عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 30 - (بَاب مَنْ أعادَ الحَدِيثَ ثَلاثاً
لِيُفْهَمَ عَنْهُ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان من أعَاد كَلَامه فِي أُمُور
الدّين ثَلَاث مَرَّات لأجل أَن يفهم عَنهُ، وَفِي بعض
النّسخ: ليفهم، بِكَسْر الْهَاء بِدُونِ لَفْظَة: عَنهُ.
أَي: ليفهم غَيره. قَالَ الْخطابِيّ: إِعَادَة الْكَلَام
ثَلَاثًا إِمَّا لِأَن من الْحَاضِرين من يقصر فهمه عَن
وعيه فيكرره ليفهم، وَإِمَّا أَن يكون القَوْل فِيهِ بعض
الْإِشْكَال فيتظاهر بِالْبَيَانِ. وَقَالَ أَبُو
الزِّنَاد: أَو أَرَادَ الإبلاغ فِي التَّعْلِيم والزجر
فِي الموعظة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول يرجع إِلَى شَأْن السَّائِل
المتعلم، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِي شَأْن المتعلم، لِأَن
إِعَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاث مَرَّات
إِنَّمَا كَانَت لأجل المتعلمين والسائلين ليفهموا كَلَامه
حق الْفَهم، وَلَا يفوت عَنْهُم شَيْء من كَلَامه
الْكَرِيم.
فَقَالَ: ألاَ وقَوْلُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكرِّرُها
هَذِه قِطْعَة من حَدِيث ذكرهَا على سَبِيل التَّعْلِيق،
وَذكره فِي كتاب الشَّهَادَات مَوْصُولا بِتَمَامِهِ،
وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (أَلا انبئكم
بأكبر الْكَبَائِر؟ ثَلَاثًا، قَالُوا: بلَى يَا رَسُول
الله. قَالَ: الْإِشْرَاك بِاللَّه، وعقوق الْوَالِدين،
وَجلسَ وَكَانَ مُتكئا، فَقَالَ: أَلا وَقَول الزُّور،
فَمَا زَالَ يكررها حَتَّى قُلْنَا: ليته سكت) . قَوْله:
(أَلا) مخفف حرف التَّنْبِيه، ذكر ليدل على تَحْقِيق مَا
بعده وتأكيده. قَوْله: (وَقَول الزُّور) فِي الحَدِيث
مَرْفُوع عطفا على قَوْله: (الْإِشْرَاك بِاللَّه) فههنا
أَيْضا مَرْفُوع لِأَنَّهُ حِكَايَة عَنهُ، و: الزُّور،
بِضَم الزَّاي: الْكَذِب والميل عَن الْحق، وَالْمرَاد
مِنْهُ الشَّهَادَة، فَلذَلِك أنث الضَّمِير فِي قَوْله:
يكررها، وأنثه بِاعْتِبَار الْجُمْلَة، أَو بِاعْتِبَار
الثَّلَاثَة. وَمعنى قَوْله: (فَمَا زَالَ يكررها) أَي:
مَا دَامَ فِي مَجْلِسه لَا مُدَّة عمره.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ: قَالَ النَّبيِّ، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: هَلْ بَلَّغْتُ ثَلاثاً
هَذَا أَيْضا، تَعْلِيق وَصله فِي خطْبَة الْوَدَاع عَن
عبد اللَّه بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع: (أَلا
أَي شهر تعلمونه أعظم حُرْمَة؟ قَالُوا: أَلا شهرنا هَذَا.
قَالَ: أَلا أَي بلد تعلمونه أعظم حُرْمَة؟ قَالُوا: أَلا
بلدنا هَذَا. قَالَ: أَلا أَي يَوْم تعلمونه أعظم حُرْمَة؟
قَالُوا: أَلا يَوْمنَا هَذَا. قَالَ: فَإِن الله تبَارك
وَتَعَالَى حرم عَلَيْكُم دماءكم وَأَمْوَالكُمْ
وَأَعْرَاضكُمْ إلاَّ بِحَقِّهَا كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا
فِي بلدكم هَذَا. فِي شهركم هَذَا أَلا هَل بلغت؟
ثَلَاثًا. كل ذَلِك يجيبونه: أَلا نعم. قَالَ: وَيحكم أَو:
وَيْلكُمْ لَا ترجعن بعدِي كفَّارًا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب
بعض) . قَوْله: (ثَلَاثًا) . يتَعَلَّق بقوله: (قَالَ) .
لَا بقوله: (بلغت) . وَالْمعْنَى: قَالَ: هَل بلغت؟ ثَلَاث
مَرَّات.
(2/115)
94 - حدّثنا عَبْدَةُ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ
الصَّمَدِ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ المُثَنَّى
قَالَ: حدّثنا ثُمامَةُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ عنْ أَنسٍ عَن
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كانَ إذَا
سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلاثاً وإذَا تَكَلَّمَ بكلِمَةٍ أعادَها
ثَلَاثًا. [/ نه
95 - حدّثنا عَبْدَةُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ حدّثنا عَبْدُ
الصَّمَدِ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ اللَّه بنُ المُثَنَّى
قَالَ: حدّثنا ثُمَامَةُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ عنْ أنسٍ عنِ
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ كانَ إذَا
تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أعادَها ثَلاثاً حَتَّى تُفْهَمَ
عَنْهُ، وإذَا أتَى عَلَى قَوْمٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهْم
سَلَّمَ عَلَيْهِمْ ثَلاثاً.
(انْظُر الحَدِيث: 94 وطرفه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عَبدة، بِفَتْح
الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن
عبد اللَّه بن عَبدة الصفار الْخُزَاعِيّ الْبَصْرِيّ،
أَبُو سهل، أَصله كُوفِي، روى عَنهُ الْجَمَاعَة إلاَّ
مُسلما. قَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق. وَقَالَ
النَّسَائِيّ: ثِقَة، توفّي سنة ثَمَان وَخمسين
وَمِائَتَيْنِ. وَفِي الْكتب السِّتَّة: عَبدة، ثَلَاثَة
أخر: عَبدة بن سُلَيْمَان الْمروزِي روى لَهُ أَبُو
دَاوُد. وَعَبدَة ابْن عبد الرَّحْمَن الْمروزِي روى لَهُ
النَّسَائِيّ. وَعَبدَة بن أبي لبَابَة روى لَهُ خَلاد.
الثَّانِي: عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث بن سعيد بن
ذكْوَان التَّمِيمِي الْعَنْبَري الْبَصْرِيّ، أَبُو سهل
الْحَافِظ الْحجَّة، مَاتَ سنة سبع وَمِائَتَيْنِ. وَفِي
الْكتب السِّتَّة: عبد الصَّمد، ثَلَاثَة هَذَا أحدهم.
الثَّانِي: عبد الصَّمد بن حبيب العوذي، أخرج لَهُ أَبُو
دَاوُد وَفِيه لين. الثَّالِث: عبد الصَّمد بن سُلَيْمَان
الْبَلْخِي الْحَافِظ، روى عِنْد التِّرْمِذِيّ.
الثَّالِث: عبد اللَّه بن الْمثنى بن عبد اللَّه بن أنس بن
مَالك الْأنْصَارِيّ وَالِد مُحَمَّد القَاضِي
بِالْبَصْرَةِ، روى عَن عمومته وَالْحسن، وَعنهُ ابْنه
وَغَيره. قَالَ أَبُو حَاتِم وَغَيره: صَالح. وَقَالَ
أَبُو دَاوُد: لَا أخرج حَدِيثه. روى لَهُ البُخَارِيّ
وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. الرَّابِع: ثُمَامَة،
بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الميمين: ابْن عبد
اللَّه بن أنس بن مَالك الْأنْصَارِيّ الْبَصْرِيّ،
قاضيها. روى عَن جده والبراء، وَعنهُ عبد اللَّه ابْن
الْمثنى وَمعمر وعدة، وَثَّقَهُ أَحْمد وَالنَّسَائِيّ،
وَقَالَ ابْن عدي: ارجو أَنه لَا بَأْس بِهِ، وَأَشَارَ
ابْن معِين إِلَى تَضْعِيفه. وَقيل: إِنَّه لم يحمد فِي
الْقَضَاء. وَذكر حَدِيث الصَّدقَات لِابْنِ معِين
فَقَالَ: لَا يَصح، يرويهِ ثُمَامَة عَن أنس وَهُوَ فِي
(صَحِيح البُخَارِيّ) كَمَا سَيَأْتِي، وَانْفَرَدَ
بِحَدِيث: كَانَ قيس بِمَنْزِلَة صَاحب الشرطة من
الْأَمِير، وَهُوَ فِي البُخَارِيّ أَيْضا كَمَا
سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وروى حَمَّاد عَنهُ
عَن أنس أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على صبي
فَقَالَ: لَو نجى أحد من ضمة الْقَبْر لنجى هَذَا
الصَّبِي، وَهَذَا مُنكر، روى لَهُ الْجَمَاعَة. وَلَيْسَ
فِي الْكتب السِّتَّة ثُمَامَة بن عبد اللَّه غير هَذَا،
فَافْهَم. وَفِيهِمْ ثُمَامَة سِتَّة عشر.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث
والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ من هُوَ مُنْفَرد
فِي البُخَارِيّ لَيْسَ غَيره. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته
كلهم بصريون.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الاسْتِئْذَان عَن إِسْحَاق ابْن مَنْصُور عَن
عبد الصَّمد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ أَيْضا عَن
إِسْحَاق بن مَنْصُور أَيْضا، وَفِي المناقب عَن مُحَمَّد
بن يحيى عَن سَالم بن قُتَيْبَة عَن عبد اللَّه بن الْمثنى
بِبَعْضِه: كَانَ يُعِيد الْكَلِمَة ثَلَاثًا لتعقل عَنهُ،
وَقَالَ: حسن صَحِيح غَرِيب، إِنَّمَا نعرفه من حَدِيث عبد
اللَّه بن الْمثنى.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (كَانَ) قَالَ
الأصوليون: مثل هَذَا التَّرْكِيب يشْعر بالاستمرار. قلت:
لِأَن: كَانَ، تدل على الثُّبُوت والدوام بِخِلَاف: صَار،
فَإِنَّهُ يدل على الِانْتِقَال. فَلهَذَا يجوز أَن
يُقَال: كَانَ الله، وَلَا يجوز: صَار الله. وَاسم: كَانَ،
مستتر فِيهِ، وَالْجُمْلَة الَّتِي بعده خَبره. قَوْله:
(بِكَلِمَة) أَي: بِكَلَام هَذَا من بَاب إِطْلَاق اسْم
الْبَعْض على الْكل، كَمَا فِي قَوْله: إِن أصدق كلمة
قَالَهَا شَاعِر قَول لبيد:
(أَلا كل شَيْء مَا خلا الله بَاطِل)
قَوْله: (أَعَادَهَا) خبر: إِذا. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي:
ثَلَاث مَرَّات. قَوْله: (حَتَّى تفهم مِنْهُ) أَي: حَتَّى
تعقل مِنْهُ، كَمَا فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَهُوَ
على صِيغَة الْمَجْهُول، و: حَتَّى، هُنَا مرادفة: لكَي،
التعليلية وَقد ذكرنَا عَن قريب وَجه الْإِعَادَة
والتكرار. قَوْله: (فَسلم) لَيْسَ جَوَاب: إِذا،
وَإِنَّمَا هُوَ عطف على قَوْله: (أَتَى) من تَتِمَّة
الشَّرْط، وَالْجَوَاب هُوَ قَوْله: (سلم) وَوجه الثَّلَاث
فِي التَّسْلِيم يشبه أَن يكون عِنْد الاسْتِئْذَان، وَقد
رُوِيَ عَن سعد أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
جَاءَهُ وَهُوَ فِي بَيته، فَسلم فَلم يجبهُ، ثمَّ سلم
ثَانِيًا ثمَّ سلم ثَالِثا، فَانْصَرف. فَخرج سعد
فَتَبِعَهُ وَقَالَ: يَا رَسُول الله بِأبي تسليمك،
وَلَكِن أردْت أَن استكثر من بركَة تسليمك) . وَفِيه نظر،
لِأَن تَسْلِيمَة الاسْتِئْذَان لَا تثنى إِذا حصل
الْإِذْن بِالْأولَى وَلَا تثلث إِذا حصل بِالثَّانِيَةِ.
ثمَّ إِنَّه ذكره بِحرف إِذا الْمُقْتَضِيَة لتكرار
الْفِعْل كرة بعد أُخْرَى وتسليمه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام،
(2/116)
على بَاب سعد نَادِر، وَلم يذكر عَنهُ فِي
غير هَذَا الحَدِيث. وَالْوَجْه فِيهِ أَن يُقَال
مَعْنَاهُ: كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا
أَتَى على قوم سلم عَلَيْهِم تَسْلِيمَة الاسْتِئْذَان،
وَإِذا دخل سلم تَسْلِيمَة التَّحِيَّة، ثمَّ إِذا قَامَ
من الْمجْلس سلم تَسْلِيمَة الْوَدَاع. وَهَذِه التسليمات
كلهَا مسنونة. وَكَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، يواظب عَلَيْهَا وَلَا يزِيد عَلَيْهَا فِي
هَذِه السّنة على الْأَقْسَام. وَقَالَ الْكرْمَانِي: حرف:
إِذا، لَا يَقْتَضِي تكْرَار الْفِعْل إِنَّمَا
الْمُقْتَضى لَهُ من الْحُرُوف: كلما، فَقَط. نعم
التَّرْكِيب مُفِيد للاستمرار، ثمَّ مَا قَالَ هُوَ أَمر
نَادِر لم يذكر فِي غَيره مَمْنُوع، وَكَيف وَقد صَحَّ
حَدِيث: (إِذا اسْتَأْذن أحدكُم ثَلَاثًا فَلم يُؤذن لَهُ
فَليرْجع) ؟ قلت: نعم: إِذا لَا يَقْتَضِي تكْرَار
الْفِعْل، وَلَكِن من اقتضائه الثَّبَات والدوام، وَيصدق
عَلَيْهِ التّكْرَار. وَقَوله: (إِذا اسْتَأْذن أحدكُم
ثَلَاثًا) أَعم من أَن يكون بِالسَّلَامِ وَغَيره.
وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه أَن الثَّلَاث غَايَة مَا يَقع
بِهِ الْبَيَان والأعذار. قلت: اخْتلف فِيمَا إِذا ظن أَنه
لم يسمع هَل يزِيد على الثَّلَاث؟ فَقيل: لَا يزِيد أخذا
بِظَاهِر الحَدِيث. وَقيل: يزِيد. وَالسّنة أَن يسلم
ثَلَاثًا، فَيَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم، أَدخل.
96 - حدّثنا مُسَدَّدُ قَالَ: حدّثنا أبُو عَوَانَةَ عنْ
أبي بِشْرٍ عنْ يُوسُفَ بنِ ماهِكٍ عنْ عَبْدِ اللَّه بنِ
عَمْرٍ وَقال: تخَلَّفَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي سَفَرٍ سافَرْناهُ فادْرَكَنَا وقَدْ أَرْهقنا
الصَّلاةُ، صلاةَ العَصْرِ، ونَحْنُ نَتَوَضَّأُ،
فَجَعَلْنا نَمْسَحُ عَلى أرْجُلْنا، فَنادَى بأعْلَى
صَوْتِهِ: (وَيْلٌ لْلأعْقابِ مِنَ النارِ) مَرَّتَيْنِ
أَو ثَلاثاً.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مرَّتَيْنِ
أَو ثَلَاثًا) . وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه بِهَذَا
الْإِسْنَاد قد مر فِي: بَاب من رفع صَوته بِالْعلمِ، غير
أَنه أخرجه هُنَاكَ عَن أبي النُّعْمَان عَن أبي عوَانَة،
وَهنا عَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة، واسْمه: الوضاح،
وَأَبُو بشر اسْمه: جَعْفَر بن إِيَاس. وَالِاخْتِلَاف فِي
الْمَتْن فِي موضِعين: احدهما: قَوْله: (فِي سفر سافرناه)
، وَهُنَاكَ: (فِي سفرة سافرناها) وَالْآخر: قَوْله:
(صَلَاة الْعَصْر) : لَيْسَ بمذكور هُنَاكَ. قَوْله:
(فَأَدْرَكنَا) ، بِفَتْح الرَّاء أَي: النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، أدركنا، وَالْحَال أَن صَلَاة
الْعَصْر قد أدركتنا. قَوْله: (ارهقنا الصَّلَاة)
بِوَجْهَيْنِ. أَحدهمَا: بِسُكُون الْقَاف، وَنصب
الصَّلَاة على المفعولية. وَالْآخر: بتحريك الْقَاف وَرفع
الصَّلَاة على الفاعلية. وَقَوله: (صَلَاة الْعَصْر)
بِالرَّفْع وَالنّصب بدل من الصَّلَاة، أَو بَيَان.
وَالْوَاو فِي: وَنحن، أَيْضا للْحَال. وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
31 - (بَاب تَعْلِيمِ الرَّجُلِ أمَتَهُ وأهْلَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَعْلِيم الرجل جَارِيَته
وَأهل بَيته. الْأمة: أَصله: أموة بِالتَّحْرِيكِ
لِأَنَّهُ يجمع على آم، وَهُوَ أفعل، مثل نَاقَة وأنيق،
وَلَا يجمع فعلة بالتسكين على ذَلِك، وَيجمع على إِمَاء
أَيْضا. وَيُقَال: أَمُوت أموة، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا
أموى بِالْفَتْح، وتصغيرها: أُميَّة، وَهُوَ اسْم قَبيلَة
أَيْضا، وَالنِّسْبَة إِلَيْهَا أموى أَيْضا بِالْفَتْح،
وَرُبمَا تضم. وَالْفرق بَين الجمعين أَن الأول جمع قلَّة،
وَالثَّانِي جمع كَثْرَة. وأصل آم: أءمؤ، على وزن أفعل،
كأكلب، فأبدل من ضمة الْوَاو يَاء فَصَارَ: اءمى، ثمَّ أعل
إعلال قاضٍ، فَصَارَ: اءم، ثمَّ قلبت الْهمزَة الثَّانِيَة
الْفَا فَصَارَ: آم، وأصل إِمَاء: إماو، كعقاب، فابدلت
الْوَاو همزَة لوقوعها طرفا بعد ألف زَائِدَة، وَيجمع
أَيْضا على: إموان، مثل إخْوَان. قَالَ الشَّاعِر.
(إِذا ترامى بَنو الإموان بالعار)
فَإِن قلت: الْأمة من أهل الْبَيْت فَكيف عطف عَلَيْهِ
الْأَهْل؟ قلت: هُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص، فَإِن
قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: من
حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ
التَّعْلِيم الْعَام، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب
هُوَ التَّعْلِيم الْخَاص، فتناسبا من هَذِه الْجِهَة.
97 - حدّثنا مُحَمَّدٌ هُوَ ابنُ سَلاَمٍ حدّثنا
المُحَارِبِيُّ قَالَ: حدّثنا صالِحُ بنُ حَيَّانَ قالَ:
قالَ عامِرٌ الشَّعْبِيُّ: حدّثني أبُو بُرْدَةَ عنْ
أبِيهِ قَالَ: قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(ثَلاَثُةٌ لَهُمْ أجْرَانِ: رَجُلٌ مِنْ أهْلِ الكِتابِ
آمَنِ، بِنَبِيِّهِ وآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَالعَبْدُ المَمْلُوكُ
(2/117)
إذَا أدَّى حَقَّ الله تَعَالَى وَحق
مَوالِيهِ، وَرَجُلٌ كانَتْ عِنْدَهُ أمَةٌ فأدَّبَها
فأحسَنَ تَأدِيبهَا وعَلَّمَها فأحْسَنَ تَعْلِيمَها ثمَّ
أعْتَقها فَتَزَوَّجَها فَلهُ أَجْرَانِ) ثمَّ قالَ
عامِرُ: اعْطَيناكَهَا بَغْيرِ شَيْءٍ قَدْ كانَ يَرْكَبُ
فِيما دُونَها إلَى المَدِينَةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي الْأمة فَقَط بِحَسب
الظَّاهِر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على تَعْلِيم
الْأَهْل، وَأما ذكر الْأَهْل فَيحْتَمل وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن يكون بطرِيق الْقيَاس على الْأمة
الْمَنْصُوص عَلَيْهَا بِالنَّصِّ، والاعتناء بتعليم
الْحَرَائِر الْأَهْل من الْأُمُور الدِّينِيَّة أَشد من
الْإِمَاء. وَالْآخر: أَن يكون قد أَرَادَ أَن يضع فِيهِ
حَدِيثا يدل عَلَيْهِ فَمَا اتّفق لَهُ.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن سَلام،
بتَخْفِيف اللَّام على الْأَصَح، وَقد تقدم. الثَّانِي:
الْمحَاربي، بِضَم الْمِيم وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة
وبالراء الْمَكْسُورَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف
مُشَدّدَة: وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن زِيَاد
الْكُوفِي. قَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ أَبُو
حَاتِم: صَدُوق إِذا حدث عَن الثِّقَات، ويروي عَن
المجهولين أَحَادِيث مُنكرَة فَيفْسد حَدِيثه بروايته
عَنْهُم، مَاتَ سنة خَمْسَة وَتِسْعين وَمِائَة، روى لَهُ
الْجَمَاعَة. الثَّالِث: صَالح بن حَيَّان، بِفَتْح
الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف:
وَهُوَ اسْم جد أَبِيه نسب إِلَيْهِ وَهُوَ صَالح بن صَالح
بن مُسلم بن حَيَّان، ولقبه: حَيّ، وَهُوَ أشهر بِهِ من
اسْمه، وَفِي طبقته آخر كُوفِي أَيْضا يُقَال لَهُ: صَالح
بن حَيَّان الْقرشِي، لكنه ضَعِيف وَهَذَا ثِقَة مَشْهُور،
وَقد طعن من لَا خبْرَة لَهُ فِي البُخَارِيّ أَنه أخرج
الصَّالح بن حَيَّان وظنه صَالح بن حَيَّان الْقرشِي،
وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا أخرج الصَّالح بن حَيَّان
الَّذِي يلقب أَبوهُ بالحي، وَهَذَا الحَدِيث مَعْرُوف
بروايته عَن الشّعبِيّ دون رِوَايَة الْقرشِي عَنهُ، وَقد
أخرج البُخَارِيّ من حَدِيثه من طرق، مِنْهَا فِي
الْجِهَاد من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة، قَالَ: حَدثنَا صَالح
ابْن حَيّ، قَالَ: سَمِعت الشّعبِيّ وَصَالح ابْن حَيّ
الْهَمدَانِي الْكُوفِي الثَّوْريّ، ثَوْر هَمدَان، وَهُوَ
ثَوْر بن مَالك بن مُعَاوِيَة بن دومان بن بكيل بن جشم بن
حَيَوَان بن نوف بن هَمدَان، وَهُوَ وَالِد الْحسن وَعلي،
قَالَ الكلاباذي: مَاتَ هُوَ وَابْنه عَليّ سنة ثَلَاث
وَخمسين وَمِائَة، وَابْنه الْحسن سنة سبع وَسِتِّينَ
وَمِائَة. الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ، وَقد
تقدم. الْخَامِس: أَبُو بردة عَامر الْأَشْعَرِيّ
الْكُوفِي قاضيها. السَّادِس: أَبوهُ أَبُو مُوسَى عبد
اللَّه بن قيس الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون
مَا خلا ابْن سَلام. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. قَوْله: (حَدثنَا مُحَمَّد
بن سَلام) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي
رِوَايَة كَرِيمَة: (حَدثنَا مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام) .
وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (حَدثنَا مُحَمَّد) فَحسب،
وَاعْتَمدهُ الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) فَقَالَ: رَوَاهُ
البُخَارِيّ عَن مُحَمَّد، قيل: هُوَ ابْن سَلام. قَوْله:
(أَنبأَنَا الْمحَاربي) ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة:
(حَدثنَا الْمحَاربي) ، وَلَيْسَ عِنْد البُخَارِيّ سوى
هَذَا الحَدِيث وَحَدِيث آخر فِي الْعِيدَيْنِ. قَوْله:
(قَالَ عَامر) تَقْدِيره: قَالَ صَالح: قَالَ عَامر.
وعادتهم حذف قَالَ إِذا تَكَرَّرت خطا لَا نطقاً.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْعتْق عَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ، وَفِي الْجِهَاد عَن عَليّ بن عبد اللَّه عَن
سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَن
مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد اللَّه بن الْمُبَارك، وَفِي
النِّكَاح عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد بن
زِيَاد، ثَلَاثَتهمْ عَن صَالح بن حَيَّان. وَأخرجه مُسلم
فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن يحيى عَن هشيم، وَعَن أبي بكر
بن أبي شيبَة عَن عَبدة بن سُلَيْمَان، وَعَن ابْن أبي عمر
عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَعَن عبيد اللَّه بن معَاذ
عَن أَبِيه عَن شُعْبَة، أربعتهم عَن صَالح بن حَيَّان.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن ابْن أبي عمر
بِهِ، وَعَن هناد بن السّري عَن عَليّ بن مسْهر عَن الْفضل
بن يزِيد عَنهُ، وَقَالَ: حسن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم عَن يحيى بن أبي زَائِدَة
عَن صَالح بِهِ، وَعَن هناد بن السّري عَن أبي زبيد عشير
ابْن الْقَاسِم عَن مطرف عَن عَامر بِهِ. وَأخرجه ابْن
مَاجَه عَن أبي سعيد الْأَشَج عَن عَبدة بن سُلَيْمَان
بِهِ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (ثَلَاثَة) مُبْتَدأ
تَقْدِيره: ثَلَاثَة رجال أَو رجال ثَلَاثَة. وَقَوله:
(لَهُم أَجْرَانِ) مُبْتَدأ وَخبر، وَالْجُمْلَة خبر
الْمُبْتَدَأ الأول. قَوْله: (رجل) قَالَ الْكرْمَانِي:
بدل من ثَلَاثَة أَو الْجُمْلَة صفته، و: رجل، وَمَا عطف
عَلَيْهِ خَبره. ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: إِذا كَانَ بَدَلا
أهوَ بدل الْبَعْض أَو بدل الْكل؟ قلت: بِالنّظرِ إِلَى كل
رجل بدل الْبَعْض، وبالنظر إِلَى الْمَجْمُوع بدل الْكل.
(2/118)
قلت: الأولى أَن يُقَال: رجل، خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف تَقْدِيره: أَو لَهُم، أَو: الأول رجل من أهل
الْكتاب. وَقَوله: (من أهل الْكتاب) فِي مَحل الرّفْع
لِأَنَّهُ صفة لرجل. قَوْله: (آمن) ، حَال بِتَقْدِير: قد.
و (آمن) ، الثَّانِي، عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وَالْعَبْد)
، عطف على قَوْله: رجل، قَوْله: (حق الله) كَلَام إضافي
مفعول. (أدّى) و: (حق موَالِيه) عطف عَلَيْهِ. قَوْله:
(وَرجل) ، عطف على: رجل، الأول. قَوْله: (كَانَت عِنْده
أمة) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا صفة لرجل،
وارتفاع أمة لكَونهَا اسْم: كَانَت. قَوْله: (يَطَؤُهَا)
جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول فِي مَحل
الرّفْع لِأَنَّهَا صفة، أمة. قَوْله: (فأدبها) عطف على:
يَطَؤُهَا. قَوْله: (فَأحْسن تأديبها) عطف على: فأدبها،
وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَعلمهَا فَأحْسن تعليمها ثمَّ اعتقها
فَتَزَوجهَا) بَعْضهَا مَعْطُوف على بعض، وَإِنَّمَا عطف
الْجَمِيع بِالْفَاءِ مَا خلا: (ثمَّ اعتقها) ، فَإِنَّهُ
عطفه: بثم، وَذَلِكَ لِأَن التَّأْدِيب والتعليم يتعقبان
على الْوَطْء، بل لَا بُد مِنْهُمَا فِي نفس الْوَطْء بل
قبله أَيْضا لوجوبهما على السَّيِّد بعد التَّمَلُّك،
بِخِلَاف الْإِعْتَاق. أَو لِأَن الْإِعْتَاق نقل من صنف
من أَصْنَاف الأناسي إِلَى صنف آخر مِنْهَا، وَلَا يخفى
مَا بَين الصِّنْفَيْنِ: الْمُنْتَقل مِنْهُ، والمنتقل
إِلَيْهِ من الْبعد، بل من الضدية فِي الْأَحْكَام
والمنافاة فِي الْأَحْوَال، فَنَاسَبَ لفظ دَال على
التَّرَاخِي بِخِلَاف التَّأْدِيب. قَوْله: (فَلهُ اجران)
، قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن الضَّمِير يرجع إِلَى
الرجل الثَّالِث، وَيحْتَمل أَن يرجع إِلَى كل من
الثَّلَاث. قلت: بل يرجع إِلَى الرجل الْأَخير، وَإِنَّمَا
لم يقْتَصر على قَوْله أَولا: لَهُم أَجْرَانِ، مَعَ كَونه
دَاخِلا فِي الثَّلَاثَة بِحكم الْعَطف، لِأَن الْجِهَة
كَانَت فِيهِ مُتعَدِّدَة، وَهِي التَّأْدِيب والتعليم
وَالْعِتْق والتزوج، وَكَانَت مَظَنَّة أَن يسْتَحق الْأجر
أَكثر من ذَلِك، فَأَعَادَ قَوْله: (فَلهُ أَجْرَانِ) ،
إِشَارَة إِلَى أَن الْمُعْتَبر من الْجِهَات أَمْرَانِ.
