شرح صحيح
البخارى لابن بطال 66 - كتاب اللباس
- باب قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ
زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) [الأعراف
32]
وَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (كُلُوا
وَاشْرَبُوا، وَالْبَسُوا، وَتَصَدَّقُوا فِى غَيْرِ
إِسْرَافٍ، وَلا مَخِيلَةٍ) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ
اثْنَتَانِ: سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ. / 1 - وفيه: ابْن
عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا
يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلاءَ) .
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَحَدَ
شِقَّىْ إِزَارِى يَسْتَرْخِى، إِلا أَنْ أَتَعَاهَدَ
ذَلِكَ مِنْهُ، فَقَالَ عليه السَّلام: (لَسْتَ مِمَّنْ
يَصْنَعُهُ خُيَلاءَ) . / 2 - وفيه: أَبُو بَكْرَة،
خَسَفَتِ الشَّمْسُ وَنَحْنُ عِنْدَ النَّبِىِّ، عليه
السَّلام، فَقَامَ يَجُرُّ ثَوْبَهُ مُسْتَعْجِلا حَتَّى
أَتَى الْمَسْجِدَ، فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ. . . الحديث.
قال المؤلف: اختلف أهل التأويل فى معنى هذه الآية، فقال
بعضهم: والطيبات من الرزق يعنى: المستلذ من الطعام وقيل:
الحلال، وقيل: هو عام فى كل مباح، وقيل: هو فى لبس الثياب
فى الطواف، وقال الفراء: كانت قبائل العرب لا يأكلون اللحم
أياهم حجهم، ويطوفون عرة فنزلت: (قل من حرم زينة الله
(9/77)
التى أخرج لعبادة والطيبات من الرزق) وفى
قول النبى (صلى الله عليه وسلم) : (كلوا وأشربوا من غير
أسراف ولا مخيلة) وقول ابن عباس بيان شاف للآية. والسرف
والخيلاء محرمان، وقد قال تعالى: (إنه لا يحب المسرفين (و)
لا يحب كل مختال فخور (وقال عليه السلام: (لا ينظر الله
إلى من جر إزاره خيلاء) وهذا وعيد شديد. وقال أهل العلم فى
معناه: لا ينظر الله اليهم نظر رحمة إن أنفذ عليهم الوعيد،
فاتقى أمرؤ ربه، وتأدب بأدبه وأدب رسوله وأدب الصالحين،
وذلل بالتواضع لله قلبه، وأودع سمعه وبصره وجوارحه
بالاستكانة بالطاعة، وتحبب إلى خلقه بحسن المعاشرة،
وخالقهم بجميل المخالقة، ليخرج من صفة من لا ينظر لله إليه
ولايحبه. والخيلاء والمخيلة: التكبر فى لسان العرب، وفى
حديث أبى بكر بيان أن سقط ثوبه بغير قصده وفعله ولم يقصد
بذلك الخيلاء فإنه لا حرج عليه فى ذلك، لقوله عليه السلام
لأبى بكر: (لست ممن يصنعه خيلاء) ألا ترى أن النبى عليه
السلام جر ثوبه حين استعجل المسير إلى صلاة الخسوف، وهو
مبين لأمته بقوله وفعله. وقد كان ابن عمر يكره أن يجر
الرجل ثوبه على كل حال وهذه من شدائد ابن عمر، لأنه لم تخف
عليه قصة أبى بكر وهو الراوى لها، والحجة فى السنة لا فى
ما خلفها، وفى قول النبي
(9/78)
عليه السلام وفى قول ابن عباس أنه مباح
للرجل اللباس من الحسن، والجمال فى جميع أموره إذا سلم
قلبه من التكبر به على من ليس له مثل ذلك من اللباس، وقد
وردت الآثار بذلك، روى المعافى ابن عمران، عن هشام بن
حسان، عن ابن سيرين، عن سواد بن عمرو الانصارى أنه قال:
(يا رسول الله، انى رجل حبب إلى الجمال وأعطيت منه ماترى
حتى ماأحب أن يفوقنى أحد فى شراك نعلى، أفمن الكبر ذاك؟
قال: لا، ولكن الكبر من بطر الحق وغمص - أو غمنص الناس) .
ومن حديث عبد الله بن عمر أن النبى عليه السلام قال للذى
ساله عن حبه لجمال ثيابه وشراك نعله: هل ذلك من الكبر؟
فقال عليه السلام (لا، ولكن الله جميل يحب الجمال) . فإن
قيل: فقد روى وكيع، عن أشعث السمان، عن أبى سلام الأعرج،
عن على بن أبى طالب قال: إن الرجل ليعجبه شراك نعله أن
يكون أجود من شراك صاحبه فيدخل فى قوله تعالى: (تلك الدار
الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علو فى الأرض ولا فسادا
(الآية. قال الطبرى: فالجواب أن من أحب ذلك ليتعظم به من
سواه من الناس ممن ليس له مثله، فاختال به عليهم واستكبر،
فهو داخل فى عدة المستكبرين فى الأرض بغير الحق، ولحقته
صفة أهله وأن أحب ذلك سرورًا لجودته وحسنه، غير مريد به
الاختيال والتكبر، فإنه بعيد المعنى ممن عناه الله تعالى
بقوله: (لا يريدون علو فى الأرض ولا فسادا (بل هو ممن قد
اخبر الله تعالى أنه يحب ذلك من فعله، على ماورد فى حديث
عبد الله بن عمر.
(9/79)
وذكر النائى عن محمد بن العلاء قال: حدثنى
أبو بكر بن عياش عن أبى إسحاق، عن أبى الأحوص، عن أبيه
قال: (كنت جالسًا عند رسول الله رث الثياب، فقال: ألك مال؟
قلت: يا رسول الله من كل المال. قال: إذا أتاك الله مالا
فليرى أثره عليك) .
- باب: التشمر فى الثياب
/ 3 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، خَرَجَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) فِى حُلَّةٍ مُشَمِّرًا، فَصَلَّى. . . الحديث.
قال المؤلف: التشمر مباح فى الصلاة وعند المهنة والحاجة
إلى ذلك بهذا الحديث، وهو من التواضع ونفى التكبر والخيلاء
والحله عند العرب ثوبان ظاهر وباطن. وقال صاحب العين:
الحله: إزار ورداء، ولا يقال حلة لثوب واحد. قال أبو عبيد:
ومما يدل على ذلك حديث عمر، أنه رأى رجلا عليه حلة قد
ائتزر بإحدهما وارتدى بالأخرى.
3 - باب: ما أسفل من الكعبين
فهو فى النار
/ 4 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رسول اللَّه
(صلى الله عليه وسلم) : (مَا أَسْفَلَ مِنَ الْكَعْبَيْنِ،
مِنَ الإزَارِ فَفِى النَّارِ) . قال المؤلف: روى عبد
الرزاق، عن عبد العزيز بن أبى رواد عن نافعه: أنه سئل عن
قوله فى هذا الحديث (ما أسفل من
(9/80)
الكعبين ففى النار من الثياب ذلك؟ قال: ما
ذنب الثياب، بل هو من القدمين) . قال غيره: ولو كان الزار
فى النار ما ضر الذى جر ثوبه شىء. ومعنى هذا الحديث عند
أهل السنة: إن أنفذ الله عليه الوعيد كان القدمان فى
النار.
4 - باب: من جر ثوبه من
الخيلاء
/ 5 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ: قَالَ النّبِىّ عليه
السَّلام: (لا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى
مَنْ جَرَّ إِزَارَهُ بَطَرًا) . / 6 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) :
(بَيْنَمَا رَجُلٌ يَمْشِى فِى حُلَّةٍ تُعْجِبُهُ
نَفْسُهُ مُرَجِّلٌ جُمَّتَهُ؛ إِذْ خَسَفَ اللَّهُ بِهِ
الأرض، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) .
/ 7 - وفيه: ابْن عُمَر، عَن النّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) مثله، وقَالَ مرةً: (مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ مَخِيلَةً
لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
قَالَ شُعْبَةُ: فَقُلْتُ لِمُحَارِبٍ: أَذَكَرَ
إِزَارَهُ؟ قَالَ: مَا خَصَّ إِزَارًا، وَلا قَمِيصًا. قال
الطبرى: إنما خص الإزار بالذكر فى حديث أبى هريرة - والله
أعلم - لأن أكثر الناس فى عهده عليه السلام كانوا يلبسون
الإزار والأردية، فلما لبس الناس المقطعات وصار عامة
لباسهم القمص والدراريع كان حكمها حكم الإزار، وأن النهى
عما جاوز الكعبين منها داخل فى معنى نهيه عليه السلام عن
جر الإزار، إذ هما سواء فى المماثلة، وهذا هو القياس
الصحيح. قال المؤلف: هذا طريق القياس لو لم يأت نص فى
التسوية بينهما، وقد تقدم حديث ابن عمر فى هذا الباب أن
النبي عليه
(9/81)
السلام قال: (من جر ثوبه من مخيلة لم ينظر
الله إليه يوم القيامة) فعم جميع الثياب. وروى أبو داود،
عن ابن عمر: (أنه سئل عن حديث الأزار فقال: ماقال رسول
الله فى الإزار فهو فى القميص) وقد جاء هذا أيضًا عن النبى
عليه السلام روى أبو داود قال: حدثنا هناد بن السرى قال:
حدثنا حسين الجعفى، عن عبد العزيز بن أبى رواد، عن سالم بن
عبد الله، عن أبيه -، عن النبى - عليه السلام قال:
(الإسبال فى الإزار والعمامة، من جر منها شيئًا لم ينظر
الله إليه يوم القيامة) . وقوله: (يتجلجل) يعنى: يسوخ
ويضطرب، قال صاحب العين: جلجلت الشىء إذا حركته، وكل شىء
خلطت بعضه ببعض فقد جلجلته.
5 - باب: الإزار المهدب
وَيُذْكَرُ عَنِ الزُّهْرِىِّ، وَأَبِى بَكْرِ بْنِ
مُحَمَّدٍ، وَحَمْزَةَ بْنِ أَبِى أُسَيْدٍ، وَمُعَاوِيَةَ
بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ أَنَّهُمْ لَبِسُوا
ثِيَابًا مُهَدَّبَةً. / 8 - فيه: عَائِشَة، جَاءَتِ
امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِىِّ وَتَزَوَّجْتُ بَعْدَهُ
عَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ الزُّبَيْرِ، فَقَالت: وَاللَّهِ
مَا مَعَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلا مِثْلُ هَذِهِ
الْهُدْبَةِ، وَأَخَذَتْ هُدْبَةً مِنْ جِلْبَابِهَا. قال
المؤلف: ليس فيه أكثر من أن الثياب المهدبة من لباس السلف،
وأنه لا بأس به.
(9/82)
6 - باب: الأردية
وَقَالَ أَنَسٌ: جَبَذَ أَعْرَابِى رِدَاءَ النَّبِىِّ
(صلى الله عليه وسلم) . / 9 - فيه: عَلِىّ، قَالَ: دَعَا
النَّبِىُّ، عليه السَّلام، بِرِدَائِهِ فارتدِى، ثُمَّ
انْطَلَقَ يَمْشِى، وَاتَّبَعْتُهُ أَنَا وَزَيْدُ بْنُ
حَارِثَةَ حَتَّى جَاءَ الْبَيْتَ الَّذِى فِيهِ حَمْزَةُ.
. . الحديث. فيه: أن الرداء من لباس النبى - عليه السلام -
غير أنه لم يذكر فى الحديث صفة لباسه له إن كان مشتملا به
أو متطيلسا أو على هيئة لباسنا اليوم، وقد روى عن طاوس أنه
قال: الشملة من الزينة التى أمر الله بأخذها عند كل مسجد.
7 - باب: لبس القميص
وَقَالَ يُوسُفَ: (اذْهَبُوا بِقَمِيصِى هَذَا فَأَلْقُوهُ
عَلَى وَجْهِ أَبِى يَأْتِ بَصِيرًا) [يوسف: 93] . / 10 -
فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ رَجُلا سأل النَّبِىّ، عليه
السَّلام، مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنَ الثِّيَابِ؟
فَقَالَ: (لا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ، وَلا السَّرَاوِيلَ،
وَلا الْبُرْنُسَ. . .) الحديث. / 11 - وفيه: جَابِر، أن
النَّبِىُّ (صلى الله عليه وسلم) أَتَى عَبْدَاللَّهِ بْنَ
أُبَىٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ قَبْرَهُ، فَأَمَرَ بِهِ،
فَأُخْرِجَ، وَوُضِعَ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ
عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، وَاللَّهُ
أَعْلَمُ. قال المؤلف: فيه أن لباس القميص من الأمر القديم
وكل ما ذكر فى حديث ابن عمر من الراويل والبرانس وغيرها.
(9/83)
وذكر أبو داود قال: حدثنا زياد بن أيوب، عن
أبى تميله، حدثنا عبد المؤمن بن خالد، عن عبد الله بن
بريدة، عن أمه، عن أم سلمه قالت: (كانت أحب الثياب إلى
رسول القميص) وقد رواه الفضل بن موسى، عن عبد المؤمن بن
خالد، هن ابن بريدة عن أم سلمة، ولم يذكر أمه، قال
الترمذى: سمعت البخارى يقول: حديث عبد الله بن بريدة، عن
أمه أصح.
8 - باب: جيب القميص من عند
الصدر وغيره
/ 12 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: ضَرَبَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مَثَلَ الْبَخِيلِ
وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ: (رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا
جُبَّتَانِ مِنْ حَدِيدٍ، قَدِ اضْطُرَّتْ أَيْدِيهِمَا
إِلَى ثُدِيِّهِمَا، وَتَرَاقِيهِمَا، فَجَعَلَ
الْمُتَصَدِّقُ كُلَّمَا تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ،
انْبَسَطَتْ عَنْهُ، حَتَّى تَغْشَى أَنَامِلَهُ،
وَتَعْفُوَ أَثَرَهُ، وَجَعَلَ الْبَخِيلُ كُلَّمَا هَمَّ
بِصَدَقَةٍ قَلَصَتْ، وَأَخَذَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ
بِمَكَانِهَا) . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَأَنَا رَأَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ:
بِإِصْبَعِهِ هَكَذَا فِى جَيْبِهِ، فَلَوْ رَأَيْتَهُ
يُوَسِّعُهَا، وَلا تَتَوَسَّعُ. تَابَعَهُ ابْنُ طَاوُسٍ،
عَنْ أَبِيهِ، وَأَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الأعْرَجِ فِى
الْجُبَّتَيْنِ. وَقَالَ حَنْظَلَةُ: سَمِعْتُ طَاوُسًا
سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: جُبَّتَانِ، وَقَالَ
جَعْفَرُ بْنُ حَيَّانَ، عَنِ الأعْرَجِ: جُبَّتَانِ. قال
المؤلف: فى هذا الحديث دليل أن الجيب فى ثياب السلف كان
عند الصدر على ماتصنعه النساء اليوم عندنا فى الأندلس،
ووجه الدلالة على ذلك أن النبى شبه البخيل والمتصدق برجلين
(9/84)
عليهما جبتان من حديد قد اضطرت أيديهما إلى
ثديهما وتراقيهما، فتبسط على جسد المتصدق، وتشد على يدى
البخيل إذا هم بالصدقة، وتمسكها فى الموضوع الذى اضطراتها
إليه، وهو الثدى والتراقى وذلك فى صدره وفيه، يروم أن يوسع
حلقها ولاتتسع، يبين ذلك حديث أبى هريرة: (أنا رأيت رسول
الله يقول بإصبعه هكذا فى جبته يوسعها ولا تتسع) فبان أن
جيبه عليه السلام كان فى صدره، لأنه لوكان فى منكبه لم تكن
يداه مضطرة إلى ثديه وتراقيه، وهذا استدلال حسن، وقال ثابت
الترقوتان: العظمان المشرفان فى أعلى الصدر إلى طرف ثغره
النحر، وهى الهزمة التى بينهما.
9 - باب: من لبس جبه ضيقة
الكمين فى السفر
/ 13 - فيه: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ: انْطَلَقَ
النَّبِىُّ، عليه السَّلام، لِحَاجَتِهِ، ثُمَّ أَقْبَلَ
فَتَلَقَّيْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ، وَعَلَيْهِ جُبَّةٌ
شَامِيَّةٌ، فَمَضْمَضَ، وَاسْتَنْشَقَ، وَغَسَلَ
وَجْهَهُ، فَذَهَبَ يُخْرِجُ يَدَيْهِ مِنْ كُمَّيْهِ،
فَكَانَا ضَيِّقَيْنِ، فَأَخْرَجَ يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِ
الْجُبَّةِ فَغَسَلَهُمَا، وَمَسَحَ بِرَأْسِهِ وَعَلَى
خُفَّيْهِ. وترجم له باب جبه الصوف فى الغزو وقال فيه:
(وعليه جبه شامية من صوف) . فى هذا الحديث دليل أن ثياب
السلف فى الحضر لم تكن أكمامها
(9/85)
بضيق أكمام هذه الجبة التى لبسها عليه
السلام فى سفرة، لأنه لم يذكر عنه عليه السلام أنه أخرج
يديه من تحت ثيابه لضيق كميه إلا فى هذه المرة، ولو فعله
فى الحضر دائما لنقل ذلك. وذلك دليل أن ثياب السفر أكمش
وأخصر من ثياب الخصر، فلباس الأكمام الضيقة والواسعة جائز
إذا لم يكن مثل سعه أكمام النساء، لأن زى النساء لا يجوز
للرجال استعماله على مايأتى فى كتاب الزينة. وقد كره مالك
للرجل سعه الثوب وطوله، وأما لباس الصوف فجائز فى الغزو
وغيره إذا لم يرد لابسه به الشهرة، وقد سئل مالك عن لباس
الصوف الغليظ، فقال: لا خير فيه فى الشهرة ولو كان يلبسه
تارة وينزعه أخرى لرجوت، فأما المواظبة حتى يعرف به ويشتهر
فلا أحبه، ومن غليظ القطن ماهو فى ثمنه وأبعد من الشهرة
منه، وقد قال عليه السلام للرجل (ليرى عليك مالك) . وقال
مالك أيضا: لا أكره لباس الصوف لمن لم يجد غيره، وأكرهه
لمن يجد غيره، ولأن يخفى عمله أحب إلى، وكذلك كان شأن من
مضى، قيل: إنما يريد التواضع يلبسه، قيل: يجد من القطن
بثمن الصوف.
- باب: البرانس
/ 14 - فيه: أَنَس، أنّه كَان يَلبَسُ بُرْنُسًا أَصْفَرَ
مِنْ خَزٍّ. / 15 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ
قَالَ للْمُحْرِمُ: (لا تَلْبَس الْبَرَانِسَ. . . .)
الحديث.
(9/86)
قال المؤلف: سئل مالك عن لباس البرانس
أتكرهها، فإنها لباس النصارى؟ قال: لا بأس بها، وقد كانت
تلبس هاهنا. وقال عبد الله بن أبى بكر: ماكان أحد من
القراء إلا له برنس يغدو فيه وخميصة يروح فيها، وأما لباس
الخز فقد لبسه جماعة من السلف وكرهه آخرون، فممن لبسه: أبو
بكر الصديق، وابن عباس، وأبو قتادة، وابن أبى أوفى، وسعد
بن أبى وقاص، وجابر وأنس، وابو سعيد الخذرى، وأبو هريرة،
وابن الزبير، وعائشة، ومن التابعين: ابن أبى ليلى،
والأحنف، وشريح، والشعبى، وعروة، وأبو بكر عبد الرحمن،
وعمر بن عبد العزيز أيام إمارته، وروى ابن وهب عن مالك أنه
قال: لا يعجبنى لبس الخز ولا أحرمه. قال البهرى: إنما كرهه
من أجل السرف، ولم يحرمه من أجل من لبسه من الصحابة، وكرهه
ابن عمر وسالم والحسن وابن سيرين وسعيد بن جبير، وكان ابن
المسيب لا يلبسه ولاينهى عنه. قال على بن زيد: جلست إلى
سعيد بن المسيب وعلى جبه خز، فأخذ بكم جبتى وقال: م:
ماأجود جبتك. قلت: ومامعنى قد أفسدوها على، قال: ومن
أفسدها؟ قلت: سالم. قال: إذا صلح قلبك فالبس ماشئت، فذكرت
قوله للحسن، فقال: إن من صلاح القلب ترك الخز.
(9/87)
- باب: فروج الحرير وَهُوَ الْقَبَاءُ
وَيُقَالُ: هُوَ الَّذِى لَهُ شَقٌّ مِنْ خَلْفِهِ
. / 16 - فيه: الْمِسْوَر، قَالَ: قَسَمَ النّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) أَقْبِيَةً، وَلَمْ يُعْطِ مَخْرَمَةَ
شَيْئًا، فَقَالَ مَخْرَمَةُ: يَا بُنَىِّ، انْطَلِقْ
بِنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
فَانْطَلَقْتُ مَعَهُ، فَقَالَ: ادْخُلْ فَادْعُهُ لِى،
قَالَ: فَدَعَوْتُهُ لَهُ، فَخَرَجَ إِلَيْهِ، وَعَلَيْهِ
قَبَاءٌ مِنْهَا، فَقَالَ: خَبَأْتُ هَذَا لَكَ، قَالَ:
فَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: رَضِى مَخْرَمَةُ) . / 17 -
وفيه: عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، أَنَّهُ قَالَ: (أُهْدِى إلى
النّبِىّ، عليه السَّلام، فَرُّوجُ حَرِيرٍ فَلَبِسَهُ،
ثُمَّ صَلَّى فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَنَزَعَهُ نَزْعًا
شَدِيدًا كَالْكَارِهِ لَهُ، ثُمَّ قَالَ: (لا يَنْبَغِى
هَذَا لِلْمُتَّقِينَ) . قال المؤلف: القباء من لباس
الأعاجم، ويمكن أن يكون النبى نزعه من أجل ذلك، فقد روى
أبو داود قال: حدثنا عثمان بن أبى شبيبة، حدثنا عبد الرحمن
بن ثابت، حدثنا حسان بن عطية، عن أبى منيب الجرشى، عن ابن
عمر قال: قال رسول الله: (من تشبه بقوم فهو منهم) ويمكن أن
يكون نزعه من أجل أنه من حرير وقد نهى عليه السلام عن لباس
الحرير لذكور أمته وسيأتى بعد هذا.
- باب: السراويل
/ 18 - فيه: ذكر فيه حديث ابن عباس، وابن عمر أن النبى،
عليه السَّلام، قال: (لاَ يَلبسُ المحرم السراويل) . فقد
تقدم أن لباس السراويل من الأمر القديم.
(9/88)
- باب العمائم
/ 19 - فيه: ابْن عُمَر: قَالَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) : (لا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ الْعِمَائَم. . .)
الحديث. قال المؤلف: والعامائم تيجان العرب وهى زيهم، وقد
روى أن الملائكة الذى نصروا النبى (صلى الله عليه وسلم)
يوم بدر كانوا بعمائم صفر. قال مالك: العمة والاحتباء
والانتعال من عمر العرب، وليس ذلك فى العجم وكانت العمة فى
أول الإسلام، ثم لم تزل حتى كان هؤلاء القوم. قال ابن وهب:
وحدثنى مالك أنه لم يدرك أحدًا من أهل الفضل: يحى بن سعيد،
وربيعة، وابن هرمز إلا وهم يعتمون، ولقد كنت فى مجلس
ربيعة، وفيه أحد وثلاثون رجلاً مامنهم رجل إلا وهو معتم
وأنا منهم، ولقد كنت أراهم يعتمون فى العشاء والصبح، وكان
ربيع لا يدع العمامة حتى يطلع الثريا، وكان يقول: أنى لأجد
العمة تزيد فى العقل. قال: وسئل مالك عن الذى يعتم
بالعمامة ولا يجعلها من تحت حلقة، فأنكرها، وقال: ذلك من
عمل النبط، وليست من عمة الناس إلا أن تكون قصيرة لا تبلغ،
أو يفعل ذلك فى بيته أو فى مرضه فلا بأس به، قيل له: فترخى
بين الكتفين؟ قال لم أر أحدًا ممن أردكت يرخى بين كتفيه
إلا عامر بن عبد الله بن الزبير، وليس ذلك بحرام، ولكن
يرسلها بين يديه وهخو أجمل. وقال عامر بن عبد الله:
(9/89)
رؤي جبريل فى صورة _ دحية الكلبى، وقد سدل
عمامته بين كتفيه. وروى أبو داود حدثنا الحسن بن على، ثنا
أبو أسامة عن مساور الوراق، عن جعفر بن عمرو فى حديث عن
أبيه قال: (رأيت النبى - عليه السلام - على المنبر وعليه
عمامة سوداء قد ارخى طرفها بين كتفيه) . وروى الترمذى عن
هارون بن اسحاق قال: حدثنا يحيى بن محمد المننى، عن عبد
العزيز بن محمد، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر
قال: (كان النبى - عليه السلام - إذا اعتم سدل عمامته بين
كتفيه) . قال نافع: وكان ابن عمر يفعله. قال عبيد الله:
ورأيت القاسم، وسالمًا يفعلان ذلك. قال الترمذى: وهذا حديث
حسن غريب.
