء؛ لأنها كلها حقوق لقوله
تعالى: (ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى
الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس) [البقرة: 188] وهو
قول أبى يوسف. وشذ أبو حنيفة ومحمد فقالا: ما كان من تمليك
مال فهو على حكم الباطن كما قال رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) : (فمن قضيت له بشىء من حق أخيه فلا يأخذه، فإنما
أقطع له قطعة من النار) وما كان من حل عصمة النكاح أو
عقدها غير داخل فى النهى، فلو تعمد شاهدا زور الشهادة على
امرأة أنها قد رضيت بنكاح رجل، وقضى الحاكم عليها بذلك
لزمها النكاح ولم يكن لها الامتناع. ولو تعمد رجلان
الشهادة بالزور على رجل أنه طلق امرأته، فقبل الحاكم
شهادتهما لعدالتهما عنده، وفرق بين الرجل والمرأة واعتدت
المرأة جاز لأحد الشاهدين أن يتزوجها وهو عالم أنه كان
كاذبًا فى شهادته، لأنه لما حلت للأزواج فى الظاهر كان
الشاهد وغيره سواء؛ لأن قضاء القاضى قطع عصمتها وأحدث فى
ذلك التحليل والتحريم فى الظاهر والباطن جميعًا، ولولا ذلك
ما حلت للأزواج.
(8/254)
واحتجا بحكم اللعان وقالا: معلوم أن الزوجة
إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب الذى لو علم
الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا فى
عموم قوله (صلى الله عليه وسلم) : (وقضيت له بشىء من حق
أخيه فلا يأخذه) . واحتج أصحاب مالك والشافعى وغيرهم بحديث
أم سلمة وعائشة فقالوا: قوله: (فمن قضيت له بحق مسلم فإنما
هى قطعة من النار) بيان واضح أن حكمه بما ليس للمحكوم له
لا يجوز له أخذه، وأنه حرام عليه فى الباطن. وقوله (صلى
الله عليه وسلم) : (فمن قضيت له بحق مسلم) يشتمل على كل
حق، فمن فرق بين بعض الحقوق فعليه الدليل، ومثل هذا حكمه
(صلى الله عليه وسلم) فى ابن وليدة زمعة أنه لزمعة من أجل
الفراش الظاهر ولم يلحقه بعتبة، ثم لما رأى شبهًا بعتبة
قال لسودة زوجته: (احتجبى منه) ؛ لجواز أن يكون من زنا.
فلو كان حكمه يقع ظاهرًا وباطنًا لم يأمر (صلى الله عليه
وسلم) زوجته سودة بالاحتجاب منه مع حكمه بأنه أخوها. ومن
طريق الاعتبار أنا قد اتفقا على أنه لو ادعى إنسان على حرة
أنها أمته وأقام شاهدى زور لم تكن أمته فى الباطن من أجل
حكم الحاكم، فكذلك فى الفروج كلها، وكذلك لو ادعى على
ابنته أو أخته أنها زوجته وأقام شاهدى زور، وحكم الحاكم
بالزوجية، فإن أبا حنيفة يقول: لا تكون زوجته. وفرق بين
الحرمة بالنسب وبين زوجة غيره ولا فرق بينهما؛ لأنه لما
كان حكم الحاكم لا يبيح المحرمة بالنسب، فكذلك لا يبيح
المحرمة بنكاح غيره.
(8/255)
- باب الْحُكْمِ فِى الْبِئْرِ وَنَحْوِهَا
/ 41 - فيه: عَبْدُاللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولِ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) : (لا يَحْلِفُ عَلَى يَمِينِ صَبْرٍ
يَقْتَطِعُ مَالا، وَهُوَ فِيهَا فَاجِرٌ، إِلا لَقِىَ
اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ
وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) [آل عمران: 77] الآيَةَ،
فَجَاءَ الأشْعَثُ وَعَبْدُاللَّهِ يُحَدِّثُهُمْ،
فَقَالَ: فِىَّ نَزَلَتْ، وَفِى رَجُلٍ خَاصَمْتُهُ فِى
بِئْر. . . الحديث. وذكر فى كتاب الأيمان والنذور أن البئر
كانت للأشعث فى أرض ابن عمه فادعى له فى البئر. وهذا
الحديث حجة فى أن حكم الحاكم فى الظاهر لا يحل الحرام ولا
يبيح المحظور، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) حذر
أمته عقوبة من اقتطع حق أخيه بيمين فاجرة، أن جزاءه غضب
الله عليه، وقد توعد الله على ذلك بضروب من العقوبة فقال:
(إن الذين يشترون بعهد الله) [آل عمران: 77] وهذا من أشد
وعيد جاء فى القرآن، فدل ذلك على أن من تحيل على أخيه
وتوصل إلى شىء من حقه بباطل، فإنه لا يحل له لشدة الإثم
فيه.
30 - باب الْقَضَاءُ فِى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ
سَوَاءٌ
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ:
الْقَضَاءُ فِى قَلِيلِ الْمَالِ وَكَثِيرِهِ سَوَاءٌ. /
42 - فيه: أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) : (إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ) ، إلى قوله: (فَمَنْ
قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ. . .) الحديث. القضاء فى
قليل المال وكثيره واجب؛ لعموم قوله: (فمن قضيت له بحق
مسلم) والحق يقع على كل شىء من القليل والكثير.
(8/256)
واختلف العلماء فى كم تجب اليمين فى مقاطع
الحقوق؟ وقد تقدم ذلك فى كتاب الشهادات والأيمان فى باب
يحلف المدعى عليه حيثما وجبت عليه اليمين.
31 - باب بَيْعِ الإمَامِ عَلَى النَّاسِ أَمْوَالَهُمْ
وَضِيَاعَهُمْ
وَقَدْ بَاعَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) مُدَبَّرًا
مِنْ نُعَيْمِ بْنِ النَّحَّامِ. / 43 - فيه: جَابِرِ:
بَلَغَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) أَنَّ رَجُلا مِنْ
أَصْحَابِهِ أَعْتَقَ غُلامًا لَهُ عَنْ دُبُرٍ لَمْ
يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرَهُ، فَبَاعَهُ بِثَمَانِ مِائَةِ
دِرْهَمٍ، ثُمَّ أَرْسَلَ بِثَمَنِهِ إِلَيْهِ. قال
المهلب: إنما يبيع الإمام على الناس أموالهم إذا رأى منهم
سفهًا فى أحوالهم؛ فأما من ليس بسفيه، فلا يباع عليه شىء
من ماله إلا فى حق يكون عليه، وهذا البيع الذى وقع فى
المدبر إنما نقضه (صلى الله عليه وسلم) ؛ لأنه لم يكن له
مال غيره، فخشى عليه الموت فى الحجاز دون قوت لقوله تعالى:
(وأنفقوا فى سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة)
[البقرة: 195] ، فلما رآه النبى (صلى الله عليه وسلم) قد
أنفق جميع ذات يده فى المدبر وأنه تعرض للهلكة نقض عليه
فعله، كما قال تعالى ونهى عنه، ولم ينقض على الذى قال له:
(قل: لا خلابة) لأنه لم يفوت على نفسه جميع ماله.
(8/257)
32 - باب مَنْ لَمْ يَكْتَرِثْ بِطَعْنِ
مَنْ لا يَعْلَمُ فِى الإِمَامِ
/ 44 - فيه: ابْنَ عُمَرَ قَالَ: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) بَعْثًا، وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ
أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطُعِنَ فِى إِمَارَتِهِ،
وَقَالَ: إِنْ تَطْعَنُوا فِى إِمَارَتِهِ، فَقَدْ
كُنْتُمْ تَطْعَنُونَ فِى إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ
قَبْلِهِ، وَايْمُ اللَّهِ، إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا
لِلإمَارَةِ، وَإِنْ كَانَ لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ
إِلَىَّ، وَإِنَّ هَذَا لَمِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَىَّ
بَعْدَهُ) . قال المهلب: معنى الترجمة أن الطاعن إذا لم
يعلم حال المطعون عليه، وكذب فى طعنه لا ينبغى أن يكترث له
كبير اكتراث، ألا ترى أن النبى (صلى الله عليه وسلم) قد
خلى هذا الطعن حين أقسم أنه كان خليقًا للإمارة. وفيه: أنه
يتأسى بما قيل فى المرء من الكذب إذا قيل مثل ذلك فيمن كان
قبله من الفضلاء. وفيه: التبكيت للطاعنين؛ لأنهم لما طعنوا
فى إمارة أبيه، ثم ظهر من غنائه وفضله ما ظهر؛ كان ذلك
ردًا لقولهم. فإن قيل: قد طعن على أسامة وأبيه بما ليس
فيهما، ولم يعزل النبى (صلى الله عليه وسلم) واحدًا منهما،
بل بين فضلهما ولم يتهمهما، ولم يعتبر عمر بهذا القول فى
سعد، وعزله حين قرفه أهل الكوفة بما هو منه برئ. فالجواب:
أن عمر لم يعلم من مغيب أمر سعد ما علمه النبى (صلى الله
عليه وسلم) من مغيب أمر زيد وأسامة، وإنما قال عمر لسعد
حين ذكر أن صلاته تشبه صلاة رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) : ذلك الظن بك. ولم يقطع على ذلك كما قطع النبى (صلى
الله عليه وسلم) فى أمر زيد أنه خليق للإمارة، وقال فى
أسامة: إنه
(8/258)
من أحب الناس إليه. ولا يجوز أن يحب النبى
(صلى الله عليه وسلم) إلا من أحبه الله، ومن لا يسوغ فيه
العيب والنقص. ويحتمل أن يكون الطاعنون فى أسامة وأبيه من
استصغر سنه على من قدم عليه من مشيخة الصحابة، وذلك جهل
ممن ظنه، ويحتمل أن يكون الظن من المنافقين الذين كانوا
يطعنون على النبى (صلى الله عليه وسلم) ويقبحون آثاره
وآراءه، وقد وصف الله من اتهم الرسول فى قضاياه أنه غير
مؤمن بقوله: (فلا وربك لا يؤمنون) [النساء: 65] الآية.