فَإِن قلت: لِمَ لِمْ يعْتَبر إلاَّ اثْنَتَانِ وَلم
يعْتَبر الْكل؟ قلت: لِأَن التَّأْدِيب والتعليم يوجبان
الْأجر فِي الْأَجْنَبِيّ وَالْأَوْلَاد وَجَمِيع النَّاس
فَلم يكن مُخْتَصًّا بالإماء، فَلم يبْق الِاعْتِبَار
إلاَّ فِي الْجِهَتَيْنِ، وهما: الْعتْق والتزوج. فَإِن
قلت: إِذا كَانَ الْمُعْتَبر أَمريْن، فَمَا فَائِدَة ذكر
الْأَمريْنِ الآخرين؟ قلت: لِأَن التَّأْدِيب والتعليم
أكمل لِلْأجرِ، إِذْ تزوج الْمَرْأَة المؤدبة المعلمة
أَكثر بركَة وَأقرب إِلَى أَن تعين زَوجهَا على دينه.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: يَنْبَغِي أَن يكون
لهَذَا الْأَخير أجور أَرْبَعَة: أجر التَّأْدِيب والتعليم
وَالْإِعْتَاق والتزوج، بل سَبْعَة. قلت: الْمُنَاسبَة
بَين هَذِه الصُّورَة واخواتها الْجمع بَين الْأَمريْنِ
اللَّذين هما كالمتنافيين، فَلهَذَا لم يعْتَبر فِيهَا
إلاَّ الْأجر الَّذِي من جِهَة الْأَحْوَال الَّتِي
للرقية، وَالَّذِي من جِهَة الْأَحْوَال الَّتِي للحرية،
وَلِهَذَا ميز بَينهمَا بِلَفْظ: ثمَّ، دون غَيرهمَا. قلت:
هَذَا كَلَام حسن، وَلَكِن فِي قَوْله: هما كالمتنافيين،
نظر لَا يخفى.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (من أهل الْكتاب) اخْتلفُوا
فِيهِ، فَقَالَ بَعضهم: هم الَّذين بقوا على مَا بعث بِهِ
نَبِيّهم من غير تَبْدِيل وَلَا تَحْرِيف، فَمن بَقِي على
ذَلِك حَتَّى بعث نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَآمن بِهِ فَلهُ الْأجر مرَّتَيْنِ، وَمن بدل
مِنْهُم أَو حرف لم يبْق لَهُ أجر فِي دينه فَلَيْسَ لَهُ
أجر إلاَّ بإيمانه بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل إجراؤه على عُمُومه
إِذْ لَا يبعد أَن يكون طريان الْإِيمَان بِهِ سَببا
لإعطاء الْأجر مرَّتَيْنِ: مرّة على أَعْمَالهم الْخَيْر
الَّذِي فَعَلُوهُ فِي ذَلِك الدّين، وَإِن كَانُوا مبدلين
محرفين. فَإِنَّهُ قد جَاءَ أَن مبرات الْكفَّار وحسناتهم
مَقْبُولَة بعد الْإِسْلَام. وَمرَّة على الْإِيمَان
بِمُحَمد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ بَعضهم:
المُرَاد بِهِ هُنَا أهل الْإِنْجِيل خَاصَّة إِن قُلْنَا:
إِن النَّصْرَانِيَّة ناسخة لِلْيَهُودِيَّةِ. قلت: لَا
يحْتَاج إِلَى اشْتِرَاط النّسخ لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ قد أرسل إِلَى بني
إِسْرَائِيل بِلَا خلاف، فَمن أَجَابَهُ مِنْهُم نسب
إِلَيْهِ وَمن كذبه مِنْهُم وَاسْتمرّ على يَهُودِيَّته لم
يكن مُؤمنا، فَلَا يتَنَاوَلهُ الْخَيْر، لِأَن شَرطه أَن
يكون مُؤمنا بِنَبِيِّهِ. وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن الْألف
وَاللَّام فِي: الْكتاب، للْعهد، إِمَّا من التَّوْرَاة
وَالْإِنْجِيل، وَإِمَّا من الْإِنْجِيل. قَالَ الله عز
وَجل: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم بِهِ
يُؤمنُونَ} (الْقَصَص: 52) إِلَى وَقَوله: {أُولَئِكَ
يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ} (الْقَصَص: 54) فالآية
مُوَافقَة لهَذَا الحَدِيث، وَهِي نزلت فِي طَائِفَة
آمنُوا مِنْهُم: كَعبد اللَّه بن سَلام وَغَيره. وَفِي
الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث رِفَاعَة الْقرظِيّ، قَالَ: نزلت
هَذِه الْآيَة فيّ وَفِي من آمن معي، وروى الطَّبَرَانِيّ
بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عَليّ بن رِفَاعَة الْقرظِيّ،
قَالَ: خرج عشرَة من أهل الْكتاب مِنْهُم أَبُو رِفَاعَة
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فآمنوا بِهِ
فأوذوا فَنزلت: {الَّذين آتَيْنَاهُم الْكتاب من قبله هم
بِهِ يُؤمنُونَ} (الْقَصَص: 52) الْآيَات، فَهَؤُلَاءِ من
بني إِسْرَائِيل، وَلم يُؤمنُوا بِعِيسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، بل استمروا على الْيَهُودِيَّة
إِلَى أَن آمنُوا بِمُحَمد، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَقد ثَبت أَنهم يُؤْتونَ أجرهم مرَّتَيْنِ،
وَيُمكن أَن يُقَال فِي حق هَؤُلَاءِ الَّذين كَانُوا
بِالْمَدِينَةِ: إِنَّهُم لم تبلغهم دَعْوَة عِيسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لِأَنَّهَا لم تنشر فِي
أَكثر الْبِلَاد، فاستمروا على يهوديتهم مُؤمنين
بِنَبِيِّهِمْ مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
إِلَى أَن جَاءَ الْإِسْلَام فآمنوا بِمُحَمد،
(2/119)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي
(شرح ابْن التِّين) أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي كَعْب
الْأَحْبَار وَعبد اللَّه ابْن سَلام. قلت: عبد اللَّه بن
سَلام صَوَاب، وَقَوله: كَعْب الْأَحْبَار خطأ، لِأَن
كَعْبًا لَيست لَهُ صُحْبَة وَلم يسلم إلاَّ فِي زمن عمر
بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ:
الْكِتَابِيّ الَّذِي يُضَاعف أجره هُوَ الَّذِي كَانَ على
الْحق فِي فعله عقدا وفعلاً إِلَى أَن آمن بنبينا صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فيؤجر على اتِّبَاع الْحق الأول
وَالثَّانِي، وَفِيه نظر، لِأَن النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب إِلَى هِرقل: (أسلم يؤتك الله
أجرك مرَّتَيْنِ) ، وهرقل كَانَ مِمَّن دخل فِي
النَّصْرَانِيَّة بعد التبديل. وَقَالَ أَبُو عبد الْملك
الْبونِي وَغَيره: إِن الحَدِيث لَا يتَنَاوَل الْيَهُود
أَلْبَتَّة، وَفِيه نظر أَيْضا كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: إِنَّه يحْتَمل أَن يتَنَاوَل سَائِر
الْأُمَم فِيمَا فَعَلُوهُ من خير، كَمَا فِي حَدِيث
حَكِيم بن حزَام: (أسلمت على مَا أسلفت من خير) . وَفِيه
نظر، لِأَن الحَدِيث مُقَيّد بِأَهْل الْكتاب فَلَا
يتَنَاوَل غَيرهم.
وَأَيْضًا فَقَوله: (آمن بِنَبِيِّهِ) إِشْعَار بعلية
الْأجر، أَي أَن سَبَب الأجرين من الْإِيمَان بالنبيين،
وَالْكفَّار لَيْسُوا كَذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
فَإِن قلت: أَهَذا مُخْتَصّ بِمن آمن مِنْهُم فِي عهد
الْبعْثَة أم شَامِل لمن آمن مِنْهُم فِي زَمَاننَا
أَيْضا؟ قلت: مُخْتَصّ بهم لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَيْسَ بِنَبِيِّهِمْ بعد
الْبعْثَة، بل نَبِيّهم مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بعْدهَا. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا لَا يتم بِمن لم تبلغهم
الدعْوَة، وَمَا قَالَه شَيخنَا أظهر، أَرَادَ بِهِ مَا
قَالَه من قَوْله: إِن هَذِه الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة
فِي الحَدِيث مستمرة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. قلت: لَيْسَ
بِظَاهِر مَا قَالَه هُوَ،، وَلَا مَا قَالَه شَيْخه، أما
عدم ظُهُور مَا قَالَه فَهُوَ أَن ببعثة نَبينَا مُحَمَّد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْقَطَعت دَعْوَة عِيسَى صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَارْتَفَعت شَرِيعَته، فَدخل جَمِيع
الْكفَّار، أهل الْكتاب وَغَيرهم، تَحت دَعْوَة النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سَوَاء بلغتهم الدعْوَة أَو لَا.
وَلِهَذَا يُقَال: هم أهل الدعْوَة، غَايَة مَا فِي
الْبَاب أَن من لم تبلغه الدعْوَة لَا تطلق عَلَيْهِم
بِالْفِعْلِ، وَأما بِالْقُوَّةِ فليسوا بِخَارِجِينَ
عَنْهَا. وَأما عدم ظُهُور مَا قَالَه شَيْخه فَهُوَ أَنه
دَعْوَى بِلَا دَلِيل، لِأَن ظَاهر الحَدِيث يردهُ
لِأَنَّهُ قيد فِي حق أهل الْكتاب بقوله: (آمن
بِنَبِيِّهِ) ، وَقد قُلْنَا: إِنَّه حَال، وَالْحَال قيد،
فَكَانَ الشَّرْط فِي كَون الأجرين للرجل الَّذِي هُوَ من
أهل الْكتاب أَن يكون قد آمن بِنَبِيِّهِ الَّذِي كَانَ
مَبْعُوثًا إِلَيْهِ، ثمَّ آمن بِالنَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. والكتابي بعد الْبعْثَة لَيْسَ لَهُ نَبِي
غير نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما قُلْنَا من
انْقِطَاع دَعْوَة عِيسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بالبعثة، فَإِذا آمن اسْتحق أجرا وَاحِدًا فِي مُقَابلَة
إيمَانه بِالنَّبِيِّ الْمَبْعُوث إِلَيْهِ، وَهُوَ
نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأما الحكم فِي
الْأَخيرينِ، وهما: العَبْد وَصَاحب الْأمة فَهُوَ
مُسْتَمر إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. ثمَّ هَذَا الْقَائِل:
وَأما مَا قوى بِهِ الْكرْمَانِي دَعْوَاهُ بِكَوْن
السِّيَاق مُخْتَلفا حَيْثُ قيل فِي مؤمني أهل الْكتاب:
(رجل) بالتنكير، وَفِي العَبْد بالتعريف، وَحَيْثُ زيدت
فِيهِ: إِذا، الدَّالَّة على معنى الِاسْتِقْبَال، فأشعر
ذَلِك بِأَن الأجرين لمؤمني أهل الْكتاب لَا يَقع فِي
الِاسْتِقْبَال، بِخِلَاف العَبْد، انْتهى. وَهُوَ غير
مُسْتَقِيم، لِأَنَّهُ مَشى فِيهِ مَعَ ظَاهر اللَّفْظ،
وَلَيْسَ مُتَّفقا عَلَيْهِ بَين الروَاة، بل هُوَ عِنْد
المُصَنّف وَغَيره مُخْتَلف، فقد عبر فِي تَرْجَمَة عِيسَى
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: بإذا، فِي الثَّلَاثَة. وَعبر
فِي النِّكَاح بقوله: (أَيّمَا رجل) . فِي الْمَوَاضِع
الثَّلَاثَة، وَهِي صَرِيحَة فِي التَّعْمِيم، وَأما
الِاخْتِلَاف بالتعريف والتنكير فَلَا أثر لَهُ هَهُنَا،
لِأَن الْمُعَرّف بلام الْجِنْس مؤدٍ مؤدى النكرَة. قلت:
لَيْسَ قصد الْكرْمَانِي مَا ذكره الْقَائِل، وَإِنَّمَا
قَصده بَيَان النُّكْتَة فِي ذكر أَفْرَاد الثَّلَاثَة
الْمَذْكُورَة فِي الحَدِيث بمخالفة الثَّانِي الأول
وَالثَّالِث، حَيْثُ ذكر الأول بقوله: (رجل من أهل
الْكتاب) ، وَالثَّالِث كَذَلِك بقول: (رجل كَانَت عِنْده
أمة) ، وَذكر الثَّانِي بقوله: (وَالْعَبْد الْمَمْلُوك)
فِي التَّعْرِيف، فَخَالف الأول وَالثَّالِث فِي
التَّعْرِيف والتنكير، وَأَيْضًا ذكر الثَّانِي بِكَلِمَة:
إِذا، حَيْثُ قَالَ: (إِذا أدّى حق الله وَحقّ موَالِيه) ،
وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يذكر الْكل على نسق وَاحِد
بِأَن يُقَال: وَعبد مَمْلُوك أدّى حق الله، أَو رجل
مَمْلُوك أدّى حق الله، ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ
لَا مُخَالفَة عِنْد التَّحْقِيق، يَعْنِي الْمُخَالفَة
بِحَسب الظَّاهِر، وَلَكِن فِي نفس الْأَمر لَا مُخَالفَة.
ثمَّ بَين ذَلِك بقوله: إِذْ الْمُعَرّف بلام الْجِنْس مؤد
مؤدى النكرَة، وَكَذَا لَا مُخَالفَة فِي دُخُول: إِذا،
لِأَن: إِذا، للظرف. و: آمن، حَال، وَالْحَال فِي حكم
الظّرْف، إِذْ معنى جَاءَ زيد رَاكِبًا جَاءَ فِي وَقت
الرّكُوب وَفِي حَاله. وتعليل هَذَا الْقَائِل قَوْله:
وَهُوَ غير مُسْتَقِيم، بقوله: لِأَنَّهُ مَشى مَعَ ظَاهر
اللَّفْظ، غير مُسْتَقِيم. لِأَن بَيَان النكات بِحَسب مَا
وَقع فِي ظواهر الْأَلْفَاظ، وَالِاخْتِلَاف من الروَاة
فِي لفظ الحَدِيث لَا يضر دَعْوَى الْكرْمَانِي من قَوْله:
إِن الأجرين لمؤمني أهل الْكتاب لَا يَقع فِي
الِاسْتِقْبَال، أما وُقُوع: إِذا، فِي الثَّلَاثَة، وَإِن
كَانَت: إِذا، للاستقبال فَهُوَ أَن حُصُول الأجرين
مَشْرُوط بِالْإِيمَان بِنَبِيِّهِ ثمَّ بنبينا صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قُلْنَا: إِن بالبعثة تَنْقَطِع
دَعْوَة غير نَبينَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم يبْق
إلاَّ الْإِيمَان بنبينا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلم
يحصل، إلاَّ أجر وَاحِد لانْتِفَاء شَرط الأجرين. وَأما
وُقُوع: أَيّمَا، وَإِن كَانَت تدل على التَّعْمِيم
(2/120)
صَرِيحًا، فَهُوَ فِي تَعْمِيم جنس أهل
الْكتاب، وَلَا يلْزم من تَعْمِيم ذَلِك تَعْمِيم الأجرين
فِي حق أهل الْكتاب، ثمَّ إعلم أَن قَوْله: (رجل من أهل
الْكتاب) ، يدْخل فِيهِ أَيْضا الْمَرْأَة الْكِتَابِيَّة،
لما علم من أَنه حَيْثُ يذكر الرِّجَال يدْخل فيهم
النِّسَاء بالتبعية. قَوْله: (وَالْعَبْد الْمَمْلُوك)
إِنَّمَا وصف بالمملوك لِأَن جَمِيع الأناسي عباد الله
تَعَالَى، فَأَرَادَ تَمْيِيزه بِكَوْنِهِ مَمْلُوكا
للنَّاس. قَوْله: (إِذا أدّى حق الله) أَي: مثل الصَّلَاة
وَالصَّوْم (وَحقّ موَالِيه) ، مثل خدمته. وَالْمولى
مُشْتَرك بَين المعتَق والمعتِق وَابْن الْعم والناصر
وَالْجَار والحليف، وكل من ولي أَمر أحدٍ، وَالْمرَاد
هُنَا الْأَخير، أَي السَّيِّد، إِذْ هُوَ الْمُتَوَلِي
لأمر العَبْد، والقرينة الْمعينَة لَهُ لفظ العَبْد فَإِن
قلت: لِمَ لَا يحمل على جَمِيع الْمعَانِي كَمَا هُوَ
مَذْهَب الشَّافِعِي، إِذْ عِنْده: يجب الْحمل على جَمِيع
مَعَانِيه الْغَيْر المتضادة، قلت: ذَاك عِنْد عدم
الْقَرِينَة، أما عِنْد الْقَرِينَة فَيجب حمله على مَا
عينته الْقَرِينَة اتِّفَاقًا. فَإِن قلت: فَهَل هُوَ
مجَاز فِي الْمَعْنى الْمعِين إِذْ الِاحْتِيَاج إِلَى
الْقَرِينَة هُوَ من عَلَامَات الْمجَاز أم لَا؟ قلت: هُوَ
حَقِيقَة فِيهِ، وَلَيْسَ كل مُحْتَاج إِلَيْهِ مجَازًا.
نعم، الْمُحْتَاج إِلَى الْقَرِينَة الصارفة عَن إِرَادَة
الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ مجَاز، ومحصله أَن قرينَة
التَّجَوُّز قرينَة الدّلَالَة، وَهِي غير قرينَة الإشتراك
الَّتِي هِيَ قرينَة التَّعْيِين، وَالْأولَى هِيَ من
عَلَامَات الْمجَاز لَا الثَّانِيَة. فَإِن قلت: لِمَ عدل
عَن لفظ: الْمولي، إِلَى لفظ: الموَالِي؟ قلت: لما كَانَ
المُرَاد من العَبْد جنس العبيد جمع حَتَّى يكون عِنْد
التَّوْزِيع لكل عبد مولى، لِأَن مُقَابلَة الْجمع
بِالْجمعِ أَو مَا يقوم مقَامه مفيدة للتوزيع، أَو أَرَادَ
أَن اسْتِحْقَاق الأجرين إِنَّمَا هُوَ عِنْد أَدَاء حق
جَمِيع موَالِيه لَو كَانَ مُشْتَركا بَين طَائِفَة
مَمْلُوكا لَهُم. فَإِن قلت: فأجر المماليك ضعف أجر
السادات. قلت: لَا مَحْذُور فِي الْتِزَام ذَلِك، أَو يكون
لَهُم أجره ضعفه من هَذِه الْجِهَة، وَقد يكون للسَّيِّد
جِهَات أخر يسْتَحق بهَا أَضْعَاف أجر العَبْد، أَو
المُرَاد تَرْجِيح العَبْد الْمُؤَدِّي للحقين على العَبْد
الْمُؤَدِّي لأَحَدهمَا. فَإِن قلت: فعلى هَذَا يلْزم، أَن
يكون الصَّحَابِيّ الَّذِي كَانَ كتابياً أجره زَائِد على
أجر أكَابِر الصَّحَابَة، وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع.
قلت: الْإِجْمَاع خصصهم وأخرجهم من ذَلِك الحكم، ويلتزم
ذَلِك فِي كل صَحَابِيّ لَا يدل دَلِيل على زِيَادَة أجره
على من كَانَ كتابياً. وَالله علم.
قَوْله: (يَطَؤُهَا) هُوَ مَهْمُوز،، فَكَانَ الْقيَاس:
يوطؤها، مثل: يوجل، لِأَن الْوَاو إِنَّمَا تحذف إِذا
وَقعت بَين الْيَاء والكسرة، وَهَهُنَا وَقعت بَين الْيَاء
والفتحة مثل: يسمع. قَالَ الْجَوْهَرِي وَغَيره: إِنَّمَا
سَقَطت الْوَاو مِنْهَا لِأَن فعل يفعل مِمَّا اعتل فاؤه
لَا يكون إلاَّ لَازِما، فَلَمَّا جَاءَا بَين إخواتهما
متعديين خُولِفَ بهما نظائرهما. فَإِن قلت: إِذا لم
يَطَأهَا لَكِن أدبها، هَل لَهُ أَجْرَانِ؟ قلت: نعم إِذْ
المُرَاد من قَوْله: (يَطَؤُهَا) يحل وَطْؤُهَا سَوَاء
صَارَت مَوْطُوءَة أَو لَا. قَوْله: (فأدبها) من
التَّأْدِيب، وَالْأَدب هُوَ حسن الْأَحْوَال والأخلاق،
وَقيل: التخلق بالأخلاق الحميدة. قَوْله: (فَأحْسن
تأديبها) أَي: أدبها من غير عنف وَضرب بل بالرفق واللطف.
فَإِن قلت: أَلَيْسَ التَّأْدِيب دَاخِلا تَحت
التَّعْلِيم؟ قلت: لَا، إِذْ التَّأْدِيب يتَعَلَّق
بالمروآت، والتعليم بالشرعيات، أَعنِي: أَن الأول عرفي،
وَالثَّانِي شَرْعِي؛ أَو: الأول دُنْيَوِيّ، وَالثَّانِي
ديني. قَوْله: (ثمَّ اعتقها فَتَزَوجهَا) وَفِي بعض طرقه:
(أعْتقهَا ثمَّ أصدقهَا) ، وَهُوَ مُبين لما سكت عَنهُ فِي
بَقِيَّة الْأَحَادِيث من ذكر الصَدَاق، فعلى الْمُسْتَدلّ
أَن ينظر فِي طَرِيق هَذِه الزِّيَادَة، وَمن هُوَ
الْمُنْفَرد بهَا؟ وَهل هُوَ مِمَّن يقبل تفرده؟ وَهل
هَذِه الزِّيَادَة مُخَالفَة لرِوَايَة الْأَكْثَرين أم
لَا؟ قَوْله: (ثمَّ قَالَ عَامر) أَي: قَالَ صَالح: ثمَّ
قَالَ عَامر الشّعبِيّ: أعطيناكها، أَي: أعطينا
الْمَسْأَلَة أَو الْمُقَابلَة إياك بِغَيْر شَيْء أَي:
بِغَيْر أَخذ مَال مِنْك على جِهَة الْأُجْرَة عَلَيْهِ،
وإلاَّ فَلَا شَيْء أعظم من الْأجر الأخروي الَّذِي هُوَ
ثَوَاب التَّبْلِيغ والتعليم. فَإِن قلت: الْخطاب فِي
(أعطيناكها) لمن؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: الْخطاب لصالح،
وَلَيْسَ كَذَلِك. فَإِنَّهُ غره الظَّاهِر، وَلَكِن
الْخطاب لرجل من أهل خُرَاسَان سَأَلَ الشّعبِيّ عَمَّن
يعْتق أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا، على مَا جَاءَ فِي
البُخَارِيّ فِي بَاب: {وَاذْكُر فِي الْكتاب مَرْيَم}
(مَرْيَم: 16) قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن مقَاتل، انبأنا
عبد اللَّه، قَالَ: انبأنا صَالح بن حَيّ أَن رجلا من أهل
خُرَاسَان قَالَ لِلشَّعْبِيِّ: أَخْبرنِي. فَقَالَ
الشّعبِيّ: اخبرني أَبُو بردة عَن أبي مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أدب الرجل أمته
فَأحْسن تأديبها، وَعلمهَا فَأحْسن تعليمها، ثمَّ أعْتقهَا
فَتَزَوجهَا كَانَ لَهُ أَجْرَانِ. وَإِذا آمن بِعِيسَى
ثمَّ آمن بِي فَلهُ أَجْرَانِ، وَالْعَبْد، إِذا اتَّقى
ربه وأطاع موَالِيه فَلهُ أَجْرَانِ) .
قَوْله: (قد كَانَ يركب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي
بعض النّسخ: فقد كَانَ يركب، أَي: يرحل (فِيمَا دونهَا) ،
أَي: فِيمَا دون هَذِه الْمَسْأَلَة إِلَى الْمَدِينَة،
أَي مَدِينَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَاللَّام فِيهَا للْعهد، وَقد كَانَ ذَلِك فِي زمن
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْخُلَفَاء
الرَّاشِدين، ثمَّ تَفَرَّقت الصَّحَابَة، رَضِي الله
عَنْهُم، إِلَى الْبِلَاد بعد فتح الْأَمْصَار، فَاكْتفى
أهل كل بلد بعلمائه إلاَّ من طلب التَّوَسُّع فِي الْعلم
(2/121)
ورحل، وَلِهَذَا قَالَ الشّعبِيّ، وَهُوَ
من كبار التَّابِعين بقوله: وَقد كَانَ يركب. فَإِن قلت:
هَل كَانَ سُؤال الْخُرَاسَانِي من الشّعبِيّ عَمَّن يعْتق
أمته ثمَّ يَتَزَوَّجهَا مُجَرّد تعلم هَذِه الْمَسْأَلَة،
أم لِمَعْنى آخر؟ قلت: بل لِمَعْنى آخر، وَهُوَ مَا جَاءَ
فِي رِوَايَة مُسلم: (أَن رجلا من أهل خُرَاسَان سَأَلَ
الشّعبِيّ، فَقَالَ: يَا عَامر! إِن من قبلنَا من أهل
خُرَاسَان يَقُولُونَ فِي الرجل إِذا أعتق أمته ثمَّ
تزَوجهَا فَهُوَ كالراكب بدنته) . وَفِي طَرِيق: (كالراكب
هَدْيه) ، كَأَنَّهُمْ توهموا فِي الْعتْق والتزوج
الرُّجُوع بِالنِّكَاحِ فِيمَا خرج عَنهُ بِالْعِتْقِ،
فَأَجَابَهُ الشّعبِيّ بِمَا يدل على أَنه محسن إِلَيْهَا
إحساناً بعد إِحْسَان، وَأَنه لَيْسَ من الرُّجُوع فِي
شَيْء، فَذكر لَهُم الحَدِيث.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بَيَان أَن
هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة من النَّاس لَهُم أَجْرَانِ. قَالَ
الْكرْمَانِي: مَا الْعلَّة فِي التَّخْصِيص بهؤلاء
الثَّلَاثَة، وَالْحَال أَن غَيره كَذَلِك أَيْضا مثل من
صلى وَصَامَ، فَإِن للصَّلَاة أجرا، وللصوم أجرا آخر،
وَكَذَا مثل الْوَلَد إِذا أدّى حق الله وَحقّ وَالِديهِ؟
قلت: الْفرق بَين هَذِه الثَّلَاثَة وَغَيرهَا أَن
الْفَاعِل فِي كل مِنْهَا جَامع بَين أَمريْن بَينهمَا
مُخَالفَة عَظِيمَة، كَأَن الْفَاعِل لَهما فَاعل للضدين
عَامل بالمتنافيين، بِخِلَاف غَيره عَامل. قلت: هَذَا
الْجَواب لَيْسَ بِشَيْء، بل الْجَواب الصَّحِيح أَن
التَّنْصِيص باسم الشَّيْء لَا يدل على نفي الحكم عَمَّا
عداهُ، وَهُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور. فَإِن قلت:
التَّنْصِيص بِعَدَد مَحْصُور يدل على نفي الحكم عَن
غَيره، وَإِلَيْهِ مَال صَاحب (الْهِدَايَة) ، لِأَن
إِثْبَات الحكم فِي غَيره إبِْطَال الْعدَد الْمَنْصُوص،
وَاسْتدلَّ على ذَلِك بقوله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: (خمس من الفواسق يقتلن فِي الْحل وَالْحرم) .
فَإِن ذَلِك يدل على نفي الحكم عَمَّا عدا الْمَذْكُور.
قلت: الصَّحِيح من الْمَذْهَب أَن التَّنْصِيص باسم
الشَّيْء لَا يدل على النَّفْي فِيمَا عداهُ وَإِن كَانَ
فِي الْعدَد المحصور، وَالْحكم فِي غير الْمَذْكُور
إِنَّمَا يثبت بِدلَالَة النَّص، فَلَا يُوجب إبِْطَال
الْعدَد الْمَنْصُوص، فَافْهَم. الثَّانِي: قَالَ
الْمُهلب: فِيهِ دَلِيل على من أحسن فِي مَعْنيين من أَي
فعل كَانَ من أَفعَال الْبر فَلهُ أجره مرَّتَيْنِ، وَالله
يُضَاعف لمن يَشَاء. الثَّالِث: قَالَ النَّوَوِيّ: فِي
قَول الشّعبِيّ جَوَاز قَول الْعَالم مثله تحريضاً للسامع.
الرَّابِع: فِيهِ بَيَان مَا كَانَ السّلف عَلَيْهِ من
الرحلة إِلَى الْبلدَانِ الْبَعِيدَة فِي حَدِيث وَاحِد،
أَو مَسْأَلَة وَاحِدَة. الْخَامِس: قَالَ ابْن بطال:
وَفِيه إِثْبَات فضل الْمَدِينَة، وَأَنَّهَا مَعْدن
الْعلم، وإليها كَانَ يرحل فِي طلب الْعلم، وتقصد فِي
اقتباسه. وَبَعض الْمَالِكِيَّة خصصواً الْعلم
بِالْمَدِينَةِ بقول الشّعبِيّ، وَهُوَ تَرْجِيح بِلَا
مُرَجّح، فَلَا يقبل.
32 - (بَاب عِظَةِ الإِمامِ النِّساءَ وتَعْلِيمهنَّ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وعظ الإِمَام النِّسَاء،
وَهُوَ التَّذْكِير بالعواقب. وتعليمه النِّسَاء من
الْأُمُور الدِّينِيَّة، والعظة، بِكَسْر الْعين: بِمَعْنى
الْوَعْظ، لِأَنَّهُ مصدر من: وعظ يعظ وعظاً، فَلَمَّا
حذفت الْوَاو تبعا لفعله عوضت عَنْهَا الْهَاء.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق تَعْلِيم الرجل أَهله،
وَهُوَ خَاص. وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب تَعْلِيم
الإِمَام النِّسَاء وَهُوَ عَام، فتناسقا من هَذِه
الْحَيْثِيَّة. وَالْمرَاد من الإِمَام هُوَ الإِمَام
الْأَعْظَم أَو من يَنُوب عَنهُ.
98 - حدّثنا سُلَيمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ: حَدثنَا شُعْبَةُ
عنْ أيُّوبَ قَالَ: سَمِعْتُ عَطاءً قَالَ: سَمِعْتُ ابنَ
عَبَّاسٍ قَالَ: أشْهَدُ علَى النَّبيِّ أَو قَالَ عَطاءٌ:
اشْهَدُ علَى ابنِ عَبَّاس، أنّ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خَرَجَ ومَعَهُ بِلالٌ، فَظَنَّ أنَّهُ
لَمْ يُسْمِعِ النِّسَاءَ، فَوَعَظَهُنَّ وأمَرَهُنَّ
بالصَّدَقَةِ، فَجَعَلَت المَرْأةُ تُلْقِي القُرْطَ
والخَاتَمَ وبِلالٌ يأْخُذُ فِي طَرَفِ ثَوْبِهِ..
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله:
(فوعظهن) ، لِأَن الْوَعْظ يسْتَلْزم العظة، وَكَانَت
الموعظة بقوله: (إِنِّي رأيتكن أَكثر أهل النَّار لأنكن
تكثرن اللَّعْن وتكفرن العشير) . فَإِن قلت: أَيْن مطابقته
لقَوْله: (وتعليمهن) ؟ قلت: فِي قَوْله: (وأمرهن
بِالصَّدَقَةِ) . وَلَا شكّ أَن فِي الْأَمر بِالصَّدَقَةِ
التَّعْلِيم بهَا أَنَّهَا تكفر الْخَطَايَا وتدفع
البلايا.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: سُلَيْمَان بن حَرْب
الْأَزْدِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة
بن الْحجَّاج، وَقد تقدم. الثَّالِث: أَيُّوب
السّخْتِيَانِيّ، وَقد تقدم. الرَّابِع: عَطاء ابْن أبي
رَبَاح، وَاسم أبي رَبَاح: مُسلم الْمَكِّيّ الْقرشِي،
مولى ابْن خَيْثَم الفِهري، وَابْن خَيْثَم عَامل عمر بن
الْخطاب على مَكَّة،
(2/122)
ولد فِي آخر خلَافَة عُثْمَان، رَضِي الله
عَنهُ، وروى عَنهُ ابْنه. قَالَ: أَعقل قتل عُثْمَان،
وَيُقَال إِنَّه من مولدِي الْجند من مخاليف الْيمن
وَنَشَأ بِمَكَّة وَصَارَ مفتيها، وَهُوَ من كبار
التَّابِعين، وروى عَن العبادلة وَعَائِشَة وَغَيرهم، وروى
عَنهُ اللَّيْث حَدِيثا وَاحِدًا، وجلالته وبراعته وثقته
وديانته مُتَّفق عَلَيْهَا، وَحج سبعين حجَّة، وَكَانَت
الْحلقَة بعد ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، لَهُ.
مَاتَ سنة خمس عشرَة، وَقيل أَربع عشرَة وَمِائَة، عَن
ثَمَانِينَ سنة. وَكَانَ حَبَشِيًّا أسود أَعور أفطس أشل
أعرج، لامْرَأَة من أهل مَكَّة، ثمَّ عمي بآخرة، وَلَكِن
الْعلم وَالْعَمَل بِهِ رَفعه. وَمن غَرَائِبه أَنه
يَقُول: إِذا أَرَادَ الْإِنْسَان سفرا لَهُ الْقصر قبل
خُرُوجه من بَلَده، وَوَافَقَهُ طَائِفَة من أَصْحَاب ابْن
مَسْعُود، وَخَالفهُ الْجُمْهُور. وَمن غَرَائِبه أَيْضا
أَنه إِذا وَافق يَوْم عيد يَوْم جُمُعَة يصلى الْعِيد
فَقَط، وَلَا ظهر وَلَا جُمُعَة فِي ذَلِك الْيَوْم.
الْخَامِس: عبد اللَّه بن عَبَّاس.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة
أجلاء. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ من رأى الصَّحَابَة اثْنَان.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ لَفْظَة: أشهد تَأْكِيدًا لتحققه
ووثوقاً بِوُقُوعِهِ، لِأَن الشَّهَادَة خبر قَاطع، تَقول
مِنْهُ: شهد الرجل على كَذَا. وَإِنَّمَا قَالَ: أشهد،
بِلَفْظَة: على، لزِيَادَة التَّأْكِيد فِي وثاقته،
لِأَنَّهُ يدل على الاستعلاء بِالْعلمِ عَن خُرُوجه،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمَعَهُ بِلَال، إِذا
كَانَ لفظ: أشهد، من قَول ابْن عَبَّاس، أَو على استعلاء
الْعلم على سَمَاعه من ابْن عَبَّاس إِذا كَانَ لفظ: أشهد،
من قَوْله عَطاء. لِأَن الرَّاوِي تردد فِي هَذِه
اللَّفْظَة، هَل هِيَ من قَول ابْن عَبَّاس أَو من قَول
عَطاء؟ وَرَوَاهُ أَيْضا بِالشَّكِّ حَمَّاد بن زيد عَن
أَيُّوب. أخرجه أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) . وَأخرجه
أَحْمد بن حَنْبَل عَن غنْدر عَن شُعْبَة جَازِمًا
بِلَفْظ: أشهد عَن كل مِنْهُمَا.