- باب التقنع
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ. وَقَالَ أَنَسٌ
عَصَبَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) عَلَى رَأْسِهِ
حَاشِيَةَ بُرْدٍ. / 20 - فيه: عَائِشَةَ، هَاجَرَ نَاسٌ
إِلَى الْحَبَشَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَتَجَهَّزَ أَبُو
بَكْرٍ مُهَاجِرًا، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
: عَلَى رِسْلِكَ، فَإِنِّى أَرْجُو أَنْ يُؤْذَنَ لِي،
(9/90)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَوَ تَرْجُوهُ
بِأَبِى أَنْتَ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَحَبَسَ أَبُو بَكْرٍ
نَفْسَهُ عَلَى النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
لِصُحْبَتِهِ، وَعَلَفَ رَاحِلَتَيْنِ كَانَتَا عِنْدَهُ،
وَرَقَ السَّمُرِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ. قَالَتْ عَائِشَةُ:
فَبَيْنَا نَحْنُ يَوْمًا جُلُوسٌ فِى بَيْتِنَا فِى
نَحْرِ الظَّهِيرَةِ، فَقَالَ قَائِلٌ لأبِى بَكْرٍ: هَذَا
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُقْبِلا
مُتَقَنِّعًا فِى سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ يَأْتِينَا فِيهَا،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فِدًا لَكَ أَبِى وَأُمِّى، وَاللَّهِ
إِنْ جَاءَ بِهِ فِى هَذِهِ السَّاعَةِ إِلا لأمْرٍ،
فَجَاءَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فَاسْتَأْذَنَ،
فَأَذِنَ لَهُ فَدَخَلَ فَقَالَ حِينَ دَخَلَ لأبِى
بَكْرٍ: أَخْرِجْ مَنْ عِنْدَكَ، قَالَ: إِنَّمَا هُمْ
أَهْلُكَ بِأَبِى أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ:
فَإِنِّى قَدْ أُذِنَ لِى فِى الْخُرُوجِ، قَالَ:
فَالصُّحْبَةُ بِأَبِى أَنْتَ وَأُمِّى يَا رَسُولَ
اللَّهِ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَخُذْ بِأَبِى أَنْتَ يَا
رَسُولَ اللَّهِ إِحْدَى رَاحِلَتَى هَاتَيْنِ: قَالَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : بِالثَّمَنِ، قَالَتْ:
فَجَهَّزْنَاهُمَا، أَحَثَّ الْجِهَازِ وَضَعْنَا لَهُمَا
سُفْرَةً فِى جِرَابٍ، فَقَطَعَتْ أَسْمَاءُ بِنْتُ أَبِى
بَكْرٍ قِطْعَةً مِنْ نِطَاقِهَا، فَأَوْكَأَتْ بِهِ
الْجِرَابَ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ تُسَمَّى ذَاتَ
النِّطَاقِ، ثُمَّ لَحِقَ النَّبِى عليه السلام وَأَبُو
بَكْرٍ بِغَارٍ فِى جَبَلٍ، يُقَالُ لَهُ: ثَوْرٌ،
فَمَكُثَ فِيهِ ثَلاثَ لَيَالٍ، يَبِيتُ عِنْدَهُمَا
عَبْدُاللَّهِ بْنُ أَبِى بَكْرٍ - وَهُوَ غُلامٌ شَابٌّ
لَقِنٌ ثَقِفٌ - فَيَرْحَلُ مِنْ عِنْدِهِمَا سَحَرًا،
فَيُصْبِحُ مَعَ قُرَيْشٍ بِمَكَّةَ كَبَائِتٍ، فَلا
يَسْمَعُ أَمْرًا يُكَادَانِ بِهِ إِلا وَعَاهُ حَتَّى
يَأْتِيَهُمَا بِخَبَرِ ذَلِكَ حِينَ يَخْتَلِطُ
الظَّلامُ، وَيَرْعَى عَلَيْهِمَا عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ
مَوْلَى أَبِى بَكْرٍ مِنْحَةً مِنْ غَنَمٍ، فَيُرِيحُهَا
عَلَيْهِمَا حِينَ تَذْهَبُ سَاعَةٌ مِنَ الْعِشَاءِ،
فَيَبِيتَانِ فِى رِسْلِهِمَا، حَتَّى يَنْعِقَ بِهَا
عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ بِغَلَسٍ، يَفْعَلُ ذَلِكَ كُلَّ
لَيْلَةٍ مِنْ تِلْكَ اللَّيَالِى الثَّلاثِ) .
(9/91)
قال المؤلف: التقنع للرجل عند الحاجة مباح،
وقال ابن وهب: سألت مالكا عن التقنع بالثوب. فقال: أما
الرجل يجد الحر والبرد أو الأمر الذى له فيه عذر فلا بأس
به، ولقد كان أبو النضر يلزم ذلك، لبرد يجده ومابذلك بأس،
وذكر ابن أبى زيد عن مالك قال: رأت سكينة بنت الحسين بعض
ولدها مقنعًا راسه قالت: اكشف عن رأسك فإن القناع ريبة
بالليل، ومذلة بالنهار. وماأعلمه حرامًا ولكن ليس من لباس
خيار الناس. وقال البهزى: إذا تقنع لدفع مضرة فذلك مباح،
وأما لغير ذلك فإنه يكره، لأنه من فعل أهل الريب ويكره أن
يفعل شيئًا يظن به الريبة، وليس ذلك من فعل من مضى. قال
المؤلف: وقد مر كثير من معانى هذا الحديث فى غير موضع من
هذا الكتاب، منها فى كتاب البيوع، فى باب من أشترى متاعًا
أو دابة فوضعه عند البائع فضاع أو مات قبل أن يقبض، وفى
كتاب الاجارة فى باب استئجار المشركين عند الضرورة، وذكره
فى كتاب الأدب، فى باب هل يزور صاحبه كل يوم أو بكرة
وعشية؟ . وذكر البخارى هذا الحديث فى أبواب الهجرة مما لم
أشرحه فى هذا الكتاب بزيادة الفاظ لم تأت فى هذا الحديث
ونذكر هنا جملة من معانية، فأول ذلك ماذكره الطبرى قال:
فيه الدليل الواضح على ما خص الله به صديق نبيه عليه
السلام من الفضيلة والكرامة، ورفع المنزلة عنده، وذلك
اختياره إياه دون سائر وعشيرته، لموضع سره وخفى أموره التى
كان يخفيها عن سائر أصحابه، ولصحبته فى سفره، إذ لم يعلم
(9/92)
أحد بكونه عليه السلام فى الغار أيام مكثه
فيه غير أبى بكر وحاشيته من ولد له ومولى وأجير. ولاصحبه
فى طريقه غير خصص، خصص له لذلك دون قرابة رسول الله، فتبين
بذلك منزلته عنده، ودل على اختياره أياه، لأمانته على رسول
الله - عليه السلام. قال المؤلف: وفيه المعنى الذى استحق
به أبو بكر أن سمى صديقًا، وذلك أنه حبس نفسه على رسول
الله، لقوله: (أرجو أن يؤذن لى فى الهجرة) فصدقه ولم يرتب
بقوله، وأيقن أن مارجاه لا يخيب ظنه فيه لما كان جربه عليه
من الصدق فى جميع أموره، وتكلف النفقة على الراحلتين، فأعد
إحداهما لرسول الله وبذل ماله كما بذل نفسه فى الهجرة معه،
ولذلك قال عليه السلام: (ليس أحد أمن على فى نفسه وماله من
أبى بكر) . وفيه: أن المرء ينبغى له التحفظ بسره ولايطلع
عليه إلا من تطيب نفسه عليه، لقوله لأبى بكر: (أخرج من
عندك) ليخبره بخروجه مخليا به، فلما قال له الصديق رضى
الله عنه: إنما هم أهلك. وعلم أن شفقتهم عليه كشفقة اهله
أطلعه حينئذ على سره، وأنه قد أذن له فى الخروج، فبدر أبو
بكر وقال لرسول الله: الصحبة؟ قبل أن يساله ذلك رسول الله
وهذا من أبلغ المشاركة وأعظم الواء لرسول الله. وفيه اتخاذ
الفضاء والصالحين الزاد فى أسفارهم، ورد قول من
(9/93)
أنكر ذلك من الصوفية، وزعم أن من صح توكله
ينزل عليه طعام من السماء إذا احتاج إليه، ولا أحد أفضل من
رسول الله ولا من صاحبه وصديقه وهما كانا أولى بهذه
المنزلة، ولو كان كما زعموا مااحتاجا إلى سفرة فيها طعام.
قال الطبرى: وفى استخفاء نبى الله وأبى بكر فى الغار عندما
أراد المشركون المكر بنبيه وقتله كما وصفه الله تعالى فى
كتابه بقوله: (وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك (الآيه
فدخل عليه السلام مع صاحبه فى الغار حتى سكن عند الطلب
ويئسوا منه ثم ارتحل متوجهًا إلى المدينة، وكان فعله ذلك
حذرًا على نفسه من المشركين، فبان بذك، إذ صح فعله أنه عن
أمر ربه إياه أن الحق على كل مسلم الهرب مما لا قوام له
به، وترك التعرض لما لا طاقة له به،) ولو شاء الله (أن
يعمى جميع المشركين يومئذ حتى لا يقدروا على رؤيته، أو
يخسف بهم أجمعين حتى ينفرد رسول الله وأصحابه بالمكث فى
بلدهم لكان ذلك هينًا عليه. فلم يفعل ذلك تعالى مع قدرته
عليه، ليبلغ الكتاب أجله بل أمر نبيه وصاحبه بالدخول فيه،
ليكون ذلك سنة لخلقه إذا رأوا منكرًا يجب تغييره فعجزوا عن
القيام بتغييره وكانوا فى فسحة من ترك التعرض لما لا قبل
لهم من الخوف على مهجهم ودينهم والزوال عنه، وبان ذلك فساد
قول قول من قال: إن على كل من رأى منكرًا تغييره وإن فى
ذلك هلاك نفسه وماله، وإن لم يفعل ذلك كان مضيعًا فرضًا
لله.
(9/94)
ووضح خطأ من حمل وحده على عسكر من المشركين
وله إلى ترك ذلك سبيل مع خوفه على نفسه، وبان فساد قول من
زعم أنه من استجن بجنة فى حرب أو لجأ إلى حصن من عدو غالب
أو أتخذ غلقًا لباب من لص أو أعد زادًا لسفر أنه قد برىء
من التوكل، لأن الضر والنفع بيد الله وقد أمر الله نبيه
بالدخول فى الغار ولاختفاء فيه من شرار خلقه، وكان من
التوكل على ربه فى الغاية العليا. وفيه الدليل الواضح على
فساد قول من زعم أن من خاف شيئًا سوى الله فلم يوقن
بالقدر، وذلك أن الصديق قال لرسول الله: (لو أن أحدكم رفع
قدمه لأبصرنا) . حذرًا أن يكون ذلك من بعضهم فيلحقه ورسول
الله من مكروه، ذلك ماحذره وبذلك أخبر الله تعالى - عنه فى
كتابه بقوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله (فلم يصفه الله
ولا رسوله بذلك من قوله بضعف اليقين، بل كان من اليقين
لقضاء الله وقدرة فى أعلى المنازل، ولكن قال ذلك إشفاقا
على رسول الله، وكان حزنه بذلك مع علمه أن الله بالغ أمره
فيه وفى رسوله وفى نصر دينه، فجمع الله له بذلك صدق
اليقين، وأجر الجزع على الدين، وثواب الشفقة على الرسول،
ليضعف له بذلك الأجر، وكان ذلك منه مثل ماكان من موسى نبى
الله إذ أوجس فى نفسه خيفة مما أتت به السحرة، حين خيل
إليه أن حبالهم وعصيهم تسعى، فقال الله له: (لا تخف إنك
أنت الأعلى) ولا شك أن موسى كان من العلم بالله وصدق
اليقين بنفوذ قضائه فيه ما لا يلتبس أمره على ذى عقل يؤمن
بالله ورسوله، وكذلك الذى كان من أمر أبى بكر.
(9/95)
وقوله عليه السلام لأبى بكر ماظنك بأثنين
الله ثالثهما. يعنى: أن الله ثالثهما بالحفظ لهما والكلأ،
ولم يرد أنه يعلم مكانهما فقط كما قال تعالى: (ما يكون من
نجوى ثلاثه إلا هو رابعهم (الآيه، ويدل أنه أراد أن الله
ثالثهما بالحفظ، قوله تعالى: (لا تحزن إن الله معنا (أى:
يحفظنا ويكلؤنا ويحفظنا، ولو أراد يعلمنا لم يكن فيه له
عليه السلام ولا لصاحبه فضيلة على أحد من الناس، لأن الله
تعالى شاهد كل نجوى وعالم بها، وإنما كان فضيلة له ولصاحبه
حين كان الله ثالثهما بأن صرف عنهما طلب المشركين وأعمى
ابصارهم وسيأتى فى كتاب التمنى معنى قوله: لو أن أحدهم رفع
قدمه لبصرنا، فى باب مايجوز من اللو ان شاء الله تعالى.
وقد تقدم شرح العصابة الدسماء فى أبواب صلاة الجمعة فى باب
من قال فى الخطبة بعد الثناء: أما بعد، فأغنى عن إعادته.
وقوله: (إن جاء به هذه الساعة لأمر) إن هاهنا مؤكدة، و
(اللام) فى قوله: (لأمر) لام التأكيد، كقوله تعالى: (وإن
كان مكرهم لتزول منه الجبال (فى قراءة من فتح اللام وهو
الكسائى وقوله: (وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك (وقوله:
(وإن وجدنا أكثرهم لفاسقين (، هذا قول سيبويه والبصريين،
وأما الكوفيون فيجعلون إن هاهنا نافيه بمعنى ما، والمعنى
إلا، والتقدير عندهم ماجاء به إلا أمر، وماوجدنا أكثرهم
إلا فاسقين،
(9/96)
وما يكاد لذين كفروا إلا ليزلقونك. وهذه
دعوى يحتاج فيها إلى حجة قاطعة، واخراج الكلام عن موضوعه
لا يصح إلا إذا بطل معنى نسفه وموضوعه، وقد صح المعنى فى
نسقه وقال صاحب الافعال: يقال علفت الدابه، وأعلفتها،
واللغة الأولى أفصح. وقوله: لقن ثقف. فالقن: الفهم يقال:
لقن الشىء لقنًا ولقانه عقل وذكا، والثقف مثله، يقال: ثقف
الحديث: أسرعت فهمه، وثقفت الشىء: أجدته، ومنه قوله تعالى:
(واقتلوهم حيث ثقفتموهم (وأكثر كلام العرب ثقف لفف، وثقف
لفف أى: راو شاعر رام، وهذا إتباع، عن الخليل والرسل بكسر
الراء: اللبن ونعق ينعق بالغنم إذا صاح بها، عن الخليل وقد
تقدم فى فضل المدينة فى آخر كتاب الحج.
- باب: المغفر
/ 21 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام،
دَخَلَ مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ، وَعَلَى رَأْسِهِ
الْمِغْفَرُ. المغفر من حديد، وهو من آلات الحرب ودخوله به
عليه السلام يوم الفتح كان فى حال القتال، ولم يكن محرما
كما قال ابن شهاب. وقال بعض المتعسفين على مالك: إن هذا
الحديث لم يتابع عليه مالك عن ابن شهاب، وإنما الصحيح فيه
أنه دخل يوم الفتح وعليه عمامة سوداء، ولم يكن عليه مغفر،
واجتجوا بما رواه الترمذي عن
(9/97)
محمد بن _ بشار قال: حدثنا عن الرحمن بن
مهدى، عن حماد بن سلمه، عن أبى الزبير، عن جابر (أن النبى
عليه السلام دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء) . قال
الترمذى: وهذا حديث حسن. قال المؤلف: وهذا تعسف على مالك،
وقد وجدت فى حديث الزهرى تصنيف النسائى أن الأوزاعى روى
هذا الحديث عن الزهرى، كما رواه مالك وذكر فيه المغفر، وقد
يمكن أن يكون عليه السلام عليه مغفر وتحتة عمامة سوداء،
لتتفق الروايات، وسواء دخل عليه السلام مكة بمغفر أو
بعمامة سوداء فحكمهما سواء ولا حرج عليه فى ذلك، لأنه
دخلها كذلك فى الساعة التى أحلت له ولم تحل لأحد قبله
ولابعده، ثم هى حرام إلى يوم القيامة. وإنما اتخذ عليه
السلام مغفرًا وتسلح به فى حال الحرب، وقد أخبر الله تعالى
أن الله يعصمه من الناس، ليس ذلك لأمته ويقتدى به الأئمة
والصالحون.
- باب: البرود والحبرة والشملة
وَقَالَ خَبَّابٌ: شَكَوْنَا إِلَى النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ. / 22 - فيه:
أَنَس، قَالَ: كُنْتُ أَمْشِى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِىٌّ غَلِيظُ
الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِىٌّ، فَجَبَذَهُ
بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى
صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم)
قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ
جَبْذَتِهِ، ثُمَّ
(9/98)
قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، مُرْ لِى مِنْ مَالِ
اللَّهِ الَّذِى عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ، ثُمَّ ضَحِكَ، ثُمَّ
أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ. / 23 - وفيه: سَهْل، جَاءَتِ
امْرَأَةٌ بِبُرْدَةٍ - قَالَ سَهْلٌ: هَلْ تَدْرِى مَا
الْبُرْدَةُ؟ قَالَ: نَعَمْ، هِى الشَّمْلَةُ مَنْسُوجٌ
فِى حَاشِيَتِهَا - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ،
إِنِّى نَسَجْتُ هَذِهِ بِيَدِى أَكْسُوكَهَا فَأَخَذَهَا
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) مُحْتَاجًا
إِلَيْهَا، فَخَرَجَ إِلَيْنَا، وَإِنَّهَا لإزَارُهُ،
فَجَسَّهَا رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، اكْسُنِيهَا، قَالَ: (نَعَمْ) ، فَجَلَسَ مَا
شَاءَ اللَّهُ فِى الْمَجْلِسِ، ثُمَّ رَجَعَ فَطَوَاهَا،
ثُمَّ أَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْقَوْمُ:
مَا أَحْسَنْتَ سَأَلْتَهَا إِيَّاهُ، وَقَدْ عَرَفْتَ
أَنَّهُ لا يَرُدُّ سَائِلا، فَقَالَ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ
مَا سَأَلْتُهَا إِلا لِتَكُونَ كَفَنِى يَوْمَ أَمُوتُ.
قَالَ سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ. / 24 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ النّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) :
(يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِى زُمْرَةٌ هِىَ
سَبْعُونَ أَلْفًا، تُضِىءُ وُجُوهُهُمْ إِضَاءَةَ
الْقَمَرِ) ، فَقَامَ عُكَاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ الأسَدِىُّ،
يَرْفَعُ نَمِرَةً عَلَيْهِ، قَالَ: ادْعُ اللَّهَ لِى يَا
رَسُولَ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَنِى مِنْهُمْ، فَقَالَ:
(اللَّهُمَّ اجْعَلْهُ مِنْهُمْ. . .) الحديث. / 25 -
وفيه: أَنَس، كَانَ أَحَبَّ الثِّيَابِ إِلَى النَّبِىِّ،
عليه السَّلام، يَلْبَسَهَا الْحِبَرَةُ. / 26 - وفيه:
عَائِشَةَ، أن النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) حِينَ
تُوُفِّىَ سُجِّىَ بِبُرْدٍ حِبَرَةٍ. البرود هى: برود
اليمن تصنع من قطن وهى الحبرات يشتمل بها وهى كانت أشرف
الثياب عندهم، إلا ترى انه عليه السلام سجى بها حين توفى،
ولو كان عندهم أفضل من البرود شىء لسجي به.
(9/99)
وفيه: جواز لباس الثياب للصالحين رفيع
الثياب للصالحين وذلك داخل فى معنى قوله تعالى: (قل من حرم
زينة الله التى أخرج لعباده (الآية. وفى حديث أنس ما جبل
عليه السلام عليه من شريف الأخلاق وعظيم الصبر على جفاء
الجهال والصفح عنهم والدفع بالتى هى احسن، إلا ترى أنه ضحك
حين جبذه الاعرابى، ثم امر له بعطاء ولم يؤاخذه. وفيه حديث
سهل كرم النبى - عليه السلام - وإثاره على نفسه ولو كان فى
حال حاجة أخذًا بقوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان
بهم خصاصة (. وفيه أنه ينبغى التبرك بثياب الصالحين ويتوسل
بها إلى الله فى الحياة والممات. وفيه جواز أخذ الهدية
للرجل الكبير مما هو دونه إذا علم طيب ما عنده. وفيه جواز
من سال الإمام والخليفة ماعليه من ثيابه وسيأتى معنى قوله:
(سبقك بها عكاشة) . فى كتاب الطب، فى باب من اكتوى وفضل من
لم يكتو إن شاء الله - تعالى والنمرة والبرد سواء.
- باب الأكسية والخمائص
/ 27 - فيه: ابْن عَبَّاس، وَعَائِشَةَ، لَمَّا نَزَلَ
بِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) طَفِقَ يَطْرَحُ
خَمِيصَةً
(9/100)
لَهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَإِذَا اغْتَمَّ
كَشَفَهَا عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ وَهُوَ كَذَلِكَ:
لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى،
اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ يُحَذِّرُ
مَا صَنَعُوا. / 28 - وفيه: عَائِشَةَ، أنها أَخْرَجَتْ
وَإِزَارًا غَلِيظًا، وَكِسَاءً، وَقَالَتْ: قُبِضَ رُوحُ
النَّبِىِّ، عليه السَّلام، فِى هَذَيْنِ. / 29 - وفيه:
عَائِشَةَ، صَلَّى النّبِىّ، عليه السَّلام، فِى خَمِيصَةٍ
لَهُ لَهَا أَعْلامٌ، فَنَظَرَ إِلَى أَعْلامِهَا
نَظْرَةً، فَلَمَّا سَلَّمَ، قَالَ: (اذْهَبُوا
بِخَمِيصَتِى هَذِهِ إِلَى أَبِى جَهْمٍ، فَإِنَّهَا
أَلْهَتْنِى عَنْ صَلاتِى آنِفًا، وَأْتُونِى
بِأَنْبِجَانِيَّةِ أَبِى جَهْمِ) . الخمائص: أكسية من صوف
سود مربعة بها أعلام، كانت من لباس السلف. وقال الأصمعى:
الخمائص ثياب من خز أو صوف معلمه وهى سود، وقد تقدم فى
كتاب الصلاة.
- باب: اشتمال الصماء
/ 30 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، نَهَى النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، عَن اشْتَمِلَ الصَّمَّاءَ. / 31 - وفيه: أَبُو
سَعِيدٍ الْخُدْرِىَّ، نَهَى النّبِىّ، عليه السَّلام،
عَنْ لِبْسَتَيْنِ، اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ -
وَالصَّمَّاءُ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ
عَاتِقَيْهِ، فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ
ثَوْبٌ - وَاللِّبْسَةُ الأخْرَى احْتِبَاؤُهُ بِثَوْبِهِ،
وَهُوَ جَالِسٌ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَىْءٌ. وقد
تقدم فى كتاب الصلاة.
(9/101)
- باب: الثياب الخضر
/ 32 - فيه: عِكْرِمَةَ: أَنَّ رِفَاعَةَ طَلَّقَ
امْرَأَتَهُ، فَتَزَوَّجَهَا عَبْدُالرَّحْمَنِ بْنُ
الزَّبِيرِ، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَعَلَيْهَا خِمَارٌ
أَخْضَرُ، فَشَكَتْ إِلَيْهَا، وَأَرَتْهَا خُضْرَةً
بِجِلْدِهَا، فَلَمَّا جَاءَ النّبِىّ، عليه السَّلام،
قَالَتْ عَائِشَةُ: مَا رَأَيْتُ مِثْلَ مَا تَلْقَى
الْمُؤْمِنَاتُ لَجِلْدُهَا أَشَدُّ خُضْرَةً مِنْ
ثَوْبِهَا، قَالَ: وَسَمِعَ أَنَّهَا قَدْ أَتَته، فَجَاءَ
وَمَعَهُ ابْنَانِ لَهُ مِنْ غَيْرِهَا، قَالَتْ:
وَاللَّهِ مَا لِى إِلَيْهِ مِنْ ذَنْبٍ، إِلا أَنَّ مَا
مَعَهُ لَيْسَ بِأَغْنَى عَنِّى مِنْ هَذِهِ، وَأَخَذَتْ
هُدْبَةً مِنْ ثَوْبِهَا، فَقَالَ: كَذَبَتْ، وَاللَّهِ
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّى لأنْفُضُهَا نَفْضَ الأدِيمِ،
وَلَكِنَّهَا نَاشِزٌ تُرِيدُ رِفَاعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (فَإِنْ كَانَ ذَلِكِ لَمْ
تَحِلِّى لَهُ - أَوْ لَمْ تَصْلُحِى لَهُ - حَتَّى
يَذُوقَ مِنْ عُسَيْلَتِكِ) ، قَالَ: وَأَبْصَرَ مَعَهُ
ابْنَيْنِ لَهُ، فَقَالَ: (بَنُوكَ هَؤُلاءِ) ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: (هَذَا الَّذِى تَزْعُمِينَ مَا
تَزْعُمِينَ، فَوَاللَّهِ لَهُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنَ
الْغُرَابِ بِالْغُرَابِ) . قال المؤلف: الثياب الخضر من
لباس أهل الجنة قال تعالى: (ويلبسون ثيابا خضرًا من سندس
وإستبرق (. كفى بهذا شرفًا للخضرة وترغيبًا فيها. وقال
هشام بن عروة قال: رايت على عبد الله بن الزبير مطرقا من
خز أخضر كسته أياه عائشة، وروى أبو داود حديثًا عن أبى
رمثة
(9/102)
قال: (انطلقت مع أبى إلى النبي - عليه
السلام - فرأيت عليه بردان أخضران) . فيه أن للرجل ضرب
زوجته عند نشوزها عليه، وإن اثر ضربه فى جلدها ولا حرج
عليه فى ذلك، إلا ترى أن عائشة قالت للنبى - عليه السلام
-: (لجلدها أشد خضرة من ثوبها) ولم ينكر ذلك النبى. وفيه
أن للنساء أن يطالبن أزواجهن عند الامام بقله الوطء وأن
يعرضن بذلك تعريضًا بينًا كالتصريح ولا عار عليهن فى ذلك.