33 - باب الألَدِّ الْخَصِمِ وَهُوَ الدَّائِمُ فِى
الْخُصُومَةِ. لُدًّا: عُوجًا
/ 45 - فيه: عَائِشَةَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله
عليه وسلم) : (أَبْغَضُ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الألَدُّ
الْخَصِمُ) . قد تقدم فى كتاب المظالم والغصب هذا. قال
المهلب: لما كان اللدد حاملاً على المطل بالحقوق والتعريج
بها عن وجوهها، واللىّ بها عن مستحقيها وظلم أهلها؛ استحق
فاعل ذلك بغضة الله وأليم عقابه.
34 - باب إِذَا قَضَى الْحَاكِمُ بِجَوْرٍ أَوْ خِلافِ
أَهْلِ الْعِلْمِ فَهُوَ رَدٌّ
/ 46 - فيه: ابْنِ عُمَرَ: بَعَثَ النَّبِىُّ (صلى الله
عليه وسلم) خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِى
جَذِيمَةَ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا:
أَسْلَمْنَا، فَقَالُوا: صَبَأْنَا، صَبَأْنَا، فَجَعَلَ
خَالِدٌ يَقْتُلُ وَيَأْسِرُ،
(8/259)
وَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا
أَسِيرَهُ، فَأَمَرَ كُلَّ رَجُلٍ مِنَّا أَنْ يَقْتُلَ
أَسِيرَهُ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ لا أَقْتُلُ أَسِيرِى،
وَلا يَقْتُلُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِى أَسِيرَهُ،
فَذَكَرْنَا ذَلِكَ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم)
فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّى أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا
صَنَعَ خَالِدُ مَرَّتَيْنِ) . لم يختلف العلماء أن القاضى
إذا قضى بجور أو بخلاف أهل العلم فهو مردود، فإن كان على
وجه الاجتهاد والتأويل كما صنع خالد فإن الإثم ساقط عنه،
والضمان لازم فى ذلك عند عامة أهل العلم، إلا أنهم اختلفوا
فى ضمان ذلك على ما يأتى بيانه. ووجه موافقة الحديث
للترجمة هو قوله: (اللهم إنى أبرأ إليك مما صنع خالد) يدل
تبرؤه (صلى الله عليه وسلم) من قتل خالد للذين قالوا:
صبأنا. أن قتله لهم حكم منه بغير الحق؛ لأن الله يعلم
الألسنة كلها ويقبل الإيمان من جميع أهل الملل بألسنتهم،
لكن عذره النبى (صلى الله عليه وسلم) بالتأويل؛ إذ كل
متأول فلا عقوبة عليه ولا إثم. واختلفوا فى ضمان خطأ
الحاكم، فقالت طائفة: إذا أخطأ الحاكم فى حكمه فى قتل أو
جراح فدية ذلك فى بيت المال. هذا قول الثورى وأبى حنيفة
وأحمد وإسحاق. وقالت طائفة: هو على عاقلة الإمام والحاكم.
وهذا قول الأوزاعى وأبى يوسف ومحمد والشافعى، وليس فيها
جواب لمالك. واختلف أصحابه فيها فقال ابن القاسم كقول
الأوزاعى: الدية على عاقلة الحاكم. وقال فى الشاهدين إذا
شهد فى دين أو عتق أو طلاق أو حد من الحدود: أرى أن يضمنا
الدين، ويكون عليهما قيمة العبد فى العتق وقصاص العقل فى
أموالهم. وهو قول أشهب فى الشاهدين. وقال: الأموال مضمونة
بالخطأ كما
(8/260)
هى بالعمد، وليست كالدماء. وهو قول أصبغ.
وقال ابن الماجشون: ليس على الحاكم شىء من الدية فى ماله
ولا على عاقلته ولا فى بيت مال المسلمين، وكذلك قال فى
الشاهدين إذا رجعا عن شهادتهما وادعيا الغلط أنه لا غرم
عليهما. وهو قول محمد بن مسلمة. وذكر ابن حبيب أن قول ابن
الماجشون هو قول المغيرة وابن دينار وابن أبى حازم وغيرهم.
وحجة من لم يوجب الدية أنه لم يرو فى الحديث أن النبى (صلى
الله عليه وسلم) أغرمه الدية ولا غرمها عنه، وقوله: (إذا
اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) . ولا يجوز أن يؤجر إلا على
ما هو بفعله مطيع، فإذا كان مطيعًا فما صدر عنه من تلف نفس
أو مال فلا ضمان عليه، وهذا اختيار إسماعيل بن إسحاق. وحجة
الذين أوجبوا الضمان والدية الإجماع على أن الأموال مضمونة
بالخطأ كما هو بالعمد، ولا تسقط الدية فى ذلك من أجل أنها
لم يذكر فى الحديث وجوبها، كما لم تسقط فى دية الناقتين عن
حمزة حين جب أسنمتهما وبقر خواصرهما، وإن كان لم يذكر ذلك
فى الحديث. وروى عن عثمان أنه جعل عقل المرأة التى أمر
برجمها على عاقلته، وروى أن امرأة ذكرت عند عمر بالزنا
فبعث إليها ففزعت فألقت ما فى بطنها فاستشار الصحابة فى
ذلك، فقال له عبد الرحمن بن عوف وغيره: إنما أنت مؤدب ولا
شىء عليك. فقال لعلى: ما تقول؟ فقال: إن كان اجتهدوا فقد
أخطئوا، عليك الدية. قال عمر: عزمت عليك
(8/261)
لتقسمنها على قومك. فأوجب على بحضرة
الصحابة الدية وألزمها عمر، وضربها على عاقلته، والمرأة
وإن كانت أسقطت من الفزع فهو من جهته. وليس فى قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (إذا اجتهد الإمام فأخطأ) دليل على
إسقاط الضمان فى ذلك، وإنما فيه سقوط الإثم عن المجتهد
وأنه مأجور إن لم يتعمد الخطأ، ولا يفهم من الحديث زوال
الضمان.
35 - باب الإمَامِ يَأْتِى قَوْمًا فَيُصْلِحُ بَيْنَهُمْ
/ 47 - فيه: سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: (كَانَ قِتَالٌ
بَيْنَ بَنِى عَمْرٍو، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِىَّ (صلى
الله عليه وسلم) فَصَلَّى الظُّهْرَ، ثُمَّ أَتَاهُمْ
يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ، فَلَمَّا حَضَرَتْ صَلاةُ الْعَصْرِ،
فَأَذَّنَ بِلالٌ وَأَقَامَ وَأَمَرَ أَبَا بَكْرٍ،
فَتَقَدَّمَ وَجَاءَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم)
وَأَبُو بَكْرٍ فِى الصَّلاةِ، فَشَقَّ النَّاسَ حَتَّى
قَامَ خَلْفَ أَبِى بَكْرٍ، فَتَقَدَّمَ فِى الصَّفِّ
الَّذِى يَلِيهِ، قَالَ: وَصَفَّحَ الْقَوْمُ، وَكَانَ
أَبُو بَكْرٍ إِذَا دَخَلَ فِى الصَّلاةِ. وذكر الحديث،
إلى قوله: إِذَا رَابَكُمْ أَمْرٌ فَلْيُسَبِّحِ
الرِّجَالُ وَلْيُصَفِّق النِّسَاءُ) . وقد تقدم فى الصلح.
فإن قال قائل: قد جاء فى هذا الحديث أن النبى (صلى الله
عليه وسلم) شق الناس وهم فى الصلاة، وجاء عنه أنه نهى عن
التخطى، وأن يفرق بين اثنين يوم الجمعة، فكيف وجه الجمع
بين هذه الأحاديث؟ قال المهلب: لا اختلاف بين معانيها،
ولكل واحد منها وجه، وذلك أن النبى (صلى الله عليه وسلم)
ليس كغيره فى أمر الصلاة ولا غيرها؛ لأنه ليس لأحد أن
يتقدم علة فيها، وله أن يتقدم لما ينزل عليه من أحكام
الصلاة، أو
(8/262)
ينزل عليه قرآن بإثبات حكم أو نسخه، وليس
لغيره شىء من ذلك وليس حركة من حركاته (صلى الله عليه
وسلم) إلا ولنا فيها منفعة وسنة نقتدى بها، والمكروه من
التخطى هو ما يختص بالأذى والجفاء على الجلوس، فى التخطى
على رقابهم وقلة توقيرهم، وليس كذلك الوقوف فى الصلاة؛
لأنهم ليسوا فى حديث يفاوضون فيه فيقطعه عليهم المار بينهم
كما يقطعه من جلس بين اثنين متحادثين فى علم أو مشاورة،
ويستدل على ذلك بقول مالك: من رعف فى الصلاة أن له أن يشق
الصفوف عرضًا إلى الباب، فإن لم يمكنه خرج كيف تيسر له،
وليس لأحد أن يشق الصفوف فى الدخول والناس جلوس قبل الصلاة
لما فى ذلك من الجفاء على الناس والأذى لهم، ولهم ذلك بعد
تمام الصلاة، لأنهم ممن أباح الله لهم الانتشار بعد
الصلاة؛ فلذلك سقط أذى التخطى عن الخارج؛ لأنهم مختارون
للجلوس بعد الصلاة ومأمورون بالجلوس قبلها، وقد خرج (صلى
الله عليه وسلم) بعد تقضى الصلاة يتخطى رقاب الناس فقال:
(تذكرت ذهيبة كانت عندى فخشيت أن تحبسنى) . وفى قوله (صلى
الله عليه وسلم) : (فليسبح الرجال وليصفق النساء) حجة
للشافعى فى قوله: إن المرأة لا تسبح فى الصلاة؛ لأن صوتها
فتنة يخشى منه على الناس، فالتصفيق سنتها بخلاف الرجال على
ما جاء فى هذا الحديث، وهو نص لا مدفع فيه.