بَيَان من أخرجه غَيره: وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي
الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن أبي عمر
كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان، وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي
عَن حَمَّاد بن زيد عَن يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم
الدَّوْرَقِي عَن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ
عَن أَيُّوب بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا فِيهَا عَن
مُحَمَّد بن كثير وَحَفْص بن عمر، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة
بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبيد بن حسان عَن حَمَّاد بن زيد،
وَعَن أبي معمر عَن عبد اللَّه بن عَمْرو، ومسدد،
كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَارِث عَنهُ بِهِ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن
مَنْصُور. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد
بن الصَّباح، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَمعنى
حَدِيثهمْ وَاحِد.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (بِالصَّدَقَةِ) ، وَهِي مَا
تبذل من المَال لثواب الْآخِرَة، وَهِي تتَنَاوَل
الْفَرِيضَة والتطوع، لَكِن الظَّاهِر أَن المُرَاد بهَا
هُنَا هُوَ الثَّانِي. قَوْله: (القرط) ، بِضَم الْقَاف
وَسُكُون الرَّاء: مَا يعلق فِي شحمة الْأذن، وَقَالَ ابْن
دُرَيْد: كل مَا فِي شحمة الْأذن فَهُوَ قرط سَوَاء كَانَ
من ذهب أَو غَيره. وَفِي (البارع) : القرط يكون فِيهِ
حَبَّة وَاحِدَة فِي حَلقَة وَاحِدَة. وَفِي (الْعباب) :
وَالْجمع أقراط وقروط وقرطة وقراط، مِثَال: برد وأبراد
وبرود، و: قلب وقلبة، و: رمح ورماح. و: (الْخَاتم) فِيهِ
أَربع لُغَات: كسر التَّاء وَفتحهَا وخيتام وخاتام، الْكل
بِمَعْنى وَاحِد.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (خرج) ، جملَة فِي
مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: أَن، أَي: خرج من بَين
صُفُوف الرِّجَال إِلَى صف النِّسَاء. قَوْله: (وَمَعَهُ
بِلَال) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، هَذِه رِوَايَة
الْكشميهني بِالْوَاو، وَفِي رِوَايَة غَيره: (مَعَه
بِلَال) . بِلَا وَاو، وَهُوَ جَائِز بِلَا ضعف، نَحْو
قَوْله تَعَالَى: {اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدو}
(الْبَقَرَة: 36 والأعراف: 24) وبلال: هُوَ ابْن رَبَاح،
بِفَتْح الرَّاء وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، الحبشي
الْقرشِي، يكنى أَبَا عبد اللَّه أَو أَبَا عَمْرو أَو
أَبَا عبد الرَّحْمَن أَو أَبَا عبد الْكَرِيم، وشهرته
باسم أمه حمامة. قَوْله: (فَظن) أَي: رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أَنه لم يسمع النِّسَاء) حِين أسمع
الرِّجَال، وَفِي بعض النّسخ: فَظن أَنه لم يسمع، بِدُونِ
لَفْظَة النِّسَاء، و: أَن مَعَ اسْمهَا وخبرها سدت مسد
مفعولي: ظن. قَوْله: (فوعظهن) الْفَاء فِيهِ تصلح
للتَّعْلِيل، (وأمرهن) عطف عَلَيْهِ. قَوْله:
(بِالصَّدَقَةِ) الْألف وَاللَّام فِيهَا للْعهد
الْخَارِجِي، وَهِي صَدَقَة التَّطَوُّع، وَإِنَّمَا أمرهن
بهَا لما رآهن أَكثر أهل النَّار، على مَا جَاءَ فِي
الصَّحِيح: (تصدقن يَا معشر النِّسَاء، إِنِّي رأيتكن
أَكثر أهل النَّار) . وَقيل: أمرهن بهَا لِأَنَّهُ كَانَ
وَقت حَاجَة إِلَى الْمُوَاسَاة، وَالصَّدَََقَة يومئذٍ
كَانَت أفضل وُجُوه الْبر. قَوْله: (فَجعلت الْمَرْأَة)
جعلت: من أَفعَال المقاربة، وَهِي مثل: كَاد، فِي
الِاسْتِعْمَال، ترفع الِاسْم، وَخَبره الْفِعْل
الْمُضَارع بِغَيْر أَن، متأول باسم الْفَاعِل، وَقَوله:
(القرط) بِالنّصب مفعول: (تلقي) من الْإِلْقَاء. (والخاتم)
عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وبلال) مُبْتَدأ (وَيَأْخُذ فِي
أَطْرَاف ثَوْبه) خَبره، وَالْجُمْلَة حَالية، ومفعول:
يَأْخُذ، مَحْذُوف.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ النَّوَوِيّ:
فِيهِ اسْتِحْبَاب وعظ النِّسَاء وتذكيرهن الْآخِرَة
وَأَحْكَام الْإِسْلَام، وحثهن على الصَّدَقَة، وَهَذَا
إِذا لم يَتَرَتَّب على
(2/123)
ذَلِك مفْسدَة أَو خوف فتْنَة على
الْوَاعِظ أَو الموعوظ، وَنَحْو ذَلِك. الثَّانِي: فِي
قَوْله: (فَظن أَنه لم يسمع النِّسَاء) دَلِيل على أَن على
الإِمَام افتقاد رَعيته وتعليمهم ووعظهم. الثَّالِث: فِيهِ
أَن صَدَقَة التَّطَوُّع لَا تحْتَاج إِلَى إِيجَاب
وَقبُول، وَيَكْفِي فِيهَا المعاطاة، لِأَنَّهُنَّ ألقين
الصَّدَقَة فِي ثوب بِلَال من غير كَلَام مِنْهُنَّ وَلَا
من بِلَال وَلَا من غَيرهمَا، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح من
مَذْهَب الشَّافِعِي، رَحمَه الله؛ خلافًا لأكْثر
الْعِرَاقِيّين من أَصْحَابه حَيْثُ قَالُوا: يفْتَقر
إِلَى الْإِيجَاب وَالْقَبُول. الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل
على أَن الصَّدقَات الْعَامَّة إِنَّمَا يصرفهَا مصارفها
الإِمَام. الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل أَن الصَّدَقَة قد تنجي
من النَّار، قَالَه ابْن بطال. السَّادِس: فِيهِ جَوَاز
صَدَقَة الْمَرْأَة من مَالهَا بِغَيْر إِذن زَوجهَا،
وَلَا يتَوَقَّف فِي ذَلِك على ثلث مَالهَا. وَقَالَ
مَالك: لَا تجوز الزِّيَادَة على الثُّلُث إلاَّ بِإِذن
الزَّوْج، وَالْحجّة عَلَيْهِ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لم يسْأَل: هَل هَذَا بِإِذن أَزوَاجهنَّ أم
لَا؟ وَهل هُوَ خَارج من الثُّلُث أَو لَا؟ وَلَو اخْتلف
الحكم بذلك لسأل. قَالَ القَاضِي عِيَاض، رَحمَه الله،
احتجاجاً لمَذْهَب مَالك: الْغَالِب حُضُور أَزوَاجهنَّ،
وَإِذا كَانَ كَذَلِك، فتركهم الْإِنْكَار رضى مِنْهُم
بفعلهن. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا ضَعِيف، لِأَنَّهُنَّ
معتزلات لَا يعلم الرِّجَال المتصدقة مِنْهُم من غَيرهَا،
وَلَا قدر مَا يتصدقن بِهِ، وَلَو علمُوا فسكوتهم لَيْسَ
إِذْنا. فَإِن قلت: احْتج مَالك وَمن تبعه فِي ذَلِك بِمَا
خرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل عَن
حَمَّاد عَن دَاوُد بن أبي هِنْد، وحبِيب الْمعلم عَن
عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يجوز لامْرَأَة أمرٌ
فِي مَالهَا إِذا ملك زَوجهَا عصمتها) . وَبِمَا خرجه
النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث أبي كَامِل عَن
خَالِد، يَعْنِي ابْن الْحَارِث: ثَنَا حُسَيْن عَن عَمْرو
بن شُعَيْب أَن أَبَاهُ أخبرهُ عَن عبد اللَّه بن عَمْرو
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يحل
لامْرَأَة عَطِيَّة إلاَّ بِإِذن زَوجهَا) . قَالَ
الْبَيْهَقِيّ: الطَّرِيق إِلَى عَمْرو بن شُعَيْب صَحِيح،
فَمن أثبت أَحَادِيث عَمْرو بن شُعَيْب لزمَه إثْبَاته.
وَالْجَوَاب عَنهُ من أوجه: أَحدهَا: معارضته بالأحاديث
الصَّحِيحَة الدَّالَّة على الْجَوَاز عِنْد الْإِطْلَاق،
وَهِي أقوى مِنْهُ، فَقدمت عَلَيْهِ. وَقد يُقَال: انه
وَاقعَة حَال، فَيمكن حملهَا على أَنَّهَا كَانَت قدر
الثُّلُث. الثَّانِي: على تَسْلِيم الصِّحَّة إِنَّه
مَحْمُول على الأولى، وَالْأَدب ذكره الشَّافِعِي فِي
الْبُوَيْطِيّ، قَالَ: وَقد أعتقت مَيْمُونَة، رَضِي الله
عَنْهَا، فَلم يعب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَلَيْهَا. وكما يُقَال: لَيْسَ لَهَا أَن تَصُوم وَزوجهَا
حَاضر إلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت فصومها جَائِز، وَمثله
إِن خرجت بِغَيْر إِذْنه فباعت، فَهُوَ جَائِز. الثَّالِث:
الطعْن فِيهِ، قَالَ الشَّافِعِي: هَذَا الحَدِيث سمعناه
وَلَيْسَ بِثَابِت، فيلزمنا أَن نقُول بِهِ وَالْقُرْآن
يدل على خِلَافه ثمَّ الْأَمر ثمَّ الْمَنْقُول ثمَّ
الْمَعْقُول. قيل: أَرَادَ بِالْقُرْآنِ، قَوْله تَعَالَى:
{فَنصف مَا فرضتم إلاّ أَن يعفون} (الْبَقَرَة: 237)
وَقَوله: {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه
هَنِيئًا مريئاً} (النِّسَاء: 4) . وَقَوله: {فَلَا جنَاح
عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} (الْبَقَرَة: 229)
وَقَوله: {من بعد وَصِيَّة يوصين بهَا أَو دين}
(النِّسَاء: 12) وَقَوله: {وابتلوا الْيَتَامَى} الْآيَة
(النِّسَاء: 6) وَلم يفرق، فدلت هَذِه الْآيَات على نُفُوذ
تصرفها فِي مَالهَا دون إِذن زَوجهَا، وَقَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وسلمن لزوجة الزبير رَضِي الله عَنهُ: (إرضخي
وَلَا توعي فيوعى الله عَلَيْك) مُتَّفق عَلَيْهِ.
وَقَالَ: (يَا نسَاء المسلمات، لَا تحقرن جَارة لجارتها
وَلَو فرسن شَاة) . واختلعت مولاة لصفية بنت أبي عبيد من
زَوجهَا من كل شَيْء، فَلم يُنكر ذَلِك ابْن عمر، رَضِي
الله عَنْهُمَا. وَقد طعن إِبْنِ حزم فِي حَدِيث عَمْرو بن
شُعَيْب بِأَن قَالَ: صحيفَة مُنْقَطِعَة، وَقد علمت أَن
شعيباً صرح بِعَبْد الله بن عَمْرو، فَلَا انْقِطَاع. وَقد
أخرجه الْحَاكِم من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن دَاوُد
بن أبي هِنْد وحبِيب الْمعلم عَن عَمْرو بِهِ، ثمَّ قَالَ:
صَحِيح الْإِسْنَاد، ثمَّ ذكر ابْن حزم من حَدِيث ابْن
عمر: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَمَا
حق الزَّوْج على زَوجته؟ قَالَ: لَا تصدق إلاَّ
بِإِذْنِهِ، فَإِن فعلت كَانَ لَهُ الْأجر وَعَلَيْهَا
الْوزر) . ثمَّ قَالَ: هَذَا خَيرهَا لَك، لِأَن فِيهِ
مُوسَى بن أعين وَهُوَ مَجْهُول، وَلَيْث بن أبي سليم
وَلَيْسَ بِالْقَوِيّ وَهُوَ غَرِيب مِنْهُ، فَإِن مُوسَى
بن أعين روى عَن جمَاعَة وَعنهُ جمَاعَة، وَاحْتج بِهِ
الشَّيْخَانِ، وَوَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة
وَالنَّسَائِيّ. نعم، فِيهِ الْحسن بن عبد الْغفار وَهُوَ
مَجْهُول، وليته أعله بِهِ. ثمَّ ذكر حَدِيث إِسْمَاعِيل
بن عَيَّاش عَن شُرَحْبِيل بن مُسلم الْخَولَانِيّ عَن أبي
أُمَامَة رَفعه: (لَا تنْفق الْمَرْأَة شَيْئا من بَيت
زَوجهَا إلاَّ بِإِذْنِهِ، قيل: يَا رَسُول الله وَلَا
الطَّعَام؟ قَالَ: ذَلِك أفضل أَمْوَالنَا) . ثمَّ
إِسْمَاعِيل ضَعِيف، وشرحبيل مَجْهُول لَا يدرى من هُوَ،
وَهَذَا عَجِيب مِنْهُ. فإسماعيل حجَّة فِيمَا يروي عَن
الشاميين، وشرحبيل شَامي، وحاشاه من الْجَهَالَة. روى
عَنهُ جمَاعَة. قَالَ أَحْمد: هُوَ من ثِقَات الشاميين،
نعم، ضعفه ابْن معِين، وَقد أخرجه ابْن مَاجَه
وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ: حسن. الرَّابِع: من أوجه
الْجَواب، مَا قيل: إِن المُرَاد من مَال زَوجهَا لَا من
مَالهَا، وَفِيه نظر.
(2/124)
وَقَالَ إسْماعِيلُ: عنْ أيُّوبَ عنْ
عَطَاءُ، وَقَالَ عنِ ابْن عَباسٍ: أشْهَدُ علَى النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
إِسْمَاعِيل هُوَ ابْن علية، وَأَيوب هُوَ
السّخْتِيَانِيّ، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، أَرَادَ
بِهَذَا التَّعْلِيق أَن إِسْمَاعِيل روى عَن أَيُّوب عَن
عَطاء عَن ابْن عَبَّاس: أشهد على النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، بِالْجَزْمِ، لِأَن لَفْظَة: أشهد، من
كَلَام ابْن عَبَّاس فَقَط. وَكَذَا جزم بِهِ أَبُو دَاوُد
الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) ، وَكَذَا قَالَ وهيب عَن
أَيُّوب: ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا:
إِنَّه تَعْلِيق، لِأَن البُخَارِيّ لم يدْرك إِسْمَاعِيل
بن علية، وَهُوَ مَاتَ فِي عَام ولادَة البُخَارِيّ سنة
أَربع وَتِسْعين وَمِائَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
وَيحْتَمل أَن يكون معنى قَوْله: (وَقَالَ إِسْمَاعِيل)
عطفا على: (قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة) ، فَيكون المُرَاد
مِنْهُ حَدثنَا سُلَيْمَان قَالَ: حَدثنَا إِسْمَاعِيل،
فَيخرج عَن التَّعْلِيق. قلت: هَذَا لَا يَصح، لِأَن
سُلَيْمَان بن حَرْب لَا رِوَايَة لَهُ عَن إِسْمَاعِيل
أصلا، لَا لهَذَا الحَدِيث وَلَا لغيره، وَقد أخرجه
البُخَارِيّ فِي كتاب الزَّكَاة مَوْصُولا عَن مُؤَمل بن
هِشَام عَن إِسْمَاعِيل، كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
33 - (بابُ الحِرْصِ علَى الحدِيثِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْحِرْص على تَحْصِيل
الحَدِيث، والْحَدِيث فِي اللُّغَة: الْجَدِيد، من حدث
أَمر أَي: وَقع، وَهُوَ من بَاب: نصر ينصر. وَيُقَال:
أَخَذَنِي مَا قدُم وَمَا حدُث، لَا يضم: حدث، فِي شَيْء
من الْكَلَام إلاَّ فِي هَذَا الْموضع، وَذَلِكَ لمَكَان:
قدم، على الإزدواج. والْحَدِيث: الْخَبَر يَأْتِي على
الْقَلِيل وَالْكثير، وَيجمع على: أَحَادِيث، على غير
قِيَاس. قَالَ الْفراء: ترى أَن وَاحِد الْأَحَادِيث
أحدوثة، ثمَّ جَعَلُوهُ جمعا للْحَدِيث، وَسمي حَدِيثا
لِأَنَّهُ يحدث مِنْهُ الشَّيْء بعد الشَّيْء، والأحدوثة
مَا يتحدث بِهِ. وَقَوله تَعَالَى: {وجعلناهم أَحَادِيث}
(الْمُؤْمِنُونَ: 44) أَي: عبرا يتحدث بهلاكهم،
وَالْحَدَث، والحدثى مثل: بشرى والحادثة والحدثان كُله
بِمَعْنى، والحدثان أَيْضا: النَّاس. وَالْجمع: الْحدثَان
بِالْكَسْرِ، والتركيب يدل على كَون شَيْء لم يكن،
والْحَدِيث فِي عرف الْعَامَّة: الْكَلَام، وَفِي عرف
الشَّرْع: مَا يتحدث عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَكَأَنَّهُ لوحظ فِيهِ مُقَابلَته لِلْقُرْآنِ
لِأَنَّهُ قديم وَهَذَا حَدِيث، والْحَدِيث ضد الْقَدِيم،
وَيسْتَعْمل فِي قَلِيل الْكَلَام وَكَثِيره، لِأَنَّهُ
يحدث شَيْئا فَشَيْئًا كَمَا ذكرنَا.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت:
من حَيْثُ إِن من الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول هُوَ
التَّعْلِيم الْخَاص، وَكَذَلِكَ الْمَذْكُور فِي هَذَا
الْبَاب هُوَ التَّعْلِيم الْخَاص، لِأَن النَّبِي، صلى
الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، أجَاب أَبَا هُرَيْرَة
فِيمَا سَأَلَهُ بِالْخِطَابِ إِلَيْهِ خَاصَّة،
وَالْجَوَاب عَن سُؤال من لَا يعلم جَوَابه تَعْلِيم من
الْمُجيب، فَافْهَم.
99 - حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ:
حدّثني سُلَيْمانُ عنْ عَمْرو بن أبي عَمْرٍ وعنْ سَعيد
بنِ أبي سَعِيدٍ المَقْبُريِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّهُ
قَالَ: قِيلَ: يَا رسولَ الله! مَنْ أسْعَدُ النَّاسِ
بِشَفَاعَتِكَ يوْمَ القِيامةِ؟ قَالَ رسولُ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ
أنْ لَا يَسْأَلَنِي عنْ هَذا الحَدِيثِ أَحَدٌ أوَّلُ
مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ منْ حِرْصِكَ علَى الحَدِيثِ،
أسْعَدُ النَّاسِ بِشَفاعَتِيِ يَوْمَ القيامَةِ مَنْ
قَالَ: لَا إلَهَ إلاَّ الله، خالِصاً مِنْ قَلْبِهِ أوْ
نَفْسِهِ) .
(الحَدِيث 99 طرفه فِي: 6570) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لما رَأَيْت
من حرصك على الحَدِيث) .
بَيَان رِجَاله:. وهم خَمْسَة: الأول: عبد الْعَزِيز بن
عبد اللَّه بن يحيى بن عَمْرو بن أويس بن سعيد بن أبي سرح،
بالمهملات، ابْن حُذَيْفَة بن نصر بن مَالك بن حسل بن
عَامر ابْن لؤَي بن فهر، أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري
الأويسي الْمدنِي الْفَقِيه، روى عَنهُ البُخَارِيّ، وروى
أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ عَن رجل عَنهُ، وروى
البُخَارِيّ فِي الْإِصْلَاح عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه
مَقْرُونا بالفروي عَنهُ عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر، قَالَ
أَبُو حَاتِم: مدنِي صَدُوق. وَعنهُ قَالَ: هُوَ أحب
إِلَيّ من يحيى بن بكير. الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال،
أَبُو مُحَمَّد التَّيْمِيّ القريشي الْمدنِي، وَقد مر
ذكره. الثَّالِث: عَمْرو بن أبي عَمْرو، بِفَتْح الْعين
وبالواو فيهمَا، وَأَبُو عَمْرو اسْمه: ميسرَة، وَعَمْرو
يكنى أَبَا عُثْمَان، وميسرة مولى الْمطلب بن عبد اللَّه
بن حنْطَب، بِفَتْح الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح
الْمُهْملَة وبالموحدة، المَخْزُومِي الْقرشِي
(2/125)
الْمدنِي، روى عَن أنس بن مَالك وَغَيره،
وَعنهُ مَالك والدراوردي. قَالَ أَبُو زرْعَة: ثِقَة.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: لَا بَأْس بِهِ. وَأما يحيى بن
معِين فَقَالَ: ضَعِيف لَيْسَ بِالْقَوِيّ وَلَيْسَ
بِحجَّة. وَقَالَ ابْن عدي: لَا بَأْس بِهِ لِأَن مَالِكًا
روى عَنهُ، وَلَا يروي إلاَّ عَن صَدُوق ثِقَة. مَاتَ سنة
خلَافَة الْمَنْصُور فِي أَولهَا وَكَانَت أول سنة سِتّ
وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَزِيَاد بن عبد اللَّه على
الْمَدِينَة. روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: سعيد بن
أبي سعيد المَقْبُري، بِضَم الْبَاء وَفتحهَا. وَقد مر.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر،
رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
هُنَا عَن عبد الْعَزِيز، وَفِي صفة الْجنَّة عَن
قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عَمْرو بن أبي
عَمْرو بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن عَليّ
بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بِهِ. وَقَالَ الْمزي.
روى عَن سعيد عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، وَحَدِيث
النَّسَائِيّ لَيْسَ فِي الرِّوَايَة، وَلم يذكرهُ أَبُو
الْقَاسِم.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَنه قَالَ) بِفَتْح: أَن.
وَقَوله: قَالَ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر:
أَن. قَوْله: (قيل: يَا رَسُول الله) كَذَا هُوَ فِي
رِوَايَة أبي ذَر وكريمة، وَلَيْسَ فِي رِوَايَة
البَاقِينَ لَفْظَة: قيل، وَإِنَّمَا هُوَ: (أَنه قَالَ:
يَا رَسُول الله) . وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَقَوله:
قيل، وهم، وَالصَّوَاب سُقُوط: قيل، كَمَا جَاءَ عِنْد
الْأصيلِيّ والقابسي، لِأَن السَّائِل هُوَ أَبُو
هُرَيْرَة نَفسه، لقَوْله بعد: (لقد ظَنَنْت أَن لَا
يسألني عَن هَذَا أحد أول مِنْك) ، وَالْأول وَقع فِي
رِوَايَة أبي ذَر وَهُوَ وهم. قلت: الصَّوَاب مَا قَالَه
القَاضِي، فَإِن البُخَارِيّ أخرجه فِي الرقَاق كَذَلِك.
وَأخرجه فِي الْجنَّة أَنه قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله)
وَهَذَا مِمَّا يُؤَيّد أَن: قلت، تصحف: بقيل. وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (أَنه سَأَلَ) . وَفِي
رِوَايَة أبي نعيم أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: (يَا رَسُول
الله) . قَوْله: (مَنْ أسعد النَّاس) مُبْتَدأ وَخبر، و:
من، إستفهامية، (وَيَوْم الْقِيَامَة) كَلَام إضافي نصب
على الظّرْف. قَوْله: (لقد ظَنَنْت) اللَّام فِيهِ جَوَاب
قسم مَحْذُوف، قَالَه الْكرْمَانِي، وَالْأولَى أَن
يُقَال: إِنَّه لَام التَّأْكِيد.
قَوْله: (يابا هُرَيْرَة) أَصله يَا أَبَا هُرَيْرَة،
فحذفت الْهمزَة تَخْفِيفًا، وَهُوَ معترض بَين ظَنَنْت
ومفعوله، وَهُوَ قَوْله: (أَن لَا يسألني عَن هَذَا
الحَدِيث أحد) ، وَيجوز ضم اللَّام فِي: يسألني، وَفتحهَا
لِأَن كلمة: أَن، إِذا وَقعت بعد الظَّن يجوز فِي مدخولها
الْوَجْهَانِ: الرّفْع وَالنّصب. وَاعْلَم أَن: أَن،
الْمَفْتُوحَة الْهمزَة الساكنة النُّون على وَجْهَيْن:
اسْم وحرف، فالحرف على أَرْبَعَة أوجه: الأول: أَن يكون
حرفا مصدرياً ناصباً للمضارع، وَتَقَع فِي موضِعين.
أَحدهمَا: فِي الِابْتِدَاء، فَتكون فِي مَوضِع رفع نَحْو:
{وَأَن تَصُومُوا خير لكم} (الْبَقَرَة: 184) وَالثَّانِي:
بعد لفظ دَال على معنى غير الْيَقِين، فَيكون فِي مَوضِع
رفع نَحْو: {ألم يَأن للَّذين آمنُوا أَن تخشع قُلُوبهم
لذكر الله} (الْحَدِيد: 16) وَنصب نَحْو: {وَمَا كَانَ
هَذَا الْقُرْآن أَن يُفترى من دون الله} (يُونُس: 37)
وخفض نَحْو: {أوذينا من قبل أَن تَأْتِينَا} (الْأَعْرَاف:
129) ومحتملة لَهما نَحْو: {وَالَّذِي أطمع أَن يغْفر لي}
(الشُّعَرَاء: 82) أَصله: فِي أَن يغْفر لي. الثَّانِي:
أَن تكون مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة، فَتَقَع بعد فعل
الْيَقِين أَو مَا نزل مَنْزِلَته، نَحْو: {أَفلا يرَوْنَ
أَن لَا يرجع إِلَيْهِم قولا} (طه: 89) {علم أَن سَيكون}
(المزمل: 20) {وَحَسبُوا أَن لَا تكون فتْنَة}
(الْمَائِدَة: 71) فِيمَن رفع: تكون، فَإِن هَذِه ثلاثية
الْوَضع، وَهِي مَصْدَرِيَّة أَيْضا، وتنصب الِاسْم وترفع
الْخَبَر، خلافًا للكوفيين؛ وَزَعَمُوا أَنَّهَا لَا تعْمل
شَيْئا، وَشرط اسْمهَا أَن يكون محذوفاً، وَرُبمَا ثَبت
فِي الضَّرُورَة على الْأَصَح، وَشرط خَبَرهَا أَن يكون
جملَة، وَلَا يجوز إِفْرَاده إِلَّا إِذا ذكر الِاسْم
فَيجوز الْأَمْرَانِ. الثَّالِث: أَن تكون مفسرة،
بِمَنْزِلَة: أَي، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فأوحينا
إِلَيْهِ أَن أصنع الْفلك} (الْمُؤْمِنُونَ: 27) وَعَن
الكوفية إِنْكَار: أَن، التفسيرية أَلْبَتَّة. وَإِذا ولي:
أَن، الصَّالِحَة للتفسير مضارع مَعَه: لَا، نَحْو: أَشرت
إِلَيْهِ أَن لَا يفعل، جَازَ رَفعه على تَقْدِير: لَا،
نَافِيَة. وجزمه على تقديرها ناهية. وَعَلَيْهِمَا فَأن
مفسرة، ونصبه على تَقْدِير: لَا، نَافِيَة و: أَن،
مَصْدَرِيَّة. فَإِن فقدت: لَا، امْتنع الْجَزْم وَجَاز
الرّفْع وَالنّصب. الرَّابِع: أَن تكون زَائِدَة، وَلها
مَوَاضِع ذكرت فِي النَّحْو.
قَوْله: (أحد) بِالرَّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: يسألني،
قَوْله: (أول مِنْك) ، يجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب،
فالرفع على أَنه صفة لأحد، أَو بدل مِنْهُ. وَالنّصب على
الظَّرْفِيَّة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: على الْمَفْعُول
الثَّانِي لظَنَنْت. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاء: على
الْحَال، أَي: لَا يسألني أحد سَابِقًا لَك: قَالَ: وَجَاز
نصب الْحَال عَن النكرَة لِأَنَّهَا فِي سِيَاق النَّفْي
فَتكون عاملة كَقَوْلِهِم: مَا كَانَ أحد مثلك. وَاخْتلف
فِي: أول، هَل وَزنه: أفعل أَو فوعل، وَالصَّحِيح أَنه:
أفعل، واستعماله: بِمن، من جملَة أَدِلَّة صِحَّته.
وَقَالَ أَبُو عَليّ الْفَارِسِي: أول، تسْتَعْمل إسماً
وَصفَة. فَإِن اسْتعْملت صفة كَانَت بِالْألف وَاللَّام،
أَو بِالْإِضَافَة أَو: بِمن، ظَاهِرَة أَو مقدرَة. مثل
قَوْله تَعَالَى: {يعلم السِّرّ واخفى} (طه: 7) أَي: اخفى
من السِّرّ، فَإِن كَانَت: بِمن، جرت فِي الْأَحْوَال
كلهَا على لفظ وَاحِد، تَقول: هِنْد أول من زَيْنَب،
والزيدان
(2/126)
أول من العمرين، وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ
الصّفة تَقول: رَأَيْت زيدا أول من عامنا، فَأول
بِمَنْزِلَة: قبل، كَأَنَّك قلت: رَأَيْت زيدا عَاما قبل
عامنا، فَحكم لَهُ بالظرف حَتَّى قَالُوا: أبدأ بِهَذَا
أَوله، وَبَنوهُ على الضَّم كَمَا قَالُوا: أبدأ بِهِ قبل،
فَصَارَ كَأَنَّهُ قطع عَن الْإِضَافَة. وَمن النصب على
الظّرْف قَوْله تَعَالَى: {الركب أَسْفَل مِنْكُم}
(الْأَنْفَال: 42) كَمَا تَقول: الركب أمامك، وَأَصله
الصّفة، وَصَارَ: أَسْفَل، ظرفا. وَالتَّقْدِير: والركب
فِي مَكَان أَسْفَل من مَكَانكُمْ، ثمَّ حذف الْمَوْصُوف
وأقيمت الصّفة مقَامه، فَصَارَ: أَسْفَل مِنْكُم،
بِمَنْزِلَة: تحتكم، وَمن لم يَجْعَل أَولا صلَة صرفه
بِمَنْزِلَة: فَكل، الَّذِي هُوَ بِمَعْنى: الرعدة.
وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ وزن الْفِعْل. تَقول: مَا ترك لنا
أَولا وَلَا آخر، كَقَوْلِك: لَا قَدِيما وَلَا حَدِيثا.
قَوْله (لما رَأَيْت) بِكَسْر اللَّام و: مَا، مَوْصُولَة،
والعائد مَحْذُوف. و: من، بَيَانِيَّة تَقْدِيره: للَّذي
رَأَيْته من حرصك. أَو تكون: مَا، مَصْدَرِيَّة و: من،
تبعيضية، وَتَكون مفعول: رَأَيْت، وَالتَّقْدِير. لرؤيتي
بعض حرصك. قَوْله: (على الحَدِيث) يتَعَلَّق بالحرص.
قَوْله: (أسعدُ النَّاس) كَلَام إضافي مُبْتَدأ. وَالْبَاء
فِي: (بشفاعتي) يتَعَلَّق بِهِ: (وَيَوْم الْقِيَامَة) نصب
على الظَّرْفِيَّة. وَقَوله: (من قَالَ) فِي مَحل الرّفْع
على أَنه خبر الْمُبْتَدَأ. و: (من) ، مَوْصُولَة.
وَقَوله: (خَالِصا) ، حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي:
(قَالَ) . وَقَوله: (من قلبه) يجوز أَن يتَعَلَّق بقوله:
خَالِصا، أَو بقوله: قَالَ. وَالظَّاهِر أَن يتَعَلَّق:
بقال. فَإِذا تعلق: بقال يكون ظرفا لَغوا، وَإِن تعلق
بخالصاً، يكون ظرفا مُسْتَقرًّا، إِذْ تَقْدِيره حينئذٍ
ناشئاً من قلبه، واللغو لَا مَحل لَهُ من الْإِعْرَاب.