وفيه أن للزوج إذا ادعى عليه ذلك أن يخبر بخلاف ويعرب عن
نفسه ألا ترى قوله: (يا رسول الله، إنى لانفضها نفض
الأديم) وهذه الكناية من الفصاحة العجيبة، وهى أبلغ فى
المعنى من الحقيقة. وفيه الحكم بالدليل، لقوله عليه السلام
فى أبنيه: (لهم أشبه به من الغراب بالغراب) فاستدل عليه
السلام بشبهها على كذبها، ودعواها وقد تقدم هذا الحديث فى
كتاب الطلاق فى باب إذا طلقها ثلاثًا ثم تزوجت بعد العدة
زوجًا فلم يمسها.
- باب الثياب البيض
/ 33 - فيه: سَعْدٍ، قَالَ: رَأَيْتُ بِشِمَالِ
النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَيَمِينِهِ رَجُلَيْنِ،
عَلَيْهِمَا ثِيَابٌ بِيضٌ يَوْمَ أُحُدٍ، مَا
رَأَيْتُهُمَا قَبْلُ وَلا بَعْدُ.
(9/103)
/ 34 - وفيه: أَبُو ذَرٍّ، رأيْتُ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَهُوَ
نَائِمٌ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ وَقَدِ اسْتَيْقَظَ، فَقَالَ:
(مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، ثُمَّ
مَاتَ عَلَى ذَلِكَ، إِلا دَخَلَ الْجَنَّةَ) ، قُلْتُ:
وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ؟ قُلْتُ ذَلِكَ ثلاثًا، قَالَ
لى: كذلِك، عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِى ذَرٍّ. وَكَانَ
أَبُو ذَرٍّ إِذَا حَدَّثَ بِهَذَا، قَالَ: وَإِنْ رَغِمَ
أَنْفُ أَبِى ذَرٍّ. قال المؤلف: الثياب البيض من أفضل
الثياب وهو لباس الملائكة الذين نصروا النبى عليه السلام
يوم أحد وغيره، والرجلان اللذان كانا يوم أحد عن يمين
النبى وعو شماله كانا ملكين، والله أعلم. وكان عليه السلام
يلبس البياض ويفضله، ويحض على لباسه الأحياء، ويأمر بتكفين
الأموات فيه. روى أبو داود قال: حدثنا أحمد بن يونس قال:
ثنا زهير، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن
جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله: (ألبسوا من ثيابكم
البياض، فإنها من خير ثيابكم، وكفنوا فيها موتاكم) . وأما
قوله فى حديث أبى ذر: (من قال: لا إله إلا الله، ثم مات
على ذلك دخل الجنة وإن زنا وإن سرق) . وقول البخارى: فقال
هذا عند الموت إذا تاب وندم وقال: لا إله إلا الله، غفر
له. هذا تفسير يحتاج إلى تفسير آخر، وذلك أن التوبة والندم
إنما تنفع فى الذنوب التى بين العبد وبين ربه، فأما مظالم
العباد فلا تسقطها عنه التوبة.
(9/104)
ومعنى الحديث أن من مات على التوحيد أنه
يدخل الجنة وإن ارتكب الذنوب، ولا يخلد فى النار بذنوبه
كما يقوله الخوارج وأهل البدع، وقد تقدم - فى حديث معاذ أن
النبى - عليه السلام - قال له: (ما من أحد يشهد أن لا إله
ألا الله وأن محمدًا رسول الله صادقا من قلبه إلا حرمه
الله على النار) هذا المعنى مبينًا فى كتاب العلم فى باب
من خص بالعلم قومًا دون قوم. فإن قال قائل: فى ظاهر قول
البخارى هذا أنه لم يوجب المغفرة إلا لمن تاب، فظاهر هذا
يوهم إنقاذ الوعيد لمن لم يتب. قيل له: إنما البخارى
ماأراده وهب بن منبه بقوله فى مفتاح الجنة فى كتاب
الجنائز: أن تحقيق ضمان وعد النبى عليه السلام لمن مات لا
يشرك بالله أو لمنم قال: لا إله إلا الله، ثم مات على ذلك،
أنه إنما يتحصل لهم دون مدافعه عن دخول الجنة، ولاعذاب
ولاعقاب إذا لقوا الله تائبين أو عاملين بما أمر به،
فأولئك يكونون أول الناس دخولا الجنة أو قبلهم تباعات
للعباد، فلا بدا أيضًا لهم من دخول الجنة بعد إنقاذ الله
مشيئته فيهم من عذاب أو مغفرة.
- باب: لبس الحرير للرجال
وافتراشه للرجال وقدر ما يجوز منه
/ 35 - فيه: أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِىَّ، أَتَانَا
كِتَابُ عُمَرَ، وَنَحْنُ مَعَ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ
بِأَذْرَبِيجَانَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) نَهَى عَنِ الْحَرِيرِ إِلا هَكَذَا - وَأَشَارَ
بِإِصْبَعَيْهِ اللَّتَيْنِ تَلِيَانِ الإبْهَامَ - قَالَ:
فِيمَا عَلِمْنَا أَنَّهُ يَعْنِى الأعْلامَ.
(9/105)
/ 36 - وَقَالَ مرة: إن عُمَر كَتَبَ إلى
عُتْبَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، قَالَ: (لا
يُلْبَسُ الْحَرِيرُ فِى الدُّنْيَا، إِلا لَمْ يُلْبَسْ
فِى الآخِرَةِ مِنْهُ) . / 37 - وفيه: حُذَيْفَةُ أنه
اسْتَسْقَى، فَأَتَاهُ دِهْقَانٌ بِمَاءٍ فِى إِنَاءٍ مِنْ
فِضَّةٍ، فَرَمَاهُ بِهِ، وَقَالَ: إِنِّى لَمْ أَرْمِهِ
إِلا أَنِّى نَهَيْتُهُ، فَلَمْ يَنْتَهِ، قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ
وَالْحَرِيرُ وَالدِّيبَاجُ، هِىَ لَهُمْ فِى الدُّنْيَا
وَلَكُمْ فِى الآخِرَةِ) . / 38 - وفيه: أَنَس، َعَنِ
النَّبِى عليه السَّلام، قَالَ: مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ
فِى الدُّنْيَا، لم يَلْبَسَهُ فِى الآخِرَةِ) . قَالَ
شُعْبَةُ: فَقُلْتُ: أَعَنِ النَّبِىِّ، عليه السّلام؟ . .
. الحديث. / 39 - وفيه: ابْنَ عُمَر، عن عُمَرَ، قَالَ:
قَالَ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) : (إِنَّمَا
يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِى الدُّنْيَا مَنْ لا خَلاقَ لَهُ
فِى الآخِرَةِ) . قال الطبرى: اختلف أهل العلم فى معنى هذه
الأخبار فقال بعضهم بعموم خبر عمر، عن النبى (صلى الله
عليه وسلم) أنه قال: (إنما يلبس الحرير فى الدنيا من لا
خلاق له فى الآخرة) . وقال: الحرير كله حرام، قليله
وكثيره، مصمتًا كان أو غير مصمت، فى الحرب وغيرها على
الرجال والنساء، لأن التحريم بذلك قد جاء عاما فليس لأحد
أن يخص منه شيئًا، لأنه لم يصح بخصوصه خبر. وقال آخرون: بل
هذه الأخبار التى وردت عن النبى - عليه السلام - بالنهى عن
لبس الحرير أخبار منسوجة، وقد رخص فيه رسول الله بعد النهى
عن لبسه وأذن لأمته فيه. وقال آخرون ممن قال بتحليل لبسه:
ليست هذه الأخبار منسوجة، ولكنها بمعنى الكراهة لا بمعنى
التحريم.
(9/106)
وقال آخرون: بل هذه الأخبار وإن كانت وردت
بالنهى عن لبس الحرير فإن المراد بها الخصوص، وإنما أريد
بها الرجال دون النساء، وماعنى به الرجال من ذلك فإنما هو
ماكان منه حريرًا مصمتًا، فأما مااختلف سداه ولحمته أو كان
علمًا فى ثوب فهو مباح. وقال آخرون ممن قال بخصوص هذه
الأخبار: إنما عنى بالنهى عن لبس الحرير فى غير لقاء
العدو، فأما عند لقاء العدو فلا بأس يلبسه مباهاة وفخرًا.
ذكر من قال: إن النهى عن الحرير على العموم: روى عطاء، عن
عبد الله مولى أسماء قال: (أرسلت اسماء إلى ابن عمر أنه
بلغنى انك تحرم العلم فى الثوب. قال: إن عمر حدثنى أنه سمع
النبى عليه السلام يقول: من لبس الحرير فى الدنيا لم يلبسه
فى الآخرة. وأخاف أن يكون العلم فى الثوب من لبس الحرير) .
قال أبو عمرو الشيبانى: (رأى على بن أبى طالب على رجل جبه
طيالسه قد جعل على صدره ديباجًا، فقال: ماهذا النتن تحت
لحييك. قال: لا تراه على بعدها) . وعن أبى هريرة أنه رأى
رجل لبنه حرير فى قميصه فقال: (لو أزرار ديباج فقال: تتقلد
قلائد الشيطان فى عنقك) .
(9/107)
وعن الحسن البصرى أنه يكره قليل الحرير
وكثيره للرجال والنساء حتى الأعلام فى الثياب. وكره بن
سيرين العلم فى الثوب وقال: الدليل على عموم التحريم قوله
عليه السلام: (من لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة) .
ومن قال: المراد بالنهى عن لباس الحرير الرجال دون النساء
ورخص فى الأعلام. وروى عن حذيفة (أنه رأى صبيانًا عليهم
قمص حرير فنزعها عنهم وتركها على الجوارى) . وعن ابن عمر
(أنه كان يكره الحرير للرجال، ولا يكرهه للنساء) وعن عطاء
مثله. واحتج الذين أجازوه للنساء بما رواه عبيد الله بن
عمر، عن نافع، عن سعيد بن أبى هند، عن أبى موسى الشعرى
قال: قال رسول الله: (أحل لأناث أمتى الحرير والذهب، وحرم
على ذكروهم) ، وكان ابن عباس لا يرى بأسًا بالأعلام، وقال
عطاء: إذا كان العلم إصبعين أو ثلاثة مجموعة فلا بأس به.
وكان عمر بن عبد العزيز يلبس الثوب سداه كتان وقيامه حرير،
وأجازه ابن أبى ليلى، وقال أبو حنيفة: لا بأس بالخز وإن
كان سداه إبريسم، وكذلك لا بأس بالخز، وإن كان مبطنًا بثوب
حرير، لأن الظاهر الخظ وليس الظاهر الحرير، ولابأس بحشو
القز. وقال الشافعى: إن لبس رجل قباء محشوًا قزًا فلا بأس
به،
(9/108)
لأن الحشو باطن، وإنما إظهار القز للرجال.
وكان النخعى يكره الثوب سداه حرير، وقال طاوس: دعه لمن هو
أحرص عليه. وسئل الأوزاعى عن السيجان الواسطية التى سداها
قز، فقال: لا خير فيها. قال غير الطبرى: وكان مالك يعجبه
ورع ابن عمر، فلذلك كره لباس الخز، قال مالك: إنما كره
الخز، لأن سداه حرير. ذكر من قال: إن الأخبار الواردة
بتحريم لبس الحرير منسوجة بإذنه للزبير بن العوام فى ذلك،
وأن لباسه جائز فى الحرب وغيرها. روى معمر، عن ثابت، عن
أنس قال: لقى عمر عبد الرحمن بن عامر بن ربيعة قال: (شهدت
عمر بن الخطاب وعبد الرحمن بن عوف وعليه قميص حرير، فقال:
ياعبد الرحمن، لا تلبس الحرير والديباج فإنه ذكر لى أن من
لبسه فى الدنيا لم يلبسه فى الآخرة) . وروى ابن أبى ذئب،
عن سفينة مولى ابن عباس قال: (دخل المسور بن محرمة على ابن
عباس يعوده، وعلى ابن عباس ثوب إستبرق وبين يديه كانون
عليه تماثيل فقال: ماهذا اللباس عليك؟ قال: ماشعرت به وما
أظن النبى نهى عنه إلا للتكبر والتجبر، ولسنا كذلك بحمد
الله، قال: وماهذه التماثيل؟ قال: أما
(9/109)
تراها قد أحرقناها بالنار، فلما خرج المسور
قال ابن عباس: ألقوا هذا الثوب عنى، واكسروا هذه التماثيل،
وبيعوا هذا الكانون) . وعن جبير بن حية أنه اشترى جارية
عليها قباء من ديباج منسوج بذهب، فكان يلبسه، فكأن اصحابه
عابوا عليه ذلك، فقال: أنه يدفئنى، وألبسه فى الحرب. قال
الطبرى: والصواب فى حديث عمر عن النبى - عليه السلام أنه
على الخصوص، وقوله: (إنما هذه لباس من لا خلاق له يعنى: من
الحرير المصمت من الرجال، فى غير حال المرض والحرب، لغير
ضرورة دعته إلى لبسه تكبرًا واختيالا فى الدنيا لم يلبسه
فى الآخرة، ولباس ذلك كذلك لباس من لا خلاق له. وإنما قلنا
عنى به من الحرير المصمت، لقيام الحجة بالنقل الذى يمتنع
منه الكذب أنه لا بأس بلبس الخز، والخز لا شك سداه حرير
ولحمته وبر، فإذا كانت الحجة ثابتة بتحليله، فسبيل كل
مااختلف سداه ولحمته سبيل الخز، أنه لا بأس به فى كل حال
للرجال والنساء، وإنما قلنا عنى به كان ثوبًا دون ماكان
علمًا فى ثوب، لصحة الخبر عن النبى - عليه السلام - أنه
استثنى من الحرير، إذ نهى عن لبسه ماكان منه قدر أصبعين أو
ثلاث أو أربع. وقال عنى به من لم تكن به عله تضطرة إلى
لبسه، لصحة الخبر عن النبى - عليه السلام - أنه ارخص
للزبير بن العوام فى الحرير وعبد الرحمن لحكه كانت
بجلودهما فكان معلومًا بذلك، إذ كل عله كانت بالإنسان يرجى
بلبس الحرير خفتها أن له لبسه معها، وأن من كانت بالأنسان
يرجى بلبس الحرير خفتها أن له لبسه معها، وأن من
(9/110)
قصد إلى دفع ماهو أعظم أذى من الحكة وذلك
كأسلحة العو، أن له من ذلك ماكان لعبد الرحمن والزبير بسبب
الحكة. وقلنا: الخبر خاص للرجال دون النساء، لصحة خبر أبى
موسى عن النبى - عليه السلام - أنه قال: (الذهب والحرير
حرام على ذكور أمتى، حل لإناثها) . فبان أن جميع الأخبار
المروية فى الحرير غير دافع منها خبر غيره، ولاناسخ فيها
ولامنسوخ، ولكن يعضد بعضها بعضًا، وقد تقدم فى كتاب الجهاد
واختلاف العلماء فى لباس الحرير فى الحرب. قال الطبرى:
واختلفوا فى قوله: (إنما يلبسها من خلاق له فى الآخرة)
وقال آخرون: ما له فى الآخرة من وجهة. وقال آخرون: ما له
فى الآخرة. وقال غير الطبرى: قوله: (إنما يلبسها من لا
خلاق له فى الآخرة) يعنى: أنه من لباس المشركين فى الدنيا،
فينبغى أن لا يلبسه المؤمنون.
- باب: مس الحرير من غير لبس
/ 40 - فيه: الْبَرَاء، أُهْدِىَ لِلنَّبِىِّ، عليه
السَّلام، ثَوْبُ حَرِيرٍ، فَجَعَلْنَا نَلْمُسُهُ،
وَنَتَعَجَّبُ مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام:
(أَتَعْجَبُونَ مِنْ هَذَا) ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ:
(مَنَادِيلُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فِى الْجَنَّةِ خَيْرٌ
مِنْ هَذَا) . قال المؤلف: ليس النهى الحرير من أجل نجاسة
عينه
(9/111)
فيحرم لمسه باليد، وإنما نهى عن لبسه من
أجل أنه ليس من لباس المتقين، وعينه مع ذلك طاهرة، فلذلك
جاز لمسه والانتفاع بثمنه.
- باب: افتراش الحرير قَالَ عَبِيدَةُ: هُوَ كَلُبْسِهِ
. / 41 - فيه: حُذَيْفَةَ، نَهَانَا النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، أَنْ نَشْرَبَ فِى آنِيَةِ الذَّهَبِ
وَالْفِضَّةِ، أَوْ نَأْكُلَ فِيهَا، وَعَنْ لُبْسِ
الْحَرِيرِ وَالدِّيبَاجِ، وَأَنْ نَجْلِسَ عَلَيْهِ. قال
المؤلف: هذا الباب رد من أجاز افتراش الحرير والارتفاق به،
وهو قول عبد العزيز بن أبى سلمه، وروى وكيع، عن مسعر، عن
راشد مولى بنى تميم قال: رايت فى مجلس ابن عباس مرفقة
حرير. والجمهور على خلافه، وحجتهم حديث حذيفة أن النبى -
عليه السلام - نهى عن لباس الحرير وعن الجلوس عليه، وهذا
نصر فى المسالة، ولو عدمنا هذا النص لاستدللنا على أن
الافتراش والجلوس لباس من حديث أنس فى الحصير الذى اسود من
طول ما لبس. وقد روى وهب، عن ابن لهيعة، عن أبى النضر ان
عبد الله ابن عامر صنع صنيعًا، فدعا الناس وكان فيهم سعد
بن أبى وقاص، فلما أتى أمر بمحبس من حرير كان على سريره
فنزع، فلما دخل قال
(9/112)
له ابن عامر ياأبا إسحاق، إنه كان على
السير محبس من حرير فلما سمعنا بك نزعناه. قال سعد: لأن
أقعد على جمر الغضا أحب إلى من أن أقعد على محبس من حرير.
- باب: لبس القسي
وَقَالَ عَلِىّ بْن أَبِى طالب: (الْقَسِّيَّةُ) ، ثِيَابٌ
أَتَتْنَا مِنَ الشَّامِ - أَوْ مِنْ مِصْرَ - مُضَلَّعَةٌ
فِيهَا حَرِيرٌ، وَفِيهَا أَمْثَالُ الأتْرُنْجِ
وَالْمِيثَرَةُ، كَانَتِ النِّسَاءُ تَصْنَعُهُ
لِبُعُولَتِهِنَّ مِثْلَ الْقَطَائِفِ يُصَفِّرْنَهَا.
وَقَالَ جَرِيرٌ، عَنْ يَزِيدَ: الْقَسِّيَّةُ ثِيَابٌ
مُضَلَّعَةٌ يُجَاءُ بِهَا مِنْ مِصْرَ، فِيهَا الْحَرِيرُ
وَالْمِيثَرَةُ جُلُودُ السِّبَاعِ. / 42 - فيه:
الْبَرَاء، نَهَانَا النَّبِىُّ، عليه السَّلام، عَنِ
الْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ وَالْقَسِّىِّ. قال الطبرى: القسى
ثياب تعمل من الحرير بقرية بمصر يقال لها القسى. وقال أبو
عبيد: وأصحاب الحديث يقولون: القسى بكسر القاف، وأهل مصر
يفتحون القاف تنسب إلى بلاد يقال لها: قس. وسأذكر المثيرة
بعد هذا.
- باب: ما يرخص للرجال من
الحرير للحكة
/ 43 - فيه: أَنَس، قَالَ: رَخَّصَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، لِلزُّبَيْرِ وَعَبْدِالرَّحْمَنِ فِى لُبْسِ
الْحَرِيرِ لِحِكَّةٍ بِهِمَا.
(9/113)
قد تقدم كلام الطبري أن هذا الحديث يدل أنه
عن لبس الحرير من لم تكن به عله تضطره إلى لبسه، وكان
معلومًا بترخيصه، عليه السلام، فى لبس الحرير للحكة، أن كل
عله كانت بالإنسان يرجى بلبس الحرير فخفتها أنه يجوز له
لباسه معها، وأن من قصد بلبسه إلى ماهو أعظم من أذى من أذى
الحكة كنيل العدو واسلحتهم أن ذلك له جائز، وقد تقدم فى
كتاب الجهاد.
- باب: الحرير للنساء
/ 44 - فيه: عَلِىّ، قَالَ: كَسَانِى النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، حُلَّةً سِيَرَاءَ، فَخَرَجْتُ فِيهَا،
فَرَأَيْتُ الْغَضَبَ فِى وَجْهِهِ، فَشَقَّقْتُهَا بَيْنَ
نِسَائِى. / 45 - وفيه: عُمَرَ، أنه رَأَى حُلَّةَ
سِيَرَاءَ تُبَاعُ فِى السوق، فَقَالَ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ، لَوِ ابْتَعْتَهَا تَلْبَسُهَا لِلْوَفْدِ إِذَا
أَتَوْكَ وَالْجُمُعَةِ، قَالَ: (إِنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ
مَنْ لا خَلاقَ لَهُ) ، وَأَنَّ النَّبِىَّ، عليه
السَّلام، بَعَثَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى عُمَرَ حُلَّةَ
سِيَرَاءَ حَرِيرٍ كَسَاهَا إِيَّاهُ، فَقَالَ عُمَرُ:
كَسَوْتَنِيهَا، وَقَدْ سَمِعْتُكَ تَقُولُ، فِيهَا مَا
قُلْتَ؟ فَقَالَ: (إِنَّمَا بَعَثْتُ إِلَيْكَ؛
لِتَبِيعَهَا أَوْ تَكْسُوَهَا) . / 46 - وفيه: أَنَس،
رَأَى عَلَى أُمِّ كُلْثُومٍ بِنْتِ النّبِىّ، عليه
السَّلام، بُرْدَ حَرِيرٍ سِيَرَاءَ. العلماء متفقون أن
الحرير مباح للنساء، إلا ما روى عن الحسن البصرى قال يونس
بن عبيد: كان الحسن يكره قليل الحرير وكثيرة للرجال
والنساء، حتى الأعلام فى الثياب. وأحاديث هذا الباب خلاف
قول الحسن، ولو كان الحرير لا يجوز لباسه للنساء ماجهل ذلك
على بن أبى طالب ولا شق الحلة بين نسائه، ولا جاز لأم
كلثوم بنت النبى لباس الحرير، وروى معمر عن
(9/114)
الزهري، عن أنس قال: (رأيت على زينب بنت
رسول الله برد سيراء من حرير) قال الأصمعى: سيراء: ثياب
فيها خطوط من حرير، ويقال من قز، وإنما يقال لها: سيراء
لتسيير الخطوط فيها. وقال الزهرى: السيراء المضلع بالقزى،
وعن الخليل مثله، وهذا مذهب من لم يجز للرجال لباس المصلع
بالقزى، وعن الخليل مثله، وهذا مذهب من لم يجز للرجال لباس
الثوب إذا خالطه حرير أو كان فيه منه سدى أو لحمة، والآثار
تدل أن الحلة من حرير محض. روى حماد بن زيد، عن أيوب، عن
نافع، عن أبى عمر قال عمر: (يا رسول الله، إنى مررت بعطارد
وهو يعرض حلة حرير للبيع فلو اشتريتها للجمعة والوفد. . .)
وذكر الحديث، وقال الزهرى، عن سالم، عن أبيه حلة من إستبرق
وهو غليظ الحرير، وعلى هذا تدل الآثار أنها كانت من حرير
محض.
- باب: ما كان النبى عليه
السلام يتجوز من الباس والبسط
/ 47 - فيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ عُمَرَ: دَخَلْتُ،
عَلَى النَّبِىّ، عليه السَّلام، فإِذَا هو عَلَى حَصِيرٍ
قَدْ أَثَّرَ فِى جَنْبِهِ، وَتَحْتَ رَأْسِهِ مِرْفَقَةٌ
مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، وَإِذَا أُهُبٌ مُعَلَّقَةٌ،
وَقَرَظٌ. / 48 - وفيه: هِنْدُ بِنْتُ الْحَارِثِ، عَنْ
أُمِّ سَلَمَةَ، قَالَتِ: اسْتَيْقَظَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، مِنَ اللَّيْلِ، وَهُوَ يَقُولُ: (لا إِلَهَ
إِلا اللَّهُ، مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ
الْفِتْنَةِ؟ مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الْخَزَائِنِ؟ مَنْ
يُوقِظُ صَوَاحِبَ الْحُجُرَاتِ؟ كَمْ مِنْ كَاسِيَةٍ فِى
الدُّنْيَا عَارِيَةٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) . قَالَ
الزُّهْرِىُّ: وَكَانَتْ هِنْدٌ لَهَا أَزْرَارٌ فِى
كُمَّيْهَا بَيْنَ أَصَابِعِهَا.
(9/115)
قال المؤلف: كان النبى - عليه السلام -
ينام على الحصير حتى يؤثر فى جنبه، ويتخذ من الثياب مايشبه
تواضعه (صلى الله عليه وسلم) وزهده فى الدنيا توفيرًا لحظة
فى الآخرة، وقد خيره الله ان يكون نبيا ملكا أو نبيا
عبدًا، فاختار أن يكون نبيًا عبدًا إيثار للآخرة على
الدنيا، وتزهيدًا لأمته فيها ليقتدوا به فى أخذ البلغة من
الدنيا، إذ هى اسلم من الفتنة التى تخشى على من فتحت عليه
زهرة الدنيا، ألا ترى قوله عليه السلام: (ماذا أنزل الليلة
من الفتنة؟ ماذا أنزل من الخزائن؟) فقرن عليه السلام
الفتنة بنزول الخزائن، فدل ذلك على أن الكفاف والقصد فى
أمور الدنيا خير من الإكثار واسلم من الفتنة. فإن قال
قائل: حديث أم سلمه لا يوافق معنى الترجمة قيل: بل موافق
لها، وذلك أن النبى عليه السلام حذر أهله وجميع المؤمنات
من لباس رقيق الثياب الواصفة لأجسامهن، لقوله: (كم من
كاسية فى الدنيا عارية يوم القيامة) وفهم منه أن عقوبة
لابسة ذلك أن تعرى يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، وقام
الدليل من ذلك أنه عليه السلام حض أزواجه على استعمال خشن
الثياب السائرة لهن حذرًا أن يعرين فى الآخرة. ألا ترى قول
الزهرى: وكانت هند لها أزرار فى كميها بين اصابعها. وإنما
فعلت ذلك، لئلا يبدو من سعة كميها شىء من جسدها، فتكون وإن
كانت ثيابها غير واصفة لجسدها داخلة فى
(9/116)
معنى قوله: (كاسية عارية) فلم يتخذ النبى
عليه السلام ولا أهله من الثياب إلا الساتر لهن غير
الواصف، وهو كان فعل السلف وهو موافق للترجمة. وقوله: أهب،
جمع إهاب عن سيبويه، والقرظ: ورق السلم يدبغ به الأدم، وقد
تقدم معنى حديث ابن عباس فى كتاب النكاح فى باب موعظة
الرجل ابنته لحال زوجها.