37 - باب يُسْتَحَبُّ لِلْكَاتِبِ أَنْ يَكُونَ أَمِينًا
عَاقِلا
(1) / 48 - فيه: زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: بَعَثَ إِلَىَّ
أَبُو بَكْرٍ لِمَقْتَلِ أَهْلِ الْيَمَامَةِ وَعِنْدَهُ
عُمَرُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّ عُمَرَ أَتَانِى،
فَقَالَ: إِنَّ الْقَتْلَ قَدِ اسْتَحَرَّ يَوْمَ
الْيَمَامَةِ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ، وَإِنِّى أَخْشَى
أَنْ يَسْتَحِرَّ الْقَتْلُ بِقُرَّاءِ الْقُرْآنِ فِى
الْمَوَاطِنِ كُلِّهَا،
(8/263)
فَيَذْهَبَ قُرْآنٌ كَثِيرٌ، وَإِنِّى
أَرَى أَنْ تَأْمُرَ بِجَمْعِ الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ
أَفْعَلُ شَيْئًا لَمْ يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ عُمَرُ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ،
فَلَمْ يَزَلْ عُمَرُ يُرَاجِعُنِى فِى ذَلِكَ حَتَّى
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى لِلَّذِى شَرَحَ لَهُ صَدْرَ
عُمَرَ وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَى عُمَرُ، قَالَ
زَيْدٌ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَإِنَّكَ رَجُلٌ شَابٌّ
عَاقِلٌ لا نَتَّهِمُكَ، قَدْ كُنْتَ تَكْتُبُ الْوَحْىَ
لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَتَبَّعِ
الْقُرْآنَ فَاجْمَعْهُ، قَالَ زَيْدٌ: فَوَاللَّهِ لَوْ
كَلَّفَنِى نَقْلَ جَبَلٍ مِنَ الْجِبَالِ مَا كَانَ
بِأَثْقَلَ عَلَىَّ مِمَّا كَلَّفَنِى مِنْ جَمْعِ
الْقُرْآنِ، قُلْتُ: كَيْفَ تَفْعَلانِ شَيْئًا لَمْ
يَفْعَلْهُ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، قَالَ
أَبُو بَكْرٍ: هُوَ وَاللَّهِ خَيْرٌ، فَلَمْ يَزَلْ
يَحُثُّ مُرَاجَعَتِى حَتَّى شَرَحَ اللَّهُ صَدْرِى
لِلَّذِى شَرَحَ اللَّهُ لَهُ صَدْرَ أَبِى بَكْرٍ
وَعُمَرَ، وَرَأَيْتُ فِى ذَلِكَ الَّذِى رَأَيَا،
فَتَتَبَّعْتُ الْقُرْآنَ، أَجْمَعُهُ مِنَ الْعُسُبِ
وَالرِّقَاعِ وَاللِّخَافِ وَصُدُورِ الرِّجَالِ،
فَوَجَدْتُ فِى آخِرِ سُورَةِ التَّوْبَةِ: (لَقَدْ
جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ) [التوبة: 128] إِلَى
آخِرِهَا مَعَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ، أَوْ أَبِى
خُزَيْمَةَ، فَأَلْحَقْتُهَا فِى سُورَتِهَا، وَكَانَتِ
الصُّحُفُ عِنْدَ أَبِى بَكْرٍ حَيَاتَهُ حَتَّى
تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ عِنْدَ عُمَرَ
حَيَاتَهُ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ، ثُمَّ عِنْدَ
حَفْصَةَ بِنْتِ عُمَرَ. قَالَ عُبَيْدِاللَّهِ البخارى:
اللِّخَافُ يَعْنِى الْخَزَفَ. قال المهلب: هذا يدل أن
العقل أصل الخلال المحمودة كالأمانة والكفاية فى عظيم
الأمور؛ لأنه لم يصف زيدًا بأكثر من العقل، وجعله سببًا
لائتمانه ورفع التهمة عنه؛ لقوله: إنك شاب عاقل ولا نتهمك.
وفيه: دليل على اتخاذ الكاتب للسلاطين والحكام، وأنه ينبغى
أن
(8/264)
يكون الكاتب عاقلاً فطنًا مقبول الشهادة،
وهذا قول كافة الفقهاء. وقال الشافعى: ينبغى لكاتب القاضى
أن يكون عاقلا لئلا يخدع ويحرص على أن يكون فقيهًا لئلا
يؤتى من جهالة، ويكون بعيدًا من الطمع نزهًا. وفيه: أن من
سبقت له معرفة بالأمر فإنه أولى بالولاية، أحق بها ممن لا
سابقة له فى ذلك ولا معرفة. وفيه: جواز مراجعة الكتاب
للسلطان فى الرأى ومشاركته له فيه. قال أبو بكر بن الطيب:
إن قال قائل من الرافضة: كيف جاز لأبى بكر جمع القرآن ولم
يجمعه النبى (صلى الله عليه وسلم) . قيل: يجوز أن يفعل
الفاعل ما لم يفعله النبى (صلى الله عليه وسلم) إذا كان فى
ذلك مصلحة فى وقته واحتياط للدين، وليس فى أدلة الكتاب
والسنة ما يدل على فساد جمع القرآن بين لوحين وتحصينه،
وجمع هممهم على تأمله، وتسهيل الانتساخ منه والرجوع إليه،
والغنى به عن تطلب القرآن من الرقاع والعسب وغير ذلك مما
لا يؤمن عليه الضياع، فوجب أن يكون أبو بكر مصيبًا، وأن
ذلك من أعظم فضائله وأشرف مناقبه حين سبق إلى ما لم يسبق
إليه أحد من الأمة، وبأن اجتهاده فى النصح لله ولرسوله
ولكتابه ودينه وجميع المؤمنين، وأنه فى ذلك متبع لله
ولرسوله لإخباره تعالى فى كتابه أن القرآن كان
(8/265)
مكتوبًا فى الصحف الأولى، وأخبر عن تلاوة
رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من الصحف بقوله تعالى:
(رسول من الله يتلو صحفًا مطهرة فيها كتب قيمة) [البينة:
2، 3] فلم يكن جمع أبى بكر الصديق بين اللوحين مخالفًا لله
ولرسوله؛ لأنه لم يجمع ما لم يكن مجموعًا ولا كتب ما لم
يكن مكتوبًا، وقد أمرهم النبى (صلى الله عليه وسلم)
بكتابته فقال: (لا تكتبوا عنى شيئًا غير القرآن) . فألف
المكتوب وصانه، وأحرزه وجمعه بين لوحين، ولم يغير منه
شيئًا، ولا قدم منه مؤخرًا ولا أخر مقدمًا، ولا وضع حرفًا
ولا آية فى غير موضعها. ودليل آخر، وذلك أن الله ضمن
لرسوله ولسائر الخلق جمع القرآن وحفظه فقال: (إنا نحن
نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) [الحجر: 9] ، وقال: (إن
علينا جمعه وقرآنه) [القيامة: 16] ، وقال: (لا يأتيه
الباطل من بين يديه ولا من خلفه) [فصلت: 42] . فنفى عنه
إبطال الزائغين وإلباس الملحدين، ثم أمر الرسول والأمة
بحفظه والعمل به، فوجب أن يكون كل أمر عاد لتحصينه وأدى
إلى حفظه واجبًا على كافة الأمة فعله، فإذا قام به البعض
فقد أحسن وناب عن باقى الأمة. وقد روى عبد خير، عن على أنه
قال: يرحم الله أبا بكر هو أول من جمع القرآن بين لوحين.
وهذا تعظيم منه لشأنه ومدح له، وعلى أعلم من الرافضة بصواب
هذا الفعل، فيجب ترك قولهم لقوله. ومما يدل على صحة هذه
الرواية عن علىّ ابتغاؤه لأجره وإطلاقه للناس كتب المصاحف
وحضهم عليها وإظهار تحكيم ما ضم الصديق بين لوحين، ولو كان
ذلك عنده منكرًا لما أخرج إلى الدعاء
(8/266)
إلى من يخالفه مصحفًا تنشره الريح، وإنما
كان يخرجه من المصحف والعسب واللخاف على وجه ما كان
مكتوبًا فى زمن النبى (صلى الله عليه وسلم) فدل أنه مصوب
لفعل الصديق والجماعة، وأن ذلك رأيه ودينه، وسياتى فى كتاب
فضائل القرآن فى باب جمع القرآن بقيته.
78 - باب كِتَابِ الْحَاكِمِ إِلَى عُمَّالِهِ وَالْقَاضِى
إِلَى أُمَنَائِهِ
/ 49 - فيه: حديث حويصة ومحيصة: (وأن النبى (صلى الله عليه
وسلم) كتب إلى أهل خيبر: إما أن يدوا صاحبكم وإما أن
يؤذنوا بحرب، فكتبوا، ما قتلنا. .) وذكر الحديث. قد تقدم
هذا الحديث فى باب الشهادة على الخط.