والمستقر هُنَا مَنْصُوب على الْحَال.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (من أسعد النَّاس) أسعد: أفعل،
والسعد هُوَ الْيمن، تَقول مِنْهُ: سعد يَوْمنَا يسْعد
سعوداً، والسعودة خلاف النحوسة، والسعادة خلاف الشقاوة،
تَقول مِنْهُ: سعد الرجل بِالْكَسْرِ فَهُوَ سعيد، مِثَال:
سلم فَهُوَ سليم. وَسعد، على مَا لم يسم فَاعله، فَهُوَ:
مَسْعُود. فَإِن قلت: أسعد، هُنَا من أَي الْبَاب؟ قلت: من
الْبَاب الثَّانِي، وَهُوَ من بَاب: فعل يفعل بِالْكَسْرِ
فِي الْمَاضِي وَالْفَتْح فِي الغابر، وَالْأول من بَاب:
فعل يفعل، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالضَّم فِي الغابر.
فَإِن قلت: أفعل التَّفْضِيل يدل على الشّركَة، والمشرك
وَالْمُنَافِق لَا سَعَادَة لَهما. قلت: أسعد هَهُنَا
بِمَعْنى سعيد، يَعْنِي سعيد النَّاس، كَقَوْلِهِم:
النَّاقِص والأشج أعدلا بني مَرْوَان، يَعْنِي عادلا بني
مَرْوَان، وَيجوز أَن يكون على مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ
الْمَشْهُور، والتفضيل بِحَسب الْمَرَاتِب أَي: هُوَ أسعد
مِمَّن لم يكن فِي هَذِه الْمرتبَة من الْإِخْلَاص
الْمُؤَكّد الْبَالِغ غَايَته، وَكثير من النَّاس يحصل
لَهُ سعد بِشَفَاعَتِهِ، لَكِن الْمُؤمن المخلص أَكثر
سَعَادَة بهَا، فَإِن النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام، يشفع
فِي الْخلق بإراحتهم من هول الْموقف، ويشفع فِي بعض
الْكفَّار بتَخْفِيف الْعَذَاب، كَمَا صَحَّ فِي حق أبي
طَالب، ويشفع فِي بعض الْمُؤمنِينَ بِالْخرُوجِ من النَّار
بعد أَن دخلوها، وَفِي بَعضهم بِعَدَمِ دُخُولهَا بعد أَن
يستوجبوا دُخُولهَا، وَفِي بَعضهم بِدُخُول الْجنَّة
بِغَيْر حِسَاب، وَفِي بَعضهم بِرَفْع الدَّرَجَات فِيهَا،
فَظهر الِاشْتِرَاك فِي مُطلق السَّعَادَة بالشفاعة، وَأَن
أسعدهم بهَا الْمُؤمن المخلص. قَوْله: (بشفاعتك) ،
الشَّفَاعَة مُشْتَقَّة من الشفع، وَهُوَ ضم الشَّيْء
إِلَى مثله، كَأَن الْمَشْفُوع لَهُ كَانَ فَردا فَجعله
الشَّفِيع شفعاً بِضَم نَفسه إِلَيْهِ، والشفاعة: الضَّم
إِلَى إِلَى آخر معاوناً لَهُ، وَأكْثر مَا يسْتَعْمل فِي
انضمام من هُوَ أَعلَى مرتبَة إِلَى من هُوَ أدنى. وَقَالَ
ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن الشَّفَاعَة إِنَّمَا
تكون فِي أهل الْإِخْلَاص خَاصَّة، وهم أهل التَّوْحِيد،
وَهَذَا مُوَافق لقَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام:
(لكل نَبِي دَعْوَة، وَإِنِّي اخْتَبَأْت دَعْوَتِي
شَفَاعَة لأمتي يَوْم الْقِيَامَة، فَهِيَ نائلة إِن شَاءَ
الله تَعَالَى من مَاتَ من أمتِي لَا يُشْرك بِاللَّه
شَيْئا) . قلت: هَذَا الحَدِيث مَعَ غَيره من الْآيَات
وَالْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي الْبَاب، الْجَارِيَة
مجْرى الْقطع، دَلِيل على ثُبُوت الشَّفَاعَة.
قَالَ عِيَاض: مَذْهَب أهل السّنة جَوَاز الشَّفَاعَة
عقلا، ووجوبها بِصَرِيح الْآيَات وَالْأَخْبَار الَّتِي
بلغ مجموعها التَّوَاتُر لصحتها فِي الْآخِرَة لمذنبي
الْمُؤمنِينَ. وَأجْمع السّلف الصَّالح وَمن بعدهمْ من أهل
السّنة على ذَلِك، ومنعت الْخَوَارِج وَبَعض الْمُعْتَزلَة
مِنْهَا، وتأولت الْأَحَادِيث على زيادات الدَّرَجَات
وَالثَّوَاب، وَاحْتَجُّوا بقوله تَعَالَى: {فَمَا تنفعهم
شَفَاعَة الشافعين} (المدثر: 48) {مَا للظالمين من حميم
وَلَا شَفِيع يطاع} (غَافِر: 18) وَهَذِه إِنَّمَا جَاءَت
فِي الْكفَّار، وَالْأَحَادِيث مصرحة بِأَنَّهَا فِي
المذنبين. وَقَالَ: الشَّفَاعَة خَمْسَة أَقسَام. أَولهَا:
الإراحة من هول الْموقف. الثَّانِيَة: الشَّفَاعَة فِي
إِدْخَال قوم الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب، وَهَذِه أَيْضا
وَردت للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا
جَاءَ فِي الصَّحِيح. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين
الْقشيرِي: لَا أعلم هَل هِيَ مُخْتَصَّة أم لَا؟ قلت:
يُرِيد القَاضِي بِالصَّحِيحِ مَا أخرجه البُخَارِيّ
وَمُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَفِيه: (فأنطلق تَحت
الْعَرْش فأقع سَاجِدا) ، وَفِيه: (فَيُقَال يَا مُحَمَّد
أَدخل من أمتك من لَا حِسَاب عَلَيْهِ من الْبَاب
الْأَيْمن من أَبْوَاب الْجنَّة) ، وَشبهه من
الْأَحَادِيث. الثَّالِثَة: قوم استوجبوا النَّار فَيشفع
فيهم نَبينَا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي عدم
دُخُولهمْ فِيهَا، قَالَ القَاضِي: وَهَذِه أَيْضا يشفع
فِيهَا نَبينَا مُحَمَّد،
(2/127)
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من شَاءَ
الله أَن يشفع. الرَّابِعَة: قوم دخلُوا النَّار من
المذنبين فَيشفع فيهم نَبينَا مُحَمَّد، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْمَلَائِكَة والأنبياء
والمؤمنون. الْخَامِسَة: الشَّفَاعَة فِي زِيَادَة
الدَّرَجَات فِي الْجنَّة لأَهْلهَا، وَهَذِه لَا تنكرهَا
الْمُعْتَزلَة. وَقَالَ القَاضِي: عرف بالاستفاضة سُؤال
السّلف الصَّالح الشَّفَاعَة، وَلَا يلْتَفت إِلَى قَول من
قَالَ: يكره سؤالها لِأَنَّهَا لَا تكون إِلَّا للمذنبين،
فقد يكون لتخفيف الْحساب وَزِيَادَة الدَّرَجَات، ثمَّ كل
عَاقل معترف بالتقصير مُشفق أَن يكون من الهالكين غير
مُعْتَد بِعَمَلِهِ، وَيلْزم هَذَا الْقَائِل أَن لَا
يَدْعُو بالمغفرة وَالرَّحْمَة لِأَنَّهَا لأَصْحَاب
الذُّنُوب، وَهَذَا كُله خلاف مَا عرف من دُعَاء السّلف
وَالْخلف. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الشَّفَاعَة الأولى هِيَ
الشَّفَاعَة الْعُظْمَى. قيل: وَهِي المُرَاد بالْمقَام
الْمَحْمُود، والمختصة بنبينا، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَهِي الأولى وَالثَّانيَِة، وَيجوز أَن تكون
الثَّالِثَة وَالْخَامِسَة أَيْضا. وَالله أعلم.
قَوْله: (اِسْعَدْ النَّاس) ، التَّقْيِيد بِالنَّاسِ لَا
يُفِيد نفي السَّعَادَة عَن الْجِنّ وَالْملك، لِأَن
مَفْهُوم اللقب لَيْسَ بِحجَّة عِنْد الْجُمْهُور. قَوْله:
(من قَالَ) فِيهِ دَلِيل على اشْتِرَاط النُّطْق بِكَلِمَة
الشَّهَادَة. فَإِن قلت: هَل يَكْفِي مُجَرّد قَوْله: لَا
إِلَه إِلَّا الله، دون: مُحَمَّد رَسُول الله؟ قلت: لَا
يَكْفِي، لَكِن جعل الْجُزْء الأول من كلمة الشَّهَادَة
شعاراً لمجموعها، فَالْمُرَاد الْكَلِمَة بِتَمَامِهَا.
كَمَا تَقول: قَرَأت: {آلم ذَلِك الْكتاب} (الْبَقَرَة: 1
2) أَي: السُّورَة بِتَمَامِهَا. فَإِن قلت: الْإِيمَان
هُوَ التَّصْدِيق القلبي على الْأَصَح، وَقَول الْكَلِمَة
لإجراء أَحْكَام الْإِيمَان عَلَيْهِ، فَلَو صدق
بِالْقَلْبِ وَلم يقل الْكَلِمَة يسْعد بالشفاعة؟ قلت:
نعم، لَو لم يكن مَعَ التَّصْدِيق منافٍ. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: المُرَاد بالْقَوْل النفساني لَا اللساني،
أَو ذكر على سَبِيل التغليب إِذْ الْغَالِب أَن من صدق
بِالْقَلْبِ قَالَ بِاللِّسَانِ الْكَلِمَة. قلت: لَا
يحْتَاج إِلَى ارْتِكَاب الْمجَاز، وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، مشرع، وَفِي الشَّرْع لَا يعْتَبر
إلاَّ القَوْل اللساني، وَالْقَوْل النفساني يعْتَبر عِنْد
اللَّه، وَهُوَ أَمر مبطن لَا يقف عَلَيْهِ إلاَّ الله
تَعَالَى. قَوْله: (خَالِصا) وَفِي بعض النّسخ: مخلصاً، من
الْإِخْلَاص، وَالْإِخْلَاص فِي الْإِيمَان ترك الشّرك
وَفِي الطَّاعَة ترك الرِّيَاء. قَوْله: (من قلبه) ذكر
للتَّأْكِيد، لِأَن الْإِخْلَاص معدنه الْقلب، كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ آثم قلبه} (الْبَقَرَة: 283)
وَإسْنَاد الْفِعْل إِلَى الْجَارِحَة الَّتِي تعْمل بهَا
أبلغ. أَلا ترى أَنَّك تَقول إِذا أردْت التَّأْكِيد:
أبصرته عَيْني وسمعته أُذُنِي! قَوْله: (أَو نَفسه) شكّ من
الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: شكّ من أبي هُرَيْرَة.
قلت: التَّعْيِين غير لَازم لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون من
أحد من الروَاة مِمَّن هم دونه، وَفِي رِوَايَة
البُخَارِيّ فِي الرقَاق: (خَالِصا من قبل نَفسه) .
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ الْحِرْص على
الْعلم وَالْخَيْر، فَإِن الْحَرِيص يبلغ بحرصه إِلَى
الْبَحْث عَن الغوامض ودقيق الْمعَانِي، لِأَن الظَّوَاهِر
يَسْتَوِي النَّاس فِي السُّؤَال عَنْهَا لاعتراضها
أفكارهم، وَمَا لطف من الْمعَانِي لَا يسْأَل عَنهُ إلاَّ
الراسخ، فَيكون ذَلِك سَببا للفائدة. وَيَتَرَتَّب
عَلَيْهَا أجرهَا وَأجر من عمل بهَا إِلَى يَوْم
الْقِيَامَة. الثَّانِي: فِيهِ تفرس الْعَالم فِي متعلمه،
وتنبيهه على ذَلِك لكَونه أبْعث على اجْتِهَاده فِي
الْعلم. الثَّالِث: فِيهِ سكُوت الْعَالم عَن الْعلم إِذا
لم يسْأَل حَتَّى يسْأَل، وَلَا يكون ذَلِك كتماً، لِأَن
على الطَّالِب السُّؤَال، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا تعين
عَلَيْهِ، فَلَيْسَ لَهُ السُّكُوت إلاَّ إِذا تعذر.
الرَّابِع: فِيهِ أَن الشَّفَاعَة تكون لأهل التَّوْحِيد،
كَمَا ذكرنَا. الْخَامِس: فِيهِ ثُبُوت الشَّفَاعَة، وَقد
مر مفصلا. السَّادِس: فِيهِ فَضِيلَة أبي هُرَيْرَة، رَضِي
الله عَنهُ. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز الْقسم للتَّأْكِيد.
الثَّامِن: فِيهِ جَوَاز الكنية عِنْد الْخطاب، وَالله
أعلم بِالصَّوَابِ.
34 - (بَاب كَيْفَ يُقْبَضُ العِلْمُ)
أَي: هَذَا بَاب، وَالْبَاب منون، وَالْمعْنَى: هَذَا بَاب
فِي بَيَان كَيْفيَّة قبض الْعلم، و: كَيفَ، يسْتَعْمل فِي
الْكَلَام على وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يكون شرطا،
فَيَقْتَضِي فعلين متفقي اللَّفْظ وَالْمعْنَى غير
مجزومين. نَحْو: كَيفَ تصنع أصنع. وَلَا يجوز: كَيفَ
تجْلِس أذهب، بِاتِّفَاق، وَلَا: كَيفَ تجْلِس أَجْلِس
الْجَزْم عِنْد الْبَصرِيين إلاَّ قطرباً. وَالْآخر:
وَهُوَ الْغَالِب فِيهَا أَن تكون استفهاماً: إِمَّا
حَقِيقِيًّا نَحْو: كَيفَ زيد؟ أَو غَيره، نَحْو: {كَيفَ
تكفرون بِاللَّه} الْآيَة (الْبَقَرَة: 28) ، فَإِنَّهُ
أخرج مخرج التَّعَجُّب، وَالْقَبْض نقيض الْبسط،
وَالْمرَاد مِنْهُ الرّفْع والانطواء، كَمَا يُرَاد من
الْبسط الانتشار.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق الْحِرْص على الحَدِيث
الَّذِي هُوَ من أشرف أَنْوَاع الْعُلُوم، وَالْمَذْكُور
فِي هَذَا الْبَاب ارْتِفَاع الْعُلُوم، فبينهما تقَابل
فتناسقا من هَذِه الْجِهَة. وَإِنَّمَا ذكر هَذَا الْبَاب
عقيب الْبَاب السَّابِق تَنْبِيها على أَن يهتم بتحصيل
الْعُلُوم مَعَ الْحِرْص عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا مِمَّا
تقبض وترفع فتستدرك غنائمها قبل فَوَاتهَا.
(2/128)
وكَتَبَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ إِلَى
أبي بَكْرِ بنِ حَزْمٍ: انْظَرْ مَا كانَ منْ حدَيثِ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأكْتُبْهُ، فأنِّي
خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ وذَهابَ العُلماءِ، وَلَا يُقْبلُ
إِلاَّ حَدِيثُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
ولْيُفْشُوا العِلْمَ وَلْيَجْلِسُوا حَتَّى يُعلَّمَ مَنْ
لاَ يَعْلَمُ فإنَ العَلْمَ لَا يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ
سِرًّا.
هَذَا تَعْلِيق لم يَقع وَصله عِنْد الْكشميهني وكريمة
وَابْن عَسَاكِر، وَوَقع وَصله للْبُخَارِيّ عِنْد غَيرهم،
وَهُوَ بقوله فِي بعض النّسخ: حَدثنَا الْعَلَاء بن عبد
الْجَبَّار ... إِلَى آخِره، على مَا يَأْتِي ذكره عَن
قريب. وَقد روى أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ أَصْبَهَان) هَذِه
الْقِصَّة بِلَفْظ: كتب عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله
عَنهُ، إِلَى الْآفَاق: انْظُرُوا حَدِيث رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فاجمعوه.
أما عمر بن عبد الْعَزِيز فَهُوَ أحد الْخُلَفَاء
الرَّاشِدين المهديين، وَقد مر فِي كتاب الْإِيمَان، وَأما
أَبُو بكر بن حزم فَهُوَ: ابْن مُحَمَّد بن عَمْرو بن حزم،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي، ابْن زيد
بن لودان بن عمر بن عبد عَوْف بن مَالك بن النجار
الْأنْصَارِيّ الْمدنِي. قَالَ الْخَطِيب: يُقَال: إِن
اسْمه أَبُو بكر، وكنيته أَبُو مُحَمَّد، وَمثله: أَبُو
بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث، أحد الْفُقَهَاء
السَّبْعَة. كنيته أَبُو عبد الرَّحْمَن. قَالَ الْخَطِيب:
لَا نَظِير لَهما. وَقد قيل فِي أبي بكر بن مُحَمَّد: لَا
كنية لَهُ غير أبي بكر اسْمه. وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد
الْبر: قيل: إِن اسْم أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن هَذَا:
الْمُغيرَة، وَلَا يَصح. قلت: أَرَادَ الْخَطِيب قَوْله:
لَا نَظِير لَهما، أَي: مِمَّن اسْمه أَبُو بكر وَله كنية،
وَأما من اشْتهر بكنيته وَلم يعرف لَهُ اسْم غَيره فكثير،
ذكر ابْن عبد الْبر مِنْهُم جمَاعَة، وَأَبُو بكر بن حزم
ولي الْقَضَاء والإمرة والموسم لِسُلَيْمَان بن عبد الْملك
وَعمر بن عبد الْعَزِيز، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: لما ولي
عمر بن عبد الْعَزِيز الْخلَافَة ولى أَبَا بكر إمرة
الْمَدِينَة، فاستقضى أَبُو بكر ابْن عَمه على الْقَضَاء،
وَكَانَ أَبُو بكر هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ
ويتولى أَمرهم، وَكَانَ يخضب بِالْحِنَّاءِ والكتم، توفّي
سنة عشْرين وَمِائَة فِي خلَافَة هِشَام بن عبد الْملك
وَهُوَ ابْن أَربع وَثَمَانِينَ سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة
إِلَّا التِّرْمِذِيّ، سُئِلَ يحيى بن معِين عَن حَدِيث
عُثْمَان بن حَكِيم عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن
حزم، قَالَ: عرضت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَالَ: مُرْسل.
قَوْله: (انْظُر مَا كَانَ من حَدِيث) أَي: اجْمَعْ
الَّذِي تَجِد، وَوَقع هُنَا للكشميهني: عنْدك، مَعْنَاهُ
فِي بلدك. قَوْله: (فاكتبه) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن
ابْتِدَاء تدوين الحَدِيث النَّبَوِيّ كَانَ فِي أَيَّام
عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ، وَكَانُوا قبل
ذَلِك يعتمدون على الْحِفْظ، فَلَمَّا خَافَ عمر رَضِي
الله عَنهُ، وَكَانَ على رَأس الْمِائَة الأولى من ذهَاب
الْعلم بِمَوْت الْعلمَاء، رأى أَن فِي تدوينه ضبطاً لَهُ
وإبقاء. قَوْله: (فَإِنِّي) الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل.
قَوْله: (دروس الْعلم) بِضَم الدَّال، من: درس يدرس، من
بَاب: نصر ينصر، دروساً أَي: عفى ودرست الْكتاب أدرسه
وأدرسه من بَاب نصر ينصر وَضرب يضْرب درساً ودراسة ودرس
الْحِنْطَة درساً ودراساً أَي: داسها. قَوْله: (وَلَا
يقبل) بِضَم الْيَاء أَعنِي حرف المضارعة. قَوْله:
(وليفشوا) بِصِيغَة الْأَمر من الإفشاء، وَهُوَ الإشاعة.
وَيجوز فِيهِ تسكين اللَّام كَمَا فِي بعض الرِّوَايَات.
وَقَوله: (الْعلم) بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (وليجلسوا)
بِصِيغَة الْأَمر أَيْضا من الْجُلُوس لَا من الإجلاس،
وَيجوز فِي لامه التسكين أَيْضا. قَوْله: (حَتَّى يعلم)
على صِيغَة الْمَجْهُول من التَّعْلِيم، أَعنِي بتَشْديد
اللَّام، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: حَتَّى يعلم: بِفَتْح
حرف المضارعة وَاللَّام من الْعلم. قَوْله: (من لَا يعلم)
بِصِيغَة الْمَعْلُوم من الْعلم. وَكلمَة: من مَوْصُولَة
فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل يعلم الَّذِي هُوَ على
صِيغَة الْمَعْلُوم، وَأما إِذا قرىء على صِيغَة
الْمَجْهُول من التَّعْلِيم فَتكون مَفْعُولا نَاب عَن
الْفَاعِل. فَافْهَم. قَوْله: (لَا يهْلك) بِفَتْح حرف
المضارعة وَكسر اللَّام، أَي: لَا يضيع. وَفتح اللَّام
لُغَة. وَقَرَأَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَأَبُو حَيْوَة
وَابْن أبي إِسْحَاق: {وَيهْلك الْحَرْث والنسل}
(الْبَقَرَة: 25) بِفَتْح الْيَاء، وَاللَّام وَرفع
الثَّاء. قَوْله: (حَتَّى يكون سرا) أَي: خُفْيَة،
وَأَرَادَ بِهِ كتمان الْعلم.
وَقَالَ ابْن بطال: فِي أَمر عمر ابْن عبد الْعَزِيز
بِكِتَابَة حَدِيث النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، خَاصَّة وَأَن لَا يقبل غَيره، الحض على
اتِّبَاع السّنَن وضبطها، إِذْ هِيَ الْحجَّة عِنْد
الِاخْتِلَاف. وَفِيه: يَنْبَغِي للْعَالم نشر الْعلم
وإذاعته.
حدّثنا العَلاءُ بنُ عَبْدِ الجَبَّارِ قَالَ: حدّثنا عبدُ
العزِيز بنُ مُسُلْمٍ عَن عبدِ اللَّهِ بنِ دِينارٍ بِذلك،
يَعْنِي حَدِيثَ عُمَرَ بنِ عبدِ العَزِيز، إِلَى قَولِهِ:
ذَهابَ العُلماءِ.
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَنه روى أثر عمر بن عبد الْعَزِيز
مَوْصُولا، و: لَكِن: (إِلَى قَوْله ذهَاب الْعلمَاء) فسر
ذَلِك بقوله: يَعْنِي حَدِيث عمر بن
(2/129)
عبد الْعَزِيز إِلَى قَوْله ذهَاب
الْعلمَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله بذلك يَعْنِي
بِجَمِيعِ مَا ذكر، يَعْنِي: إِلَى قَوْله: حَتَّى يكون
سرا. ثمَّ قَالَ: وَفِي بعض النّسخ بعده: يَعْنِي بعد
قَوْله بذلك يَعْنِي حَدِيث عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى
قَوْله: ذهَاب الْعلمَاء، ثمَّ قَالَ: وَالْمَقْصُود
مِنْهُ أَن الْعَلَاء روى كَلَام عمر بن عبد الْعَزِيز
إِلَى قَوْله: ذهَاب الْعلمَاء فَقَط. قلت: أما بعد
قَوْله: ذهَاب الْعلمَاء، يحْتَمل أَن يكون كَلَام عمر،
وَلكنه لم يدْخل فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَيحْتَمل أَن لَا
يكون من كَلَامه، وَهُوَ الْأَظْهر، وَبِه صرح أَبُو نعيم
فِي (الْمُسْتَخْرج) فَإِذا كَانَ كَذَلِك يكون هَذَا من
كَلَام البُخَارِيّ أوردهُ عقيب كَلَام عمر بن عبد العزيز
بعد انتهائه: أنبأني الشَّيْخ قطب الدّين عبد الْكَرِيم
إجَازَة، قَالَ: أَخْبرنِي جدي إجَازَة الْحَافِظ الثِّقَة
الْعدْل قطب الدّين عبد الْكَرِيم، ثَنَا مُحَمَّد بن عبد
الْمُنعم بِقِرَاءَتِي عَلَيْهِ، أَنبأَنَا عبد الْعَزِيز
بن باقاء الْبَغْدَادِيّ إجَازَة، أَنبأَنَا يحيى بن ثَابت
سَمَاعا، أَنبأَنَا ثَابت بن بنْدَار، أَنبأَنَا الإِمَام
الْحَافِظ أَبُو بكر أَحْمد بن مُحَمَّد بن غَالب
البرقاني، أَنبأَنَا الإِمَام الْحَافِظ
الْإِسْمَاعِيلِيّ، ثَنَا الْعَلَاء بن عبد الْجَبَّار،
ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُسلم عَن عبد اللَّه بن دِينَار،
قَالَ: كتب عمر بن عبد الْعَزِيز إِلَى أبي بكر بن حزم ...
فَذكره إِلَى قَوْله: وَذَهَاب الْعلمَاء. فَإِن قلت: لِمَ
أخر إِسْنَاد كَلَام عمر بن عبد الْعَزِيز عَن كَلَامه،
وَالْعَادَة تَقْدِيم الْإِسْنَاد. قلت: قَالَ
الْكرْمَانِي: للْفرق بَين إِسْنَاد الْأَثر وَبَين
إِسْنَاد الْخَبَر، وَفِيه نظر لِأَنَّهُ غير مطرد،
وَيحْتَمل أَن يكون قد ظهر بِإِسْنَادِهِ بعد وضع هَذَا
الْكَلَام، فَالْحَقْهُ بالأخير، على أَنا قُلْنَا: إِن
هَذَا الْإِسْنَاد لَيْسَ بموجود عِنْد جمَاعَة.
وَأما الْعَلَاء بن عبد الْجَبَّار فَهُوَ أَبُو الْحسن
الْبَصْرِيّ الْعَطَّار الْأنْصَارِيّ مَوْلَاهُم، سكن
مَكَّة، أخرج البُخَارِيّ من رِوَايَة أبي إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم، وَأبي الْهَيْثَم فِي الْعلم عَنهُ عَن عبد
الْعَزِيز هَذَا الْأَثر وَلم يخرج عَنهُ غَيره، قَالَ
أَبُو حَاتِم: صَالح الحَدِيث. وَقَالَ الْعجلِيّ: ثِقَة،
توفّي سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَمِائَتَيْنِ، وروى
التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه عَن رجل
عَنهُ، وَلم يخرج لَهُ مُسلم شَيْئا. وَعبد الْعَزِيز بن
مُسلم الْقَسْمَلِي مَوْلَاهُم، أَخُو الْمُغيرَة بن مُسلم
الْخُرَاسَانِي الْمروزِي نِسْبَة إِلَى القساملة، وَقيل
لَهُم ذَلِك لأَنهم من ولد قسملة، واسْمه مُعَاوِيَة بن
عَمْرو بن مَالك بن فهم بن غنم بن دوس بن عدنان، وَلَهُم
محلّة بِالْبَصْرَةِ مَعْرُوفَة بالقسامل، وَقيل: نزل فيهم
فنسب إِلَيْهِم، وَأخرج لَهُ البُخَارِيّ فِي التَّعْبِير
والذبائح وَكتاب المرضى وَغير مَوضِع عَن مُسلم بن
إِسْمَاعِيل عَنهُ عَن عبد اللَّه بن دِينَار، وحصين
وَالْأَعْمَش. وَأخرج لَهُ هَذَا الْأَثر عَن الْعَلَاء
عَنهُ. قَالَ يحيى بن معِين وَأَبُو حَاتِم: ثِقَة.
وَقَالَ يحيى بن إِسْحَاق: ثَنَا عبد الْعَزِيز بن مُسلم،
وَكَانَ من الأبدال. قَالَ عَمْرو بن عَليّ: مَاتَ سنة سبع
وَسِتِّينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ ابْن
مَاجَه. وَأما عبد اللَّه بن دِينَار الْقرشِي الْمدنِي،
مولى ابْن عمر فقد مر فِي: بَاب أُمُور الْإِيمَان.
100 - حدّثنا إِسْماعِيلُ بنُ أبي أُوَيْسٍ قَالَ: حدّثني
مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عَبْدِ
اللَّهِ بنِ عَمْرِو بن العاصِي قَالَ: سمِعْتُ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (إنَّ الله لَا
يَقْبِضُ العِلْمَ انْتِزاعاً يَنْتَزِعُهُ مِنَ العِبادِ،
ولَكِنْ يَقْبِضُ العِلْمَ بقَبْضِ العُلماءِ، حَتَّى إِذا
لَمْ يُبْقِ عالِماً اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤُوساً
جُهَّالاً، فَسُئِلُوا فافْتَوْا بغَيْرِ عِلْمٍ،
فَضَلُّوا وأضَلُّوا) .
(الحَدِيث 100 طرفه فِي: 7307) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلَكِن
يقبض الْعلم) .