- باب ما يدعى به لمن لبس ثوبًا (جديدًا
/ 49 - فيه: أُمُّ خَالِدٍ، قَالَتْ: أُتِى النّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ،
فَقَالَ: (مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ)
؟ فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ، قَالَ: (ائْتُونِى بِأُمِّ
خَالِدٍ) ، فَأُتِىَ بِى النَّبِىُّ، عليه السَّلام،
فَأَلْبَسَنِيهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: (أَبْلِى
وَأَخْلِقِى) مَرَّتَيْنِ، فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ
الْخَمِيصَةِ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَىَّ، وَيَقُولُ:
(يَا أُمَّ خَالِدٍ، هَذَا سَنَا، وَيَا أُمَّ خَالِدٍ
هَذَا سَنَا) . وَالسَّنَا بالْحَبَشِيَّةِ: الْحَسَنُ.
قال المؤلف: من روى اخلقى بالقاف فهو تصحيف، والمعروف من
كلام العرب أخلفى بالفاء، يقال: خلفت الثوب إذا أخرجت
باليه ولفقته، ويقال: أبل وأخلف أى: عش فخرق ثيابك
وارقعها، هذا كلام العرب. وقد روى داود، عن عمرو بن عون،
عن ابن المبارك، عن
(9/117)
الجريرى، عن أبى نضرة قال: (كان أصحاب رسول
الله إذا لبس أحدهم ثوبًا جديدا، قيل له: تبلى ويخلف الله)
. وقوله: (فأسكت القوم) قال صاحب الأفعال يقال: سكت
سكوتًا، وأسكت: صمت، ويقال: بل معنى أسكت: أطرق.
- باب: التزعفر للرجال
/ 50 - فيه: أَنَس، قَالَ: نَهَى النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، أَنْ يَتَزَعْفَرَ الرَّجُلُ. قال المؤلف: نهيه
عليه السلام عن التزعفر للرجال معناه فى الجسد. وقد روى
أبو داود، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، عن عطاء
الخراسانى، عن يحى بن يعمر، عن عمار بن ياسر قال: (قدمت
على أهلى ليلاً وقد تشققت يداى فخلقونى بزعفران، فغدوت على
النبى عليه السلام فسلمت عليه ولم يرحب بى، فقال: اذهب
فاغسل عنك هذا. فذهب فغسلته، ثم جئت وقد بقى على منه ردع
فسلمت فلم يرد على ولم يرحب بى وقال: اذهب فاغسل عنك هذا.
فذهبت فغسلته ثم جئت، فسلمت فرد على ورحب بى وقال: إن
الملائكة لا تحضر جنازة الكافر بخير، ولا المتضمخ
بالزعفران، ولا الجنب) . وقد رواه بن عطاء بن أبى الجوزاء،
عن يحى بن يعمر، عن رجل عن عمار، فهو حديث معلول.
(9/118)
فإن قيل: فنهيه عليه السلام عن التزعفر
للرجال محملة التحريم. قيل: لا، بدليل حديث أنس أن عبد
الرحمن بن عوف قدم على النبى عليه السلام وبه أثر صفرة،
وروى (وضر صفرة) وزاد حماد بن سلمه، عن ثابت: (وبه ردع من
زعفران، فقال له: مهيم؟ فقال: تزوجت. . .) الحديث، ولم يقل
له النبى - عليه السلام - أن الملائكة لا تحضر جنازتك
بخير، ولا أن هذه الصفرة التى التصقت بجسمك حرام بقاءها
عليك، ولا أمره بغسلها، فدل أن نهيه عليه السلام عن
التوعفر لمن لم يكن عروسًا إنما هو محمول على الكراهية،
لأن توعفر الجسد من الرفاهية التى نهى النبى - عليه السلام
- عنها بقوله: (البذاذة من الإيمان) .
30 - باب: الثوب المزعفر
/ 51 - فيه: ابْن عُمَر، نَهَى النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) أَنْ يَلْبَسَ الْمُحْرِمُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا
بِوَرْسٍ أَوْ بِزَعْفَرَانٍ. قال المؤلف: اختلف العلماء
فى تأويل هذا الحديث، فحمل قوم نهيه عليه السلام عن الثوب
المزعفر فى حال الإحرام خاصة. وقالوا: ألا ترى قول ابن عمر
أن النبى عليه السلام إنما نهى المحرم عن ذلك، وراوى
الحديث أعلم بمخرجه وسببه، وأجازوا لباس الثياب المصبوغة
بالزعفران فى غير حال الإحرام للرجال، وروى ذلك عن ابن
عمر، وهو قول مالك وأهل المدينة، قال مالك: رأيت عطاء بن
يسار يلبس الرداء والازرار المصبوغ بالزعفران ورأيت ابن
(9/119)
هرمز، ومحمد بن المنكدر يفعلان، ورأيت فى
رأس ابن المنكدر الغالية. وحملت طائفة نهيه عليه السلام عن
لباس المزعفر للرجال فى حال الإحرام وفى كل حال وهو قول
الكوفيين والشافعى.
31 - باب: الثوب الأحمر
/ 52 - فيه: الْبَرَاء، قَالَ: كَانَ النَّبِى عليه
السَّلام، مَرْبُوعًا: وَقَدْ رَأَيْتُهُ فِى حُلَّةٍ
حَمْرَاءَ مَا رَأَيْتُ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْهُ. قال
الطبرى: إن قال قائل: ما وجه هذا الحديث وقد عارضه حديث
آخر وهو ما حدثنا حماد بن محمد عن عمارة السدى، حدثنا على
بن قادم، حدثنا عبيد الله بن عبد الرحمن بن موهب، عن عمه،
عن أبى هريرة قال: (خرج عثمان حاجا إلى مكه، واتينا محمد
بن عبد الله بن جعفر بامرأته فبات عندها، ثم غدا إلى مكة
فأتى الناس، وهم بملل قبل أن يروحوا، فرآه عثمان وعليه
ملحفة معصفرة مقدمة، فانتهز، وقال: تلبس المعصفر وقد نهى
رسول الله عليه السلام عنه؟ فقال على: إن رسول الله لم
ينهه ولا إياك إنما نهانى أنا. فسكت عثمان) . قال الطبرى:
وقد اختلف السلف فى ذلك، فمنهم من رخص فى لبس ألوان الثياب
المصبغه بالحمرة مشبعة كانت أو غير مشبعة، ومنهم من كره
المشبعة، ورخص فيما لم يكن مشبعًا، ومنهم من كره لبس
(9/120)
جميع الثياب مشبعها وغير مشبعها، ومنهم من
رخص فيه للمهنة وكره للبس. ذكر من رخص فى جميع الوان
الثياب الصبغة. روى بريدة، عن على أنه نهض بالراية يوم
خبير وعليه حلة أرجوان حمراء، وقال أبو ظبيان: رايت على
على إزارًا أصفر. وقال الأحنف بن قيس: رأيت على عثمان
ملاءة صفراء. وقال عروة بن الزبير: قال عبد الله بن
الزبير: كان على الزبير يوم بدر ملاءه صفراء، ونزلت
الملائكة يوم بدر معتمين بعمائم صفر. وقال ابن سيرين: كان
أبو هريرة يلبس المغيرة. وقال عمران بن مسلم: رأيت على أنس
بن مالك إزار معصفرًا. وكان ابن المسيب يصلى وعليه برنس
ارجوان. ولبس المعصفر: عروة، والشعبى، وابو وائل، وابراهيم
النخعى، والتيمى، وابو قلابة، وجماعة، وقال مالك فى
الموطأ، فى الملاحف المعصفرة للرجال فى البيوت والأفنية:
ولا أعلم شيئًا من ذلك حرامًا وغير ذلك من الثياب أحب إلى.
وقال غير الطبرى: أجاز لباس المعصفر: البراء، وطلحة بن
عبيد الله، وهو قول الكوفيين، والشافعى. ذكر من رخص فى ذلك
فيما امتهن، وكره مما لبس: وروى عطاء، عن ابن عباس أنه
قال: لا بأس بما امتهن من المعصفر ويكره ما لبس منه.
(9/121)
ذكر من كره مااشتدت حمرته واباح ماخف منها:
روى ذلك عن عطاء، وطاوس، ومجاهد. ذكر من كره لبس جميع
الوان الحمرة: روى أيوب، عن إبراهيم الخزاعى قال: حدثنا
عجوز لنا قالت: كنت أرى عمر إذا راى على الرجل الثوب
المعصفر ضربه وقال: دعوا هذه الترافات للنساء. ورأى ابن
محيريز على ابن عليه رداء موردًا فقال: دع ذا عنا. وروى
يحى بن أبى كثير، عن محمد بن إبراهيم، عن خالد بن معدان،
عن جبير بن نفير، عن عبد الله بن عمرو قال: (رآنى رسول
الله عليه السلام وعلى ثياب معصفرة فقال: القها فإنها ثياب
الكفار) . قال الطبرى: وحجة الذين أجازوا لباس المعصفرة
والمصبغ بالحمرة للرجال حديث البراء أن النبى عليه السلام
لبس حلة حمراء، والذين كرهوا ذلك للرجال اعتمدوا على حديث
عبد الله بن عمرو، أن النبى - عليه السلام - أغلظ له القول
فى الثياب المعصفر. والذين لم يروا بامتهانه بأسا وكرهوا
لبسه قالوا: إنما ورد الخبر بالنهى عن لبسه دون امتهانه
وافتراشه وقالوا: لا يعدى بالنهى عن ذلك موضعه. والذين
رخصوا من ذلك فيما خفت حمرته بحديث قتيلة أنها قدمت على
النبى - عليه السلام - قالت: (فرأيته قاعدًا القرفصاء
وعليه أسمال - ملاءتين كانتا بزعفران - قد نفضتا) .
والصواب عندنا أن لبس المعصفر وشبه من الثياب المصبغة
بالحمرة وغيرها من الأصباغ غير حرام، بل ذلك مطلق مباح غير
أنى أحب
(9/122)
للرجال توقى لبس ماكان مشبعًا صبغة، وأكره
لهم لبسه ظاهرًا فوق الثياب لمعنين: أحدهما: ماورى فى ذلك
عن النبي (صلى الله عليه وسلم) من الكراهية، والثانى: أنه
شهرة وليس من لباس أهل المروءة فى زماننا هذا، وإن كان قد
كان لباس كثير من أهل الفضل والذين قبلنا، فالذى ينبغى
للرجل أن يتزى فى كل زمان بزى أهله مالم يكن إثمًا لأن
مخالفة الناس فى زيهم ضرب من الشهرة، ويكون الجمع بين
الحديثين أن لبسه عليه السلام للحمرة ليعلم أمته أن النهى
عنه لم يكن على وجه التحريم للبسه، ولكن على وجه الكراهية،
إذ كان الله تعالى قد ندب أمته إلى الاستنان به.
32 - باب: الميثرة الحمراء
/ 53 - فيه: الْبَرَاء، أَمَرَنَا النَّبِى عليه السَّلام:
بِسَبْعٍ، وَنَهَانَا عَنْ سَبْعٍ: عَنْ لُبْسِ
الْحَرِيرِ، وَالدِّيبَاجِ، وَالْقَسِّىِّ،
وَالإسْتَبْرَقِ، وَالْمَيَاثِرِ الْحُمْرِ. قال الطبرى:
المثيرة: وطأ كان النساء يوطئه لأزواجهن من الأرجوان
الأحمر على سروج خيلهم أو من الديباج والحرير، وكان ذلك من
مراكب العجم. قال الطبرى: على سروج خيلهم أو من الديباج
والحرير، وكان ذلك من مراكب العجم. وقال أبو عبيد: المياثر
الحمر التى جاء فيها النهى، فإنها كانت من مراكب الأعاجم
من ديباج أو حرير. قال المؤلف: فقول أبى عبيد يدل أن
المياثر إذا لم تكن من
(9/123)
حرير أو ديباج من صوف أحمر فإنه يجوز
الركوب عليها، وليس النهى عنها كالنهى إذا كانت من حرير أو
ديباج، وهذا يشبه قول مالك. قال ابن وهب: سئل مالك عن
مثيره أرجوان أيركب عليها؟ قال ماأعلم حرامًا، ثم قرأ: (قل
من حرم زينة الله) الآية. والإستبرق: غليظ الديباج
والحرير، وهو بالفارسية استبره، وكان الأصمعى يقول: عربتها
العرب. والسندس: مارق منه.
33 - باب: النعال السبتية
وغيرها
/ 54 - فيه: أَنس: قيل له: أَكَانَ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) يُصَلِّى فِى نَعْلَيْهِ؟ قَالَ: نَعَمْ. / 55
- وفيه: عُبَيْدِ بْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ لابْن عُمَر:
رَأَيْتُكَ تَصْنَعُ أَرْبَعًا. . . . الحديث، قَالَ:
أَمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ، فَإِنِّى رَأَيْتُ
النبِىّ، عليه السَّلام، يَلْبَسُ النِّعَالَ الَّتِى
لَيْسَ فِيهَا شَعَرٌ وَيَتَوَضَّأُ فِيهَا، فَأَنَا
أُحِبُّ أَنْ أَلْبَسَهَا. / 56 - وفيه: ابْن عُمَر،
قَالَ: النَّبِىّ، عليه السَّلام: (مَنْ لَمْ يَجِدْ
نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ. . .) الحديث. قال
المؤلف: النعال من لباس النبي (صلى الله عليه وسلم) وخيار
السلف. قال مالك: والانتعال من عمل العرب وقد روى أبو
داود، عن محمد بن الصباح، عن ابن أبى الزناد، عن موسى بن
عقبة، عن أبى الزبير، عن جابر قال: (كنا مع النبى فى سفر
فقال: أكثروا من النعال، فإن الرجل لا يزال راكبًا ما
انتعل) . وقال ابن وهب: النعال السبتية هى التى لا شعر
فيها.
(9/124)
وقال الخليل والأصمعى: السبت: الجلد
المدبوغ بالقرظ. قال أبو عبيد: وإنما ذكرت السبتية، لأن
أكثرهم فى الجاهلية كان يلبسها غير مدبوغة إلا أهل السعه
منهم. وذهب قوم إلى أنه لا يجوز لبس النعال السبتية فى
المقابر خاصة، واحتجوا بما رواه سليمان بن حرب: حدثنا
الأسود بن شيبان، حدثنى خالد بن سمير، حدثنى بشير بن نهيك
قال: حدثنى بشير بن الخصاصية قال: (بينما أنا أمشى فى
المقابر وعلى نعلان فإذا رسول الله فقال: إذا كنت فى مثل
هذا الموضع فاخلع نعليك فخلعتهما) فأخذ أحمد بن حنبل بهذا
الحديث، وقال: الأسود بن شيبان ثقة، وبشير بن نهيك ثقة.
وقال لآخرون: لا بأس بذلك، وحجتهم لباسه عليه السلام
للنعال السبتية وفيه السوة الحسنة، ولو كان لباسها فى
المقابر لا يجوز لبين ذلك لأمته، وقد يجوز أن يأمره عليه
السلام بخلعهما لأذى كان فيهما أو غير ذلك. ويؤيد هذا قوله
عليه السلام: (إن العبد إذا وضع فى قبره وتولى عنه اصحابه
إنه ليسمع قرع نعالهم) قاله الطحاوى. قال: وثب عن النبى -
عليه السلام - أنه صلى فى نعليه فلما كان دخول المسجد
بالنعل غير مكروه، وكانت الصلاة بها غير مكروهه، كان المشى
بها بين القبور أحرى ألا يكون مكروها.
(9/125)
وأما الصفرة فقد روى عن ابن عمر كان يصبغ
بها لحيته، روى عنه أنه كان يصبغ بها ثيابه، وروى ابن
إسحاق، عن سعيد المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن
عمر: (رأيتك تصفر لحيتك. فقال: إن رسول الله كان يصفر
بالورس، فأنا أحب أن أصفر به كما كان رسول الله يصبغ) .
وروى عبد الرازق، عن معمر، عن أيوب، عن نافع أن ابن عمر
كا، يأمر بشىء من زعفران ومشق، فيصبغ به ثوبه فيلبسه. قال
عبد الرزاق: وربما رأيت معمرًا يلبسه. وروى ابن وهب قال:
أخبرنى عمر بن محمد، عن زيد بن أسلم، قال: (كان رسول الله
عليه السلام يصبغ ثيابه بالزعفران حتى العمامة) . قال
المهلب: والصفرة أبهج الألوان للنفوس، كذلك قال ابن عباس:
أحسن الألوان كلها الصفرة، وتلا قوله تعالى: (صفراء فاقع
لونها تسر الناظرين (فقرن بها السرور.
34 - باب: يبدأ بالنعل اليمنى
/ 57 - فيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ: كَانَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، يُحِبُّ التَّيَمُّنَ فِى طُهُورِهِ
وَتَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ. هذا من باب الأدب وتفضيل
الميامن على المياسر فى كل شىء وقد تقدم فى الوضوء.
(9/126)
35 - باب: ينزع نعله
اليسرى
/ 58 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ النَّبِىّ،
عليه السَّلام: (إِذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ
بِالْيَمِينِ، وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ؛
لِيَكُنِ الْيُمْنَى أَوَّلَهُمَا تُنْعَلُ وَآخِرَهُمَا
تُنْزَعُ) . وهذا معناه أيضًا تفضيل اليمين على الشمال
كالحديث الأول.
36 - باب: لا يمشى فى نعل واحد
/ 59 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام: (لا يَمْشِى أَحَدُكُمْ فِى نَعْلٍ وَاحِدَةٍ
لِيُحْفِهِمَا جَمِيعًا أَوْ لِيُنْعِلْهُمَا جَمِيعًا) .
قال الأبهرى: كره ذلك - والله أعلم - لأن الماشى فى نعل
واحد ينسب إلى اختلال الرأى وضعف الميز. وقال غيره: إنما
كره ذلك والله أعلم - لأنه لم يعدل بين جوارحه وهو من باب
المثله. وروى عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار قال:
(انقطع شسع نعل عبد الله بن عمر فمشى أذرعًا فى نعل واحدة)
.
37 - باب: قبالان فى نعل واحد ومن رأى قبالا واحدًا واسعًا
/ 60 - فيه: أَنَسٌ أَنَّ نَعْلَ النَّبِىِّ، عليه
السَّلام، كَانَ لَهَا قِبَالانِ. هذا كله مباح قبالان
وقبال، وليس فى ذلك شىء لا يجزئ غيره.
(9/127)
38 - باب: القبة
الحمراء (من أدم
/ 61 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
أَتَيْتُ النَّبِىَّ، عليه السَّلام، وَهُوَ فِى قُبَّةٍ
حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ. / 62 - وفيه: أَنَس، أَرْسَلَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) إِلَى الأنْصَارِ،
فَجَمَعَهُمْ فِى قُبَّةٍ حَمْرَاءَ مِنْ أَدَمٍ. فيه: أن
الأدم يجوز استعماله فى القباب والبسط وماأشبه ذلك للأئمة
الصالحين.
39 - باب: الجلوس على الحصير
(ونحوها
/ 63 - فيه: عَائِشَةَ، كَانَ النَّبِىَّ، عليه السَّلام،
يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ، فَيُصَلِّى،
وَيَبْسُطُهُ فِى النَّهَارِ، فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ. . .
الحديث. فيه: تواضع النبى - عليه السلام - ورضاه باليسير
وصلاته على الحصير، وجلوسه عليها لسن ذلك لأمته.
40 - باب: المزرر بالذهب
/ 64 - فيه: الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: أَنَّ أَبَاهُ
قَالَ لَهُ: بَلَغَنِى أَنَّ النَّبِيَّ، عليه السَّلام،
قَدِمَتْ عَلَيْهِ أَقْبِيَةٌ، فَهُوَ يَقْسِمُهَا،
فَاذْهَبْ بِنَا إِلَيْهِ، فَذَهَبْنَا، فَوَجَدْنَا
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى مَنْزِلِهِ، فَقَالَ
لِى: يَا بُنَىِّ، ادْعُ لِى النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) فَأَعْظَمْتُ ذَلِكَ، فَقُلْتُ: أَدْعُو لَكَ
رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ فَقَالَ: يَا
بُنَيِّ،
(9/128)
إِنَّهُ لَيْسَ بِجَبَّارٍ، فَدَعَوْتُهُ
فَخَرَجَ، وَعَلَيْهِ قَبَاءٌ مِنْ دِيبَاجٍ مُزَرَّرٌ
بِالذَّهَبِ، فَقَالَ: (يَا مَخْرَمَةُ، هَذَا خَبَأْنَاهُ
لَكَ) ، فَأَعْطَاهُ إِيَّاهُ. هذا الحديث كان فى أول
الإسلام - والله أعلم - قبل تحريم الذهب والحرير. وفيه أن
الخليفة والرجل العالم إذا زال من موضع قعوده للناس ونظره
بينهم وتعليمه لهم، أنه يجوز دعاؤه وإخراجه لما يعن إليه
من حاجات الناس، وأن خروجه لمن دعاه من التواضع والفضل.
41 - باب: خواتيم الذهب
/ 65 - فيه: الْبَرَاء وأَبُو هُريرة، نَهَانَا النَّبِي
(صلى الله عليه وسلم) عَنْ خَاتَمِ الذَّهَبِ. / 66 - فيه:
ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام، اتَّخَذَ
خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِى
كَفَّهُ، فَاتَّخَذَهُ النَّاسُ، فَرَمَى بِهِ، وَاتَّخَذَ
خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، أَوْ فِضَّةٍ. التختم بالذهب منسوج
لا يحل استعماله، لنهى النبى، عليه السلام، عنه، والذهب
محرم على الرجال، حلال للنساء، ومن ترخص فى التختم بالذهب
من السلف لم يبلغه النهى والنسخ والله أعلم.
42 - باب: خاتم الفضة
/ 67 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام،
اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، أَوْ فِضَّةٍ،
(9/129)
وَجَعَلَ فَصَّهُ مِمَّا يَلِى كَفَّهُ،
وَنَقَشَ فِيهِ، مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، فَاتَّخَذَ
النَّاسُ مِثْلَهُ، فَلَمَّا رَآهُمْ قَدِ اتَّخَذُوهَا
رَمَى بِهِ، وَقَالَ: لا أَلْبَسُهُ أَبَدًا، ثُمَّ
اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، فَاتَّخَذَ النَّاسُ
خَوَاتِيمَ الْفِضَّةِ) . قَالَ ابْنُ عُمَرَ: فَلَبِسَ
الْخَاتَمَ بَعْدَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) أَبُو
بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، حَتَّى وَقَعَ
مِنْ عُثْمَانَ فِى بِئْرِ أَرِيسَ. / 68 - وفيه: أَنَس،
أَنَّهُ رَأَى فِى يَدِ رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ يَوْمًا وَاحِدًا، ثُمَّ إِنَّ
النَّاسَ اصْطَنَعُوا الْخَوَاتِيمَ مِنْ وَرِقٍ،
فَلَبِسُوهَا، فَطَرَحَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) خَاتَمَهُ، فَطَرَحَ النَّاسُ خَوَاتِيمَهُمْ. رواه
يونس، عن الزهرى، وتابعه إبراهيم بن سعد، وزياد، وشعيب، عن
الزهرى. قال المؤلف: أما حديث ابن عمر فإن فيه أن النبى -
عليه السلام - نبذ خاتم الذهب، واتخذ خاتمًا من فضة ولبسه
إلى أن مان، وأما حديث أنس أن النبى عليه السلام نبذ خاتم
الورق، فهو عند العلماء وهم من ابن شهاب، لأن الذى نبذ
عليه السلام خاتم الذهب رواه عبد العزيز بن صهيب، وثابت
البنانى، وقتادة، عن أنس وهو خلاف مارواه ابن شهاب، عن
أنس، فوجب القضاء للجماعة على الواحد إذا خالفها مه مايشهد
للجماعة من حديث ابن عمر. قال المهلب: وقد يمكن أن يتأول
لأبن شهاب ماينفى عنه الوهم - وإن كان الوهم عنه أظهر -
وذلك أنه يحتمل أن يكون النبى لما عزم على إطراح خاتم
الذهب اصطنع خاتم الفضة، بدليل أنه كان لا يستغنى عن الختم
به على الكتب إلى البلدان، وأجوبه العمال، وقواد السرايا،
فلما لبس خاتم الفضة أراد الناس ذلك اليوم أن يصطنعوا مثله
فطرح عند ذلك خاتم الهب فطرح الناس خواتيم الذهب، والتأليف
بين الأحاديث أولى من حملها على التنافى والتضاد، وبالله
التوفيق.
(9/130)
وقال أبو داود: ولم يختلف الناس على عثمان
حتى سقط الخاتم من يده.