38 - باب هَلْ يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَبْعَثَ رَجُلا
وَحْدَهُ لِلنَّظَرِ فِى الأمُورِ
/ 50 - فيه أَبِى هُرَيْرَةَ وَزَيْدِ بْنِ خَالِدٍ: حديث
العَسِيف، إلى قوله: وَأَمَّا أَنْتَ يَا أُنَيْسُ،
لِرَجُلٍ، فَاغْدُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَارْجُمْهَا
فَغَدَا عَلَيْهَا أُنَيْسٌ فَرَجَمَهَا) . قال المهلب:
هذا الحديث نص فى بعثة الحاكم رجلا واحدًا ينفذ حكمه. وفيه
حجة لمالك فى قوله: إنه يجوز أن ينفذ الرجل الواحد إلى
إعذار من شهد عليه بحق، وأنه يجوز أن يتخذ رجلا ثقة يكشف
له عن حال الشهود فى السر، وكذلك يجوز عندهم قبول الواحد
فيما
(8/267)
طريقه الأخبار ولم يكن طريقه الشهادة، وقد
استدل قوم بهذا الحديث فى أن الإمام إذا بعث رجلا ينفذ
أحكامه أنه ينفذه من غير إعذار إلى المحكوم عليه؛ لأنه لم
ينقل فى الأخبار أن أنيسًا أعذر إلى المرأة المدعى عليها
الزنا، وهذا ليس بشىء؛ لأن الإعذار إنما يصح فيما كان فى
الحكم بالبينات، ولابد فى ذلك من الإعذار إلى المحكوم
عليه، وما كان الحكم فيه من جهة الإقرار فللرسول أن ينفذه
بإقرار المقر، ولا إعذار فيه، وإنما اختلف العلماء هل
يحتاج وكيل الحاكم إلى أن يحضر من يسمع ذلك من المقر أم
لا؟ على حسب اختلافهم فى الحاكم هل يحتاج إلى مثل ذلك أم
لا؟ وأصل الإعذار فى كتاب الله قوله تعالى: (تمتعوا فى
دراكم ثلاثة أيام) [هود: 65] وفى قوله: (إن موعدهم الصبح)
[هود: 81] . وفى هذا الحديث حجة لمن قال: إن القاضى يجوز
أن يحكم على الرجل بإقراره دون بينة تشهد عنده بذلك
الإقرار، وهو قول ابن أبى ليلى وأبى حنيفة وأبى يوسف، وقال
مالك: لا يقضى على الرجل بإقراره حتى تشهد عنده بينة بذلك.
وهو قول محمد بن الحسن، واحتج الطحاوى بقوله: (واغد يا
أنيس على امرأة هذا، فإن اعترفت فارجمها) ولم يقل له: فإن
اعترفت فأشهد عليها حتى يكون حجة لك بعد موتها. قال: وقد
قتل معاذ وأبو موسى مرتدا وهما واليان لرسول الله (صلى
الله عليه وسلم) على اليمن ولم يشهدا عليه. واختلفوا إذا
قال القاضى: قد حكمت على هذا الرجل بالرجم فارجم. فقال أبو
حنيفة وأبو يوسف: إذا قال ذلك، وسعك أن ترجمه
(8/268)
وكذلك سائر الحدود والحقوق. وقال ابن
القاسم على مذهب مالك: إن كان القاضى عدلا وسع المأمور أن
يفعل ما قال القاضى، وهو قول الشافعى. قال ابن القاسم: إن
لم يكن عدلا لم يقبل قوله. وقال محمد بن الحسن: لا يجوز
للقاضى أن يقول: أقر عندى فلان بكذا، لشىء يقضى به عليه من
قتل أو مال، أو عتاق أو طلاق حتى يشهد معه على ذلك رجلان
أو رجل عدل ليس يكون هذا لأحد بعد النبى (صلى الله عليه
وسلم) ، وينبغى أن يكون فى مجلس القاضى أبدًا رجلان عدلان
يسمعان من يقر ويشهدان على ذلك، فينفذ الحكم بشهادتهما أو
شهادة من حضر.
39 - باب تَرْجَمَةِ الْحُكَّامِ وَهَلْ يَجُوزُ
تَرْجُمَانٌ وَاحِدٌ؟
وَقَالَ خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: عَنْ زَيْدِ
بْنِ ثَابِتٍ، أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم)
أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ حَتَّى
كَتَبْتُ لِلنَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) كُتُبَهُ
وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ.
وَقَالَ عُمَرُ، وَعِنْدَهُ عَلِيٌّ وَعَبْدُالرَّحْمَنِ
وَعُثْمَانُ: مَاذَا تَقُولُ هَذِهِ؟ قَالَ
عَبْدُالرَّحْمَنِ ابْنُ حَاطِبٍ: فَقُلْتُ: تُخْبِرُكَ
بِصَاحِبِهَا الَّذِى صَنَعَ بِهَا، وَقَالَ أَبُو
جَمْرَةَ: كُنْتُ أُتَرْجِمُ بَيْنَ ابْنِ عَبَّاسٍ
وَبَيْنَ النَّاسِ، وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لا بُدَّ
لِلْحَاكِمِ مِنْ مُتَرْجِمَيْنِ. / 51 - فيه: ابْنَ
عَبَّاسٍ، أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، أَخْبَرَهُ
أَنَّ هِرَقْلَ أَرْسَلَ إِلَيْهِ
(8/269)
فِى رَكْبٍ مِنْ قُرَيْشٍ، ثُمَّ قَالَ
لِتَرْجُمَانِهِ: قُلْ لَهُمْ إِنِّى سَائِلٌ هَذَا،
فَإِنْ كَذَبَنِى فَكَذِّبُوهُ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ،
فَقَالَ لِلتُّرْجُمَانِ، قُلْ لَهُ إِنْ كَانَ مَا
تَقُولُ حَقًّا، فَسَيَمْلِكُ مَوْضِعَ قَدَمَىَّ
هَاتَيْنِ. اختلف العلماء فيمن تجوز ترجمته على لسان
الأعجمين إذا تحاكموا إلى حكام المسلمين، فروى أشهب عن
مالك أنه يجوز ترجمة رجل واحد ثقة قال: واثنان أحب إلىّ فى
ذلك من الواحد وتقبل ترجمة امرأة واحدة واثنان أحب إليه
ولا تقبل ترجمة عبد ولا مسخوط. وأجاز أبو حنيفة وأبو يوسف
ترجمة رجل واحد وامرأة واحدة، ولا تقبل من عبد كقول مالك.
وقال محمد بن الحسن: لا تقبل إلا من رجلين أو رجل
وامرأتين. وقال الشافعى: لابد من اثنين. وحجة من أجاز
ترجمة الواحد فى ذلك ترجمة زيد بن ثابت وحده للنبى (صلى
الله عليه وسلم) وترجمة أبى جمرة بين يدى ابن عباس، وأن
عبد الله بن سلام ترجم عن التوراة فى آية الرجم للنبى (صلى
الله عليه وسلم) فجاز ذلك، وأيضًا فإن ترجمان هرقل ترجم عن
قريش فجازت ترجمته، ولم يدخل حديث هرقل حجة على جواز
الترجمان المشرك؛ لأن ترجمان هرقل كان على دين قومه، وإنما
أدخله ليدل على أن الترجمان كان يجرى عند الأمم مجرى
المخبر لا مجرى الشهادة، واحتج الكوفيون بأن الترجمة ليس
طريقها الشهادة؛ بدليل أنه لا يحتاج أن تقول أشهد أنه يقول
كذا، بل يكفيه أن يقول: هو يقول كذا وكذا وهو تفسير لما
يقوله، والتفسير لا يحتاج فيه إلى العدد كالمستفتى إذا لم
يفهم الفتيا بلسانه.
(8/270)
ومن شرط رجلين فى ذلك جعله كالشهادة لا
ينقلها إلا شاهدان وكالإقرار عند الحاكم لا يجوز له أن
يحكم به وإن فهمه حتى يشهد به عنده شاهدان، ففيما لا يفهمه
ولا يعلمه أولى. وقال ابن المنذر: لو كان الأمر إلى النظر
كان الواجب أن لا يقبل فى الترجمة أقل من شاهدين قياسًا
على أن ما غاب عن القاضى لا نقبل فيه إلا شاهدين، غير أن
الخبر إذا جاء سقط النظر. وفى ترجمة زيد بن ثابت وحده
للنبى (صلى الله عليه وسلم) حجة لا يجوز خلافها.
40 - باب مُحَاسَبَةِ الإمَامِ عُمَّالَهُ
/ 52 - فيه: أَبُو حُمَيْدٍ أَنَّ النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) اسْتَعْمَلَ ابْنَ اللَّتْبِيَّةِ عَلَى
صَدَقَاتِ بَنِى سُلَيْمٍ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) وَحَاسَبَهُ، قَالَ: هَذَا
الَّذِى لَكُمْ، وَهَذِهِ هَدِيَّةٌ أُهْدِيَتْ لِى. . .
الحديث قد تقدم الكلام فى هذا الباب فى كتاب الزكاة،
وسيأتى فى كتاب ترك الحيل فى باب: احتيال العامل ليهدى
إليه زيادة فى هذا المعنى إن شاء الله تعالى.
(8/271)
41 - باب بِطَانَةِ الإمَامِ وَأَهْلِ
مَشُورَتِهِ الْبِطَانَةُ الدُّخَلاءُ
/ 53 - فيه: أَبُو سَعِيدٍ، قَالَ النَّبِىِّ (صلى الله
عليه وسلم) : (مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِىٍّ وَلا
اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلا كَانَتْ لَهُ
بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ
وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ
اللَّهُ) . قال المؤلف: ينبغى لمن سمع هذا الحديث أن يتأدب
به، ويسأل الله العصمة من بطانة الشر وأهله، ويحرض على
بطانة الخير وأهله. قال سفيان الثورى: ليكن أهل مشورتك أهل
التقوى وأهل الأمانة ومن يخشى الله. قال سفيان: وبلغنى أن
المشورة نصف العقل. وقال الحسن فى قوله تعالى: (وشاورهم فى
الأمر) [آل عمران: 159] قال: وقد علم أنه ليس به إليهم
حاجة ولكن أراد أن يستن به بعده، وسيأتى فى كتاب الاعتصام
عند قوله تعالى: (وشاورهم فى الأمر) [آل عمران: 159] .
