عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 38 - (بابُ إثْمِ مَنْ كَذَبَ علَى
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِثْم من كذب على النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَالْكذب خلاف الصدْق.
قَالَ الصغاني: تركيب الْكَذِب يدل على خلاف الصدْق،
وتلخيصه: أَنه لَا يبلغ نِهَايَة الْكَلَام فِي الصدْق.
وَالْكذب عِنْد الأشعرية: الْإِخْبَار عَن الْأَمر على
خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ عمدا أَو سَهوا، خلافًا للمعتزلة
فِي اشتراطهم العمدية. وَيُقَال فِيهِ ثَلَاثَة مَذَاهِب:
الْمَذْهَب الْحق:
(2/146)
أَن الْكَذِب عدم مُطَابقَة الْوَاقِع
والصدق مطابقته. وَالثَّانِي: أَنَّهُمَا مُطَابقَة
الِاعْتِقَاد أَو لَا مطابقته. وَالثَّالِث: مطابقته
الْوَاقِع مَعَ اعْتِقَاد الْمُطَابقَة، وَلَا مُطَابقَة
مَعَ اعْتِقَاد لَا مطابقته. وعَلى الْأَخيرينِ يكون
بَينهمَا الْوَاسِطَة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول وجوب تَبْلِيغ الْعلم إِلَى
من لَا يعلم، وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب التحذير عَن
الْكَذِب فِي التَّبْلِيغ، وَذكر هَذَا الْبَاب عقيب
الْبَاب الْمَذْكُور من أنسب الْأَشْيَاء.
106 - حدّثنا علِيُّ بنُ الجَعْدِ قالَ: أخْبَرَنا
شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبرنِي مَنْصُورٌ قالَ: سَمِعْتُ
رِبْعِيَّ بنَ حِرَاش يَقُولُ: سَمِعْتُ عَلِيًّا يَقُولُ:
قالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تَكْذِبُوا
عليَّ فإنَّهُ مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَلِجِ النَّارَ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث
فِي النَّهْي عَن الْكَذِب على النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، المستلزم للإثم المستلزم لدُخُول
النَّار، والترجمة فِي بَيَان إِثْم من كذب عَلَيْهِ،
عَلَيْهِ السَّلَام.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: عَليّ بن الْجَعْد،
بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالدال
الْمُهْملَة، الْجَوْهَرِي الْبَغْدَادِيّ، وَقد تقدم.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: مَنْصُور بن
الْمُعْتَمِر. الرَّابِع: ربعي، بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون
الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد
الْيَاء آخر الْحُرُوف: ابْن حِرَاش، بِكَسْر الْحَاء
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الرَّاء وبالشين الْمُعْجَمَة:
ابْن جحش، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة
وبالشين الْمُعْجَمَة: ابْن عَمْرو بن عبد الله بن مَالك
بن غَالب بن قطيعة بن عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد
بن قيس عيلان بن مُضر الْغَطَفَانِي الْعَبْسِي،
بِالْمُوَحَّدَةِ أَبُو مَرْيَم الْكُوفِي الْأَعْوَر
العابد الْوَرع، يُقَال: إِنَّه لم يكذب قطّ، وَكَانَ لَهُ
ابْنَانِ عاصيان على الْحجَّاج، فَقيل للحجاج: إِن أباهما
لم يكذب كذبة قطّ، لَو أرْسلت إِلَيْهِ فَسَأَلته
عَنْهُمَا. فَأرْسل إِلَيْهِ فَقَالَ: هما فِي الْبَيْت.
فَقَالَ: قد عَفَوْنَا عَنْهُمَا لصدقك وَحلف أَن لَا
يضْحك حَتَّى يعلم أَيْن مصيره إِلَى الْجنَّة أَو إِلَى
النَّار فَمَا ضحك إلاَّ بعد مَوته. وَله أَخَوان:
مَسْعُود، وَهُوَ الَّذِي تكلم بعد الْمَوْت. وربيع،
وَهُوَ أَيْضا حلف أَن لَا يضْحك حَتَّى يعرف أَفِي
الْجنَّة أم لَا. فَقَالَ غاسله: إِنَّه لم يزل
مُبْتَسِمًا على سَرِيره حَتَّى فَرغْنَا. وَقَالَ ابْن
الْمَدِينِيّ: لم يروَ عَن مَسْعُود شَيْء إلاَّ كَلَامه
بعد الْمَوْت. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: كتب النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى حِرَاش بن جحش،
فَحرق كِتَابه، وَلَيْسَ لربعي عقب، والعقب لِأَخِيهِ
مَسْعُود. وَقَالَ ابْن سعد: حدث عَن عَليّ وَلم يقل: سمع.
وَعَن أبي الْحسن الْقَابِسِيّ: أَنه لم يَصح لربعي سَماع
من عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، غير هَذَا الحَدِيث. وَقدم
الشَّام وَسمع خطْبَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، بالجابية.
قَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ ثِقَة، توفّي فِي خلَافَة عمر
بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ، وَقيل: توفّي سنة
أَربع وَمِائَة، وَلَيْسَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : حِرَاش
بِالْمُهْمَلَةِ سواهُ. والربعي: بِحَسب اللُّغَة نِسْبَة
إِلَى الرّبع. والحراش: جمع الحرش، وَهُوَ الْأَثر.
الْخَامِس: عَليّ بن أبي طَالب بن عبد الْمطلب بن هَاشم بن
عبد منَاف الْهَاشِمِي الْمَكِّيّ الْمدنِي، أَمِير
الْمُؤمنِينَ، ابْن عَم رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَخَتنه على بنته فَاطِمَة الزهراء. وَاسم
أبي طَالب: عبد منَاف، على الْمَشْهُور. وَأم عَليّ:
فَاطِمَة بنت أَسد بن هَاشم بن عبد منَاف وَهِي أول هاشمية
ولدت هاشميا، أسلمت وَهَاجَرت إِلَى الْمَدِينَة وَتوفيت
فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَصلى
عَلَيْهَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَنزل فِي قبرها. وكنية عَليّ: أَبُو الْحسن، وكناه رَسُول
الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: أَبَا تُرَاب،
وَهُوَ أَخُو رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بالمؤاخاة. وَقَالَ لَهُ: أَنْت أخي فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَهُوَ أَبُو السبطين وَأول هاشمي
ولد بَين هاشميين، وَأول خَليفَة من بني هَاشم، وَأحد
الْعشْرَة المبشرة بِالْجنَّةِ، وَاحِد السِّتَّة أَصْحَاب
الشورى الَّذين توفّي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَهُوَ عَنْهُم رَاض، وَأحد الْخُلَفَاء
الرَّاشِدين، وَأحد الْعلمَاء الربانيين، وأوحد الشجعان
الْمَشْهُورين، والزهاد الْمَذْكُورين، وَأحد السَّابِقين
إِلَى الْإِسْلَام، شهد مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْمشَاهد كلهَا إلاَّ تَبُوك،
اسْتَخْلَفَهُ فِيهَا على الْمَدِينَة، وأصابته يَوْم أحد
سِتّ عشرَة ضَرْبَة، وَأَعْطَاهُ الرَّايَة يَوْم خَيْبَر
وَأخْبر أَن الْفَتْح يكون على يَدَيْهِ. ومناقبه جمة،
وأحواله فِي الشجَاعَة مَشْهُورَة وَأما علمه فَكَانَ من
الْعُلُوم بِالْمحل الْأَعْلَى. رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول
الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَمْسمِائَة حَدِيث
وَسِتَّة وَثَمَانُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على
عشْرين، وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِتِسْعَة، وَمُسلم
بِخَمْسَة عشر. ولي الْخلَافَة خمس سِنِين. وَقيل: إلاَّ
شهرا. بُويِعَ لَهُ بعد عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ،
لكَونه أفضل
(2/147)
الصَّحَابَة حِينَئِذٍ، ضربه عبد
الرَّحْمَن بن ملجم الْمرَادِي، من حمير، بِسيف مَسْمُوم
فأوصله دماغه فِي لَيْلَة الْجُمُعَة وَمَات بِالْكُوفَةِ
لَيْلَة الْأَحَد تَاسِع عشر رَمَضَان سنة أَرْبَعِينَ عَن
ثَلَاث وَسِتِّينَ سنة، وَكَانَ آدم اللَّوْن أصلع ربعَة،
أَبيض الرَّأْس واللحية، وَرُبمَا خضب لحيته، وَكَانَت
لَهُ لحية كثة طَوِيلَة، حسن الْوَجْه كَأَنَّهُ الْقَمَر
لَيْلَة الْبَدْر، ضحوك السن، وقبره بِالْكُوفَةِ، وَلكنه
غيب خوفًا من الْخَوَارِج، وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من
اسْمه: عَليّ بن أبي طَالب غَيره، وَفِي الروَاة: عَليّ بن
أبي طَالب، ثَمَانِيَة سواهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِي إِسْنَاده
التحديث والإخبار بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد
وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء.
وَمِنْهَا: أَنهم مَا بَين بغدادي وواسطي وكوفي ومدني.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ صَغِير عَن
تَابِعِيّ كَبِير.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي مُقَدّمَة
كِتَابه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَابْن مثنى، وَابْن
بشار ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الْعلم عَن إِسْمَاعِيل بن مُوسَى
الْفَزارِيّ عَن شريك بن عبد الله عَن مَنْصُور بن
الْمُعْتَمِر عَنهُ بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَفِي
المناقب عَن سُفْيَان بن وَكِيع عَن أَبِيه عَن شريك
نَحوه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن إِسْمَاعِيل
بن مَسْعُود عَن خَالِد بن الْحَارِث وَعَن بنْدَار عَن
يحيى كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِي السّنة عبد الله بن عَامر بن زُرَارَة وَإِسْمَاعِيل
بن مُوسَى كِلَاهُمَا عَن شريك بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (لَا
تكذبوا عَليّ) نهي بِصِيغَة الْجمع، وَهُوَ عَام فِي كل
كذب مُطلق فِي كل نوع مِنْهُ. فَإِن قلت: هَل فرق بَين كذب
عَلَيْهِ، وَكذب لَهُ. أم الحكم فيهمَا سَوَاء؟ قلت: معنى
كذب عَلَيْهِ، نِسْبَة الْكَلَام إِلَيْهِ كَاذِبًا،
سَوَاء كَانَ عَلَيْهِ أَو لَهُ، وَالْكذب على الله دَاخل
تَحت الْكَذِب على الرَّسُول، عَلَيْهِ السَّلَام، إِذْ
المُرَاد من الْكَذِب عَلَيْهِ الْكَذِب فِي أَحْكَام
الدّين. فَإِن قلت: الْكَذِب من حَيْثُ هُوَ مَعْصِيّة
فَكل كَاذِب عاصٍ وكل عاصٍ يلج النَّار لقَوْله تَعَالَى:
{وَمن يعْص الله وَرَسُوله ويتعد حُدُوده يدْخلهُ نَارا
خَالِدا فِيهَا} (النِّسَاء: 4) فَمَا فَائِدَة لَفْظَة:
عَليّ، فَإِن الحكم عَام فِي كل من كذب على أحد. قلت: لَا
شكّ أَن الْكَذِب على الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، أَشد من الْكَذِب على غَيره لكَونه مقتضيا
شرعا عَاما بَاقِيا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة، فَخص بِالذكر
لذَلِك أَو الْكَذِب عَلَيْهِ كَبِيرَة، وعَلى غَيره
صَغِيرَة، والصغائر مكفرة عِنْد الاجتناب عَن الْكَبَائِر،
أَو المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: {وَمن يعْص الله}
(النِّسَاء: 4) الْكَبِيرَة. فَإِن قلت: الشَّرْط سَبَب
للجزاء، فَكيف يتَصَوَّر سَبَبِيَّة الْكَذِب لِلْأَمْرِ
بالولوج. نعم، إِنَّه سَبَب للولوج نَفسه. قلت: هُوَ سَبَب
للازمه، لِأَن لَازم الْأَمر الْإِلْزَام، وَكَون الْكَذِب
سَببا لإلزام الولوج معنى صَحِيح. قَوْله: (فَإِنَّهُ من
كذب عَليّ) جَوَاب النَّهْي، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء،
وَالضَّمِير فِي: فَإِنَّهُ، للشأن. وَهُوَ اسْم: إِن.
وَقَوله: (من كذب عَليّ) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر:
إِن. وَكلمَة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط.
وَقَوله: (فليلج النَّار) ، جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك
دَخلته: الْفَاء، أَي: فَلْيدْخلْ النَّار. من ولج يلج،
ولوجا ولجة إِذا دخل. وَقَالَ سِيبَوَيْهٍ: إِنَّمَا جَاءَ
مصدره ولوجا، وَهُوَ من مصَادر غير الْمُتَعَدِّي على
معنى: ولجت فِيهِ، وأصل فليلج: فليولج، حذفت الْوَاو
لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة، وبابه من بَاب: ضرب يضْرب،
وَكَذَلِكَ لجة واصلها: ولجة، مثل: عدَّة، أَصْلهَا: وعد
فَلَمَّا حذفت الْوَاو مِنْهَا تبعا لفعلها عوضت عَنْهَا
الْهَاء. قَوْله: (النَّار) مَنْصُوب بِتَقْدِير فِي،
لِأَن أَصله لَازم كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ من قبيل
قَوْلك: دخلت الدَّار. وَالتَّقْدِير: دخلت فِي الدَّار.
لِأَن دخل فعل لَازم، وَاللَّازِم لَا ينصب إلاَّ بالصلة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: معنى الحَدِيث: أَن هَذَا جَزَاؤُهُ
وَقد يجازى بِهِ وَقد يعْفُو الله عَنهُ، وَلَا يقطع
عَلَيْهِ بِدُخُول النَّار، وَهَكَذَا سَبِيل كل مَا جَاءَ
من الْوَعيد بالنَّار لأَصْحَاب الْكَبَائِر غير الْكفْر،
ثمَّ إِن جوزي وَأدْخل النَّار فَلَا يخلد فِيهَا بل لَا
بُد من خُرُوجه مِنْهَا بِفضل الله تَعَالَى وَرَحمته.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه.
الأول: فِيهِ دَلِيل على تَعْظِيم حُرْمَة الْكَذِب على
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وانه كَبِيرَة.
وَالْمَشْهُور: أَن فَاعله لَا يكفر إلاَّ أَن يستحله.
وَحكى إِمَام الْحَرَمَيْنِ عَن أَبِيه أبي مُحَمَّد
الْجُوَيْنِيّ من أَصْحَاب الشَّافِعِي أَنه كَانَ يَقُول:
من كذب على النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
مُتَعَمدا كفر وأريق دَمه. وَضَعفه إِمَام الْحَرَمَيْنِ،
وَجعله من هفوات وَالِده، وَقَالَ النَّوَوِيّ: لَو كذب
فِي حَدِيث وَاحِد عمدا فسق وردَّت رواياته كلهَا. وَقَالَ
ابْن الصّلاح: وَلَا يقبل مِنْهُ رِوَايَة أبدا وَلَا تقبل
تَوْبَته مِنْهُ، بل يتحتم جرحه دَائِما، على مَا ذكره
جمَاعَة من الْعلمَاء، مِنْهُم: أَحْمد بن حَنْبَل،
وَأَبُو بكر الْحميدِي شيخ البُخَارِيّ وَصَاحب
الشَّافِعِي، وَأَبُو بكر الصَّيْرَفِي من الْفُقَهَاء
الشَّافِعِيَّة، حَتَّى قَالَ الصَّيْرَفِي: كل من أسقطنا
خَبره بَين أهل النَّقْل بكذب وَجَدْنَاهُ عَلَيْهِ لم
(2/148)
نعد لقبوله بتوبة تظهر، وَمن ضعفنا نَقله
لم نجعله قَوِيا بعد ذَلِك. قَالَ: وَذَلِكَ فِيمَا
افْتَرَقت فِيهِ الشَّهَادَة وَالرِّوَايَة. قَالَ
النَّوَوِيّ: هَذَا الَّذِي ذكره هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة
مُخَالف للقواعد، وَالْمُخْتَار الْقطع بِصِحَّة تَوْبَته
من ذَلِك وَقبُول رِوَايَته بعد صِحَة التَّوْبَة بشروطها،
وَقد أَجمعُوا على قبُول رِوَايَة من كَانَ كَافِرًا ثمَّ
أسلم، وَأكْثر الصَّحَابَة كَانُوا بِهَذِهِ الصّفة،
وَأَجْمعُوا على قبُول شَهَادَته، وَلَا فرق بَين
الرِّوَايَة وَالشَّهَادَة. قلت: قد قيل عَن مَالك فِي
شَاهد الزُّور: إِذا ثبتَتْ عَلَيْهِ شَهَادَة الزُّور لَا
تسمع لَهُ شَهَادَة بعْدهَا، تَابَ أم لَا. وَقد قَالَ
أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، فِيمَن ردَّتْ شَهَادَته
بِالْفِسْقِ ثمَّ تَابَ وَحسنت حَالَته: لَا تقبل مِنْهُ
إِعَادَتهَا لما يلْحقهُ من التُّهْمَة فِي تَصْدِيق
نَفسه. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِذا ردّت شَهَادَة أحد
الزَّوْجَيْنِ للْآخر ثمَّ تَابَ لَا تسمع للتُّهمَةِ،
فَلَا يبعد أَن يَجِيء مثله هَهُنَا لِأَن الرِّوَايَة
كلهَا كنوع من الشَّهَادَة.
الثَّانِي: لَا فرق فِي تَحْرِيم الْكَذِب على النَّبِي
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَين مَا كَانَ فِي
الْأَحْكَام وَغَيره: كالترغيب والترهيب. فكله حرَام من
أكبر الْكَبَائِر بِإِجْمَاع الْمُسلمين المعتد بهم،
خلافًا اللكرامية فِي زعمهم الْبَاطِل أَنه يجوز الْوَضع
فِي التَّرْغِيب والترهيب، وتابعهم كثير من الجهلة الَّذين
ينسبون أنفسهم إِلَى الزّهْد. وَمِنْهُم من زعم أَنه جَاءَ
فِي رِوَايَة: من كذب عَليّ مُتَعَمدا ليضل بِهِ، وتمسكوا
بِهَذِهِ الزِّيَادَة: أَنه كذب لَهُ لَا عَلَيْهِ،
وَهَذَا فَاسد ومخالف لإِجْمَاع أهل الْحل وَالْعقد،
وَجَهل لِسَان الْعَرَب، وخطاب الشَّرْع. فَإِن كل ذَلِك
كذب عِنْدهم. وَأما تعلقهم بِهَذِهِ الزِّيَادَة فقد
أُجِيب عَنْهَا بأجوبة: أَحدهَا: أَن الزِّيَادَة بَاطِلَة
اتّفق الْحفاظ على بُطْلَانهَا. وَالثَّانِي: قَالَ
الإِمَام الطَّحَاوِيّ: وَلَو صحت لكَانَتْ للتَّأْكِيد،
كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَمن أظلم مِمَّن افترى على الله
كذبا ليضل النَّاس بِغَيْر علم} (الْأَنْعَام: 144) .
وَالثَّالِث: أَن اللَّام فِي: ليضل، لَيست للتَّعْلِيل،
بل لَام الصيرورة وَالْعَاقبَة، وَالْمعْنَى: على هَذَا
يصير كذبه إِلَى الضلال بِهِ.
الثَّالِث: من روى حَدِيثا وَعلم أَو ظن أَنه مَوْضُوع
فَهُوَ دَاخل فِي هَذَا الْوَعيد إِذا لم يبين حَال
رُوَاته وضعفهم، وَيدل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من حدث عني بِحَدِيث يرى أَنه كذب
فَهُوَ أحد الْكَاذِبين) . قَالَ النَّوَوِيّ: الرِّوَايَة
الْمَشْهُورَة ضم الْيَاء فِي: يرى، و: الْكَاذِبين،
بِكَسْر الْيَاء على الْجمع.
الرَّابِع: إِذا روى حَدِيثا ضَعِيفا لَا يذكرهُ بِصِيغَة
الْجَزْم، نَحْو: قَالَ أَو فعل أَو أَمر، وَنَحْو ذَلِك،
بل يَقُول: رُوِيَ عَنهُ كَذَا، وَجَاء عَنهُ كَذَا، أَو
يذكر أَو يُروى أَو يُحكى، أَو يُقال أَو بلغنَا وَنَحْو
ذَلِك، فَإِن كَانَ صَحِيحا أَو حسنا قَالَ فِيهِ: قَالَ
رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا، أَو
فعله، وَنَحْو ذَلِك من صِيغ الْجَزْم. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: استجاز بعض فُقَهَاء الْعرَاق نِسْبَة
الحكم الَّذِي يدل عَلَيْهِ الْقيَاس إِلَى رَسُول الله،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نِسْبَة قولية، وحكاية
فعلية، فَيَقُول فِي ذَلِك: قَالَ رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَذَا، وَكَذَا. قَالَ: وَلذَلِك
ترى كتبهمْ مشحونة بِأَحَادِيث مَوْضُوعَة تشهد متونها
بِأَنَّهَا مَوْضُوعَة لِأَنَّهَا تشبه فَتَاوَى
الْفُقَهَاء، وَلَا يَلِيق بجزالة كَلَام سيد الْمُرْسلين،
فَهَؤُلَاءِ شملهم النَّهْي والوعيد.
الْخَامِس: مِمَّا يظنّ دُخُوله فِي النَّهْي: اللّحن
وَشبهه، وَلِهَذَا قَالَ الْعلمَاء رَضِي الله عَنْهُم:
يَنْبَغِي للراوي أَن يعرف من النَّحْو واللغة والأسماء
مَا يسلم من قَول من لم يقل. قَالَ الْأَصْمَعِي: أخوف مَا
أَخَاف على طَالب الْعلم، إِذا لم يعرف النَّحْو، أَن
يدْخل فِي قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من كذب
عَليّ) الحَدِيث، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَام لم يكن
يلحن، فمهما لحن الرَّاوِي فقد كذب عَلَيْهِ. وَكَانَ
الْأَوْزَاعِيّ يُعْطي كتبه، إِذا كَانَ فِيهَا لحن، لمن
يصلحها، فَإِذا صَحَّ فِي رِوَايَته كلمة غير مفيدة فَلهُ
أَن يسْأَل عَنْهَا أهل الْعلم ويرويها على مَا يجوز
فِيهِ. رُوِيَ ذَلِك عَن أَحْمد وَغَيره، قَالَ أَحْمد
يجْتَنب إِعْرَاب اللّحن لأَنهم كَانُوا لَا يلحنون.
وَقَالَ النَّسَائِيّ، فِيمَا حَكَاهُ الْقَابِسِيّ: إِذا
كَانَ اللّحن شَيْئا تَقوله الْعَرَب، وَإِن كَانَ فِي
لُغَة قُرَيْش، فَلَا يُغير لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ
السَّلَام، كَانَ يكلم النَّاس بلسانهم، وَإِن كَانَ لَا
يُوجد فِي كَلَامهم فالشارع لَا يلحن. وَقَالَ
الْأَوْزَاعِيّ: كَانُوا يعربون وَإِنَّمَا اللّحن من
حَملَة الحَدِيث فأعربوا الحَدِيث. وَقيل لِلشَّعْبِيِّ:
أسمع الحَدِيث لَيْسَ بإعراب أفأعربه؟ قَالَ: نعم. فَإِن
قلت: لَو صَحَّ فِي رِوَايَة مَا هُوَ خطأ مَا حكمه؟ قلت:
الْجُمْهُور على رِوَايَته على الصَّوَاب، وَلَا
يُغَيِّرهُ فِي الْكتاب، بل يكْتب فِي الْحَاشِيَة كَذَا
وَقع وَصَوَابه كَذَا. وَهُوَ الصَّوَاب. وَقيل:
يُغَيِّرهُ ويصلحه. وَرُوِيَ ذَلِك عَن الْأَوْزَاعِيّ
وَابْن الْمُبَارك وَغَيرهمَا وَعَن عبد الله بن أَحْمد بن
حَنْبَل. قَالَ: كَانَ أبي إِذا مر بِهِ لحن فَاحش غَيره.
وَإِن كَانَ سهلاً تَركه. وَعَن أبي زرْعَة أَنه كَانَ
يَقُول: أَنا أصلح كتابي من أَصْحَاب الحَدِيث إِلَى
الْيَوْم.
السَّادِس: مِمَّا يتَعَلَّق بِهَذَا الْبَاب بَيَان
أَصْنَاف الواضعين: الأول: قوم زنادقة كالمغيرة بن سعيد
الْكُوفِي، وَمُحَمّد بن سعيد المصلوب، أَرَادوا إِيقَاع
الشَّك فِي قُلُوب النَّاس، فرووا: أَنا خَاتم النَّبِيين
لَا نَبِي بعدِي إلاَّ أَن يَشَاء الله. الثَّانِي: قوم
متعصبون، وَمِنْهُم من تعصب لعَلي بن أبي طَالب، رَضِي
الله عَنهُ، فوضعوا فِيهِ أَحَادِيث،
(2/149)
وَقوم تعصبوا لمعاوية وَرووا لَهُ
أَشْيَاء، وَقوم تعصبوا لأبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ،
وَقَالَ ابْن حبَان: وضع الْحسن بن عَليّ بن زَكَرِيَّا
الْعَدوي الرَّازِيّ حَدِيث: النّظر إِلَى وَجه عَليّ
عبَادَة. وَحدث عَن الثِّقَات لَعَلَّه بِمَا يزِيد على
ألف حَدِيث سوى المقلوبات. وَقَالَ الْخَطِيب فِي
(الْكِفَايَة) بِسَنَدِهِ إِلَى الْمهْدي، قَالَ: اقر
عِنْدِي رجل من الزَّنَادِقَة أَنه وضع أَربع مائَة حَدِيث
فَهِيَ تجول بَين النَّاس. وَقوم وضعُوا أَحَادِيث فِي
التَّرْغِيب والترهيب. وَعَن ابْن الصّلاح قَالَ: رويت عَن
أبي عصمَة، نوح بن أبي مَرْيَم، أَنه قيل لَهُ: من أَيْن
لَك عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس فِي فَضَائِل
الْقُرْآن سُورَة سُورَة. فَقَالَ: إِنِّي رَأَيْت النَّاس
قد أَعرضُوا عَن الْقُرْآن وَاشْتَغلُوا بِفقه أبي حنيفَة
ومعاذ بن أبي إِسْحَاق، فَوضعت هَذَا الحَدِيث. وَقَالَ
يحيى: نوح هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لَا يكْتب حَدِيثه.
وَقَالَ مُسلم وَأَبُو حَاتِم وَالدَّارَقُطْنِيّ:
مَتْرُوك.
السَّابِع: يعرف الْمَوْضُوع بِإِقْرَار وَاضعه أَو مَا
يتنزل منزلَة إِقْرَاره أَو قرينَة فِي حَال الرَّاوِي أَو
الْمَرْوِيّ أَو ركاكة لَفظه أَو لروايته عَمَّن لم
يُدْرِكهُ، وَلَا يخفى ذَلِك على أهل هَذَا الشَّأْن.
وَقيل لعبد الله بن الْمُبَارك: هَذِه الْأَحَادِيث
الْمَوْضُوعَة: قَالَ: يعِيش لَهَا الجهابذة.
وَأما جِهَات الْوَضع فَرُبمَا يكون من كَلَام نَفسه، أَو
يَأْخُذ كلَاما من مقالات بعض الْحُكَمَاء أَو كَلَام بعض
الصَّحَابَة فيرفعه كَمَا رُوِيَ عَن أَحْمد بن
إِسْمَاعِيل السَّهْمِي عَن مَالك عَن وهب بن كيسَان عَن
جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (كل
صَلَاة لَا يقْرَأ فِيهَا بِفَاتِحَة الْكتاب فَهِيَ خداج
إلاَّ الإِمَام) . وَهُوَ فِي (الْمُوَطَّأ) عَن وهب عَن
جَابر من قَوْله. وَرُبمَا أخذُوا كلَاما للتابعين فزادوا
فِيهِ رجلا فَرَفَعُوهُ. وَقوم من المجرحين عَمدُوا إِلَى
أَحَادِيث مَشْهُورَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بأسانيد مَعْلُومَة مَعْرُوفَة وضعُوا لَهَا
غير تِلْكَ الْأَسَانِيد. وَقوم عِنْدهم غَفلَة إِذا لقنوا
تلقنوا. وَقوم ضَاعَت كتبهمْ فَحَدثُوا من حفظهم على
التخمين. وَقوم سمعُوا مصنفات وَلَيْسَت عِنْدهم فحملهم
الشره إِلَى أَن حدثوا عَن كتب مشتراة لَيْسَ فِيهَا سَماع
وَلَا مُقَابلَة، وَقوم كَثِيرَة لَيْسُوا من أهل هَذَا
الشَّأْن، سُئِلَ يحيى بن سعيد عَن مَالك بن دِينَار
وَمُحَمّد بن وَاسع وَحسان بن أبي سِنَان، قَالَ: مَا
رَأَيْت الصَّالِحين فِي شَيْء أكذب مِنْهُم فِي الحَدِيث،
لأَنهم يَكْتُبُونَ عَن كل من يلقون، لَا تَمْيِيز لَهُم.
وروى الْخَطِيب، بِسَنَدِهِ عَن ربيعَة الرَّاعِي، قَالَ:
من إِخْوَاننَا من نرجو بركَة دُعَائِهِ، وَلَو شهد عندنَا
بِشَهَادَة مَا قبلناها. وَعَن مَالك: أدْركْت سبعين عِنْد
هَذِه الأساطين، وَأَشَارَ إِلَى مَسْجِد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يَقُولُونَ: قَالَ: رَسُول الله
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَمَا أخذت عَنْهُم
شَيْئا، وَإِن أحدهم يُؤمن على بَيت المَال، لأَنهم لم
يَكُونُوا من أهل هَذَا الشَّأْن، ونزدحم على بَاب
مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
غ
107 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قالَ: حَدثنَا شعْبَةُ عنْ
جامِعِ بنِ شَدَّادٍ عنْ عامِرِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ
الزُّبَيْرِ عنْ أبِيهِ قَالَ: قُلْتُ للزُّبَيْرِ: إنِّي
لاَ أسْمَعُكَ تُحَدّثُ عنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كمَا يُحَدِّثُ فُلاَنٌ وَفُلاَنٌ! قَالَ:
أمَا إنِّي لَمْ أفارِقْهُ، وَلَكِنْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ:
(مَنْ كَذَبَ عليَّ فَلْيَتبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ
النَّارِ) .
هَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّانِي مِمَّا فِيهِ الْمُطَابقَة
للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: أَبُو الْوَلِيد
هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد
تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: جَامع
بن شَدَّاد الْمحَاربي، أَبُو صَخْرَة، وَقيل: أَبُو
صَخْرَة الْكُوفِي الثِّقَة، وَهُوَ قَلِيل الحَدِيث، لَهُ
نَحْو عشْرين حَدِيثا، مَاتَ سِتَّة ثَمَان عشرَة
وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: عَامر بن عبد
الله بن الزبير بن الْعَوام الْأَسدي الْقرشِي، أَبُو
حَارِث الْمدنِي، أَخُو عباد وَحَمْزَة وثابت وخبيب
ومُوسَى وَعمر، كَانَ عابدا فَاضلا ثِقَة مَاتَ سنة أَربع
وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: أَبوهُ وَهُوَ: عبد الله بن
الزبير بن الْعَوام أَبُو بكر، وَيُقَال: أَبُو خبيب،
بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بَينهمَا،
الصَّحَابِيّ ابْن الصَّحَابِيّ أَمِير الْمُؤمنِينَ،
وَهُوَ أول من ولد فِي الْإِسْلَام للمهاجرين
بِالْمَدِينَةِ، وَلدته أمه أَسمَاء بنت الصّديق بقباء،
وَأَتَتْ بِهِ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسلم، فَوَضَعته فِي حجره ودعى بتمرة فمضعها ثمَّ تفل فِي
فِيهِ وحنكه، فَكَانَ أول شَيْء دخل فِي جَوْفه ريق
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ دَعَا لَهُ،
وَكَانَ أطلس لَا لحية لَهُ، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حَدِيثا،
ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا سِتَّة، وَكَانَ صواما قواما
وَلَيْلَة رَاكِعا وَلَيْلَة سَاجِدا حَتَّى الصَّباح
بُويِعَ لَهُ بالخلافة بعد موت يزِيد بن مُعَاوِيَة سنة
أَربع وَسِتِّينَ وَاجْتمعَ على طَاعَته أهل الْحجاز
واليمن وَالْعراق وخراسان مَا عدا الشَّام، وجدد عمَارَة
الْكَعْبَة، وَحج بِالنَّاسِ ثَمَان حجج، وَبَقِي فِي
الْخلَافَة إِلَى أَن
(2/150)
حصره الْحجَّاج بِمَكَّة أول لَيْلَة من
ذِي الْحجَّة سنة ثِنْتَيْنِ وَسبعين، وَلم يزل يحاصره
إِلَى أَن أَصَابَته رمية الْحجر فَمَاتَ، وصلب جثته وَحمل
رَأسه إِلَى خُرَاسَان. السَّادِس: أَبوهُ الزبير بن
الْعَوام، بتَشْديد الْوَاو، الْقرشِي، أحد الْعشْرَة
المبشرة بِالْجنَّةِ، وَأحد سِتَّة أَصْحَاب الشورى،
وَاحِد الْمُهَاجِرين بالهجرتين وحواري النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَأمه صَفِيَّة بنت عبد الْمطلب عمَّة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أسلمت وَأسلم هُوَ
رَابِع أَرْبَعَة أَو خَامِس خَمْسَة على يَد الصّديق
وَهُوَ ابْن سِتّ عشرَة سنة، وَشهد الْمشَاهد كلهَا مَعَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ لَهُ عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة
وَثَلَاثُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على حديثين،
وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بسبعة، وَهُوَ أول من سل السَّيْف
فِي سَبِيل الله، وَكَانَ يَوْم الْجمل قد ترك الْقِتَال
وَانْصَرف عَنهُ، فَلحقه جمَاعَة من الْغُزَاة فَقَتَلُوهُ
بوادي السبَاع بِنَاحِيَة الْبَصْرَة، وَدفن ثمَّة، ثمَّ
حول إِلَى الْبَصْرَة وقبره مَشْهُور بهَا، روى لَهُ
الْجَمَاعَة، وَكَانَ لَهُ أَربع نسْوَة، وَدفع الثُّلُث
فَأصَاب كل امْرَأَة مِنْهُنَّ ألف ألف وَمِائَتَا ألف
فَجَمِيع مَاله خَمْسُونَ ألف ألف وَمِائَة ألف.