43 - باب: فص الخاتم
/ 69 - فيه: أَنَس، سُئل هَلِ اتَّخَذَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) خَاتَمًا؟ قَالَ: أَخَّرَ لَيْلَةً صَلاةَ
الْعِشَاءِ إِلَى شَطْرِ اللَّيْلِ، ثُمَّ أَقْبَلَ
عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَكَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ
خَاتَمِهِ. . . الحديث. / 70 - وفيه: أنس: (أن النبى عليه
السلام كان خاتمه من فضة وكان فصه منه) . قال المؤلف: قد
روى ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، عن أنس قال: (كان خاتم
النبى - عليه السلام - من ورق، وكان فصه حبشيًا وهذا ليس
يتضاد فى الرواية: كان له عليه السلام خاتم فصه من فضة،
وخاتم آخر فصه حبشى. وذكر ابن أبى زيد أن النبى - عليه
السلام - تختم بفص عقيق. وقد روى حماد بن سلمه الحديث
الأول، وزاد فيه بعد قوله: (فكأنى أنظر إلى وبيض خاتمه)
(ورفع يده اليسرى) قال أحمد بن خالد: هذا جيد فى التختم فى
اليسار، وهو كان آخر فعله وأصل التختم فى اليسار، وروى أبو
داود قال: حديثنا نصر بن على، قال: حدثنا أبى، حدثنا عبد
العزيز بن أبى رواد، عن نافع، عن ابن عمر (أن النبى - عليه
السلام - كان يتختم فى يساره) قال أبو داود: وقال ابن
إسحاق، وأسامة، عن نافع بإسناده: فى يمينه. وكان ابن عمر
والحسن يتختمان فى يسارهما.
(9/131)
وقال مالك: أكره التختم فى اليمين، وقال:
إنما يأكل ويشرب ويعمل بيمينه، فكيف يريد أن يأخذ باليسار
ثم يعمل؟ قيل له: افتجعل الخاتم فى اليمين للحاجة تذكرها؟
قال: لا بأس بذلك. وكان ابن عباس، وعبد الله بن جعفر
يتختمان فى اليمين. وقال عبد الله بن جعفر: (كان النبى -
عليه السلام - يتختم فى يمينه) ، رواه حماد بن سلمه، عن
أبى رافع، عن عبد الله بن جعفر، وقال البخارى: هذا اصح شىء
روى فى هذا الباب. ذكره الترمذى.
44 - باب: خاتم الحديد
/ 71 - فيه: سهل: جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) فَقَالَتْ: جِئْتُ أَهَبُ نَفْسِى إليك،.
. . إلى قوله: (وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ) . قال
المؤلف: خاتم الحديد كان يلبس فى أول الإسلام ثم امر النبى
- عليه السلام - بطرحه. روى الترمذى عن محمد بن حميد أن
زيد بن الحباب، حدثهم عن عبد الله بن مسلم أبى طيبة السلمى
المروزى، عن عبد الله ابن بريدة، عن أبيه: (أن رجلا جاء
إلى النبى - عليه السلام - وعليه خاتم من حديد فقال: ما لى
أجد عليك حلية أهل النار. ثم جاء وعليه خاتم من صفر قال:
ما لى أجد منك ريح الأصنام. ثم أتاه وعليه خاتم من ذهب
فقال: أرم عنك حلية أهل الجنة. قال: من أى شىء اتخذه؟ قال:
من فضة ولاتتمه مثقالاً. قال الترمذى: هذا حديث غريب.
(9/132)
45 - باب: نقش
الخاتم
/ 72 - فيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِىّ، عليه السَّلام،
أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إِلَى رَهْطٍ مِنَ الأعَاجِمِ،
فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُمْ لا يَقْبَلُونَ كِتَابًا إِلا
عَلَيْهِ خَاتَمٌ، فَاتَّخَذَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ، نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ
اللَّهِ. / 73 - وفيه: ابْن عُمَر، اتَّخَذَ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) خَاتَمًا مِنْ وَرِقٍ، وَكَانَ فِى
يَدِهِ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِى يَدِ أَبِى بَكْرٍ، ثُمَّ
كَانَ بَعْدُ فِى يَدِ عُمَرَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدُ فِى
يَدِ عُثْمَانَ حَتَّى وَقَعَ بَعْدُ فِى بِئْرِ أَرِيسَ،
نَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. قال المؤلف: قد بان
فى حديث أنس وابن عمر الخاتم إنما اتخذ ليطبع به على الكتب
حفظًا للأسرار أن تنتشر، وسياسة للتدبير أن ينخرم. وفى
قوله: (نقشه: محمد رسول الله) فيه أنه يجوز أن يكون فى
الخاتم ذكر الله، وقد كره ذلك ابن سيرين وغيره، وهذا الباب
حجة عليهم. وقد أجاز ابن المسيب أن يلبسه ويستنجى به، وقيل
لمالك: إن كان فى الخاتم ذكر الله ويلبسه فى الشمال
أيستنجى به؟ قال: أرجو أن يكون خفيفًا. هذه رواية ابن
القاسم، وحكى ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون: أنه لا يجوز
الاستنجاء بالخاتم فيه ذكر الله، وليخلعه أو يجعله فى
يمينه وهو قول نافع وأكثر اصحاب مالك من غير الواضحة، وكان
فى نقش خاتم مالك: حسبى الله ونعم الوكيل. وقال مالك: لا
خير أن يكون نقش فصه ثمثال. وقد ذكر عبد الرزاق آثارًا
تجوز اتخاذ التماثيل فى الخواتيم ليست
(9/133)
بصحيحه، منها عن معمر، عن عبد الله بن محمد
بن عقيل أنه أخرج خاتمًا فيه تمثال اسد وزعم ان النبى -
عليه السلام - كان يتختم به. ومارواه معمر عن الجعفى (أن
نقش خاتم ابن مسعود إما شجرة، وإما شىء بين ذبابتين) وابن
عقيل: ضعيف، تركه مالك. والجعفى: متروك الحديث. وروى معمر
عن قتادة، عن أنس موسى الشعرى، أنه كان نقش خاتمه كركى له
رأسان. وهذا إن كان صحيحًا فلا حجة فيه، لترك الناس العمل
به، ولنهيه عليه السلام عن الصور، ولاتجوز مخالفة النهى.
وترجم لحديث أنس: باب اتخاذ الخاتم ليختم به الشىء أو
ليكتب به إلى أهل الكتاب أو غيرهم.
46 - باب: الخاتم فى الخنصر
/ 74 - فيه: أَنَس، صَنَعَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام،
خَاتَمًا، فَقَالَ: (إِنَّا اتَّخَذْنَا خَاتَمًا
وَنَقَشْنَا فِيهِ نَقْشًا، فَلا يَنْقُشَنَّ عَلَيْهِ
أَحَدٌ. قَالَ: فَإِنِّى لأرَى بَرِيقَهُ فِى خِنْصَرِهِ.
وترجم له باب: قول النبى - عليه السلام -: لا ينقش على نقش
خاتمه. قال المؤلف: السنة فى الخاتم أن يلبس فى الخنصر،
وقد روى الترمذى عن ابن أبى عمر العدنى، عن سفيان، عن عاصم
(9/134)
ابن كليب، عن ابن أبى موسى قال: سمعت عليا
يقول: (نهانى رسول الله أن ألبس خاتمًا فى هذه وهذه. واشار
إلى السبابة والوسطى) قال الترمذى: هذا حديث صحيح وابن أبى
موسى هو أبو برده بن أبى موسى، واسمه عامر عبد الله ابن
قيس. ونهيه عليه السلام أن لا ينقش أحد على نقش خاتمه من
أجل أن ذلك اسمه وصفته برسالة الله له إلى خلقه، وخاتم
الرجل إنما ينقش فيه مايكون تعريفًا له وسمة تميزة من
غيره، ولايحل لأحد أن يسم نفسه بسمه النبى - عليه السلام -
ولابصفته. قال مالك: من شأن الخلفاء والقضاة نقش أسمائهم
فى خواتيمهم. وروى أهل الشام أنه لا يجوز اتخاذ الخاتم
لغير ذى سلطان، وروا فى ذلك حديثًا عن أبى ريحانة: (أنه
سمع النبى - عليه السلام - ينهى عن الخاتم لغير ذى سلطان)
. وحديث أبى ريحانه لا حجة فيه لضعفه. وقوله عليه السلام:
(لا ينقش أحد على نقشه) يرد حديث أبى ريحانة ويدل على جواز
الخاتم لجميع الناس إذا لم ينقش على نقش خاتمه عليه السلام
لأنه لم يبح ذلك لبعض الناس دون بعض، بل عم جميعهم لقوله:
فلا ينقش أحد على نقشه، وقد تختم السلف بعد رسول الله وهم
الأسوة الحسنة. وروى مالك عن صدقة بن شيبان قال: سالت سعيد
بن المسيب عن لبس الخاتم فقال: ألبسه، وأخبر الناس أنى
أفتيك بذلك. المسيب عن لبس الخاتم فقال: البسه، وأخبر
الناس أنى افتيك بذلك. وإنما قاله على وجه الإنكار لقول
أهل الشام.
(9/135)
47 - باب: من جعل فص
الخاتم فى بطن كفه
/ 75 - فيه: ابْن عُمَر، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) اصْطَنَعَ خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ، وَجَعَلَ فَصَّهُ
فِى بَطْنِ كَفِّهِ، إِذَا لَبِسَهُ، ثُم نَبَذَهُ،
فَنَبَذَهُ النَّاسُ. قَالَ جُوَيْرِيَةُ: وَلا أَحْسِبُهُ
إِلا قَالَ: فِى يَدِهِ الْيُمْنَى. قال المؤلف: ليس فى
كون فص الخاتم فى بطن الكف ولا فى ظهرها نهى ولا أمر، وكل
ذلك مباح، وقد روى أبو داود عن ابن إسحاق قال: رأيت على
الصلت بن عبد الله بن نوفل بن عبد المطلب خاتمًا فى خنصره
هكذا وجعل فصه على ظهرها؟ قال: ولا إخال إلا قال: (إنى
رأيت رسول الله كان يلبس خاتمه كذلك) وقال الترمذى: قال
البخارى: حديث ابن إسحاق عن الصلت بن عبد الله حديث حسن.
وقيل لمالك: يجعل الفص إلى الكف؟ قال: لا. وأظن مالكًا
إنما قال ذلك، لأنه وجد الناس يتختمون على ظهر الكف كما
كان يفعل ابن عباس، ولم يقل مالك: إن الفص فى باطن الكف لا
يجوز.
48 - باب: هل يجعل نقش الخاتم
ثلاثة أسطر
/ 76 - فيه: أَنَس، أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَمَّا اسْتُخْلِفَ
كَتَبَ لَهُ، وَكَانَ نَقْشُ الْخَاتَمِ ثَلاثَةَ
أَسْطُرٍ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ، وَرَسُولُ سَطْرٌ، وَاللَّهِ
سَطْرٌ. وفيه: أَنَس، كَانَ خَاتَمُ النَّبِي (صلى الله
عليه وسلم) فِى يَدِهِ، وَفِي يَدِ أَبِى بَكْرٍ بَعْدَ،
(9/136)
وَفِى يَدِ عُمَرَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ،
فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ جَلَسَ عَلَى بِئْرِ أَرِيسَ،
قَالَ: فَأَخْرَجَ الْخَاتَمَ، فَجَعَلَ يَعْبَثُ بِهِ،
فَسَقَطَ، قَالَ: فَاخْتَلَفْنَا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ مَعَ
عُثْمَانَ، فَنَزَحَ الْبِئْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ. هذه كله
مباح وليس كون الخاتم أسطر أو سطرين افضل من كونه سطرًا
واحدًا. وفيه: استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على
وجهه التبرك بها والتيمن. وفيه: أن من فعل الصالحين العبث
بخواتمهم وبما يكون بأيديهم وليس ذلك بعائب لهم. وفيه: أن
يسير المال إذا ضاع أنه يجب البحث فى طلبه ولاجتهاد فى
تفتيشه كما فعل النبى عليه السلام حين ضاع عقد عائشة وحبس
الجيش على طلبه حتى وجد. وفيه: أن من طلب شيئًا ولم ينجح
فيه بعد ثلاثة أيام أن له ترك ذلك ولايكون مضيعًا، وأن
الثلاث حد يقع بها العذر فى العذر المطلوبات.
49 - باب: الخاتم للنساء
وَكَانَ عَلَى عَائِشَةَ خَوَاتِيمُ ذَهَبٍ. / 77 - فيه:
ابْن عَبَّاس، شَهِدْتُ الْعِيدَ مَعَ النَّبِىِّ، عليه
السَّلام، فَصَلَّى قَبْلَ الْخُطْبَةِ، فَأَتَى
النِّسَاءَ، فَجَعَلْنَ يُلْقِينَ الْفَتَخَ
وَالْخَوَاتِيمَ فِى ثَوْبِ بِلالٍ. قال المؤلف: الخاتم
للنساء من جملة الحلى الذى أبيح
(9/137)
لهن، والذهب حلال للنساء، والفتخ: خواتيم
النساء التى يلبسنها فى أصابع اليد، واحدتها فتخه، وكذلك
إن كانت فى الرجل. عن ابن السكيت. وقال غيره: الفتوخ:
خواتيم بلا فصوص كأنها حلق، وكل خلخل لا يجرس فهو فتخ.
50 - باب: القلائد والسخاب
للنساء
/ يعني القلادة: من طيب وسك 78 - فيه: ابْن عَبَّاس،
خَرَجَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَوْمَ عِيدٍ
فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ أَتَى النِّسَاءَ،
فَأَمَرَهُنَّ بِالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ
تَصَدَّقُ بِخُرْصِهَا وَسِخَابِهَا. قال المؤلف: القلائد:
من حلى النساء أيضًا وقال ابن دريد: السخاب: قلائد من
قرنفل أو غيره، والجمع سخب. والخرص: الحلقة الصغيرة من
الذهب والفضة كحلقة القرط ونحوها يقال: مافى أذنها خرص،
وتسمى هذه الحلقة أيضًا الحوف.
51 - باب: استعارة القلائد
/ 79 - فيه: عَائِشَةَ، هَلَكَتْ لها قِلادَةٌ استعارتها
من أسْمَاءَ، فَبَعَثَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فِى
طَلَبِهَا رِجَالا. . . الحديث. وفيه: اسعارة الحلى وكل
ماهو زينة النساء، وأن ذلك من الأمر القديم المعمول به.
(9/138)
52 - باب: القرط
للنساء
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَرَهُنَّ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) بِالصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُهُنَّ يَهْوِينَ إِلَى
آذَانِهِنَّ وَحُلُوقِهِنَّ، فَجَعَلَتِ الْمَرْأَةُ
تُلْقِى قُرْطَهَا. القرط أيضا من حلى النساء.
53 - باب: السخاب للصبيان
/ 80 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، كُنْتُ مَعَ النَّبِىّ (صلى
الله عليه وسلم) فِى سُوقٍ مِنْ أَسْوَاقِ الْمَدِينَةِ،
فَانْصَرَفَ وَانْصَرَفْتُ، فَقَالَ: (أَيْنَ لُكَعُ) ؟
ثَلاثًا، ادْعُ الْحَسَنَ بْنَ عَلِىٍّ، فَقَامَ الْحَسَنُ
يَمْشِى وَفِى عُنُقِهِ السِّخَابُ، فَقَالَ النَّبِىُّ،
عليه السَّلام، بِيَدِهِ هَكَذَا، فَقَالَ الْحَسَنُ
بِيَدِهِ هَكَذَا، فَالْتَزَمَهُ، فَقَالَ: (اللَّهُمَّ
إِنِّى أُحِبُّهُ، فَأَحِبَّهُ، وَأَحِبَّ مَنْ يُحِبُّهُ)
. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: فَمَا كَانَ أَحَدٌ أَحَبَّ
إِلَى مِنَ الْحَسَنِ بْنِ عَلِى بَعْدَ مَا قَالَ
النَّبِىّ، عليه السَّلام، مَا قَالَ. فيه: أنه يجوز أن
يجعل فى أعناق الصبيان سخاب القرنفل والسك والطيب، وشبه
مما يحل للرجال، وأما الذهب فكرهه مالك للصبيان الصغار،
وكره لهم لبس الحرير أيضًا. وقوله عليه السلام لبى هريرة:
(أين لكح) قال أبو عبيد: هو عند العرب العبد أو اللئيم،
وقد تقدم فى كتاب البيوع فى باب ما يكره فى الأسواق، وفيه
أن النبى - عليه السلام - عانق والحسن وقبله، وقوله فى هذا
الحديث: (فالتزمه) يعنى: المعتنقة والتقبيل المذكورين
هناك. قد تقدم الاستئذان.
(9/139)
54 - باب المتشبهين
بالنساء والمتشبهات بالرجال
/ 81 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَعَنَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام، الْمُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ
بِالنِّسَاءِ، وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
بِالرِّجَالِ. قال الطبرى: فيه من الفقه أنه لا يجوز
للرجال التشبه بالنساء فى اللباس والزينة التى هى للنساء
خاصة، ولا يجوز للنساء التشبه بالرجال فيما كان ذلك للرجال
خاصة. فمما يحرم على الرجال لبسه مما هو من لباس النساء:
البراقع والقالائد والمخانق والأسورة والاخلاخل، ومما لا
يحل له التشبه بهن من الأفعال التى هن بها مخصوصات فانخناث
فى الأجسام، والتأنيث فى الكلام. مما يحرم على المرأة لبسه
مما هو من لباس الرجال: النعال والرقاق التى هى نعال الحد
والمشى بها فى محافل الرجال، والأردية والطيالسة على نحو
لبس الرجال لها فى محافل الرجال وشبه ذلك من لباس الرجال،
ولايحل لها التشبه بالرجال من الأفعال فى اعطائها نفسها
مما أمرت بلبسه من القلائد والقرط والخلاخل والسورة، ونحو
ذلك مما ليس للرجل لبسه، وترك تغيير اليدى والأرجل من
الخصاب الذى أمرن بتغييرها به.
(9/140)
روى القعنبى، عن حسين بن عبد الله قال:
(رأيت فاطمة بنت رسول الله وفى عنقها قلادة، وفى يدها مسكة
فى كل يد، وقالت: كان رسول الله يكره تعطيل النساء وتشبههن
بالرجال) .
55 - باب: الأمر بإخراجهم
/ 82 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَعَنَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام، الْمُخَنَّثِينَ مِنَ الرِّجَالِ،
وَالْمُتَرَجِّلاتِ مِنَ النِّسَاءِ، وَقَالَ:
(أَخْرِجُوهُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ) . قَالَ: فَأَخْرَجَ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) فُلانًا، وَأَخْرَجَ عُمَرُ
فُلانًا. / 83 - وفيه: أُمَّ سَلَمَةَ، أَنَّ النَّبِىَّ،
عليه السَّلام، كَانَ عِنْدَهَا، وَفِى الْبَيْتِ
مُخَنَّثٌ، فَقَالَ لِعَبْدِاللَّهِ - أَخِى أُمِّ
سَلَمَةَ: يَا عَبْدَاللَّهِ، إِنْ فَتَحَ اللَّهُ لَكُمْ
غَدًا الطَّائِفَ، فَإِنِّى أَدُلُّكَ عَلَى بِنْتِ
غَيْلانَ، فَإِنَّهَا تُقْبِلُ بِأَرْبَعٍ، وَتُدْبِرُ
بِثَمَانٍ، فَقَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (لا
يَدْخُلَنَّ هَؤُلاءِ عَلَيْكُنَّ) . قال الطبرى: إن قال
قائل: ماوجه لعن النبى - عليه السلام المخنثين من الرجال،
والخنث خلق الله لم يكتسبه العبد ولا له فيه صنع، وإنما
يذم العبد على مايكسبه مما له السبيل إلى فعله وتركه، ولو
جاز ذمه على غير فعله لجاز ذمه على لونه وعرقه وسائر أجزاء
جسمه؟ قيل: وجه لعن النبى إياه إنما هو لغير صورته التى لا
يقدر على تغييرها، وإنما لعنه لتأنيثه وتشبهه فى ذلك بخلق
النساء، وقد
(9/141)
خلقه الله بخلاف ذلك، ومحاولته تغيير
الهيئة التى خلقه الله عليها من خلق الرجال إلى خلق
النساء، وله سبيل إلى اكتساب خلق الرجال واجتلاب منه إلى
نفسه. ولفعله من الأفعال مايكره الله ونهى عنه رسول الله
من التشبه بالنساء فى اللباس والزينة، وذلك أن رسول الله
إذ رأى المخنث لم ينكر الخنث منه، وقد رأى خضاب يديه
ورجليه بالحناء، حتى سمعه يصف من أمر النساء ماكره سماعه،
وذلك وصفه للرجال نساء من يدخل منزله، وذلك مما كان النبى
- عليه السلام - ينهى عنه النساء فكيف الرجال؟ فأمر بنفيه
وتقدم إليها بمنعه من دخوله عليها، ولو كان ما عليه المخنث
من الهيئة والصورة التى هى له خلقة موجبة اللعن والنفى
لكان عليه السلام إذ رآه قد أمر بطرحه من بيت زوجه ونفيه،
قال ما سمعه أو لم يقله، وإنما وجب ذمه، إذ أتى من محارم
الله ما يستحق عليه الذم. فإن قيل: فإن حكمه حكم الرجال،
فكيف جاز أن يدخل على أزواج النبى عليه السلام بعد أن أنزل
الحجاب؟ قيل: هو من جملة من استثناه الله من جملة الرجال
غير أولى الأربة من الرجال، وقد اول ذلك عكرمة أنه المخنث
الذى لا حاجة له فى النساء، وبذلك ورد الخبر عن النبى -
عليه السلام. روى معمر، عن الزهرى، عن عروة، عن عائشة
قالت: كان مخنث يدخل على أزواج النبى - عليه السلام -
يعدونه من غير أولي
(9/142)
الإربة، فدخل عليه النبى وهو يصف أمرأة. .
. وذكر الحديث (فأمر، عليه السلام، ألا يدخل عليهم) . روى
ابن وهب، عن يحى بن أيوب، عن ابن جريح، عن عطاء، عن ابن
عباس قال: المؤنثون أولاد الجن. قيل له: وكيف؟ قال: نهى
الله ورسوله أن يأتى الرجل امرأته وهى حائض فإذا أتاها
سبقه الشيطان إليها فحملت منه فأتت بالمؤنث. قال المؤلف:
وفى حديث ابن عباس وأم سلمه إخراج كل من يتأذى به الناس
بإظهار المعاصى والمنكر، ونفيهم عن مواضع التأذى بهم، وقد
تقدم فى باب إخراج الخصوم وأهل الريب من البيوت فى كتاب
الأحكام أنه يخرج كل من تأذى به جيرانه، وتكرى عليه داره،
ويمنع من السكنى فيها حتى يتوب.
56 - باب (قص) الشارب
وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ يُحْفِى شَارِبَهُ حَتَّى يُنْظَرَ
إِلَى بَيَاضِ الْجِلْدِ وَيَأْخُذُ هَذَيْنِ، يَعْنِى
بَيْنَ الشَّارِبِ وَاللِّحْيَةِ. / 84 - وفيه: ابْن
عُمَر، قَالَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) : (مِنَ
الْفِطْرَةِ قَصُّ الشَّارِبِ) . / 85 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، قَالَ: (الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ،
وَالاسْتِحْدَادُ، وَنَتْفُ الإبْطِ، وَتَقْلِيمُ
الأظْفَارِ، وَقَصُّ الشَّارِبِ) . وترجم له باب: قص
الأظفار، وزاد فيه عن ابن عمر
(9/143)
قال النبي (صلى الله عليه وسلم) : (خالفوا
المشركين عفوا اللحى، واحفوا الشوارب) . قال الطبرى: اختلف
السلف فى صفة إحفاء الشارب، فقال بعضهم الإحفاء: الأخذ من
الإطار. وروى مالك، عن زيد بن اسلم، عن عامر بن عبد الله
بن الزبير، عن أبيه قال: رايت عمر ابن الخطاب إذا غضب فتل
شاربه. وقال أبو عاصم: سمعت عبد الله بن أبى عثمان يقول:
رايت ابن عمر يأخذ من شاربه من أعلاه واسفله. وكان عروة
وعمر بن عبد العزيز وابو سلمه وسالم والقاسم لا يحلق أحد
منهم شاربه، وهذا قول مالك والليث، وقال مالك: حلق الشارب
مثله ويؤدب فاعله. وكان يكره أن يأخذ من أعلاه. وقال
آخرون: الإحفاء حلقه كله. روى يحى بن سعيد، عن ابن عجلان
قال: رآني عثمان بن عبيد الله بن نافع أخذت من شاربى أكثر
مما أخذت منه إلى أن يشبه الحلق، فنظر إلى فقلت: ماتنكر؟
قال: ماأنكر شيئًا، رايت اصحاب رسول الله يأخذون شواربهم
شبه الحلق. فقلت: من هم؟ قال: جابر بن عبد الله، وابو سعيد
الخدرى، وابو اسيد الساعدى، وابن عمر، وسلمه بن الأكوع،
وأنس. وهو قول الكوفيين وقالوا: اإحفاء هو الحلق، والحلق
أفضل من التقصير فى الراس والشارب. قال المؤلف: وحجة هذه
المقالة فى اللغة ماقال الخليل قال:
(9/144)
أحفى شاربه: استأصلة. واستقصاه. وكذلك قال
ابن دريد، إلا أنه قال: حفوت شاربى أحفوه حفوًا استأصله
أخذت شعره. وحجة المقالة الأولى قوله عليه السلام: (من
الفطرة قص الشارب) . ومعلوم أن القص لا يقتضى الحلق
والاستئصال. قال صاحب الأفعال: يقال قص الشعر والأظفار قطع
منها بالمقص، ولما جاء عنه عليه السلام: (أحفوا الشوارب)
وجاء عنه (من الفطرة قص الشارب) واحتمل قوله: (أحفوا
الشوارب) أخذه كله واستئصالة علم أن المراد أخذ بعضه، ووجب
ترجيح هذه المقالة على من قال باستئصال حلقه. وقال
الآخرون: لما جاء الحديث عنه عليه السلام بلفظين، يحتمل
أحدهما استئصال حلقة وهو قوله: (أحفوا الشوارب) واللفظ
الآخر يحتمل أخذ بعضه وهو قوله: (من الفطرة قص الشارب) ولم
يكن أحدهما ناسخًا للآخر ولا دافعًا له، دل أخذ بقص شاربه
فهو مصيب، ومن استأصل حلقه فهو مصيب لموافقة ذلك السنة،
ولذلك اختلف السلف فى صفة حلقة لاختلاف الآثار، والله
أعلم.