42 - باب كَيْفَ يُبَايِعُ الإمَامُ النَّاسَ
/ 54 - فيه: عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ، قَالَ: بَايَعْنَا
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ
وَالطَّاعَةِ فِى الْمَنْشَطِ وَالْمَكْرَهِ، وَأَنْ لا
نُنَازِعَ الأمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ، أَوْ
نَقُولَ، بِالْحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لا نَخَافُ فِى
اللَّهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. / 55 - فيه: أَنَسٍ: (خَرَجَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَدَاةٍ بَارِدَةٍ،
وَالْمُهَاجِرُونَ وَالأنْصَارُ يَحْفِرُونَ الْخَنْدَقَ،
فَقَالَ: اللَّهُمَّ
(8/272)
إِنَّ الْخَيْرَ خَيْرُ الآخِرَهْ
فَاغْفِرْ لِلأنْصَارِ وَالْمُهَاجِرَهْ فَأَجَابُوا:
نَحْنُ الَّذِينَ بَايَعُوا مُحَمَّدَا عَلَى الْجِهَادِ
مَا بَقِينَا أَبَدَا) / 56 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ: (كُنَّا
إِذَا بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ يَقُولُ لَنَا: فِيمَا
اسْتَطَعْتُمْ) . / 57 - وفيه: ابْنُ دِينَارٍ شَهِدْتُ
ابْنَ عُمَرَ حَيْثُ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَى
عَبْدِالْمَلِكِ، قَالَ: كَتَبَ إِنِّى أُقِرُّ
بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ لِعَبْدِاللَّهِ عَبْدِالْمَلِكِ
أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَسُنَّةِ
رَسُولِهِ مَا اسْتَطَعْتُ، وَإِنَّ بَنِىَّ قَدْ
أَقَرُّوا بِمِثْلِ ذَلِكَ. / 58 - وفيه: جَرِيرِ بْنِ
عَبْدِاللَّهِ، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، فَلَقَّنَنِى
فِيمَا اسْتَطَعْتُ، وَالنُّصْحِ لِكُّلِ مُسْلِّم. / 59 -
وفيه: سَلَمَةَ بن الأكوع: قُلْتُ عَلَى أَىِّ شَيْءٍ
بَايَعْتُمُ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ؟ قَالَ: عَلَى الْمَوْتِ. / 60 - وفيه:
الْمِسْوَرَ أَنَّ الرَّهْطَ الَّذِينَ وَلاهُمْ عُمَرُ
اجْتَمَعُوا فَتَشَاوَرُوا، فَقَالَ لَهُمْ
عَبْدُالرَّحْمَنِ: لَسْتُ بِالَّذِى أُنَافِسُكُمْ عَلَى
هَذَا الأمْرِ، وَلَكِنَّكُمْ إِنْ شِئْتُمُ اخْتَرْتُ
لَكُمْ مِنْكُمْ، فَجَعَلُوا ذَلِكَ إِلَى
عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَلَمَّا وَلَّوْا عَبْدَالرَّحْمَنِ
أَمْرَهُمْ، فَمَالَ النَّاسُ عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ
حَتَّى مَا أَرَى أَحَدًا مِنَ النَّاسِ يَتْبَعُ
أُولَئِكَ الرَّهْطَ وَلا يَطَأُ عَقِبَهُ، وَمَالَ
النَّاسُ عَلَى عَبْدِالرَّحْمَنِ يُشَاوِرُونَهُ تِلْكَ
اللَّيَالِى حَتَّى إِذَا كَانَتِ اللَّيْلَةُ الَّتِى
أَصْبَحْنَا مِنْهَا، فَبَايَعْنَا عُثْمَانَ. قَالَ
الْمِسْوَرُ: طَرَقَنِى عَبْدُالرَّحْمَنِ بَعْدَ هَجْعٍ
مِنَ اللَّيْلِ، فَضَرَبَ الْبَابَ حَتَّى
(8/273)
اسْتَيْقَظْتُ، فَقَالَ: أَرَاكَ نَائِمًا،
فَوَاللَّهِ مَا اكْتَحَلْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِكَبِيرِ
نَوْمٍ، انْطَلِقْ، فَادْعُ الزُّبَيْرَ وَسَعْدًا،
فَدَعَوْتُهُمَا لَهُ فَشَاوَرَهُمَا، ثُمَّ دَعَانِى،
فَقَالَ: ادْعُ لِى عَلِيًّا، فَدَعَوْتُهُ، فَنَاجَاهُ
حَتَّى ابْهَارَّ اللَّيْلُ، ثُمَّ قَامَ عَلِيٌّ مِنْ
عِنْدِهِ وَهُوَ عَلَى طَمَعٍ، وَقَدْ كَانَ
عَبْدُالرَّحْمَنِ يَخْشَى مِنْ عَلِىٍّ شَيْئًا، ثُمَّ
قَالَ: ادْعُ لِى عُثْمَانَ، فَدَعَوْتُهُ فَنَاجَاهُ
حَتَّى فَرَّقَ بَيْنَهُمَا الْمُؤَذِّنُ بِالصُّبْحِ،
فَلَمَّا صَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ، وَاجْتَمَعَ
أُولَئِكَ الرَّهْطُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، فَأَرْسَلَ إِلَى
مَنْ كَانَ حَاضِرًا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ،
وَأَرْسَلَ إِلَى أُمَرَاءِ الأجْنَادِ، وَكَانُوا
وَافَوْا تِلْكَ الْحَجَّةَ مَعَ عُمَرَ، فَلَمَّا
اجْتَمَعُوا تَشَهَّدَ عَبْدُالرَّحْمَنِ، ثُمَّ قَالَ:
أَمَّا بَعْدُ، يَا عَلِىُّ إِنِّى قَدْ نَظَرْتُ فِى
أَمْرِ النَّاسِ، فَلَمْ أَرَهُمْ يَعْدِلُونَ
بِعُثْمَانَ، فَلا تَجْعَلَنَّ عَلَى نَفْسِكَ سَبِيلا،
فَقَالَ: أُبَايِعُكَ عَلَى سُنَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَالْخَلِيفَتَيْنِ مِنْ بَعْدِهِ، فَبَايَعَهُ
عَبْدُالرَّحْمَنِ وَبَايَعَهُ النَّاسُ الْمُهَاجِرُونَ
وَالأنْصَارُ وَأُمَرَاءُ الأجْنَادِ وَالْمُسْلِمُونَ.
قال المهلب: اختلفت ألفاظ بيعة النبى (صلى الله عليه وسلم)
فروى: (بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) على السمع
والطاعة) وروى (على الجهاد) وروى (على الموت) وقد بين ابن
عمر وعبد الرحمن بن عوف فى بيعتهما ما يجمع معانى البيعة
كلها، وهو قولهم: (على السمع والطاعة وعلى سنة الله وسنة
رسوله) . وقوله: (فيما استطعتم) لقوله تعالى: (لا يكلف
الله نفسًا إلا وسعها) [البقرة: 286] . وأما قوله: (فى
المنشط والمكره) فهذه بيعة العقبة الثانية، بايعوه على أن
يقاتلوا دونه، ويهلكوا أنفسهم وأموالهم. قال ابن
(8/274)
إسحاق: وكانت بيعة الحرب حين أذن الله
لرسوله فى القتال شروطًا سوى شرطه، حدثنى عبادة بن الوليد
بن عبادة بن الصامت، عن أبيه، عن جده عبادة بن الصامت قال:
(بايعنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بيعة الحرب على
السمع والطاعة فى يسرنا وعسرنا، ومنشطنا ومكرهنا وأثرة
علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا
لا نخاف فى الله لومة لائم) وكان عبادة من الاثنى عشر
الذين بايعوه فى العقبة الأولى بيعة النساء. قال ابن
إسحاق: وكانوا فى العقبة الثانية ثلاثة وسبعين رجلا من
الأوس والخزرج وامرأتين. قال المهلب: قوله: (ولا ننازع
الأمر أهله) فيه دليل قاطع على أن الأنصار ليس لهم فى
الخلافة شىء كما ادعاه الحباب وسعد بن عبادة، ولذلك ما
اشترط عليهم النبى (صلى الله عليه وسلم) هذا أيضًا. وأما
الرهط الذين ولاهم عمر فمنهم: عثمان وعلى والزبير وطلحة
وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبى وقاص. وقال عمر: إن عجل بى
أمر فالشورى فى هؤلاء الستة الذين توفى رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) وهو عنهم راض. قال الطبرى: فلم يكن من أهل
الإسلام أحد يومئذ له منزلتهم فى الدين والهجرة والسابقة
والفضل والعلم وسياسة الأمة. فإن قيل: فقد كان من هؤلاء
الستة من هو أفضل من صاحبه، والمعروف من مذهب عمر أن أحق
الناس بالإمارة أفضلهم دينًا، وأنه لا حق للمفضول فيها مع
الفاضل، فكيف جعلها فى قوم بعضهم أفضل من بعض؟ قيل: إنما
أدخل الذين ذكرت فى الشورى للمشاورة والاجتهاد للنظر
للأمة؛ إذا كان واثقًا منهم بأنهم لا يألون للمسلمين نصحًا
فيما
(8/275)
اجتمعوا عليه، وأن المفضول منهم لا ينزل،
والتقدم على الفاضل، ولا يتكلم فى منزلة غيره أحق بها منه،
وكان مع ذلك عالمًا برضا الأمة بمن رضى به النفر الستة؛ إذ
كان الناس لهم تبعًا وكانوا للناس أئمة وقادة، لا أنه كان
يرى للمفضول منهم حقا مع الفاضل فى الإمامة. وفيه أيضًا:
الدلالة على بطلان ما قاله أهل الإمامة من أنها فى الخيار
وأشخاص قد وقف عليها رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أمته
فلا حاجة بهم إلى التشاور فيمن يقلدوه أمرها، وذلك أن عمر
جعلها شورى فى النفر الستة ليجتهدوا فى أولاهم بها، فلم
ينكر ذلك أحد من النفر الستة، ولا من غيرهم من المهاجرين
والأنصار، ولو كان فيهم ما قد كان وقف عليه رسول الله
بعينه ونصب لأمته كان حريًا أن يقول منهم قائل: ما وجه
التشاور فى أمر قد كفيناه ببيان الله لنا على لسان رسوله؟
وفى تسليم جميعهم له ما فعله ورضاهم به أبين البيان، وأوضح
البرهان على أن القوم لم يكن عندهم من رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) فى شخص بعينه عهد، وأن الذى كان عندهم فى ذلك
من عهده إليهم كان وقفًا على موصوف بصفات، يحتاج إلى
إدراكها بالاجتهاد والاستنباط، فرضوا وسلموا له ما فعل من
رده الأمر فى ذلك إلى النفر، وكانوا يومئذ أهل الأمانة على
الدين وأهله. وفيه الدلالة الواضحة على أن الجماعة الموثوق
بأديانهم ونصحتهم للإسلام وأهله، إذا عقدوا عقد الخلافة
لبعض من هو من أهلها على تشاور منهم واجتهاد؛ فليس لغيرهم
من المسلمين حل ذلك العقد ممن لم يحضر عقدهم وتشاورهم إذ
كانوا العاقدين قد أصابوا الحق فيه، وذلك أن عمر أفرد فى
النظر للأمر النفر الستة ولم يجعل لغيرهم فيما فعلوا
اعتراضًا، وسلم ذلك من فعله جميعهم، ولم ينكره منهم منكر،
ولو كان العقد فى ذلك لا يصح إلا باجتماع الأمة، لكان
(8/276)
خليقًا أن يقول له منهم قائل: إن الحق
الواجب بالعقد الذى خصصت بالقيام به هؤلاء الستة لم يخصهم
به دون سائر الأمة، بل الجميع منهم فى ذلك شركاء، ولكن
القوم لما كان الأمر عندهم على ما وصفت سلموا وانقادوا،
ولم يعترض منهم فيه معترض، ولا أنكره منهم منكر. وقوله:
بعد هجع من الليل. قال صاحب العين: الهجوع: النوم بالليل
خاصة. يقال: هجع يهجع. وقوم هجع وهجوع. وقد تقدم تفسير:
ابهار فى كتاب الصلاة.