بَيَان لطائف إِسْنَاده. مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن
تَابِعِيّ، وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن
صَحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ النَّوْع من رِوَايَة
الْأَبْنَاء عَن الْآبَاء، وَرِوَايَة الابْن عَن الْأَب
عَن الْجد.
بَيَان من أخرجه غَيره: لم يُخرجهُ مُسلم. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي الْعلم عَن عَمْرو بن عون ومسدد، كِلَاهُمَا
عَن خَالِد الطَّحَّان عَن بَيَان بن بشر عَن وبرة بن عبد
الرَّحْمَن عَن عَامر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث
عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي (السّنة) عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن بشار كِلَاهُمَا عَن
غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (فَليَتَبَوَّأ)
بِكَسْر اللَّام هُوَ الأَصْل، وبالسكون هُوَ الْمَشْهُور،
وَهُوَ أَمر من التبوء، وَهُوَ اتِّخَاذ المباءة أَي:
الْمنزل يُقَال: تبوأ الرجل الْمَكَان إِذا اتَّخذهُ موضعا
لمقامه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: تبوأت منزلا أَي: نزلته.
وَقَالَ الْخطابِيّ: تبوأ بِالْمَكَانِ، أَصله من مباءة
الْإِبِل وَهِي: أعطانها. قَوْله: (إِنِّي لَا أسمعك تحدث)
مَعْنَاهُ: لَا أسمع تحديثك، وَحذف مَفْعُوله. وَفِي بعض
النّسخ، لَيْسَ فِيهِ: إِنِّي. قَوْله: (كَمَا يحدث) ،
الْكَاف للتشبيه، وَمَا مَصْدَرِيَّة أَي: كتحديث فلَان
وَفُلَان، وَحذف مَفْعُوله أَيْضا إِرَادَة الْعُمُوم.
قَوْله: (أما) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْمِيم من
حُرُوف التَّنْبِيه. قَوْله: (إِنِّي) ، بِكَسْر الْهمزَة.
قَوْله: (لم أفارقه) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا
خبر: إِن، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب يرجع إِلَى رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (لكني) ، فِي بعض النّسخ
(لكنني) وَيجوز فِي: إِن وَأَخَوَاتهَا إِلْحَاق نون
الْوِقَايَة بهَا وَعدم الْإِلْحَاق. قَوْله: (من) ،
مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، و (كذب عليَّ)
صلتها. وَقَوله: (فَليَتَبَوَّأ) ، جَوَاب الشَّرْط،
فَلذَلِك دَخلته الْفَاء. قَوْله: (مَقْعَده) مفعول:
(ليتبوأ) . وَكلمَة: (من) فِي: من النَّار، بَيَانِيَّة
وابتدائية، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: الأولى أَن يكون
بِمَعْنى: فِي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا نُودي
للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة} (الْجُمُعَة: 9) .
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (كَمَا يحدث فلَان وَفُلَان) ،
سمى مِنْهُمَا فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: عبد الله بن
مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (لم أفارقه)
، أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (مُنْذُ أسلمت) . وَأَرَادَ
بِهِ عدم الْمُفَارقَة الْعُرْفِيَّة، أَي: مَا فارقته
سفرا وحضرا على عَادَة من يلازم الْمُلُوك. فَإِن قلت: قد
هَاجر إِلَى الْحَبَشَة. قلت: ذَاك قبل ظُهُور شَوْكَة
الْإِسْلَام، أَي: مَا فارقته عِنْد ظُهُوره. وَالْمرَاد:
فِي أَكثر الْأَحْوَال. قَوْله: (لَكِن) للاستدراك. فَإِن
قلت: شَرط: لَكِن، أَن تتوسط بَين كلامين متغايرين، فَمَا
هما هَهُنَا؟ قلت: لَازم عدم الْمُفَارقَة السماع، ولازم
السماع التحديث عَادَة، ولازم التحديث الَّذِي ذكره فِي
الْجَواب عدم التحديث، فَبين الْكَلَامَيْنِ مُنَافَاة،
فضلا عَن الْمُغَايرَة. فَإِن قلت: الْمُنَاسب: لسمعت
قَالَ ليتوافقا مَاضِيا فَمَا الْفَائِدَة فِي الْعُدُول
إِلَى الْمُضَارع؟ قلت: استحضار صُورَة القَوْل للحاضرين،
والحكاية عَنْهَا كَأَنَّهُ يُرِيهم أَنه قَالَ بِهِ
الْآن. قَوْله: (فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) ،
قَالَ الْخطابِيّ: ظَاهره أَمر، وَمَعْنَاهُ خبر؛ يُرِيد
أَن الله تَعَالَى يبوؤه مَقْعَده من النَّار. وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: الْأَمر بالتبوء تهكم وتغليظ، إِذْ لَو قيل:
كَانَ مَقْعَده فِي النَّار لم يكن كَذَلِك، وَأَيْضًا
فِيهِ إِشَارَة إِلَى معنى الْقَصْد فِي الذَّنب وجزائه،
أَي: كَمَا أَنه قصد فِي الْكَذِب التعمد فليقصد فِي
جَزَائِهِ التبوء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز أَن يكون
الْأَمر على حَقِيقَته، وَالْمعْنَى: من كذب فليأمر نَفسه
بالتبوء. قلت: والأَوْلى أَن يكون أَمر تهديد، أَو يكون
دُعَاء على معنى: بوأه الله.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: التبوء إِن كَانَ
إِلَى الْكَاذِب فَلَا شكّ أَنه لَا يبوء نَفسه وَله إِلَى
تَركه سَبِيل، وَإِن كَانَ إِلَى الله
(2/151)
فَأمر العَبْد بِمَا لَا سَبِيل لَهُ
إِلَيْهِ غير جَائِز. أُجِيب: بِأَنَّهُ بِمَعْنى
الدُّعَاء أَي: بوأه الله كَمَا ذكرنَا. وَمِنْهَا مَا
قيل: ذَلِك عَام فِي كل كذب أم خَاص؟ أُجِيب بِأَنَّهُ
اخْتلف فِيهِ، فَقيل: مَعْنَاهُ الْخُصُوص أَي: الْكَذِب
فِي الدّين كَمَا ينْسب إِلَيْهِ تَحْرِيم حَلَال أَو
تَحْلِيل حرَام، وَقيل: كَانَ ذَلِك فِي رجل بِعَيْنِه كذب
على الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَادّعى عِنْد قوم
أَنه بَعثه إِلَيْهِم ليحكم فيهم، واحتجاج الزبير، رَضِي
الله عَنهُ، يَنْفِي التَّخْصِيص، فَهُوَ عَام فِي كل كذب
ديني ودنيوي. وَمِنْهَا مَا قيل: من قصد الْكَذِب على
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يكن فِي الْوَاقِع
كذب هَل يَأْثَم؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ يَأْثَم، لَكِن لَا
بِسَبَب الْكَذِب بل بِسَبَب قصد الْكَذِب، لِأَن قصد
الْمعْصِيَة مَعْصِيّة إِذا تجَاوز عَن دَرَجَة الوسوسة،
فَلَا يدْخل تَحت الحَدِيث. وَمِنْهَا مَا قيل: لم توقف
الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي الرِّوَايَة
والإكثار مِنْهَا؟ أُجِيب: لأجل خوف الْغَلَط
وَالنِّسْيَان، والغالط وَالنَّاسِي، وَإِن كَانَ لَا
إِثْم عَلَيْهِ، فقد ينْسب إِلَى التَّفْرِيط لتساهله أَو
نَحوه وَقد يتَعَلَّق بالناسي حكم الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة: كغرامات الْمُتْلفَات، وانتفاض الطهارات.
قلت: وَأما من أَكثر مِنْهُم فَمَحْمُول على أَنهم كَانُوا
واثقين من أنفسهم بالتثبت، أَو طَالَتْ أعمارهم فاحتيج
إِلَى مَا عِنْدهم، فسئلوا، فَلم يُمكنهُم الكتمان، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُم. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن قَوْله (من
كذب عَليّ) هَل يتَنَاوَل غير الْعَامِد أَو المُرَاد
مِنْهُ الْعَامِد؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ أَعم من الْعَامِد
وَغَيره، وَلم يَقع فِيهِ الْعمد فِي رِوَايَة البُخَارِيّ
وَفِي طَرِيق ابْن مَاجَه: (من كذب عَليّ مُتَعَمدا) ،
وَكَذَا وَقع للإسماعيلي من طَرِيق غنْدر عَن شُعْبَة
نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ وَالِاخْتِلَاف فِيهِ على
شُعْبَة، وَقد أخرجه الدَّارمِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن
عبد الله بن الزبير بِلَفْظ: (من حدث عني كذبا) ، وَلم
يذكر الْعمد، فَدلَّ ذَلِك أَن المُرَاد مِنْهُ الْعُمُوم
وَقَالَ بعض الْحفاظ: الْمَحْفُوظ فِي حَدِيث الزبير حذف
لَفْظَة: مُتَعَمدا، وَلذَلِك جَاءَ فِي بعض طرقه فَقَالَ:
مَا لي لَا أَرَاك تحدث وَقد حدث فلَان وَفُلَان وَابْن
مَسْعُود؟ فَقَالَ: وَالله يَا بني مَا فارقته مُنْذُ
أسلمت، وَلَكِن سمعته يَقُول: (من كذب عَليّ فَليَتَبَوَّأ
مَقْعَده من النَّار) ، وَالله مَا قَالَ مُتَعَمدا
وَأَنْتُم تَقولُونَ. مُتَعَمدا. قَالَ أَبُو الْحسن
الْقَابِسِيّ: لم يذكر فِي حَدِيث عَليّ وَالزُّبَيْر:
مُتَعَمدا، فَمن أجل ذَلِك هاب بعض من سمع الحَدِيث أَن
يحدث النَّاس بِمَا سمع. فَإِن قلت: إِذا كَانَ عَاما
يَنْبَغِي أَن يدْخل فِيهِ النَّاسِي أَيْضا. قلت:
الحَدِيث بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل الْعَامِد والساهي
وَالنَّاسِي فِي إِطْلَاق اسْم الْكَذِب عَلَيْهِم، غير
أَن الْإِجْمَاع انْعَقَد على أَن النَّاسِي لَا إِثْم
عَلَيْهِ، وَالله أعلم.
108 - حدّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ: حدّثنا عَبْدُ الوَارث
عَنْ عَبْدِ العَزِيز قالَ، أنَسٌ: إنَّهُ لَيَمْنَعُنِي
أنْ أُحَدِّثَكُمْ حَديثا كَثِيرا، أنَّ النَّبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (مَنْ تَعَمَّدَ عَليَّ كَذِبا
فلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ) .
هَذَا هُوَ الحَدِيث الثَّالِث مِمَّا فِيهِ الْمُطَابقَة
للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر،
بِفَتْح الميمين: عبد الله بن عَمْرو الْمَشْهُور:
بالمقعد، الْمنْقري الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم. الثَّانِي:
عبد الْوَارِث بن سعيد التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ، وَقد
تقدم. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب الْأَعْمَى
الْبَصْرِيّ، وَقد مر. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي
الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا:
أَنه من الرباعيات.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن زُهَيْر عَن أبي
علية عَن عبد الْعَزِيز بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْعلم أَيْضا عَن عمرَان بن مُوسَى عَن عبد الْعَزِيز
عَنهُ بِهِ. وَقَول الْحميدِي صَاحب (الْجمع بَين
الصَّحِيحَيْنِ) : إِن حَدِيث أنس هَذَا مِمَّا انْفَرد
بِهِ مُسلم غير صَوَاب.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (إِنَّه) أَي:
الشان. قَوْله: (ليمنعني) فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر:
إِن وَاللَّام، فِيهِ للتَّأْكِيد. قَوْله: (أَن أحدثكُم)
كلمة: أَن، بِفَتْح الْهمزَة مَعَ التَّخْفِيف، وَهِي مَعَ
معمولها فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول أَو لقَوْله:
ليمنعني لِأَن: منع، يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، و: أَن
مَصْدَرِيَّة تَقْدِيره ليمنعني تحديثكم. وَقَوله: (أَن
النَّبِي) صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ، هَذِه
الْمُشَدّدَة مَعَ اسْمهَا وخبرها فِي مَحل الرّفْع على
أَنَّهَا فَاعل: ليمنعني. قَوْله: (حَدِيثا) نصب على أَنه
مفعول مُطلق، وَالْمرَاد بِهِ جنس الحَدِيث، وَلِهَذَا
جَازَ وُقُوع الْكثير صفة لَهُ، لَا حَدِيث وَاحِد، وإلاَّ
يلْزم اجْتِمَاع الْوحدَة وَالْكَثْرَة فِيهِ. قَوْله: (من
تعمد) الخ، مقول القَوْل. قَوْله: (كذبا) عَام فِي جَمِيع
أَنْوَاع الْكَذِب، لِأَن النكرَة فِي سِيَاق الشَّرْط
كالنكرة فِي سِيَاق النَّفْي فِي إِفَادَة الْعُمُوم.
فَإِن قلت: مَا المُرَاد
(2/152)
من قَوْله: (أحدثكُم حَدِيثا) ؟ قلت:
حَدِيث الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ هُوَ
المُرَاد فِي عرف الشَّرْع عِنْد الْإِطْلَاق. وَقَوله:
(قَالَ: من تعمد) الخ أَيْضا قرينَة على هَذَا. فَإِن قلت:
الحَدِيث لَا يمْنَع كَثْرَة الحَدِيث الصَّادِق بل يجب
التَّبْلِيغ والتكثير إِذا كَانَ صَادِقا، فَكيف جعله
مَانِعا؟ . قلت: كَثْرَة الحَدِيث، وَإِن كَانَ صَادِقا،
ينجر إِلَى الْكَذِب غَالِبا عَادَة، وَمن حام حول الْحمى
أوشك أَن يَقع فِيهِ، فالتعليل للِاحْتِرَاز عَن الانجرار
إِلَيْهِ، وَلَو كَانَ وُقُوعه على سَبِيل الندرة.
109 - حدّثنا مَكِّيُّ بنُ إبْراهِيمَ قالَ: حدّثنا
يَزِيدُ بنُ أبي عُبيْدٍ عنْ سَلَمَةَ قالَ: سَمِعْتُ
النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ: (مَنْ يَقلْ
عَليَّ مَا لَمْ أَقُلْ فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ
النَّارِ) .
هَذَا هُوَ الحَدِيث الرَّابِع مِمَّا فِيهِ الْمُطَابقَة
للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله: وهم ثَلَاثَة. الأول: الْمَكِّيّ بن
إِبْرَاهِيم الْبَلْخِي، وَقد تقدم. الثَّانِي: يزِيد بن
أبي عبيد أَبُو خَالِد الْأَسْلَمِيّ، مولى سَلمَة بن
الْأَكْوَع، توفّي سنة سِتّ أَو سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة،
روى لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: سَلمَة بِفَتْح السِّين
وَاللَّام: ابْن الْأَكْوَع، وَاسم الْأَكْوَع: سِنَان بن
عبد الله الْأَسْلَمِيّ الْمَدِينِيّ، يكنى سَلمَة بِأبي
مُسلم، وَقيل: بِأبي إِيَاس، وَقيل: بِأبي عَامر. وَقيل:
هُوَ عَمْرو بن الْأَكْوَع، شهد بيعَة الرضْوَان وَبَايع
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ ثَلَاث
مَرَّات: فِي أول النَّاس وأوسطهم وَآخرهمْ. رُوِيَ لَهُ
عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة
وَسَبْعُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على سِتَّة عشر،
وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِخَمْسَة وَمُسلم بِتِسْعَة،
توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَسبعين وَهُوَ ابْن
ثَمَانِينَ سنة، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَكَانَ شجاعا
راميا محسنا يسْبق الْخَيل، فَاضلا خيّرا، وَيُقَال:
إِنَّه كَلمه الذِّئْب، قَالَ سَلمَة: رَأَيْت الذِّئْب قد
أَخذ ظَبْيًا، فطلبته حَتَّى نَزَعته مِنْهُ، فَقَالَ:
وَيحك مَالِي وَلَك، عَمَدت إِلَى رزق رزقنيه الله
تَعَالَى لَيْسَ من مَالك تنزعه مني؟ قَالَ: قلت: أيا عباد
الله إِن هَذَا لعجب، ذِئْب يتَكَلَّم! فَقَالَ الذِّئْب:
أعجب مِنْهُ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
أصُول النّخل يدعوكم إِلَى عبَادَة الله وتأبون إلاَّ
عبَادَة الْأَوْثَان. قَالَ: فلحقت برَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَأسْلمت.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَنه من ثلاثيات البُخَارِيّ، وَهُوَ
أول ثلاثي وَقع فِي البُخَارِيّ وَلَيْسَ فِيهِ أَعلَى من
الثلاثيات، ويبلغ جَمِيعهَا أَكثر من عشْرين حَدِيثا،
وَبِه فضل البُخَارِيّ على غَيره. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم وَهُوَ من كبار شُيُوخ
البُخَارِيّ، سمع من سَبْعَة عشر نَفرا من التَّابِعين
مِنْهُم يزِيد بن أبي عبيد الْمَذْكُور.
بَيَان الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى: قَوْله: (يَقُول) ، جملَة
وَقعت حَالا. قَوْله: (من يقل عليَّ) كلمة: من، مَوْصُولَة
تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط، وأصل: يقل، يَقُول. حذفت
الْوَاو للجزم لأجل الشَّرْط، وَجَوَاب الشَّرْط هُوَ
قَوْله: (فلتيبوأ) . فَلذَلِك دَخلته الْفَاء. قَوْله:
(مَا لم أقل) كلمة: مَا، مَوْصُولَة و: أقل، جملَة صلتها،
والعائد مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا لم أَقَله. فَإِن قلت:
أَهَذا مُخْتَصّ بالْقَوْل أم يتَنَاوَل نِسْبَة فعل
إِلَيْهِ لم يَفْعَله؟ قلت: اللَّفْظ خَاص بالْقَوْل،
لَكِن لَا شكّ أَن الْفِعْل فِي مَعْنَاهُ لاشْتِرَاكهمَا
فِي عِلّة الِامْتِنَاع، وَهُوَ الجسارة على الشَّرِيعَة
ومشرعها صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد احْتج بِظَاهِر
هَذَا الحَدِيث الَّذِي منع من رِوَايَة الحَدِيث
بِالْمَعْنَى. وَأجِيب: من جِهَة المجوزين بِأَن المُرَاد
النَّهْي عَن الْإِتْيَان بِلَفْظ يُوجب تَغْيِير الحكم،
على أَن الْإِتْيَان بِاللَّفْظِ أولى بِلَا شكّ.
5 - (حَدثنَا مُوسَى قَالَ حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن أبي
حبصن عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ تسموا باسمي وَلَا تكتنوا
بكنيتي وَمن رَآنِي فِي الْمَنَام فقد رَآنِي فغن
الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل فِي صُورَتي وَمن كذب على
مُتَعَمدا فَليَتَبَوَّأ مَقْعَده من النَّار) هَذَا هُوَ
الحَدِيث الْخَامِس مِمَّا فِيهِ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة
(بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل الْمنْقري الْبَصْرِيّ التَّبُوذَكِي.
الثَّانِي أَبُو عوَانَة الوضاح الْيَشْكُرِي الثَّالِث
أَبُو حُصَيْن بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد
الْمُهْمَلَتَيْنِ واسْمه عمان بن عَاصِم بن حُصَيْن
الْكُوفِي سمع ابْن عَبَّاس وَأبي صَالح وَغَيرهمَا وَعنهُ
شُعْبَة والسفيانان وَخلق وَكَانَ ثِقَة ثبتا صَاحب سنة من
حفاظ الْكُوفَة وَكَانَ عِنْده أَربع مائَة حَدِيث وَكَانَ
عثمانيا مَاتَ سنة سبع أَو ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة روى
لَهُ الْجَمَاعَة وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ من اسْمه
عُثْمَان وكنيته أَبُو حُصَيْن
(2/153)
بِفَتْح الْحَاء إِلَّا هَذَا أَبُو
حُصَيْن عُثْمَان وَمن عداهُ حُصَيْن بِضَم الْحَاء
الْمُهْملَة وَكله بالصَّاد الْمُهْملَة إِلَّا حضين بن
الْمُنْذر فَإِنَّهُ بالضاد الْمُعْجَمَة الرَّابِع أَبُو
صَالح ذكْوَان السمان الزيات الْمدنِي وَقد مرء الْخَامِس
أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (بَيَان لطائف
إِسْنَاده) مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا
أَن رُوَاته مَا بَين بصرى وواسطى وكوفي ومدني. وَمِنْهَا
أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ (بَيَان تعدد
مَوْضِعه وَمن إِخْرَاجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا
فِي الْأَدَب عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَأخرجه مُسلم فِي
مُقَدّمَة كِتَابه عَن مُحَمَّد بن عبيد بن حِسَاب الغبرى
مُقْتَصرا على الْجُمْلَة الأخيره (بَيَان اللُّغَات) وَله
" تسموا " أَمر بِصِيغَة الْجمع من بَاب التفعل تَقول سميت
فلَانا زيدا وسميته بزيد بِمَعْنى واسميته مثله فتسمى بِهِ
وَالِاسْم مُشْتَقّ من سموت لِأَنَّهُ تنويه ورفعة ووزنه
افع والذاهب مِنْهُ الْوَاو لآن جمعه أَسمَاء وتصغيره سمى
وَفِيه أَربع لُغَات اسْم وَاسم بِالضَّمِّ وسم سم قَوْله
" وَلَا تكتنوا " فِيهِ أوجه ثَلَاثَة الأول من بَاب
التفعيل من تكنى يتكنى تكنياً فعلى هَذَا بِفَتْح الْكَاف
وَالنُّون أَيْضا مَعَ التَّشْدِيد واصله لَا تنكلوا
بالتائين فحذفت احداهما كَمَا فِي (نَارا تلظى) اصله تتلظى
الثَّالِث من بَاب الافتعال من اكتنى يكتني اكتناء فعلى
هَذَا بِفَتْح التَّاء وَسُكُون الْكَاف وَفتح التَّاء
وَضم النُّون وَالْكل من الْكِنَايَة وَهِي فِي الأَصْل
أَن يتَكَلَّم بِشَيْء وَيُرِيد بِهِ غَيره وَقد كنت
بِكَذَا وَكَذَا وكنوت بِهِ والكنية بِالضَّمِّ والكنية
أَيْضا بِالْكَسْرِ وَاحِدَة الكنى وَهُوَ اسْم مصدر بأب
أَو أم واكتنى فلَان بِكَذَا وكنيته تكتنيه. وَاعْلَم أَن
الِاسْم الْعلم إِمَّا أَن يكون مشعراً بمدح أَو ذمّ
وَهُوَ اللقب وَإِمَّا أَن لَا يكون فَأَما يصدر بِنَحْوِ
الْأَب أَو الْأُم وَهُوَ الكنية أَولا وَهُوَ الِاسْم
فالاسم النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُحَمَّد
وكنيته أَبُو الْقَاسِم ولقبه رَسُول الله وَسيد
الْمُرْسلين مثلا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْله "
الشَّيْطَان " إِمَّا مُشْتَقّ من شاط أَي هلك فَهُوَ
فعلان وَأما من شطن أَي بعد فَهُوَ فيعال والشيطان
مَعْرُوف وكل عَاتٍ متمر دمن الْجِنّ وَالْإِنْس
وَالدَّوَاب شَيْطَان وَالْعرب تسمى الْحَيَّة شَيْطَانا
وَقَالَ الْجَوْهَرِي الشَّيْطَان نونه أَصْلِيَّة
وَيُقَال زَائِدَة فان جعلته فيعالا من قَوْلهم تشيطن
الرجل صرفته وان جعلته من تشيط لم تصرفه لِأَنَّهُ فعلان
قَوْله " لَا يتَمَثَّل " أَي لَا يتَصَوَّر يُقَال مثلت
لَهُ كَذَا تمثيلا فتمثل أَي صورت لَهُ بِالْكِتَابَةِ
وَغَيرهَا فتصور قَالَ الله تَعَالَى (فتمثل لَهَا بشرا
سويا) والتركيب يدل على من لظرة الشَّيْء للشَّيْء
وَالصُّورَة الْهَيْئَة (بَيَان الْإِعْرَاب) قَوْله "
تسموا " جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وباسمى صلَة لَهُ
وَكَذَا قَوْله " وَلَا تكنوا بكنيتي " وَهُوَ من قبيل عطف
المنفى على الْمُثبت قَوْله " وَمن رَآنِي " كلمة من
مَوْصُولَة متضمنة معنى الشَّرْط وَلِهَذَا دخلت الْفَاء
فِي الْجَواب وَهُوَ قَوْله " فقد رَآنِي " فان قلت
الشَّرْط يَنْبَغِي أَن يكون غير الْجَزَاء سَببا لَهُ
مُتَقَدما عَلَيْهِ وَهَهُنَا لَيْسَ كَذَلِك قلت لَيْسَ
هُوَ الْجَزَاء حَقِيقَة بل لَازِمَة تَقْدِيره فليستبشر
فانه قد رَآنِي وَهِي رُؤْيا بعْدهَا شَيْء فَإِن الشَّرْط
وَالْجَزَاء إِذا اتحدا صُورَة دلّ على الْكَمَال والغاية
نَحْو " من كَانَت هجرته إِلَى الله وَرَسُوله فَهجرَته
إِلَى الله وَرَسُوله " وَنَحْو من أدْرك الضَّمَان فقد
أدْرك المرعى أَي أدْرك مرعى متناهياً قَوْله " فان
الشَّيْطَان " الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل والشيطان اسْم
أَن وخبرها قَوْله " لَا يتَمَثَّل فِي صُورَتي " وإعراب
الْجُمْلَة الْأَخِيرَة قد مر بَيَانه (بَيَان الْمعَانِي)
فِي أَرْبَعَة أَحْكَام عطف بَعْضهَا على بعض الأول
التَّسْمِيَة باسمه وَالثَّانِي التكنية بكنيته
وَالثَّالِث رُؤْيَته فِي الْمَنَام وَالرَّابِع الْكَذِب
عَلَيْهِ فَوجه ذكر الحكم الثَّانِي عقيب الحكم الأول
ظَاهر وَذَلِكَ لِأَن التَّسْمِيَة والتكنية من وَاد
وَاحِد من أَقسَام الْأَعْلَام وَكَذَلِكَ وَجه الحكم
الرَّابِع عقيب الحكم الثَّالِث ظَاهر وَهُوَ انه إِذا كذب
عَلَيْهِ بِأَنَّهُ رَآهُ فِي الْمَنَام فَهُوَ أَيْضا
دَاخل تَحت الْوَعيد الْمَذْكُور وَأما وَجه ذكر الحكم
الثَّالِث عقيب الحكم الثَّانِي وَالْأول فَهُوَ (1)
قَوْله " وَمن رَآنِي فِي الْمَنَام " إِلَى آخِره جَاءَ
فِي الحَدِيث أَرْبَعَة أَلْفَاظ صِحَاح مَا ذكر و " من
رَآنِي فقد رأى الْحق " وَجَاء " فسيراني فِي الْيَقَظَة "
وَجَاء " فَكَأَنَّمَا رَآنِي فِي الْيَقَظَة " وَفِي
رِوَايَة " فَإِنَّهُ لَا يَنْبَغِي للشَّيْطَان أَن يتشبه
بِي " وَهَذَا الثَّانِي تَفْسِير للْأولِ فَإِنَّهُ
قَوْله " فقد رَآنِي فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي
" مَعْنَاهُ فقد رأى الْحق قَالَ الإِمَام الْمَاوَرْدِيّ
وَغَيره اخْتلف فِي تَأْوِيله فَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر
بن
هَامِش - - - - - _ (1) كَذَا بَيَاض فِي جَمِيع الْأُصُول
الخطية
(2/154)
الطّيب معنى قَوْله " فقد رَآنِي " أَي رأى
الْحق ورؤياه لَيست بأضغاث أَحْلَام وَلَا من تَشْبِيه
الشَّيْطَان وَقَوله " فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل
بِي " إِشَارَة إِلَيْهِ إِلَى أَنَّهَا لَا تكون أضغاث
أَحْلَام بل حَقًا ورؤيا صَحِيحَة قَالَ وَقد يرَاهُ
الرَّائِي على غير صفته المنقولة إِلَيْنَا كإبياض
اللِّحْيَة أَو خلاف لَونه أَو يرَاهُ اثْنَان فِي زمن
وَاحِد أَحدهمَا بالمشرق وَالْآخر بالمغرب يرَاهُ كل
وَاحِد فِي مَكَانَهُ وَقَالَ آخَرُونَ بل الْحَدث على
ظَاهره وَالْمرَاد أَن من رَآهُ فقد أدْركهُ عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا مَانع يمْنَع مِنْهُ وَالْعقل
لَا يحيله وَمَا يذكر من الاعتلال بِأَنَّهُ قد يرَاهُ على
خلاف صفته الْمَعْرُوفَة أوفى مكانين مَعًا فَذَلِك غلط من
الرائيفي صِفَاته وتخيل لَهَا على خلاف مَا هِيَ عَلَيْهِ
وَقد نظر بعض الخيالات مرئيات والإدراك لَا يشْتَرط فِيهِ
تحديق الْأَبْصَار ولأقرب الْمسَافَة وَلَا كَون المرئي
مَدْفُونا فِي الأَرْض وَلَا ظَاهرا عَلَيْهَا إِنَّمَا
يشْتَرط كَونه مَوْجُودا وَجَاء مَا يدل على بَقَاء جِسْمه
عَلَيْهِ السَّلَام وَإِن الْأَنْبِيَاء لَا تغيرهم
الأَرْض وَتَكون الصِّفَات المخيلة اثرها وثمرتها
اخْتِلَاف الدلالات فقد ذكر أَنه إِذا رَآهُ شَيخا فَهُوَ
عَام سلم وَإِذا رَآهُ شَابًّا فَهُوَ عَام جَدب وان رَآهُ
حسن الْهَيْئَة حسن الْأَقْوَال وَالْأَفْعَال مُقبلا على
الرَّائِي كَانَ خيرا لَهُ وان رَآهُ على خلاف ذَلِك كَانَ
شرا لَهُ وَلَا يلْحق النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام وَمن ذَلِك شَيْء وَلَو رَآهُ أَمر بقتل من
لَا يحل قَتله فَهَذَا من الصِّفَات المتخيلة لَا المرئية
وَفِيه قَول ثَالِث قَالَه لقَاضِي عِيَاض وَأَبُو بكر بن
الْعَرَبِيّ أَن رَآهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
بِصفتِهِ الْمَعْلُومَة فَهُوَ إِدْرَاك الْحَقِيقَة وَإِن
رَآهُ على غير صفته فَهُوَ إِدْرَاك الْمِثَال وَتَكون
رُؤْيا تَأْوِيل فان من الرُّؤْيَا مَا يخرج على وَجههَا
وَمِنْهَا مَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل قَالَ النَّوَوِيّ
القَوْل الثَّالِث ضَعِيف بل الصَّحِيح القَوْل الثَّانِي
وَيُقَال معنى قَوْله " فقد رَآنِي " أَي فقد رأى مثالي
بِالْحَقِيقَةِ لِأَن المرئي فِي الْمَنَام مِثَال قَوْله
" فَإِن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بِي " يدل على ذَلِك
وَيقرب مِنْهُ مَا قَالَه الْغَزالِيّ فَإِنَّهُ قَالَ
لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنه رأى جسمي وبدني بل رأى مِثَالا صَار
ذَلِك الْمِثَال آلَة يتَأَدَّى بهَا الْمَعْنى الَّذِي
فِي نَفسِي إِلَيْهِ بل الْبدن الْيَقَظَة أَيْضا لَيْسَ
إِلَّا آلَة النَّفس فَالْحق أَن مَا يرَاهُ مِثَال
حَقِيقَة روحه المقدسة الَّتِي هِيَ مَحل النُّبُوَّة
فَمَا رَآهُ من الشكل لَيْسَ هُوَ روح النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَلَا شخصه بل هُوَ مِثَال لَهُ على
التَّحْقِيق. فَإِن قلت الْمَنَام ثَلَاثَة أَقسَام رُؤْيا
من الله ورؤيا من الشَّيْطَان ورؤيا مِمَّا حدث بِهِ
الْمَرْء نَفسه وَالْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب نفت
الْقسم الثَّانِي مِنْهَا وَهُوَ مَا يكون من الشَّيْطَان
فَهَل يجوز أَن تكون رُؤْيَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
الْمَنَام من الْقسم الثَّالِث وَهُوَ مَا يحدث بِهِ
الْمَرْء نَفسه أَولا قلت لَا يجوز وَبَيَان ذَلِك
مَوْقُوف على تَقْدِيم مُقَدّمَة وَهِي أَن الِاجْتِمَاع
بَين الشخصين يقظة ومناما لحُصُول مَا بِهِ الِاتِّحَاد.