(9/145)
57 - باب: إعفاء
اللحى
) عَفَوْا (: كَثُرُوا وَكَثُرَتْ أَمْوَالُهُمْ. / 86 -
فيه: ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رسول الله (صلى الله عليه
وسلم) : (خَالِفُوا الْمُشْرِكِينَ، وَفِّرُوا اللِّحَى،
وَأَحْفُوا الشَّوَارِبَ) . وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا
حَجَّ أَوِ اعْتَمَرَ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَمَا
فَضَلَ أَخَذَهُ. / 87 - فيه: ابْن عُمَر، قال: قال
النَّبِىّ، عليه السَّلام: (انْهَكُوا الشَّوَارِبَ،
وَأَعْفُوا اللِّحَى) . وقال الطبرى: إن قال قائل: ماوجه
قوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) وقد علمت أن الإعفاء
الإكثار، وأن من الناس من إن ترك شعر لحيته اتباعًا منه
لظاهر هذا الخبر تفاحش طولا وعرضًا، وسمج حتى صار للناس
حديثًا ومثلا؟ قيل: قد ثبت الحجة عن النبى عليه السلام على
خصوص هذا الخبر وأن من اللحية ماهو محظور إحفاؤه وواجب قصة
على اختلاف من السلف فى قدر ذلك وحده، فقال بعضهم: حد ذلك
أن يزداد على قدر القبضة طولا، وأن ينتشر عرضًا فيقبح ذلك،
فإذا زادت على قدر القبضة كان الأولى، جزّ مازاد على ذلك،
من غير تحريم منهم ترك الزيادة على ذلك. وروى عن عمر أنه
راى رجال قد ترك لحيته حتى كثرت فأخذ بحديها ثم قال:
ائتونى بجلمين ثم امر رجلا فجز ما تحت يده ثم قال: اذهب
فأصلح شعرك أو أفسده، يترك أحدكم نفسه حتى كأنه سبع من
السباع.
(9/146)
وكان أبو هريرة يقبض على لحيته فيأخذ
مافضل، وعن ابن عمر مثله. وقال آخرون: يأخذ من طولها
وعرضها مالم يفحش أخذه، ولم يحدوا فى ذلك حدًا غير أن معنى
ذلك عندى - والله أعلم - مالم يخرج من عرف الناس. وروى عن
الحسن أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ من طول لحيته وعرضها ما
لم يفحش الأخذ منها، وكان إذا ذبح أضحيته يوم النحر أخذ
منها شيئًا. وقال عطاء: لا بأس أن يأخذ من لحيته الشىء
القليل من طولها وعرضها إذا كثرت، وعلة قائلى هذه المقالة:
كراهية الشهرة فى اللبس وغيره فكذلك الشهرة فى شعر اللحية.
وكان آخرون يكرهون الأخذ من اللحية إلا فى حج أو عمرة،
وروى ذلك عن ابن عمر وعطاء وقتادة. والصواب أن يقال: إن
قوله عليه السلام: (أعفوا اللحى) على عمومه إلا ماخص من
ذلك، وقد روى عنه حديث فى إسناده نظر أن ذلك على الخصوص،
وأن من اللحى ماالحق فيه ترك إعفائه، وذلك ماتجاوز طوله أو
عرضه عن المعروف من خلق الناس وخرج عن الغالب فيهم، روى
مروان بن معاوية، عن سعيد بن أبى راشد المكى، عن أبى جعفر
محمد بن على قال: (كان رسول الله يأخذ اللحية، فما طلع على
الكف جزه) ، وهذا الحديث وإن كان فى إسناده نظر فهو جميل
من الأمر وحسن من الفعال.
(9/147)
قال غيره: وقوله عليه السلام: (انهكوا
الشوارب) أى: جزوا منها مايؤثر فيها، ولايستأصلها. قال
صاحب الأفعال: يقال نهكته الحمى - بالكسر - نهكًا أثرت
فيه، وكذلك العبادة، والتأثير غير الاستئصال.
58 - باب: ما يذكر فى الشيب
/ 88 - فيه: ابْن سِيرِينَ، سَأَلْتُ أَنَس بْن مالك
أَخَضَبَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: لَمْ
يَبْلُغِ الشَّيْبَ إِلا قَلِيلا. وقال مرة: لَمْ يَبْلُغْ
مَا يَخْضِبُ، لَوْ شِئْتُ أَنْ أَعُدَّ شَمَطَاتِهِ فِى
لِحْيَتِهِ. / 89 - فيه: إِسْرَائِيلُ، عَنْ عُثْمَانَ
بْنِ عَبْدِاللَّهِ بْنِ مَوْهَبٍ، قَالَ: أَرْسَلَنِى
أَهْلِى إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ بِقَدَحٍ مِنْ مَاءٍ،
وَقَبَضَ إِسْرَائِيلُ ثَلاثَ أَصَابِعَ مِنْ قُصَّةٍ
فِيهِ شَعَرٌ مِنْ شَعَرِ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ،
وَكَانَ إِذَا أَصَابَ الإنْسَانَ عَيْنٌ، أَوْ شَىْءٌ
بَعَثَ إِلَيْهَا مِخْضَبَهُ، فَاطَّلَعْتُ فِى
الْجُلْجُلِ، فَرَأَيْتُ شَعَرَاتٍ حُمْرًا. / 90 -
وَقَالَ عُثْمَان مرة: دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ،
فَأَخْرَجَتْ إِلَيْنَا شَعَرًا مِنْ شَعَرِ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) مَخْضُوبًا. اختلف الاثار هلى خضب النبى
أم لا؟ فقال أنس: لم يبلغ النبى عليه السلام من الشيب
مايخضب وهو قول مالك، وأكثر العلماء أنه عليه السلام لم
يخضب.
(9/148)
وقال عثمان بن موهب: إن أم سلمه أخرجت
إلينا شعرًا من شعر النبى - عليه السلام - مخضوبًا. وروى
الطبرى، عن العباس بن أبى طالب، عن المعلى بن أسد حدثنا
سلام بن أبى مطيع، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال:
(أخرجت إلى أم سلمه زوج النبي (صلى الله عليه وسلم) شعرًا
مخضوبًا بالحناء والكتم، فقالت: هذا شعر رسول الله) فزعمت
طائفة من أهل الحديث أن النبى - عليه السلام - خضب،
واحتجوا بهذا الحديث، وبما رواه ابن إسحاق، عن سعيد
المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن عمر: (رأيتك تصفر
لحيتك. فقال: إن رسول الله عليه السلام كان يصفر بالورس،
فأنا أحب أن أصفر به كما كان رسول الله يصنع) . وروى
القطان وحماد بن سلمه، عن عبيد الله بن عمر، عن سعيد
المقبرى، عن عبيد بن جريح أنه قال لابن عمر: (رأيتك تصفر
لحيتك. فقال: رايت رسول الله عليه السلام يصفر لحيته) .
وروى الطبرى، عن هلال بن العلاء، عن الحسين بن عياش قال
حدثنا جعفر بن برقان، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن
عقيل، قال: (قدم أنس بن مالك المدينة وعمر بن عبد العزيز
وإلى عليها، فأرسلنى عمر إلى أنس وقال: سله هل خضب النبى -
عليه السلام -؟ فإنا نجد هاهنا شعرًا من شعره فيه بياض
كأنه قد لون. فقال أنس: إن رسول الله كان قد متع بسواد
الشعر لو عددت خمس ما أقبل من راسه ولحيته، وماكنت أدرى عل
أعد خمس عشرة شيبه فما أدرى ما هذا الذى تجدون إلا من
الطيب الذى يطيب به شهره وهو غير لونه) .
(9/149)
وأما قوله: (فاطلعت فى الجلجل) فروى النضر
بن شميل، عن إسرائيل، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال:
(كان عند أم سلمه أم المؤمنين جلجل من فضة فيه شعرات من
شعر رسول الله، وكان إذا أصاب إنسانًا عين أو أشتكى، بعث
بإناء فخضخض فيه، ثم شربه وتوضأ منه فبعثى أهلى فأطلعت فيه
فإذا شعرات حمر) . وقوله: (فخضخض فيه) يعنى: خضخض الشعر فى
الإناء لتبقى بركته فى ذلك الماء فيشربه المعين أو الوصب،
فيدفع الله عنه ببركة ذلك الشعر ما به من شكوى.
59 - باب: الخضاب
/ 91 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِىُّ، عليه
السَّلام: (إِنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لا
يَصْبُغُونَ، فَخَالِفُوهُمْ) . قال الطبرى: إن قال قائل:
مامعنى هذا الحديث؟ وقد روى شعبة، عن الركين بن الربيع
قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث عن عبد الرحمن بن حرملة، عن
ابن مسعود (أن رسول الله كان يكره تغيير الشيب) . وروى ابن
إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده أن النبى - عليه
السلام - قال: (من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورًا يوم
القيامة إلا أن ينتفها أو يخضبها) .
(9/150)
قيل: قد اختلف السلف قبلنا فى تغيير الشيب،
فرأى بعضهم أن أمر النبى - عليه السلام - بصبغه ندب، وأن
تغييره أولى من تركه أبيض. ذكر من رأى ذلك: روى عن قيس بن
أبى حازم قال: كان أبو بكر الصديق يخرج إلينا وكأن لحيته
صرام العرفج من الحناء والكتم. وعن أنس أن أبا بكر وعمر
كان يخضبان بالحنان والكتم، وكان الشعبى وابن أبى مليكة
يخضبان بالسواد ويقول: هو اسكن للزوجة وأهيب للعدو، وعن
أبن مليكة أن عثمان كان يخضب بالسواد، وعن عقبة بن عامر
والحسن والحسين أنهم كانوا يخضبون بالسواد، ومن التابعين:
على بن عبد الله بن عباس وعروة بن الزبير وابن سيرين وأبو
برده. وروى ابن وهب، عن مالك قال: لم أسمع فى صبغ الشعر
بالسواد بنهى معلوم، وغيره أحب إلى. وممن كان يخضب بالصفرة
على بن أبى طالب، وابن عمر، والمغيرة بن شعبة، وجرير
البجلى، وأبو هريرة، وأنس بن مالك، ومن التابعين عطاء،
وأبو وائل، والحسن، وطاوس، وسعيد بن المسيب. واعتل مغيرو
الشيب من حديث أبى هريرة وغيره، بما رواه مطر الوراق، عن
أبى رجاء، عن جابر قال: جيء بأبى قحافة إلى النبي ورأسه
ولحيته كأنهما ثغامة بيضاء، فأمر رسول الله أن يغيروه،
فحمروه.
(9/151)
ورأى آخرون ترك الشعر أبيض من تغييره وأن
الصحيح عنه عليه السلام نهيه عن تغييره الشيب، وقالوا:
توفى النبى عليه السلام وقد بدا فى عنفقه ورأسه الشيب، ولم
يغيره بشىء ولو كان تغييره الاختيار لكان هو قد آثر
الأفضل. ذكر من راى ذلك: قال أبو إسحاق الهمدانى: رايت على
بن أبى طالب ابيض الرأس واللحية. وقاله الشعبى، وكان أبى
بن كعب ابيض اللحية، وعن أنس، ومالك بن أوس وسلمه بن
الأكوع أنهم كانوا لا يغيرون الشيب، وعن أبى الطفيل، وأبى
برزة السلمى مثله، وكان أبو مجلز وعكرمة وعطاء وسعيد بن
جبير وعطاء بن السائب لا يخضبون. واعتلوا بما روى أبو
إسحاق عن أبى جحيفة قال: (رايت النبى عليه السلام عنفقه
بيضاء) . والصواب عندنا الآثار التى رويت عن النبى عليه
السلام بتغيير الشيب وبالنهى عن تغييره كلها صحاح، وليس
فيها شىء يبطل معنى غيره، ولكن بعضها عام وبعضها خاص،
فقوله عليه السلام: (خالفوا اليهود وغيروا الشيب) المراد
منه الخصوص، ومعناه: غيروا الشيب الذى هو نظير شيب أبى
قحافة، وأما من كان اشمط فهو الذى أمره النبى عليه السلام
ألا يغيره وقال: (من شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورًا) .
فإن قيل: مالدليل على ذلك؟
(9/152)
قيل: لا يجوز أن يكون من النبى عليه السلام
قولان متضادان فى شىء واحد فى حالة واحدة إلا وأحدهما ناسخ
للآخر، فإذا كان ذلك كذلك فغير جائز أن يكون الناسخ منهما
إلا معلومًا عند الأمة. ولما وردت الأخبار بنقل العدول أنه
أمر بتغيير الشيب، وأنه نهى عن تغييره، ولم يعلم الناسخ
منهما فينتهوا إليه كان القول فى ذلك أن الذين غيروا شيبهم
كشيب من أصحاب النبى إنما غيروا فى الحالة التى كان فيها
شيبهم كشيب أبى قحافة أو قريبا منه، وأما الذين أجازوا ترك
تغييره كن شيبهم مخالفًا لشيبابى قحافة إما بالمشط أو
بغلبة السواد عليه، كالذى روى عن النبى أنه لم يغير شيبه
لقلته، مع أن تغيير الشيب ندب لا فرط، ولا ارى مغير ذلك
وإن كان قليلاً حرجًا بتغييره، إذ كان النهى عن ذلك نهى
كراهه لا تحريمًا لإجماع سلف الأمة وخلفها على ذلك، وكذلك
الأمر فيما أمر به على وجه الندب، ولو يكن كذلك كان تاركو
التغيير قد انكروا على المغيرين، أو أنكر المغيرون على
تاركى التغيير، وبنحو معناه قال الثورى.
60 - باب: الجعد
/ 92 - فيه: أَنَس، أَنّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم)
كَانَ لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ، وَلا بِالْقَصِيرِ،
وَلَيْسَ بِالأبْيَضِ الأمْهَقِ، وَلا بِالآدَمِ، وَلَيْسَ
بِالْجَعْدِ
(9/153)
الْقَطَطِ، وَلا بِالسَّبْطِ، بَعَثَهُ
اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَقَامَ
بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرَ
سِنِينَ، وَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ سِتِّينَ
سَنَةً، وَلَيْسَ فِى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ عِشْرُونَ
شَعَرَةً بَيْضَاءَ. / 93 - وفيه: الْبَرَاء، إِنَّ
جُمَّةَ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَتَضْرِبُ
قَرِيبًا مِنْ مَنْكِبَيْهِ. وَقَالَ شُعْبَةُ: شَعَرُهُ
يَبْلُغُ شَحْمَةَ أُذُنَيْهِ. / 94 - وفيه: ابْن عُمَر،
أَنَّ النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (أُرَانِى
اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، فَرَأَيْتُ رَجُلا آدَمَ
كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ، لَهُ
لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنَ اللِّمَمِ، قَدْ
رَجَّلَهَا فَهِىَ تَقْطُرُ مَاءً، مُتَّكِئًا عَلَى
رَجُلَيْنِ - أوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ - يطُوفُ
بِالْبَيْتِ، فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: الْمَسِيحُ
ابْنُ مَرْيَمَ، وَإِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ
أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى، كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ
طَافِيَةٌ، فَسَأَلْتُ: مَنْ هَذَا؟ فَقِيلَ: الْمَسِيحُ
الدَّجَّالُ) . / 95 - وفيه: أَنَس، أَنَّ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) كَانَ يَضْرِبُ شَعَرُهُ مَنْكِبَيْهِ. /
96 - فيه: وَقَالَ مرة: كَانَ شَعَرِ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) رَجِلا، لَيْسَ بِالسَّبِطِ وَلا الْجَعْدِ،
بَيْنَ أُذُنَيْهِ وَعَاتِقِهِ. وَكَانَ ضَخْمَ
الْيَدَيْنِ. / 97 - وَقَالَ مرة: كَانَ ضَخْمَ الرأس
وَالْقَدَمَيْنِ، حَسَنَ الْوَجْهِ، لَمْ أَرَ بَعْدَهُ
وَلا قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَكَانَ بَسِطَ الْكَفَّيْنِ. /
98 - وَقَالَ مرة: كَانَ شَثْنَ الْقَدَمَيْنِ
وَالْكَفَّيْنِ. / 99 - وفيه: جَابِر، كَانَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) ضَخْمَ الْقَدَمَيْنِ وَالْكَفَّيْنِ،
وَلَمْ أَرَ بَعْدَهُ شَبَهًا لَهُ. / 100 - وفيه: ابْن
عَبَّاس، ذَكَرُوا عنده الدَّجَّالَ، فَقَالَ: إِنَّهُ
مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ. وَقَالَ ابْنُ
عَبَّاسٍ: لَمْ أَسْمَعْهُ قَالَ ذَاكَ، وَلَكِنَّهُ
قَالَ: (أَمَّا إِبْرَاهِيمُ،
(9/154)
فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ وَأَمَّا
مُوسَى، فَرَجُلٌ آدَمُ جَعْدٌ، عَلَى جَمَلٍ أَحْمَرَ
مَخْطُومٍ بِخُلْبَةٍ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ؛ إِذِ
انْحَدَرَ فِى الْوَادِى يُلَبِّى) . قال المؤلف: فى
أحاديث هذا الباب أن النبى - عليه السلام - كانت له جمة
تبلغ قريبًا من منكبيه، وقيل: تبلغ شحمة أذنيه، وقيل: يضرب
شعره منكبيه، وليس ذلك بإخبار عن وقت واحد فتتضاد الآثار،
وإنما ذلك إخبار عن أوقات مختلفة، يمكن فيها زيادة الشعر
بغفلتيه عليه السلام عن قصه، فكان إذا غفل عنه بلغ منكبيه،
وإذا تعاهده وقصه بلغ شحمة أذنيه أو قريبًا من منكبيه،
فأخبر كل واحد عما شاهد وعاين. وذكر عليه السلام أن عيس
ابن مريم له لمه حسنة قد رجلها وأن موسى كان جعدًا، فدل
أنه كانت له لمة وأن الجعودة لاتبين إلا فى طول الشعر،
وهذه الآثار كلها تدل أن اتخاذ اللمم وترجليها من سنن
النبيين والمرسلين. وقوله فى وصفه النبى: (ليس بالبض
الأمهق) يعنى: أن لونه ليس بالشديد البياض الفاحش الخارج
عن حد الحسن، وذلك أن المهق من البياض هو الذى لا يخالطه
شىء من الحمرة كلون الفضة. والقطط: الشعر الشديد التجعد.
والبسط: ضد الجعد. والآدم: السمر. وقوله: (عنبه طافية)
يريد بارزة قد برزت وطفت كما يطفو الشىء فوق الماء، وترجيل
الشعر: مشطة وتقويمه، يقال: شعر رجل ورجلّ: مسرح، عن صاحب
العين.
(9/155)
واختلف فى معنى المسيح ابن مريم عليه
السلام على خمسة أقوال: فقال ابن عباس: سمى عيسى مسيحًا،
لأنه كان لا يمسح بيده ذا عاه إلا برا، وقال إبراهيم
النخعى: المسيح: الصديق. وقال ثعلب: سمى مسيحًا، لأنه كان
يمسح الأرض أى: يقطعها. وروى عطاء، عن ابن عباس أنه قال:
سمى مسيحًا، لأنه كان أمسح الرجل، فلم يكن لرجله أخمص وهو
مايتجافى عن الأرض من وسطها فلا يقع عليها. وقال آخرون:
سمى مسيحًا، لأنه خرج من بطن أمه مسموحًا بالدهن، ذكر هذا
كله ابن الأنبارى، وقال: إنما سمى الدجال مسحًا لأن إحدى
عينيه مسوحة، والأصل فيه مفعول فصرف إلى فعيل قال ثعلب:
والدجال مأخوذ من قولهم: دجل فى الرض ومعناة: ضرب فيها
وطافها، وقال مرة أخرى: نقول: قد دجل إذا لبسّ وموهّ. وقال
ابن دريد: اشتقاقه من قولهم: دجلت الشىء إذا سترته، كأن
يستر الحق ويغطيه ويلبس بتمويهه، ومنه سميت: دجلة كأنها
جين فاضت على الأرض سترت مكانها. وقوله: (شثن الكفين
والقدمين) قال الخليل: الثن: الذى فى أنامله غلظ وقد شثن
شثنًا. وقال أبو عبيد: هما إلى الغلظ فكانت كف النبى -
عليه السلام - ممتلئة لحمًا، ويبين ذلك قول أنس: (وكان ضخم
اليدين والقدمين) غير أن كفه مع ضخامتها كانت لينة
(9/156)
كما روي أنس أنه قال: (ما مسسنت حريرة ألين
من كف النبى - عليه السلام) . فإن قال قائل: قد قال أبو
حاتم عن الأصمعى: الشثونة: غلظ الكف وخشونتها وأنشد قول
امرى القيس: وتعطوا برخص غير شثن كأنه أساريع ظبى أو
مساويك إسحل فعلى تأويل الأصمعى البيت يعارض قول أنس فى
صفة النبى أنه كان خشن اليدين مع قوله: (ما مسست حريرة
ألين من كفه (صلى الله عليه وسلم)) . فالجواب: أن مافسره
الأصمعى أن الشثن خشونة مع غلظ، لم يقله أحد من أهل اللغة
غيره، ولا فسر أحد بيت امرىء القيس عليه، فلا يوجه قول أنس
إليه لئلا يتنافى قوله ويتضاد، وقد شرح الطوسى هذا البيت
بما يوافق قول الخليل وأبى عبيد فقال: قوله: بكف غير شثن
أى غير غليظ جاف، وهذا هو الصواب لأن الشاعر إنما وصف كف
جارية، والمستحب فيها الرقة واللطافة، ألا ترى أنه شبهها
فى الدقة بالدود البيض الدقاق اللينة التى تكون فى الرمل،
أو بمساويك رقاق ولم يصفها بالغلظ والامتلاء، وذلك لا
يستحب فى النساء وهو مستحب فى الرجال، ولايمنع أحد أن تكون
كفا ممتلئة لحمًا شديدة الرطوبة غير خشنة، فلا تعارض بين
الحدثين. ولو صح تأويل من جعل الشثن الخشن لأمكن الجمع بين
الحدثين،
(9/157)
فيكون إخبار أنس لين كف النبى - عليه
السلام - أنه كان فى غير الحال التى تكون فيها خشنة، وذلك
إذا أمهن فى أهله، قالت عائشة: (كان النبى عليه السلام فى
مهنة أهله يرقع الثوب ويخصف النعل) . وفى حديث آخر (ويحلب
الشاة) فإذا كان النبى - عليه السلام - يعتمل بيديه حدثت
له الخشونة، وإذا ترك ذلك عاد إلى أصل جبلته سريعًا وهى
لين الكف، فأخبر أنس عن كلتا الحالتين فلا تعارض فى ذلك لو
كان التأويل كما قال الأصمعى، على أن قول الخليل وأبى عبيد
والطوسى فى تفسير الشثن مغن عن هذا التخريج. وقوله: (مخطوم
بخلبه) قال صاحب العين: هى حبل من ليف. وذكر أنس فى هذا
الحديث أن النبى - عليه السلام - مات ابن ستين سته، وهو
قول عروة بن الزبير، وروى عن ابن عباس خلاف هذا قال: (أقام
رسول الله بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه وبالمدينة عشرًا
ومات وهو ابن ثلاث وستين سنة) .
61 - باب: التلبيد
/ 101 - فيه: عُمَر، قَالَ: مَنْ ضَفَّرَ فَلْيَحْلِقْ،
وَلا تَشَبَّهُوا بِالتَّلْبِيدِ. وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ
يَقُولُ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) مُلَبِّدًا. / 102 - فيه: والتلبيد: أن يجعل الصمغ
فى الغسول ثم يلطخ بها راسه عند الإحرام ليمنعه ذلك من
الشعث. قال المؤلف وقد تقدم التلبيد فى كتاب الحج ولم
(9/158)
يمض هناك معنى قول عمر لا تشبهوا بالتلبيد
ويروى (تشبهوا) أو (تشبهوا) بضم التاء وفتحها والصحيح
فتحها والمعنى لا تشبهوا، ومن روى بضم التاء أراد لا
تشبهوا علينا. والضفر: أن يضفر شعره ذو الشعر الطويل
ليمنعه ذلك من الشعث، ومن فعل هذا لم يجز له أن يقص، لأنه
فعل مايشبه التلبيد الذى أوجب رسول الله فيه الحلاق فلذلك
رأى عمر الحلاق على من فعل ذلك. ومعنى قوله: لا تشبهوا
بالتلبيد. أى تفعلوا الفعالا تشبه التلبيد فى الانتفاع
بها، وهى العقص والضفر، ثم تقصرون ولاتحلقون، وتقولون: لم
نلبد، فمن فعل ذلك فهو مبلد وعليه الحلاق.
62 - باب الفرق
/ 103 - فيه: ابْن عَبَّاس، كَانَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) يُحِبُّ مُوَافَقَةَ أَهْلِ الْكِتَابِ فِيمَا لَمْ
يُؤْمَرْ فِيهِ، وَكَانَ أَهْلُ الْكِتَابِ يَسْدِلُونَ
أَشْعَارَهُمْ، وَكَانَ الْمُشْرِكُونَ يَفْرُقُونَ
رُءُوسَهُمْ، فَسَدَلَ النَّبِى عليه السلام نَاصِيَتَهُ
ثُمَّ فَرَقَ بَعْدُ. / 104 - وفيه: عَائِشَةَ، قَالَتْ:
كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَى وَبِيصِ الطِّيبِ فِى مَفَارِقِ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) وَهُوَ مُحْرِمٌ. وقَالَ
عَبْدُاللَّهِ: فِى مَفْرِقِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام.