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا كلهم، وَمَالك هُوَ
الإِمَام الْمَشْهُور، أخرج هَذَا الحَدِيث فِي
(الْمُوَطَّأ) . وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يروه فِي
(الْمُوَطَّأ) إلاَّ معن بن عِيسَى، وَقَالَ أَبُو عمر:
رَوَاهُ أَيْضا فِيهِ سُلَيْمَان بن برد، وَرَوَاهُ
أَصْحَاب مَالك كَابْن وهب وَغَيره خَارج (الْمُوَطَّأ) ،
وَقد اشْتهر هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة هِشَام بن عُرْوَة
عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَوَافَقَهُ
على رِوَايَته عَن أَبِيه عُرْوَة أَبُو الْأسود الْمدنِي
وَحَدِيثه فِي (الصَّحِيحَيْنِ) ، وَالزهْرِيّ وَحَدِيثه
فِي النَّسَائِيّ، وَيحيى بن أبي كثير وَحَدِيثه فِي
(صَحِيح أبي عوَانَة) ، وَوَافَقَ أَبَاهُ على رِوَايَته
عَن عبد اللَّه بن عمر، وَعمر بن الحكم بن ثَوْبَان
وَحَدِيثه فِي مُسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن سعيد ابْن تليد عَن ابْن وهب
عَن عبد الرَّحْمَن بن شُرَيْح وَغَيره جَمِيعًا عَن أبي
الْأسود مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن يَتِيم عُرْوَة عَن
عُرْوَة نَحوه. وَأخرجه مُسلم فِي الْقدر عَن قُتَيْبَة
عَن جرير وَعَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد بن
زيد، وَعَن يحيى بن يحيى عَن عباد بن عباد وَأبي
مُعَاوِيَة، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن
حَرْب كِلَاهُمَا عَن وَكِيع، وَعَن أبي كريب عَن عبد
اللَّه بن إِدْرِيس وَأبي أُسَامَة وَعبد الله بن نمير
وَعَبدَة بن سُلَيْمَان، وَعَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان
بن عُيَيْنَة، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن يحيى بن سعيد
وَعَن أبي بكر
(2/130)
بن نَافِع عَن عمر ابْن عَليّ الْمقدمِي،
وَعَن عبد بن حميد عَن يزِيد بن هَارُون عَن شُعْبَة،
الثَّلَاثَة عشر كلهم عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ، وَعَن
حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن وهب عَن عبد الرَّحْمَن بن
شُرَيْح وَحده بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن
هَارُون بن إِسْحَاق الْهَمدَانِي عَن عَبدة بن سُلَيْمَان
بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث
عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عبد الله بن عمر، وَعَن
عُرْوَة عَن عَائِشَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مثل هَذَا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد
بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ
عَنهُ بِهِ، وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن عبد الْوَهَّاب
الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ،
كِلَاهُمَا عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ. قَالَ عبد
الْوَهَّاب: فَلَقِيت هشاماً فَحَدثني عَن أَبِيه عَنهُ
بِهِ، وَعَن أَبِيه مثله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة
عَن أبي كريب عَن عبد اللَّه بن إِدْرِيس وَعَبدَة بن
سُلَيْمَان وَأبي مُعَاوِيَة وَعبد اللَّه بن نمير
وَمُحَمّد بن بشر، وَعَن سُوَيْد بن سعيد عَن مَالك وَعلي
بن مسْهر وَحَفْص بن ميسرَة وَشُعَيْب بن إِسْحَاق، تسعتهم
عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (يَقُول) ، جملَة وَقعت
حَالا، وَإِنَّمَا ذكر بِلَفْظ الْمُضَارع حِكَايَة لحَال
الْمَاضِي واستحضاراً لَهُ، وإلاَّ فَالْأَصْل أَن يُقَال:
قَالَ: ليطابق: سَمِعت. قَوْله: (لَا يقبض الْعلم) جملَة
فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن. قَوْله: (انتزاعاً)
يجوز فِي نَصبه أوجه. الأول: أَن يكون مَفْعُولا مُطلقًا
عَن معنى يقبض، نَحْو: رَجَعَ الْقَهْقَرَى، وَقعد
جُلُوسًا. الثَّانِي: أَن يكون مَفْعُولا مُطلقًا مقدما
على فعله، وَهُوَ: ينتزعه. وَيكون: ينتزعه، حَالا من
الضَّمِير فِي: يقبض، تَقْدِيره: إِن الله لَا يقبض الْعلم
حَال كَونه ينتزعه انتزاعاً من الْعباد. الثَّالِث: أَن
يكون حَالا من الْعلم بِمَعْنى: منتزعاً، تَقْدِيره: إِن
الله لَا يقبض الْعلم حَال كَونه منتزعاً. فَإِن قلت: على
هَذَا مَا يَقع ينتزعه؟ قلت: قيل: يكون ينتزعه جَوَابا
عَمَّا يُقَال: مِمَّن ينتزع الْعلم؟ وَفِيه نظر، والأصوب
أَن يكون فِي مَحل النصب صفة، إِمَّا لانتزاعاً، أَو
لمنتزعاً من الصِّفَات المبينة. قَوْله: (وَلَكِن)
للاستدراك. وَقَوله: (يقبض الْعلم) من قبيل إِقَامَة
الْمظهر مَوضِع الْمُضمر لزِيَادَة تَعْظِيم الْمُضمر
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {الله الصَّمد} (الْإِخْلَاص:
2) بعد قَوْله: {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1)
وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن يُقَال: هُوَ الصَّمد،
كَمَا أَن الْمُقْتَضى هُنَا: وَلَكِن يقبضهُ. قَوْله:
(حَتَّى) ابتدائية دخلت على الْجُمْلَة، تدل على أَن ذَلِك
وَاقع بالتدريج، كَمَا أَن إِذا تدل على أَنه وَاقع لَا
محَالة، و: إِذا ظرفية، وَالْعَامِل فِيهَا: اتخذ،
وَيحْتَمل أَن تكون شَرْطِيَّة. فَإِن قلت: إِذا للاستقبال
وَلم لقلب الْمُضَارع مَاضِيا، فَكيف يَجْتَمِعَانِ؟ قلت:
لما تَعَارضا تساقطا فَبَقيَ على أَصله وَهُوَ الْمُضَارع،
أَو تعادلا فَيُفِيد الِاسْتِمْرَار. فَإِن قلت: إِذا
كَانَت شَرْطِيَّة يلْزم من انْتِفَاء الشَّرْط انْتِفَاء
الْمَشْرُوط، وَمن وجود الْمَشْرُوط وجود الشَّرْط، لكنه
لَيْسَ كَذَلِك لجَوَاز حُصُول الاتخاذ مَعَ وجود الْعلم.
قلت: ذَلِك فِي الشُّرُوط الْعَقْلِيَّة، أما فِي غَيرهَا
فَلَا نسلم اطراد هَذِه الْقَاعِدَة، ثمَّ ذَلِك الاستلزام
إِنَّمَا هُوَ فِي مَوضِع لم يكن للشّرط بدل، فقد يكون
لمشروط وَاحِد شُرُوط متعاقبة: كصحة الصَّلَاة بِدُونِ
الْوضُوء عِنْد التَّيَمُّم، أَو المُرَاد بِالنَّاسِ
جَمِيعهم، فَلَا يَصح أَن الْكل اتَّخذُوا رؤوساً
جُهَّالًا إلاَّ عِنْد عدم بَقَاء الْعَالم مُطلقًا،
وَذَلِكَ ظَاهر. قَوْله: (لم يبْق) بِفَتْح حرف المضارعة
من الْبَقَاء. وَقَوله: (عَالم) بِالرَّفْع، فَاعله، وَفِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ: (لم يبْق عَالما) بِضَم حرف المضارعة
من الْإِبْقَاء، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الله،
(وعالماً) : مَنْصُوب بِهِ. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (حَتَّى
إِذا لم يتْرك عَالما) . قَوْله: (اتخذ) أَصله: ائتخذ،
فقلبت الْهمزَة ثمَّ ادغمت التَّاء فِي التَّاء، و:
(النَّاس) بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (رؤوساً) بِضَم
الْهمزَة وبالتنوين جمع رَأس، قَالَ النَّوَوِيّ: ضبطناه
بِضَم الْهمزَة، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (رُؤَسَاء)
بِفَتْح الْهمزَة وَفِي آخِره همزَة أُخْرَى مَفْتُوحَة،
جمع رَئِيس، وَالْأول أشهر. قَوْله: (جُهَّالًا) بِضَم
الْجِيم وَفتح الْهَاء الْمُشَدّدَة: جمع جَاهِل، صفة
لرؤوساً. قَوْله: (فسئلوا) بِضَم السِّين وَالضَّمِير
فِيهِ، مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، أَي: فَسَأَلَهُمْ
السائلون فافتوا لَهُم. قَوْله: (فضلوا) عطف على: فافتوا،
وَهُوَ من الضلال، و: (اضلوا) من الإضلال، يَعْنِي: فضلوا
فِي أنفسهم وأضلوا السَّائِلين. فَإِن قلت: الضلال
مُتَقَدم على الْإِفْتَاء، فَمَا معنى الْفَاء؟ قلت:
الْمَجْمُوع الْمركب من الضلال والإضلال هُوَ متعقب على
الْإِفْتَاء وَإِن كَانَ الْجُزْء الأول مقدما عَلَيْهِ
إِذْ الضلال الَّذِي بعد الْإِفْتَاء غير الضلال الَّذِي
قبله. فَإِن قلت: الإضلال ظَاهر، وَأما الضلال فَإِنَّمَا
يلْزم أَن لَو عمل بِمَا افتى وَقد لَا يعْمل بِهِ، قلت:
إِن إضلاله للْغَيْر ضلال لَهُ عمل بِمَا أفتى أَو لم
يعْمل.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (إِن الله لَا يقبض الْعلم
انتزاعاً) أَي: إِن الله لَا يقبض الْعلم من بَين النَّاس
على سَبِيل أَن يرفعهُ من بَينهم إِلَى السَّمَاء، أَو
يمحوه من صُدُورهمْ، بل يقبضهُ بِقَبض أَرْوَاح الْعلمَاء
وَمَوْت حَملته. وَقَالَ ابْن بطال: مَعْنَاهُ أَن الله
لَا ينْزع
(2/131)
الْعلم من الْعباد بعد أَن يتفضل بِهِ
عَلَيْهِم، وَلَا يسترجع مَا وهب لَهُم من الْعلم
الْمُؤَدِّي إِلَى مَعْرفَته وَبث شَرِيعَته، وَإِنَّمَا
يكون انْتِزَاعه بتضييعهم الْعلم فَلَا يُوجد من يخلف من
مضى، فَأَنْذر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَبض الْخَيْر
كُله، وَكَانَ تحديث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بذلك فِي حجَّة الْوَدَاع، كَمَا رَوَاهُ أَحْمد
وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث أبي أُمَامَة، رَضِي الله
عَنهُ، قَالَ: (لما كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع قَالَ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: خُذُوا الْعلم قبل أَن
يقبض أَو يرفع، فَقَالَ أَعْرَابِي: كَيفَ يرفع؟ فَقَالَ:
أَلا إِن ذهَاب الْعلم ذهَاب حَملته، ثَلَاث مَرَّات)
وَقَالَ ابْن الْمُنِير: محو الْعلم من الصُّدُور جَائِز
فِي الْقُدْرَة، إلاَّ أَن هَذَا الحَدِيث دلّ على عدم
وُقُوعه. قَوْله: (بِغَيْر علم) ، وَفِي رِوَايَة أبي
الْأسود فِي الِاعْتِصَام عِنْد البُخَارِيّ: (فيفتون
برأيهم) . قَوْله: (جُهَّالًا) فَإِن قلت: المُرَاد
بِهَذَا الْجَهْل: الْجَهْل الْبَسِيط، وَهُوَ عدم الْعلم
بالشَّيْء لَا مَعَ اعْتِقَاد الْعلم بِهِ، أم الْجَهْل
الْمركب وَهُوَ عدم الْعلم بالشَّيْء مَعَ اعْتِقَاد
الْعلم بِهِ؟ قلت: المُرَاد هُنَا الْقدر الْمُشْتَرك
بَينهمَا المتناول لَهما. فَإِن قلت: أَهَذا مُخْتَصّ
بالمفتين، أم عَام للقضاة الْجَاهِلين؟ قلت: عَام، إِذْ
الحكم بالشَّيْء مُسْتَلْزم للْفَتْوَى بِهِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دلَالَة
لِلْقَائِلين بِجَوَاز خلو الزَّمَان عَن الْمُجْتَهد على
مَا هُوَ مَذْهَب الْجُمْهُور خلافًا للحنابلة. الثَّانِي:
فِيهِ التحذير عَن اتِّخَاذ الْجُهَّال رؤوساً. الثَّالِث:
فِيهِ الْحَث على حفظ الْعلم والاشتغال بِهِ. الرَّابِع:
فِيهِ أَن الْفَتْوَى هِيَ الرياسة الْحَقِيقِيَّة، وذم من
يقدم عَلَيْهَا بِغَيْر علم. الْخَامِس: قَالَ
الدَّاودِيّ: هَذَا الحَدِيث خرج مخرج الْعُمُوم.
وَالْمرَاد بِهِ الْخُصُوص، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم (لَا تزَال طَائِفَة من أمتِي ظَاهِرين على الْحق
حَتَّى يَأْتِي أَمر الله) . وَيُقَال هَذَا بعد إتْيَان
أَمر الله تَعَالَى إِن لم يُفَسر إتْيَان الْأَمر بإتيان
الْقِيَامَة، أَو عدم بَقَاء الْعلمَاء إِنَّمَا هُوَ فِي
بعض الْمَوَاضِع كفي غير بَيت الْمُقَدّس مثلا إِن فسرناه
بِهِ، فَيكون مَحْمُولا على التَّخْصِيص جمعا بَين
الْأَدِلَّة.
قَالَ الفِرَبْرِيُّ: حدّثنا عبَّاسٌ قالَ: حدّثنا
قُتيْبَةُ، حدّثنا جَريرٌ عنْ هِشَامٍ نحْوَهُ.
هَذَا من زيادات الرَّاوِي عَن البُخَارِيّ فِي بعض
الْأَسَانِيد وَهِي قَليلَة. والفربري، بِكَسْر الْفَاء
وَفتحهَا وَفتح الرَّاء وَإِسْكَان الْبَاء الْمُوَحدَة:
نِسْبَة إِلَى فربر، وَهِي قَرْيَة من قرى بُخَارى على طرف
جيحون، وَهُوَ أَبُو عبد اللَّه مُحَمَّد بن يُوسُف بن مطر
بن صَالح بن بشر. وَقَالَ الكلاباذي: كَانَ سَماع
الْفربرِي من البُخَارِيّ (صَحِيحه) مرَّتَيْنِ: مرّة
بفربر سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، وَمرَّة
ببخارى سنة ثِنْتَيْنِ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. ولد سنة
إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَمَات سنة عشْرين
وثلثمائة، سمع من قُتَيْبَة بن سعيد فشارك البُخَارِيّ فِي
الرِّوَايَة عَنهُ، قَالَ السَّمْعَانِيّ فِي (أَمَالِيهِ)
: وَكَانَ ثِقَة ورعاً. وعباس: هُوَ ابْن الْفضل بن
زَكَرِيَّا الْهَرَوِيّ أَبُو مَنْصُور الْبَصْرِيّ ثِقَة
مَشْهُور من الثَّانِيَة عشر، بل من الَّتِي بعْدهَا ولد
بعد موت ابْن مَاجَه، وَمَات سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين
وثلثمائة، من (اسماء الرِّجَال) لِابْنِ حجر. وقتيبة: هُوَ
ابْن سعيد أحد مَشَايِخ البُخَارِيّ، وَقد تقدم. وَجَرِير:
هُوَ ابْن عبد الحميد الضَّبِّيّ، أَبُو عبد اللَّه
الرَّازِيّ ثمَّ الْكُوفِي، ثِقَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
وَهِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، وَقد تقدم.
قَوْله: (نَحوه) ، أَي نَحْو حَدِيث مَالك، وَرِوَايَة
الْفربرِي هَذِه أخرجهَا مُسلم عَن قُتَيْبَة عَن جرير عَن
هِشَام بِهِ.
36 - (بابٌ هَلْ يُجْعَلُ لِلنِّساءِ يَوْمٌ علَى حِدَةٍ
فِي العِلْم)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون، وَهل، للاستفهام: و:
يَجْعَل، على صِيغَة الْمَجْهُول. و: وَيَوْم، بِالرَّفْع
مفعول لَهُ نَاب عَن الْفَاعِل، وَهَذِه رِوَايَة
الْأصيلِيّ وكريمة؛ وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: يَجْعَل، على
صِيغَة الْمَعْلُوم. أَي: يَجْعَل الإِمَام. و: يَوْمًا،
بِالنّصب مَفْعُوله. قَوْله: (على حِدة) ، بِكَسْر الْحَاء
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الدَّال، أَي: على انْفِرَاده،
وَهُوَ على وزن الْعدة. قَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول أعْط كل
وَاحِد مِنْهُم على حِدة، أَي: على حياله، وَالْهَاء عوض
من الْوَاو. قلت: لِأَنَّهُ من: وحد يحد وحوداً ووحودة
ووحداً ووحدة وحدة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق هُوَ كَيْفيَّة قبض
الْعلم، وَمن فَوَائده الْحَث على حفظ الْعلم، وَمن
فَوَائِد حَدِيث هَذَا الْبَاب أَيْضا الْحَث على حفظ
الْعلم، وَذَلِكَ أَن النِّسَاء لما سألن رَسُول الله،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يَجْعَل لَهُنَّ
يَوْمًا، ووعدهن يَوْمًا يَأْتِي إلَيْهِنَّ فِيهِ،
أَتَاهُنَّ فِيهِ وحثهن على حفظ الْعلم، وَهَذَا الْقدر
كافٍ فِي رِعَايَة الْمُنَاسبَة.
(2/132)
101 - حدّثنا آدَمُ قالَ: حَدثنَا شُعْبَةُ
قالَ: حدّثني ابنُ الأصبْهَانِيِّ قالَ: سَمعْتُ أَبَا
صالِحٍ ذَكْوان يَحُدِّثُ عنْ أبي سَعِيدٍ الخدْرِيِّ:
قالَتِ النِّساءُ للنِّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
غَلَبنا عَلَيْكَ الرِّجالُ فاجْعَلْ لنَا يَوْماً مِنْ
نَفْسكَ، فَوَعَدَهُنَّ يَوْماً لَقِيَهُنَّ فيهِ،
فَوَعَظَهُنَّ وأمَرَهُنَّ. فَكانَ فِيما قالَ لَهُنَّ:
(مَا مِنْكُنَّ امْرَأَةٌ تُقدِّمُ ثَلاثَةً مِنْ وَلَدِها
إلاَّ كانَ لَها حِجاباً مِنَ النَّار) فَقالَتِ
امْرَأَةٌ: واثنَيْنِ؟ قَالَ: (واثْنَيْنِ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: عبد
الرَّحْمَن بن عبد اللَّه الْأَصْبَهَانِيّ الْكُوفِي،
مولى لجديلة قيس، وهم بطن من قيس غيلَان، وهم فهم وعدوان
ابْنا عَمْرو بن قيس، أمّهم جديلة، بِفَتْح الْجِيم، نسبوا
إِلَيْهَا. أخرج البُخَارِيّ فِي الْعلم والمحضر وشهود
الْمَلَائِكَة بَدْرًا عَن شُعْبَة وَأبي عوَانَة وَابْن
عُيَيْنَة عَنهُ عَن عبد اللَّه بن معقل، وَأبي صَالح
ذكْوَان أَصله من أَصْبَهَان خرج مِنْهَا حِين افتتحها
أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. قَالَ أَبُو حَاتِم: لَا
بَأْس بِهِ، وَقَالَ أَبُو بكر بن منجويه: توفّي فِي
إِمَارَة خَالِد على الْعرَاق، روى لَهُ الْجَمَاعَة إلاَّ
النَّسَائِيّ، وأصبهان، بِفَتْح الْهمزَة وَكسرهَا وبالباء
وَالْفَاء، وَأهل الْمشرق يَقُولُونَ: أصفهان بِالْفَاءِ،
وَأهل الْمغرب بِالْبَاء: وَهِي مَدِينَة بعراق الْعَجم
عَظِيمَة، خرج مِنْهَا جمَاعَة من الْعلمَاء والمحدثين.
الرَّابِع: أَبُو صَالح ذكْوَان، بِفَتْح الذَّال
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْكَاف غير منصرف، وَقد تقدم.
الْخَامِس: أَبُو سعيد سعد بن مَالك الْخُدْرِيّ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد وَالسَّمَاع
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وواسطي
ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
هُنَا عَن آدم، وَفِي الْجَنَائِز عَن مُسلم بن
إِبْرَاهِيم، وَفِي الْعلم أَيْضا عَن بنْدَار،
ثَلَاثَتهمْ عَن شُعْبَة، وَفِي الِاعْتِصَام عَن مُسَدّد
عَن أبي عوَانَة كِلَاهُمَا عَنهُ بِهِ، وَفِي حَدِيث
غنْدر عَن شُعْبَة عَنهُ، قَالَ: وَسمعت أَبَا حَازِم عَن
أبي هُرَيْرَة قَالَ: (ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث) .
وَقَالَ عقيب حَدِيث مُسلم بن إِبْرَاهِيم: وَقَالَ شريك
عَن ابْن الْأَصْبَهَانِيّ: حَدثنِي أَبُو صَالح عَن أبي
سعيد وَأبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي كَامِل الجحدري
عَن أبي عوَانَة، وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار، كِلَاهُمَا
عَن غنْدر بِهِ، وَذكر الزِّيَادَة عَن أبي حَازِم عَن أبي
هُرَيْرَة، وَعَن عبيد اللَّه بن معَاذ عَن أَبِيه عَن
شُعْبَة بِهِ، وَذكر الزِّيَادَة أَيْضا. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار بِهِ،
وَعَن أَحْمد بن سلمَان عَن عبيد اللَّه بن مُوسَى عَن
إِسْرَائِيل عَنهُ بِهِ نَحوه.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (قَالَ: قَالَ النِّسَاء)
أَي: قَالَ أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: قَالَ النِّسَاء.
كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر: قَالَ، بتذكير الْفِعْل،
وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ: (قَالَت النِّسَاء) بالتأنيث،
وَكِلَاهُمَا جَائِز فِي كل إِسْنَاد إِلَى ظَاهر الْجمع.
قَوْله: (غلبنا) ، بِفَتْح الْبَاء جملَة من الْفِعْل
وَالْمَفْعُول و: (الرِّجَال) بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله:
(فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا) عطف على مَحْذُوف تَقْدِيره:
انْظُر لنا فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا، وَنَحْو ذَلِك، و:
اجْعَل، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، والجعل يسْتَعْمل
مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد بِمَعْنى: فعل، وَإِلَى
مفعولين بِمَعْنى: صير، وَالْمرَاد بِهِ هُنَا لَازمه
وَهُوَ التَّعْيِين، أَي: عين لنا يَوْمًا. و: يَوْمًا،
مفعول بِهِ لَا لأَجله. وَلَا مفعول فِيهِ، وَكلمَة: من،
فِي قَوْله: (من نَفسك) ابتدائية تتَعَلَّق باجعل، يَعْنِي
هَذَا الْجعل منشؤه اختيارك يَا رَسُول الله لَا اختيارنا،
وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد من: وَقت نَفسك، بإضمار
الْوَقْت، والظرف صفة ل (يَوْمًا) ، وَهُوَ ظرف مُسْتَقر
على هَذَا الِاحْتِمَال، وَيجوز أَن يكون التَّقْدِير:
اجْعَل لنا يَوْمًا من أَيَّام نَفسك، يَعْنِي: الْيَوْم
الَّذِي تتفرغ فِيهِ. قَوْله: (فوعدهن) جملَة من الْفِعْل
وَالْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير الْمُسْتَتر فِيهِ الَّذِي
يرجع إِلَى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَآله وَسلم،
وَالْمَفْعُول وَهُوَ الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي يرجع
إِلَى النِّسَاء. فَإِن قلت: كَيفَ يعْطف الْجُمْلَة
الخبرية على الْجُمْلَة الإنشائية؟ قلت: هَذَا بَاب فِيهِ
خلاف، فَمَنعه البيانيون وَابْن مَالك وَابْن عُصْفُور فِي
(شرح الْإِيضَاح) ، وَنَقله عَن الْأَكْثَرين. واجازه
الصفار وَجَمَاعَة مستدلين بقوله تَعَالَى: {وَبشر الَّذين
آمنُوا} (يُونُس: 2) وَاسْتدلَّ الصفار بقول الشَّاعِر:
(وقائلة خولان فانكح فَتَاتهمْ)
فَإِن تَقْدِيره: هَذِه خولان، هَكَذَا نقل عَن
سِيبَوَيْهٍ، وَأَجَابُوا عَن الْآيَة بِمَا قَالَه
الزَّمَخْشَرِيّ: لَيْسَ الْمُعْتَمد بالْعَطْف، الْأَمر
حَتَّى يطْلب لَهُ مشاكل، بل المُرَاد عطف جملَة: ثَوَاب
الْمُؤمنِينَ، على جملَة: عَذَاب الْكَافرين، كَقَوْلِك:
زيد يُعَاقب بالقيد، وَبشر فلَانا بِالْإِطْلَاقِ. وَعَن
الْبَيْت: إِنَّه ضَرُورَة، وَفِيه تعسف وَالأَصَح عدم
الْجَوَاز. وَأما هَهُنَا فالعطف
(2/133)
لَيْسَ على قَوْله: (فَاجْعَلْ لنا
يَوْمًا) بل الْعَطف على جَمِيع الْجُمْلَة، أَعنِي من
قَوْله: (غلبنا عَلَيْك الرِّجَال فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا
من نَفسك) . قَوْله: (يَوْمًا) ، مفعول ثَان: لوعد.
قَوْله: (لقيهن فِيهِ) أَي: فِي الْيَوْم الْمَوْعُود
بِهِ، واللقاء فِيهِ إِمَّا بِمَعْنى الرُّؤْيَة، وَإِمَّا
بِمَعْنى الْوُصُول، وَمحل الْجُمْلَة الْجُمْلَة النصب
لِأَنَّهَا صفة: ليوماً. وَيحْتَمل أَن يكون استئنافاً.
قَوْله: (فوعظهن) الْفَاء فِيهِ فصيحة لِأَن الْمَعْطُوف
عَلَيْهِ مَحْذُوف إِي: فوفى بوعدهن ولقيهن فوعظهن.
وَقَوله: (وامرهن) عطف على: وعظهن، وَحذف الْمَأْمُور بِهِ
لإِرَادَة التَّعْمِيم، وَالتَّقْدِير: فوعظهن بمواعظ،
وأمرهن بِالصَّدَقَةِ أَو بِأُمُور دينية. وَيجوز أَن
يكون: فوعظهن وأمرهن من تَتِمَّة الصّفة لليوم. قَوْله:
(فَكَانَ) الْفَاء فِيهِ فصيحة. وَاسم: كَانَ، هُوَ
قَوْله: (مَا مِنْكُن امْرَأَة) وَخَبره، قَوْله: (فِيمَا
قَالَ لَهُنَّ) أَي: الَّذِي قَالَه لَهُنَّ. وَفِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ: (مَا مِنْكُن من امْرَأَة) ،
وَكلمَة: من، زَائِدَة لفظا. وَقَوله: امْرَأَة، مُبْتَدأ.
ومنكن، حَال مِنْهَا مقدم عَلَيْهَا، وَخبر الْمُبْتَدَأ
الْجُمْلَة الَّتِي بعد آلَة الِاسْتِثْنَاء، لِأَنَّهُ
اسْتثِْنَاء مفرغ، إعرابه على حسب العوامل،. فَإِن قلت:
كَيفَ يَقع الْفِعْل مُسْتَثْنى؟ قلت: على تَقْدِير
الِاسْم، أَي: مَا امْرَأَة مُقَدّمَة إِلَّا كَائِنا
لَهَا حجاب. وَقَوله: (تقدم) جملَة فِي مَحل الرّفْع
لِأَنَّهَا صفة لامْرَأَة. وَقَوله: (ثَلَاثًا) مفعول
مقدم، وَكلمَة: من، بَيَانِيَّة. قلت: (حِجَابا) فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين هَكَذَا بِالنّصب، وَفِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ: (حجاب) ، بِالرَّفْع. أما وَجه النصب فعلى
أَنه خبر لَكَانَ، وَاسم كَانَ التَّقْدِيم الَّذِي يدل
عَلَيْهِ قَوْله: تقدم. وَأما وَجه الرّفْع فعلى كَون:
كَانَ، تَامَّة على معنى: إلاَّ وَقع لَهَا حجاب أَو حصل،
أَو وجد وَنَحْو ذَلِك. وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي
الْجَنَائِز: (إلاَّ كن لَهَا حِجَابا) على تَقْدِير
الْأَنْفس الَّتِي تقدم، وَفِي الِاعْتِصَام: (إِلَّا
كَانُوا لَهَا حِجَابا) أَي: الْأَوْلَاد. قَوْله:
(واثنين) ، وَهُوَ أَيْضا عطف على الْمَنْصُوب بالتقدير
الْمَذْكُور، أَي: وَمن قدم اثْنَيْنِ. قَالَ
الْكرْمَانِي: وَمثله يُسمى بالْعَطْف التلقيني، وَنَحْوه
فِي الْقُرْآن: {إِنِّي جاعلك للنَّاس إِمَامًا قَالَ وَمن
ذريتي} (الْبَقَرَة: 124) . قلت: قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ:
وَمن ذريتي، عطف على: الْكَاف، كَأَنَّهُ قَالَ: وجاعل بعض
ذريتي، كَمَا يُقَال لَك: سأكرمك، فَتَقول: وزيداً،
وَإِنَّمَا أورد هَذَا الْمِثَال إِشَارَة إِلَى جَوَاب
عَمَّا يُقَال إِن: من ذريتي، مقول قَول إِبْرَاهِيم، و:
جاعلك للنَّاس، مقول قَول الله تَعَالَى، فَكيف يعْطف
أَحدهمَا على الآخر؟ فَكَأَنَّهُ أجَاب بإيراد الْمِثَال
الْمَذْكُور أَنه عطف تلقين، كَأَنَّهُ قَالَ: قل وجاعل
بعض ذريتي.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (غلبنا عَلَيْك الرِّجَال)
مَعْنَاهُ: أَن الرِّجَال يلازمونك كل الْأَيَّام ويسمعون
الْعلم وَأُمُور الدّين، وَنحن نسَاء ضعفة لَا نقدر على
مزاحمتهم، فَاجْعَلْ لنا يَوْمًا من الْأَيَّام نسْمع
الْعلم ونتعلم أُمُور الدّين. قَوْله: (ثَلَاثَة) أَي:
ثَلَاثَة أَوْلَاد. فَإِن قلت: الثَّلَاثَة مُذَكّر فَهَل
يشْتَرط أَن يكون الْوَلَد الْمَيِّت ذكرا حَتَّى يحصل
لَهَا الْحجاب؟ قلت: تذكيره بِالنّظرِ إِلَى لفظ الْوَلَد،
وَالْولد يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَفِي بعض النّسخ:
ثَلَاثًا بِدُونِ الْهَاء، فَإِن صَحَّ فَمَعْنَاه ثَلَاث
نسمَة، والنسمة تطلق على الذّكر وَالْأُنْثَى. قَوْله:
(فَقَالَت امْرَأَة) هِيَ: أم سليم، وَقيل غَيرهَا وَالله
أعلم. قَوْله: (قَالَ: واثنين) دَلِيل على أَن حكم
الْإِثْنَيْنِ حكم الثَّلَاثَة لاحْتِمَال أَنه أُوحِي
إِلَيْهِ فِي الْحِين بِأَن يُجيب، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بذلك. وَلَا يمْتَنع أَن ينزل الْوَحْي.
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بذلك حِين السُّؤَال،
وَلَا يمْتَنع أَن ينزل الْوَحْي على رَسُول الله،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، طرفَة عين. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَيجوز أَن يكون أُوحِي إِلَيْهِ قبله.
وَقَالَ أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ، وَغَيره: قد أخرج
البُخَارِيّ فِي كتاب الرقَاق من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَا
يدل على أَن الْوَاحِد كالاثنين، وَهُوَ قَوْله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، يَقُول تَعَالَى: (مَا لعبدي
الْمُؤمن جَزَاء إِذا قبضت صفيّه من أهل الدُّنْيَا، ثمَّ
احتسبه، إلاَّ الْجنَّة) . وَأي صفّي أعظم من الْوَلَد؟
قلت: قد جَاءَ فِي غير الصَّحِيح مَا يدل صَرِيحًا على أَن
الْوَاحِد كالاثنين وَالثَّلَاثَة، وَهُوَ مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي
الله عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من قدم ثَلَاثَة من الْوَلَد لم يبلغُوا الْحِنْث
كَانُوا لَهُ حصناً حصيناً من النَّار. فَقَالَ أَبُو ذَر،
رَضِي الله عَنهُ: قدمت اثْنَيْنِ. قَالَ: واثنين. قَالَ
أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قدمت وَاحِدًا.
قَالَ: وواحداً) . قَالَ ابْن بطال وعياض وَغَيرهمَا فِي
قَول الْمَرْأَة: (واثنين يَا رَسُول الله) ؟ وَهِي من أهل
اللِّسَان دَلِيل على أَن تعلق الحكم بِعَدَد مَا لَا يدل
من جِهَة دَلِيل الْخطاب على انتفائه عَن غَيره من
الْعدَد، لَا أقل وَلَا أَكثر. فَإِن قلت: هَل للرجل مثل
مَا للْمَرْأَة إِذا قدم الْوَلَد؟ قلت: نعم، لِأَن حكم
الْمُكَلّفين على السوَاء إلاَّ إِذا دلّ دَلِيل على
التَّخْصِيص.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ سُؤال النِّسَاء
عَن أَمر دينهن وَجَوَاز كلامهن مَعَ الرِّجَال فِي ذَلِك،
وَفِيمَا لَهُنَّ الْحَاجة إِلَيْهِ. الثَّانِي: فِيهِ
جَوَاز الْوَعْد. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الْأجر للثكلي.
الرَّابِع: قَالَ الْمُهلب وَغَيره: فِيهِ دَلِيل على أَن
أَوْلَاد الْمُسلمين
(2/134)
فِي الْجنَّة، لِأَن الله سُبْحَانَهُ إِذا
أَدخل الْآبَاء الْجنَّة بِفضل رَحمته للأبناء، فالأبناء
أولى بِالرَّحْمَةِ. قَالَ الْمَازرِيّ: أما أَطْفَال
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم السَّلَام، فالإجماع مُنْعَقد
على أَنهم فِي الْجنَّة، وَكَذَلِكَ قَالَ الْجُمْهُور فِي
أَوْلَاد من سواهُم من الْمُؤمنِينَ، وَبَعْضهمْ لَا
يَحْكِي خلافًا، بل يَحْكِي الْإِجْمَاع على دُخُولهمْ
الْجنَّة، وَبَعض الْمُتَكَلِّمين يقف فيهم، وَلم يثبت
الْإِجْمَاع عِنْدهم فَيُقَال بِهِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَام
فِيهِ مُسْتَوفى فِي مَوْضِعه من كتاب الْجَنَائِز إِن
شَاءَ الله تَعَالَى.