وَله خَمْسَة أصُول كُلية الِاشْتِرَاك فِي الذَّات أَو
فِي صفة فَصَاعِدا أَو فِي حَال فَصَاعِدا أَو فِي حَال
أَو فِي حَال الْأَفْعَال وَفِي الْمَرَاتِب وكل مَا يتعقل
من الْمُنَاسبَة بَين شَيْئَيْنِ أَو أَشْيَاء لَا يخرج
عَن هَذِه الْخَمْسَة وبحسب قوته على مَا بِهِ
الِاخْتِلَاف وَضَعفه يكثر الِاجْتِمَاع ويقل وَقد يقوى
على ضِدّه فتقوى الْمحبَّة بِحَيْثُ يكَاد الشخصان لَا
يفترقان وَقد يكون بِالْعَكْسِ وَمن حصل لَهُ الْأُصُول
الْخَمْسَة وَثبتت الْمُنَاسبَة بَينه وَبَين أَرْوَاح
الماضين اجْتمع بهم مَتى شَاءَ وَإِذا عرف هَذَا ظهر أَن
حَدِيث الْمَرْء نَفسه لَيْسَ مِمَّا يقدر أَن يحصل
مُنَاسبَة بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ليَكُون سَبَب الِاجْتِمَاع بِخِلَاف الْملك الْمُوكل
بالرؤيا فَإِنَّهُ يمثل بالوجود مَا فِي اللَّوْح
الْمَحْفُوظ من الْمُنَاسبَة وَقَوله فِي بعض الرِّوَايَات
" فسيراني فِي الْيَقَظَة ". " وكأنما رَآنِي فِي
الْيَقَظَة قبل مَعْنَاهُ سيرى تَفْسِير مَا رأى لِأَنَّهُ
حق وَقيل سيراه فِي الْقِيَامَة وَقيل المُرَاد بقوله "
سيراني " أهل عصره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مُمل لم
يُهَاجر فَتكون الرُّؤْيَة فِي الْمَنَام علما لَهُ على
رُؤْيَته فِي الْيَقَظَة قَوْله " فَأن الشَّيْطَان لَا
يتَمَثَّل فِي صُورَتي " أَي لَا يتَصَوَّر بِصُورَتي
وَاخْتلف فِي معنى الصُّورَة فَقيل أَي فِي صِفَتي وَهُوَ
صفة الْهِدَايَة وَقيل هِيَ على حَقِيقَته وَهِي التخطيط
الْمَعْلُوم الْمشَاهد لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهَذَا ظَاهر وَعَن هَذَا وضعوه لرُؤْيَته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ميزاناً وَقَالُوا رُؤْيَته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم هِيَ أَن يرَاهُ الرَّائِي بِصُورَة
شَبيهَة لصورته الثَّابِتَة حليتها بِالنَّقْلِ الصَّحِيح
حَتَّى لَو رَآهُ فِي صُورَة مُخَالفَة لصورته الَّتِي
كَانَ عَلَيْهَا فِي الْحس لم يكن رَآهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مثل أَن يرَاهُ طَويلا أَو قَصِيرا جدا أَو يرَاهُ
أشعر أَو شَيخا أَو شَدِيد السمرَة وَنَحْو ذَلِك وَيُقَال
خص الله تَعَالَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن
رُؤْيَة النَّاس إِيَّاه صَحِيحَة وَكلهَا صدق وَمنع
الشَّيْطَان أَن يتَصَوَّر فِي خلقته لِئَلَّا يكذب على
لِسَانه فِي النّوم كَمَا خرق الله تَعَالَى الْعَادة
للأنبياء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام بالمعجزة وكما
اسْتَحَالَ أَن يتَصَوَّر الشَّيْطَان فِي صورته فِي
الْيَقَظَة وَقَالَ مُحي السّنة رُؤْيا النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الْمَنَام حق وَلَا يتَمَثَّل
الشَّيْطَان بِهِ
(2/155)
وَكَذَلِكَ جَمِيع الْأَنْبِيَاء
وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَلَا
يتَمَثَّل بهم (بَيَان استنباط الْأَحْكَام) الأول احْتج
أهل الظَّاهِر بقوله " ولاتكنوا " على منع التكنى بكنية
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُطلقًا وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي وَقَالَ الرّبيع قَالَ الشَّافِعِي لَيْسَ
لأحد أَن يكتنى بِأبي الْقَاسِم سَوَاء كَانَ اسْمه
مُحَمَّد أم لم يكن وَقَالَ القَاضِي وَمنع قوم تَسْمِيَته
الْوَلَد بالقاسم كَيْلا يكون سَببا للتكنية وَيُؤَيّد
هَذَا قَوْله فِيهِ " إِنَّمَا أَنا قَاسم " وَاخْبَرْ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَعْنَى الَّذِي اقْتضى
اخْتِصَاصه بِهَذِهِ الكنية وَقَالَ قوم يجوز التكنى بِأبي
الْقَاسِم لغير اسْمه مُحَمَّد وَأحمد وَيجوز التَّسْمِيَة
بِأَحْمَد وَمُحَمّد مَا لم يكن لَهُ كنيته بِأبي
الْقَاسِم وَقد روى جَابر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم " من تسمى باسمي فَلَا يتكنى بكنيتي وَمن تكنى
بكنيتي فَلَا يتسمى بإسمي " وَأخرج التِّرْمِذِيّ عَن أبي
هُرَيْرَة " نهى النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ
وَسلم أَن يجمع بَين اسْمه وكنيته " وَذهب قوم إِلَى أَن
النَّهْي مَنْسُوخ الْإِبَاحَة فِي حَدِيث عَليّ وَطَلْحَة
رَضِي الله عَنْهُمَا وَهُوَ قَول الْجُمْهُور من السّلف
وَالْعُلَمَاء وسمت جمَاعَة أَبْنَاءَهُم مُحَمَّدًا
وكنوهم أَبَا الْقَاسِم قَالَ المازرى قَالَ بَعضهم
النَّهْي مَقْصُور بحياة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لِأَنَّهُ ذكر أَن سَبَب الحَدِيث أَن رجلا نَادَى يَا
أَبَا الْقَاسِم فَالْتَفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَقَالَ لم أعنك وَإِنَّمَا دَعَوْت فلَانا فَقَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم " تسموا باسمى وَلَا
تكتنوا بكنيتي " وَبِه قَالَ مَالك وجوزان يُسمى بِمُحَمد
ويكنى بِأبي الْقَاسِم مُطلقًا قلت أما الحَدِيث الأول
فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَأما الثَّانِي فَفِي
الصَّحِيحَيْنِ وَقيل أَن سَبَب النَّهْي أَن الْيَهُود
تكنوا بِهِ وَكَانُوا ينادون يَا أَبَا الْقَاسِم فَإِذا
الْتفت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالُوا لم نعنك
اظهاراً للايذاء وَقد زَالَ ذَلِك الْمَعْنى وَأما
الثَّالِث فَهُوَ حَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ فَأخْرجهُ
أَبُو دَاوُد فِي سنَنه من حَدِيث مُحَمَّد بن
الْحَنَفِيَّة قَالَ قَالَ عَليّ رَضِي الله عَنهُ " قلت
يَا رَسُول الله أَن ولد لي من بعْدك أنسميه بِاسْمِك
ونكنيه بكنيتك قَالَ نعم " وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله
ثَلَاثَة تكنوا بِأبي الْقَاسِم رخص لَهُم مُحَمَّد بن
الْحَنَفِيَّة وَمُحَمّد بن أبي بكر وَمُحَمّد بن طَلْحَة
بن عبد الله وَقَالَ ابْن جرير النَّهْي فِي الحَدِيث
للتنزيه وَالْأَدب لَا للتَّحْرِيم. الثَّانِي فِيهِ
التَّصْرِيح بِجَوَاز التسمي باسمه. الثَّالِث فِيهِ أَن
رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حق. الرَّابِع
أَن الشَّيْطَان لَا يتَمَثَّل بصورته الْخَامِس الْكَاذِب
عَلَيْهِ معد لنَفسِهِ النَّار (الأسئلة والأجوبة) مِنْهَا
مَا قيل أَن رُؤْيا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا
كَانَت حَقًا فَهَل يُطلق عَلَيْهِ الصَّحَابِيّ أم لَا
أُجِيب بِلَا إِذْ لَا يصدق عَلَيْهِ حد الصَّحَابِيّ
وَهُوَ مُسلم رأى النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
إِذا المُرَاد مِنْهُ لَا رُؤْيَة الْمَعْهُودَة
الْجَارِيَة على الْعَادة أَو الرُّؤْيَة فِي حَيَاته فِي
الدُّنْيَا لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ
الْمخبر عَن الله وَهُوَ إِنَّمَا كَانَ مخبرا عَنهُ
للنَّاس فِي الدُّنْيَا لَا فِي الْقَبْر. وَمِنْهَا مَا
قيل الحَدِيث المسموع عَنهُ فِي الْمَنَام هَل هُوَ حجَّة
يسْتَدلّ بهَا أم لَا أُجِيب بِلَا إِذْ يشْتَرط فِي
الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن يكون الرَّاوِي ضابطاً عِنْد
السماع من النّوم لَيْسَ حَال الضَّبْط. وَمِنْهَا مَا قيل
حُصُول الْجَزْم فِي نفس الرَّائِي أَنه رأى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم هَل هُوَ حجَّة أَو أم لَا أُجِيب
بِلَا بل ذَلِك المرئي هُوَ صُورَة الشَّارِع
بِالنِّسْبَةِ إِلَى اعْتِقَاد الرَّائِي أَو حَاله أَو
بِالنِّسْبَةِ إِلَى صفته أَو حكم من أَحْكَام الْإِسْلَام
أَو بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْموضع الَّذِي رأى فِيهِ ذَلِك
الرَّائِي تِلْكَ الصُّورَة الَّتِي ظن أَنَّهَا صُورَة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا مَا قيل مَا
حَقِيقَة الرُّؤْيَا أُجِيب بِأَنَّهَا ادراكات يخلقها
الله تَعَالَى فِي قلب العَبْد على يَد الْملك والشيطان
وَنَظِيره فِي الْيَقَظَة الخواطر فَإِنَّهَا قد تَأتي على
نسق وَقد تَأتي مسترسلة غير محصلة فَإِذا خلقهَا الله
تَعَالَى على يَد الْملك كَانَ وَحيا وبرهاناً مفهوماً نقل
هَذَا عَن الشَّيْخ أبي إِسْحَاق وَعَن القَاضِي أبي بكر
أَنَّهَا اعتقادات قَالَ الإِمَام أَبُو بكر بن
الْعَرَبِيّ منشأ الْخلاف بَينهمَا نه قد يرى نَفسه
بَهِيمَة أَو ملكا أَو طائراً وَهَذَا لَيْسَ إدراكاً
لِأَنَّهُ لَيْسَ حَقِيقَة فَصَارَ القَاضِي إِلَى
أَنَّهَا اعتقادات لَان الِاعْتِقَاد قد يَأْتِي على خلاف
المعتقد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ ذهل القَاضِي عَن أَن
هَذَا المرئي مثل فالإدراك إِنَّمَا يتَعَلَّق بِالْمثلِ
وَقَالَ أَن الله يخلق فِي قلب النَّائِم اعتقادات كَمَا
يخلقها فِي قلب الْيَقظَان فَهُوَ تَعَالَى يفعل مَا
يَشَاء فَلَا يمنعهُ من فعله نوم وَلَا يقظة فَإِذا خلق
هَذِه الاعتقادات فَكَأَنَّهُ جعلهَا علما على أُمُور أخر
يخلقها فِي ثَانِي الْحَال أَو كَانَ قد خلقهَا فَإِذا خلق
فِي قلب النَّائِم اعْتِقَاد الطيران وَلَيْسَ بطائر
فقصارى أمره أَنه أعتقد أمرا على خلاف مَا هُوَ عَلَيْهِ
فَيكون ذَلِك الِاعْتِقَاد علما على غَيره كَمَا يخلق الله
الْغَيْم علما على الْمَطَر وَيُقَال حَقِيقَة الرُّؤْيَا
مَا يَنْزعهُ الْملك الْمُوكل عَلَيْهَا فَإِن الله
تَعَالَى قدر كل بالرؤيا ملكا يضْرب من الْحِكْمَة
الْأَمْثَال وَقد اطلعه الله تَعَالَى
(2/156)
على قصَص ولد آدم من اللَّوْح الْمَحْفُوظ
فَهُوَ ينْسَخ مِنْهَا وَيضْرب لكل على قصَّته مثلا فَإِذا
نَام تمثل لَهُ تِلْكَ الْأَشْيَاء على طَرِيق الْحِكْمَة
ليَكُون لَهُ بِشَارَة أَو نذارة أَو معاتبة ليكونوا على
بَصِيرَة من أَمرهم (فَائِدَة) أعلم أَن البُخَارِيّ رَضِي
الله عَنهُ أخرج حَدِيث " من كذب عَليّ " هَهُنَا عَن
خَمْسَة من الصَّحَابَة وهم عَليّ بن أبي طَالب
وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَأنس بن مَالك وَسَلَمَة بن
الْأَكْوَع وَأَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنْهُم فَقدم
حَدِيث عَليّ لَان فِيهِ النَّهْي عَن الْكَذِب عَلَيْهِ
صَرِيحًا والوعيد للكاذب وَالْمرَاد من عقد الْبَاب
التَّنْبِيه عَلَيْهِ ثمَّ عقبه بِحَدِيث الزبير لزِيَادَة
فِيهِ وَهِي التَّنْبِيه على توقي الصَّحَابَة وتحرزهم من
كَثْرَة الرِّوَايَة عَنهُ المؤدية إِلَى انجرار الْكَذِب
الْخَطَأ ثمَّ عقب ذَلِك بِحَدِيث أنس للتّنْبِيه على
نُكْتَة وَهِي أَن توقيهم لم يكن بالامتناع عَن اصل
الحَدِيث لأَنهم مأمورون بالتبليغ وَإِنَّمَا كَانَ لخوفهم
من الْإِكْثَار المفضى إِلَى الْخَطَأ ثمَّ عقب ذَلِك
بِحَدِيث سَلمَة لما فِيهِ من التَّصْرِيح بالْقَوْل لِأَن
الْأَحَادِيث الَّتِي قبله أَعم من نِسْبَة القَوْل
وَالْفِعْل إِلَيْهِ ثمَّ ختم الْأَرْبَعَة بِحَدِيث أبي
هُرَيْرَة لما فِيهِ من الْإِشَارَة إِلَى اسْتِوَاء
تَحْرِيم الْكَذِب عَلَيْهِ فِي حَال سَوَاء كَانَ فِي
الْيَقَظَة أَو فِي النّوم (فَائِدَة أُخْرَى) اعْلَم أَن
حَدِيث " من كذب عَليّ " فِي غَايَة الصِّحَّة وَنِهَايَة
الْقُوَّة حَتَّى أطلق عَلَيْهِ جمَاعَة أَنه متواتر ونوزع
بِأَن شَرط التَّوَاتُر اسْتِوَاء طَرفَيْهِ وَمَا
بَينهمَا فِي الثرة وَلَيْسَت مَوْجُودَة فِي كل طَرِيق
بمفردها أُجِيب بِأَن المُرَاد من إِطْلَاق كَونه متواترا
رِوَايَة الْمَجْمُوع عَن الْمَجْمُوع من ابْتِدَائه إِلَى
انتهائه فِي كل عصر وَهَذَا كَاف فِي إِفَادَة الْعلم
وَحَدِيث أنس قد روى عَن الْعدَد الْكثير وتواترت عَنْهُم
الطّرق وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ عَن
سِتَّة من مشاهير التَّابِعين وثقاتهم وَالْعدَد الْمعِين
لَا يشْتَرط فِي التَّوَاتُر بل مَا أَفَادَ الْعلم كَاف
وَالصِّفَات الْعليا فِي الروَاة تقوم مقَام الْعدَد أَو
تزيد عَلَيْهِ وَلَا سِيمَا قد روى هَذَا الحَدِيث عَن
جمَاعَة كثير من الصَّحَابَة فَحكى الإِمَام أَبُو بكر
الصَّيْرَفِي فِي شَرحه لرسالة الشَّافِعِي أَنه روى عَن
أَكثر من سِتِّينَ صحابياً مَرْفُوعا وَقَالَ بعض الْحفاظ
أَنه روى عَن اثْنَيْنِ وَسِتِّينَ صحابياً وَفِيهِمْ
الْعشْرَة المبشرة وَقَالَ وَلَا يعرف حَدِيث اجْتمع على
رِوَايَته الْعشْرَة المبشرة إِلَّا هَذَا وَلَا حَدِيث
يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا وَقَالَ
بَعضهم انه رَوَاهُ مِائَتَان من الصَّحَابَة وَقد اعتنى
جمَاعَة من الْحفاظ بِجمع طرقه فَقَالَ إِبْرَاهِيم
الْحَرْبِيّ أَنه ورد من حَدِيث أَرْبَعِينَ من
الصَّحَابَة وَكَذَا قَالَ أَبُو بكر الْبَزَّار وَجمع
طرقه أَبُو مُحَمَّد يحيى بن مُحَمَّد بن صاعد فَزَاد
قَلِيلا وَجَمعهَا الطَّبَرَانِيّ فَزَاد قَلِيلا وَقَالَ
أَبُو الْقَاسِم بن مَنْدَه رَوَاهُ اكثر من ثَمَانِينَ
نفسا وَجمع طرقه ابْن الْجَوْزِيّ فِي مُقَدّمَة كتاب
الموضوعات فجاوز التسعين وَبِذَلِك حرم بن دحْيَة ثمَّ
جمعهَا الحافظان يُوسُف بن خَلِيل الدِّمَشْقِي وَأَبُو
بكر وهما متعاصران فَوَقع لكل مِنْهُمَا مَا لَيْسَ عِنْد
الآخر وَتحصل من مَجْمُوع ذَلِك كُله رِوَايَة مائَة من
الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم وَقَالَ ابْن الصّلاح لم
يزل عدده فِي ازدياد وهلم جرا على التوالي والاستمرار
وَلَيْسَ فِي الْأَحَادِيث مَا فِي مرتبته من التَّوَاتُر
وَقيل لم يُوجد فِي الحَدِيث مِثَال للمتواتر إِلَّا هَذَا
وَقَالَ ابْن دحْيَة قد أخرج من نَحْو أَرْبَعمِائَة
طَرِيق قلت قَول من قَالَ لَا يعرف حَدِيث اجْتمع على
رِوَايَته الْعشْرَة إِلَّا هَذَا غير مُسلم فَإِن حَدِيث
رفع الْيَدَيْنِ اجْتمع على رِوَايَته الْعشْرَة كَذَلِك
حَدِيث الْمسْح على الْخُفَّيْنِ وَكَذَا قَوْله وَلَا
حَدِيث يرْوى عَن اكثر من سِتِّينَ صحابياً إِلَّا هَذَا
فَإِن حَدِيث السِّوَاك رَوَاهُ أثر من سِتِّينَ صحابياً
بيّنت ذَلِك فِي شرح مَعَاني الْآثَار للطحاوي رَحمَه الله
وَكَذَلِكَ قَول من قَالَ لم يُوجد من الحَدِيث مِثَال
للمتواتر إِلَّا هَذَا فَإِن حَدِيث " من بنى لله مَسْجِدا
" وَحَدِيث الشَّفَاعَة والحوض ورؤية الله فِي الْآخِرَة
وَالْأَئِمَّة من قُرَيْش كلهَا تصلح مِثَالا للمتواتر
فَافْهَم (فَائِدَة أُخْرَى) تَفْصِيل طرق الْأَحَادِيث
الْمِائَة من الصَّحَابَة الَّتِي تحصلت من جَمِيع الْحفاظ
الْمَذْكُورين هُوَ أَن أَرْبَعَة عشر حَدِيثا مِنْهَا قد
صحت فَعِنْدَ البُخَارِيّ وَمُسلم عَن عَليّ بن أبي طَالب
وَأنس بن مَالك وَأبي هُرَيْرَة والمغيرة أخرج البُخَارِيّ
حَدِيثه فِي الْجَنَائِز وَعند البُخَارِيّ أَيْضا عَن
الزبير بن الْعَوام وَسَلَمَة ابْن الْأَكْوَع وَعبد الله
بن عَمْرو بن الْعَاصِ أخرجه حَدِيثه فِي أَخْبَار بني
إِسْرَائِيل وَعند مُسلم أَيْضا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ
وَعند غَيرهمَا من الصِّحَاح أَيْضا عَن عُثْمَان بن
عَفَّان وَعبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عمر وَأبي
قَتَادَة وَجَابِر وَزيد بن أَرقم وَمِنْهَا سِتَّة عشر
حَدِيثا فِي الحسان وَهِي عَن طَلْحَة بن عبيد الله
وَسَعِيد بن زيد وَأبي عُبَيْدَة بن الْجراح ومعاذ بن جبل
وَعقبَة بن عَامر وَعمْرَان بن حُصَيْن وسلمان الْفَارِسِي
وَمُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان وَرَافِع بن خديج وطارق
الْأَشْجَعِيّ
(2/157)
والسائب بن يزِيد وخَالِد بن عرفطة وَأبي
أُمَامَة وَأبي قرصافة وَأبي مُوسَى الغافقي وَعَائِشَة
رَضِي الله عَنْهُم فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثُونَ نفسا وَمِنْهَا
سَبْعُونَ حَدِيثا مَا بَين ضَعِيف وساقط عَن سبعين نفسا
مِنْهُم وهم أَبُو بكر بن عمر بن الْخطاب وَعبد الرَّحْمَن
بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وعمار بن يَاسر وَابْن
عَبَّاس وَابْن الزبير وَزيد بن ثَابت وَأَبُو مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ وَجَابِر بن عبد الله وَأُسَامَة بن زيد بن
وَقيس بن سعد بن عبَادَة وواثلة بن الاسقع وَكَعب بن
قُطْبَة وَسمرَة بن جُنْدُب والبراء ابْن عَازِب وَأَبُو
مُوسَى الغاففقي وَمَالك بن عبد الله بن زعب وصهيب والنواس
بن سمْعَان ويعلى بن مرّة وَحُذَيْفَة ابْن الْيَمَان
والسائب بن يزِيد وَبُرَيْدَة بن الْحصيب وَسليمَان بن
خَالِد الْخُزَاعِيّ وَعبد الله بن الْحَارِث بن جُزْء بن
عَمْرو ابْن عبسة السّلمِيّ وطارق بن أَشْيَم وَأَبُو
رَافع إِبْرَاهِيم وَيُقَال اسْلَمْ مولى النَّبِي
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَعتبَة بن غَزوَان
وَمُعَاوِيَة بن حيدة ومعاذ بن جبل وَسعد بن المدحاس
وَأَبُو كَبْشَة الانماري والعرس بن عميرَة والمنقع
التَّمِيمِي وَابْن أبي العشراء الدَّارمِيّ ونبيط بن شريط
وَأَبُو ذَر الْغِفَارِيّ وَيزِيد بن أَسد وَأَبُو
مَيْمُون الْكرْدِي وَرجل من أَصْحَاب النَّبِي عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام وَرجل آخر (1)
39 - (بابُ كِتَابَةِ العلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كِتَابَة الْعلم، وَهَذَا
الْبَاب فِيهِ اخْتِلَاف بَين السّلف فِي الْعَمَل
وَالتّرْك مَعَ إِجْمَاعهم على الْجَوَاز، بل على
اسْتِحْبَابه، بل لَا يبعد وُجُوبه فِي هَذَا الزَّمَان
لقلَّة اهتمام النَّاس بِالْحِفْظِ، وَلَو لم يكْتب يخَاف
عَلَيْهِ من الضّيَاع والاندراس.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي
الْبَاب السَّابِق حثا على الِاحْتِرَاز عَن الْكَذِب فِي
النَّقْل عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي
هَذَا الْبَاب أَيْضا حث على الِاحْتِرَاز. عَن ضيَاع
كَلَام الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلَا
سِيمَا من أهل هَذَا الزَّمَان، لقُصُور هممهم فِي
الضَّبْط وتقصيرهم فِي النَّقْل.
111 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنِ سَلاَمٍ قالَ: أخْبَرَنَا
وَكِيعٌ عنْ سُفْيَانَ عنْ مطَرِّفٍ عَنِ الشَّعْبِي عنْ
أبي جُحَيْفَةَ قالَ: قُلْتُ لِعَليٍ: هَلْ عِنْدَكُمْ
كِتَابٌ؟ قَالَ: لاَ! إلاَّ كِتابُ اللَّهِ، أوْ فَهْمٌ
أُعْطِيَهُ رَجُلٌ مُسْلمٌ، أوْ مَا فِي هَذِهِ
الصَّحِيفَةِ. قالَ: قُلْتُ: فَمَا فِي هَذِهِ
الصَّحِيفَةِ؟ قالَ: العَقْلُ، وَفَكاكُ الأسِير ولاَ
يُقْتلُ مُسْلِمٌ بكافِرٍ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فِي هَذِه
الصَّحِيفَة) ، لِأَن الصَّحِيفَة هِيَ الورقة
الْمَكْتُوبَة، وَفِي (الْعباب) : الصَّحِيفَة الْكتاب،
وَالَّذِي يقْرَأ هُوَ الصَّحِيفَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: مُحَمَّد بن سَلام،
أَبُو عبد الله البيكندي، وَفِي (الْكَمَال) : بتَخْفِيف
اللَّام، وَقد يشدده من لَا يعرف. وَقَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ بِالتَّشْدِيدِ لَا
بِالتَّخْفِيفِ، وَقد تقدم. الثَّانِي: وَكِيع بن الْجراح
بن مليح بن عدي بن فرس بن حَمْحَمَة، وَقيل: غَيره، أَصله
من قَرْيَة من قرى نيسابور، الرواسِي الْكُوفِي من قيس
غيلَان، روى عَن الْأَعْمَش وَغَيره. وَعَن أَحْمد
وَقَالَ: إِنَّه أحفظ من ابْن مهْدي. وَقَالَ حَمَّاد بن
زيد: لَو شِئْت قلت: إِنَّه أرجح من سُفْيَان، ولد سنة
ثَمَان وَعشْرين وَمِائَة، وَمَات بفيد منصرفا من الْحَج
يَوْم عَاشُورَاء سنة سبع وَسِتِّينَ وَمِائَة. وَقَالَ
ابْن معِين: مَا رَأَيْت أفضل من وَكِيع، وَكَانَ يُفْتِي
بقول أبي حنيفَة، وَكَانَ قد سمع مِنْهُ شَيْئا كثيرا، روى
لَهُ الْجَمَاعَة. الثَّالِث: سُفْيَان، قَالَ
الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الثَّوْريّ، وَأَن
يُرَاد بِهِ سُفْيَان بن عُيَيْنَة، لِأَن وكيعا يروي
عَنْهُمَا وهما يرويان عَن مطرف، وَلَا قدح بِهَذَا
الالتباس فِي الْإِسْنَاد، لِأَن أيا كَانَ مِنْهُمَا
فَهُوَ: إِمَام حَافظ ضَابِط عدل مَشْهُور على شَرط
البُخَارِيّ، وَلِهَذَا يروي لَهما فِي (الْجَامِع) شَيْئا
كثيرا. وَقَالَ بَعضهم عَن سُفْيَان: هُوَ الثَّوْريّ،
لِأَن وكيعا مَشْهُور بالرواية عَنهُ، وَلَو كَانَ ابْن
عُيَيْنَة لنسبه، لِأَن الْقَاعِدَة فِي كل من روى عَن
مُتَّفق الِاسْم أَنه يحمل من أهمل نسبته على من يكون لَهُ
بِهِ
(2/158)
خُصُوصِيَّة من إكثار وَنَحْوه، ووكيع
قَلِيل الرِّوَايَة عَن ابْن عُيَيْنَة بِخِلَاف
الثَّوْريّ. قلت: كل مَا ذكره لَيْسَ يصلح مرجحا أَن يكون
سُفْيَان هَذَا هُوَ الثَّوْريّ، بعد أَن ثَبت رِوَايَة
وَكِيع عَن سفيانين كليهمَا وروايتهما عَن مطرف، على أَن
أَبَا مَسْعُود الدِّمَشْقِي قَالَ فِي (الْأَطْرَاف)
هَذَا هُوَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَقَالَ الغساني فِي
كِتَابه (تَقْيِيد المهمل) هَذَا الحَدِيث مَحْفُوظ عَن
ابْن عُيَيْنَة. الرَّابِع: مطرف، بِضَم الْمِيم وَفتح
الطَّاء الْمُهْملَة وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة وبالفاء:
ابْن طريف، بطاء مُهْملَة مَفْتُوحَة: أَبُو بكر،
وَيُقَال: أَبُو عبد الرَّحْمَن، الْكُوفِي الْحَارِثِيّ
نِسْبَة إِلَى بني الْحَارِث بن كَعْب بن عَمْرو،
وَيُقَال: الخارفي، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وبالفاء،
نِسْبَة إِلَى خارف بن عبد الله. وَثَّقَهُ أَحْمد
وَغَيره، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة، روى
لَهُ الْجَمَاعَة. الْخَامِس: عَامر الشّعبِيّ، وَقد تقدم.
السَّادِس: أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء،
واسْمه وهب بن عبد الله السوَائِي، بِضَم السِّين
الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْوَاو وبالمد، الْكُوفِي. رُوِيَ
لَهُ عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ حَدِيثا، اتفقَا على حديثين،
وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بحديثين، وَمُسلم بِثَلَاثَة.
وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، يُكرمهُ وَيُحِبهُ ويثق
بِهِ وَجعله على بَيت المَال بِالْكُوفَةِ، وَشهد مَعَه
مشاهده كلهَا وَنزل الْكُوفَة، وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ
وَسبعين، روى لَهُ الْجَمَاعَة، وَكَانَ من صغَار
الصَّحَابَة. قيل: توفّي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَلم يبلغ الْحلم، وَالله أعلم. السَّابِع:
عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون
إلاَّ شيخ البُخَارِيّ وَقد دخل فِيهَا. وَمِنْهَا: أَن
فِيهِ رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات: قَوْله: (حَدثنَا مُحَمَّد
بن سَلام) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر وَآخَرين، وَفِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا ابْن سَلام. قَوْله: (عَن
الشّعبِيّ) وَفِي رِوَايَة المُصَنّف فِي الدِّيات:
(سَمِعت الشّعبِيّ) . قَوْله: (عَن أبي جُحَيْفَة) ، وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الدِّيات: (سَمِعت أَبَا
جُحَيْفَة) . وَقد صرح باسمه الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي
رِوَايَته.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر،
وَفِي الدِّيات عَن صَدَقَة بن الْفضل عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة كِلَاهُمَا عَن مطرف بِهِ، وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الدِّيات عَن أَحْمد بن منيع عَن هشيم
عَن مطرف نَحوه، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْقود عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن
سُفْيَان بن عُيَيْنَة نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الدِّيات عَن عَلْقَمَة بن عَمْرو الدَّارِيّ عَن أبي بكر
بن عَيَّاش عَن مطرف نَحوه.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (كتاب) أَي: مَكْتُوب من عِنْد
رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله:
(أَو فهم) وَهُوَ جودة الذِّهْن. قَالَ الْجَوْهَرِي: فهمت
الشَّيْء فهما وفهامية: عَلمته. وَفُلَان فهيم، وَقد
استفهمني الشَّيْء فأفهمته وفهمته تفهيما، وتفهم الْكَلَام
إِذا فهمه شَيْئا بعد شَيْء. قَوْله: (الصَّحِيفَة) قد مر
تَفْسِيرهَا. قَوْله: (الْعقل) أَي: الدِّيَة، وَإِنَّمَا
سميت بِهِ لأَنهم كَانُوا يُعْطون فِيهَا الْإِبِل
ويربطونها بِفنَاء دَار الْمَقْتُول بالعقال وَهُوَ:
الْحَبل. قَوْله: (وفكاك الْأَسير) بِكَسْر الْفَاء،
وَهُوَ مَا يفتك بِهِ. وفكه وافتكه بِمَعْنى أَي: خلصه،
وَيجوز فتح الْفَاء أَيْضا. قَالَ الْقَزاز: الْفَتْح
أفْصح. وَفِي (الْعباب) : فك يفك فكا وفكوكا، وَفك
الرَّهْن إِذا خلصه، وفكاك الرَّهْن وفكاكه مَا يفتك بِهِ
عَن الْكسَائي. وَفك الرَّقَبَة أَي: أعْتقهَا، وفككت
الشَّيْء أَي خلصته،، وكل مشتبكين فصلتهما فقد فككتهما.