قال المؤلف: فرق شعر الرأس سنة، وروى ابن وهب عن
(9/159)
أسامة بن زيد عمر عبد العزيز كان إذا انصرف
من الجمعة أقام على باب المسجد حرسًا يجزون كل من لم يفرق
شعره. قال مالك: رأيت عامر بن عبد الله بن الزبير وربيعة
بن أبى عبد الرحمن وهشام بن عروة يفرقون شعورهم، وكانت
لهشام جمةّ إلى كتفيه. فإن قال قائل: قول ابن عباس (كان
النبى عليه السلام يحب موافقة أهل الكتاب) يعارض قول النبى
(صلى الله عليه وسلم) : (إن اليهود والنصارى لا يصبغون
فخالفوهم) . فالجواب: أن حديث ابن عباس يحتمل أن يكون فى
أول الإسالم فى وقت قوى فيه طمع النبى عليه السلام برجوع
أهل الكتاب وإنابهم إلى الإسلام، وأحب موافقتهم على وجه
التالف لهم والتأنيس، مع أن أهل الكتاب كانوا أهل شريعة،
وكان المشركون لا شريعة لهم، فسدل عليه السلام ناصية، إذ
كان ذلك مباحًا لأنه لم يأته نهى عن ذلك، ثم أراد الله
تعالى نسخ السدل بالفرق فأمر نبيه بفرق شعره وترك موافقة
أهل الكتاب والحديث يدل على صحة هذا، وهو قول ابن عباس
(كان رسول الله يحب موافقة أهل الكتاب) (وكان) إخبار عن
فعل متقدم، وقوله: ثم فرق بعد إخبار عن فعل متأخر وقع منه
عليه السلام بمخالفة أهل الكتاب، وهذا هو النسخ بعينه،
لقوله عليه السلام (إن اليهود والنصارى لا يصبغون
فخالفوهم) فأمر بمخالفتهم عامًا.
63 - باب الذوائب
/ 105 - فيه: ابْن عَبَّاس، بِتُّ لَيْلَةً عِنْدَ
مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ خَالَتِي، وَكَانَ
(9/160)
النبي (صلى الله عليه وسلم) عِنْدَهَا فِى
لَيْلَتِهَا، فَقَامَ النَّبِيّ، عليه السَّلام، يُصَلِّى
مِنَ اللَّيْلِ، فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ، فَأَخَذَ
بِذُؤَابَتِى، فَجَعَلَنِى عَنْ يَمِينِهِ. قال المؤلف:
الذوائب إنما يجوز اتخاذها للغلام إذا كان فى رأسه شعر
غيرها، وأما إذا حلق شعره كله وترك ذؤابه فهو القزع الذى
نهى عنه عليه السلام، وقد جاء هذا بينًا فى الباب بعد هذا.
وروى أبو داود: حدثنا موسى بن إسماعيل، حدثنا حماد، جدثنا
أيوب، عن نافع، عن ابن عمر (أن النبى - عليه السلام - نهى
عن القزع) وهو أن يحلق رأس الصبى ويترك له ذؤابه.
64 - باب: القزع
/ 106 - فيه: ابْنَ عُمَر، أَنّ النَّبِىّ، عليه السَّلام،
نهَى عَنِ الْقَزَعِ. قُلْتُ: مَا الْقَزَعُ؟ فَأَشَارَ
لَنَا عُبَيْدُاللَّهِ قَالَ: إِذَا حَلَقَ الصَّبِى
وَتَرَكَ هَاهُنَا شَعَرَةً وَهَاهُنَا وَهَاهُنَا،
فَأَشَارَ لَنَا عُبَيْدُاللَّهِ إِلَى نَاصِيَتِهِ،
وَجَانِبَىْ رَأْسِهِ، قِيلَ لِعُبَيْدِ اللَّهِ:
وَالْجَارِيَةُ وَالْغُلامُ؟ قَالَ: لا أَدْرِى، هَكَذَا
قَالَ الصَّبِىُّ. قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: وَعَاوَدْتُهُ،
فَقَالَ: أَمَّا الْقُصَّةُ وَالْقَفَا لِلْغُلامِ، فَلا
بَأْسَ بِهِمَا، وَلَكِنَّ الْقَزَعَ أَنْ يُتْرَكَ
بِنَاصِيَتِهِ شَعَرٌ، وَلَيْسَ فِى رَأْسِهِ غَيْرُهُ،
وَكَذَلِكَ شَقُّ رَأْسِهِ هَذَا أَوْ هَذَا. قال ابن
السكيت: القزع أن تتقوب من الراس مواضع فلا يكون فيها شعر؟
قال ثابت: لم يبق من شعره إلا قزع. الواحدة: قزعه، ومثله
فى السماء قزعة.
(9/161)
وقد ذكر أبو داود فى حديث المعنى الذى من
أجله نهى النبى عليه السلام عن القزع، فقال: حدثنا
الحلوانى، حدثنا يزيد بن هارون قال: حدثنا الحجاج بن حسان
قال: (دخلنا على أنس بن مالك فقال: حدثتنى أختى قالت: دخل
علينا النبى عليه السلام وأنت يومئذ غلام ولك قرنان، فمسح
راسك وبرك عليك وقال: احلقوا هذين أو قصوهما، فإن هذا زى
اليهود) .
65 - باب: تطييب المرأة زوجها
بيديها
/ 107 - فيه: عَائِشَةَ: طَيَّبْتُ النَّبِىَّ (صلى الله
عليه وسلم) بِيَدِى لِحُرْمِهِ وَطَيَّبْتُهُ بِمِنًى
قَبْلَ أَنْ يُفِيضَ. قد تقدم فى الحج.
66 - باب: الطيب فى الرأس
واللحية
/ 108 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُطَيِّبُ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) بِأَطْيَبِ مَا أَجِدَ حَتَّى أرى وَبِيصَ
الطِّيبِ فِى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ. قال المؤلف: هذا يدل
أن مواضع الطيب من الرجال مخالفة لمواضعة من النساء، وذلك
أن عائشة ذكرت أنها كانت تجد وبيض الطيب فى رأس النبى عليه
السلام ولحيته فدل ذلك أنها إنما كانت تجعل الطيب فى شعر
راسه ولحيته لا من وجهه كما تفعل النساء فيخططن وجوههن
بالطيب يتزين بذلك، وهذا لا يجوز للرجال
(9/162)
دليل هذا الحديث، وهو مباح للنساء، لأن
جميع أنواع الزينة بالحلى والطيب ونحوه جائز لهم ما لم
يغيرن شيئًا من خلقهن.
67 - باب: الامتشاط
/ 109 - فيه: سَهْل، أَنَّ رَجُلا اطَّلَعَ مِنْ جُحْرٍ
فِى دَارِ النَّبِىِّ، عليه السَّلام، وَأن النَّبِىُّ
(صلى الله عليه وسلم) يَحُكُّ رَأْسَهُ بِالْمِدْرَى،
فَقَالَ: (لَوْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَنْظُرُ، لَطَعَنْتُ
بِهَا فِى عَيْنِكَ، إِنَّمَا جُعِلَ الإذْنُ مِنْ قِبَلِ
الأبْصَارِ) . المدرى عند العرب اسم للمشط، قال أمرؤ
القيس: تظل المدارى فى مثنى ومرسل يريد فى ماأنثى من شعرها
وانعطف، ومااسترسل، يصف امرأة بكثرة الشعر. وذكره أبو حاتم
عن الأصعمى، وأبى عبيد، وقال: المدارى: الأمشاط، وفى شرح
ابن كسيان المدرى: الود الذى تدخله المرأة فى شعرها لتضم
بعضه إلى بعضه.
68 - باب: ترجيل الحائض زوجها
/ 110 - فيه: عَائِشَةَ، كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسَ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) وَأَنَا حَائِضٌ. فيه: أن
ترجيل الشعر منزى أهل الإيمان والصلاح، وذلك من النظافة،
وقد روى مالك عن يحى بن سعيد أن قتادة الأنصارى قال لرسول
الله: (إنى لى جمة فارجلها؟ قال رسول الله: نعم وأكرمها.
وكان أبو قتادة ربما دهنها فى يوم مرتين لما قال رسول
الله: وأكرمها) .
(9/163)
وهذا الحديث قد أسنده الرازى عن يحى بن
سعيد، عن محمد بن المنكدر، عن أبى قتادة. . فذكره. وقد روى
عن النبى عليه السلام خلاف تأويل أبى قتادة، روى على بن
المدينى، عن يحى بن سعيد، عن هشام، عن الحسن عن عبد الله
بن مغفل قال: (نهى رسول الله عن الترجيل إلا غبًّا) . وروى
ابن المبارك، عن كهمس عن الحسن، عن ابن بريدة عن رجل
اصاحاب النبى - عليه السلام - قال: (نهانا رسول الله عن
الإرفاء. قلت لأبن بريدة: مالإرفاه؟ قال: الترجيل كل يوم)
. روى ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبى أمامه، عن عبد الله
بن كعب بن مالك، عن أبى أمامه قال: (ذكر أصحاب رسول الله
يومًا عنده الدنيا البذاذة من الإيمان) . والمراد بهذا
الحديث - والله أعلم - بعض الأوقات ولم يأمر بلزوم البذاذة
فى جميع الأحوال لتتفق الأحاديث، وقد أمر الله تعالى بأخذ
الزينة عند كل مسجد، وأمر النبي (صلى الله عليه وسلم)
باتخاذ الطيب، وحسن الهيئة واللباس فى الجمع وماشكل ذلك من
المحافل.
(9/164)
69 - باب: الترجل
/ 111 - فيه: عَائِشَةَ، أَن النَّبِىِّ، عليه السَّلام،
كَانَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ مَا اسْتَطَاعَ فِى
تَرَجُّلِهِ وَوُضُوئِهِ. الترجلّ من باب النظافة والزينة
المباحة للرجال، وقد تقدم فى الباب قبل هذا أن ذلك فى بعض
الأوقات ومعناه الخصوص وروى مالك، عن زيد بن أسلم أن عطاء
بن يسار أخبره قال: (كان رسول الله فى المسجد فدخل رجل
ثائر الراس واللحية فاشار إليه رسول الله بيده أن أخرج،
كأنه يعنى إصلاح شعر رأسه ولحيته ففعل الرجل ثم رجع، فقال
رسول الله: اليس هذا خيرًا من أن أحدكم ثائر الراس كأنه
شيطان) .
70 - باب: المسك
/ 112 - فيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ النَّبِيّ، عليه
السَّلام، (لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ
اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ) . قال المؤلف المسك أطيب
الطيب، وقد روى ذلك عن النبى عليه السلام من حديث أبى سعيد
الخدرى، وقد ذكرته فى كتاب الذبائح، وهذا الحديث يشهد
لحديث أبى سعيد، لأنه لو كان فى الطيب فوق المسك لضرب به
المثل عند الله كما ضرب بالمسك.
(9/165)
71 - باب: من لم يرد
الطيب
/ 113 - فيه: أَنَس، أَنَّهُ لا يَرُدُّ الطِّيبَ،
وَزَعَمَ أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) كَانَ لا
يَرُدُّ الطِّيبَ. وترجم له فى كتاب الهبة باب ما لا يرد
من الهدية. ذكره أبو داود من حديث عبد الله بن أبى جعفر،
عن الأعرج، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (من عرض عليه
طيب فلا يرده، فإنه طيب الريح خفيف المحمل) . ومن حديث
كثير بن عبد الله قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال رسول
الله: (حبب إلى من الشياء النساء والطيب وجعل قرة عينى فى
الصلاة) أنه كان يرى فيها الجنة وماوعد الله فيها لأوليائه
المؤمنين.
72 - باب: الذريرة
/ 114 - فيه: عَائِشَةَ، طَيَّبْتُ النَّبِىّ، عليه
السَّلام، بِيَدَىَّ بِذَرِيرَةٍ فِى حَجَّةِ الْوَدَاعِ
لِلْحِلِّ وَالإحْرَامِ. يقول المؤلف: الذريرة نوع من
أنواع الطيب، وكل ما يطلق عليه اسم طيب فيجوز استعماله،
لعموم قول أنس: كان النبى - عليه السلام - لا يرد الطيب.
فعم أنواعه كلها.
(9/166)
73 - باب: المتفلجات
للحسن
/ 115 - فيه: عَبْدُ اللَّهِ: لَعَنَ النَّبِىّ، عليه
السَّلام، الْوَاشِمَاتِ، وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ،
وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ،
الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، مَالِى لا أَلْعَنُ مَنْ
لَعَنَ النَّبِىُّ، عليه السَّلام، وَهُوَ فِى كِتَابِ
اللَّهِ تَعَالَى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)
[الحشر: 7] . وترجم له: باب المتنمصات. الواشمة: هى التى
تشم يديها وذلك أن تغرر ظهر كفها أو غيره من جسدها بإبرة
حتى تؤثر فيها ثم تحشوه كحلا وتجعله كالنقش فى جسدها تتزين
بذلك. والنامصة: هى الناقة، والنمص: والنتف، قال أبو جنيفة
ولذلك قيل للمنقاش الذى ينتف به: منماص، ويقال: قد أنمص
البقل فهو نميص إذا ارتفع قليلاً حتى يمكن أن ينتف
بالأظفار. والمتفلجة: هى المفرقة بين اسنانها المتلاصقة
بالنحت لتبعد بعضها من بعض، والفلج: تباعد مابين الشيئين
يقال: منه رجل أفلج، وامرأة فلجاء. قال الطبرى: فى هذا
الحديث البيان عن رسول الله أنه لا يجوز لامرأة تغيير شىء
من خلقها الذى خلقها الله عليه بزيادة فيه أو نقص منه
التماس التحسن به لزوج أو غيره، لأن ذلك نقض منها خلقها
إلى غير هيئته، وسواء فلجت اسنانها المستوية البنية
ووشرتها أو كانت لها أسنان طوال فقطعت طلبًا للحسن، أو
أسنان زائدة على المعروف من أسنان بنب آدم فقلعت الزوائد
من ذلك بغير عله إلا طلب التحسن والتجمل، فإنها فى كل ذلك
مقدمة على مانهى الله
(9/167)
تعالى عنه على لسان نبيه إذا كانت عالمة
بالنهى عنه، وكذلك غير جائز لامرأة خلقت لها لحية أو شارب
أو عنفقه أن تحلق ذلك منها أو تقصه طلبًا للتجمل، لأن كل
ذلك تغيير لخلق الله، ومعنى النص الذى لعن رسول الله
فاعلته. فإن قال قائل: فإنك لتجيز للرجل أن يأخذ من أطراف
لحيته وعوارضه إذا كثرت ومن الشارب وإطاره إذا وفى،
فالمرأة أحق أن يجوز لها إماطة ذلك من الرجل، إذ الأغلب من
النساء أن ذلك بهن قليل، وإنما ذلك من خلق الرجال، فجعلت
أخذ ذلك من النساء تغييرًا لخلق الله، وجعلتها من الرجال
غير تغيير، فما الفرق بين ذلك؟ قيل: إنما لم نحظر على
المرأة إذا كانت ذات شارب فوفى شاربها أن تأخذ من إطاره
وأطرافه أو كانت ذات لحية طويلة أن تأخذ منها، وإنما
نهيناها عن نمص ذلك وحلقة للعنة النبى النامصة والمتنمصة،
ولاشك أن نمصها لحية أو شاربًا إن كان لها نظير نمصها
شعرًا بزجهها أو جبينها، وفى فرق الله على لسان رسوله بين
حكمها فيما لها من أخذ شعر راسها وماليس لها منه، وبين حكم
الرجل فى ذلك أبين الدليل على افتراق حكمها فى ذلك، وذلك
أن النبى - عليه السلام - أذن للرجال فى قص شعر رؤوسهم
كلما شاءوا وندبهم إلى حلقة إذا حلوا من إحرامهم، وحظر ذلك
على المرأة فى الحالتين كلتيهما، إلا أن تأخذ من أطرافه
ففى ذلك أبين البيان أن حكم الرجل والمرأة فى ذلك مفترق،
فالواجب أن يكون مفترقًا فيما لهما من إحفاء الشوارب وقص
النواصى وحلقها، وإنما أبحنا لها أن تأخذ
(9/168)
من أطراف لحيتها وإطار شاربها، كما ابحنا
لها أن تأخذ من أطراف شعر رأسها إذا طال، لما روى شعبه، عن
أبى بكر بن حفص، عن أبى سلمه قال: (كان أزواج النبى يأخذن
من شعورهن حتى يدعنه كهيئة الوفرة) . وروى ابن جريح، عن
صفيه بنت شيبة، عن أم عثمان بنت سفيان، عن ابن عباس قال:
(نهى النبى عليه السلام أن تحلق المرأة رأسها، وقال: الحلق
مثله) . وقال مجاهد: لعن رسول الله الحالقة. فإن قال: فما
وجه من أطلق النمص والوشم، وأحله وقد علمت ما روى شعبه، عن
أبى إسحاق، عن امرأته (أنها دخلت على عائشة فسالتها، وكانت
امرأة شابة يعجبها الجمال، فقالت: المرأة تحف جبينها
لزوجها. فقالت: أميطى عنك الأذى ما استطعت) . قال الطبرى:
هكذا قال ابن المثنى تحف، وهو غلط، لأن الحف بالشىء هو
الإطافة به، وإنما هو تحفى بمعنى تستأصله حلقًا أو نتفًا.
وما حدثك تميم بن المنتصر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا
إسماعيل بن قيس قال: دخلت وأنا وأبى على أبى بكر، فرأيت يد
أسماء موشومة. قيل: أما عائشة فإن فى الرواية عنها
اختلافًا وذلك أن عمران بن موسى قال: حدثنا عبد الوارث بن
سعيد قال: حدثتنى أم الحسن، عن معاذة (أنها سالت عائشة عن
المرأة تقشر وجهها؟ فقالت:
(9/169)
إن كنت تشتهين أن تتزيني فلا يحل، وإن كانت
امرأة بوجهها كلف شديد فما - كأنها كرهته ولم تصرح) فهذه
الرواية بالنهى عن قشر المرأة وجهها للزينة وذلك نظير
إحفائها جبينها للزينة، وإذا اتخلفت الرواية عنها كأن أولى
الأمور أن يضاف إليها اشبهها بالحق. وأما اسماء فإنها كانت
امرأة أدركت الجاهلية، وكان نساء الجاهلية يفعلن ذلك
ويتزين به، ولعل ذلك منها كان فى الجاهلية، ولم يخبر قيس
عنها أنها وشمت يدها فى الإسلام، وقد يجوز أن تكون وشمتها
فى الجاهلية أو الإسلام قبل أن ينهى عن ذلك رسول الله، فمن
أنها وشمتها فى الإسلام بعد نهى النبى عليه السلام فليأت
ببرهان على ماادعى من ذلك، ولاسبيل إليه. قال المؤلف: يقال
للطبرى: أما ما ذكرته من أن المرأة منهية عن حلق رأسها فى
الإحرام وغيره بحديث ابن عباس، وقوله عليه السلام: إن
الحلق مثله، فإن حديث ابن عباس ليس معناه التحريم بدليل أن
المرأة لو حلقت راسها فى الحج مكان التقصير اللازم لها لم
تأت فى ذلك حراما، ودل قوله: إن الحلق مثله، أن معنى النهى
عن ذلك إنما هو خيفة أن تمثل المرأة بنفسها وتنقض جمالها
فيكره ذلك بعلها، والمثلة ليست بحرام وإنما هى مكروهة، وقد
قال مالك: حلق الشارب مثله، وقد ثبت حلقه عن كثير من
السلف، واحتجوا بأمره عليه السلام بإحفاء الشوارب، وأما
قول مجاهد: لعن رسول الله الحالقة فليس من هذا الباب فى
شىء، وإنما لعن الحالقة لشعرها عند المصيبة اتباعًا لسنن
الجاهلية، وبهذا جاء الحديث، ذكره
(9/170)
البخاري فى كتاب الجنائز من حديث أبى موسى:
(أن رسول الله برىء من الحالقة والصالقة والشاقة) وترجم له
باب ماينهى عنه من الحلق عند المصيبة، فبان بهذا معنى
النهى عن الحلق أنه عند المصيبة كفعل الجاهلية، وأما إن
احتاجت امرأة إلى حلق راسها فذلك غير حرام عليها كالرجل
سواء.
74 - باب: الوصل فى الشعر
/ 116 - فيه: مُعَاوِيَةَ أَنَّهُ قَالَ عَلَى الْمِنْبَرِ
- وَتَنَاوَلَ قُصَّةً مِنْ شَعَرٍ كَانَتْ بِيَدِ حَرَسِى
-: أَيْنَ عُلَمَاؤُكُمْ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) يَنْهَى عَنْ مِثْلِ هَذِهِ، وَيَقُولُ:
إِنَّمَا هَلَكَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ حِينَ اتَّخَذَ
هَذِهِ نِسَاؤُهُمْ. / 127 - وفيه: أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ
الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ
وَالْمُسْتَوْشِمَةَ. / 118 - وفيه: عَائِشَةَ، أَنَّ
جَارِيَةً مِنَ الأنْصَارِ تَزَوَّجَتْ، وَأَنَّهَا
مَرِضَتْ، فَتَمَعَّطَ شَعَرُهَا، فَأَرَادُوا أَنْ
يَصِلُوهَا، فَسَأَلُوا النَّبِىَّ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالَ: (لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ
وَالْمُسْتَوْصِلَةَ) . / 119 - وفيه: أَسْمَاءَ، أَنَّ
امْرَأَةً جَاءَتْ إِلَى النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) ،
فَقَالَتْ: إِنِّى أَنْكَحْتُ ابْنَتِى، ثُمَّ أَصَابَهَا
شَكْوَى، فَتَمَرَّقَ رَأْسُهَا، وَزَوْجُهَا
يَسْتَحِثُّنِى بِهَا، أَفَأَصِلُ رَأْسَهَا؟ فَسَبَّ
رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) الْوَاصِلَةَ
وَالْمُسْتَوْصِلَةَ. / 120 - وفيه: ابْن عُمَر، أَنَّ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) لَعَنَ الْوَاصِلَةَ
وَالْمُسْتَوْصِلَةَ، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَةَ.
قَالَ نَافِعٌ: الْوَشْمُ فِى اللِّثَةِ.
(9/171)
قال الطبرى وغيره: فى هذه الأحاديث من
الفقه أنه لا يجوز لامرأة أن تصل شعرها بشىء يتجمل به ويظن
من يراه أنه شعرها، كما لا يجوز أن تشم خلقها تتزين بذلك،
وهو قول مالك وجماعة، وفاعله ذلك لم ترض بما أعطاها الله
فغيرت خلقها. قال الطبرى: وقد اختلف العلماء فى معنى نهيه
عليه السلام عن الوصل فى الشعر، فقال بعضهم: لا بأس عليها
فى وصلها شهرها ماوصلت به من صوف وخرق وشبه ذلك، روى ذلك
عن ابن عباس وأم سلمه زوج النبى، وعلة هذه المقالة قول
معاية حين أخرج القصة من الشعر وقال: (نهى رسول الله عن
مثل هذه) . قالوا: وأما الخرق والصوف فليس ذلك مما دخل فى
نهيه عليه السلام. وقال آخرون: كل ذلك داخل فى مهيه لعموم
الخبر عنه أنه لعن الواصلة والمستوصلة، قالوا: فبأى شىء
وصلت شعرها فهى واصلة، روى ذلك عن أم عطية. وقال آخرون: لا
بأس عليها فى وصلها شعرها بما وصلت به من شىء، شعرًا كان
الذى وصلت به أو غيره. روى ذلك عن عائشة وسالها ابن اشوع:
(لعن رسول الله الواصلة؟ قالت: أيا سبحان الله وماباس
بالمرأة الزعراء أن تأخذ شيئًا من صوف فتصل به شعرها تتزين
به عند زوجها إنما لعن رسول الله المرأة الشابة تبغى فى
شبيبتها حتى إذا أسنت هى وصلتها بالقيادة) . وسئل عطاء عن
شعور الناس أينتفع بها قال: لا بأس بذلك. وقال آخرون: لا
يجوز الوصل بشىء شعر ولاغيره، ولاباس أن تضع الشعر وغيره
على راسها وضعًا مالم تصله، روي ذلك عن
(9/172)
إبراهيم، وعلة هذا القول ان الخبر إنما ورد
عن النبى عليه السلام بالنهى عن الوصل، فأما مالم يكن وصلا
فلا باس به. قال الطبرى: والصواب عندنا فى ذلك أن يقال:
غير جائز أن تصل بشعرها شيئًا من الشياء لتتجمل به، وشعرًا
كان أو غيره لعموم النهى عن النبى عليه السلام أن تصل
بشعرها شيئًا. وأما خبر اشوع عن عائشة فهو باطل، لأن رواته
لا يعرفون، وابن اشوع لم يدرك عائشة. قال غيره: وإنما قال
معاوية: (يا أهل المدينة أين علماؤكم؟) وإن كانت المدينة
دار العلم ومعدن الشريعة وإليها يفزع الناس فى أمر دينهم
ألا ترى أن معاوية قد بعث إلى عائشة يسألها عن مسائل نزلت
به، فقال: يا أهل المدينة أين علماؤكم الذين يلزمهم تغيير
المنكر، والتشدد على استباح مانهى عنه النبى عليه السلام
ولايجوز أن يقال: إن المنكر كان بالمدينة ولم يغيره أهلها،
لأنه لا يخلو زمان عن ارتكاب المعاصى، وقد كان فى وقت
النبى عليه السلام من شرب الخمر وسرق وزنى إلا أنه كان
شاذا نادرًا، ولايحل لمسلم أن يقول: إن النبى عليه السلام
لم يغير المنكر، فكذلك أمر القصة كان شاذًا بالمدينة ولا
يجوز أن يقال: أن أهل المدينة جهلوا نهى النبى - عليه
السلام - عن القصة، لأن حديثه فى لعن الواصلة والمستوصلة
حديث مدنى، رواه نافع عن ابن عمر، ورواه هشام بن عروه، عن
فاطمة بنت المنذر، عن أسماء، عن النبى - عليه السلام - وهو
معروف عندهم مستفيض.