44 - (حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا غنْدر قَالَ
حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأَصْبَهَانِيّ
عَن ذكْوَان عَن أبي سعيد بن الْخُدْرِيّ عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا وَعَن عبد الرَّحْمَن بن
الْأَصْبَهَانِيّ قَالَ سَمِعت أَبَا حَازِم عَن أبي
هُرَيْرَة قَالَ ثَلَاثَة لم يبلغُوا الْحِنْث) الْكَلَام
فِيهِ على أَنْوَاع. الأول أَن البُخَارِيّ قصد بِإِخْرَاج
هَذَا فائدتين أَحدهمَا تَسْمِيَة ابْن الْأَصْبَهَانِيّ
لِأَنَّهُ كَانَ مُبْهما فِي الحَدِيث الأول وَهَذِه
الرِّوَايَة فسرته وَإِنَّمَا لم بصرح باسمه هُنَاكَ
مُحَافظَة على لفظ الشُّيُوخ وَهُوَ من غَايَة احتياطه
حَيْثُ وَضعه كَمَا سَمعه عَن شَيْخه وَالْأُخْرَى
التَّنْبِيه على زِيَادَة فِي طَرِيق أَبُو هُرَيْرَة
وَهِي قَوْله " لم يبلغُوا الْحِنْث ". النَّوْع الثَّانِي
أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَوْصُولَة وَلَيْسَ بتعليق
كَمَا قَالَه الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ قَالَ وَهَذَا
تَعْلِيق من البُخَارِيّ عَن عبد الرَّحْمَن وَذَلِكَ
لِأَن شُعْبَة يرويهِ عَن عبد الرَّحْمَن بِإِسْنَادَيْنِ
لآن قَوْله وَعَن عبد الرَّحْمَن بن الاصبهاني عطف على
قَوْله أَولا عَن عبد الرَّحْمَن تَقْدِير الاسناد الأول
حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثنَا غنْدر قَالَ
حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الاصبهاني عَن
ذكْوَان عَن أبي سعيد عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام "
مَا مِنْكُن امْرأ تَقْدِيم ثَلَاثَة من وَلَدهَا إِلَّا
كَانَ لَهَا حِجَابا من النَّار فَقَالَت امْرَأَة واثنين
فَقَالَ واثنين " أَشَارَ إِلَى هَذَا بقوله بِهَذَا أَي
بِهَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور وَتَقْدِير الْإِسْنَاد
الثَّانِي حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار قَالَ حَدثا غنْدر
قَالَ حَدثا شُعْبَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الاصبهاني
قَالَ سَمِعت أَبَا حَازِم عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
قَالَ " مَا مِنْكُن امْرَأَة تقدم ثَلَاثَة لم يبلغُوا
الْحِنْث من وَلَدهَا إِلَّا كَانَ لَهَا حِجَابا "
الحَدِيث فَإِن قلت هَل فَائِدَة فِي تَقْدِيمه الحَدِيث
الأول على الثَّانِي قلت نعم لِأَن الحَدِيث الأول أَعلَى
دَرَجَة من الثَّانِي اذفيه بَين شُعْبَة وَالْبُخَارِيّ
رجل وَاحِد وَهُوَ ابْن آدم بِخِلَاف الثَّانِي فَإِن
بَينهمَا رجلَيْنِ وهما مُحَمَّد بن بشار وغندر النَّوْع
الثَّالِث فِي رجال الاسنادين وهم ثَمَانِيَة وَقد مضى
مِنْهُم ماخلا أَبُو حَازِم بِالْمُهْمَلَةِ وَالزَّاي
وَهُوَ سُلَيْمَان الاشجعي الْكُوفِي مولى عزة
بِالْمُهْمَلَةِ الْمَفْتُوحَة وبالزاي الْمُشَدّدَة
الاشجعية توفّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي
الله عَنهُ قَالَ يحيى بن معِين هُوَ كُوفِي ثِقَة روى
لَهُ الْجَمَاعَة وَرُبمَا يشْتَبه بِأبي حَازِم سَلمَة بن
دِينَار الزَّاهِد فَإِنَّهَا تابعيان مشتركان فِي الكنية
قَالَ أَبُو عَليّ الجياني أَبُو حَازِم رجلَانِ تابعيان
يكنيان بِأبي حَازِم يرويان عَن الصَّحَابَة فَالْأول
الاشعي اسْمه سُلَيْمَان يروي عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي
الله عَنهُ الْأَعْمَش وَمَنْصُور وفضيل بن غَزوَان
وَالثَّانِي سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج يروي عَن سهل بن
سعد روى عَنهُ مَالك وَالثَّوْري وَابْن عُيَيْنَة
وَسليمَان ابْن بِلَال قلت وَمن الْفرق بَينهمَا أَن الأول
توفّي فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز وَالثَّانِي توفّي
فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة وَالْأول لم يرو فِي
البُخَارِيّ وَمُسلم إِلَّا عَن أبي هُرَيْرَة وَالثَّانِي
لم يرو فِي الصَّحَابَة إِلَّا عَن سهل بن سعد
وَكِلَاهُمَا ثقتان فَالْأول وثقة يحيى وَالثَّانِي
وَثَّقَهُ أَبُو حَاتِم النَّوْع الرَّابِع قَوْله " لم
يبلغُوا الْحِنْث " أَي الْإِثْم الْمَعْنى أَنهم مَاتُوا
قبل بلوغهم التَّكْلِيف فَلم يكْتب عَلَيْهِم الآثام
وَيُقَال مَعْنَاهُ لم يبلغُوا زمَان التَّكْلِيف وَسن
الْعقل والحنث بِكَسْر الْحَاء الْإِثْم قَالَ
الْجَوْهَرِي يُقَال بلغ الْغُلَام الْحِنْث أَي
الْمعْصِيَة وَالطَّاعَة وَقَالَ الصغاني وَبلغ الْغُلَام
الْحِنْث أَي بلغ مبلغا جرى عَلَيْهِ الْقَلَم
بِالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَة والحنث الزِّنَا أَيْضا
والحنث فِي الْيَمين والحنث الْعدْل الْكَبِير الثقيل
والحنث الْميل من بَاطِل إِلَى حق أَو من حق إِلَى بَاطِل
يُقَال قد حنثت على أَي ملت إِلَى هُوَ أَن عَليّ فَإِن
قلت لم خص الحكم باللذين لم يبلغُوا الْحِنْث وهم صغَار
قلت لِأَن قلب الْوَالِدين على الصَّغِير ارْحَمْ واشفق
دون الْكَبِير ن الْغَالِب على الْكَبِير عدم السَّلامَة
من مُخَالفَة وَالدية وعقوقهم
(2/135)
35 - (بابُ مَنْ سَمِعَ شَيْئاً
فَرَاجَعَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من سمع شَيْئا فراجع الَّذِي
سَمعه مِنْهُ حَتَّى يعرف مَا سَمعه كَمَا هُوَ حَقه،
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (بَاب من سمع شَيْئا فَلم يفهمهُ
فَرَاجعه) . وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فراجع فِيهِ) .
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق وعظ النِّسَاء
وتعليمهن، وَفِي فهمهن قُصُور: وَرُبمَا يحتجن إِلَى
مُرَاجعَة الْعَالم، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِي مُرَاجعَة
الْعَالم لعدم الْفَهم فِيمَا سمع مِنْهُ، وَمن هَذِه
الْحَيْثِيَّة تنَاسبا.
103 - حدّثنا سَعيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ قالَ: أخْبرنا
نافِعُ بنُ عُمَرَ قالَ: حدّثني ابنُ أبي مُلَيْكَةَ أَن
عَائِشَة زوْجَ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَتْ
لَا تَسْمَعُ شَيْئاً لَا تَعْرِفُهُ إِلاَّ رَاجَعَتْ
فِيهِ حَتَّى تَعْرِفَهُ، وَأَن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قالَ: (مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ) قالَتْ عائِشَةُ:
فَقُلْتُ: أوَ لَيْسَ يَقُولُ الله تَعالى: {فَسوفَ
يُحاسَبُ حِساباً يِسيراً} (الانشقاق: 8) قالَتْ: فَقَالَ:
(إِنَّما ذَلِكَ العَرْضُ، ولكِنْ مَنْ نُوقِشَ الحِسابَ
يَهْلكْ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا تسمع
شَيْئا لَا تعرفه إلاَّ راجعت فِيهِ حَتَّى تعرفه) .
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: سعيد بن أبي
مَرْيَم، هُوَ سعيد بن الحكم بن مُحَمَّد ابْن أبي مَرْيَم
الجُمَحِي أَبُو مُحَمَّد الْمصْرِيّ، سمع مَالِكًا
وَغَيره، وروى عَنهُ البُخَارِيّ هُنَا وَغَيره، وروى
بَقِيَّة الْجَمَاعَة عَن رجل عَنهُ، وروى البُخَارِيّ فِي
تَفْسِير سُورَة الْكَهْف عَن مُحَمَّد بن عبد اللَّه
عَنهُ عَن أبي غَسَّان مُحَمَّد بن مطرف وَسليمَان بن
بِلَال وَمُحَمّد بن أبي كثير. قَالَ الْحَاكِم
النَّيْسَابُورِي: يُقَال: إِن مُحَمَّد بن عبد اللَّه
هَذَا هُوَ مُحَمَّد بن يحيى الذهلي، وروى عَنهُ أَبُو
حَاتِم الرَّازِيّ، وَقَالَ: ثِقَة. وَقَالَ ابْن معِين:
ثِقَة الثِّقَات، توفّي سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: نَافِع بن عمر بن عبد اللَّه الْقرشِي
الجُمَحِي الْمَكِّيّ، قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: ثَبت ثَبت
صَحِيح الحَدِيث. وَقَالَ يحيى بن معِين: ثِقَة. وَقَالَ
أَبُو حَاتِم: ثِقَة يحْتَج بحَديثه، مَاتَ بِمَكَّة سنة
تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
الثَّالِث: عبد اللَّه بن عبيد اللَّه بن أبي مليكَة،
بِضَم الْمِيم، وَقد تقدم. الرَّابِع: الصديقة عَائِشَة،
رَضِي الله عَنْهَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والإخبار.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومكي. وَمِنْهَا:
أَنه رباعي صَحِيح. فَإِن قلت: هَذَا الْإِسْنَاد مِمَّا
استدركه الدَّارَقُطْنِيّ على البُخَارِيّ وَمُسلم،
فَقَالَ: اخْتلفت الرِّوَايَة فِيهِ عَن ابْن أبي مليكَة
فَروِيَ عَنهُ عَن عَائِشَة، وَرُوِيَ عَنهُ عَن الْقَاسِم
عَن عَائِشَة، وَقد اخْتلف النَّاس فِي الحَدِيث إِذا
رُوِيَ مَوْصُولا، وَرُوِيَ مُنْقَطِعًا هَل عِلّة فِيهِ؟
فالمحدثون يثبتونه عِلّة، وَالْفُقَهَاء ينفون الْعلَّة
عَنهُ، وَيَقُولُونَ: يجوز أَن يكون سَمعه عَن وَاحِد عَن
آخر ثمَّ سَمعه عَن ذَلِك الآخر بِغَيْر وَاسِطَة. قلت:
هَذَا هُوَ الْجَواب عَن اسْتِدْرَاك الدَّارَقُطْنِيّ،
وَهُوَ اسْتِدْرَاك مُسْتَدْرك لِأَنَّهُ مَحْمُول على
أَنه سَمعه عَنْهَا بالواسطة، وَبِدُون الْوَاسِطَة
فَرَوَاهُ بِالْوَجْهَيْنِ، وَأكْثر استدراكات
الدَّارَقُطْنِيّ على البُخَارِيّ وَمُسلم من هَذَا
الْبَاب.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي التَّفْسِير والرقاق عَن عَمْرو بن عَليّ عَن
يحيى عَن عُثْمَان بن الْأسود، وَفِي الرقَاق أَيْضا عَن
عبيد اللَّه بن مُوسَى عَن عُثْمَان بن الْأسود، وَفِي
التَّفْسِير عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد
عَن أَيُّوب، وَقَالَ فِي عقب حَدِيث عَمْرو بن عَليّ:
تَابعه ابْن جريج مُحَمَّد بن سليم وَصَالح وَأَيوب بن
رستم عَن ابْن أبي مليكَة سَمِعت عَائِشَة. وَأخرجه مُسلم
فِي أَوَاخِر الْكتاب عَن أبي بكر وَابْن حجر عَن ابْن
علية عَن أَيُّوب، وَعَن أبي الرّبيع وَأبي كَامِل عَن
حَمَّاد عَن أَيُّوب، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن
يحيى الْقطَّان عَن عُثْمَان بن الْأسود، كِلَاهُمَا عَن
ابْن أبي مليكَة، وَأخرجه فِي التَّفْسِير عَن مُسَدّد عَن
يحيى، وَفِي الرقَاق عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن روح،
وَأخرجه أَيْضا عَن عبد الرَّحْمَن بن بشر عَن يحيى،
كِلَاهُمَا عَن أبي يُونُس حَاتِم عَن ابْن أبي مليكَة عَن
الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَزَاد فِيهِ الْقَاسِم بن أبي
مليكَة وَعَائِشَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي التَّفْسِير
عَن الْعَبَّاس بن مُحَمَّد بن يُونُس عَن مُحَمَّد عَن
نَافِع بن عمر بِإِسْنَادِهِ: (من حُوسِبَ يومئذٍ عذب) .
فَذكره وَلم يذكر أول الحَدِيث.
(2/136)
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (زوج النَّبِي،
عَلَيْهِ السَّلَام) زوج الرجل امْرَأَته، وَزوج
الْمَرْأَة بَعْلهَا، قَالَ الله تَعَالَى: {اسكن أَنْت
وزوجك الْجنَّة} (الْبَقَرَة: 35، الْأَعْرَاف: 19)
وَيُقَال أَيْضا: هِيَ زَوجته. وَالْأول هُوَ الْأَفْصَح.
قَوْله: (الْعرض) بِفَتْح الْعين، من عرضت إِلَيْهِ أَمر
كَذَا، وَعرضت لَهُ الشَّيْء أَي أظهرته وأبرزته إِلَيْهِ.
قَوْله: (من نُوقِشَ) من المناقشة وَهِي الِاسْتِقْصَاء
فِي الْحساب حَتَّى لَا يُترك مِنْهُ شَيْء. وَقَالَ ابْن
دُرَيْد: أصل النقش استقصاؤك الْكَشْف عَن الشَّيْء،
وَمِنْه نقش الشَّوْكَة إِذا استخرجها. وَقَالَ
الْهَرَوِيّ: انتقشت مِنْهُ حَتَّى استقصيته مِنْهُ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (أَن عَائِشَة) ، بِفَتْح
الْهمزَة: وَأَصله بِأَن عَائِشَة، ظَاهر هَذَا
الْإِرْسَال لِأَن ابْن أبي مليكَة تَابِعِيّ لم يدْرك
مُرَاجعَة عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
لَكِن ظهر وَصله بعد فِي قَوْله: قَالَت عَائِشَة: فَقلت.
قَوْله: (زوج النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام)
كَلَام إضافي فِي مَنْصُوب لِأَنَّهُ صفة عَائِشَة.
قَوْله: (كَانَت) فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر: أَن.
قَوْله: (لَا تسمع) إِلَى آخِره فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ
خبر: كَانَ. قَوْله: (لَا تعرفه) جملَة فِي مَحل النصب
لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (شَيْئا) . قَوْله: (إلاَّ راجعت
فِيهِ) اسْتثِْنَاء مُتَّصِل. وَقَوله: (راجعت) صفة لموصوف
مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: لَا تسمع شَيْئا مَجْهُولا
مَوْصُوفا بِصفة إلاَّ مَوْصُوفا بِأَنَّهُ مرجوع فِيهِ.
قَوْله: (حَتَّى) للغاية بِمَعْنى: إِلَى. وَقَوله:
(تعرفه) مَنْصُوب بِأَن الْمقدرَة. قَوْله: (وَأَن
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،) عطف على
قَوْله: (أَن عَائِشَة) . قَالَ الْكرْمَانِي: وَاعْلَم
أَن هَذَا الْقدر من كَلَام ابْن أبي مليكَة مُرْسل، إِذْ
لم يسْندهُ إِلَى صَحَابِيّ. قلت: قد ذكرت أَن قَول
عَائِشَة: فَقلت، يدل على الْوَصْل، وَإِن كَانَ ذَاك
بِحَسب الظَّاهِر يدل على الْإِرْسَال. قَوْله: (قَالَ)
فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ خبر: أَن. قَوْله: (من حُوسِبَ
عذب) مقول القَوْل و: من، مَوْصُولَة، و: حُوسِبَ، جملَة
صلتها. وَقَوله: (عذب) خبر: من، لِأَنَّهُ مُبْتَدأ.
قَوْله: (فَقلت) عطف على قَوْله: (قَالَ: من حُوسِبَ عذب)
. وَقَوله: (قَالَت عَائِشَة) معترض بَينهمَا من كَلَام
الرَّاوِي. قَوْله: (أَو لَيْسَ يَقُول الله؟) الْهمزَة
للاستفهام. فَإِن قلت: همزَة الِاسْتِفْهَام تَقْتَضِي
الصدارة، وحرف الْعَطف يَقْتَضِي تقدم الصدارة، فَمَا
تَقْدِيره؟ قلت: هَهُنَا وَفِي أَمْثَاله يقدر الْمَعْطُوف
عَلَيْهِ هُوَ مَدْخُول الْهمزَة نَحْو: أَكَانَ كَذَلِك
وَلَيْسَ يَقُول الله تَعَالَى؟ وَفِي بعض النّسخ: أَو
لَيْسَ الله يَقُول؟ فلفظة الله اسْم لَيْسَ وَخَبره
يَقُول. فَإِن قلت: مَا اسْم لَيْسَ فِي الرِّوَايَة
الْمَشْهُورَة؟ قلت: إِمَّا أَن يكون لَيْسَ بِمَعْنى:
لَا، فَكَأَنَّهُ قيل: أَو لَا يَقُول الله؟ وَإِمَّا أَن
يكون فِيهِ ضمير الشَّأْن. قَوْله: (حسابا) نصب على أَنه
مفعول مُطلق. و (يَسِيرا) ، صفته. قَوْله: (قَالَت) أَي:
عَائِشَة. فَقَالَ: أَي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام. قَوْله: (إِنَّمَا ذَلِك) بِكَسْر الْكَاف
لِأَنَّهُ خطاب للمؤنث، وَالْأَصْل فِيهِ: ذَا، وَهُوَ
اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمُذكر، فَإِن خاطبت جِئْت
بِالْكَاف، فَقلت: ذَاك وَذَلِكَ، فَاللَّام زَائِدَة
وَالْكَاف للخطاب وَفِيهِمَا دَلِيل على أَن مَا يومىء
إِلَيْهِ بعيد وَلَا مَوضِع لَهُ من الْإِعْرَاب، وَهُوَ
هَهُنَا مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (الْعرض) . قَوْله:
(وَلَكِن) للاستدراك. قَوْله: (من) مَوْصُولَة تَتَضَمَّن
معنى الشَّرْط. وَقَوله: (نُوقِشَ) فعل الشَّرْط. قَوْله:
(يهْلك) ، بِكَسْر اللَّام: جَوَاب الشَّرْط، وَيجوز فِيهِ
الرّفْع والجزم، وَذَلِكَ لِأَن الشَّرْط إِذا كَانَ
مَاضِيا يجوز الْوَجْهَانِ فِي الْجَواب، وَهُوَ من: هلك
يهْلك، لَازم. وتيم تَقول: هلكه يهلكه هلكاً بِمَعْنى
أهلكه، وَالْمعْنَى هَهُنَا على اللُّزُوم، وَإِن احْتمل
التَّعَدِّي أَيْضا. قَوْله: (الْحساب) نصب لِأَنَّهُ
مفعول ثَان لناقش، لِأَن أصل بَاب المفاعلة لنسبة أصل
الْفِعْل إِلَى أحد الْأَمريْنِ مُتَعَلقا بِالْآخرِ
صَرِيحًا، وَيَجِيء عكس ذَلِك ضمنا، فلأجل تعلقه بِالْآخرِ
جَاءَ غير الْمُتَعَدِّي إِذا نقل إِلَى فَاعل مُتَعَدِّيا
نَحْو: كارمته، فَإِن أَصله لَازم وَقد تعدى هَهُنَا،
والمتعدي إِلَى مفعول وَاحِد إِذا نقل إِلَى فَاعل
يتَعَدَّى إِلَى مفعولين نَحْو: جاذبته الثَّوْب، لَكِن
بِشَرْط أَن لَا يصلح مفعول أصل الْفِعْل أَن يكون مشاركاً
للْفَاعِل كَمَا فِي الْمِثَال الْمَذْكُور، فَإِن
الثَّوْب لمَّا لم يصلح لِأَن يكون مشاركاً للْفَاعِل فِي
المجاذبة احْتِيجَ إِلَى مفعول آخر يكون مشاركاً لَهُ
فِيهَا، فيتعدى إِلَى اثْنَيْنِ، وَأما إِذا صلح مَفْعُوله
للمشاركة فَلَا يتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، بل يَكْتَفِي
بمفعول كَمَا فِي: شاتمت زيدا. فَإِن قلت: أَيْن
الْمَفْعُول الأول هَهُنَا؟ قلت: الضَّمِير الَّذِي
نُوقِشَ فَإِنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَالْمعْنَى:
من ناقشه الله الْحساب يهْلك. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
الظَّاهِر أَن الْحساب مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض، أَي:
فِي الْحساب، أَي: من جرى فِي حسابه المضايقة يهْلك. قلت:
الظَّاهِر مَا ذَكرْنَاهُ.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (كَانَت لَا تسمع) إِنَّمَا
جمع بَين: كَانَت، الَّذِي هُوَ الْمَاضِي، وَبَين: لَا
تسمع، الَّذِي هُوَ الْمُضَارع لِأَن كَانَت هُنَا لثُبُوت
خَبَرهَا والمضارع للاستمرار فيتناسبان، أَو جِيءَ بِلَفْظ
الْمُضَارع استحضاراً للصورة الْمَاضِيَة وحكاية عَنْهَا،
فلفظه، وَإِن كَانَ مضارعاً، لَكِن مَعْنَاهُ على
الْمَاضِي. قَوْله: (عذب) لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: إِن
نفس مناقشة الْحساب يَوْم
(2/137)
عرض الذُّنُوب والتوقيف على قَبِيح مَا سلف
لَهُ تَعْذِيب وتوبيخ. وَالْآخر أَنه مفض إِلَى
اسْتِحْقَاق الْعَذَاب، إِذْ لَا حَسَنَة للْعَبد يعملها
إلاَّ من عِنْد اللَّه وبفضله وإقداره لَهُ عَلَيْهَا
وهدايته لَهَا، وَأَن الْخَالِص لوجهه تَعَالَى من
الْأَعْمَال قَلِيل، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله: يهْلك مَكَان
عذب. قَوْله: (يَسِيرا) أيَّ سهلاً هيناً لَا يناقش فِيهِ
وَلَا يعْتَرض بِمَا يشق عَلَيْهِ كَمَا يناقش أَصْحَاب
الشمَال. فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُعَارضَة هَهُنَا أَعنِي
بَين الحَدِيث وَالْآيَة؟ قلت: وَجههَا أَن الحَدِيث عَام
فِي تَعْذِيب من حُوسِبَ، وَالْآيَة تدل على عدم تَعْذِيب
بَعضهم، وهم أَصْحَاب الْيَمين، وجوابها أَن المُرَاد من
الْحساب فِي الْآيَة الْعرض يَعْنِي: الإبراز والإظهار.
وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، هُوَ أَن يعرف ذنُوبه
ثمَّ يتَجَاوَز عَنهُ. قَوْله: (من نُوقِشَ) الْمَعْنى:
أَن التَّقْصِير غَالب على الْعباد، فَمن استقصي عَلَيْهِ
وَلم يسامح هلك وَأدْخل النَّار، وَلَكِن الله تَعَالَى
يعْفُو وَيغْفر مَا دون الشّرك لمن شَاءَ. وَقيل إِن
المناقشة فِي الْحساب نَفسهَا هُوَ الْعَذَاب، لما رُوِيَ
عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه
قَالَ: (من يُحَاسب يعذب. فَقيل: يَا رَسُول الله فَسَوف
يُحَاسب حسابا يَسِيرا. قَالَ: ذَلِكُم الْعرض، من نُوقِشَ
فِي الْحساب عذب) . وَفِيه نظر، لِأَن قَوْله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من يُحَاسب يعذب) . وَقَوله: (من
نُوقِشَ فِي الْحساب عذب) يدل على أَن من حُوسِبَ عذب
سَوَاء بمناقشة أَو لَا، وَلَا يدل على أَن المناقشة فِي
الْحساب نَفسهَا عَذَاب، بل الْمَعْهُود خِلَافه، فَإِن
الْجَزَاء لَا بُد وَأَن يكون سَببا عَن الشَّرْط،
وَالْجَوَاب: أَن التألم الْحَاصِل للنَّفس بمطالبة
الْحساب غير الْحساب ومسبب عَنهُ، فَجَاز أَن يكون بذلك
الِاعْتِبَار جَزَاء.
بَيَان اسنتباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بَيَان فَضِيلَة
عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وحرصها على التَّعَلُّم
وَالتَّحْقِيق، فَإِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَا كَانَ يتضجر من الْمُرَاجَعَة إِلَيْهِ. الثَّانِي:
فِيهِ إِثْبَات الْحساب وَالْعرض. الثَّالِث: فِيهِ
إِثْبَات الْعَذَاب يَوْم الْقِيَامَة. الرَّابِع: فِيهِ
جَوَاز المناظرة ومقابلة السّنة بِالْكتاب. الْخَامِس:
فِيهِ تفَاوت النَّاس فِي الْحساب.
37 - (بابٌ لِيُبَلّغِ العِلْمَ الشَّاهِدُ الغائبَ)
أَي: هَذَا بَاب، وَهُوَ منون قطعا. قَوْله: (ليبلغ) أَمر
للْغَائِب، وَيجوز فِي الْغَيْن الْكسر لِأَن الأَصْل فِي
السَّاكِن تحريكه بِالْكَسْرِ إِذا حرك، وَالْفَتْح
لِأَنَّهُ أخف الحركات، وَلَا يجوز غير ذَلِك، و:
الشَّاهِد، بِالرَّفْع لِأَنَّهُ فَاعل: ليبلغ، وَقَوله:
الْعلم وَالْغَائِب، منصوبان على أَنَّهُمَا مفعولان لَهُ.
وَالتَّقْدِير: ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب الْعلم
وَالشَّاهِد الْحَاضِر من شهد إِذا حضر.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق مُرَاجعَة المتعلم أَو
السَّامع لضبط مَا يسمعهُ من الْعَالم، وَفِيه معنى
التَّبْلِيغ من المراجع إِلَيْهِ إِلَى المراجع، فَكَأَن
المراجع كَانَ كالغائب عِنْد سَمَاعه حَتَّى لم يفهم مَا
سَمعه وراجع فِيهِ، وَهَذَا الْبَاب أَيْضا فِيهِ تَبْلِيغ
الشَّاهِد الْغَائِب، فتناسبا من هَذِه الْحَيْثِيَّة.
قَالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
أَي: رَوَاهُ عبد اللَّه بن عَبَّاس، رَضِي الله
عَنْهُمَا، وَهَذَا تَعْلِيق، وَلكنه أسْندهُ فِي كتاب
الْحَج فِي: بَاب الْخطْبَة أَيَّام منى، عَن عَليّ بن
يحيى بن سعيد عَن سعيد بن غَزوَان عَن عِكْرِمَة عَن ابْن
عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خطب
النَّاس يَوْم النَّحْر فَقَالَ: أَيهَا النَّاس! أَي
يَوْم هَذَا؟ قَالُوا: يَوْم حرَام) وَفِي آخِره:
(اللَّهُمَّ هَل بلغت؟ اللَّهُمَّ هَل بلغت؟) قَالَ ابْن
عَبَّاس: فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لوَصِيَّة إِلَى
أمته فليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، وَذكر الحَدِيث. وَقَالَ
أَبُو دَاوُد: حَدثنَا زُهَيْر بن حَرْب وَعُثْمَان بن أبي
شيبَة، حَدثنَا جرير عَن الْأَعْمَش عَن عبد اللَّه ابْن
عبد اللَّه عَن سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي
الله عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (تَسْمَعُونَ وَيسمع مِنْكُم وَيسمع من
يسمع مِنْكُم) . وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ فِي شَيْء من
طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس بِهَذِهِ الصُّورَة، وَإِنَّمَا
هُوَ فِي رِوَايَته وَرِوَايَة غَيره بِحَذْف الْعلم،
وَكَأَنَّهُ أَرَادَ بِالْمَعْنَى، لِأَن الْمَأْمُور
بتبليغه هُوَ الْعلم. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ مثل
مَا فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، غَايَة مَا فِي الْبَاب
أَنه أبرز أحد المفعولين الَّذِي هُوَ مُقَدّر فِي
الحَدِيث، وَهُوَ لَفْظَة: الْعلم.
104 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ: حدّثني
اللَّيْثُ قالَ: حدّثني سَعِيدٌ عنْ أبي شُرَيْحٍ أنَّهُ
قالَ لِ عَمْرِو بنِ سعِيدٍ، وَهْوَ يَبْعَثُ البُعُوثَ
إِلى مَكَّة: ائْذَنْ لِي أيُّهَا الأمِيرُ أحَدّثْكَ
قَوْلاً قامَ بِهِ النبيّ
(2/138)
ُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الغَدَ مِنْ
يَوْمِ الفَتْحِ، سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قلْبِي
وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكلَّمَ بِهِ، حمدَ الله
وأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (إِن مكَّةَ حَرَّمَهَا
الله وَلَمْ يُحَرّمْهَا النَّاسُ، فَلاَ يَحِلُّ
لاِمْرِىءٍ يُؤْمِنُ بِاللَّه واليَوْمِ الآخِرِ أَنْ
يَسْفِكَ بِها دَماً، وَلَا يَعْضِدَ بِها شَجَرَةً، فإنْ
أحَدٌ تَرَخصَّ لقتالِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِيها فَقُولُوا: إِنّ الله قدْ أَذِنَ لرِسُولِهِ وَلَمْ
يَأْذَنْ لَكُمْ، وإِنَّمَا أَذِنَ لِي فِيهَا ساعَةً مِنْ
نَهَارٍ ثمَّ عادَتْ حُرْمَتُهَا اليَوْمَ كَحُرْمَتِها
بالأَمْسِ، ولْيُبلّغِ الشَّاهِدُ الغائِبَ) . فَقِيلَ
لأَبِي شرَيْحٍ مَا قالَ عَمْروٌ قالَ: أنَا أعْلَمُ منْكَ
يَا أَبَا شُرَيْحٍ! إنَّ مَكَّةَ لاَ تُعِيذُ عاصِياً
وَلَا فارَّا بدَمٍ وَلَا فارَّا بخَرْبَةٍ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وليبلغ
الشَّاهِد الْغَائِب) .
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: عبد اللَّه بن
يُوسُف التنيسِي. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ.
الثَّالِث: سعيد بن أبي سعيد المَقْبُري، وَقد تقدم ذكرهم.
الرَّابِع: أَبُو شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح
الرَّاء وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة: الْخُزَاعِيّ الكعبي.