قَوْله: (الْأَسير) فعيل بِمَعْنى المأسور من أسره إِذا
شده بالإسار، وَهُوَ الْقد، بِكَسْر الْقَاف وبالمهملة،
لأَنهم كَانُوا يشدون الْأَسير بالقد، وَيُسمى كل أخيد
أَسِيرًا وَإِن لم يشد بِهِ.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (هَل) للاستفهام و: (كتاب)
مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره قَوْله: (عنْدكُمْ)
مقدما. قَوْله: (لَا) أَي: لَا كتاب عندنَا إِلَّا كتاب
الله، بِالرَّفْع، وَهُوَ اسْتثِْنَاء مُتَّصِل لِأَن
الْمَفْهُوم من الْكتاب كتاب أَيْضا، لِأَن المفاهيم
تَوَابِع المناطيق. قَوْله: (أَو فهم) بِالرَّفْع عطف على:
كتاب الله. و: (أعْطِيه) بِصِيغَة الْمَجْهُول وَفتح
الْيَاء أسْند إِلَى قَوْله: (رجل) . وَلكنه هُوَ
الْمَفْعُول الأول النَّائِب عَن الْفَاعِل، وَالضَّمِير
الْمَنْصُوب هُوَ الْمَفْعُول الثَّانِي. قَوْله: (مُسلم)
صفة لرجل. قَوْله: (أَو مَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة) عطف
على قَوْله: (كتاب الله) وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة
مُبْتَدأ، وَقَوله: فِي هَذِه الصَّحِيفَة، خَبره. قَوْله:
(قلت: وَمَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة؟) أَي: أَي شَيْء فِي
هَذِه الصَّحِيفَة؟ فكلمة: مَا، استفهامية مُبْتَدأ، و:
فِي هَذِه الصَّحِيفَة، خَبره. وَفِي بعض النّسخ: فَمَا
فِي هَذِه الصَّحِيفَة، بِالْفَاءِ، وَكِلَاهُمَا
للْعَطْف. قَوْله: (الْعقل) مَرْفُوع لِأَنَّهُ مُبْتَدأ
حذف خَبره أَي: فِيهَا الْعقل، والمضاف فِيهِ مَحْذُوف
أَيْضا، أَي: حكم الْعقل أَي: الدِّيَة، كَمَا ذكرنَا.
قَوْله:
(2/159)
(وفكاك الْأَسير) كَلَام إضافي عطف على
الْعقل. قَوْله: (وَلَا يقتل) بِضَم اللَّام وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (وَأَن لَا يقتل) بِزِيَادَة: أَن،
الناصبة. وَأَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على
الِابْتِدَاء، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره: وفيهَا عدم
قتل مُسلم بِكَافِر، يَعْنِي: حُرْمَة قصاص الْمُسلم
بالكافر، وَأما على رِوَايَة من روى: وَلَا يقتل، بِدُونِ:
أَن، فَإِنَّهُ جملَة فعلية معطوفة على جملَة إسمية،
أَعنِي قَوْله: (الْعقل) لِأَن تَقْدِيره: وفيهَا الْعقل،
كَمَا ذكرنَا. وَالتَّقْدِير: وفيهَا الْعقل وفيهَا
حُرْمَة قصاص الْمُسلم بالكافر. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ عطف الْجُمْلَة على الْمُفْرد؟
قلت: هُوَ مثل قَوْله تَعَالَى: {فِيهِ آيَات بَيِّنَات
مقَام إِبْرَاهِيم وَمن دخله كَانَ آمنا} (آل عمرَان: 97)
انْتهى. قلت: لَيْسَ هَهُنَا عطف الْجُمْلَة على الْمُفْرد
وَإِنَّمَا هُوَ عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة، فَإِن
أَرَادَ بقوله الْمُفْرد الْعقل فَهُوَ لَيْسَ بمفرد
لِأَنَّهُ مُبْتَدأ مَحْذُوف الْخَبَر، وَهُوَ جملَة،
وَلَا هُوَ مثل لقَوْله تَعَالَى: {فِيهِ آيَات بَيِّنَات
مقَام إِبْرَاهِيم} (آل عمرَان: 97) ، لِأَن الْمَعْطُوف
عَلَيْهِ الْجُمْلَة هَهُنَا مُفْرد، وَلِهَذَا قَالَ
صَاحب (الْكَشَّاف) : التَّقْدِير: مقَام إِبْرَاهِيم
وَأمن من دخله، فَقدر الْجُمْلَة فِي حكم الْمُفْرد
ليَكُون عطف مُفْرد على مُفْرد. وَلم يقدر هَكَذَا، إلاَّ
ليَصِح وُقُوع قَوْله {مقَام إِبْرَاهِيم} (آل عمرَان: 97)
عطف بَيَان لقَوْله: {آيَات بَيِّنَات} (آل عمرَان: 97) ،
لِأَن بَيَان الْجُمْلَة بِالْوَاحِدِ لَا يَصح.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (هَل عنْدكُمْ؟) الْخطاب
لعليّ، رَضِي الله عَنهُ، وَالْجمع للتعظيم، أَو لإرادته
مَعَ سَائِر أهل الْبَيْت، أَو للالتفات من خطاب الْمُفْرد
إِلَى خطاب الْجمع على مَذْهَب من قَالَ من عُلَمَاء
الْبَيَان: يكون مثله التفاتا، وَذَلِكَ كَقَوْلِه
تَعَالَى: {يَا أَيهَا النَّبِي إِذا طلّقْتُم النِّسَاء}
(الطَّلَاق: 1) إِذْ لَا فرق بَين أَن يكون الِانْتِقَال
حَقِيقَة أَو تَقْديرا عِنْد الْجُمْهُور. قَوْله: (كتاب)
أَي: مَكْتُوب أخذتموه عَن رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِمَّا أُوحِي إِلَيْهِ. وَيدل
عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد: (هَل
عنْدكُمْ شَيْء من الْوَحْي إلاَّ مَا فِي كتاب الله؟) .
وَفِي رِوَايَته الْأُخْرَى فِي الدِّيات: (هَل عنْدكُمْ
شَيْء مِمَّا لَيْسَ فِي الْقُرْآن؟) وَفِي مُسْند
إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه عَن جرير بن مطرف: (هَل علمت
شَيْئا من الْوَحْي؟) وَإِنَّمَا سَأَلَهُ أَبُو جُحَيْفَة
عَن ذَلِك لِأَن الشِّيعَة كَانُوا يَزْعمُونَ أَنه،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خص أهل بَيته، لَا سِيمَا
عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بأسرار من
علم الْوَحْي لم يذكرهَا لغيره، وَقد سَأَلَ عليا، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، عَن هَذِه الْمَسْأَلَة أَيْضا قيس
بن عباد، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء
الْمُوَحدَة، وَالْأَشْتَر النَّخعِيّ، وحديثهما فِي (سنَن
النَّسَائِيّ) . قَوْله: (قَالَ: لَا) . أَي: لَا كتاب،
أَي: لَيْسَ عندنَا كتاب غير كتاب الله تَعَالَى. وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد: (لَا، وَالَّذِي فلق
الْحبَّة وبرأ النَّسمَة) . قَوْله: (إِلَّا كتاب الله)
بِالرَّفْع لِأَنَّهُ بدل من الْمُسْتَثْنى مِنْهُ،
وَالِاسْتِثْنَاء مُتَّصِل كَمَا ذكرنَا لِأَنَّهُ من
جنسه، إِذْ لَو كَانَ من غير جنسه لَكَانَ قَوْله: (أَو
فهم) مَنْصُوبًا لِأَنَّهُ عطف على الْمُسْتَثْنى،
والمستثنى إِذا كَانَ من غير جنس الْمُسْتَثْنى مِنْهُ
يكون مَنْصُوبًا، وَمَا عطف عَلَيْهِ كَذَلِك وَقَول
بَعضهم: الظَّاهِر أَن الِاسْتِثْنَاء فِيهِ مُنْقَطع غير
صَحِيح. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: فِيهِ دَلِيل على أَنه
كَانَ عِنْده أَشْيَاء مَكْتُوبَة من الْفِقْه المستنبط من
كتاب الله، وَهُوَ المُرَاد من قَوْله: (أَو فهم أعْطِيه
رجل) . قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل المُرَاد من
الْفَهم مَا يفهمهُ الرجل من فحوى الْكَلَام وَيدْرك من
بواطن الْمعَانِي الَّتِي هِيَ غير الظَّاهِر من نَصه:
كوجوه الأقيسة والمفاهيم وَسَائِر الاستنباطات،
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي
الدِّيات بِلَفْظ: (مَا عندنَا إلاَّ مَا فِي الْقُرْآن
إلاَّ فهما يعْطى رجل فِي الْكتاب) . وَالْمعْنَى: إلاَّ
مَا فِي الْقُرْآن من الْأَشْيَاء المنصوصة، لَكِن إِن
أعْطى الله رجلا فهما فِي كِتَابه فَهُوَ يقدر على استنباط
أَشْيَاء أُخْرَى خَارِجَة عَن ظَاهر النَّص، وَمن أبين
الدَّلِيل على أَن المُرَاد من الْفَهم مَا ذكرنَا، وَأَنه
غير شَيْء مَكْتُوب، مَا رَوَاهُ أَحْمد بِإِسْنَاد حسن من
طَرِيق طَارق بن شهَاب، قَالَ: شهِدت عليا، رَضِي الله
عَنهُ، على الْمِنْبَر وَهُوَ يَقُول: (وَالله مَا عندنَا
كتاب نقرؤه إلاّ كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة) ، وَقد
علمت أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. قَوْله:
(أَو مَا فِي هَذِه الصَّحِيفَة) ، وَكَانَت هَذِه معلقَة
بقبضة سَيْفه إِمَّا احْتِيَاطًا أَو استحضارا وَإِمَّا
لكَونه مُنْفَردا بِسَمَاع ذَلِك. وروى النَّسَائِيّ من
طَرِيق الأشتر: فَأخْرج كتابا من قرَاب سَيْفه. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَن سَبَب اقتران الصَّحِيفَة
بِالسَّيْفِ الْإِشْعَار بِأَن مصَالح الدّين لَيست
بِالسَّيْفِ وَحده، بل بِالْقَتْلِ تَارَة، وبالدية
تَارَة، وبالعفو أُخْرَى. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: كَلَام
عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه لَيْسَ عِنْده سوى
الْقُرْآن، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يخص
بالتبليغ والإرشاد قوما دون قوم، وَإِنَّمَا وَقع
التَّفَاوُت من قبل الْفَهم واستعداد الاستنباط، وَاسْتثنى
مَا فِي الصَّحِيفَة احْتِيَاطًا لاحْتِمَال أَن يكون مَا
فِيهَا مَا لَا يكون عِنْد غَيره فَيكون مُنْفَردا
بِالْعلمِ بِهِ. قَالَ: وَقيل: كَانَ فِيهَا من
الْأَحْكَام غير مَا ذكر هُنَا، وَلَعَلَّه لم يذكر جملَة
مَا فِيهَا، إِذْ التَّفْصِيل لم يكن مَقْصُودا حِينَئِذٍ،
أَو ذكره وَلم يحفظ الرَّاوِي. قلت: وَفِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ وَمُسلم، من طَرِيق يزِيد التَّيْمِيّ عَن
عَليّ،
(2/160)
رَضِي الله عَنهُ، قَالَ: (مَا عندنَا
شَيْء نقرؤه إلاَّ كتاب الله وَهَذِه الصَّحِيفَة، فَإِذا
فِيهَا: الْمَدِينَة حرم) الحَدِيث. وَلمُسلم عَن أبي
الطُّفَيْل عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ: (مَا خصنا رَسُول
الله، عَلَيْهِ السَّلَام، بِشَيْء لم يعم بِهِ النَّاس
كَافَّة إلاَّ مَا فِي قرَاب سَيفي هَذَا، فَأخْرج صحيفَة
مَكْتُوبَة فِيهَا: لعن الله من ذبح لغير الله) الحَدِيث.
وللنسائي من طَرِيق الأشتر وَغَيره عَن عَليّ: فَإِذا
فِيهَا: (الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُمْ، يسْعَى
بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُم) الحَدِيث. وَلأَحْمَد من طَرِيق
ابْن شهَاب: (فِيهَا فَرَائض الصَّدَقَة) . فَإِن قلت:
كَيفَ الْجمع بَين هَذِه الْأَحَادِيث؟ قلت: الصَّحِيفَة
كَانَت وَاحِدَة، وَكَانَ جَمِيع ذَلِك مَكْتُوبًا فِيهَا،
وَنقل كل من الروَاة مَا حفظه. قَوْله: (الْعقل) أَي:
الدِّيَة، وَالْمرَاد أَحْكَامهَا ومقاديرها وأصنافها
وَأَسْنَانهَا، وَكَذَلِكَ المُرَاد من قَوْله: (وفكاك
الْأَسير) حكمه وَالتَّرْغِيب فِي تخليصه، وَأَنه نوع من
أَنْوَاع الْبر الَّذِي يَنْبَغِي أَن يهتم بِهِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ ابْن بطال:
فِيهِ مَا يقطع بِدعَة الشِّيعَة والمدعين على عَليّ،
رَضِي الله عَنهُ، أَنه الْوَصِيّ، وَأَنه الْمَخْصُوص
بِعلم من عِنْد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لم يعرفهُ غَيره حَيْثُ قَالَ: مَا عِنْده
إلاَّ مَا عِنْد النَّاس من كتاب الله، ثمَّ أحَال على
الْفَهم الَّذِي النَّاس فِيهِ على درجاتهم، وَلم يخص
نَفسه بِشَيْء غير مَا هُوَ مُمكن فِي غَيره.
الثَّانِي: فِيهِ إرشاد إِلَى أَن للْعَالم الْفَهم أَن
يسْتَخْرج من الْقُرْآن بفهمه مَا لم يكن مَنْقُولًا عَن
الْمُفَسّرين، لَكِن بِشَرْط مُوَافَقَته لِلْأُصُولِ
الشَّرْعِيَّة.
الثَّالِث: فِيهِ إِبَاحَة كِتَابَة الْأَحْكَام وتقييدها.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز السُّؤَال عَن الإِمَام فِيمَا
يتَعَلَّق بخاصته.
الْخَامِس: احْتج بِهِ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد على
أَن الْمُسلم لَا يقتل بالكافر قصاصا، وَبِه قَالَ
الْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَالثَّوْري وَإِسْحَاق وَأَبُو
ثَوْر وَابْن شبْرمَة. وَرُوِيَ ذَلِك عَن عمر وَعُثْمَان
وَعلي وَزيد بن ثَابت، وَبِه قَالَ جمَاعَة من التَّابِعين
مِنْهُم عمر بن عبد الْعَزِيز، وَإِلَيْهِ ذهب أهل
الظَّاهِر. وَقَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ قَالَ مَالك
وَاللَّيْث بن سعد: إِن قَتله غيلَة قتل بِهِ وإلاَّ لم
يقتل. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف فِي رِوَايَة
وَمُحَمّد وَزفر: يقتل الْمُسلم بالكافر، وَهُوَ قَول
النَّخعِيّ وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَمُحَمّد بن
أبي ليلى وَعُثْمَان البتي، وَهُوَ رِوَايَة عَن عمر بن
الْخطاب وَعبد الله بن مَسْعُود وَعمر بن عبد الْعَزِيز،
رَضِي الله عَنْهُم. وَقَالُوا: وَلَا يقتل بالمستأمن
والمعاهد. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة: احتجت الْحَنَفِيَّة
بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن الْحسن بن أَحْمد عَن
سعيد بن مُحَمَّد الرهاوي عَن عمار بن مطر عَن إِبْرَاهِيم
بن مُحَمَّد عَن ربيعَة بن أبي عبد الرَّحْمَن عَن ابْن
الْبَيْلَمَانِي عَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، إِن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قتل مُسلما بمعاهد،
ثمَّ قَالَ: أَنا أكْرم من وَفِي بِذِمَّتِهِ) . ثمَّ
قَالَت الشَّافِعِيَّة: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم
يسْندهُ غير إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى وَهُوَ مَتْرُوك،
وَالصَّوَاب إرْسَاله، وَابْن الْبَيْلَمَانِي ضَعِيف لَا
تقوم بِهِ حجَّة إِذا وصل الحَدِيث فَكيف إِذا أرْسلهُ؟
وَقَالَ مَالك وَيحيى بن سعيد وَابْن معِين: هُوَ كَذَّاب،
يَعْنِي إِبْرَاهِيم بن أبي يحيى. وَقَالَ أَحْمد
وَالْبُخَارِيّ: ترك النَّاس حَدِيثه. وَابْن
الْبَيْلَمَانِي اسْمه: عبد الرَّحْمَن، وَقد ضَعَّفُوهُ.
وَقَالَ أَحْمد: من حكم بحَديثه فَهُوَ عِنْدِي مخطىء،
وَإِن حكم بِهِ حَاكم نقض. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع
أهل الحَدِيث على ترك الْمُتَّصِل من حَدِيثه، فَكيف
بالمنقطع؟ وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: إِنَّه مُنْقَطع لَا
احتجاج بِهِ، ثمَّ إِنَّه خطأ إِذْ قيل: إِن الْقَاتِل
كَانَ عَمْرو بن أُميَّة وَقد عَاشَ بعد الرَّسُول،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سِنِين؛ ومتروك
بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ روى أَن الْكَافِر كَانَ رَسُولا
فَيكون مستأمنا لَا ذِمِّيا، وَأَن الْمُسْتَأْمن لَا يقتل
بِهِ الْمُسلم وفَاقا، ثمَّ إِن صَحَّ فَهُوَ مَنْسُوخ
لِأَنَّهُ روى أَنه كَانَ قبل الْفَتْح. وَقد قَالَ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، يَوْم الْفَتْح فِي خطْبَة خطبهَا
على درج الْبَيْت الشريف: (وَلَا يقتل مُسلم بِكَافِر،
وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) . وَقَالَت الْحَنَفِيَّة: لَا
يتَعَيَّن علينا الِاسْتِدْلَال بِحَدِيث
الدَّارَقُطْنِيّ، وَإِنَّمَا نَحن نستدل بالنصوص
الْمُطلقَة فِي اسْتِيفَاء الْقصاص من غير فصل. وَأما
حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، فَلم يكن مُفردا، وَلَو
كَانَ مُفردا لاحتمل مَا قُلْتُمْ، وَلكنه كَانَ مَوْصُولا
بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ قيس بن عباد
وَالْأَشْتَر، فَإِن فِي روايتهما: لَا يقتل مُؤمن
بِكَافِر وَلَا ذُو عهد فِي عَهده، فَهَذَا هُوَ أصل
الحَدِيث وَتَمَامه، وَهَذَا لَا يدل على مَا ذهبتم
إِلَيْهِ، لِأَن الْمَعْنى على أصل الحَدِيث: لَا يقتل
مُؤمن بِسَبَب قتل كَافِر، وَلَا يقتل
(2/161)
ذُو عهد فِي عَهده بِسَبَب قتل كَافِر.
وَمن الْمَعْلُوم أَن ذَا الْعَهْد كَافِر، فَدلَّ هَذَا
أَن الْكَافِر الَّذِي منع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن يقتل بِهِ مُؤمن فِي الحَدِيث الْمَذْكُور هُوَ
الْكَافِر الَّذِي لَا عهد لَهُ، وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ
لأحد: أَن الْمُؤمن لَا يقتل بالكافر الْحَرْبِيّ، وَلَا
الْكَافِر الَّذِي لَهُ عهد يقتل بِهِ أَيْضا، فحاصل معنى
حَدِيث أبي جُحَيْفَة: لَا يقتل مُسلم وَلَا ذُو عهد فِي
عَهده بِكَافِر.
فَإِن قَالُوا: كل وَاحِد من الْحَدِيثين كَلَام مُسْتَقل
مُفِيد فَيعْمل بِهِ، فَمَا الْحَاجة إِلَى جَعلهمَا
وَاحِدًا حَتَّى يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّأْوِيل؟
قُلْنَا: قد ذكر أَن أصل الحَدِيث وَاحِد فتقطيعه لَا
يزِيل الْمَعْنى الْأَصْلِيّ، وَلَئِن سلمنَا أَن أَصله
لَيْسَ بِوَاحِد، وَأَن كل وَاحِد حَدِيث بِرَأْسِهِ
وَلَكِن الْوَاجِب حملهما على أَنَّهُمَا وردا مَعًا،
وَذَلِكَ لِأَنَّهُ لم يثبت أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ذَلِك فِي وَقْتَيْنِ، مرّة من غير
ذكر ذِي الْعَهْد، وَمرَّة مَعَ ذكر ذِي الْعَهْد،
وَأَيْضًا إِن أصل هَذَا كَانَ فِي خطبَته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة، وَقد كَانَ رجل من
خُزَاعَة قتل رجلا من هُذَيْل فِي الْجَاهِلِيَّة، فَقَالَ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَلا إِن كل دم كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ مَوْضُوع تَحت قدمي هَاتين، لَا
يقتل مُؤمن بِكَافِر، وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) يَعْنِي،
وَالله أعلم: الْكَافِر الَّذِي قَتله فِي الْجَاهِلِيَّة.
وَكَانَ ذَلِك تَفْسِير لقَوْله: (كل دم كَانَ فِي
الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ مَوْضُوع تَحت قدمي) . لِأَنَّهُ
مَذْكُور فِي خطاب وَاحِد فِي حَدِيث وَاحِد، وَقد ذكر أهل
الْمَغَازِي أَن عهد الذِّمَّة كَانَ بعد فتح مَكَّة،
وَأَنه إِنَّمَا كَانَ قبل، بَين النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَبَين الْمُشْركين، عهود إِلَى مدد لَا
على أَنهم داخلون فِي ذمَّة الْإِسْلَام وَحكمه، وَكَانَ
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم فتح مَكَّة: (لَا
يقتل مُؤمن بِكَافِر) منصرفا إِلَى الْكفَّار المعاهدين،
إِذْ لم يكن هُنَاكَ ذمِّي ينْصَرف الْكَلَام إِلَيْهِ،
وَيدل عَلَيْهِ قَوْله: (وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) ،
وَهَذَا يدل على أَن عهودهم كَانَت إِلَى مدد، وَلذَلِك
قَالَ: (وَلَا ذُو عهد فِي عَهده) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
{فَأتمُّوا إِلَيْهِم عَهدهم إِلَى مدتهم} (التَّوْبَة: 4)
وَقَالَ: {فسيحوا فِي الأَرْض أَرْبَعَة أشهر}
(التَّوْبَة: 2) وَكَانَ الْمُشْركُونَ حِينَئِذٍ على
ضَرْبَيْنِ. أَحدهمَا: أهل الْحَرْب وَمن لَا عهد بَينه
وَبَين النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَالْآخر: أهل
الْمدَّة. وَلم يكن هُنَاكَ أهل ذمَّة، فَانْصَرف
الْكَلَام إِلَى الضربين من الْمُشْركين، وَلم يدْخل فِيهِ
من لم يكن على أحد هذَيْن الوصفين، وَهَذَا هُوَ
التَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام.
وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة: وَقع الْإِجْمَاع على أَن
الْمُسلم تقطع يَده إِذا سرق من مَال الذِّمِّيّ، فَكَذَا
يقتل إِذا قَتله، وَإِن قَوْله: (وَلَا ذُو عهد فِي عَهده)
من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، وَأَنه يَقْتَضِي
تَخْصِيص الْعَام لِأَن الْكَافِر الَّذِي لَا يقتل بِهِ
ذُو الْعَهْد هُوَ الْحَرْبِيّ دون الْمسَاوِي لَهُ
والأعلى وَهُوَ الذِّمِّيّ، فَلَا يبْقى أحد يقتل بِهِ
الْمعَاهد إلاَّ الْحَرْبِيّ، فَيجب أَن يكون الْكَافِر
الَّذِي لَا يقتل بِهِ الْمُسلم هُوَ الْحَرْبِيّ،
تَسْوِيَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ.
واعترضوا بِوُجُوه. الأول: أَن الْوَاو لَيست للْعَطْف بل
للاستئناف، وَمَا بعد ذَلِك جملَة مستأنفة فَلَا حَاجَة
إِلَى الْإِضْمَار فَإِنَّهُ خلاف الأَصْل، فَلَا يقدر
فِيهِ: بِكَافِر. الثَّانِي: سلمنَا أَنه من بَاب عطف
الْمُفْرد، وَالتَّقْدِير: بِكَافِر، لَكِن الْمُشَاركَة
بواو الْعَطف وَقعت فِي أصل النَّفْي لَا فِي جَمِيع
الْوُجُوه، كَمَا إِذا قَالَ الْقَائِل: مَرَرْت بزيد
مُنْطَلقًا وَعَمْرو. قَالَ الشهَاب الْقَرَافِيّ:
الْمَنْقُول عَن أهل اللُّغَة والنحو أَن ذَلِك لَا
يَقْتَضِي أَنه مر بالمعطوف مُنْطَلقًا، بل الِاشْتِرَاك
فِي مُطلق الْمُرُور. الثَّالِث: أَن الْمَعْنى لَا يقتل
ذُو عهد فِي عَهده خَاصَّة إِزَالَة لتوهم مشابهة
الذِّمِّيّ، فَإِنَّهُ لَا يقتل وَلَا وَلَده الَّذِي لم
يعاهد، لِأَن الذِّمَّة تَنْعَقِد لَهُ ولأولاده وهلم جرا،
وَأما الْجَواب عَن الْقيَاس الْمَذْكُور: فَإِنَّهُ
قِيَاس فِي مُقَابلَة النَّص، وَهُوَ قَوْله: (وَلَا يقتل
مُسلم بِكَافِر) فَلَا أثر لَهُ.
وَأجِيب عَن الأول: بِأَن الأَصْل فِي الْوَاو الْعَطف،
وَدَعوى الِاسْتِئْنَاف يحْتَاج إِلَى بَيَان. وَعَن
الثَّانِي: بِأَن مَا ذكرْتُمْ فِي عطف الْمُفْرد، وَهَذَا
عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة، وَكَذَلِكَ الْمَعْطُوف
فِي الْمِثَال الَّذِي ذكره الْقَرَافِيّ مُفْرد. وَعَن
الثَّالِث: بِأَنَّهُ إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَت الْوَاو
للاستئناف، وَقد قُلْنَا: إِنَّه يحْتَاج إِلَى الْبَيَان،
وَأَيْضًا فمعلوم أَن ذَا الْعَهْد يحظر قَتله مَا دَامَ
فِي عَهده، فَلَو حملنَا قَوْله: (وَلَا ذُو عهد فِي
عَهده) ، على أَن لَا يقتل ذُو عهد فِي عَهده لأخلينا
اللَّفْظ عَن الْفَائِدَة، وَحكم كَلَام النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حمله على مُقْتَضَاهُ فِي
الْفَائِدَة، وَلَا يجوز إلغاؤه وَلَا إِسْقَاط حكمه،
وَالْقِيَاس إِنَّمَا يكون فِي مُقَابلَة النَّص إِذا
كَانَ الْمَعْنى على مَا ذكرْتُمْ، وَهُوَ غير صَحِيح،
وعَلى مَا ذكرنَا يكون الْقيَاس فِي مُوَافقَة النَّص
فَافْهَم. وَأما قَول الْبَيْضَاوِيّ: إِنَّه مُنْقَطع،
فَإِنَّهُ لَا يضر عندنَا، لِأَن الْمُرْسل حجَّة عندنَا.
وجزمه بِأَنَّهُ خطأ غير صَحِيح لِأَن الْقَاتِل يحْتَمل
أَن يكون اثْنَيْنِ قتل أَحدهمَا وعاش الآخر بعد النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَوله: إِنَّه مَنْسُوخ
وَقد كَانَ قبل الْفَتْح، غير صَحِيح، لما ذكرنَا أَن أصل
الحَدِيث كَانَ فِي خطبَته، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، من فتح مَكَّة. فَافْهَم.
(2/162)
112 - حدّثنا أَبُو نُعَيْمٍ الفضْلُ بنُ
دُكَيْنٍ قَالَ: حَدثنَا شَيْبَانُ عنْ يَحيَى عنْ أبي
سَلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنَّ خُزَاعَةَ قَتَلُوا
رَجُلاً مِنْ بَنِي ليْثٍ عامَ فَتْحِ مَكَّةَ بِقَتِيلٍ
مِنْهُمْ قَتَلُوهُ، فأُخْبِر بِذَلِكَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَرَكِبَ رَاحِلَتَهُ فَخَطَبَ فقالَ:
(إنَّ اللَّهَ حَبَسَ عنْ مكَّةَ القَتلَ) أَو الفِيلَ
شَكَّ أبُو عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والمُؤْمِنِينَ، ألاَ وَإنها
لَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي ولَمْ تَحِلَّ لأَحدٍ
بَعْدِي ألاَ وإنَّها حَلَّتْ لِي ساعَةً مِنْ نَهَارٍ،
ألاَ وإنَّهَا ساعَتِي هَذِهِ حَرَامٌ لَا يُخْتَلَى
شَوْكُها وَلَا يُعُضَدُ شَجَرُهَا وَلَا تُلْتَقطُ
ساقِطَتُها إلاَّ لِمُنْشدٍ، فَمَنْ قُتِلَ لهُ قَتِيلٌ
فَهُوَ بِخيْرِ النَّظَرَيْنِ: إمّا أَن يُعْقَلَ، وإمّا
أَن يُقادَ أهْلُ القَتِيل) فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أهْل
اليَمَنِ فَقَالَ: اكْتُبْ لي يَا رسولَ اللَّهِ. فقالَ:
(اكْتُبُوا لأبي فُلاَنٍ) فقالَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ:
إلاَّ الإذْخِرَ يَا رسولَ الله فَإنَّا نَجْعَلُهُ فِي
بُيُوتِنَا وَقُبُورِنا فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ الإذْخرِ (إلاَّ الإذْخِرَ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (اكتبوا لأبي
فلَان) ، وكل مَا يكْتب من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَهُوَ علم.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن
دُكَيْن، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة، وَقد مر. الثَّانِي:
شَيبَان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وبالباء الْمُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن أَبُو
مُعَاوِيَة النَّحْوِيّ الْمُؤَدب الْبَصْرِيّ الثِّقَة،
مولى بني تَمِيم، سمع الْحسن وَغَيره، وَعنهُ ابْن مهْدي
وَغَيره. وَكَانَ صَاحب حُرُوف وقراآت. قَالَ أَحْمد: هُوَ
ثَبت فِي كل الْمَشَايِخ، وشيبان أثبت فِي يحيى بن أبي
كثير من الْأَوْزَاعِيّ. قلت: حدث عَنهُ الإِمَام أَبُو
حنيفَة، وَعلي بن الْجَعْد، وَبَين وفاتيهما تسع
وَسَبْعُونَ سنة، مَاتَ بِبَغْدَاد وَدفن بمقبره الخيزران،
أَو فِي بَاب التِّين سنة أَربع وَسِتِّينَ وَمِائَة، فِي
خلَافَة الْمهْدي روى لَهُ الْجَمَاعَة. النَّحْوِيّ:
نِسْبَة إِلَى قَبيلَة، وهم ولد النَّحْو ابْن شمس بن
عَمْرو بن غنم بن غَالب بن عُثْمَان بن نصر بن زهران،
وَلَيْسَ فِي هَذِه الْقَبِيلَة من يروي الحَدِيث سواهُ
وَيزِيد بن أبي سعيد، وَأما مَا عداهما فنسبة إِلَى
النَّحْو، علم الْعَرَبيَّة، كَأبي عَمْرو بن الْعَلَاء
النَّحْوِيّ وَغَيره، وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ من اسْمه
شَيبَان غَيره، وَفِي مُسلم هُوَ وشيبان بن فروخ، وَفِي
أبي دَاوُد شَيبَان أَبُو حُذَيْفَة النَّسَائِيّ.
وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة غير ذَلِك. الثَّالِث: يحيى
بن أبي كثير صَالح بن المتَوَكل، وَيُقَال: اسْم أبي كثير:
نشيط، وَيُقَال: دِينَار؛ ودينار مولى عَليّ اليمامي
الطَّائِي مَوْلَاهُم الْعَطَّار أحد الْأَعْلَام
الثِّقَات الْعباد، روى عَن أنس وَجَابِر مُرْسلا، وَعَن
ابْن أبي سَلمَة، وَعنهُ هِشَام الدستوَائي وَغَيره. قَالَ
أَيُّوب: مَا بَقِي على وَجه الأَرْض مثله. مَاتَ سنة تسع
وَعشْرين وَمِائَة. وَقيل: سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ
بعد أَيُّوب بِسنة، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة: يحيى
بن أبي كثير، غَيره. نعم، فِيهَا يحيى بن كثير
الْعَنْبَري، وَفِي أبي دَاوُد: يحيى بن كثير
الْبَاهِلِيّ، وَفِي ابْن مَاجَه: يحيى بن كثير صَاحب
الْبَصْرِيّ وهما ضعيفان. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة عبد
الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد مر. الْخَامِس:
أَبُو هُرَيْرَة عبد الرَّحْمَن بن صَخْر.
بَيَان لطائف إِسْنَاده. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء.
وَمِنْهَا: أَنهم مَا بَين كُوفِي وبصري ويمامي ومدني.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ من رأى الصَّحَابِيّ عَن
التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ
هُنَا. وَفِي الدِّيات عَن أبي نعيم عَن شَيبَان. وَفِي
اللّقطَة عَن يحيى بن مُوسَى عَن الْوَلِيد عَن
الْأَوْزَاعِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن زُهَيْر
وَعبد الله بن سعيد عَن الْوَلِيد عَن الْأَوْزَاعِيّ
وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن عبد الله بن مُوسَى عَن
شَيبَان ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة
بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن
الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بن أبي
كثير بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن مَحْمُود بن غيلَان
وَيحيى بن مُوسَى عَن الْأَوْزَاعِيّ بِهِ مُنْقَطِعًا،
وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرج النَّسَائِيّ عَن عَبَّاس بن
الْوَلِيد عَن أَبِيه عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بِهِ.
وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن دُحَيْم عَن الْوَلِيد عَن
الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى بِهِ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (خُزَاعَة) ، بِضَم الْخَاء
الْمُعْجَمَة وبالزاي: حَيّ من الأزد سموا بذلك لِأَن
الأزد لما خَرجُوا
(2/163)
من مَكَّة وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد
تخلفت عَنْهُم خُزَاعَة وأقامت بهَا، وَمعنى خزع فلَان عَن
أَصْحَابه تخلف عَنْهُم، وَبَنُو لَيْث أَيْضا قَبيلَة.
وَقَالَ الرشاطي: لَيْث فِي كنَانَة: لَيْث بن بكر بن عبد
مَنَاة بن كنَانَة، وَفِي عبد الْقَيْس: لَيْث بن بكر بن
حداءة بن ظَالِم بن ذهل بن عجل بن عَمْرو بن وَدِيعَة بن
لكيز بن أفصى بن عبد الْقَيْس. قَوْله: (فَركب رَاحِلَته)
، الرَّاحِلَة: النَّاقة الَّتِي تصلح لِأَن ترحل.
وَيُقَال: الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو
أُنْثَى. وَفِي (الْعباب) : الرَّاحِلَة النَّاقة الَّتِي
يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة وَتَمام الْخلق
وَحسن المنظر، فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت،
قَالَه القتيبي. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الرَّاحِلَة عِنْد
الْعَرَب تكون الْجمل النجيب والناقة النجيبة، وَلَيْسَت
النَّاقة أولى بِهَذَا الِاسْم من الْجمل، وَالْهَاء فِيهِ
للْمُبَالَغَة، كَمَا يُقَال: رجل داهية وراوية. وَقيل:
سميت رَاحِلَة لِأَنَّهَا ترحل، كَمَا قَالَ الله
تَعَالَى: {فِي عيشة راضية} (الحاقة: 21) أَي مرضية.
قَوْله: (لَا يخْتَلى) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة أَي: لَا
يجز وَلَا يقطع. قَالَ الْجَوْهَرِي: تَقول: خليت الخلا
واختليته أَي: جززته وقطعته فاختلى، والمخلى مَا يجتز بِهِ
الخلا، والمخلاة مَا يَجْعَل فِيهِ الْخَلَاء. وَقَالَ
ابْن السّكيت: خليت دَابَّتي أخليها إِذا جززت لَهَا
الخلا، وَالسيف يخْتَلى أَي: يقطع، والمختلون والخالون
الَّذين يختلون الْخَلَاء ويقطعونه، واختلت الأَرْض أَي:
كثر خَلاهَا، والخلا مَقْصُورا: الرطب من الْحَشِيش،
الْوَاحِدَة خلاة، وَفِي بعض الطّرق وَلَا يعضد شَوْكهَا
وَلَا يخبط شَوْكهَا وَمعنى الْجَمِيع مُتَقَارب، والشوك
جمع الشَّوْكَة، وَشَجر شائك وَشَوْك وشاك. وَقَالَ ابْن
السّكيت: يُقَال: هَذِه شَجَرَة شاكة، أَي: كَثِيرَة
الشوك. قَوْله: (وَلَا يعضد) أَي: وَلَا يقطع، وَقد
اسْتَوْفَيْنَا مَعْنَاهُ فِي بَاب: ليبلغ الشَّاهِد
الْغَائِب. قَوْله: (وَلَا تلْتَقط ساقطتها) أَي: مَا سقط
فِيهَا بغفلة الْمَالِك، وَأَرَادَ بهَا اللّقطَة، وَجَاء:
وَلَا يحل لقطتهَا إِلَّا لِمُنْشِد، وَجَاء: لَا يلتقط
لقطتهَا إِلَّا من عرفهَا. والالتقاط من: لقط الشَّيْء
يلقطه لقطا أَخذه من الأَرْض. قَوْله: (إلاَّ لِمُنْشِد)
أَي: لمعرف. قَالَ أَبُو عبيد: المنشد الْمُعَرّف. وَأما
الطَّالِب فَيُقَال لَهُ: نَاشد. يُقَال: نشدت الضَّالة
إِذا طلبتها، وأنشدتها إِذا عرفتها، وأصل الإنشاد رفع
الصَّوْت، وَمِنْه إنشاد الشّعْر. قَوْله: (إِمَّا أَن
يعقل) من الْعقل وَهُوَ: الدِّيَة. قَوْله: (وَإِمَّا أَن
يُقَاد) بِالْقَافِ من الْقود وَهُوَ: الْقصاص، وَيَأْتِي
مزِيد الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (إلاَّ
الْإِذْخر) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الذَّال
الْمُعْجَمَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة: هُوَ نبت
مَعْرُوف طيبَة الرّيح، واحده إذخرة.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (خُزَاعَة) لَا تَنْصَرِف
للعلمية والتأنيث، مَنْصُوب لِأَنَّهُ اسْم: إِن. و (قتلوا
رجلا) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول
وَهُوَ: (رجلا) ، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن.
قَوْله: (من بني لَيْث) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة:
(رجلا) . قَوْله: (عَام فتح مَكَّة) نصب على الظّرْف،
وَمَكَّة، لَا تَنْصَرِف للعلمية والتأنيث. قَوْله:
(بقتيل) أَي: بِسَبَب قَتِيل من خُزَاعَة. قَوْله:
(قَتَلُوهُ) ، جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة
لقَوْله: (بقتيل) ، أَي قتل بَنو اللَّيْث ذَلِك
الْخُزَاعِيّ. قَوْله: (فاخبر) على صِيغَة الْمَجْهُول، و
(النَّبِي) مفعول نَاب عَن الْفَاعِل. قَوْله: (فَركب) عطف
على: فَأخْبر. وَقَوله: (فَخَطب) ، عطف على: ركب،
وَالْفَاء فِي: فَقَالَ، تصلح للتفسير. قَوْله: (الْقَتْل)
مَنْصُوب مفعول: حبس. قَوْله: (وسلط) ، يجوز فِيهِ
الْوَجْهَانِ: أَحدهمَا: صِيغَة الْمَجْهُول فَيكون
مُسْندًا إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على
أَنه نَاب عَن الْفَاعِل، فعلى هَذَا يكون: والمؤمنون،
بِالْوَاو لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ. وَالْآخر: صِيغَة
الْمَعْلُوم، وَفِيه ضمير يرجع إِلَى الله وَهُوَ فَاعله
وَرَسُول الله مَفْعُوله، فعلى هَذَا يكون و:
الْمُؤمنِينَ، بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ عطف عَلَيْهِ. قَوْله:
(أَلا) ، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف اللَّام، للتّنْبِيه
فتدل على تحقق مَا بعْدهَا. قَوْله: (وَإِنَّهَا) عطف على
مُقَدّر لِأَن: أَلاَ، لَهَا صدر الْكَلَام، والمقتضى أَن
يُقَال: أَلا إِنَّهَا، بِدُونِ الْوَاو، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {أَلا إِنَّهُم هم المفسدون} (الْبَقَرَة: 12)
وَالتَّقْدِير: أَلا إِن الله حبس عَنْهَا الْفِيل
وَإِنَّهَا لم تحل لأحد. قَوْله: (وَلَا تحل) عطف على
قَوْله: (لم تحل) وَفِي الْكشميهني: (وَلم تحل) . وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ فِي اللّقطَة من طَرِيق
الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى: (وَلنْ تحل) . وَهِي أليق
بالمستقبل. قَوْله: (أَلا وَإِنَّهَا) الْكَلَام فِيهِ مثل
الْكَلَام فِي: (أَلا وَإِنَّهَا لم تحل) ، وَكَذَا
قَوْله: (أَلا وَإِنَّهَا سَاعَتِي) . قَوْله: (حرَام)
مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر لقَوْل: إِنَّهَا. لَا يُقَال
إِنَّه لَيْسَ بمطابق للمبتدأ، والمطابقة شَرط، لأَنا
نقُول إِنَّه مصدر فِي الأَصْل فيستوي فِيهِ التَّذْكِير
والتأنيث والإفراد وَالْجمع، أَو هُوَ صفة مشبهة وَلَكِن
وصفيته زَالَت لغَلَبَة الإسمية عَلَيْهِ فتساوى فِيهِ
التَّذْكِير والتأنيث. قَوْله: (لَا يخْتَلى) مَجْهُول،
وَكَذَا: (لَا يعضد) و: (لَا يلتقط) . قَوْله: (فَمن قتل)
على صِيغَة الْمَجْهُول. وَكلمَة: من، مَوْصُولَة
تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط وَلِهَذَا دخلت فِي خَبَرهَا
الْفَاء، وَهُوَ قَوْله: (فَهُوَ بِخَير النظرين) وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمَقْتُول كَيفَ يكون بِخَير
النظرين؟ قلت: المُرَاد أَهله، وَأطلق عَلَيْهِ ذَلِك
لِأَنَّهُ هُوَ السَّبَب. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ حذف
تَقْدِيره: من قتل لَهُ قَتِيل، وَسَائِر الرِّوَايَات تدل
عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ حذف وَقع بَيَانه فِي
رِوَايَة
(2/164)
المُصَنّف فِي الدِّيات عَن أبي نعيم
بِهَذَا الْإِسْنَاد: فَمن قتل لَهُ قَتِيل. قلت: كل ذَلِك
فِيهِ نظر، أما كَلَام الْكرْمَانِي فَيلْزم مِنْهُ
الْإِضْمَار قبل الذّكر، وَأما كَلَام الْخطابِيّ فَيلْزم
فِيهِ حذف الْفَاعِل، وَأما كَلَام بَعضهم فَهُوَ من
كَلَام الْخطابِيّ وَلَيْسَ من عِنْده شَيْء،
وَالتَّحْقِيق هُنَا أَن يقدر فِيهِ مُبْتَدأ مَحْذُوف
وحذفه سَائِغ شَائِع وَالتَّقْدِير: فَمن أَهله قتل فَهُوَ
بِخَير النظرين: فَمن، مُبْتَدأ و: أَهله قتل جملَة من
الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت صلَة للموصول. وَقَوله:
(فَهُوَ) مُبْتَدأ، وَقَوله (بِخَير النظرين) خَبره،
وَالْجُمْلَة خبر الْمُبْتَدَأ الأول، وَالضَّمِير فِي:
قتل، يرجع إِلَى الْأَهْل الْمُقدر، وَقَوله: فَهُوَ، يرجع
إِلَى من. وَالْبَاء فِي قَوْله: بِخَير النظرين،
يتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره: فَهُوَ مرضِي بِخَير
النظرين، أَو عَامل، أَو مَأْمُور وَنَحْو ذَلِك.
وَتَقْدِير: مُخَيّر، لَيْسَ بمناسب، وَمعنى خير النظرين:
أفضلهما. قَوْله: (إِمَّا) بِكَسْر الْهمزَة للتفصيل، و:
أَن، بِفَتْح الْهمزَة مَصْدَرِيَّة، وَكَذَا قَوْله،
وَإِمَّا أَن، وَالتَّقْدِير: إِمَّا الْعقل وَإِمَّا
الْقود. قَوْله: (من أهل الْيمن) فِي مَحل الرّفْع على
أَنه صفة لرجل، وَكَذَا قَوْله من قُرَيْش. قَوْله:
(إِلَّا الْإِذْخر يَا رَسُول الله) . قَالَ الْكرْمَانِي:
مثله لَيْسَ مُسْتَثْنى بل هُوَ تلقين بِالِاسْتِثْنَاءِ.
فَكَأَنَّهُ قَالَ: قل يَا رَسُول الله: لَا يخْتَلى
شَوْكهَا وَلَا يعضد شَجَرهَا إلاَّ الْإِذْخر. . وَأما
الْوَاقِع فِي لَفظه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فَهُوَ ظَاهر أَنه اسْتثِْنَاء من كَلَامه السَّابِق. قلت:
كل مِنْهُمَا اسْتثِْنَاء، وَالتَّقْدِير الَّذِي قدره يدل
على ذَلِك وَهُوَ الْمُسْتَثْنى مِنْهُ كَمَا فِي
الْوَاقِع فِي لفظ الرَّسُول، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على
الْبَدَل مِمَّا قبله، وَالنّصب على الِاسْتِثْنَاء لكَونه
وَاقعا بعد النَّفْي. وَقَالَ الشَّيْخ قطب الدّين: إِلَّا
الْإِذْخر، اسْتثِْنَاء من: (لَا يخْتَلى خَلاهَا) ،
وَهُوَ بعض من كل. فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ هَذَا
الِاسْتِثْنَاء وَشَرطه الِاتِّصَال بالمستثنى مِنْهُ
وَهَهُنَا قد وَقع الفاصلة؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي:
جَازَ الْفَصْل عِنْد ابْن عَبَّاس، فَلَعَلَّ أَبَاهُ
أَيْضا جوز ذَلِك، أَو الْفَصْل كَانَ يَسِيرا وَهُوَ
جَائِز اتِّفَاقًا، وَفِيه نظر من وَجْهَيْن: أَحدهمَا:
أَنه قَالَ أَولا مثله لَيْسَ مُسْتَثْنى بل هُوَ تلقين
بِالِاسْتِثْنَاءِ، فَإِذا لم يكن مُسْتَثْنى لَا يرد
سُؤَاله. وَالْآخر: قَوْله أَو الْفَصْل كَانَ يَسِيرا،
وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْفَصْل كثير، وَالصَّوَاب مَا
ذكرنَا أَن الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مَحْذُوف
وَالِاسْتِثْنَاء مِنْهُ من غير فصل.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (قتلوا رجلا) لم يسم اسْمه،
وَأما الْمَقْتُول الَّذِي قتل فِي الْجَاهِلِيَّة فاسمه
أَحْمَر، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ: لما كَانَ الْغَد من
يَوْم الْفَتْح ... فَذكر إِلَى أَن قَالَ: بقتيل مِنْهُم
قَتَلُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّة، وَعند ابْن إِسْحَاق: بقتيل
مِنْهُم قَتَلُوهُ وَهُوَ مُشْرك، وَذكر الْقِصَّة وَهُوَ
أَن خرَاش بن أُميَّة من خُزَاعَة قتل ابْن الأثرع
الْهُذلِيّ وَهُوَ مُشْرك بقتيل قتل فِي الْجَاهِلِيَّة
يُقَال لَهُ أَحْمَر، فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (يَا معشر خُزَاعَة إرفعوا
أَيْدِيكُم عَن الْقَتْل، فَمن قتل بعد مقَامي هَذَا فأهله
بِخَير النظرين) وَذكر الحَدِيث. قَوْله: (إِن الله حبس)
أَي: منع عَن مَكَّة الْقَتْل، بِالْقَافِ وَالتَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا يدل
عَلَيْهِ أَنه روى: والفتك أَيْضا بِالْفَاءِ وَالْكَاف،
وَفَسرهُ بسفك الدَّم، وَله وَجه إِن ساعدته الرِّوَايَة.
قَوْله: (أَو الْفِيل) بِالْفَاءِ الْمَكْسُورَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ الْحَيَوَان الْمَشْهُور
الَّذِي ذكره الله تَعَالَى فِي قَوْله: {ألم تَرَ كَيفَ
فعل رَبك بأصحاب الْفِيل} (الْفِيل: 1) السُّورَة، فَأرْسل
الله تَعَالَى على أَصْحَابه طيرا أبابيل ترميهم بحجارة من
سجيل حِين وصلوا إِلَى بطن الْوَادي بِالْقربِ من مَكَّة.
قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد) ، وجعلوه على الشَّك، كَذَا
قَالَ أَبُو نعيم: الْفِيل أَو الْقَتْل، وَفِي بعض
النّسخ: (إِن الله حبس عَن مَكَّة الْقَتْل أَو الْفِيل) ،
كَذَا قَالَ أَبُو نعيم، وَاجْعَلُوا على الشَّك الْفِيل
أَو الْقَتْل. وَفِي بَعْضهَا: قَالَ أَبُو عبد الله:
كَذَا قَالَ أَبُو نعيم، اجعلوه على الشَّك، وَالْمرَاد من
قَوْله: قَالَ مُحَمَّد هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَكَذَا
من قَوْله: قَالَ أَبُو عبد الله، وَالْمعْنَى على
النُّسْخَة الأولى، وَجعله الروَاة على الشَّك. كَذَا
قَالَ أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن شَيْخه، وعَلى
النُّسْخَة الثَّانِيَة يكون: وَاجْعَلُوا من مقول أبي
نعيم، وَهِي صِيغَة أَمر للحاضرين. أَي: اجعلوا هَذَا
اللَّفْظ على الشَّك. وعَلى النُّسْخَة الثَّالِثَة يكون:
إجعلوا، من مقول البُخَارِيّ نَفسه. فَافْهَم. قَوْله:
(وَغَيره يَقُول الْفِيل) ، أَي غير أبي نعيم يَقُول
الْفِيل، بِالْفَاءِ من غير شكّ، وَالْمرَاد بِالْغَيْر:
من رَوَاهُ عَن شَيبَان رَفِيقًا لأبي نعيم، وَهُوَ عبد
الله بن مُوسَى، وَمن رَوَاهُ عَن يحيى رَفِيقًا لشيبان
هُوَ حَرْب بن شَدَّاد، لما سَيَأْتِي بَيَانه فِي
الدِّيات إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَالْمرَاد بِحَبْس
الْفِيل حبس أهل الْفِيل، وَأَشَارَ بذلك إِلَى الْقِصَّة
الْمَشْهُورَة للحبشة فِي غزوهم مَكَّة وَمَعَهُمْ
الْفِيل، فَمنعهَا الله مِنْهُم وسلط عَلَيْهِم الطير
الأبابيل، مَعَ كَون أهل مَكَّة إِذْ ذَاك كَانُوا
كفَّارًا، فحرمة أَهلهَا بعد الْإِسْلَام آكِد، لَكِن
غَزْو النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
إِيَّاهَا مَخْصُوص بِهِ على ظَاهر هَذَا الحَدِيث
وَغَيره. قَوْله: (وَلَا تحل لأحد بعدِي) معنى حَلَال
مَكَّة حَلَال الْقِتَال فِيهَا، وَقد مر أَن فِي رِوَايَة
الْكشميهني
(2/165)
(وَلم تحل) ، فَإِن قلت: لم تقلب
الْمُضَارع مَاضِيا وَلَفظ بعدِي للاستقبال، فَكيف
يَجْتَمِعَانِ؟ قلت: مَعْنَاهُ لم يحكم الله فِي الْمَاضِي
بِالْحلِّ فِي الْمُسْتَقْبل. قَوْله: (سَاعَتِي هَذِه)
أَي: فِي سَاعَتِي الَّتِي أَتكَلّم فِيهَا، وَهِي بعد
الْفَتْح. قَالَ الطَّحَاوِيّ: الَّذِي أحل لَهُ، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَخص بِهِ دُخُول مَكَّة بِغَيْر
إِحْرَام وَلَا يجوز لأحد أَن يدْخلهُ بعد النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِغَيْر إِحْرَام، وَهُوَ قَول ابْن
عَبَّاس وَالقَاسِم وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَهُوَ قَول أبي
حنيفَة وصاحبيه، ولمالك وَالشَّافِعِيّ قَولَانِ فِيمَن لم
يرد الْحَج أَو الْعمرَة. فَفِي قَول: يجوز، وَفِي قَول:
لَا يجوز إلاَّ للحطابين وشبههم. وَقَالَ الطَّبَرِيّ:
الَّذِي أحل للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
قتال أَهلهَا ومحاربتهم، وَلَا يحل لأحد بعده. قَوْله:
(شَوْكهَا) دَال على منع قطع سَائِر الْأَشْجَار
بِالطَّرِيقِ الأولى، وَقَالَ فِي (شرح السّنة) : المؤذي
من الشوك كالعوسج لَا بَأْس بِقطعِهِ كالحيوان المؤذي،
فَيكون من بَاب تَخْصِيص الحَدِيث بِالْقِيَاسِ. وَكَذَا
لَا بَأْس بِقطع الْيَابِس كَمَا فِي الصَّيْد الْمَيِّت،
وَأما لقطتهَا فَقيل: لَيْسَ لواجدها غير التَّعْرِيف
أبدا، وَلَا يملكهَا بِحَال، وَلَا يتَصَدَّق بهَا إِلَى
أَن يظفر بصاحبها، بِخِلَاف لقطَة سَائِر الْبِقَاع،
وَهُوَ أظهر قولي الشَّافِعِي. وَمذهب مَالك والأكثرين
إِلَى أَنه: لَا فرق بَين لقطَة الْحل وَالْحرم.
وَقَالُوا: معنى إلاَّ لِمُنْشِد: أَنه يعرفهَا كَمَا
يعرفهَا فِي سَائِر الْبِقَاع حولا كَامِلا حَتَّى لَا
يتَوَهَّم أَنه إِذا نَادَى عَلَيْهَا وَقت الْمَوْسِم
فَلم يظْهر مَالِكهَا جَازَ تَملكهَا. وَقَالَ عبد الرحن
بن مهْدي: قَوْله: (إلاَّ لِمُنْشِد) يُرِيد: لَا تحل
أَلْبَتَّة، فَكَأَنَّهُ قيل: إلاَّ لِمُنْشِد، أَي: لَا
يحل لَهُ مِنْهَا إلاَّ إنشادها، فَيكون ذَلِك مِمَّا
اخْتصّت بِهِ مَكَّة كَمَا اخْتصّت بِأَنَّهَا حرَام،
وَأَنه لَا ينفر صيدها وَغَيرهمَا من الْأَحْكَام. وَقَالَ
الْمَازرِيّ: مَعْنَاهُ الْمُبَالغَة فِي التَّعْرِيف،
لِأَن الْحَاج قد لَا يعود إلاَّ بعد أَعْوَام فتدعو
الضَّرُورَة لإطالة التَّعْرِيف بِخِلَاف غَيرهَا من
الْبِلَاد، وَلِأَن النَّاس ينتابون إِلَى مَكَّة.
وَيُقَال: جَاءَ الحَدِيث ليقطع وهم من يظنّ أَنه
يسْتَغْنى عَن التَّعْرِيف هُنَا إِذْ الْغَالِب أَن
الحجيج إِذا تفَرقُوا مشرقين ومغربين ومدت المطايا
أعناقها، يَقُول الْقَائِل: لَا حَاجَة إِلَى التَّعْرِيف،
فَذكر، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن التَّعْرِيف
فِيهَا ثَابت كَغَيْرِهَا من الْبِلَاد، وَمِنْهُم من
قَالَ: التَّقْدِير إلاَّ من سمع نَاشِدًا يَقُول: من أضلّ
كَذَا، فَحِينَئِذٍ يجوز للملتقط أَن يرفعها إِذا رَآهَا
ليردها على صَاحبهَا، وَهَذَا مَرْوِيّ عَن إِسْحَاق بن
رَاهَوَيْه وَالنضْر بن شُمَيْل. وَقيل: لَا تحل إلاَّ
لِرَبِّهَا الَّذِي يطْلبهَا. قَالَ أَبُو عبيد: هُوَ جيد
فِي الْمَعْنى، لَكِن لَا يجوز فِي الْعَرَبيَّة أَن
يُقَال للطَّالِب منشد. قلت: قَالَ بَعضهم: الناشد
الْمُعَرّف، والمنشد الطَّالِب فَيصح هَذَا التَّأْوِيل
على هَذَا التَّقْرِير. قَالَ القَاضِي عِيَاض فِي
(الْمَشَارِق) : ذكر الحريري اخْتِلَاف أهل اللُّغَة فِي
الناشد والمنشد، وَأَن بَعضهم عكس فَقَالَ: الناشد
الْمُعَرّف والمنشد الطَّالِب، وَاخْتِلَافهمْ فِي
تَفْسِير الحَدِيث بِالْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (فَهُوَ
بِخَير النظرين) لَفْظَة خير، هَهُنَا بِمَعْنى أفعل
التَّفْضِيل، وَالْمعْنَى: أفضل النظرين، وَتَفْسِير:
النظرين، بقوله: إِمَّا أَن يعقل من الْعقل وَهُوَ
الدِّيَة. وَإِمَّا أَن يُقَاد أهل الْقَتِيل، بِالْقَافِ
أَي: يقْتَصّ. وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم: (إِمَّا أَن
يفادى) بِالْفَاءِ من المفاداة. وَفِي (سنَن أبي دَاوُد) :
(إِمَّا أَن يَأْخُذُوا الْعقل أَو يقتلُوا) ، وَهُوَ أبين
الرِّوَايَات، وَهِي تفسر بَعْضهَا بَعْضًا. وَقَوله فِي
مُسلم: (وَإِمَّا أَن يقتل) . وَقَول أبي دَاوُد: (أَو
يقتلُوا) مفسران لسَائِر الرِّوَايَات. وَقَالَ عِيَاض:
وَقع هُنَا فِي الْعلم فِي جَمِيع النّسخ، وَإِمَّا أَن
يُقَاد بِالْقَافِ، وَيُوَافِقهُ مَا جَاءَ فِي كتاب
الدِّيات إِمَّا أَن يُؤدى وَإِمَّا أَن يُقَاد،
وَكَذَلِكَ فِي مُسلم. وَحكى بَعضهم: يَعْنِي فِي مُسلم
يفادى بِالْفَاءِ مَوضِع، يُقَاد قَالَ: وَالصَّوَاب الأول
وَهُوَ الْقَاف لِأَن على الْفَاء يخْتل اللَّفْظ، لِأَن
الْعقل هُوَ الْفِدَاء فيتحصل التّكْرَار. قَالَ:
وَالصَّوَاب أَن الْقَاف مَعَ قَوْله: الْعقل، وَالْفَاء
مَعَ قَوْله: يقتل، لِأَن الْعقل هُوَ الْفِدَاء. وَأما
يعقل مَعَ يفدى أَو يفادى فَلَا وَجه لَهُ. قلت: حَاصِل
الْكَلَام أَن الرِّوَايَة على وَجْهَيْن. من قَالَ:
وَإِمَّا أَن يُقَاد بِالْقَافِ من الْقود وَهُوَ الْقصاص.
قَالَ فِيمَا قبله: إِمَّا أَن يعقل، بِالْعينِ وَالْقَاف:
من الْعقل وَهُوَ الدِّيَة، وَمن قَالَ: وَإِمَّا أَن
يفادى. بِالْفَاءِ من: المفاداة. قَالَ فِيمَا قبله:
إِمَّا أَن يقتل، بِالْقَافِ وَالتَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق، وَهُوَ الْقَتْل الَّذِي هُوَ الْقود. قَوْله:
(فجَاء رجل من أهل الْيمن) وَهُوَ أَبُو شاه، وَجَاء بِهِ
مُبينًا فِي اللّقطَة، وَهُوَ بشين مُعْجمَة وهاء بعد
الْألف فِي الْوَقْف والدرج، وَلَا يُقَال بِالتَّاءِ.
قَالُوا: وَلَا يعرف اسْم أبي شاه هَذَا، وَإِنَّمَا يعرف
بكنيته وَهُوَ كَلْبِي يمني. وَفِي (الْمطَالع) وَأَبُو
شاه مصروفا ضبطته وقرأته أَنا معرفَة ونكرة، وَعَن ابْن
دحْيَة أَنه بِالتَّاءِ مَنْصُوبًا. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
هُوَ بهاء فِي آخِره درجا ووقفا. قَالَ: وَهَذَا لَا خلاف
فِيهِ، وَلَا يغتر بِكَثْرَة من يصحفه مِمَّن لَا يَأْخُذ
الْعلم على وَجهه وَمن مظانه.
(2/166)
قَوْله: (فَقَالَ: أكتبوا لأبي فلَان)
أَرَادَ بِهِ لأبي شاه. وَفِي مُسلم: فَقَالَ الْوَلِيد
يَعْنِي: ابْن مُسلم رَاوِي الحَدِيث قلت للأوزاعي مَا
قَوْله: اكتبوا لي يَا رَسُول الله؟ قَالَ: هَذِه
الْخطْبَة الَّتِي سَمعهَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ رجل من قُرَيْش) ، وَهُوَ
الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب عَم النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَمَا يَأْتِي فِي اللّقطَة، إِن
شَاءَ الله تَعَالَى. وَوَقع فِي رِوَايَة لِابْنِ أبي
شيبَة: فَقَالَ رجل من قُرَيْش يُقَال لَهُ شاه، وَهُوَ
غلط. قَوْله: (فَإنَّا نجعله فِي بُيُوتنَا) لِأَنَّهُ
يسقف بِهِ الْبَيْت فَوق الْخشب. وَقيل: كَانُوا يخلطونه
بالطين لِئَلَّا يتشقق إِذا بني بِهِ كَمَا يفعل بالتبن. .
قَوْله: (وَقُبُورنَا) لِأَنَّهُ يسد بِهِ فرج اللَّحْد
المتخللة بَين اللبنات. قَوْله: (إلاَّ الْإِذْخر) وَقع
فِي بعض الرِّوَايَات مكررا مرَّتَيْنِ، فَتكون
الثَّانِيَة للتَّأْكِيد.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول:
قَالَ ابْن بطال: فِيهِ إِبَاحَة كِتَابَة الْعلم، وَكره
قوم كِتَابَة الْعلم لِأَنَّهَا سَبَب لضياع الْحِفْظ،
والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم. وَمن الْحجَّة أَيْضا مَا
اتَّفقُوا عَلَيْهِ من كِتَابَة الْمُصحف الَّذِي هُوَ أصل
الْعلم، وَكَانَ للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، كتَّاب يَكْتُبُونَ الْوَحْي. وَقَالَ
الشّعبِيّ: إِذا سَمِعت شَيْئا فاكتبه وَلَو فِي
الْحَائِط. قلت: مَحل الْخلاف كِتَابَة غير الْمُصحف،
فَمَا اتَّفقُوا لَا يكون من الْحجَّة عَلَيْهِم. وَقَالَ
عِيَاض: إِنَّمَا كره من كره من السّلف من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ كِتَابَة الْعلم فِي الْمُصحف وَتَدْوِين
السّنَن لأحاديث رويت فِيهَا. مِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد:
(استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فِي الْكِتَابَة فَلم يَأْذَن لنا) . وَعَن زيد بن ثَابت،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أمرنَا رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن لَا نكتب شَيْئا) . وَلِئَلَّا
يكْتب مَعَ الْقُرْآن شَيْء وَخَوف الاتكال على
الْكِتَابَة. ثمَّ جَاءَت أَحَادِيث بِالْإِذْنِ فِي ذَلِك
فِي حَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ. قلت: يُرِيد
قَول عبد الله: (استأذنا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فِي كِتَابَة مَا سَمِعت مِنْهُ، قَالَ:
فَأذن لي، فكتبته) فَكَانَ عبد الله يُسَمِّي صَحِيفَته
الصادقة. قَالَ: وَأَجَازَهُ مُعظم الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ، وَوَقع عَلَيْهِ بعد الِاتِّفَاق ودعت
إِلَيْهِ الضَّرُورَة لانتشار الطّرق وَطول الْأَسَانِيد
واشتباه المقالات مَعَ قلَّة الْحِفْظ وكلال الْفَهم.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: أجابوا عَن أَحَادِيث النَّهْي
إِمَّا بالنسخ، فَإِن النَّهْي كَانَ خوفًا من
الِاخْتِلَاط بِالْقُرْآنِ، فَلَمَّا اشْتهر أمنت
الْمفْسدَة، أَو إِن النَّهْي كَانَ على التَّنْزِيه لمن
وثق بحفظه، وَالْإِذْن لمن لم يَثِق بحفظه.