(9/173)
ولعن رسول الله الواصلة والمستوصلة
والواشمة والمستوشمة لأنهما تعاونا على تغيير خلق الله،
وفيه دليل أن من أعان على معصية، فهو شريك فى الأثم.
وقوله: (تمرق شعرها) قال صاحب الأفعال: مرق الشعر والصوف
نتفه، وأمرق الشعر جاز أن ينتف، و (القصة) قال الأصمعى:
القصة ماأقبل على الجبهة من شعر الرأس.
75 - باب: التصاوير
/ 121 - فيه: أَبُو طَلْحَةَ، قال عليه السَّلام: (لا
تَدْخُلُ الْمَلائِكَةُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلا
تَصَاوِيرُ) . وسيأتى الكلام فى هذا الحديث فى باب لا تدخل
الملائكة بيتًا فيه كلب ولا صورة، إن شاء الله.
76 - باب: عذاب المصورين يوم
القيامة
/ 122 - فيه: مَسْرُوقٍ، أَنَّه رَأَى صُفَّتِهِ فيها
تَمَاثِيلَ، فَقَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَاللَّهِ، يَقُولُ:
سَمِعْتُ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (إِنَّ
أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ) . / 123 - وفيه: ابْن
عُمَر، قَالَ، عليه السَّلام: (إِنَّ الَّذِينَ
يَصْنَعُونَ هَذِهِ الصُّوَرَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ) .
قال الطبرى: إن قال قائل: ماانت قائل فيمن صور صورة وهو
(9/174)
لله موحد ولنبيه عليه السلام مصدق أهو اشد
عذابًا أم فرعون وآله؟ فإن قلت: من صور صورة، قيل: قد قال
الله خلاف ذلك: (أدخلوا آل فرعون أشد العذاب (. قيل: ليس
فى خبر ابن مسعود خلاف للتنزيل بل هو له مصدق، وذلك أن
المصور الذى أخبر النبى عليه السلام أنه له أشد العذاب هو
الذى وصفه النبى عليه السلام - فى حديث عائشة بقوله:
(الذين يضاهون خلق الله) . قال المؤلف: المتكلف من ذلك
مضاهاة ماصوره ربه فى خلقه أعظم جرمًا من فرعون وآله، لأن
فرعون كان كفره بقوله: (أنا ربكم الأعلى) من غير إدعاء منه
أنه يخلق ولا محالة منه أن ينشىء خلقا يكون كخلقه تعالى
شبيهًا ونظيرًا، والمصور المضاهى بتصويره ذلك منطو على
تمثيله نفسه بخالقه، فلا خلق أعظم كفرًا منه فهو بذلك
اشادهم عذابا وأعظم عقابًا، وأما من صور صورة غير مضاه
ماخلق ربه، وإن كان بفعله مخطئًا، فغير داخل فى معنى من
شاهى ربه بتصويره. فإن قيل: ومالوجه الذى تجعله به مخطئًا
إذا لم يكن فى تصويرة لربه مضاهيًا؟ قيل: لاتهامه نفسه عند
من عاين تصويره أنه ممن قصد بذلك المضاهاة لربه، إذ كان
الفعل الذى هو دليل على المضاهاة منه ظاهرًا، والاعتقاد
الذى هو خلاف اعتقاد المضاهى باطن لا يصل إلى علمه راءوه.
(9/175)
وقد روى الأعمش عن عمارة بن عمير قال: كنت
جالسًا عند رجل من اصحاب ابن مسعود فمثلت فى الأرض مثال
عصفور فضرب يدى.
77 - باب: نقض الصور
/ 124 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) لَمْ يَكُنْ يَتْرُكُ فِى بَيْتِهِ شَيْئًا فِيهِ
تَصَالِيبُ إِلا نَقَضَهُ. / 125 - وفيه: أَبُو
هُرَيْرَةَ، أَنَّه دَخَل دَارًا بِالْمَدِينَةِ، فَرَأَى
أَعْلاهَا مُصَوِّرًا يُصَوِّرُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) يَقُولُ: (وَمَنْ أَظْلَمُ
مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِى، فَلْيَخْلُقُوا
حَبَّةً، وَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً) ، ثُمَّ دَعَا بِتَوْرٍ
مِنْ مَاءٍ فَغَسَلَ يَدَيْهِ حَتَّى بَلَغَ إِبْطَهُ.
فَقُلْتُ: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، أَشَىْءٌ سَمِعْتَهُ مِنْ
رَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ؟ قَالَ: مُنْتَهَى
الْحِلْيَةِ. قال المؤلف: فى حديث عائشة حجة لمن كره الصور
فى كل شىء مما يمتهن ويوطأ وغيره، لعموم قول عائشة (أن
النبى - عليه - لم يكن يترك فى بيته شيئًا فيه تماثيل إلا
نقضه) فدخل فى ذلك جميع وجوه استعمال الصور فى البسط
واللباس وغيره، وفى حديث أبى هريرة دليل على أن نهيه عليه
السلام عن الصور مجمل، معناه عندهم على العموم أيضًا فى
الحيطان والثياب وغيرها. وقوله عليه السلام: (من أظلم ممن
ذهب يخلق كخلقى) هو فى معنى حديثه عليه السلام: (أنه لعن
المصور) لأنه وصف المصور
(9/176)
بأشد الظلم وقد قال تعال: (ألا لعنة الله
على الظالمين (فعمت اللعنة كل من وقع عليه اسم ظالم من
مصور وغيره. ووضوء أبى هريرة إلى ابطه ليس عليه العمل
وأجمعت الأمة أنه لا يتجاوز بالوضوء ماحده الله من
المرفقين، وقد تقدم فى كتاب الوضوء. وقوله: (منتهى الحلية)
فهو مثل ما روى عنه فى كتاب الوضوء أنه قال: سمعت رسول
الله يقول: (إن أمتى يدعون غرا محجلين من أثر الوضوء فمن
استطاع أن يطيل غرته فيفعل) . وكنى بالحلية عن الغرر
والتحجيل.
78 - باب: ما نهى عنه من
التصاوير
/ 126 - فيه: عَائِشَةَ، قَدِمَ النَّبِىّ (صلى الله عليه
وسلم) مِنْ سَفَرٍ، وَقَدْ سَتَرْتُ بِقِرَامٍ لِى عَلَى
سَهْوَةٍ لِى فِيهَا تَمَاثِيلُ، فَلَمَّا رَآهُ النَّبِىّ
(صلى الله عليه وسلم) هَتَكَهُ، وَقَالَ: (أَشَدُّ
النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ
يُضَاهُونَ بِخَلْقِ اللَّهِ) ، قَالَتْ: فَجَعَلْنَاهُ
وِسَادَةً أَوْ وِسَادَتَيْنِ. / 127 - فيه: وَقَالَتْ
مرة: قَدِمَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مِنْ سَفَرٍ،
وَعَلَّقْتُ دُرْنُوكًا فِيهِ تَمَاثِيلُ، فَأَمَرَنِى
أَنْ أَنْزِعَهُ فَنَزَعْتُهُ، وَكُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا
وَالنَّبِى (صلى الله عليه وسلم) مِنْ إِنَاءٍ وَاحِدٍ.
(9/177)
فى هذا الحديث حجة لمن أجاز من استعمال
الصور مايمتهن ويبسط، إلا ترى أن عائشة فهمت من إنكار
النبى - عليه السلام - للصور فى الستر أن ذلك لما كان
منصوبًا ومعلقًا دون ماكن منها مبسوطًا يمتهن بالجلوس على
والارتفاق، فلذلك جعلته وسادة، وسأذكر ماذاهب العلماء فى
الباب بعد هذا. وقوله: (إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة
الذين يضاهون خلق الله) يفسر حديث ابن مسعود المتقدم فى
باب عذاب المصورين يوم القيامة، ويدل أن الوعيد الشديد
إنما جاء لمن صور صورة مضاهاة لخلف الله، وقد تقدم ذلك.
79 - باب: من كره القعود على
الصور
/ 128 - فيه: عَائِشَةَ، أَنَّهَا اشْتَرَتْ نُمْرُقَةً
فِيهَا تَصَاوِيرُ، فَقَامَ النَّبِى (صلى الله عليه وسلم)
بِالْبَابِ، فَلَمْ يَدْخُلْ، فَقُلْتُ: أَتُوبُ إِلَى
اللَّهِ مِمَّا أَذْنَبْتُ، قَالَ: مَا هَذِهِ
النُّمْرُقَةُ؟ قُلْتُ: لِتَجْلِسَ عَلَيْهَا،
وَتَوَسَّدَهَا، قَالَ: (إِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الصُّوَرِ
يُعَذَّبُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُقَالُ لَهُمْ:
أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ، وَإِنَّ الْمَلائِكَةَ لا
تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ الصُّورَةُ) . نمارق: وسائد مصفوفة
بعضها إلى بعض. / 129 - وفيه: أَبُو طَلْحَةَ إِنَّ
النَّبِىّ (صلى الله عليه وسلم) قَالَ: (إِنَّ
الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُّورَةُ) .
قَالَ بُسْرٌ: ثُمَّ اشْتَكَى زَيْدٌ فَعُدْنَاه، فَإِذَا
عَلَى بَابِهِ سِتْرٌ فِيهِ صُورَةٌ، فَقُلْتُ
لِعُبَيْدِاللَّهِ - رَبِيبِ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِى
(صلى الله عليه وسلم) -: أَلَمْ يُخْبِرْنَا زَيْدٌ عَنِ
الصُّوَرِ يَوْمَ الأوَّلِ؟ قَالَ عُبَيْدُاللَّهِ: أَلَمْ
تَسْمَعْهُ حِينَ قَال: إِلا رَقْمًا فِى ثَوْبٍ؟
(9/178)
اختلف العلماء فى الصور: فكره ابن شهاب
مانصب منها ومابسط كان رقمًا أو لم يكن، على حديث نافع عن
القاسم عن عائشة. وقالت طائفة: إنما يكره من التصاوير
ماكان فى حيطان البيوت، وأما ماكان رقمًا فى ثوب فهو جائز
على حديث زيد بن خالد عن أبى طلحة، وسواء كان الثوب
منصوبًا أو مبسوطًا وبه قال القاسم وخالف حديثه عن عائشة.
وقد روى ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن عبد الرحمن ابن
القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبى (صلى الله عليه وسلم)
: (أدخلت أسماء بنت عميس على القاسم بحجلة فيها تصاوير،
قال القاسم: فتلك الحجلة عندنا بعد) . وقال آخرون: لا يجوز
لباس ثوب فيه صور ولابصبه، وإنما يجوز من ذلك مابوطأ
ويمتهن. واحتجوا بحديث سفيان، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن
أبيه، عن عائشة قالت: (سترت سهوة لى بستر فيه تصاوير، فلما
رآه النبى عليه السلام هتكه، فجعلته وسادة أو وسادتين)
ورواه وكيع عن اسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن القاسم،
وزاد فيه: (فرأيت النبى عليه السلام متكئًا على إحداهما) .
قالوا: فكره رسول الله ماكان سترًا ولم يكره ما يت: اعليه
ويوطأ، وبهذا قال سعد بن أبى وقاص وسالم وعروة وابن سيرين
وعطاء وعكرمة، قال عكرمة: فيما يوطأ من الصور هو أذل لها،
وهذا أوسط المذاهب فى هذا الباب، وهو قول مالك والثوري
وابي حنيفة والشافعي.
(9/179)
قال الطحاوي: يحتمل قوله: (إلا رقمًا فى
ثوب) أنه اراد رقمًا يوطأ ويمتهن كالبسط والوسائد. وقال
الداودى: حديث سفيان وأسامة بن زيد، عن عبد الرحمن ابن
القاسم، عن أبيه، عن عائشة ناسخ لحديث نافع، عن القاسم، عن
عائشة، وإنما نهى النبى عليه السلام أولا عن الصور كلها
وإن كانت رقمًا، لأنهم كانوا حديث عهد بعبادة الصور، فنهى
عن ذلك جملة، ثم لما تقرر نهيه عن ذلك أباح ماكان رقمًا فى
ثوب للضرورة إلى اتخاذ الثياب، وأباح مايمتهن لأنه يؤمن
على الجاهل تعظيم مايمتهن، وبقى النهى فيما ترفه ولايمتهن،
وفيما لا حاجة بالناس إلى اتخاذه، ومايبقى مخلدًا فى مثل
الحجر وشبهه من الصور التى لها أجرام وظل، لأن فى صنيعها
التشبه بخلق الله - تعالى. وكره بعضهم ماله روح، وإن لم
يكن له ظل على ظاهر حديث عائشة: (إن أشد الناس عذابًا يوم
القيامة المصورون يقال لهم: أحيوا ماخلقتم) وكره مجاهد صور
الشجر المثمر، ولا أعلم أحد كرهها غيره.
80 - باب: كراهة الصلاة فى
التصاوير
/ 130 - فيه: أَنَس، كَانَ قِرَامٌ لِعَائِشَةَ سَتَرَتْ
بِهِ جَانِبَ بَيْتِهَا، فَقَالَ لَهَا النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) : (أَمِيطِى عَنِّى، فَإِنَّهُ لا تَزَالُ
تَصَاوِيرُهُ تَعْرِضُ لِى فِى صَلاتِى) . فيه من الفقه:
أنه ينبغى التزام الخشوع وتفريغ البال لله
(9/180)
- تعالى، وترك التعرض لكل ما يشغل المصلى
عن الخشوع، إلا ترى أن رسول الله نبه على هذا المعنى
بقوله: (فإنه لا تزال تصاوير تعرض لى فى صلاتى) وهذا مثل
ماعرض له على السلام فى الخميصة التى أهداها له أبو جهم
فقال: (اذهبوا بها أبى جهم، فإنى نظرت إلى علمها فى الصلاة
فكاد يفتنى) . وفيه من الفقه: أن مايعرض للمرء فى صلاته من
الفكرة فى أمور الدنيا ومايخطر بباله من ذلك، وماينظر إليه
بعينه أنه لا يقطع صلاته، كما لم يقطع صلاة النبى اعتراض
التصاوير له فيها، إذ لم يسلم أحد من ذلك.
81 - باب: لا تدخل الملائكة بيتًا فيه صورة
/ 131 - فيه: ابْن عُمَر: وَعَدَ النَّبِى (صلى الله عليه
وسلم) جِبْرِيلُ، فَرَاثَ عَلَيْهِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى
النَّبِى (صلى الله عليه وسلم) ، فَخَرَجَ النَّبِى (صلى
الله عليه وسلم) ، فَلَقِيَهُ، فَشَكَا إِلَيْهِ مَا
وَجَدَ، فَقَالَ لَهُ: (إِنَّا لا نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ
كَلْبٌ وَلا صُورَةٌ) . قال ابن وضاح: الملائكة فى هذا
الحديث ملائكة الوحى مثل حبريل وإسرافيل، فأما الحفظة
فيدخلون كل بيت ولا يفارقان الإنسان على كل حال، وقاله
الداوجى أيضًا. قال الطبرى: إن قال قائل: أفحرام دخول
البيت الذى فيه التماثيل والصور؟ . قيل: لا، ولكنه مكروه
أعنى ماكان من ذلك من ذوات الرواح، وأما ما كان من ذلك
علمًا فى ثوب أو رقمًا فيه، وكان مما
(9/181)
يوطأ ويجلس عليه فلا باس به وما كان مما
ينصب، فإن كان من صورة ما لا روح فيه فلا بأس به كصور
الشجار والزرع والنبات، وإن كان من صور ما فيه الروح فلا
استحبه لما حدثنا محمد ابن عبد الملك بى أبى الشوارب،
حدثنا يزيد، حدثنا داود بن أبى هند، حدثنا عزرة، عن حميد
بن عبد الرحمن، عن سعد بن هشام، عن عائشة قالت: كان لنا
ستر تمثال طير مستقبل باب البيت فقال النبى (صلى الله عليه
وسلم) : (حوليه فإنى كلما دخلت فرأيته ذكرت النديا. قالت:
وكان لنا قطيفة لها علم حرير فكنا نلبسها) فلم يقطعه، ولم
يأمر عائشة بفساد تمثال الطير الذى كان فى الستر، ولكنه
أمر بتنحيته عن موضعه الذى كان معلقًا فيه من أجل كراهيته
لرؤيته إياه، لما يذكر من الدنيا وزينتها، وفى قوله عليه
السلام: (فإنى كلما رأيته ذكرت الدنيا) دليل بين على أنه
كان يدخل البيت الذى ذلك فيه فيراه، ولاينهى عائشة عن
تعليقه، وذلك يبين صحة ما قلناه من أن ذلك إذا كان رقمًا
فى ثوب وعلمًا فيه فإنه مخالف معنى معنى ما كان مثالا
ممثلاً قائمًا بنفسه. وقوله: (فراث عليه) يعنى ابطأ، ومنه
قولهم: ربّ عجله تهب ريثًا.
82 - باب: من لعن المصور
/ 132 - فيه: أَبُو جُحَيْفَةَ، إِنَّ النَّبِى (صلى الله
عليه وسلم) لَعَنَ الْمُصَوِّرَ. . . الحديث. / 133 -
وفيه: ابْن عَبَّاس، قَالَ: سَمِعْتُ مُحَمَّدًا (صلى الله
عليه وسلم) يَقُولُ: (مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِى الدُّنْيَا
كُلِّفَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا
الرُّوحَ، وَلَيْسَ بِنَافِخٍ) .
(9/182)
قال المهلب: إن قال قائل: كيف أدخل البخارى
حديث ابن عباس فى باب من لعن المصور، وليس ذلك فى الحديث؟
قيل: وجه ذلك - والله أعلم - أن اللعن فى لغة العرب
الإبعاد من رحمة الله بالعذاب، ومن كلفه الله ينفخ الروح
فيما صور وهو لا يقدر على ذلك ابدًا فقد ابعده الله من
رحمته، فأين أكثر من هذا اللعن؟ قال الطبرى: وفى قوله عليه
السلام: (من صور صورة كلف أن ينفخ فيها الروح) دليل بين أن
الوعيد إنما جاء فى تصوير ماله روح من الحيوان، وأما تصوير
الشجر والجمادات فليس بداخل فى معنى الحديث. وروى سفيان عن
عوف عن سعيد بن أبى الحسن قال: (كنت عن ابن عباس فأتاه رجل
فقال: إن معيشتى من هذه التاصوير، فقال ابن عباس: قال
النبى (صلى الله عليه وسلم) : من صور صورة كلف أن ينفخ
فيها وليس بنافخ. فاصفر الرجل، فلما راى صفرته قال: إن كنت
لابد صانعًا فعليك بهذا الشجر وكل شىء ليس فيه روح) .
83 - باب الارتداف على الدابة
/ 134 - فيه: أَنَّ الرسُول (صلى الله عليه وسلم) أَرْدَفَ
أُسَامَةَ عَلَى حِمَارٍ. وقد تقدم في الحج.
(9/183)
84 - باب: الثلاثة
على الدابة
/ 135 - فيه: ابْن عَبَّاس، لَمَّا قَدِمَ النَّبِىُّ (صلى
الله عليه وسلم) مَكَّةَ، اسْتَقْبَلَهُ أُغَيْلِمَةُ
بَنِى عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَحَمَلَ وَاحِدًا بَيْنَ
يَدَيْهِ وَالآخَرَ خَلْفَهُ. قال الطبرى: فإن قال قائل:
هذا حديث صحيح، فما أنت قائل فيما حدثك إسحاق بن زيد
الخطابى قال: حدثنا محمد بن سليمان، عن أبيه قال: حدثنا
عطاء، عن أبى سعيد الخدرى قال: قال رسول الله: (لا يركب
الدابة فوق أثنين) ؟ . قيل: قد اختلف السلف فى ذلك فقال
بعضهم بخبر ابن عباس، وقالوا: جائز أن يركب الدابه ثلاثة
إذا أطاقت حملهم، روى ذلك عن ابن عمر قال: ماأبالى أن أكون
عاشر عشرة على دابه إذا أطاقت حمل ذلك. رواه شعبة عن عاصم،
عن الشعبى عنه. وكره آخرون ركوب دابه أكثر من اثنين،
واحتجوا بحديث أبى سعيد، روى ذلك عن على بن أبى طالب قال:
إذا رأيتم ثلاثة نفر على دابه فأرجموهم حتى ينزل أحدهم.
قال الطبرى: وكلا الخبرين صحيحان فأما معنى حملة أثنين على
دابه هو راكبها حتى صاروا ثلاثة عليها، فلأنها كانت مطيقة
حملهم، غير فادح ركوبهم عليها ولا مضر بها. وقد قال ابن
أبى ملكية عن ابن عباس أن مركب النبى عليه السلام الذى حمل
الاثنين عليه معه كان ناقة. ولاشك أن ركوب ثلاثة أنفس على
ناقة غير فادحها، ولا مضر بها، وإن كان ذلك فرسًا أو بغلا
فلا شك أنه غير فادحة حمل رجل وصبيين يسير
(9/184)
مسافة من الأرض لا يتعذر على الصبيان قطعها
مشيًا، وروى ابن مهيد، عن حماد بن سلمه، عن عاصم، عن زر،
عن ابن مسعود قال: كان يوم بدر ثلاثة على بعير. وأما معنى
عليه السلام عن ركوب أكثر من اثنين على الدابة فإنما هو
نهى عن ركوب مالم يطق من الدواب حمل أكثر من راكبين، وذلك
معنى قول على: إذا رايتهم ثلاثة على دابة فأرجموهم حتى
ينزل أحدهم. ونظير ما روى عن النبى عليه السلام وعن على بن
أبى طالب فى ذلك روى عن عمر بن الخطاب أيضًا. حدثنا مطر بن
محمد، حدثنا أبو دادود، حدثنا ابن خالد، حدثنا المسيب ابن
دارم قال: رايت عمر بن الخطاب ضرب جمالا وقال: تحمل على
بعيرك ما لا يطيق؟
85 - باب: حمل صاحب الدابة
غيره بين يديه
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: صَاحِبُ الدَّابَّةِ أَحَقُّ بِصَدْرِ
الدَّابَّةِ إِلا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ. / 136 - فيه: أَبُو
كُريب ذُكِرَ شَرُّ الثَّلاثَةِ عِنْدَ عِكْرِمَةَ، فَقال:
قال ابْنُ عَبَّاسٍ: أَتَى رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه
وسلم) وَقَدْ حَمَلَ قُثَمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْفَضْلَ
خَلْفَهُ - أَوْ قُثَمَ خَلْفَهُ وَالْفَضْلَ بَيْنَ
يَدَيْهِ - فَأَيُّهُمْ شَرٌّ أَوْ أَيُّهُمْ خَيْرٌ. قال
البخارى: وقال بعضهم: صاحب الدابة أحق بصدر دابته إلا أن
ياذن له، قد روى عن النبى عليه السلام ذكره أبو عيسى
الترمذى فى مصنفه قال: حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث،
حدثنا على بن الحسين بن واقد قال: حدثنى أبى قال: حدثنا
عبد الله
(9/185)
ابن بريدة قال: سمعت أبى بريدة يقول:
(بينما رسول الله يمشى إذ جاءه رجل ومعه حمار فقال: يا
رسول الله، اركب وتأخر الرجل، فقال رسول الله: لأنت أحق
بصدر دابتك إلا أن تجعله لى. قال: جعلته لك. قال: فركب)
قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب. وحديث ابن عباس يدل على
معنى هذا الحديث، لأن النبى عليه السلام كان أحق بصدر
دابته، فلما حمل قثم أو الفضل بين يديه كان مقام الإذن فى
ذلك، وأظن البخارى لم يرض بلإسناده حديث ابن بريدة فأدخل
حديث ابن عباس ليدل على معناه.
86 - باب
/ 137 - فيه: مُعَاذ، قَالَ: بَيْنَا أَنَا رَدِيفُ
النَّبِىِّ (صلى الله عليه وسلم) لَيْسَ بَيْنِى
وَبَيْنَهُ إِلا أَخِرَةُ الرَّحْلِ، فَقَالَ: يَا
مُعَاذُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ،
ثلاثًا. . . . الحديث. فيه: إرداف الإمام والشريف لمن دونه
وركوبه معه، وذلك من التواضع أيضًا وترك الكبر، وكان ينبغى
أن يدخل البخارى هذا الحديث مع حديث اسامة بن زيد فى كتاب
الارتداف على الدابة قبل هذا. وقد تقدم معنى قوله: (هل
تدرى ماحق الله على عباده) فى كتاب السلام والاستئذان فى
باب من أجاب بلبيك وسعديك.
(9/186)
87 - باب: إرداف
المرأة خلف الرجل
/ 138 - فيه: أَنَس، أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِىّ (صلى الله
عليه وسلم) مِنْ خَيْبَرَ، وَإِنِّى لَرَدِيفُ أَبِى
طَلْحَةَ وَهُوَ يَسِيرُ، وَبَعْضُ نِسَاءِ رَسُولِ
اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) رَدِيفُ رَسُولِ اللَّهِ
(صلى الله عليه وسلم) إِذْ عَثَرَتِ النَّاقَةُ، فَقُلْتُ
الْمَرْأَةَ، فَنَزَلْتُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى
الله عليه وسلم) : (إِنَّهَا أُمُّكُمْ) ، فَشَدَدْتُ
الرَّحْلَ، وَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ. . . الحديث. فيه:
جواز إرداف المرأة خلف الرجل كما ترجم، وفيه أنه لا بأس أن
يتدارك الرجل امرأة غيره إذا سقطت أو همت بالسقوط ويعينها
على التخلص مما يخشى حدوثه عليها، وإن كانت ممن لا يجوز له
رؤيتها، لأن المؤمنين إخوة وقد أمرهم الله بالتعاون. وذكر
هاهنا باب الاستلقاء ووضع الرجل على الأخرى، وقد تقدم فى
كتاب الاستئذان والسلام، وفى كتاب الصلاة فأغنى عن إعادته.
(9/187)
|