قيل: اسْمه خويلد، قَالَ أَبُو عمر: قيل: اسْمه عَمْرو بن
خَالِد. وَقيل: كَعْب بن عَمْرو. قَالَ: وَالأَصَح عِنْد
أهل الحَدِيث أَن اسْمه خويلد بن عَمْرو بن صَخْر بن عبد
الْعُزَّى بن مُعَاوِيَة بن المحترش بن عَمْرو بن مَازِن
بن عدي بن عَمْرو بن ربيعَة الْخُزَاعِيّ الْعَدوي الكعبي،
أسلم قبل فتح مَكَّة، وَكَانَ يحمل حينئذٍ أحد ألوية بني
كَعْب بن خُزَاعَة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عشرُون حَدِيثا، اتفقَا على حديثين،
وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِحَدِيث، وَهُوَ: (وَالله لَا
يُؤمن (ثَلَاثًا) من لَا يُؤمن جَاره بوائقه) . والمتفق
عَلَيْهِ: (من كَانَ يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر
فَليُكرم جَاره) . الحَدِيث، وَهَذَا الحَدِيث. قَالَ
الْوَاقِدِيّ: وَكَانَ أَبُو شُرَيْح من عقلاء أهل
الْمَدِينَة، توفّي سنة ثَمَان وَسِتِّينَ، روى لَهُ
الْجَمَاعَة. وَفِي الصَّحَابَة من يشْتَرك مَعَه فِي
كنيته اثْنَان: أَبُو شُرَيْح هانىء بن يزِيد
الْحَارِثِيّ، وَأَبُو شُرَيْح رَاوِي حَدِيث: (أَعْتَى
النَّاس على الله تَعَالَى) الحَدِيث. قَالُوا: هوالخزاعي،
وَقَالُوا: غَيره. وَفِي الرِّوَايَة أَيْضا أَبُو شُرَيْح
الْغِفَارِيّ، أخرج لَهُ ابْن مَاجَه.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مصري ومدني. وَمِنْهَا:
أَنه من الرباعيات.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث، وَفِي الْمَغَازِي
عَن سعيد بن شُرَحْبِيل عَن اللَّيْث. وَأخرجه مُسلم فِي
الْحَج عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ
عَن قُتَيْبَة بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَفِي الدِّيات
عَن ابْن بشار عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن أبي ذِئْب عَن
سعيد فِي مَعْنَاهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج،
وَفِي الْعلم عَن قُتَيْبَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (الْبعُوث) ، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة. جمع الْبَعْث بِمَعْنى الْمَبْعُوث، وَهُوَ
الْجند الَّذِي يبْعَث إِلَى مَوضِع. وَمعنى: يبْعَث
الْبعُوث أَي: يُرْسل الجيوش، والبعث الْإِرْسَال. وَفِي
(الْعباب) بَعثه أَي أرْسلهُ، وَقَوْلهمْ: كنت فِي بعث
فلَان، أَي: فِي جَيْشه الَّذِي بعث مَعَه. والبعوث
الجيوش، ومصدر بَعثه بعث وَبعث بِالتَّحْرِيكِ أَيْضا،
والبعثة الْمرة الْوَاحِدَة. قَوْله: (إيذن) أَمر من: أذن
يَأْذَن، وَأَصله: إئذن، قلبت الْهمزَة الثَّانِيَة يَاء
لسكونها وانكسار مَا قبلهَا. قَوْله: (لامرىء) قد مر أَن
هَذَا اللَّفْظ من النَّوَادِر، حَيْثُ كَانَت عينه
دَائِما تَابِعَة للامه فِي الْحَرَكَة. قَوْله: (أَن
يسفك) بِكَسْر الْفَاء على الْمَشْهُور، وَحكي ضمهَا،
وَمعنى السفك إِرَاقَة الدَّم. وَفِي (الْعباب) : سفكت
الدَّم أسفُكه وأسفِكه سفكاً، أَي: هرقته. وَقَرَأَ ابْن
قطيب وَابْن أبي عبلة وَطَلْحَة بن مصرف وَشُعَيْب بن أبي
حَمْزَة: (ويسفك الدِّمَاء) ، بِضَم الْفَاء، وَكَذَلِكَ
الدمع. وَقَالَ الْمَهْدَوِيّ: لَا يسْتَعْمل السفك إلاَّ
فِي صب الدَّم، وَقد يسْتَعْمل فِي نشر الْكَلَام إِذا
نشره. قَوْله: (وَلَا يعضد) من الْعَضُد، بِالْعينِ
الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة، وَهُوَ الْقطع:
يُقَال: عضد الشَّجَرَة، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي، يعضد،
بِالْكَسْرِ فِي الْمُضَارع: إِذا قطعهَا بالمعضد، وَهُوَ
سيف يمتهن فِي الشّجر، فَهُوَ معضود، وَالْمعْنَى: لَا
يعضد أَغْصَانهَا. قَالَ الْمَازرِيّ: يُقَال: عضد
واستعضد. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: معنى لَا يعضد: لَا يفْسد
وَلَا يقطع، وَأَصله من عضد الرجل إِذا أصَاب عضده، لكنه
يُقَال مِنْهُ: عضده يعضده
(2/139)
بِالضَّمِّ فِي الْمُضَارع، وَكَذَلِكَ
يُقَال: إِذا أَعَانَهُ بِخِلَاف الْعَضُد بِمَعْنى
الْقطع. وَفِي (الْعباب) : عضدته أعضده، بِالضَّمِّ، أَي
أعنته، وَكَذَلِكَ إِذا أصبت عضده، وعضدت الشَّجَرَة
أعضدها، بِالْكَسْرِ، أَي: قطعتها، والمعضد، بِكَسْر
الْمِيم: مَا يعضد بِهِ الشَّجَرَة، وَالشَّجر مَا لَهُ
سَاق. قَوْله: (ترخص) من بَاب تفعل من الرُّخْصَة، وَهُوَ
حكم ثَبت لعذر مَعَ قيام الْمحرم. قَوْله: (لَا تعيذ) ،
بِضَم التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: من الإعاذة،
بِالذَّالِ الْمُعْجَمَة أَي لَا تعصم العَاصِي من
إِقَامَة الْحَد عَلَيْهِ. قَوْله: (وَلَا فَارًّا) أَي:
ملتجئاً إِلَى الْحرم بِسَبَب خَوفه من إِقَامَة الْحَد
عَلَيْهِ، وَهُوَ بِالْفَاءِ وَالرَّاء الْمُشَدّدَة،
وَمَعْنَاهُ فِي الأَصْل: الهارب. قَوْله: (بخربة) ،
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الرَّاء بعْدهَا
بَاء مُوَحدَة، وَهِي السّرقَة، كَذَا ثَبت تَفْسِيرهَا
فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، أَعنِي فِي رِوَايَته:
(وَلَا فَارًّا بخربة) . يَعْنِي: السّرقَة. وَقَالَ ابْن
بطال: الخربة، بِالضَّمِّ: الْفساد، وبالفتح: السّرقَة.
وَقَالَ القَاضِي: وَقد رَوَاهُ جَمِيع رُوَاة البُخَارِيّ
غير الْأصيلِيّ: (بخربة) ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة
الْمَفْتُوحَة، وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِي مُسلم، وَرَوَاهُ
الْأصيلِيّ: (بخربة) ، بِضَم الْخَاء، وَقيل: بِضَم
الْخَاء الْعَوْرَة، وبالفتح يَصح على أَن المُرَاد الفعلة
الْوَاحِدَة. وَقَالَ الْخَلِيل: الخربة، بِالضَّمِّ:
الْفساد فِي الدّين، مَأْخُوذ من الخارب وَهُوَ اللص،
وَلَا يكَاد يسْتَعْمل إلاَّ فِي سَارِق الْإِبِل. وَقَالَ
غَيره: الخربة، بِالْفَتْح: السّرقَة وَالْعَيْب. وَقَالَ
الْخطابِيّ: الخربة هُنَا السّرقَة، والخرابة: سَرقَة
الْإِبِل خَاصَّة، كَمَا قَالَ الْخَلِيل، وَأنْشد.
(والخارب اللص يحب الخاربا)
وَقَالَ غَيره: وَأما الْحِرَابَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة،
فَيُقَال فِي كل شَيْء. يُقَال فِي الأول: خرب فلَان
بِالْمُعْجَمَةِ وَفتح الرَّاء إبل فلَان يخرب خرابة، مثل:
كتب يكْتب كِتَابَة، وَرُوِيَ فِي بعض النّسخ: بجزية،
بِكَسْر الْجِيم وَسُكُون الزَّاي وَفتح الْيَاء آخر
الْحُرُوف. وَفِي (الْعباب) : الخربة يَعْنِي، بِالْفَتْح:
السّرقَة وَالْعَيْب والبلية، والخربة أَيْضا: أَعنِي
بِالْفَتْح: الغربال. والخربة، بِالضَّمِّ: ثقب الورك وكل
ثقب مستدير. والخرابة، بِالضَّمِّ: جبل من لِيف أَو نَحوه،
وخرابة الإبرة: خرقها، وخرابة الورك: ثقبه، وَقد تشدد
راؤها. والخارب: اللص. قَالَ الْأَصْمَعِي: هُوَ سَارِق
البعران خَاصَّة، وَالْجمع الخراب، بِضَم الْخَاء
وَتَشْديد الرَّاء. قَالَ: والحربة، بِضَم الْحَاء
الْمُهْملَة: الغرارة السَّوْدَاء. وَقَالَ اللَّيْث:
الْوِعَاء. والحربة، بِفتْحَتَيْنِ: الطلعة إِذا كَانَت
بقشرها.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث)
جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (إيذن لي) مقول القَوْل.
قَوْله: (أَيهَا الْأَمِير) ، أَصله: يَا أَيهَا
الْأَمِير، حذف مِنْهُ حرف النداء. قَوْله: (أحَدثك) جملَة
من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، و: (قولا)
مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول ثَان. قَوْله: (قَامَ بِهِ) أَي
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، جملَة من
الْفِعْل وَالْمَفْعُول، أَعنِي: قَوْله: بِهِ،
وَالْفَاعِل أَعنِي قَوْله: النَّبِي، وَهِي فِي مَحل
النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (قولا) . قَوْله: (الْغَد)
بِالنّصب على الظَّرْفِيَّة، وَهُوَ الْيَوْم الثَّانِي من
فتح يَوْم مَكَّة. قَوْله: (سمعته) ، جملَة من الْفِعْل
وَالْمَفْعُول، وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى
القَوْل. وَقَوله: (أذناي) فَاعله، وَأَصله أذنان لي،
فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت نون
التَّثْنِيَة. فَإِن قلت: مَا موقع هَذِه الْجُمْلَة من
الْإِعْرَاب؟ قلت: النصب، لِأَنَّهَا صفة أُخْرَى
لِلْقَوْلِ. قَوْله: (ووعاه قلبِي) ، عطف على: سمعته
اذناي، من الوعي وَهُوَ: الْحِفْظ. قَوْله: (وأبصرته
عَيْنَايَ) أَيْضا عطف على مَا قبله، وَأَصله: عينان لي،
فَلَمَّا أضيف إِلَى يَاء الْمُتَكَلّم سَقَطت نون
التَّثْنِيَة، وَاعْلَم أَن كل مَا فِي الْإِنْسَان
اثْنَان من الْأَعْضَاء تحو: الْأذن وَالْعين، فَهُوَ مؤنث
بِخِلَاف الْأنف وَنَحْوه. قَوْله: (حِين) ، نصب على
الظّرْف: لقام، وَسمعت، ووعاه، وأبصرت. قَوْله: (حمد الله)
جملَة وَقعت بَيَانا لقَوْله: تكلم. قَوْله: (واثنى
عَلَيْهِ) عطف على: حمد، من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص.
قَوْله: (حرمهَا الله) جملَة وَقعت فِي مَحل الرّفْع
لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (وَلم يحرمها النَّاس) عطف
على خبر: إِن. قَوْله: (فَلَا يحل) ، الْفَاء فِيهِ جَوَاب
شَرط مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلَا يحل.
قَوْله: (يُؤمن بِاللَّه) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ
لِأَنَّهَا صفة لامرىء. قَوْله: (أَن يسفك) فَاعل لَا يحل،
و: أَن، مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره: فَلَا يحل سفك دم.
قَوْله: (بهَا) أَي بِمَكَّة، و: الْبَاء، بِمَعْنى: فِي،
أَي: فِيهَا، كَمَا هِيَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي. قَوْله:
(دَمًا) مفعول ليسفك. قَوْله: (وَلَا يعضد) بِالنّصب
أَيْضا لِأَنَّهُ عطف على: يسفك. وَالتَّقْدِير: وَأَن لَا
يعضد. فَإِن قلت: فعلى هَذَا يكون الْمَعْنى: لَا يحل أَن
لَا يعضد؟ . قلت: لَا، زيدت لتأكيد معنى النَّفْي،
فَمَعْنَاه: لَا يحل أَن يعضد. قَوْله: (بهَا) أَي:
فِيهَا، وَهَكَذَا فِي بعض النّسخ، و: شَجَرَة، بِالنّصب
مفعول: يعضد. وَذكر بعض شرَّاح (الْمَشَارِق) للصغاني أَن
قَوْله: لَا يعضد، بِالرَّفْع ابْتِدَاء كَلَام، وفاعله
ضمير فِيهِ يرجع إِلَى أمرىء، وَعطفه على: لَا يحل، بِأَن
يكون تَقْدِيره: إِن مَكَّة حرمهَا الله لَا يعضد بهَا
أمرؤ شَجَرَة جَائِز. قلت: هَذَا تَوْجِيه حسن إِن ساعدته
الرِّوَايَة. قَوْله: (فَإِن أحد) : إِن
(2/140)
للشّرط، وَأحد، مَرْفُوع بِفعل مَحْذُوف
تَقْدِيره: فَإِن ترخص أحد، ويفسره قَوْله: ترخص، إِنَّمَا
حذف لِئَلَّا يجْتَمع الْمُفَسّر والمفسر، وَذَلِكَ كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن أحد من الْمُشْركين استجارك}
(التَّوْبَة: 6) تَقْدِيره: وَإِن استجارك أحد من
الْمُشْركين. قَوْله: (لقِتَال رَسُول الله عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، اللَّام فِيهِ للتَّعْلِيل.
قَوْله: (فَقولُوا) جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دخلت فِيهِ
الْفَاء. قَوْله: (قد أذن) خبر: إِن. وَقَوله: (لم يَأْذَن
لكم) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (وَإِنَّمَا أذن لي) ، رُوِيَ
بِصِيغَة الْمَجْهُول والمعلوم. قَوْله: (سَاعَة) ، نصب
على الظّرْف. قَوْله: (حرمتهَا) بِالرَّفْع فَاعل:
عَادَتْ. قَوْله: (الْيَوْم) ، نصب على الظّرْف. قَوْله:
(وليبلغ) يجوز بِكَسْر اللَّام وتسكينها، و: الشَّاهِد،
بِالرَّفْع فَاعله، و: الْغَائِب، بِالنّصب مَفْعُوله.
قَوْله: (يَا باشريح) أَصله يَا أَبَا شُرَيْح حذفت
الْهمزَة للتَّخْفِيف. قَوْله: (لَا تعيذ) جملَة فِي مَحل
الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف. أَي: مَكَّة لَا
تعيذ. قَوْله: (عَاصِيا) مفعول: لَا تعيذ، ويروى
بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، أَي: الْحرم لَا يعيذ عَاصِيا.
قَوْله: (وَلَا فَارًّا بِدَم) عطف على: عَاصِيا،
وَالْبَاء فِي: بِدَم، للمصاحبة، أَي: مصاحبا بِدَم
وملتسباً بِهِ. قَوْله: (وَلَا فار بخربة) ، عطف على مَا
قبله، وَالْبَاء فِيهِ للسَّبَبِيَّة.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (لعَمْرو بن سعيد) ، بِفَتْح
الْعين: وَهُوَ عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ ابْن أُميَّة
الْقرشِي الْأمَوِي، يعرف بالأشدق، لَيست لَهُ صُحْبَة
وَلَا كَانَ من التَّابِعين باحسان. ووالده مُخْتَلف فِي
صحبته. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يكنى أَبَا أُميَّة،
وَكَانَ أَمِير الْمَدِينَة، وغزا ابْن الزبير، رَضِي الله
عَنْهُمَا، ثمَّ قَتله عبد الْملك بن مَرْوَان بعد أَن
آمنهُ. وَيُقَال: إِنَّه الَّذِي رأى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وروى عَن عمر وَعُثْمَان، روى عَنهُ بنوه
وَأُميَّة وَسَعِيد. قلت: كَانَ قَتله سنة سبعين من
الْهِجْرَة. قَوْله: (وَهُوَ يبْعَث الْبعُوث إِلَى
مَكَّة) يَعْنِي: كَانَ عَمْرو بن سعيد يبْعَث الْجند
إِلَى مَكَّة لقِتَال ابْن الزبير، وَذَلِكَ أَنه لما
توفّي مُعَاوِيَة توجه يزِيد إِلَى عبد اللَّه بن الزبير
يَسْتَدْعِي مِنْهُ بيعَته، فَخرج إِلَى مَكَّة مُمْتَنعا
من بيعَته، فعضب يزِيد وَأرْسل إِلَى مَكَّة يَأْمر واليها
يحيى بن حَكِيم بِأخذ بيعَة عبد اللَّه، فَبَايعهُ وَأرْسل
إِلَى يزِيد بيعَته، فَقَالَ: لَا أقبل حَتَّى يُؤْتى بِهِ
فِي وثاق، فَأتى ابْن الزبير، وَقَالَ: أَنا عَائِذ
بِالْبَيْتِ، فَأبى يزِيد، وَكتب إِلَى عَمْرو بن سعيد أَن
يُوَجه إِلَيْهِ جنداً، فَبعث هَذِه الْبعُوث. قَالَ ابْن
بطال: وَابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، عِنْد
عُلَمَاء السّنة أولى بالخلافة من يزِيد وَعبد الْملك
لِأَنَّهُ بُويِعَ لِابْنِ الزبير قبل هَؤُلَاءِ، وَهُوَ
صَاحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قَالَ
مَالك: ابْن الزبير أولى من عبد الْملك. قَوْله: (من يَوْم
الْفَتْح) يَعْنِي فتح مَكَّة، وَكَانَ فِي عشْرين من
رَمَضَان فِي السّنة الثَّامِنَة من الْهِجْرَة. قَوْله:
(سمعته أذناي) إِلَى آخِره، إِشَارَة مِنْهُ إِلَى مبالغته
فِي حفظه من جَمِيع الْوُجُوه، فَفِي قَوْله: (سمعته
أذناي) نفي أَن يكون سَمعه من غَيره، كَمَا جَاءَ فِي
حَدِيث النُّعْمَان بن بشير، وأهوى النُّعْمَان
بِأُصْبُعَيْهِ إِلَى أُذُنَيْهِ. وَقَوله: (ووعاه قلبِي)
تَحْقِيق لفهمه والتثبت فِي تعقل مَعْنَاهُ. وَقَوله:
(وأبصرته عَيْنَايَ) زِيَادَة فِي تحقق السماع والفهم
عَنهُ بِالْقربِ مِنْهُ والرؤية، وَأَن سَمَاعه مِنْهُ
لَيْسَ اعْتِمَادًا على الصَّوْت دون حجاب، بل الرُّؤْيَة
والمشاهدة، وَالْهَاء فِي قَوْله: تكلم بِهِ، عَائِدَة على
قَوْله: أحَدثك. قَوْله: (حرمهَا الله) إِمَّا أَن يُرَاد
بِهِ مُطلق التَّحْرِيم، فَيتَنَاوَل كل محرماتها،
وَإِمَّا أَن يُرَاد بِهِ مَا ذكر بعده من سفك الدَّم وعضد
الشّجر. وَيُقَال: مَعْنَاهُ تفهيم المخاطبين بعظيم قدر
مَكَّة بِتَحْرِيم الله إِيَّاهَا، وَنفي مَا تعتقده
الْجَاهِلِيَّة وَغَيرهم من أَنهم حرمُوا وحللوا، كَمَا
حرمُوا أَشْيَاء من قبل أنفسهم، وأكد ذَلِك الْمَعْنى
بقوله: (وَلم يحرمها النَّاس) ، أَي: فتحريمها ابْتِدَاء
أَي من غير سَبَب يعزى لأحد لَا مدْخل فِيهِ لَا لنَبِيّ
وَلَا لعالم، ثمَّ بيّن التَّحْرِيم بقوله: (فَلَا يحل
لامرىء يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا
دَمًا) إِلَى آخِره، لِأَن من آمن بِاللَّه لَزِمته
طَاعَته، وَمن آمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر لزمَه
الْقيام بِمَا وَجب عَلَيْهِ، وَاجْتنَاب مَا نهى عَنهُ،
تخلصاً خوف الْحساب عَلَيْهِ، وَيُقَال: معنى: وَلم يحرمها
النَّاس: لَيْسَ من مُحرمَات النَّاس، حَتَّى لَا يعْتد
بِهِ، بل هِيَ من مُحرمَات الله. أَو مَعْنَاهُ: إِن
تَحْرِيمهَا بِوَحْي الله تَعَالَى، لَا أَنه اصْطلحَ
النَّاس على تَحْرِيمهَا بِغَيْر إِذن الله تَعَالَى.
قَوْله: (فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) مَعْنَاهُ: إِن قَالَ أحد بِأَن ترك
الْقِتَال عَزِيمَة، والقتال رخصَة يتعاطى عِنْد الْحَاجة
مستدلاً بِقِتَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِيهَا، فَقولُوا لَهُ: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، فَإِن
الله أذن لرَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يَأْذَن
لكم، وَإِنَّمَا أذن لَهُ فِيهَا سَاعَة من نَهَار،
يَعْنِي فِي إِرَاقَة دم كَانَ مُبَاحا خَارج الْحرم،
وَالْحُرْمَة كَانَت للحرم فِي إِرَاقَة دم محرم الإراقة،
فَكَانَ الْحرم فِي حَقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي
تِلْكَ السَّاعَة بِمَنْزِلَة الْحل، ثمَّ عَادَتْ حرمتهَا
كَمَا كَانَت، وَإِنَّمَا قَالَ: فَإِن أحد ترخص لقِتَال
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يُقَال: لقتالي
بَيَانا لاستظهار التَّرَخُّص، فَإِن الرَّسُول الْمبلغ
للشرائع، إِذا فعل ذَلِك كَانَ دَلِيلا على جَوَاز
التَّرَخُّص. وَإِنَّمَا الْتفت ثَانِيًا بقوله:
(وَإِنَّمَا أذن لي) وَلم يقل: أذن لَهُ، بَيَانا لاختصاصه
بذلك بِالْإِضَافَة إِلَى ضَمِيره كَمَا فِي قَول امرىء
الْقَيْس:
(2/141)
(وَذَلِكَ من نبأ جَاءَنِي ... وخبرته عَن
أبي الْأسود)
قَوْله: (سَاعَة من نَهَار) أَرَادَ بِهِ مِقْدَارًا من
الزَّمَان من يَوْم الْفَتْح وَهُوَ زمَان الدُّخُول
فِيهَا، وَلَا يعلم من الحَدِيث إِبَاحَة عضد الشّجر
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ
السَّاعَة. قَوْله: (حرمتهَا) أَي الحكم الَّذِي فِي
مُقَابلَة الْإِبَاحَة المستفادة من لفظ الْإِذْن، وَلَفظ
الْيَوْم يُطلق وَيُرَاد بِهِ يَوْمك الَّذِي أَنْت فِيهِ.
أَي: من يَوْم وَقت طُلُوع الشَّمْس إِلَى غُرُوبهَا،
وَيُطلق وَيُرَاد بِهِ الزَّمَان الْحَاضِر الْمَعْهُود،
وَقد يكون أَكثر من يَوْم وَاحِد وَأَقل، وَكَذَا حكم
الأمس. فَإِن قلت: مَا المُرَاد بِهِ هَهُنَا؟ قلت:
الظَّاهِر أَنه الْحَاضِر وَيحْتَمل أَيْضا الْمَعْنى
الآخر أَي مَا بَين الطُّلُوع إِلَى الْغُرُوب. وَتَكون
حينئذٍ اللَّام للْعهد من يَوْم الْفَتْح، إِذْ عود
حرمتهَا كَانَ فِي يَوْم الْفَتْح لَا فِي غَيره الَّذِي
هُوَ يَوْم صُدُور هَذَا القَوْل، وَكَذَا اللَّام فِي
الأمس يكون معهوداً من أمس يَوْم الْفَتْح. قَوْله: (مَا
قَالَ عَمْرو) أَي فِي جوابك، فَقَالَ أَبُو شُرَيْح:
قَالَ، أَي عَمْرو: أَنا اعْلَم مِنْك: قَالَ ابْن بطال:
مَا قَالَه لَيْسَ بِجَوَاب لِأَنَّهُ لم يخْتَلف مَعَه
فِي أَن من أصَاب حدا فِي غير الْحرم ثمَّ لَجأ إِلَى
الْحرم هَل يُقَام عَلَيْهِ؟ وَإِن مَا أنكرهُ عَلَيْهِ
أَبُو شُرَيْح بَعثه الْخَيل إِلَى مَكَّة واستباحته
حرمتهَا بِنصب الْحَرْب عَلَيْهَا، فحاد عَمْرو عَن
الْجَواب، وَاحْتج أَبُو شُرَيْح بِعُمُوم الحَدِيث، وَذهب
إِلَى أَن مثله لَا يجوز أَن يستباح نَفسه وَلَا ينصب
الْحَرْب عَلَيْهَا بِقِتَال بَعْدَمَا حرمهَا رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: لما سمع
عَمْرو ذَلِك رده بقوله: أَنا أعلم، وَيَعْنِي: إِن صَحَّ
سماعك وحفظك لَكِن مَا فهمت الْمَعْنى المُرَاد من
الْمُقَاتلَة، فَإِن ذَلِك التَّرَخُّص كَانَ بِسَبَب
الْفَتْح عنْوَة وَلَيْسَ بِسَبَب قتل من اسْتَحَقَّه
خَارج الْحرم، وَالَّذِي أَنا بصدده من الْقَبِيل
الثَّانِي لَا من الأول، فَكيف تنكر عَليّ؟ فَهُوَ من
القَوْل بِالْمُوجبِ، يَعْنِي: الْجَواب مُطَابق وَلَيْسَ
مجاوبة من غير سُؤَاله. قلت: كَونه جَوَابا على اعْتِقَاد
عَمْرو فِي ابْن الزبير، وَالله اعْلَم، وَقد شنع عَلَيْهِ
ابْن حزم فِي ذَلِك فِي (الْمحلى) فِي كتاب الْجِنَايَات،
فَقَالَ: لَا كَرَامَة للئيم الشَّيْطَان الشرطي
الْفَاسِق، يُرِيد أَن يكون أعلم من صَاحب رَسُول الله،
صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَهَذَا
الْفَاسِق هُوَ العَاصِي لله وَلِرَسُولِهِ وَمن وَالَاهُ
أَو قَلّدهُ، وَمَا حَامِل الخزي فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَة إلاَّ هُوَ وَمن أمره وَصوب قَوْله، وَكَأن
ابْن حزم إِنَّمَا ذكر ذَلِك لِأَن عمرا ذكر ذَلِك عَن
اعْتِقَاده فِي ابْن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا.
وَقَالَ ابْن بطال اخْتلف الْعلمَاء فِي الصَّحَابِيّ إِذا
روى الحَدِيث هَل يكون أولى بتأويله مِمَّن يَأْتِي بعده
أم لَا؟ فَقَالَت طَائِفَة تَأْوِيل الصَّحَابِيّ أولى
لِأَنَّهُ الرَّاوِي للْحَدِيث، وَهُوَ أعلم بمخرجه
وَسَببه. وَقَالَ آخَرُونَ: لَا يلْزم تَأْوِيله إِذا لم
يصب التَّأْوِيل. وَقَالَ الْمَازرِيّ فِي (شرح كتاب
الْبُرْهَان) : مُخَالفَة الرَّاوِي لما رَوَاهُ على
أَقسَام: مُخَالفَة بِالْكُلِّيَّةِ، وَمُخَالفَة ظَاهِرَة
على وَجه التَّخْصِيص، وَتَأْويل مُحْتَمل أَو مُجمل. وكل
هَذِه الْأَقْسَام فِيهَا الْخلاف. قَالَ إِمَام
الْحَرَمَيْنِ: مَذْهَب الشَّافِعِي اتِّبَاع رِوَايَته
لَا عمله، وَمذهب أبي حنيفَة اتِّبَاع عمله لَا رِوَايَته،
فَإِذا كَانَ الحَدِيث عَاما فَهَل يخص بِعَمَل رَاوِيه،
وَكَذَا إِذا كَانَ لفظ الحَدِيث مُجملا فَصَرفهُ
الرَّاوِي إِلَى أحد محتملاته، هَل يُصَار إِلَى مذْهبه؟
فَفِي ذَلِك خلاف. وَقَالَ الْخَطِيب: ظَاهر مَذْهَب
الشَّافِعِي أَنه إِن كَانَ تَأْوِيل الرَّاوِي يُخَالف
ظَاهر الحَدِيث رَجَعَ إِلَى الحَدِيث، وَإِن كَانَ أحد
محتملاته الظَّاهِرَة رَجَعَ إِلَيْهِ، وَمثله إِمَام
الْحَرَمَيْنِ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الذَّهَب
بِالذَّهَب رَبًّا إلاَّ هَا وَهَا) ، حمله ابْن عمر،
رَضِي الله عَنْهُمَا، على التَّقَابُض فِي الْمجْلس،
وَحَدِيث ابْن عمر: (البيعان بِالْخِيَارِ مَا لم
يَتَفَرَّقَا) حمله ابْن عمر على فرقة الْأَبدَان، وَذكر
الْحَنَفِيَّة حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ،
فِي ولوغ الْكَلْب سبعا، وَأَن مَذْهَب أبي هُرَيْرَة
جَوَاز الِاقْتِصَار على الثَّلَاث. وَأَن السَّبع
مَنْدُوبَة. وَقَالَ الْمَازرِيّ، وَغَيره: يَنْبَغِي أَن
يعد حَدِيث أبي هُرَيْرَة من بَاب الْمُخَالفَة الَّتِي
هِيَ بِمَعْنى النّسخ لَا بِمَعْنى التَّخْصِيص، فَإِن
الِاقْتِصَار على الثَّلَاث مُخَالفَة للعدد الْمَحْدُود
وَهُوَ السَّبع. قلت: إِنَّمَا خَالف أَبُو هُرَيْرَة
الْعدَد السَّبع لثُبُوت انتساخه عِنْده، وَالْحمل
عَلَيْهِ تَحْسِين الظَّن فِي حق الصَّحَابِيّ. وَقَالَ
الْمَازرِيّ: وَيَنْبَغِي أَن يكون مثله حَدِيث عَائِشَة،
رَضِي الله عَنْهَا، وَقَول أبي القعيس لَهَا: أتحتجبين
مني وَأَنا عمك؟ قَالَت: كَيفَ ذَلِك؟ فَقَالَ: أَرْضَعتك
امْرَأَة أخي بِلَبن أخي. قَالَت: فَسَأَلت عَن ذَلِك
رَسُول الله صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم:
(فَقَالَ: صدق أَفْلح إيذني لَهُ) فروته وأفتته
بِخِلَافِهِ، فَكَانَ يدْخل عَلَيْهَا من أرضعه أخواتها
وَبَنَات أُخْتهَا، وَلَا يدْخل عَلَيْهَا من أرضعه نسَاء
إخوتها. وَلم يحرم بِلَبن الْفَحْل هِيَ وَابْن عمر وَابْن
الزبير وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْمسيب وَالقَاسِم وَأَبُو
سَلمَة وَأهل الظَّاهِر، وَاحْتَجُّوا بِأَن عَائِشَة روته
وَلم تعْمل بِهِ وَلم يَأْخُذ بِهِ الْكُوفِيُّونَ وَلَا
الشَّافِعِي وَلَا التفتوا إِلَى تَأْوِيلهَا، وَأخذُوا
بحديثها وافتوا بِتَحْرِيم لبن
(2/142)
الْفَحْل. وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي
الله عَنْهُمَا، فِي بَرِيرَة، أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم خَيرهَا بعد أَن اشترتها عَائِشَة
وأعتقتها، وَأَن ابْن عَبَّاس يُفْتِي أَن بيعهَا طَلَاق،
وَمَا رَوَاهُ مُخَالف لفتياه، لِأَنَّهُ لَو كَانَ بيعهَا
طَلَاقا لم يُخَيّر وَهِي مُطلقَة؟ وروت عَائِشَة، قَالَت:
فرضت الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ فزيد فِي صَلَاة الْحَضَر
وأقرت صَلَاة السّفر، وَكَانَت عَائِشَة تتمّ. فَترك
الْكُوفِيُّونَ وَالْقَاضِي إِسْمَاعِيل قَوْلهَا وَأخذُوا
بحديثها، وَقَالُوا: قصر الصَّلَاة فِي السّفر فَرِيضَة،
وَرَوَاهُ أَشهب عَن مَالك، وروى عَنهُ أَبُو مُصعب أَنه
سنة، وَذهب جمَاعَة وَالشَّافِعِيّ إِلَى التَّخْيِير بَين
الْقصر والإتمام، وَالله اعْلَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: فِي قَول أبي شُرَيْح: (ائْذَنْ لي أَيهَا
الْأَمِير) حُسن التلطف فِي الْإِنْكَار لَا سِيمَا مَعَ
الْمُلُوك فِيمَا يُخَالف مقصودهم، لِأَن التلطف بهم أدعى
لقبولهم لَا سِيمَا من عرف مِنْهُ بارتكاب هَوَاهُ، وَأَن
الغلظة عَلَيْهِم قد تكون سَببا لإثارة فتْنَة ومعاندة.