الثَّانِي: فِيهِ دَلِيل على أَن الْخطْبَة يسْتَحبّ أَن
تكون على مَوضِع عَال منبرٍ أَو غَيره فِي جُمُعَة أَو
غَيرهَا.
الثَّالِث: اسْتدلَّ بقوله: (وسلط عَلَيْهِم رَسُول الله)
من يرى أَن مَكَّة فتحت عنْوَة، وَأَن التسليط الَّذِي
وَقع للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مُقَابل
بِالْحَبْسِ الَّذِي وَقع لأَصْحَاب الْفِيل وَهُوَ
الْحَبْس عَن الْقِتَال، هَذَا قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ
الشَّافِعِي: فتحت صلحا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى فِي حَدِيث أبي شُرَيْح.
الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم قطع الشّجر فِي
الْحرم مِمَّا لَا ينبته الآدميون فِي الْعَادة، وعَلى
تَحْرِيم خلاه، وَهَذَا بالِاتِّفَاقِ. وَاخْتلفُوا مِمَّا
ينبته الآدميون، قَالَه النَّوَوِيّ.
الْخَامِس: اسْتدلَّ أهل الْأُصُول بِهَذَا الحَدِيث
وَشبهه على أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
كَانَ متعبدا بِاجْتِهَادِهِ فِيمَا لَا نَص فِيهِ، وَهُوَ
الْأَصَح عِنْدهم، وَمنعه بَعضهم. وَمِمَّنْ قَالَ
بِالْأولِ الشَّافِعِي وَأحمد وَأَبُو يُوسُف،
وَاخْتَارَهُ الْآمِدِيّ، وَصحح الْغَزالِيّ الْجَوَاز،
وَتوقف فِي الْوُقُوع. وَقَالَ ابْن الْخَطِيب الرَّازِيّ:
توقف أَكثر الْمُحَقِّقين فى الْكل، وَجوزهُ بَعضهم فِي
أَمر الْحَرْب دون غَيره، وَاسْتدلَّ من قَالَ بِوُقُوعِهِ
بِمَا جَاءَ فِي هَذَا، وَفِي قَوْله لما سُئِلَ: (أحجنا
هَذَا لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد؟ وَلَو قلت: نعم، لوَجَبَ)
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان:
159) وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي أُسَارَى بدر: {مَا كَانَ
لنَبِيّ} الْآيَة، (آل عمرَان: 161، الْأَنْفَال: 67)
وَلَو كَانَ حكم بِالنَّصِّ لما عوتب. وَأجَاب المانعون
عَن الْكل بِأَنَّهُ يجوز أَن يقارنها نُصُوص أَو تقدم
عَلَيْهَا بِأَن يُوحى إِلَيْهِ أَنه إِذا كَانَ كَذَا
فَاضل فافعل كَذَا، مثل أَن لَا يَسْتَثْنِي إلاَّ
الْإِذْخر حِين سَأَلَ الْعَبَّاس، أَو كَانَ جِبْرِيل،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حَاضرا فَأَشَارَ
عَلَيْهِ بِهِ، وَحِينَئِذٍ يكون بِالْوَحْي لَا
بِالِاجْتِهَادِ. قَالَ الْمُهلب: يجوز أَن الله تَعَالَى
أعلم رَسُوله بتحليل الْمُحرمَات عِنْد الِاضْطِرَار،
فَكَانَ هَذَا من ذَلِك الأَصْل، فَلَمَّا سَأَلَ
الْعَبَّاس حكم فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم فِي قَوْله
تَعَالَى: {وشاورهم فِي الْأَمر} (آل عمرَان: 159) إِنَّه
مَخْصُوص بِالْحَرْبِ.
السَّادِس: فِيهِ أَن ولي الْقَتِيل بِالْخِيَارِ بَين
أَخذ الدِّيَة وَبَين الْقَتْل، وَلَيْسَ لَهُ إِجْبَار
الْجَانِي على أَي الْأَمريْنِ شَاءَ، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي وَأحمد، وَقَالَ مَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ:
لَيْسَ إلاَّ الْقَتْل أَو الْعَفو، وَلَيْسَ لَهُ
الدِّيَة إلاَّ برضى الْجَانِي، وَبِه قَالَ
الْكُوفِيُّونَ. قلت: هُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَمُحَمّد وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وسُفْيَان الثَّوْريّ
وَعبد الله بن ذكْوَان وَعبد الله بن شبْرمَة وَالْحسن بن
حَيّ. قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَكَانَ من الْحجَّة لَهُم أَن
قَوْله: أَخذ الدِّيَة، قد يجوز أَن يكون على مَا قَالَ
أهل الْمقَالة الأولى: وَيجوز أَن يَأْخُذ الدِّيَة إِن
أعطيها، كَمَا يُقَال للرجل: خُذ بِدينِك إِن شِئْت
دَرَاهِم، وَإِن شِئْت دَنَانِير، وَإِن شِئْت عرضا،
وَلَيْسَ
(2/167)
المُرَاد بذلك أَن يَأْخُذ ذَلِك، رَضِي
الَّذِي عَلَيْهِ الدّين أَو كره، وَلَكِن يُرَاد إِبَاحَة
ذَلِك لَهُ إِن أعْطِيه. قلت: التَّحْقِيق فِي هَذَا
الْمقَام أَن قَوْله: (بِخَير النظرين) جَار ومجرور، وَلَا
بُد لَهُ من مُتَعَلق مُنَاسِب يتَعَدَّى بِالْبَاء، وَقد
ذكرنَا فِيمَا مضى أَن تَقْدِير: مُخَيّر، لَيْسَ بمناسب،
فَيقدر: إِمَّا عَامل بِخَير النظرين، أَو مرضِي، أَو
مَأْمُور بِخَير النظرين للْقَاتِل، إِشَارَة إِلَى أَن
الرِّفْق لَهُ مَطْلُوب حَتَّى كَانَ الْعَفو مَنْدُوب
إِلَيْهِ. وَيجوز أَن يكون تَأْوِيله: فَهُوَ بِخَير
النظرين من رضى الْقَاتِل ورضى نَفسه فَإِن كَانَ رضى
الْقَاتِل خيرا لَهُ، وَقد اخْتَار الْفِدَاء، فَلهُ قبُول
ذَلِك. وَإِن كَانَ رضى نَفسه بالاقتصاص خيرا، فَلهُ فعل
ذَلِك وَيَنْبَغِي أَن لَا يقف عِنْد رضى نَفسه
أَلْبَتَّة، لِأَن الْقَاتِل بِاخْتِيَار الدِّيَة قد يكون
خيرا لَهُ، فيؤول وجوب الدِّيَة إِلَى رضى الْقَاتِل.
السَّابِع: فِيهِ أَن الْقَاتِل عمدا يجب عَلَيْهِ أحد
الْأَمريْنِ: الْقصاص أَو الدِّيَة، وَهُوَ أحد قولي
الشَّافِعِي، وأصحهما عِنْده أَن الْوَاجِب الْقصاص،
وَالدية بدل عِنْد سُقُوطه، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب
مَالك، وعَلى الْقَوْلَيْنِ: للْوَلِيّ الْعَفو عَن
الدِّيَة، وَلَا يحْتَاج إِلَى رضى الْجَانِي وَلَو مَاتَ
أَو سقط الطّرف الْمُسْتَحق وَجَبت الدِّيَة، وَبِه قَالَ
أَحْمد، وَعَن أبي حنيفَة وَمَالك: إِنَّه لَا يعدل إِلَّا
المَال إِلَّا برضى الْجَانِي، وَإنَّهُ لَو مَاتَ
الْجَانِي سَقَطت الدِّيَة، وَهُوَ قَول قديم
للشَّافِعِيّ، وَرجحه الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي (شَرحه)
.
54 - (حَدثنَا عَليّ بن عبد الله قَالَ حَدثنَا سُفْيَان
قَالَ حَدثنَا عَمْرو قَالَ أَخْبرنِي وهب بن مُنَبّه عَن
أَخِيه قَالَ سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول مَا من
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد أَكثر
حَدِيثا عَنهُ منى إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو
فَإِنَّهُ كَانَ كتب وَلَا أكتب) مُطَابقَة الحَدِيث
للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهُوَ أَن عبد الله بن عَمْرو من
أفاضل الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم كَانَ يكْتب مَا
يسمعهُ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَآله وَلَو
لم تكن الْكِتَابَة جَائِزَة لما كَانَ يفعل ذَلِك فَإِذا
قُلْنَا فعل الصَّحَابِيّ حجَّة فَلَا نزاع فِيهِ وَإِلَّا
فلاستدلال على جَوَاز الْكِتَابَة يكون بقرير الرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كِتَابَته (بَيَان رِجَاله) وهم
سِتَّة الأول عَليّ بن عبد الله الْمدنِي الإِمَام وَقد
تقدم الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة الثَّالِث عَمْرو بن
دِينَار أَبُو مُحَمَّد الْمَكِّيّ الجُمَحِي أحد
الْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين
وَمِائَة الرَّابِع وهب بن مُنَبّه بِضَم الْمِيم وَفتح
النُّون وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة الْمُشَدّدَة بن كَامِل
بن سبج بِفَتْح السِّين وَقيل بِكَسْرِهَا وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره جِيم وَقيل الشين
مُعْجمَة ابْن ذِي كنار وَهُوَ الاسوار الصَّنْعَانِيّ
الْيَمَانِيّ الابناوي الذمارِي سمع هُنَا عَن أَخِيه
قَالَ الْبَاجِيّ لم أر لَهُ فِي البُخَارِيّ غير هَذَا
الْموضع وَسمع فِي غير البُخَارِيّ جَابِرا وَعبد الله بن
عَبَّاس وَعبد الله بن عمر وَأَبا هُرَيْرَة وَغَيرهم
قَالَ أَبُو زرْعَة ياني ثِقَة وَكَذَا قَالَ النَّسَائِيّ
وَقَالَ الفلاس ضَعِيف وَهُوَ مَشْهُور بِمَعْرِِفَة
الْكتب الْمَاضِيَة قَالَ قَرَأت من كتب الله تَعَالَى
اثْنَيْنِ وَتِسْعين كتابا وَهُوَ من الْأَبْنَاء الَّذين
بَعثهمْ كسْرَى إِلَى الْيمن وَقيل أَصله من هراة مَاتَ
سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة إِلَّا
ابْن مَاجَه واخرج لَهُ مُسلم فِي الزَّكَاة عَن أَخِيه
همام روى عَنهُ عَمْرو ابْن دِينَار وَاتفقَ لبخاري مُسلم
فِي الاخراج عَنهُ وَعَن أَخِيه همام لَا غير الْخَامِس
أَخُو وهب همام بن مُنَبّه أَبُو عقبَة وَكَانَ أكبر من
وهب وَكَانُوا أَرْبَعَة أَخُو وهب وَمَعْقِل أَبُو عقيل
وَهَمَّام وغيلان وَكَانَ أَصْغَرهم وَكَانَ آخِرهم موتا
همام وَمَات وهب ثمَّ معقل ثمَّ غيلَان ثمَّ همام توفّي
سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة روى لَهُ الْجَمَاعَة
السَّادِس أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ (بَيَان
الْأَنْسَاب) الجمحى بِضَم الْجِيم وَفتح الْمِيم
بِالْحَاء الْمُهْملَة نِسْبَة إِلَى جمح ابْن عَمْرو بن
هصيص بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر الصَّنْعَانِيّ
نِسْبَة إِلَى صنعاء مَدِينَة بِالْيمن وصنعا أَيْضا
قَرْيَة بِدِمَشْق وهب ينْسب إِلَى صنعاء الْيمن وزيدت
فِيهَا النُّون فِي النِّسْبَة على خلاف الْقيَاس
الْيَمَانِيّ نِسْبَة إِلَى يمَان وَيُقَال يمنى أَيْضا
قَالَ الْجَوْهَرِي الْيمن بِلَاد الْعَرَب وَالنِّسْبَة
إِلَيْهَا يمنى ويمان مُخَفّفَة وَالْألف عوض عَن يَاء
النِّسْبَة فَلَا يَجْتَمِعَانِ قَالَ سِيبَوَيْهٍ
وَبَعْضهمْ يَقُول يماني بِالتَّشْدِيدِ الابناوى بِفَتْح
الْهمزَة مَنْسُوب إِلَى الْأَبْنَاء بباء مُوَحدَة ثمَّ
نون وهم كل من أَبنَاء الْفرس الَّذين وجههم كسْرَى مَعَ
سيف ذِي يزن الذمارِي بِكَسْر الذَّال الْمُعْجَمَة وَقيل
بِفَتْحِهَا نِسْبَة إِلَى ذمار على مرحلَتَيْنِ من صنعاء
(بَيَان لطائف اسناده) . مِنْهَا أَن فِيهِ التحديث
وَالْأَخْبَار بِصِيغَة الْأَفْرَاد والعنعنة وَالسَّمَاع.
وَمِنْهَا أَن وهباً لم يرو لَهُ البُخَارِيّ فِي غير
(2/168)
هَذَا الْموضع. مِنْهَا أَن فِيهِ ثَلَاثَة
من التَّابِعين فِي طبقَة مُتَقَارِبَة أَوَّلهمْ عَمْرو
(بَيَان من أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هُنَا لَيْسَ
إِلَّا هُوَ من أَفْرَاده عَن مُسلم وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِي الْعلم وَفِي المناقب عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الْعلم وَفِي المناقب عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة بِهِ وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الْعلم عَن اسحق بن إِبْرَاهِيم عَن سُفْيَان بِهِ
(بَيَان الاعراب وَالْمعْنَى) قَوْله " مَا من أَصْحَاب
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة مَا للنَّفْي
وَقَوله " أحد " بِالرَّفْع اسْم مَا وَكلمَة من ابتدائية
تتَعَلَّق بِمَحْذُوف وَالتَّقْدِير مَا أحد مُبْتَدأ من
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله أَكثر
بِالرَّفْع صفة أحد ويروي بِالنّصب أَيْضا وَهُوَ إِلَّا
وَجه لِأَنَّهُ خبر مَا وَقَوله " حَدِيثا " نصب على
التَّمْيِيز وَلَفْظَة أَكثر افْعَل التَّفْضِيل وَلَا
تسْتَعْمل إِلَّا بِأحد الْأُمُور الثَّلَاثَة كَمَا عرف
فِي مَوْضِعه وَهَهُنَا اسْتعْمل بِمن وَهُوَ قَوْله منى
وَلَكِن فصل بَينه وَبَينه بقوله حَدِيثا عَنهُ لِأَنَّهُ
لَيْسَ باجنبي وَالضَّمِير فِي عَنهُ يرجع إِلَى أحد
قَوْله " إِلَّا مَا كَانَ " يجوز أَن يكون اسْتثِْنَاء
مُنْقَطِعًا على تَقْدِير لَكِن الَّذِي كَانَ من عبد الله
بن عَمْرو أَي الْكِتَابَة لم تكن منى وَالْخَبَر مَحْذُوف
بقرينه بَاقِي الْكَلَام سَوَاء لزم مِنْهُ كَونه أَكثر
حَدِيثا إِذا الْعَادة جَارِيَة على أَن شَخْصَيْنِ إِذا
لَازِما شَيخا مثلا وَسَمعنَا مِنْهُ الْأَحَادِيث يكون
الْكَاتِب أَكثر حَدِيثا من غَيره أم لَا يجوز أَن يكون
مُتَّصِلا نظرا إِلَى الْمَعْنى إِذْ حَدِيثا إِذْ وَقع
تمييزاً والتمييز كالمحكوم عَلَيْهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ مَا
أحد حَدِيثه أَكثر من حَدِيثي إِلَّا أَحَادِيث حصلت من
عبد الله بن عَمْرو قَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض
الرِّوَايَات مَا كَانَ أحد أَكثر حَدِيثا عَنهُ منى
إِلَّا عبد الله بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا
أكتب قَوْله " فَإِنَّهُ " الْفَاء فِيهِ للتَّعْلِيل
وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى عبد الله بن عَمْرو قَوْله "
كَانَ يكْتب " جملَة وَقعت خَبرا لَان قَوْله " وَلَا أكتب
" عطف على قَوْله فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب تَقْدِيره وَأَنا
لَا أكتب وَقد روى عَن عبد الله بن عَمْرو قَالَ
اسْتَأْذَنت النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي
كِتَابَة مَا سَمِعت مِنْهُ فَأذن لي وَعنهُ قَالَ حفظت
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ألف مثل وَإِنَّمَا
قلت الرِّوَايَة عَنهُ مَعَ كَثْرَة مَا حمل عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ سكن مصر وَكَانَ
الواردون إِلَيْهَا قَلِيلا بِخِلَاف أبي هُرَيْرَة
فَإِنَّهُ استوطن الْمَدِينَة وَهِي مقصد الْمُسلمين من كل
جِهَة وَقيل كَانَ السَّبَب فِي كَثْرَة حَدِيث أبي
هُرَيْرَة دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ
بِعَدَمِ النسْيَان وَالسَّبَب فِي قلَّة حَدِيث عبد الله
بن عَمْرو هُوَ أَنه كَانَ قد ظفر بجمل من كتب أهل الْكتاب
وَكَانَ ينظر فِيهَا وَيحدث مِنْهَا فتجنب الْأَخْذ عَنهُ
كثير من التَّابِعين وَالله أعلم. قَالَ البُخَارِيّ روى
عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو من ثَمَانمِائَة رجل وَكَانَ
أَكثر الصَّحَابَة حَدِيثا روى لَهُ عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم خَمْسَة آلَاف وَثَلَاث مائَة حَدِيث
وَوجد لعبد الله بن عَمْرو سَبْعمِائة حَدِيث اتفقَا على
سَبْعَة عشر وَانْفَرَدَ البُخَارِيّ بِمِائَة وَمُسلم
بِعشْرين
(تَابعه معمر عَن همام عَن أبي هُرَيْرَة)
أَي تَابع وهب بن مُنَبّه فِي رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث
عَن همام معمر بن رَاشد وَأخرج هَذِه الْمُتَابَعَة عبد
الرَّزَّاق عَن معمر عَن همام عَن أبي هُرَيْرَة وأخرجها
أَيْضا أَبُو بكر على المرزوي فِي كتاب الْعلم لَهُ عَن
الْحجَّاج بن الشَّاعِر عَنهُ عَن معمر عَنهُ وروى أَحْمد
وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْمدْخل من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب
عَن مجاهدة والمغيرة بن حَكِيم قَالَا سمعنَا أَبَا
هُرَيْرَة يَقُول مَا كَانَ أحد أعلم بِحَدِيث رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منى إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله
بن عَمْرو فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب بِيَدِهِ ويعي بِقَلْبِه
وَكنت أعي وَلَا أكتب وَاسْتَأْذَنَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي الْكِتَابَة عَنهُ فاذن لَهُ اسناد حسن
وَقَالَ الْكرْمَانِي هَذِه مُتَابعَة نَاقِصَة سهلة
المأخذ حَيْثُ ذكر المتابع عَلَيْهِ يَعْنِي هماماً ثمَّ
أَنه يحْتَمل أَن يكون بَين البُخَارِيّ وَبَين معمر
الرِّجَال الْمَذْكُورين بعينهم وَيحْتَمل أَن يكون غَيرهم
كَمَا يحْتَمل أَن يكون من بَاب التَّعْلِيق عَن معمر قلت
هَذِه احتمالات وَالَّذِي ذَكرْنَاهُ هُوَ طَريقَة أهل
هَذَا الشَّأْن
114 - حدّثنا يَحْيَى بنُ سُلَيْمانَ قَالَ: حدّثني ابنُ
وَهْبٍ أخْبرني يُونُسُ عنِ ابنِ شهَابٍ عنْ عُبَيْدِ
اللَّهِ بن عَبْدِ اللَّهِ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ:
لَمَّا اشْتدّ بالنبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجَعُهُ
قَالَ: (ائْتُونِي بِكِتَابٍ أكْتُبْ لَكُمْ كِتابا لَا
تَضِلُّوا بَعْدَهُ) قالَ عُمَرُ: إِن النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
(2/169)
غَلَبَهُ الوجَعُ، وعنْدَنَا كِتابُ
اللَّهِ حَسْبُنَا، فاخْتَلفوا وكَثُرَ اللَّغَطُ، قالَ:
(عَنِّي ولاَ يَنْبَغِي عِنْدِي التنَازُعُ) . فَخَرَج
ابنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: إنَّ الرَّزِيَّةَ كُلَّ
الرَّزيَّةِ مَا حالَ بَيْنَ رسولِ اللَّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَبَيْنَ كِتابِهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: يحيى بن سُلَيْمَان بن
يحيى بن سعيد الْجعْفِيّ الْكُوفِي أَبُو سعيد، سكن مصر
وَمَات بهَا سنة سبع أَو ثَمَان وَثَلَاثِينَ
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن وهب بن مُسلم
الْمصْرِيّ. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: عبيد الله بن عبد الله، بتصغير الابْن وتكبير
الْأَب ابْن عتبَة بن مَسْعُود أَبُو عبد الله الْفَقِيه
الْأَعْمَى، أحد الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّادِس: عبد
الله بن عَبَّاس.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والإخبار بِصِيغَة
الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته
مَا بَين كُوفِي ومصري ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي
الطِّبّ عَن عبيد الله بن مُحَمَّد كِلَاهُمَا عَن عبد
الرَّزَّاق وَفِيه وَفِي الِاعْتِصَام عَن ابْن
إِبْرَاهِيم ابْن مُوسَى عَن هِشَام بن يُوسُف كِلَاهُمَا
عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْوَصَايَا
عَن مُحَمَّد بن رَافع وَعبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق
عَن معمر عَنهُ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن رَاهَوَيْه، وَفِي الطِّبّ عَن
زَكَرِيَّا بن يحيى عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَنهُ.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (لما اشْتَدَّ) أَي: لما قوي.
قَوْله: (اللَّغط) ، بِالتَّحْرِيكِ: الصَّوْت والجلبة.
وَقَالَ الْكسَائي: اللَّغط، بِسُكُون الْغَيْن، لُغَة
فِيهِ، وَالْجمع ألغاط. وَقَالَ اللَّيْث: اللَّغط أصوات
مُبْهمَة لَا تفهم. تَقول: لغط الْقَوْم وألغط الْقَوْم
مثل: لغطوا. قَوْله: (الرزيئة) ، بِفَتْح الرَّاء وَكسر
الزَّاي بعْدهَا يَاء ثمَّ همزَة، وَقد تسهل الْهمزَة
وتشدد الْيَاء، وَمَعْنَاهَا: الْمُصِيبَة. . وَفِي
(الْعباب) الرزء الْمُصِيبَة وَالْجمع الارزاء وَكَذَلِكَ
المرزية والرزيئة وَجمع الرزيئة الرزايا وَقد رزأته رزيئة
أَي أَصَابَته مُصِيبَة ورزأته رزأ بِالضَّمِّ ومرزئة إِذا
أصبت مِنْهُ خيرا مَا كَانَ، وَيَقُول: مَا رزأت مَاله،
وَمَا رزئته بِالْكَسْرِ أَي: مَا نقصته.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (لما) ظرف بِمَعْنى: حِين.
قَوْله: (وَجَعه) بِالرَّفْع فَاعل: (اشْتَدَّ) . قَوْله:
(قَالَ) جَوَاب (لما) وَقَوله: (ائْتُونِي) مقول القَوْل.
قَوْله: (اكْتُبْ) مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، وَيجوز
الرّفْع للاستئناف. قَوْله: (كتابا) مفعول: (اكْتُبْ) .
قَوْله: (لَا تضلوا) نفي، وَلَيْسَ بنهي، وَقد حذفت مِنْهُ
النُّون لِأَنَّهُ بدل من جَوَاب الْأَمر، وَقد جوز بعض
النُّحَاة تعدد جَوَاب الْأَمر من غير حرف الْعَطف، و:
(بعده) نصب على الظّرْف. قَوْله: (إِن رَسُول الله،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غَلبه الوجع) مقول قَول
عمر، رَضِي الله عَنهُ، وغلبه الوجع، جملَة من الْفِعْل
وَالْمَفْعُول، وَالْفَاعِل وَهُوَ: الوجع، فِي مَحل
الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. قَوْله: (كتاب الله) .
كَلَام إضافي مُبْتَدأ، و (عندنَا) مقدما خَبره، و:
(الْوَاو) ، للْحَال. قَوْله: (حَسبنَا) خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف أَي: هُوَ حَسبنَا. أَي: كافينا. قَوْله:
(فَاخْتَلَفُوا) تَقْدِيره: فَعِنْدَ ذَلِك اخْتلفُوا.
قَوْله: (وَكثر اللَّغط) بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة
جملَة معطوفة على الْجُمْلَة الأولى، وَيجوز أَن تكون
الْوَاو للْحَال، وَالْألف وَاللَّام فِي: اللَّغط، عوضا
عَن الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَالتَّقْدِير: فَاخْتَلَفُوا
وَالْحَال أَنهم قد كثر لغطهم. قَوْله: (قومُوا عني) أَي:
قومُوا مبعدين عني، فَهَذَا الْفِعْل يسْتَعْمل بِاللَّامِ
نَحْو: {قومُوا لله} (الْبَقَرَة: 238) وبإلى نَحْو: {إِذا
قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة} (الْمَائِدَة: 6) وبالباء نَحْو:
قَامَ بِأَمْر كَذَا، وَبِغير صلَة نَحْو: قَامَ زيد.
وتختلف الْمعَانِي باخْتلَاف الصلات لتضمن كُله صلَة معنى
يُنَاسِبهَا. قَوْله: (وَلَا يَنْبَغِي) من أَفعَال
المطاوعة، تَقول: بغيته فانبغى، كَمَا تَقول: كَسرته
فانكسر. وَقَوله: (التَّنَازُع) فَاعله. قَوْله: (يَقُول)
حَال من ابْن عَبَّاس. قَوْله: (كل الرزيئة) مَنْصُوب على
النِّيَابَة عَن الْمصدر، وَمثل هَذَا يعد من المفاعيل
الْمُطلقَة. قَوْله: (مَا حَال) فِي مَحل الرّفْع،
لِأَنَّهُ خبر: إِن. و: مَا، مَوْصُولَة، و: حَال، صلتها
أَي: حجز أَي: صَار حاجزا.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (وَجَعه) أَي: فِي مرض مَوته،
وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي: (لما حضر) ،
وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (لما حضرت النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، الْوَفَاة) . وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ من رِوَايَة سعيد بن جُبَير: إِن
ذَلِك كَانَ يَوْم الْخَمِيس
(2/170)
وَهُوَ قبل مَوته بأَرْبعَة أَيَّام.
قَوْله: (ائْتُونِي بِكِتَاب) فِيهِ حذف لِأَن حق
الظَّاهِر أَن يُقَال: ائْتُونِي بِمَا يكْتب بِهِ
الشَّيْء: كالدواة والقلم. وَالْكتاب بِمَعْنى:
الْكِتَابَة، وَالتَّقْدِير: ائْتُونِي بأدوات
الْكِتَابَة، أَو يكون أَرَادَ بِالْكتاب مَا من شَأْنه
أَن يكْتب فِيهِ نَحْو الكاغد والكتف. وَقد صرح فِي
(صَحِيح) مُسلم بالتقدير الْمَذْكُور حَيْثُ قَالَ:
(ائْتُونِي بالكتف والدواة) ، وَالْمرَاد بالكتف عظم
الْكَتف، لأَنهم كَانُوا يَكْتُبُونَ فِيهِ. قَوْله:
(اكْتُبْ لكم كتابا) أَي: آمُر بِالْكِتَابَةِ. نَحْو: كسى
الْخَلِيفَة الْكَعْبَة، أَي: أَمر بالكسوة، وَيحْتَمل أَن
يكون على حَقِيقَته، وَقد ثَبت أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، كتب بِيَدِهِ. وَلَكِن ورد فِي
(مُسْند أَحْمد) من حَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، أَنه
الْمَأْمُور بذلك، وَلَفظه: أَمرنِي النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن آتيه بطبق أَي: كتف، يكْتب مَا
لَا تضل أمته من بعده. وَاعْلَم أَن بَين الْكِتَابَيْنِ
جناس تَامّ، وَلَكِن أَحدهمَا بِالْحَقِيقَةِ، وَالْآخر
بالمجاز. قَوْله: (لَا تضلوا) ويروى: (لن تضلوا) ، بِفَتْح
التَّاء وَكسر الضَّاد من الضَّلَالَة ضد الرشاد، يُقَال:
ضللت، بِكَسْر اللَّام: أضلّ، بِكَسْر الضَّاد وَهِي
الفصيحة، وَأهل الْعَالِيَة يَقُول ضللت بِالْكَسْرِ أضلّ
بِالْفَتْح. وَجَاء: يضل بِالْكَسْرِ بِمَعْنى ضَاعَ
وَهلك.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الْكتاب الَّذِي همَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بكتابته، قَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل
وَجْهَيْن. أَحدهمَا: أَنه أَرَادَ أَن ينص على
الْإِمَامَة بعده فترتفع تِلْكَ الْفِتَن الْعَظِيمَة كحرب
الْجمل وصفين. وَقيل: أَرَادَ أَن يبين كتابا فِيهِ مهمات
الْأَحْكَام ليحصل الِاتِّفَاق على الْمَنْصُوص عَلَيْهِ،
ثمَّ ظهر للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْمصلحَة
تَركه، أَو أُوحِي إِلَيْهِ بِهِ. وَقَالَ سُفْيَان بن
عُيَيْنَة: أَرَادَ أَن ينص على أسامي الْخُلَفَاء بعده
حَتَّى لَا يَقع مِنْهُم الِاخْتِلَاف، وَيُؤَيِّدهُ أَنه،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ فِي أَوَائِل
مَرضه، وَهُوَ عِنْد عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: (ادعِي
لي أَبَاك وأخاك حَتَّى أكتب كتابا، فَإِنِّي أَخَاف أَن
يتَمَنَّى متمني، وَيَقُول قَائِل، ويأبى الله والمؤمنون
إلاَّ أَبَا بكر) . أخرجه مُسلم. وللبخاري مَعْنَاهُ،
وَمَعَ ذَلِك فَلم يكْتب. قَوْله: (قَالَ عمر، رَضِي الله
عَنهُ: إِن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
غَلبه الوجع وَعِنْدنَا كتاب الله حَسبنَا) . قَالَ
النَّوَوِيّ: كَلَام عمر، رَضِي الله عَنهُ، هَذَا مَعَ
علمه وفضله لِأَنَّهُ خشِي أَن يكْتب أمورا فيعجزوا
عَنْهَا، فيستحقوا الْعقُوبَة عَلَيْهَا لِأَنَّهَا منصوصة
لَا مجَال للِاجْتِهَاد فِيهَا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ:
قصد عمر، رَضِي الله عَنهُ، التَّخْفِيف على النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين غَلبه الوجع. وَلَو
كَانَ مُرَاده، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يكْتب
مَا لَا يستغنون عَنهُ لم يتركهم لاختلافهم. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ: وَقد حكى سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أهل
الْعلم، قيل: إِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، أَرَادَ أَن يكْتب اسْتِخْلَاف أبي بكر،
رَضِي الله عَنهُ، ثمَّ ترك ذَلِك اعْتِمَادًا على مَا
علمه من تَقْدِير الله تَعَالَى. وَذَلِكَ كَمَا همَّ فِي
أول مَرضه حِين قَالَ: وارأساه، ثمَّ ترك الْكتاب،
وَقَالَ: يأبي الله والمؤمنون إِلَّا أَبَا بكر، ثمَّ قدمه
فِي الصَّلَاة. وَقد كَانَ سبق مِنْهُ قَوْله، عَلَيْهِ
السَّلَام: (إِذا اجْتهد الْحَاكِم فَأصَاب فَلهُ
أَجْرَانِ، وَإِذا اجْتهد وَأَخْطَأ فَلهُ أجر) . وَفِي
تَركه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْإِنْكَار على عمر، رَضِي
الله عَنهُ، دَلِيل على استصوابه. فَإِن قيل: كَيفَ جَازَ
لعمر، رَضِي الله عَنهُ، أَن يعْتَرض على مَا أَمر بِهِ
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قيل لَهُ:
قَالَ الْخطابِيّ: لَا يجوز أَن يحمل قَوْله أَنه توهم
الْغَلَط عَلَيْهِ أَو ظن بِهِ غير ذَلِك مِمَّا لَا
يَلِيق بِهِ بِحَالهِ، لكنه لما رأى مَا غلب عَلَيْهِ من
الوجع وَقرب الْوَفَاة خَافَ أَن يكون ذَلِك القَوْل
مِمَّا يَقُوله الْمَرِيض مِمَّا لَا عَزِيمَة لَهُ فِيهِ،
فيجد المُنَافِقُونَ بذلك سَبِيلا إِلَى الْكَلَام فِي
الدّين. وَقد كَانَت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم،
يراجعون النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي
بعض الْأُمُور قبل أَن يجْزم فِيهَا، كَمَا راجعوه يَوْم
الْحُدَيْبِيَة وَفِي الْخلاف وَفِي الصُّلْح بَينه وَبَين
قُرَيْش، فَإِذا أَمر بالشَّيْء أَمر عَزِيمَة فَلَا
يُرَاجِعهُ أحد. قَالَ: وَأكْثر الْعلمَاء على أَنه يجوز
عَلَيْهِ الْخَطَأ فِيمَا لم ينزل عَلَيْهِ فِيهِ
الْوَحْي، وَأَجْمعُوا كلهم على أَنه لَا يقر عَلَيْهِ.