43 - باب مَنْ بَايَعَ مَرَّتَيْنِ
/ 61 - فيه: سَلَمَةَ بن الأكوع: (بَايَعْنَا النَّبِىَّ
(صلى الله عليه وسلم) تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَقَالَ لِى:
يَا سَلَمَةُ، أَلا تُبَايِعُ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَدْ بَايَعْتُ فِى الأوَّلِ، قَالَ: وَفِى
الثَّانِي) . قال المهلب: أراد رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) يؤكد بيعته لشجاعته وغنائه فى الإسلام وشهرته
بالثبات، فأراد أن يجعل له مزية فى تكرير المبايعة من أجل
شجاعته وقد تقدم هذا فى كتاب الجهاد.
44 - باب بَيْعَةِ الأعْرَابِ
/ 62 - فيه: جَابِرِ أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الإسْلامِ،
فَأَصَابَهُ. . الحديث.
(8/277)
قال المؤلف: البيعة على الإسلام كانت فرضًا
على جميع الناس أعرابًا كانوا أو غيرهم.
45 - باب بَيْعَةِ الصَّغِيرِ
/ 63 - فيه: أَبُو عَقِيلٍ زُهْرَةُ بْنُ مَعْبَدٍ، عَنْ
جَدِّهِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَ قَدْ
أَدْرَكَ النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ، وَذَهَبَتْ
بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى النَّبى (صلى
الله عليه وسلم) ، فَقَالَتْ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ
بَايِعْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) :
هُوَ صَغِيرٌ، فَمَسَحَ رَأْسَهُ، وَدَعَا لَهُ) . قال
المهلب: البيعة لا تلزم إلا من تلزمه عقود الإسلام كلها من
البالغين. وقال بعض العلماء: إنها تلزم الأصاغر بمبايعة
آبائهم عليهم.
46 - باب مَنْ بَايَعَ واسْتَقَالَ الْبَيْعَةَ
/ 64 - فيه: جَابِرِ: أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ
النَّبىَّ (صلى الله عليه وسلم) عَلَى الإسْلامِ،
فَأَصَابَ الأعْرَابِىَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى
النَّبى (صلى الله عليه وسلم) ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، أَقِلْنِى بَيْعَتِى فَأَبَى، رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) قَالَهَا ثَلاَثًا، فَخَرَجَ
الأعْرَابِىُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) : (إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِى
خَبَثَهَا، وَتَنْصَعُ طِيبُهَا) . وترجم له باب من نكث
بيعته وقوله تعالى: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله
يد الله فوق أيديهم) [الفتح: 10] الآية. قال المؤلف: إنما
لم يقله النبى (صلى الله عليه وسلم) لأن الهجرة كانت
فرضًا، وكان ارتدادهم عنها من أكبر الكبائر، ولذلك دعا
(8/278)
لهم النبى (صلى الله عليه وسلم) فقال:
(اللهم أمض لأصحابى هجرتهم، ولا تردهم على أعقابهم) . وفى
هذا من الفقه أنه من عقد على نفسه أو على غيره عقدًا لله
فلا يجوز له حله؛ لأن فى حله خروجًا إلى معصية الله، وقد
أمر الله بوفاء العقود، وقد تقدم فى آخر كتاب الحج.
47 - باب مَنْ بَايَعَ رَجُلا لا يُبَايِعُهُ إِلا
لِلدُّنْيَا
/ 65 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ثَلاثَةٌ لا
يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا
يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: رَجُلٌ عَلَى
فَضْلِ مَاءٍ بِالطَّرِيقِ يَمْنَعُ مِنْهُ ابْنَ
السَّبِيلِ، وَرَجُلٌ بَايَعَ إِمَامًا لا يُبَايِعُهُ
إِلا لِدُنْيَاهُ، فَإِنْ أَعْطَاهُ مَا يُرِيدُ وَفَى
لَهُ، وَإِلا لَمْ يَفِ لَهُ وَرَجُلٌ يُبَايِعُ رَجُلا
بِسِلْعَةٍ بَعْدَ الْعَصْرِ، فَحَلَفَ بِاللَّهِ لَقَدْ
أُعْطِىَ بِهَا كَذَا وَكَذَا، فَصَدَّقَهُ فَأَخَذَهَا
وَلَمْ يُعْطَ بِهَا) . فى هذا الحديث وعيد شديد فى الخروج
على الأئمة ونكث بيعتهم لأمر الله بالوفاء بالعقود؛ إذ فى
ترك الخروج عليهم تحصين الفروج والأموال وحقن الدماء، وفى
القيام عليهم تفرق الكلمة وتشتيت الألفة. وفيه: فساد
الأعمال إذا لم يرد بها وجه الله وأريد بها عرض الدنيا،
وهذا فى معنى قوله (صلى الله عليه وسلم) : (الأعمال
بالنيات) . وفيه: عقوبة من منع ابن السبيل فضل ماء عنده،
ويدخل فى معنى الحديث منع غير الماء وكل ما بالناس الحاجة
إليه. وفيه: تحريم مال المسلمين إلا بالحق.
(8/279)
وفيه: عقوبة الحلف بالله كذبًا، وإنما خص
به العصر؛ لأنه الوقت الذى ترتفع فيه ملائكة النهار بأعمال
العباد.
48 - باب بَيْعَةِ النِّسَاءِ
/ 66 - وفيه: عُبَادَةَ، قَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) وَنَحْنُ فِى مَجْلِسٍ: تُبَايِعُونِى
عَلَى أَنْ لا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلا
تَسْرِقُوا، وَلا تَزْنُوا، وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ،
وَلا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلا تَعْصُوا فِى مَعْرُوفٍ،
فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ
أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا، فَعُوقِبَ فِى الدُّنْيَا،
فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ
شَيْئًا، فَسَتَرَهُ اللَّهُ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ
إِنْ شَاءَ عَاقَبَهُ، وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ،
فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ) . / 67 - وفيه: عَائِشَةَ،
كَانَ النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) يُبَايِعُ
النِّسَاءَ بِالْكَلامِ بِهَذِهِ الآيَة: (أن لا
يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا) [الممتحنة: 12] قَالَتْ:
وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
يَدَ امْرَأَةٍ، إِلا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا. / 68 - وفيه:
أُمِّ عَطِيَّةَ، بَايَعْنَا النَّبِىَّ (صلى الله عليه
وسلم) فَقَرَأَ عَلَيْنَا: (أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ
شَيْئًا وَلاَ يَسْرِقنَ) [الممتحنة: 12] ، وَنَهَانَا
عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ مِنَّا يَدَهَا،
فَقَالَتْ: فُلانَةُ أَسْعَدَتْنِى، وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ
أَجْزِيَهَا، فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَذَهَبَتْ ثُمَّ
رَجَعَتْ فَمَا وَفَتِ امْرَأَةٌ إِلا أُمُّ سُلَيْمٍ. . .
الحديث. قال المؤلف: كل ما خاطب الله بن الرجال من شرائع
الإسلام فقد دخل فيه النساء، ولزمهن من ذلك ما لزم الرجال
إلا ما خص به الرجال مما لا قدرة للنساء عليه؛ من القيام
بفرض الحرب وشبهه مما قد بين
(8/280)
سقوطه عن النساء. وهذه البيعة فى هذه
الأحاديث كانت بيعة العقبة الأولى بمكة قبل أن يفرض عليهم
الحرب، ذكر ذلك ابن إسحاق وأهل السير قالوا: كانوا اثنى
عشر رجلا.