الثَّانِي: فِيهِ وَفَاء أبي شُرَيْح، رَضِي الله عَنهُ،
بِمَا أَخذه الله على الْعلمَاء من الْمِيثَاق فِي
تَبْلِيغ دينه ونشره حَتَّى يظْهر، وَقد روى ابْن إِسْحَاق
فِي آخِره أَنه قَالَ لَهُ عَمْرو بن سعيد: نَحن أعلم
بحرمتها مِنْك، فَقَالَ لَهُ أَبُو شُرَيْح: إِنِّي كنتُ
شَاهدا وكنتَ غَائِبا، وَقد أمرنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن يبلغ شاهدُنا غائبنا، وَقد أبلغتك
فَأَنت وشأنك. وَقَالَ ابْن بطال: كل من خاطبه النَّبِي،
صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، بتبليغ الْعلم من كَانَ
فِي زَمَنه فالتبليغ عَلَيْهِ مُتَعَيّن، وَأما من بعدهمْ
فالتبليغ عَلَيْهِم فرض كِفَايَة. قلت: فِيهِ نظر، فقد ذكر
أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ أَن التَّبْلِيغ عَن النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فرض كِفَايَة إِذا قَامَ
بِهِ وَاحِد سقط عَن البَاقِينَ، وَقد كَانَ النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا نزل عَلَيْهِ
الْوَحْي وَالْحكم لَا يبوح بِهِ فِي النَّاس، لَكِن يخبر
بِهِ من حَضَره ثمَّة على لِسَان أُولَئِكَ إِلَى مَن
ورَاءهم قوما بعد قوم، قَالَ: فالتبليغ فرض كِفَايَة
والإصغاء فرض عين، والوعي وَالْحِفْظ يترتبان على معنى مَا
يستمع بِهِ، فَإِن كَانَ مَا يَخُصُّهُ تعين عَلَيْهِ،
وَإِن كَانَ يتَعَلَّق بِهِ وَبِغَيْرِهِ كَانَ الْعَمَل
فرض عين، والتبليغ فرض كِفَايَة، وَذَلِكَ عِنْد الْحَاجة
إِلَيْهِ، وَلَا يلْزمه أَن يَقُول ابْتِدَاء وَلَا بعده،
فقد كَانَ قوم من الصَّحَابَة يكثرون الحَدِيث: قَالَ
رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فحبسهم عمر،
رَضِي الله عَنهُ، حَتَّى مَاتَ وهم فِي سجنه. هَذَا آخر
كَلَامه.
الثَّالِث: اسْتدلَّ بقوله: (لَا يحل لأحد يُؤمن بِاللَّه
وَالْيَوْم الآخر) الحَدِيث، بَعضهم على أَن الْكفَّار غير
مخاطبين بِفُرُوع الشَّرِيعَة، وَالصَّحِيح عِنْد
الْأُصُولِيِّينَ خِلَافه. وَأجِيب: بِأَنَّهُ لَا
مَفْهُوم لَهُ، وَقد اسْتعْمل منطوقه بِتَحْرِيم الْقِتَال
على الْمُؤمن فِيهَا.
الرَّابِع: اسْتدلَّ بَعضهم بقوله: (أَن يسفك بهَا دَمًا)
على تَحْرِيم الْقِتَال بِمَكَّة، وَهُوَ الَّذِي يدل
عَلَيْهِ السِّيَاق، وَهُوَ قَوْله: (فَإِن أحد ترخص) الخ.
وَقَوله فِي بعض طرق الحَدِيث: (وَإنَّهُ لم يحل الْقِتَال
لأحد قبلي) ، وَالضَّمِير فِي: إِنَّه، للشأن. وَهَذِه
الْأَحَادِيث ظَاهرهَا يدل على أَن حكم الله تَعَالَى أَن
لَا يُقَاتل من كَانَ بِمَكَّة، ويؤمن من استجار بهَا
وَلَا يتَعَرَّض لَهُ، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَغَيره فِي
تَفْسِير قَوْله تَعَالَى: {أَو لم يرَوا إِنَّا جعلنَا
حرما آمنا} (العنكبوت: 67) وَكَانَت عَادَة الْعَرَب
احترام مَكَّة. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: من خَصَائِص
الْحرم أَن لَا يحارب أَهله، فَإِن بغوا على أهل الْعدْل،
قَالَ بعض الْفُقَهَاء: يحرم قِتَالهمْ ويضيقوا عَلَيْهِم
حَتَّى يرجِعوا إِلَى الطَّاعَة. وَقَالَ جُمْهُور
الْفُقَهَاء: يُقَاتلُون على بغيهم إِذا لم يُمكن ردهم
إلاَّ بِالْقِتَالِ، لِأَن قتال أهل الْبَغي من حُقُوق
الله تَعَالَى الَّتِي لَا تجوز إضاعتها، فحفظها فِي
الْحرم أولى من إضاعتها. قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا هُوَ
الصَّوَاب، وَقد نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي فِي كتاب:
اخْتِلَاف الحَدِيث، فِي (الْأُم) . وَأجَاب الشَّافِعِي
عَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بِأَن التَّحْرِيم يعود
إِلَى نصب الْقِتَال وقتالهم بِمَا يعم كالمنجنيق وَغَيره
إِذا لم يُمكن إصْلَاح الْحَال بِدُونِهِ، بِخِلَاف مَا
إِذا تحصن الْكفَّار بِبَلَد آخر، فَإِنَّهُ يجوز
قِتَالهمْ على كل وَجه بِكُل شَيْء. وَقَالَ الْقفال، من
أَصْحَاب الشَّافِعِي، فِي (شرح التَّلْخِيص) فِي أول كتاب
النِّكَاح: لَا يجوز الْقِتَال بِمَكَّة، وَلَو تحصنت
جمَاعَة من الْكفَّار فِيهَا لم يجز قِتَالهمْ. قَالَ
النَّوَوِيّ: الَّذِي قَالَه الْقفال غلط، نبهت عَلَيْهِ.
قلت: بل هُوَ مُوَافق لِلْقَوْلِ الأول الَّذِي حَكَاهُ
الْمَاوَرْدِيّ. وَظَاهر الحَدِيث يعضده، فَإِن قَوْله:
(لَا يحل لأحد) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي فتعم.
الْخَامِس: اسْتدلَّ أَبُو حنيفَة بقوله: (لَا يحل لمن
يُؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن يسفك بهَا دَمًا) على
أَن الملتجىء إِلَى الْحرم لَا يقتل لِأَنَّهُ عَام يدْخل
فِيهِ هَذِه الصُّورَة، وَحكى ابْن بطال اخْتِلَاف
الْعلمَاء فِيمَن أصَاب حدا من قتل أَو زنا أَو سَرقَة،
فَقَالَ ابْن عَبَّاس وَعَطَاء وَالشعْبِيّ: إِن إصابه فِي
الْحرم أقيم عَلَيْهِ وَإِن أَصَابَهُ فِي غير الْحرم لَا
يُجَالس وَلَا يدانى حَتَّى يخرج فيقام عَلَيْهِ، لِأَن
الله تَعَالَى جعله آمنا دون غَيره فَقَالَ: {وَمن دخله
كَانَ آمنا} (آل عمرَان: 97) وَقَالَ آخَرُونَ: إِذا
أَصَابَهُ فِي غير الْحرم ثمَّ لَجأ إِلَيْهِ يخرج ويقام
عَلَيْهِ الْحَد، وَلم يحضروا مُجَالَسَته وَلَا مسامعته،
وَهُوَ مَذْهَب ابْن الزبير وَالْحسن وَمُجاهد. وَقَالَ
آخَرُونَ:
(2/143)
لايمنع من إِقَامَة الْحَد فِيهِ،
والملتجىء إِلَيْهِ عَلَيْهِ الْحَد الَّذِي وَجب عَلَيْهِ
قبل أَن يلجأ إِلَيْهِ، وَهُوَ مَذْهَب عَمْرو بن سعيد
كَمَا ذكر فِي الحَدِيث. وَحكى الْقُرْطُبِيّ أَن ابْن
الْجَوْزِيّ حكى الْإِجْمَاع فِيمَن جنى فِي الْحرم: انه
يُقَاد مِنْهُ، وفيمن جنى خَارجه ثمَّ لَجأ إِلَيْهِ عَن
أبي حنيفَة وَأحمد أَنه لَا يُقَام عَلَيْهِ. قلت: مَذْهَب
مَالك وَالشَّافِعِيّ يُقَام عَلَيْهِ. وَنقل ابْن حزم عَن
جمَاعَة من الصَّحَابَة الْمَنْع، ثمَّ قَالَ: وَلَا
مُخَالف لَهُم من الصَّحَابَة، ثمَّ نقل عَن جمَاعَة من
التَّابِعين موافقتهم، ثمَّ شنع على مَالك وَالشَّافِعِيّ،
فَقَالَ: قد خالفا فِي هَذَا هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة
وَالْكتاب وَالسّنة، وَاحْتج بَعضهم لمذهبهما بِقصَّة ابْن
خطل. وَأجِيب عَنْهَا بأوجه. أَحدهَا: أَنه ارْتَدَّ وَقتل
مُسلما وَكَانَ يهجو النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام. الثَّانِي: أَنه لم يدْخل فِي الْأمان
فَإِنَّهُ اسْتَثْنَاهُ وَأمر بقتْله وَإِن وجد مُعَلّقا
باستار الْكَعْبَة. الثَّالِث: أَنه كَانَ مِمَّن قَاتل،
وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ إِنَّمَا قتل فِي تِلْكَ
السَّاعَة الَّتِي أبيحت لَهُ، وَهُوَ غَرِيب، فَإِن
سَاعَة الدُّخُول حِين استولى عَلَيْهَا وأذعن أَهلهَا،
وَقتل ابْن خطل بعد ذَلِك، وَبعد قَوْله: (من دخل
الْمَسْجِد فَهُوَ آمن) ، وَقد دخل لكنه اسْتَثْنَاهُ مَعَ
جمَاعَة غَيره.
السَّادِس: فِي قَوْله: (فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول
الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) دَلِيل على على أَن
مَكَّة فتحت عنْوَة، وَهُوَ مَذْهَب الْأَكْثَرين. قَالَ
القَاضِي عِيَاض: وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأبي حنيفَة
وَالْأَوْزَاعِيّ، لَكِن من رَآهَا عنْوَة يَقُول: إِن
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، منَّ على
أَهلهَا وسوغهم أَمْوَالهم ودورهم وَلم يقسمها وَلم
يَجْعَلهَا فَيْئا. قَالَ أَبُو عبيد: وَلَا يعلم مَكَّة
يشبهها شَيْء من الْبِلَاد. وَقَالَ الشَّافِعِي وَغَيره:
فتحت صلحا، وتأولوا الحَدِيث بِأَن الْقِتَال كَانَ
جَائِزا، لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَو
احْتَاجَ إِلَيْهِ، ويضعف هَذَا التَّأْوِيل قَوْله فِي
الحَدِيث: (فَإِن أحد ترخص لقِتَال رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام) فَإِنَّهُ يدل على وجود الْقَتْل.
وَقَوله: (من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن) ،
وَكَذَلِكَ غَيره من النَّاس الْمُعَلق على أَشْيَاء
مَخْصُوصَة، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: عِنْدِي أَن أَسْفَل
مَكَّة دخله خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله عَنهُ
عنْوَة، وأعلاها دخله الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله
عَنهُ، صلحا، ودخلها الشَّارِع من جِهَته، فَصَارَ حكم
جِهَته الْأَغْلَب.
السَّابِع: فِي قَوْله: (وَلَا يعضد بهَا شَجَرَة) دَلِيل
على حُرْمَة قطع شجر الْحرم، وَفِي رِوَايَة: (وَلَا يعضد
شوكه) ، وَفِي رِوَايَة: (وَلَا يخبط شَوْكهَا) . قَالَ
النَّوَوِيّ: اتّفق الْعلمَاء على تَحْرِيم قطع أشجارها
الَّتِي لَا ينبتها الآدميون فِي الْعَادة وعَلى تَحْرِيم
خَلاهَا، وَاخْتلفُوا فِيمَا ينبته الآدميون، وَكَذَلِكَ
اخْتلفُوا فِي ضَمَان الشَّجَرَة إِذا قلعهَا، فَقَالَ
مَالك: يَأْثَم وَلَا فديَة عَلَيْهِ، وَقَالَ
الشَّافِعِي: الْوَاجِب فِي الْكَبِيرَة بقرة وَفِي
الصَّغِيرَة شَاة، وَكَذَا جَاءَ عَن ابْن عَبَّاس وَابْن
الزبير، رَضِي الله عَنْهُم، وَبِه قَالَ أَحْمد. وَقَالَ
أَبُو حنيفَة: الْوَاجِب فِي الْجَمِيع الْقيمَة، وَيجوز
عِنْد الشَّافِعِي وَمن وَافقه رعي الْبَهَائِم فِي كلأ
الْحرم، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد: لَا يجوز، والكلأ
والعشب اسْم للرطب، والحشيش اسْم لليابس مِنْهُ، والكلأ
يُطلق عَلَيْهِمَا. قَوْله: (وَلَا يعضد شوكه) دَلِيل على
تَحْرِيم قطع الشوك المؤذي وَغَيره، وَقد أَخذ بِهِ بَعضهم
عملا بِعُمُوم الحَدِيث وَقَالَ بَعضهم لَا يحرم الشوك
لأذاه تَشْبِيها بالفواسق الْخمس، وخصوا الحَدِيث
بِالْقِيَاسِ. قَالَ الْخطابِيّ: أَكثر الْعلمَاء على
إِبَاحَة الشوك، وَيُشبه أَن يكون الْمَحْظُور مِنْهُ مَا
ترعاه الْإِبِل، وَهُوَ مَا رق مِنْهُ دون الصلب الَّذِي
لَا ترعاه، فَيكون ذَلِك كالحطب وَغَيره. قلت: صحّح
الْمُتَوَلِي، من الشَّافِعِيَّة، التَّحْرِيم مُطلقًا،
وَالْقِيَاس الْمَذْكُور ضَعِيف لقِيَام الْفَارِق وَهُوَ
أَن الفواسق الْخمس تقصد الْأَذَى بِخِلَاف الشوك.
الثَّامِن: فِي قَوْله: (وليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب)
صَرَاحَة بِنَقْل الْعلم وإشاعة السّنَن والاحكام، وَهُوَ
إِجْمَاع.
التَّاسِع: أَن الحَدِيث يدل صَرِيحًا على تَحْرِيم الله
مَكَّة، وَأبْعد من قَالَ: إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، أول من افْتتح ذَلِك، وَالصَّوَاب،
أَنَّهَا مُحرمَة من يَوْم خلق الله السَّمَوَات
وَالْأَرْض.
الْعَاشِر: فِيهِ النَّصِيحَة لولاة الْأُمُور وَعدم
الْغِشّ لَهُم والإغلاظ عَلَيْهِم.
الْحَادِي عشر: فِيهِ ذكر التَّأْكِيد فِي الْكَلَام.
الثَّانِي عشر: فِيهِ تَقْدِيم الْحَمد على الْمَقْصُود.
الثَّالِث عشر: فِيهِ إِثْبَات الْقيمَة.
الرَّابِع عشر: فِيهِ اخْتِصَاص الرَّسُول، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، بخصائص.
الْخَامِس عشر: فِيهِ جَوَاز الْقيَاس عَلَيْهِ، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَوْلَا الْعلم بِكَوْن الحكم من
خَصَائِصه.
السَّادِس عشر: فِيهِ جَوَاز النّسخ، إِذْ نسخ الْإِبَاحَة
للرسول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْحُرْمَةِ.
السَّابِع عشر: فِيهِ جَوَاز المجادلة.
الثَّامِن عشر: فِيهِ مُخَالفَة التَّابِعِيّ للصحابي
بِالِاجْتِهَادِ.
التَّاسِع عشر: فِيهِ فضل أبي شُرَيْح لاتباعه أَمر
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالتبليغ
عَنهُ.
الْعشْرُونَ: فِيهِ وجوب الْإِنْكَار من الْعَالم على
الْأَمِير إِذا رأى أَنه غيّر شَيْئا من الدّين، وَإِن لم
يسْأَل عَنهُ.
الْحَادِي وَالْعشْرُونَ: فِي قَوْله: (ووعاه قلبِي)
دَلِيل على أَن الْعقل مَحَله الْقلب لَا الدِّمَاغ،
وَهُوَ قَول الْجُمْهُور، لِأَنَّهُ لَو كَانَ مَحَله
الدِّمَاغ لقَالَ: ووعاه
(2/144)
رَأْسِي، وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث
إِنَّه مُشْتَرك بَينهمَا.
الثَّانِي وَالْعشْرُونَ: فِيهِ أَن التَّحْلِيل
وَالتَّحْرِيم من عِنْد الله لَا مدْخل لبشر فِيهِ، وَأَن
ذَلِك لَا يعرف إلاَّ مِنْهُ فعلا وقولاً وتقريراً.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله: (إِن
مَكَّة حرمهَا الله وَلم يحرمها النَّاس) يُعَارضهُ
قَوْله: عَلَيْهِ السَّلَام: (إِن إِبْرَاهِيم حرم مَكَّة)
الحَدِيث. وَأجِيب: بِأَن نِسْبَة الحكم لإِبْرَاهِيم على
معنى التَّبْلِيغ، فَيحْتَمل أَن تَحْرِيم إِبْرَاهِيم
لَهَا بإعلام الله تَعَالَى أَنه حرمهَا، فتحريمه لَهَا
بِتَحْرِيم الله لَا بِاجْتِهَادِهِ، أوكل الله إِلَيْهِ
تَحْرِيمهَا فَكَانَ عَن أَمر الله، فأضيف إِلَى الله مرّة
لذَلِك، وَمرَّة لإِبْرَاهِيم، أَو أَنه دعى إِلَيْهِ
فَكَانَ تَحْرِيم الله لَهَا بدعوته. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ
وَغَيره من الْعلمَاء: قيل: إِن مَكَّة مَا زَالَت مُحرمَة
من يَوْم خلق الله السَّمَوَات وَالْأَرْض. وَقيل: كَانَت
حَلَالا إِلَى زمن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَالْأول قَول الْأَكْثَرين وأوفق للْحَدِيث.
وَأجِيب: عَن حَدِيث إِبْرَاهِيم بِأَن التَّحْرِيم كَانَ
خفِيا ثمَّ أظهره إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام،
وَقَالَ أَصْحَاب القَوْل الثَّانِي: إِن معنى الحَدِيث
أَن الله كتب فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَغَيره يَوْم خلق
السَّمَوَات وَالْأَرْض: إِن إِبْرَاهِيم سيحرم مَكَّة،
بِإِذن الله تَعَالَى. وَمِنْهَا مَا قيل: لِمَ خصص من
بَين مَا يجب بِهِ الْإِيمَان هذَيْن اللَّفْظَيْنِ:
الْإِيمَان بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَي الْقِيَامَة؟
أُجِيب: بِأَن الأول إِشَارَة إِلَى المبدأ وَالثَّانِي
إِلَى الْمعَاد، والبواقي دَاخِلَة تحتهما. وَمِنْهَا مَا
قيل: لِمَ سمي يَوْم الْقِيَامَة الْيَوْم الآخر؟ أُجِيب:
بِأَنَّهُ لَا ليل بعده، وَلَا يُقَال: يَوْم إلاَّ لمَا
تقدمه ليل. وَمِنْهَا مَا قيل: هَل أحل للنَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي السَّاعَة الَّتِي أحلّت لَهُ
مَكَّة سَائِر الْأَشْيَاء؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ أحلّت لَهُ
فِي تِلْكَ السَّاعَة: الدَّم دون الصَّيْد، وَقطع الشّجر،
وَسَائِر مَا حرم الله على النَّاس.
105 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ الوَهَّابِ قالَ:
حدّثنا حَمَّادٌ عنْ أيُّوبَ عَنْ مُحمَّدٍ عنِ ابنِ أبي
بَكْرَةَ، عنْ أبي بَكْرَةَ ذُكِرَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قالَ: (فإنّ دِمَاءَكُمْ وأموَالَكُمْ) .
قالَ مُحمَّدٌ: وأحْسِبُهُ قالَ: وأعْرَاضَكُمْ:
(عَلَيْكُمْ حَرَامٌ كَحُرْمَة يَوْمكُمْ هَذَا فِي
شَهْرِكُمْ هَذَا، أَلا لِيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ مِنْكُمُ
الغَائِبَ) وكانَ مُحَمَّدٌ يَقُولَ: صَدَقَ رسولُ اللَّهِ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كانَ ذَلِكَ، (ألاَ هَلْ
بَلَّغْتُ) . مَرَّتَيْنِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أَلا ليبلغ
الشَّاهِد مِنْكُم الْغَائِب) .
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن عبد
الْوَهَّاب أَبُو مُحَمَّد الحَجبي، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَالْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْبَصْرِيّ
انْفَرد البُخَارِيّ بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ، وروى
النَّسَائِيّ عَن رجل عَنهُ، وَلم يخرج لَهُ مُسلم وَأَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه، وَهُوَ ثِقَة ثَبت،
وَثَّقَهُ يحيى وَآخَرُونَ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَدُوق
ثِقَة، توفّي سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم.
الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد تقدم.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين وَقد مر. الْخَامِس: أَبُو
بكرَة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، واسْمه نفيع، وَقد
تقدم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رِجَاله كلهم بصريون. وَمِنْهَا:
أَنه وَقع فِي بعض النّسخ: عَن مُحَمَّد عَن أبي بكرَة
بِحَذْف ابْن أبي بكرَة بَينهمَا، وَفِي بَعْضهَا: عَن
مُحَمَّد بن أبي بكرَة بتبديل: عَن، بِلَفْظ ابْن،
وَكِلَاهُمَا وهم فَاحش. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين:
وَأما سَنَد هَذَا الحَدِيث فقد وَقع فِي البُخَارِيّ
فِيهِ اضْطِرَاب من الروَاة عَن الْفربرِي. قَالَ أَبُو
عَليّ الغساني: وَقع فِي نُسْخَة أبي ذَر الْهَرَوِيّ،
فِيمَا قَيده عَن الْحَمَوِيّ وَأبي الْهَيْثَم عَن
الْفربرِي: عَن مُحَمَّد عَن أبي بكرَة، هُنَا سقط ابْن
أبي بكرَة. وَرَوَاهُ سَائِر رُوَاة الْفربرِي، بِإِثْبَات
ابْن أبي بكرَة بَين مُحَمَّد وَأبي بكرَة، وَوَقع الْخلَل
فِيهِ أَيْضا فِي كتاب بَدْء الْخلق والمغازي، وَقَالَ
أَبُو الْحسن الْقَابِسِيّ: فِي نُسْخَة أبي زيد أَيُّوب:
عَن مُحَمَّد بن أبي بكرَة، وَفِي نُسْخَة الْأصيلِيّ:
مُحَمَّد عَن أبي بكرَة على الصَّوَاب. وَذكر
الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب الْعِلَل) : إِن إِسْمَاعِيل
بن علية وَعبد الْوَارِث روياه عَن أَيُّوب عَن مُحَمَّد
عَن أبي بكرَة، لم يذكرَا بَينهمَا أحدا، وَكَذَا رَوَاهُ
يُونُس: عَن عبيد عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي بكرَة،
وَرَوَاهُ قُرَّة بن خَالِد: عَن مُحَمَّد بن سِيرِين.
قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة وَرجل آخر
أفضل من عبد الرَّحْمَن. وَسَماهُ أَبُو عَامر الْعَقدي:
حميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي. انْتهى كَلَامه.
وَقَالَ الغساني: اتِّصَال هَذَا الْإِسْنَاد وَصَوَابه
أَن يكون: عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن عبد الرَّحْمَن بن
أبي بكرَة عَن أَبِيه وَعَن مُحَمَّد بن سِيرِين أَيْضا
عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن الْحِمْيَرِي عَن أبي بكرَة،
رَضِي الله عَنهُ. قلت: الصَّوَاب الَّذِي ذكره
(2/145)
هُوَ رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني كَمَا تقدم فِي
أَوَائِل كتاب الْعلم من طَرِيق أُخْرَى: عَن مُحَمَّد عَن
عبد الرَّحْمَن بن أبي بكرَة عَن أَبِيه، وَقد تقدم
هُنَاكَ أَكثر مَا يتَعَلَّق بِهَذَا الحَدِيث.
بَيَان الْإِعْرَاب واللغات: قَوْله: (ذكر النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَالَ: فَإِن دماءكم)
أَي: ذكر أَبُو بكرَة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَلَيْسَ هَذَا من الذّكر الَّذِي بعد
النسْيَان. وَقَوله: (قَالَ) ، أَي النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْمَعْنى: ذكر أَبُو بكرَة
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ قَالَ:
قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، و:
الْفَاء، فِي فَإِن، عاطفة والمعطوف عَلَيْهِ مَحْذُوف،
لِأَن هَذَا الحَدِيث مَخْزُوم، لِأَنَّهُ بعض حَدِيث
طَوِيل وَقد سبق بعضه فِي بَاب: قَول النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (رب مبلغ أوعى من سامع) ، حَيْثُ
قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَي
يَوْم هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى ظننا أَنه سيسميه سوى اسْمه
قَالَ: أَلَيْسَ يَوْم النَّحْر؟ فَقُلْنَا: بلَى، قَالَ:
فَأَي شهر هَذَا؟ فسكتنا حَتَّى ظننا أَنه سيسميه بِغَيْر
اسْمه، قَالَ: أَلَيْسَ بِذِي الْحجَّة؟ قُلْنَا: بلَى.
قَالَ: فَإِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ وَأَعْرَاضكُمْ
بَيْنكُم حرَام كَحُرْمَةِ يومكم هَذَا) إِلَى آخِرَة،
وَقد خرم الحَدِيث هَهُنَا اقتصارا على الْمَقْصُود وَهُوَ
بَيَان التَّبْلِيغ. قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد) أَي: ابْن
سِيرِين أحد الروَاة. قَوْله: (واحسبه) أَي: أَظُنهُ، أَي:
أَظن ابْن أبي بكرَة، قَالَ: (وَأَعْرَاضكُمْ) ، بِالنّصب
عطف على قَوْله: (وَأَمْوَالكُمْ) . وَقَوله: (قَالَ
مُحَمَّد وَأَحْسبهُ قَالَ) ، جمل مُعْتَرضَة. قَوْله:
(حرَام) خبر: إِن، وَقَالَ الْكرْمَانِي: جمل مُعْتَرضَة
بَين اسْم إِن وخبرها بِحَسب الظَّاهِر. قلت: بِحَسب
الظَّاهِر اعتراضها بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ،
وَإِن كَانَ فِي الْحَقِيقَة بَين اسْم إِن وخبرها. فَإِن
قلت: كَيفَ روى مُحَمَّد بن سِيرِين هَهُنَا ظَانّا فِي
هَذَا اللَّفْظ، وَفِيمَا تقدم جَازَ مَا فِيهِ كَمَا هُوَ
مَذْكُور فِي ذَلِك الْبَاب؟ قلت: إِمَّا لِأَنَّهُ كَانَ
عِنْد رِوَايَته لأيوب ظَانّا فِي تِلْكَ اللَّفْظَة،
وَبعدهَا تذكر فَحصل لَهُ الْجَزْم بهَا، فرواها لِابْنِ
عون جَازِمًا. وَإِمَّا بِالْعَكْسِ لطرو تردد لَهُ أَو
لغير ذَلِك، وَالله أعلم. فَإِن قلت: مَا معنى قَوْله:
(عَلَيْكُم) إِذْ مَعْلُوم أَن أَمْوَالنَا لَيست حَرَامًا
علينا؟ قلت: الْعقل مُبين للمقصود وَهُوَ: أَمْوَال كل أحد
مِنْكُم حرَام على غَيره، وَذَلِكَ عِنْد فقدان شَيْء من
أَسبَاب الْحل، وَيُؤَيِّدهُ الرِّوَايَة الْأُخْرَى:
وَهِي بَيْنكُم بدل: عَلَيْكُم. قَوْله: (وَأَعْرَاضكُمْ)
جمع عرض بِالْكَسْرِ، وَقد فسرناه هُنَاكَ مُسْتَوفى.
وَحَاصِله أَنه يُقَال للنَّفس وللحسب. وَقَالَ فِي (شرح
السّنة) لَو كَانَ المُرَاد من الْأَعْرَاض النُّفُوس
لَكَانَ تَكْرَارا، لِأَن ذكر الدِّمَاء كافٍ، إِذْ
المُرَاد بهَا النُّفُوس فَيتَعَيَّن الأحساب. وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: الظَّاهِر أَن المُرَاد بالأعراض:
الْأَخْلَاق النفسانية. قَوْله: (أَلا) ، بتَخْفِيف
اللَّام، كَأَنَّهُ قَالَ: ألاَ يَا قوم هَل بلغت؟
يَعْنِي: هَل عملت بِمُقْتَضى مَا قَالَ الله تَعَالَى:
{بلغ مَا أنزل إِلَيْك} (الْمَائِدَة: 67) ؟ قَوْله:
(وَكَانَ مُحَمَّد) ، أَي: ابْن سِيرِين. قَوْله: (كَانَ
ذَلِك) ، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: ذَلِك إِشَارَة
إِلَى مَاذَا؟ إِذْ لَا يحْتَمل أَن يشار بِهِ إِلَى:
ليبلغ الشَّاهِد، وَهُوَ أَمر، لِأَن التَّصْدِيق والتكذيب
من لَوَازِم الْخَبَر. قلت: إِمَّا أَن تكون الرِّوَايَة
عِنْد ابْن سِيرِين: ليبلغ، بِفَتْح اللَّام فَيكون خَبرا،
وَإِمَّا أَن يكون الْأَمر فِي معنى الْخَبَر،
وَمَعْنَاهُ: إِخْبَار الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بِأَنَّهُ سيقع التَّبْلِيغ فِيمَا بعد.
وَإِمَّا أَن يكون إِشَارَة إِلَى تَتِمَّة الحَدِيث،
وَهُوَ: أَن الشَّاهِد عَسى أَن يبلغ من هُوَ أوعى مِنْهُ،
يَعْنِي: وَقع تَبْلِيغ الشَّاهِد أَو إِلَى مَا بعده،
وَهُوَ التَّبْلِيغ الَّذِي فِي ضمن: (ألاَ هَل بلغت) ؟
يَعْنِي: وَقع تَبْلِيغ الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، إِلَى الْأمة وَذَلِكَ نَحْو قَوْله
تَعَالَى: {هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك} (الْكَهْف: 78) .
قلت: الْجَواب الأول موجه إِن ساعدته الرِّوَايَة عَن
مُحَمَّد بِفَتْح اللَّام، وَكَون الْأَمر بِمَعْنى
الْخَبَر يحْتَاج إِلَى قرينَة. أَقُول: لَا يجوز أَن يكون
للْإِشَارَة إِلَى التَّبْلِيغ الَّذِي يدل عَلَيْهِ:
ليبلغ، وَمعنى كَانَ ذَلِك: وَقع ذَلِك التَّبْلِيغ
الْمَأْمُور بِهِ من الشَّاهِد إِلَى الْغَائِب. قَوْله:
(مرَّتَيْنِ) يتَعَلَّق بقوله: قَالَ مُقَدرا، أَي: قَالَ،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مرَّتَيْنِ: أَلا هَل
بلغت. فَإِن قلت: لم قدرت: قَالَ، وَمَا جعلته من
تَتِمَّة: قَالَ، الْمَذْكُور فِي اللَّفْظ، وَيكون:
وَكَانَ مُحَمَّد ... إِلَى آخِره جملَة مُعْتَرضَة؟ قلت:
حِينَئِذٍ يلْزم أَن يكون مَجْمُوع هَذَا الْكَلَام مقولاً
مرَّتَيْنِ، وَلم يثبت ذَلِك. |