49 - باب الاسْتِخْلافِ
/ 69 - فيه: عَائِشَةُ قَالَتَ وَارَأْسَاهْ، فَقَالَ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (ذَاكِ لَوْ كَانَ
وَأَنَا حَىٌّ، فَأَسْتَغْفِرُ لَكِ، وَأَدْعُو لَكِ
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: وَا ثُكْلاَهْ، وَاللَّهِ إِنِّى
لأظُنُّكَ تُحِبُّ مَوْتِى، وَلَوْ كَانَ ذَاكَ لَظَلَلْتَ
آخِرَ يَوْمِكَ مُعَرِّسًا بِبَعْضِ أَزْوَاجِكَ، فَقَالَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) : بَلْ أَنَا،
وَارَأْسَاهْ، لَقَدْ هَمَمْتُ، أَوْ أَرَدْتُ، أَنْ
أُرْسِلَ إِلَى أَبِى بَكْرٍ وَابْنِهِ فَأَعْهَدَ أَنْ
يَقُولَ الْقَائِلُونَ، أَوْ يَتَمَنَّى الْمُتَمَنُّونَ،
ثُمَّ قُلْتُ: يَأْبَى اللَّهُ، وَيَدْفَعُ
الْمُؤْمِنُونَ، أَوْ يَدْفَعُ اللَّهُ وَيَأْبَى
الْمُؤْمِنُون) . / 70 - وفيه: ابْنِ عُمَرَ قلت لِعُمَرَ:
أَلا تَسْتَخْلِفُ؟ قَالَ: (إِنْ أَسْتَخْلِفْ فَقَدِ
اسْتَخْلَفَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى أَبُو بَكْرٍ، وَإِنْ
أَتْرُكْ فَقَدْ تَرَكَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّى رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ،
فَقَالَ: رَاغِبٌ رَاهِبٌ، وَدِدْتُ أَنِّى نَجَوْتُ
مِنْهَا كَفَافًا لا لِى وَلا عَلَىَّ لا أَتَحَمَّلُهَا
حَيًّا وَلا مَيِّتًا) . / 71 - وفيه: أَنَسُ، أَنَّهُ
سَمِعَ خُطْبَةَ عُمَرَ الآخِرَةَ حِينَ جَلَسَ عَلَى
الْمِنْبَرِ وَذَلِكَ الْغَدَ مِنْ يَوْمٍ تُوُفِّىَ
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) ، فَتَشَهَّدَ، وَأَبُو
بَكْرٍ صَامِتٌ لا يَتَكَلَّمُ، قَالَ: كُنْتُ أَرْجُو
أَنْ يَعِيشَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ،
حَتَّى يَدْبُرَنَا يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكُونَ
آخِرَهُمْ، فَإِنْ يَكُ مُحَمَّدٌ (صلى الله عليه وسلم)
قَدْ مَاتَ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ بَيْنَ
أَظْهُرِكُمْ نُورًا تَهْتَدُونَ بِهِ هَدَى اللَّهُ
مُحَمَّدًا (صلى الله عليه وسلم) ، وَإِنَّ أَبَا بَكْرٍ
صَاحِبُ
(8/281)
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
ثَانِىَ اثْنَيْنِ، فَإِنَّهُ أَوْلَى الْمُسْلِمِينَ
بِأُمُورِكُمْ، فَقُومُوا، فَبَايِعُوهُ، وَكَانَتْ
طَائِفَةٌ مِنْهُمْ قَدْ بَايَعُوهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِى
سَقِيفَةِ بَنِى سَاعِدَةَ، وَكَانَتْ بَيْعَةُ
الْعَامَّةِ عَلَى الْمِنْبَرِ. قَالَ الزُّهْرِىُّ، عَنْ
أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ لأبِى
بَكْرٍ يَوْمَئِذٍ: اصْعَدِ الْمِنْبَرَ، فَلَمْ يَزَلْ
بِهِ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَبَايَعَهُ النَّاسُ
عَامَّةً. / 72 - فيه: جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، أَتَتِ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) امْرَأَةٌ فَكَلَّمَتْهُ
فِى شَيْءٍ، فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ،
فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ
وَلَمْ أَجِدْكَ كَأَنَّهَا تُرِيدُ الْمَوْتَ، قَالَ:
إِنْ لَمْ تَجِدِينِى، فَأْتِى أَبَا بَكْرٍ) . / 73 -
وفيه: طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ، أَنَّ أَبِا بَكْرٍ، قَالَ:
لِوَفْدِ بُزَاخَةَ: تَتْبَعُونَ أَذْنَابَ الإبِلِ حَتَّى
يُرِىَ اللَّهُ خَلِيفَةَ نَبِيِّهِ (صلى الله عليه وسلم)
وَالْمُهَاجِرِينَ أَمْرًا يَعْذِرُونَكُمْ بِهِ. قال
المهلب: فيه دليل قاطع فى خلافة أبى بكر وهو قوله: (لقد
هممت أن أرسل إلى أبا بكر وابنه) يعنى: فأعهد إلى أبى بكر
(ثم قلت: يأبى الله) أى: يأبى الله غير أبى بكر، ويدفع
المؤمنون غير أبى بكر بحضرته. وشك المحدث بأى اللفظين بدأ
النبى (صلى الله عليه وسلم) ولم يشك فى صحة المعنى، وهذا
مما وعد النبى (صلى الله عليه وسلم) به، فكان كما وعد،
وذلك من أعلام نبوته وقد روى مسلم هذا الحديث فى كتابه
فقال فيه: (يأبى الله ويدفع المؤمنون إلا أبا بكر) . فإن
قال قائل: فإذا ثبت أن النبى (صلى الله عليه وسلم) لم
يستخلف أحدًا، فما معنى ما رواه إسماعيل بن أبى خالد، عن
قيس بن أبى حازم قال: رأيت عمر وبيده عسيب وهو يجلس الناس
ويقول: اسمعوا لخليفة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) .
وهذا خلاف لحديث ابن عمر. فالجواب: أنه ليس فى أحد
الحديثين خلاف للآخر، ومعنى قول
(8/282)
عمر: (إن أترك فقد ترك رسول الله (صلى الله
عليه وسلم)) يعنى ترك التصريح والإعلان بتعيين شخص ما وعقد
الأمر له، وأما قول عمر: (اسمعوا لخليفة رسول الله (صلى
الله عليه وسلم)) فمعناه أن رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) استخلف عليهم أبا بكر بالأدلة التى نصبها لأمته أنه
الخليفة من بعده، فكان أبو بكر خليفة رسول الله (صلى الله
عليه وسلم) ؛ لقيام الدليل على استخلافه، ولما كان قد
أعلمه الله أنه لا يكون غيره ولذلك قال: (يأبى الله ويدفع
المؤمنون) ومن أبين الدليل فى استخلاف أبى بكر قول المرأة
للنبى: إن لم أجدك حيا إلى من الملجأ بالحكم؟ فقال (صلى
الله عليه وسلم) : (ائت أبا بكر) ولم يكن لبشر من علم
الغيب ما كان للنبى (صلى الله عليه وسلم) فى ذلك، فرأى أن
الاستخلاف أضبط لأمر المسلمين، وإن لم يوقف الأمر على رجل
بعينه؛ لكن جعله لمعينين لا يخرج عنهم إلى سواهم فكان
نوعًا من أنواع الاستخلاف والعقد، وإنما فعل هذا عمر وتوسط
حالة بين حالتين خشية الفتنة بعده، كما خشيت بعد النبى
(صلى الله عليه وسلم) وقت قول الأنصار ما قالوا، فلذلك جعل
عمر الأمر معقودًا موقوفًا على الستة؛ لئلا يترك الاقتداء
بالنبى (صلى الله عليه وسلم) فى ترك الأمر إلى الشورى مع
ما قام من الدليل على فضل أبى بكر وأخذ من فعل أبى بكر
طرفًا آخر وهو العقد لأحد الستة ليجمع لنفسه فضل السنتين.
وأما قول عمر حين أثنوا عليه: (راغب وراهب، وودت أنى نجوت
منها كفافًا) فيحتمل معنيين: أحدهما: راغب فى ثنائه فى حسن
رأيى وتقريبى له، وراهب من إظهار ما بنفسه من كراهية.
والثانى قوله: راغب يعنى: أن الناس فى هذا الأمر راغب فيه،
يعنى فى الخلافة، وراهب منها، فإن وليت الراغب فيها خشيت
ألا يعان عليها
(8/283)
للحديث، وإن وليت الراهب منها خشيت أن لا
يقوم بها. وفى هذا كله دليل على جواز عقد الخلافة من
الإمام لغيره بعده، وأن أمره فى ذلك على عامة المسلمين
جائز. قال بعض الشافعية: فإن قال قائل: لم جاز للإمام
تولية العهد، وإنما يملك النظر فى المسلمين حياته وتزول
عنه بوفاته، وتولية العهد استخلاف بعد وفاته فى وقت زوال
أمره وارتفاع نظره، وهو لا يملك فى ذلك الوقت ما يجوز عليه
توليه أو تنفذ فيه وصيته. قيل: إنما جاز ذلك لأمور منها
إجماع الأمة من الصحابة ومن بعدهم على استخلاف أبى بكر عمر
على الأمة بعده، وأمضت الصحابة ذلك منه على أنفسها، وجعل
عمر الأمر بعده فى ستة، فألزم ذلك من حكمه، وعمل فيه على
رأيه وعقده، ألا ترى رضا علىّ بالدخول فى الشورى مع الخمسة
وجوابه للعباس بن عبد المطلب حين عاتبه على ذلك بأن قال:
الشورى كان أمرًا عظيمًا من أمور المسلمين، فلم أر أن أخرج
نفسى منه. ولو كان باطلاً عنده لوجب عليه أن يخرج نفسه منه
ولما جاز له الدخول معهم فيه. ومنها أن المسلمين إنما
يقيمون الإمام إذا لم يكن بهم لحاجتهم إليه وضرورتهم إلى
إقامته ليكفيهم مئونة النظر فى مصالحهم، فلما لم يكن بد
لهم من رأيه وأمره فيما يتعلق بمصالحهم رأى ولا نظر، فكذلك
فى إقامة الإمام بعده؛ لأنه من الأمور المتعلقة بكافتهم
وصلاح عامتهم، وقطع التنازع والاختلاف بينهم، ولمثل هذا
المعنى أرادوا، فكان رأيه فى ذلك ماضيًا عليهم، وجرى مجرى
الأب فى توليته على ابنه الصغير بعد وفاته عند عدم الأب.
(8/284)
وأما قول عمر فى خطبته: (كنت أرجو أن يعيش
النبى (صلى الله عليه وسلم) حتى يدبرنا) يعنى: حتى يكون
آخرنا. فإنما قال ذلك اعتذارًا مما كان خطبه قبل ذلك يوم
وفاته (صلى الله عليه وسلم) حين قال: إن محمدًا لم يمت
وإنه سيرجع ويقطع أيدى رجال وأرجلهم حتى قام أبو بكر فقال:
من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله
فإن الله حى لم يمت، وتلا: (وما محمد إلا رسول قد خلت من
قبله الرسل) [آل عمران: 144] الآية. وقد ذكر ابن إسحاق، عن
ابن عباس، عن عمر أنه قال: إنما حملنى على مقالتى حين مات
النبى (صلى الله عليه وسلم) قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم
أمة وسطًا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم
شهيدًا) [البقرة: 143] فوالله إن كنت لأظن أن رسول الله
(صلى الله عليه وسلم) سيبقى فى أمته حتى يشهد عليها بآخر
أعمالها. وبان بهذه الرزية الشنيعة والمصيبة الجليلة
النازلة بالأمة من موت نبيها من ثبات نفس الصديق، ووفور
عقله ومكانته من الإسلام ما لا مطمع فيه لأحد غيره. وقال
سعيد بن زيد: بايعوا الصديق يوم مات النبى (صلى الله عليه
وسلم) كرهوا بقاء بعض يوم وليسوا فى جماعة. ذكر ابن إسحاق،
عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير أن الناس بكوا على رسول
الله (صلى الله عليه وسلم) حين توفاه وقالوا: لوددنا أنا
متنا قبله، إنا نخشى أن نفتن بعده. فقال معن بن عدى
العجلانى: والله ما أحب أنى مت قبله حتى أصدقه ميتًا كما
صدقته حيا. فقتل يوم اليمامة فى خلافة أبى بكر. وقوله:
يدبرنا. قال الخليل: دبرت الشىء دبرًا: أتبعته، وعلى هذا
قرأ من قرأ: (والليل إذا دبر) يعنى إذا تبع النهار. ودبرنى
(8/285)
فلان: خلفنى. وأما وفد بزاخة فإنهم ارتدوا
ثم تابوا. فأوفدوا رسلهم إلى أبى بكر يعتذرون إليه فأحب
أبو بكر أن لا يقضى فيهم إلا بعد المشاورة فى أمرهم فقال
لهم: ارجعوا واتبعوا أذناب الإبل فى الصحارى حتى يرى
المهاجرون وخليفة النبى (صلى الله عليه وسلم) ما يريهم
الله فى مشاورتهم أمرًا يعذرونكم فيه، وذكر يعقوب بن محمد
الزهرى قال: حدثنى إبراهيم بن سعد، عن سفيان الثورى، عن
قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قدم وفد أهل بزاخة وهم
من طئ على أبى بكر يسألونه الصلح فقال لهم أبو بكر:
اختاروا إما الحرب المجلية وإما السلم المخزية. فقالوا: قد
عرفنا الحرب المجلية فما السلم المخزية؟ قال: تنزع منكم
الكراع والحلقة وتودون قتلانا، وقتلاكم فى النار ونغنم ما
أصبنا منكم، وتؤدون إلينا ما أصبتم منا، وتتركون أقوامًا
تتبعون أذناب الإبل حتى يرى الله خليفة نبيه والمهاجرين
أمرًا يعذرونكم به، فخطب أبو بكر الناس فذكر أنه قال
وقالوا. فقال عمر: قد رأيت رأيًا وسنشير عليك، أما ما ذكرت
من أن تنزع منهم الكراع والحلقة فنعم ما رأيت، وأما ما
رأيت من أن يودوا قتلانا وقتلاهم فى النار؛ فإن قتلانا
قتلت على أمر الله فليس لها ديات. فتتابع الناس على قول
عمر.
(8/286)
50 - باب
/ 74 - فيه: جَابِرَ بْنَ سَمُرَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ
النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (يَكُونُ اثْنَا
عَشَرَ أَمِيرًا، فَقَالَ كَلِمَةً لَمْ أَسْمَعْهَا،
فَقَالَ أَبِى: إِنَّهُ قَالَ: كُلُّهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ) .
قال المهلب: لم ألق أحدًا يقطع فى هذا الحديث بمعنى فقوم
يقولون: يكونون اثنى عشر أميرًا بعد الخلافة العلوية
مرضيين. وقوم يقولون: يكونون متوالين إمارتهم. وقوم
يقولون: يكونون فى زمن واحد كلهم من قريش يدعى الإمارة،
فالذى يغلب عليه الظن أنه إنما أراد (صلى الله عليه وسلم)
يخبر بأعاجيب تكون بعده من الفتن حتى يفترق الناس فى وقت
واحد على اثنى عشر أميرًا، وما زاد على الاثنى عشر فهو
زيادة فى العجب، كأنه أنذر بشرط من الشروط وبعضه يقع، ولو
أراد غير هذا لقال: يكون اثنا عشر أميرًا يفعلون كذا
ويصنعون كذا، فلما أعراهم من الخبر علمنا أنه أراد يكونون
فى زمن واحد، والله أعلم.
51 - باب إِخْرَاجِ الْخُصُومِ وَأَهْلِ الرِّيَبِ مِنَ
الْبُيُوتِ بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ وَقَدْ أَخْرَجَ عُمَرُ
أُخْتَ أَبِى بَكْرٍ حِينَ نَاحَتْ.
/ 75 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ (صلى الله
عليه وسلم) : (وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ، لَقَدْ
هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ يُحْتَطَبُ، ثُمَّ آمُرَ
بِالصَّلاةِ، فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلا،
فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ
فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِى
(8/287)
نَفْسِى بِيَدِهِ، لَوْ يَعْلَمُ
أَحَدُكُمْ أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا أَوْ
مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ لَشَهِدَ الْعِشَاءَ) . قال
أبو عبد الله: مرماة: ما بين ظلف الشاة من اللحم مثل
مِنساة ومِيضاة الميم مخفوضة. قال المهلب: إخراج أهل الريب
والمعاصى من دورهم بعد المعرفة بهم واجب على الإمام من أجل
تأذى من جاورهم، ومن أجل مجاهرتهم بالعصيان، وإذا لم
يعرفوا بأعيانهم فلا يلزم البحث عن أمرهم؛ لأنه من التجسس
الذى نهى الله عنه، وليس للسلطان أن يرفع ستر اختفائهم حتى
يعلنوا إعلانًا يعرفون به لقوله (صلى الله عليه وسلم) عن
الله تعالى: (كل عبادى معافون إلا المجاهرين) فحينئذ يجب
على السلطان تعييره والنكال به، كما صنع عمر بأخت أبى بكر
حين ناحت. وقال غيره: وليس إخراج أهل المعاصى بواجب، فمن
ثبت عليه ما يوجب الحد أقيم عليه، وإنما أخرج عمر أخت أبى
بكر من أجل أنه نهاها عن النياحة ولم تنته، فأبعدها عن
نفسه لا أنه أبعدها عن البيت أبدًا؛ لأنها رجعت بعد ذلك
إلى بيتها. وقد روى أبو زيد، عن ابن القاسم فى رجل فاسد
يأوى إليه أهل الفسوق والشر ما يصنع به؟ قال: يخرج من
منزله، وتحارج عليه الدار. قلت: ألا تباع عليه؟ قال: لا،
لعله يتوب، فيرجع إلى منزله. قال ابن القاسم: ويتقدم إليه
مرة أو مرتين أو ثلاثًا فإن لم ينته أخرج وأكريت عليه. وقد
مر هذا فى آخر كتاب الجهاد فى باب أمر النبى (صلى الله
عليه وسلم) بإخراج اليهود من جزيرة العرب.
(8/288)
52 - باب هَلْ لِلإمَامِ أَنْ يَمْنَعَ
الْمُجْرِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعْصِيَةِ مِنَ الْكَلامِ
مَعَهُ وَالزِّيَارَةِ وَنَحْوِهِ
/ 76 - فيه: كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ، لَمَّا تَخَلَّفَ عَنْ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) فِى غَزْوَةِ
تَبُوكَ، فَذَكَرَ حَدِيثَهُ وَنَهَى النَّبىُّ (صلى الله
عليه وسلم) الْمُسْلِمِينَ عَنْ كَلامِنَا، فَلَبِثْنَا
عَلَى ذَلِكَ خَمْسِينَ لَيْلَةً، وَآذَنَ رَسُولُ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) بِتَوْبَةِ اللَّهِ عَلَيْنَا. قال
المهلب: أصل الهجران فى كتاب الله وهو أمر الله عباده
بهجران نسائهم فى المضاجع، فإذا كان الهجران من المعاقبة
بنص كتاب الله، فلذلك استعمله النبى (صلى الله عليه وسلم)
فى عقوبة كعب بن مالك حين تخلف عن الغزو مع رسول الله (صلى
الله عليه وسلم) ، وترك ما افترض الله عليه من الجهاد مع
نبيه ونصرته وبذل نفسه دونهم. وقد قال سحنون: إذا سجن
الرجل فى دين امرأته أو غيره فليس له أن يدخل امرأته فى
السجن؛ لأنه إنما أدخل فيه تأديبًا له وتضييقًا عليه، فإذا
لم يمنع من إربه فلم يضيق عليه.
(8/289)
|