قَالَ: وَمَعْلُوم أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن
كَانَ قد رفع دَرَجَته فَوق الْخلق كلهم، فَلم يتنزه من
الْعَوَارِض البشرية، فقد سَهَا فِي الصَّلَاة، فَلَا
يُنكر أَن يظنّ بِهِ حُدُوث بعض هَذِه الْأُمُور فِي
مَرضه، فَيتَوَقَّف فِي مثل هَذِه الْحَال حَتَّى
يتَبَيَّن حَقِيقَته، فلهذه الْمعَانِي وَشبههَا توقف عمر،
رَضِي الله عَنهُ. وَأجَاب الْمَازرِيّ عَن السُّؤَال
بِأَنَّهُ: لَا خلاف أَن الْأَوَامِر قد تقترن بهَا
قَرَائِن تصرفها من النّدب إِلَى الْوُجُوب، وَعَكسه عِنْد
من قَالَ: إِنَّهَا للْوُجُوب وَإِلَى الْإِبَاحَة،
وَغَيرهَا من الْمعَانِي، فَلَعَلَّهُ ظهر من الْقَرَائِن
مَا دلّ على أَنه لم يُوجب ذَلِك عَلَيْهِم، بل جعله إِلَى
اختيارهم، وَلَعَلَّه اعْتقد أَنه صدر ذَلِك مِنْهُ،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من غير قصد جازم، فَظهر
ذَلِك لعمر، رَضِي الله عَنهُ، دون غَيره. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: (ائْتُونِي) أَمر، وَكَانَ حق الْمَأْمُور
أَن يُبَادر للامتثال، لَكِن ظهر لعمر، رَضِي الله عَنهُ،
وَطَائِفَة أَنه لَيْسَ على الْوُجُوب، وَأَنه من بَاب
الْإِرْشَاد إِلَى الْأَصْلَح، فكرهوا أَن يكلفوه من ذَلِك
مَا يشق عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالة مَعَ استحضارهم
قَوْله تَعَالَى: {مَا فرطنا فِي الْكتاب من شَيْء}
(2/171)
(الْأَنْعَام: 38) وَقَوله تَعَالَى:
{تبيانا لكل شَيْء} (النَّحْل: 89) وَلِهَذَا قَالَ عمر:
رَضِي الله عَنهُ: حَسبنَا كتاب الله. وَظهر لطائفة
أُخْرَى أَن الأولى أَن يكْتب، لما فِيهِ من امْتِثَال
أمره وَمَا يتضمنه من زِيَادَة الْإِيضَاح، وَدلّ أمره
لَهُم بِالْقيامِ على أَن أمره الأول كَانَ على
الِاخْتِيَار، وَلِهَذَا عَاشَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة
والسلامغ، بعد ذَلِك أَيَّامًا وَلم يعاود أَمرهم بذلك.
وَلَو كَانَ وَاجِبا لم يتْركهُ لاختلافهم، لِأَنَّهُ لم
يتْرك التَّكْلِيف لمُخَالفَة من خَالف. وَالله أعلم.
قَوْله: (عِنْدِي) . وَفِي بعض النّسخ: (عني) أَي: عَن
جهتي. قَوْله: (وَلَا يَنْبَغِي عِنْدِي التَّنَازُع)
فِيهِ إِشْعَار بِأَن الأولى كَانَ الْمُبَادرَة إِلَى
امْتِثَال الْأَمر، وَإِن كَانَ مَا اخْتَارَهُ عمر، رَضِي
الله عَنهُ، صَوَابا. قَوْله: (فَخرج ابْن عَبَّاس يَقُول)
ظَاهره أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ مَعَهم،
وَأَنه فِي تِلْكَ الْحَالة خرج قَائِلا هَذِه الْمقَالة،
وَلَيْسَ الْأَمر فِي الْوَاقِع على مَا يَقْتَضِيهِ هَذَا
الظَّاهِر، بل قَول ابْن عَبَّاس إِنَّمَا كَانَ يَقُول
عِنْد مَا يتحدث بِهَذَا الحَدِيث، فَفِي رِوَايَة معمر
فِي البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام وَغَيره، قَالَ عبيد
الله: فَكَانَ ابْن عَبَّاس يَقُول، وَكَذَا لِأَحْمَد من
طَرِيق جرير بن حَازِم عَن يُونُس بن يزِيد، وَوجه
رِوَايَة حَدِيث الْبَاب أَن ابْن عَبَّاس لما حدث عبيد
الله بِهَذَا الحَدِيث، خرج من الْمَكَان الَّذِي كَانَ
بِهِ، وَهُوَ يَقُول ذَلِك، وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ
أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) ، قَالَ عبيد الله:
فَسمِعت ابْن عَبَّاس يَقُول ... الخ، وَإِنَّمَا تعين
حمله على غير ظَاهره لِأَنَّهُ عبيد الله تَابِعِيّ من
الطَّبَقَة الثَّانِيَة لم يدْرك الْقِصَّة فِي وَقتهَا،
لِأَنَّهُ ولد بعد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بِمدَّة طَوِيلَة، ثمَّ سَمعهَا من ابْن
عَبَّاس بعد ذَلِك بِمدَّة أُخْرَى.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ بطلَان مَا
يَدعِيهِ الشِّيعَة من وصاية رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُ لَو
كَانَ عِنْد عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، عهد من رَسُول الله،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لأحال عَلَيْهَا.
الثَّانِي: فِيهِ مَا يدل على فَضِيلَة عمر، رَضِي الله
عَنهُ، وفقهه. الثَّالِث: فِي قَوْله: (ائْتُونِي بِكِتَاب
أكتب لكم) دلَالَة على أَن للْإِمَام أَن يُوصي عِنْد
مَوته بِمَا يرَاهُ نظرا للْأمة. الرَّابِع: فِي ترك
الْكتاب إِبَاحَة الِاجْتِهَاد، لِأَنَّهُ وَكلهمْ إِلَى
أنفسهم واجتهادهم. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز الْكِتَابَة،
وَالْبَاب مَعْقُود عَلَيْهِ.
40 - (بابُ العِلْمِ والعِظَةِ باللَّيْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْعلم، والعظة أَي: الْوَعْظ
بِاللَّيْلِ، وَفِي بعض النّسخ: واليقظة، وَهَذَا أنسب
للتَّرْجَمَة، وَفِي بعض النّسخ هَذَا الْبَاب مُتَأَخّر
عَن الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول كِتَابَة الْعلم الدَّالَّة
على الضَّبْط وَالِاجْتِهَاد، وَهَذَا الْبَاب فِيهِ
تَعْلِيم الْعلم وَالْمَوْعِظَة بِاللَّيْلِ، الدَّال كل
مِنْهُمَا على قُوَّة الِاجْتِهَاد وَشدَّة التَّحْصِيل.
115 - حدّثنا صَدَقَةُ قَالَ: أخبرنَا ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ
مَعْمَرٍ عَنْ هِنْدٍ عنْ أمِّ سَلَمَة وعَمْرٍ وويَحْيَى
بنِ سَعِيدٍ عَن الزُّهْرِيِّ عنْ هِنْدٍ عنْ أمِّ
سَلَمَةَ قَالَت: اسْتَيْقَظَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ذاتَ لَيْلَةٍ فَقَالَ: (سُبْحانَ اللَّهِ {ماذَا
أنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتن} وماذَا فُتِحَ مِنَ
الخَزَائِن {أَيْقَظُوا صَوَاحِبَ الحُجَرِ، فَرُبَّ
كاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ) ..
الْبَاب لَهُ ترجمتان: الْعلم والعظة، أَو الْيَقَظَة
بِاللَّيْلِ، فمطابقتة الحَدِيث للتَّرْجَمَة الأولى فِي
قَوْله: (مَا أنزل اللَّيْلَة من الْفِتَن} وماذا فتح من
الخزائن!) . وَقَوله: (فَرب كاسية فِي الدُّنْيَا عَارِية
فِي الْآخِرَة) . ومطابقته للتَّرْجَمَة الثَّانِيَة فِي
قَوْله: (أيقظوا صَوَاحِب الْحجر) .
بَيَان رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: صَدَقَة بن فضل
الْمروزِي، أَبُو الْفضل، انْفَرد بِالْإِخْرَاجِ عَنهُ
البُخَارِيّ عَن السِّتَّة، وَكَانَ حَافِظًا إِمَامًا،
مَاتَ سنة ثَلَاث، وَقيل: سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: معمر بن
رَاشد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: عمر بن دِينَار. السَّادِس: يحيى بن سعيد
الْأنْصَارِيّ. وَأَخْطَأ من قَالَ: إِنَّه يحيى بن سعيد
الْقطَّان. لِأَنَّهُ لم يسمع من الزُّهْرِيّ وَلَا لقِيه.
السَّابِع: هِنْد بنت الْحَارِث الفراسية، وَيُقَال:
القرشية، وَعند الدَّاودِيّ: الْقَادِسِيَّة، وَلَا وَجه
لَهُ. كَانَت زَوْجَة لمعبد بن الْمِقْدَاد، وَفِي
(التَّهْذِيب) أسقط معبدًا وَهُوَ وهم، روى لَهَا
الْجَمَاعَة إلاَّ مُسلما. الثَّامِن: أم سَلمَة، هِنْد.
وَقيل: رَملَة، زوج النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بنت أبي أُميَّة حُذَيْفَة. وَيُقَال: سهل بن
الْمُغيرَة
(2/172)
بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم، كَانَت
عِنْد أبي سَلمَة فَتوفي عَنْهَا، فَتَزَوجهَا النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رُوِيَ لَهَا عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثمِائَة
وَثَمَانِية وَسَبْعُونَ حَدِيثا، اتفقَا مِنْهَا على
ثَلَاثَة عشر حَدِيثا. هَاجَرت إِلَى الْحَبَشَة وَإِلَى
الْمَدِينَة. وَقَالَ ابْن سعد: هَاجر بهَا أَبُو سَلمَة
إِلَى الْحَبَشَة فِي الهجرتين جَمِيعًا. فَولدت لَهُ
هُنَاكَ زَيْنَب، ثمَّ ولدت بعْدهَا سَلمَة وَعمر ودرة.
تزَوجهَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فِي شَوَّال سنة أَربع، وَتوفيت سنة تسع وَخمسين، وَقيل:
فِي خلَافَة يزِيد بن مُعَاوِيَة، وَولي يزِيد فِي رَجَب
سنة سِتِّينَ وَتُوفِّي فِي ربيع سنة أَربع وَسِتِّينَ
وَكَانَ لَهَا حِين توفيت أَربع وَثَمَانُونَ سنة، فصلى
عَلَيْهَا أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، فِي
الْأَصَح، وَاتَّفَقُوا أَنَّهَا دفنت بِالبَقِيعِ، روى
لَهَا الْجَمَاعَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من
التَّابِعين فِي نسق. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة
صحابية عَن صحابية على قَول من قَالَ: إِن هندا صحابية إِن
صَحَّ. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الأقران فِي
موضِعين: أَحدهمَا ابْن عُيَيْنَة عَن معمر، وَالثَّانِي:
عَمْرو وَيحيى عَن الزُّهْرِيّ.
بَيَان اخْتِلَاف الرِّوَايَات: قَوْله: (عَن هِنْد) فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (عَن
امْرَأَة) . وَقَوله: عَن امْرَأَة فِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: عَن هِنْد،
وَالْحَاصِل أَن الزُّهْرِيّ رُبمَا كَانَ سَمَّاهَا
باسمها، رُبمَا أبهمها. قَوْله: (وَعَمْرو) بِالْجَرِّ عطف
على معمر، يَعْنِي: ابْن عُيَيْنَة، يروي عَن معمر بن
رَاشد وَعَن عَمْرو بن دِينَار وَعَن يحيى بن سعيد،
ثَلَاثَتهمْ يروون عَن الزُّهْرِيّ، وَقد روى الْحميدِي
هَذَا الحَدِيث فِي (مُسْنده) عَن ابْن عُيَيْنَة، قَالَ:
حَدثنَا معمر عَن الزُّهْرِيّ قَالَ: حَدثنَا عَمْرو
وَيحيى بن سعيد عَن الزُّهْرِيّ، فَصرحَ بِالتَّحْدِيثِ
عَن الثَّلَاثَة، وَيجوز وَعَمْرو بِالرَّفْع، وَرُوِيَ
بِهِ، وَوَجهه أَن يكون استئنافا. وَقد جرت عَادَة ابْن
عُيَيْنَة يحدث بِحَذْف صِيغَة الْأَدَاء. قَوْله:
(وَيحيى) عطف على عَمْرو فِي الْوَجْهَيْنِ. وَقَالَ
الشَّيْخ قطب الدّين: وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي السَّنَد
الأول مُتَّصِلا، فَذكر فِيهِ هندا، وَفِي السَّنَد
الثَّانِي عَن امْرَأَة لم يسمهَا، وَقد سَمَّاهَا فِي
بَقِيَّة الْأَبْوَاب، والاعتماد فِيهِ على الْمُتَّصِل.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون أَي الْإِسْنَاد
الثَّانِي تَعْلِيقا من البُخَارِيّ عَن عَمْرو، ثمَّ
قَالَ: وَالظَّاهِر الْأَصَح هُوَ الأول أَي الْإِسْنَاد
الأول قلت: كِلَاهُمَا صَحِيحَانِ متصلان كَمَا ذكرنَا.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي صَلَاة اللَّيْل عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن
عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر، وَفِي اللبَاس عَن عبد
الله بن مُحَمَّد عَن هِشَام بن يُوسُف عَن معمر، وَفِي
عَلَامَات النُّبُوَّة فِي موضِعين من (كتاب الْأَدَب) عَن
أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب وَفِي الْفِتَن عَن إِسْمَاعِيل
عَن إخيه عَن سُلَيْمَان بن بِلَال عَن مُحَمَّد بن أبي
عَتيق، كلهم عَن الزُّهْرِيّ عَن هِنْد بِهِ. قَالَ
الْحميدِي: هَذَا الحَدِيث مِمَّا انْفَرد بِهِ
البُخَارِيّ عَن مُسلم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الْفِتَن عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ،
وَقَالَ: صَحِيح، وَأخرجه مَالك عَن يحيى بن سعيد عَن ابْن
شهَاب مُرْسلا.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (اسْتَيْقَظَ)
بِمَعْنى تيقظ. وَلَيْسَ السِّين فِيهِ للطلب، كَمَا فِي
قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من
مَنَامه) . وَمَعْنَاهُ انتبه من النّوم، وَهُوَ فعل،
وفاعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ذَات
لَيْلَة) أَي: فِي لَيْلَة، وَلَفْظَة: ذَات، مقحمة
للتَّأْكِيد. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ إِضَافَة
الْمُسَمّى إِلَى اسْمه. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أما
قَوْلهم: ذَات مرّة، و: ذُو صباح، فَهُوَ من ظروف
الزَّمَان الَّتِي لَا تتمكن تَقول: لَقيته ذَات يَوْم
وَذَات لَيْلَة. قلت: إِنَّمَا لم يتَصَرَّف: ذَات مرّة.
وَذَات يَوْم، و: ذُو صباح، و: ذُو مسَاء، لأمرين:
أَحدهمَا: أَن إضافتها من قبيل إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى
الِاسْم، لِأَن قَوْلك: لقيتك ذَات مرّة وَذَات يَوْم،
قِطْعَة من الزَّمَان ذَات مرّة وَذَات يَوْم، أَي:
صَاحِبَة هَذَا الِاسْم، وَكَذَا: ذُو صباح وَذُو مسَاء.
أَي: وَقت ذُو صباح أَي صَاحب هَذَا الِاسْم، فحذفت الظروف
وأقيمت صفاتها مقَامهَا فأعربت بإعرابها، وَإِضَافَة
الْمُسَمّى للإسم قَليلَة لِأَنَّهَا تفيده بِدُونِ
الْمُضَاف مَا تفِيد مَعَه. الثَّانِي: أَن ذَات وَذُو من
ذَات مرّة وَأَخَوَاتهَا لَيْسَ لَهما تمكن من ظروف
الزَّمَان لِأَنَّهُمَا ليسَا من أَسمَاء الزَّمَان. وَزعم
السُّهيْلي أَن ذَات مرّة وَذَات يَوْم لَا يتصرفان فِي
لُغَة خثعم وَلَا غَيرهَا. قَوْله: (فَقَالَ) عطف على:
اسْتَيْقَظَ. قَوْله: (سُبْحَانَ الله) مقول القَوْل،
وَسُبْحَان، علم للتسبيح: كعثمان، علم للرجل، وانتصابه على
المصدرية، وَالتَّسْبِيح فِي اللُّغَة التَّنْزِيه،
وَالْمعْنَى هُنَا: أنزه الله تَنْزِيها عَمَّا لَا يَلِيق
بِهِ، واستعماله هُنَا للتعجب، لِأَن الْعَرَب قد تستعمله
فِي مقَام التَّعَجُّب. قَوْله: (مَاذَا) فِيهِ أوجه:
الأول: أَن يكون مَا، استفهاما، و: ذَا، إِشَارَة، نَحْو:
مَاذَا الْوُقُوف؟ ، الثَّانِي: أَن تكون مَا، استفهاما،
وَذَا، مَوْصُولَة بِمَعْنى: الَّذِي. الثَّالِث: أَن
تكون: مَاذَا كلمة اسْتِفْهَام على التَّرْكِيب،
كَقَوْلِك: لماذا جِئْت؟ الرَّابِع: أَن تكون: مَا، نكرَة
مَوْصُوفَة بِمَعْنى شَيْء. الْخَامِس: أَن تكون: مَا،
زَائِدَة، و: ذَا للْإِشَارَة. السَّادِس: أَن تكون: مَا،
استفهاما
(2/173)
وَذَا، زَائِدَة أجَازه جمَاعَة مِنْهُم
ابْن مَالك. قَوْله: (أنزل) على صِيغَة الْمَجْهُول. وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (أنزل الله) ، والإنزال فِي اللُّغَة
إِمَّا بِمَعْنى الإيواء كَمَا يُقَال: أنزل الْجَيْش
بِالْبَلَدِ، وَنزل الْأَمِير بِالْقصرِ، وَإِمَّا
بِمَعْنى تَحْرِيك الشَّيْء من علو إِلَى سفل، كَقَوْلِه
تَعَالَى: {وأنزلنا من السَّمَاء مَاء} (الْمُؤْمِنُونَ:
18، الْفرْقَان: 48، لُقْمَان: 10) وَهَذَانِ المعنيان لَا
يتحققان فِي: أنزل الله، فَهُوَ مُسْتَعْمل فِي معنى مجازي
بِمَعْنى: أعلم الله الْمَلَائِكَة بِالْأَمر الْمُقدر،
وَكَذَلِكَ الْمَعْنى فِي أنزل الله الْقُرْآن، فَمن
قَالَ: إِن الْقُرْآن معنى قَائِم بِذَات الله تَعَالَى،
فإنزاله أَن يُوجد الْكَلِمَات والحروف الدَّالَّة على
ذَلِك الْمَعْنى، ويثبتها فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. وَمن
قَالَ: الْقُرْآن هُوَ الْأَلْفَاظ، فإنزاله مُجَرّد
إثْبَاته فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، لِأَن الْإِنْزَال
إِنَّمَا يكون بعد الْوُجُود، وَالْمرَاد بإنزال الْكتب
السماوية أَن يتلقاها الْملك من الله تلقيا روحانيا أَو
يحفظها من اللَّوْح الْمَحْفُوظ وَينزل بهَا فيلقيها على
الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَكَأن
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أُوحِي
إِلَيْهِ فِي يَوْمه ذَلِك بِمَا سيقع بعده من الْفِتَن،
فَعبر عَنهُ بالإنزال. قَوْله: (اللَّيْلَة) بِالنّصب على
الظَّرْفِيَّة. قَوْله: (وَمَا فتح من الخزائن) الْكَلَام
فِيهِ من جِهَة الْإِعْرَاب مثل الْكَلَام فِيمَا أنزل،
وَعبر عَن الرَّحْمَة بالخزائن، كَقَوْلِه: (خَزَائِن
رَحْمَة رَبِّي) ، وَعَن الْعَذَاب بالفتن لِأَنَّهَا
أَسبَاب مؤدية إِلَى الْعقَاب. وَقَالَ الْمُهلب: فِيهِ
دَلِيل على أَن الْفِتَن تكون فِي المَال وَفِي غَيره
لقَوْله: (مَاذَا أنزل من الْفِتَن {وماذا فتح من الخزائن}
) . وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْله: (مَاذَا أنزل اللَّيْلَة
من الْفِتَن) وَهُوَ مَا فتح من الخزائن. قَالَ: وَقد
يعْطف الشَّيْء على نَفسه تَأْكِيدًا، لِأَن مَا يفتح من
الخزائن يكون سَببا للفتنة، وَاحْتج الأول بقول حُذَيْفَة،
رَضِي الله عَنهُ: فتْنَة الرجل فِي أَهله وَمَاله يكفرهَا
الصَّلَاة وَالصَّدَََقَة. قلت: الْمَعْنى أَنه، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، رأى فِي تِلْكَ اللَّيْلَة
الْمَنَام، وَفِيه أَنه سيقع بعده فتن. وَأَنه يفتح لأمته
الخزائن. وَعرف عِنْد الاستيقاظ حَقِيقَته إِمَّا بالتعبير
أَو بِالْوَحْي إِلَيْهِ فِي الْيَقَظَة قبل النّوم أَو
بعده. وَقد وَقعت الْفِتَن كَمَا هُوَ الْمَشْهُور، وَفتحت
الخزائن حَيْثُ تسلطت الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم،
على فَارس وَالروم وَغَيرهمَا، وَهَذَا من المعجزات حَيْثُ
أخبر بِأَمْر قبل وُقُوعه فَوَقع مثل مَا أخبر. قَوْله:
(أيقظوا) بِفَتْح الْهمزَة لِأَنَّهُ أَمر من الإيقاظ
بِكَسْر الْهمزَة. قَوْله: (صَوَاحِب الْحجر) كَلَام إضافي
مَفْعُوله، وَأَرَادَ بهَا زَوْجَاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَهُوَ جمع: صَاحِبَة. وَالْحجر، بِضَم
الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْجِيم: جمع حجرَة، وَأَرَادَ
بهَا منَازِل زَوْجَاته، وَإِنَّمَا خصهن بالإيقاظ
لِأَنَّهُنَّ الحاضرات حِينَئِذٍ أخْبرت بذلك أم سَلمَة،
رَضِي الله عَنْهَا. كَانَت تِلْكَ اللَّيْلَة لَيْلَتهَا
وَهُوَ الظَّاهِر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يجوز أيقظوا،
بِكَسْر الْهمزَة أَي: انتبهوا أَو الصواحب منادى لَو صحت
الرِّوَايَة بِهِ. قلت: هَذَا مَمْنُوع من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: من جِهَة الرِّوَايَة حَيْثُ لم يَرْوُونَهُ
هَكَذَا. وَالْآخر: من جِهَة اللَّفْظ، وَهُوَ أَنه لَو
كَانَ كَذَلِك كَانَ يُقَال: أيقظن، لِأَن الْخطاب
للنِّسَاء. قَوْله: (فَرب كاسية) أصل: رب، للتقليل، وَقد
تسْتَعْمل للتكثير كَمَا فِي رب هَهُنَا، وَالتَّحْقِيق
فِيهِ أَنه لَيْسَ مَعْنَاهُ التقليل دَائِما خلافًا
للأكثرين، وَلَا التكثير دَائِما خلافًا لِابْنِ
درسْتوَيْه وَجَمَاعَة، بل ترد للتكثير كثيرا، وللتقليل
قَلِيلا. فَمن الأول: {رُبمَا يود الَّذين كفرُوا لَو
كَانُوا مُسلمين} (الْحجر: 2) (وَرب كاسية فِي الدُّنْيَا
عَارِية يَوْم الْقِيَامَة) . وَمن الثَّانِي: قَول
الشَّاعِر:
(أَلا رب مَوْلُود وَلَيْسَ لَهُ أَب)
وفيهَا لُغَات قد ذَكرنَاهَا مرّة، وفعلها الَّذِي
تتَعَلَّق هِيَ بِهِ يَنْبَغِي أَن يكون مَاضِيا ويحذف
غَالِبا. وَالتَّقْدِير: رب كاسية عَارِية عرفتها،
وَالْمرَاد: إِمَّا اللَّاتِي تلبس رَقِيق الثِّيَاب
الَّتِي لَا تمنع من إِدْرَاك الْبشرَة معاقبات فِي
الْآخِرَة بفضيحة التعري، وَإِمَّا اللابسات للثياب
الرقيقة النفيسة عاريات من الْحَسَنَات فِي الْآخِرَة،
فندبهن على الصَّدَقَة وحضهن على ترك السَّرف فِي
الدُّنْيَا، يَأْخُذن مِنْهَا أقل الْكِفَايَة ويتصدقن
بِمَا سوى ذَلِك، وَهَذِه الْبلوى عَامَّة فِي هَذَا
الزَّمَان لَا سِيمَا فِي نسَاء مصر، فَإِن الْوَاحِدَة
مِنْهُنَّ تتغالى فِي ثمن قَمِيص إِمَّا من عِنْدهَا أَو
بتكليفها زَوجهَا حَتَّى تفصل قَمِيصًا بأكمام هائلة وذيل
سابلة جدا، منجرة وَرَاءَهَا أَكثر من ذراعين، وكل كم من
كميها يصلح أَن يكون قَمِيصًا معتدلاً، وَمَعَ هَذَا إِذا
مشت يرى مِنْهَا أَكثر بدنهَا من نفس كمها، فَلَا شكّ
أَنَّهُنَّ مِمَّن يدخلن فِي هَذَا الحَدِيث، وَهُوَ من
جملَة معجزات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
حَيْثُ أخبر بذلك قبل وُقُوعه، لما علم باطلاع الله
تَعَالَى إِيَّاه أَن مثل هَذَا سيقع فِي أمته من فتح
الخزائن وَكَثْرَة الْأَمْوَال المؤدية إِلَى مثل هَذِه
الجريمة وَغَيرهَا، وَلَكِن لما أَمر النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، بإيقاظ نِسَائِهِ خص تذكيره ووعظه
لَهُنَّ بِهَذَا الْوَصْف تحذيرا لَهُنَّ عَن مُبَاشرَة
الْإِسْرَاف الْمنْهِي عَنهُ، وَلِأَنَّهُ من الْأُمُور
المؤدية إِلَى فَسَاد عَظِيم على مَا لَا يخفى. وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: (رب كاسية) كالبيان لموجب استيقاظ
الْأَرْوَاح، أَي: لَا يَنْبَغِي لَهُنَّ أَن يتغافلن
ويعتمدن على كونهن أهالي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، أَي: رب كاسية حلى الزَّوْجِيَّة
(2/174)
المشرفة بهَا وَهِي عَارِية عَنْهَا فِي
الْآخِرَة لَا تنفعها إِذا لم تضمها مَعَ الْعَمَل. قَالَ
تَعَالَى: {فَلَا أَنْسَاب بَينهم يَوْمئِذٍ وَلَا
يتساءلون} (الْمُؤْمِنُونَ: 101) قَوْله: (كاسية) على وزن:
فاعلة، من: كسا، وَلَكِن بِمَعْنى مَكْسُورَة، كَمَا فِي
قَول الحطيئة.
واقعد فَإنَّك أَنْت الطاعم الكاسي
قَالَ الْفراء: يَعْنِي المكسو. كَقَوْلِك: مَاء دافق،
وعيشة راضية. لِأَنَّهُ يُقَال: كسي الْعُرْيَان، وَلَا
يُقَال: كسا. قَوْله: (عَارِية) بتَخْفِيف الْيَاء. قَالَ
القَاضِي: أَكثر الرِّوَايَات بخفض عَارِية على الْوَصْف.
وَقَالَ السُّهيْلي: الْأَحْسَن عِنْد سِيبَوَيْهٍ
الْخَفْض على النَّعْت لِأَن: رب، عِنْده حرف جر يلْزم صدر
الْكَلَام، وَيجوز الرّفْع كَمَا تَقول: رب رجل عَاقل على
إِضْمَار مُبْتَدأ، وَالْجُمْلَة فِي مَوضِع النَّعْت أَي:
هِيَ عَارِية، وَالْفِعْل الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ: رب،
مَحْذُوف. وَاخْتَارَ الْكسَائي أَن يكون رب أسما
مُبْتَدأ، وَالْمَرْفُوع خَبَرهَا. وَمِمَّا يُسْتَفَاد من
هَذَا الحَدِيث أَن للرجل أَن يوقظ أَهله بِاللَّيْلِ
للصَّلَاة وَلذكر الله تَعَالَى، لَا سِيمَا عِنْد آيَة
تحدث أَو رُؤْيا مخوفة، وَجَوَاز قَول: سُبْحَانَ الله،
عِنْد التَّعَجُّب واستحباب ذكر الله بعد الاستيقاظ وَغير
ذَلِك.
41 - (بابُ السَّمَر فِي العِلْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان السمر فِي الْعلم، هَذِه
رِوَايَة أبي ذَر بِإِضَافَة الْبَاب إِلَى السمر، وَفِي
رِوَايَة غَيره بَاب السمر فِي الْعلم بتنوين الْبَاب،
وَقطع الْإِضَافَة، وارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، كَمَا ذكرنَا. والسمر، مُبْتَدأ: وَفِي الْعلم،
فِي مَحل الصّفة، وَالْخَبَر مَحْذُوف تَقْدِيره: هَذَا
بَاب فِيهِ السمر بِالْعلمِ أَي: بَيَان السمر بِالْعلمِ،
و: السمر، بِفَتْح الْمِيم، هُوَ الحَدِيث بِاللَّيْلِ،
وَيُقَال: السمر بِإِسْكَان الْمِيم، وَقَالَ عِيَاض:
الأول هُوَ الرِّوَايَة. قَالَ ابْن سراج: الإسكان أولى،
وَضَبطه بَعضهم بِهِ، وَأَصله لون الْقَمَر، لأَنهم
كَانُوا يتحدثون إِلَيْهِ، وَمِنْه الأسمر لشبهه بذلك
اللَّوْن. وَقَالَ غَيره: السمر، بِالْفَتْح: الحَدِيث
بِاللَّيْلِ، وَأَصله لَا ُأكَلِّمهُ السمر وَالْقَمَر،
أَي: اللَّيْل وَالنَّهَار. وَفِي (الْعباب) السمر
المسامرة أَي: الحَدِيث بِاللَّيْلِ، وَقد سمر يسمر وَهُوَ
سامر والسامر أَيْضا السمار وهم الْقَوْم يسمرون، كَمَا
يُقَال للحجاج: حَاج كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {سامراً
تهجرون} (الْمُؤْمِنُونَ: 67) أَي: سمارا يتحدثون، والسمر
اللَّيْل والسمير الَّذِي يسامرك، وابنا سمير: اللَّيْل
وَالنَّهَار لِأَنَّهُ يسمر فيهمَا، وَيُقَال: أَفعلهُ مَا
سمر ابْنا سمير أَي: أبدا. وَيُقَال: السمر الدَّهْر،
وابناه اللَّيْل وَالنَّهَار. وَلَا أَفعلهُ سمير
اللَّيَالِي، وسجين اللَّيَالِي، أَي مَا دَامَ النَّاس
يسمرون فِي لَيْلَة قَمْرَاء.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول الْعلم والعظة بِاللَّيْلِ،
وَقد كَانَ التحدث بعد الْعشَاء مَنْهِيّا، وَهُوَ السمر.
وَالْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب هُوَ السمر بِالْعلمِ،
وَنبهَ بهما على أَن السمر الْمنْهِي عَنهُ إِنَّمَا هُوَ
فِيمَا لَا يكون من الْخَيْر، وَأما السمر بِالْخَيرِ
فَلَيْسَ بمنهي بل مَرْغُوب. فَافْهَم.
116 - حدّثنا سَعِيدُ بنُ غُفَيْرٍ قَالَ: حدّثني
اللَّيْثُ قَالَ: حدّثني عَبْدُ الرَّحْمن بنُ خالِدٍ عنِ
ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمٍ وَأبي بَكْرِ بن سُلَيْمَانَ بنِ
أبي حَثْمَةَ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ قالَ: صلَّى
بنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العِشَاءَ فِي آخِرِ
حَيَاتِهِ، فَلَمَّا سَلَّمَ قامَ فَقَالَ: (أرأيْتَكُمْ
لَيْلَتَكُمْ هَذِهِ؟ فإنَّ رَأْسَ مائَةِ سَنَةٍ مِنْهَا
لَا يَبْقَى مِمَّنْ هُوَ عَلى ظَهْرِ الأرْض أحَدٌ) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حدث الصَّحَابَة بِهَذَا
الحَدِيث بعد صَلَاة الْعشَاء وَهُوَ سمر بِالْعلمِ.
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: سعيد بن عفير، بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء، وَقد مر. الثَّانِي:
اللَّيْث بن سعد. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن خَالِد بن
مُسَافر أَبُو خَالِد، وَيُقَال: أَبُو الْوَلِيد الفهمي،
مولى اللَّيْث بن سعد أَمِير مصر لهشام بن عبد الْملك.
قَالَ ابْن سعد: كَانَت ولَايَته على مصر سنة ثَمَان عشرَة
وَمِائَة، وَقَالَ يحيى بن معِين: كَانَ عِنْده من
الزُّهْرِيّ كتاب فِيهِ مِائَتَا حَدِيث أَو ثَلَاثمِائَة،
كَانَ اللَّيْث يحدث بهَا عَنهُ، وَكَانَ جده شهد فتح بَيت
الْمُقَدّس مَعَ عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: صَالح. وَقَالَ ابْن يُونُس: كَانَ
ثبتا فِي الحَدِيث، توفّي سنة سبع وَعشْرين وَمِائَة، روى
لَهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: سَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، وَقد
تقدم. السَّادِس: أَبُو بكر بن سُلَيْمَان بن أبي حثْمَة،
بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الثَّاء
الْمُثَلَّثَة، واسْمه عبد الله بن حُذَيْفَة، وَقيل: عدي
بن كَعْب بن حُذَيْفَة بن غَانِم بن عبد الله بن عويج
(2/175)
بن عدي بن كَعْب القريشي الْعَدوي. وَقَالَ
ابْن عبد الْبر: أَبُو بكر هَذَا لَيْسَ لَهُ اسْم، أخرج
لَهُ البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث خَاصَّة مَقْرُونا بسالم
كَمَا ترى، وَمُسلم غير مقرون، وَكَانَ من عُلَمَاء
قُرَيْش، روى عَن سعيد بن زيد وَأبي هُرَيْرَة أَيْضا،
وروى عَنهُ الزُّهْرِيّ وَغَيره. أخرجُوا لَهُ خلا ابْن
مَاجَه. وَقَالَ ابْن حبَان: ثِقَة، وَلَيْسَ لَهُ حَدِيث
عِنْد مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ أَيْضا سواهُ. السَّابِع: عبد
الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة من التَّابِعين، وهم: عبد
الرَّحْمَن وَابْن شهَاب وَسَالم وَأَبُو بكر. وَمِنْهَا:
أَن أَبَا بكر لَيْسَ لَهُ حَدِيث عِنْد البُخَارِيّ غير
هَذَا، وَمَعَ هَذَا روى لَهُ مَقْرُونا بسالم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله عَن ابْن الْمُبَارك
عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم، وَعَن أبي
الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم وَأبي
بكر بن أبي حثْمَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن عبد
الله بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب،
وَعَن أبي رَافع وَعبد بن حميد عَن عبد الرَّزَّاق عَن
معمر، قَالَ: وَرَوَاهُ اللَّيْث عَن عبد الرَّحْمَن بن
خَالِد.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (حَدثنِي اللَّيْث
قَالَ: حَدثنِي عبد الرَّحْمَن) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر:
(حَدثنِي اللَّيْث حَدثهُ عبد الرَّحْمَن) أَي: أَنه
حَدثهُ عبد الرَّحْمَن. قَوْله: (صلى لنا، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام) وَفِي رِوَايَة: (صلى بِنَا)
وَمعنى اللَّام: صلى إِمَامًا لنا وإلاَّ فَالصَّلَاة لله
لَا لَهُم. قَوْله: (الْعشَاء) أَي: صَلَاة الْعشَاء،
وَهِي الصَّلَاة الَّتِي وَقتهَا بعد غرُوب الشَّفق،
وَهُوَ بِكَسْر الْعين وبالمد، وَالْعشَاء بِالْفَتْح
وبالمد: الطَّعَام. قَوْله: (فِي آخر حَيَاته) ، وَجَاء
فِي رِوَايَة جَابر أَن ذَلِك كَانَ قبل مَوته، صلى الله
تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، بِشَهْر. قَوْله: (قَامَ)
جَوَاب: لما. قَوْله: (أَرَأَيْتكُم؟) بِهَمْزَة
الِاسْتِفْهَام وَفتح الرَّاء وبالخطاب للْجمع وَالْكَاف
ضمير ثَان وَلَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، والرؤية
بِمَعْنى الإبصار، و (ليلتكم) بِالنّصب مَفْعُوله،
وَلَيْسَت الرُّؤْيَة هَهُنَا بِمَعْنى الْعلم لِأَنَّهَا
إِذا كَانَت بِمَعْنى الْعلم تَقْتَضِي مفعولين، وَلَيْسَ
هَهُنَا إلاَّ مفعول وَاحِد وَهُوَ اللَّيْلَة كَمَا
ذكرنَا، و: كم، لَا تصلح أَن تكون مَفْعُولا آخر حَتَّى
تكون بِمَعْنى الْعلم لِأَنَّهُ حرف لَا مَحل لَهَا من
الْإِعْرَاب كَمَا ذكرنَا، وَلَو كَانَ اسْما لوَجَبَ أَن
يُقَال: أرأيتموكم لِأَن الْخطاب لجَماعَة، فَإِذا كَانَ
لجَماعَة يجب أَن يكون بِالتَّاءِ وَالْمِيم كَمَا فِي
علمتموكم، رِعَايَة للمطابقة. فَإِن قلت: فَهَذَا يلزمك
أَيْضا فِي التَّاء، فَإِن التَّاء اسْم فَيَنْبَغِي أَن
يكون: أرأيتموكم. قلت: لما كَانَ الْكَاف وَالْمِيم
لمُجَرّد الْخطاب اختصرت عَن التَّاء وَالْمِيم بِالتَّاءِ
وَحدهَا للْعلم بِأَنَّهُ جمع، تَقول: كم، وَالْفرق بَين
حرف الْخطاب وَاسم الْخطاب أَن الِاسْم يَقع مُسْندًا
وَمُسْندًا إِلَيْهِ، والحرف عَلامَة تسْتَعْمل مَعَ
اسْتِقْلَال الْكَلَام واستغنائه عَنْهَا بِاعْتِبَار
الْمسند والمسند إِلَيْهِ، فوزانها وزان التَّنْوِين وياء
النِّسْبَة، وَأَيْضًا اسْم الْخطاب يدل على عين وَمعنى
الْخطاب، وحرفه لَا يدل إلاَّ على الثَّانِي. وَقَالَ
بَعضهم: الرُّؤْيَة بِمَعْنى الْعلم أَو الْبَصَر،
وَالْمعْنَى: أعلمتم، أَو أبصرتم ليلتكم؟ قلت: قد بَينا
أَنه لَا يَصح أَن تكون من الرُّؤْيَة بِمَعْنى الْعلم،
وَهَذَا تصرف من لَا يَد لَهُ فِي الْعَرَبيَّة، وَيُقَال:
أَرَأَيْتكُم كلمة تَقُولهَا الْعَرَب إِذا أَرَادَت
الاستخبار، وَهُوَ بِفَتْح التَّاء للمذكر والمؤنث
وَالْجمع والمفرد، تَقول: أرأيتَكَ، أرأيتَكِ، وأرأيتَكُما
وأرأيتَكُم. وَالْمعْنَى: أخبر وأخبري وأخبراني وأخبروني،
فَإِن أردْت معنى الرُّؤْيَة أنثت وجمعت. وَقَالَ بَعضهم:
الْجَواب مَحْذُوف تَقْدِيره: قَالُوا نعم، قَالَ:
فاضبطوه. قلت: كَأَن هَذَا الْقَائِل أَخذ كَلَامه من
الزَّرْكَشِيّ فِي حَوَاشِيه، فَإِنَّهُ قَالَ:
وَالْجَوَاب مَحْذُوف تَقْدِيره: أَرَأَيْتكُم ليلتكم
هَذِه احفظوها، أَو احْفَظُوا تاريخها، فَإِن بعد
انْقِضَاء مائَة سنة لَا يبْقى مِمَّن هُوَ على ظهر
الأَرْض أحد، انْتهى، وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن
الْمَعْنى: أبصرتم ليلتكم هَذِه، وَلَا يحْتَاج فِيهِ
إِلَى جَوَاب لِأَن هَذَا لَيْسَ باستفهام حَقِيقِيّ.
قَوْله: (فَإِن رَأس) وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فَإِن
على رَأس مائَة) . فَإِن قلت: مَا اسْم إِن؟ قلت: فِيهِ
ضمير الشَّأْن. وَقَوله: (لَا يبْقى) خَبَرهَا. قَوْله:
(مِنْهَا) أَي: من تِلْكَ اللَّيْلَة، وَقد اسْتدلَّ بعض
اللغويين بقوله: مِنْهَا، أَن: من، تكون لابتداء الْغَايَة
فِي الزَّمَان: كمنذ، وَهُوَ قَول الْكُوفِيّين. وَقَالَ
البصريون: لَا تدخل: من إلاَّ على الْمَكَان ومنذ، فِي
الزَّمَان نظيرة: من، فِي الْمَكَان، وتأولوا مَا جَاءَ
بِخِلَافِهِ، وَاحْتج من نصر قَول الْكُوفِيّين بقوله
تَعَالَى: {من أول يَوْم} (التَّوْبَة: 108) وَبقول
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا: (وَلم يجلس عِنْدِي من يَوْم
قيل فيَّ مَا قيل) . وَقَول أنس، رَضِي الله عَنهُ: (وَمَا
زلت أحب الدُّبَّاء من يَوْمئِذٍ) . وَقَول بعض
الصَّحَابَة: (مُطِرْنَا من الْجُمُعَة إِلَى الْجُمُعَة)
. وَأجَاب أَبُو عَليّ الْفَارِسِي عَن قَوْله: {من أول
يَوْم} (التَّوْبَة: 108) بِأَن
(2/176)
التَّقْدِير، من تأسيس أول يَوْم، وَضَعفه
بَعضهم بِأَن التأسيس لَيْسَ بمَكَان. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: التَّقْدِير من أول يَوْم من أَيَّام
وجوده. قلت: هَذَا جنوح إِلَى مَذْهَب الْكُوفِيّين.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: المُرَاد أَن كل من كَانَ تِلْكَ
اللَّيْلَة على الأَرْض لَا يعِيش بعْدهَا أَكثر من مائَة
سنة، سَوَاء قل عمره قبل ذَلِك أم لَا، وَلَيْسَ فِيهِ نفي
عَيْش أحد بعد تِلْكَ اللَّيْلَة فَوق مائَة سنة.
وَيُقَال: معنى الحَدِيث أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وعظهم بقصر أعمارهم بِخِلَاف غَيرهم من سالف الْأُمَم،
وَقد احْتج البُخَارِيّ وَمن قَالَ بقوله على موت الْخضر،
وَالْجُمْهُور على خِلَافه. وَمن قَالَ بِهِ أجَاب عَن
الحَدِيث بِأَنَّهُ من سَاكِني الْبَحْر فَلَا يدْخل فِي
الحَدِيث. وَمن قَالَ: إِن معنى الحَدِيث: لَا يبْقى
مِمَّن تَرَوْنَهُ وتعرفونه، فَالْحَدِيث عَام أُرِيد بِهِ
الْخُصُوص. وَقيل: أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِالْأَرْضِ الْبَلدة الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَقد
قَالَ تَعَالَى: {ألم تكن أَرض الله وَاسِعَة} (النِّسَاء:
97) يُرِيد الْمَدِينَة. وَقَوله: مِمَّن هُوَ على وَجه
الأَرْض احْتِرَاز عَن الْمَلَائِكَة. قَالَ الْكرْمَانِي:
فَإِن قلت: مَا تَقول فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام؟ قلت:
فَهُوَ لَيْسَ على وَجه الأَرْض بل فِي السَّمَاء، أَو
هُوَ من النَّوَادِر. فَإِن قلت: فَمَا قَوْلك فِي
إِبْلِيس؟ قلت: هُوَ لَيْسَ على ظهر الأَرْض بل فِي
الْهَوَاء أَو فِي النَّار، أَو المُرَاد من لفظ من هُوَ
الْإِنْس وَالله أعلم. قلت: هَذِه كلهَا تعسفات، وَلَا يرد
على هَذَا لَا بِعِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَلَا بإبليس. فَإِن مُرَاده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مِمَّن هُوَ على ظهر الأَرْض أمته، والقرائن تدل على
ذَلِك، مِنْهَا قَوْله: (أَرَأَيْتكُم ليلتكم هَذِه؟) ،
وكل من على وَجه الأَرْض من الْمُسلمين وَالْكفَّار أمته،
أما الْمُسلمُونَ فَإِنَّهُم أمة إِجَابَة، وَأما
الْكفَّار فَإِنَّهُم أمة دَعْوَة. وَعِيسَى وَالْخضر،
عَلَيْهِمَا السَّلَام، ليسَا داخلين فِي الْأمة. وَأما
الشَّيْطَان فَإِنَّهُ لَيْسَ من بني آدم. وَقَالَ ابْن
بطال: إِنَّمَا أَرَادَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
أَن هَذِه الْمدَّة تخترم الجيل الَّذِي هم فِيهِ، فوعظهم
بقصر أعمارهم، وأعلمهم أَن أعمارهم لَيست كأعمار من تقدم
من الْأُمَم ليجتهدوا فِي الْعِبَادَة. وَقد أخرج
البُخَارِيّ، فِيمَا انْفَرد بِهِ عَن أبي بَرزَة
الْأَسْلَمِيّ: أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، كَانَ يكره النّوم قبل الْعشَاء والْحَدِيث
بعْدهَا، فَهَذَا يدل على الْمَنْع مُطلقًا، والْحَدِيث
الْمُتَقَدّم يدل على جَوَاز السمر فِي الْعلم وَالْخَيْر،
فنخص الْعُمُوم فِيمَا عداهما. وَأما مَا عدا ذَلِك فَذهب
الْأَكْثَر إِلَى كَرَاهَته، مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة
وَابْن عَبَّاس، وَكتب عمر، رَضِي الله عَنهُ، أَن لَا
ينَام قبل أَن يُصليهَا فَمن نَام فَلَا نَامَتْ عينه.
وَهُوَ قَول عَطاء وَطَاوُس وَإِبْرَاهِيم، وَقَول
مُجَاهِد وَمَالك والكوفيين وَالشَّافِعِيّ، وَرخّص
طَائِفَة فِيهِ، رُوِيَ ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله
عَنهُ، أَنه كَانَ رُبمَا غفى قبل الْعشَاء، وَكَانَ ابْن
عمر ينَام ويوكل من يوقظه، وَعَن أبي مُوسَى مثله، وَعَن
عُرْوَة وَابْن سِيرِين أَنَّهُمَا كَانَا ينامان نومَة
قبل الْعشَاء، وَاحْتج لَهُم بِأَن الْكَرَاهَة إِنَّمَا
كرهت لمن خشِي عَلَيْهِ تفويتها، أَو تَفْوِيت الْجَمَاعَة
فِيهَا. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف قَول مَالك، فَقَالَ
مرّة: الصَّلَاة أحب إِلَيّ من مذاكرة الْفِقْه. وَقَالَ
فِي مَوضِع آخر: الْعِنَايَة بِالْعلمِ، إِذا صحت
النِّيَّة، أفضل. وَقَالَ سَحْنُون: يلْتَزم أثقلهما
عَلَيْهِ.
117 - حدّثنا آدمُ قَالَ: حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ: حَدثنَا
الحَكَمُ قالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بنَ جُبَيْرٍ عَنِ ابنَ
عَبَّاسٍ قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خالَتِي مَيْمُونَةَ
بِنْتِ الحارِثِ زَوْجِ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وكانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْدَها
فِي لَيْلَتِهَا، فَصَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم العِشَاءَ ثُمَّ جَاءَ إِلَى مَنْزِلهِ فَصَلَّى
أرْبَعَ رَكَعاتٍ، ثُمَّ قَامَ ثُمَّ قالَ: (نامَ
الغُلَيِّمُ؟) أوْ كَلِمَةُ تُشْبِهُهَا، ثُمَّ قَامَ
فَقُمْتُ عَنْ يَسَارِهِ فَجَعَلَنِي عَنْ يَمِينِهِ،
فَصَلَّى خَمسَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ
نامَ حَتَّى سَمِعْتُ غَطِيطَهُ أوْ خَطِيطَهُ ثُمَّ
خَرَجَ إِلَى الصَّلاَةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (نَام
الغليم) ، قَالَه ابْن الْمُنِير، وَيُقَال: ارتقاب ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، لأحوال النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذْ لَا فرق بَين التَّعَلُّم من
القَوْل والتعلم من الْفِعْل، فقد سمر ابْن عَبَّاس ليلته
فِي طلب الْعلم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الَّذِي فِيهِ من
الدّلَالَة على التَّرْجَمَة هُوَ مَا يفهم من جعله على
يَمِينه كَأَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، قَالَ لِابْنِ
عَبَّاس: قف على يَمِيني. فَقَالَ: وقفت. وَيجْعَل
الْفِعْل بِمَنْزِلَة القَوْل، أَو أَن الْغَالِب أَن
الْأَقَارِب إِذا اجْتَمعُوا لَا بُد أَن يجْرِي بَينهمَا
حَدِيث للمؤانسة، وَحَدِيث النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، كُله فَائِدَة وَعلم، ويعد من مكارمه أَن
يدْخل بَيته بعد صَلَاة الْعشَاء بِأَصْحَابِهِ، ويجد ابْن
عَبَّاس مبايتا لَهُ وَلَا يكلمهُ أصلا. وَاعْترض بَعضهم
على هَذَا كُله، فَقَالَ: كل مَا ذَكرُوهُ معترض، لِأَن من
يتَكَلَّم بِكَلِمَة وَاحِدَة لَا يُسمى سامرا، وصنيع ابْن
عَبَّاس
(2/177)
يُسمى سهرا لَا سمرا إِذْ السمر لَا يكون
إِلَّا بتحدث وأبعدها الْأَخير لِأَن مَا يَقع بعد
الانتباه من النّوم لَا يُسمى سمرا، ثمَّ قَالَ:
وَالْأولَى من هَذَا كُله أَن مُنَاسبَة التَّرْجَمَة
مستفادة من لفظ آخر فِي هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه من
طَرِيق أُخْرَى، وَهَذَا يصنعه المُصَنّف كثيرا، يُرِيد
بِهِ تَنْبِيه النَّاظر فِي كِتَابه على الاعتناء بتتبع
طرق الحَدِيث، وَالنَّظَر فِي مواقع أَلْفَاظ الروَاة،
لِأَن تَفْسِير الحَدِيث بِالْحَدِيثِ أولى من الْخَوْض
فِيهِ بِالظَّنِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ هُنَا
مَا وَقع فِي بعض طرق هَذَا الحَدِيث مِمَّا يدل صَرِيحًا
على حَقِيقَة السمر بعد الْعشَاء وَهُوَ مَا أخرجه فِي
التَّفْسِير وَغَيره من طَرِيق كريب عَن ابْن عَبَّاس
قَالَ: (بت فِي بَيت مَيْمُونَة، فَتحدث رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَهله سَاعَة ثمَّ رقد) فَصحت
التَّرْجَمَة بِحَمْد الله تَعَالَى من غير حَاجَة إِلَى
تعسف وَلَا رجم بِالظَّنِّ انْتهى. قلت: اعْتِرَاض هَذَا
الْمُعْتَرض كُله معترض، أما قَوْله: لِأَن من يتَكَلَّم
بِكَلِمَة وَاحِدَة لَا يُسمى سامرا، فَغير صَحِيح، لِأَن
حَقِيقَة السمر التحدث بِاللَّيْلِ، وَيُطلق ذَلِك على
التحدث بِكَلِمَة، وَقد بَين ذَلِك ابْن الْمُنِير بقوله:
إِن أصل السمر ثَبت بِهَذِهِ الْكَلِمَة وَهِي قَوْله:
(نَام الغليم) . وَالَّذِي قَالَه صَحِيح، لِأَن أحدا لم
يشْتَرط أَن لَا يكون السمر إلاَّ بِكَلِمَات مُتعَدِّدَة،
وَأهل اللُّغَة قاطبة لم يَقُولُوا إلاَّ أَن السمر هُوَ
التحدث بِاللَّيْلِ، وَهُوَ يُطلق على الْقَلِيل
وَالْكثير. وَأما قَوْله: وصنيع ابْن عَبَّاس يُسمى سهرا
لَا سمرا، فَنَقُول: إِن السمر كَمَا يُطلق على القَوْل
يُطلق على الْفِعْل يُقَال: سمر الْقَوْم الْخمر إِذا
شَرِبُوهَا. قَالَ الْقطَامِي:
(ومصرَّعين من الكلال وَإِنَّمَا ... سمروا الغبوق من
الطلاء المعرق)
وسامر الْإِبِل مَا رعى مِنْهَا بِاللَّيْلِ، يُقَال: إِن
إبلنا تسمر أَي ترعى لَيْلًا. وَأما قَوْله: وأبعدها
الْأَخير، فَهُوَ أبعد اعتراضاته، بل هُوَ الْأَقْرَب،
لِأَن قَوْله: لِأَن مَا يَقع بعد الانتباه من النّوم لَا
يُسمى سمرا، مُخَالف لما قَالَه أهل اللُّغَة، وَبَيَان
قرب الْأَخير الَّذِي ادّعى أَنه أبعدها أَن النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ وَقت جعله ابْن
عَبَّاس عَن يَمِينه فِي مقَام التَّعْلِيم لَهُ، وَلَا
شكّ أَنه لم يكتف وقتئذ بِمُجَرَّد الْفِعْل، بل علمه
أَيْضا بالْقَوْل لزِيَادَة الْبَيَان، وَلَا سِيمَا كَانَ
ابْن عَبَّاس حِينَئِذٍ صَغِيرا وَلم يكن عَالما بموقف
الْمُقْتَدِي من الإِمَام. وَأما قَوْله: وَالْأولَى من
هَذَا كُله أَن مُنَاسبَة التَّرْجَمَة إِلَى آخِره ...
فَكَلَام لَيْسَ لَهُ تَوْجِيه أصلا، فضلا عَن أَن يكون
أولى من غَيره، لِأَن من يعْقد بَابا بترجمة وَيَضَع فِيهِ
حَدِيثا، وَكَانَ قد وضع هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه فِي
بَاب آخر، وَلَكِن بطرِيق أُخْرَى وألفاظ مُتَغَايِرَة،
هَل يُقَال مُنَاسبَة التَّرْجَمَة فِي هَذَا الْبَاب
يُسْتَفَاد من ذَلِك الحَدِيث الْمَوْضُوع فِي الْبَاب
الآخر؟ فَمَا أبعد هَذَا الْكَلَام وَأبْعد من هَذَا
الْبعيد أَنه علل مَا قَالَ بقوله: لِأَن تَفْسِير
الحَدِيث بِالْحَدِيثِ أولى من الْخَوْض فِيهِ بِالظَّنِّ
فسبحان الله، هَؤُلَاءِ مَا فسروا الحَدِيث هَهُنَا، بل
ذكرُوا مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة بالتقارب، وَمَا
ذكره هُوَ الرَّجْم بِالظَّنِّ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. ذكرُوا مَا عدا الحكم بَين
عتيبة، وَهُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالْكَاف
المفتوحتين. وعتيبة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء،
ابْن النهاس. واسْمه عبد الْكِنْدِيّ، يُقَال: كنيته أَبُو
عبد الله، وَقيل: أَبُو عمر الْكُوفِي مولى عدي بن عدي
الْكِنْدِيّ، وَيُقَال: مولى امْرَأَة من كِنْدَة. قَالَ
يحيى بن معِين وَعبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَأَبُو حَاتِم:
ثِقَة. وَكَانَ فَقِيه الْكُوفَة مَعَ حَمَّاد. روى عَن
ابْن أبي أوفى وَأبي جُحَيْفَة، وَعنهُ شُعْبَة وَغَيره،
وَكَانَ عابدا قَانِتًا ثِقَة صَاحب سنة، مَاتَ سنة أَربع
عشرَة، وَقيل: خمس عشرَة وَمِائَة، روى لَهُ الْجَمَاعَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم
أَئِمَّة أجلاء. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ، وَالْحكم الْمَذْكُور من
التَّابِعين الصغار.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
هَهُنَا عَن آدم، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن سُلَيْمَان
بن حَرْب، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة عَن الحكم عَن سعيد بن
جُبَير عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة
عَن ابْن الْمثنى عَن ابْن أبي عدي عَن شُعْبَة بِهِ،
وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن مُحَمَّد بن
قيس الْأَسدي عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
عَمْرو بن يزِيد عَن بهز بن أَسد عَن شُعْبَة بِهِ.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي مَوَاضِع فِي كِتَابه عَن
كريب وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَأبي جَمْرَة وطاووس
وَغَيرهم عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
(2/178)
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله:
(بت) بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق من البيتوتة، أَصله: بيتت، بِفَتْح
الْبَاء وَالْيَاء فقلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا
قبلهَا، فَصَارَ: باتت، فَالتقى ساكنان فحذفت الْألف
فَصَارَ: بتت، فأدغمت التَّاء فِي التَّاء، ثمَّ أبدلت
كسرة من فَتْحة الْبَاء ليدل على الْيَاء المحذوفة،
فَصَارَ: بت على وزن: قلت. وَهَذِه جملَة من الْفِعْل
وَالْفَاعِل وَقعت مقول القَوْل. قَوْله: (مَيْمُونَة) عطف
بَيَان من قَوْله: (خَالَتِي) . قَوْله: (بنت الْحَارِث)
مجرور لِأَنَّهُ صفة مَيْمُونَة، وَهُوَ مجرور، وَلكنه غير
منصرف للعلمية والتأنيث. قَوْله: (زوح النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام) مجرور أَيْضا لِأَنَّهُ صفة بعد
صفة. قَوْله: (وَكَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام) الْوَاو فِيهِ للْحَال. وَقَوله: (عِنْدهَا)
خبر: كَانَ. قَوْله: (فصلى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام) الْفَاء، فِيهِ هِيَ الْفَاء الَّتِي تدخل
بَين الْمُجْمل والمفصل، لِأَن التَّفْصِيل إِنَّمَا هُوَ
عقيب الْإِجْمَال، لِأَن صَلَاة النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، ومجيئه إِلَى منزله كَانَت قبل
كَونه عِنْد مَيْمُونَة، وَلم يَكُونَا بعد الْكَوْن
عِنْدهَا. قَوْله: (الْعشَاء) بِالنّصب، وَفِيه حذف
الْمُضَاف تَقْدِيره: صَلَاة الْعشَاء. قَوْله: (فصلى
أَربع رَكْعَات) الْفَاء فِيهِ للتعقيب، ثمَّ عطف عَلَيْهِ
بقوله: (ثمَّ نَام) بِكَلِمَة: ثمَّ، ليدل على أَن نَومه
لم يكن عقيب الصَّلَاة على الْفَوْر. قَوْله: (أَو كلمة)
مَنْصُوب بِفعل مَحْذُوف أَي: أَو قَالَ كلمة، فَإِن قلت:
مقول القَوْل يجب أَن يكون كلَاما لَا كلمة. قلت: قد تطلق
الْكَلِمَة على الْكَلَام مجَازًا نَحْو: كلمة
الشَّهَادَة. قَوْله: (فَقُمْت) . عطف على قَوْله: (ثمَّ
قَامَ) . قَوْله: (عَن يسَاره) بِفَتْح الْيَاء وَكسرهَا.
وَقَالَ ابْن عَرَبِيّ: لَيْسَ فِي كَلَام الْعَرَب كلمة
أَولهَا يَاء مَكْسُورَة. وَفِي (الْعباب) قَالَ ابْن
دُرَيْد: الْيَد الْيَسَار ضد الْيَمين بِفَتْح الْيَاء
وَكسرهَا، قَالَ: وَزَعَمُوا أَن الْكسر أفْصح. قَالَ:
وَقَالَ بعض أهل اللُّغَة الْيَسَار بِكَسْر الْيَاء
شبهوها بالشمال، إِذْ لَيْسَ فِي كَلَامهم كلمة مَكْسُورَة
الْيَاء إلاَّ: يسَار، وَقَالَ ابْن عباد: الْيَسَار،
بِالتَّشْدِيدِ لُغَة فِي الْيَسَار. قَوْله: (حَتَّى
سَمِعت) حَتَّى هَهُنَا للغاية تَقْدِيره: إِلَى أَن
سَمِعت. قَوْله: (غَطِيطه) بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة
وَكسر الطَّاء على وزن: فعيل، هُوَ صَوت يُخرجهُ النَّائِم
مَعَ نَفسه عِنْد استثقاله. وَفِي (الْعباب) غطيط
النَّائِم والمخنوق: نخيرهما. قلت: هَذَا يرد تَفْسِير
بَعضهم الغطيط: نفس النَّائِم، والنخير: أقوى مِنْهُ،
فَإِنَّهُ جعل النخير غير الغطيط، وَصَاحب (الْعباب) جعله
عينه:
إِذا قَالَت حذام فصدقوها
وَأَيْضًا: فَإِن الغطيط لَا بُد فِيهِ من الصَّوْت، وَمَا
فسره بِهِ بَعضهم لَيْسَ فِيهِ صَوت، لِأَن مُجَرّد
النَّفس لَا صَوت فِيهِ. قَوْله: (أَو خطيطه) بِفَتْح
الْمُعْجَمَة وَكسر الطَّاء، وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ
بِمَعْنى الغطيط. وَقَالَ ابْن بطال: لم أَجِدهُ
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة عِنْد أهل اللُّغَة، وَتَبعهُ
القَاضِي عِيَاض، فَقَالَ: هُوَ هُنَا وهم. قلت: الصَّوَاب
مَعَ الدَّاودِيّ، فَإِن صَاحب (الْعباب) قَالَ: وَخط فِي
نَومه خطيطا أَي: غط. وَفِي حَدِيث النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (إِنَّه أوتر بِسبع أَو تسع ثمَّ
اضْطجع حَتَّى سمع خطيطه) . ويروى: (غَطِيطه) ، ويروى:
(فخيخه) ، ويروى: (ضفيزه) ، ويروى: (صفيره) . وَمعنى
الْخَمْسَة وَاحِد وَهُوَ: نخير النَّائِم. قلت: الضفيز،
بالضاد وَالزَّاي المعجمتين وبالفاء والصفير: بالصَّاد
وَالرَّاء الْمُهْمَلَتَيْنِ، والفخيخ، بِالْفَاءِ
والخاءين المعجمتين.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فِي لَيْلَتهَا) أَي: المختصة
بهَا بِحَسب قسم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
بَين الْأزْوَاج. قَوْله: (ثمَّ جَاءَ) أَي من الْمَسْجِد
إِلَى منزله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة المُرَاد بِهِ: بَيت
مَيْمُونَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة، أم
الْمُؤمنِينَ، تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم سنة سِتّ أَو سبع من الْهِجْرَة، وَتوفيت سنة
إِحْدَى وَخمسين، وَقيل: سنة سِتّ وَسِتِّينَ بسرف، فِي
الْمَكَان الَّذِي تزَوجهَا فِيهِ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ بِفَتْح السِّين وَكسر الرَّاء
الْمُهْمَلَتَيْنِ وبالفاء. وَصلى عَلَيْهَا عبد الله بن
عَبَّاس قيل: إِنَّهَا آخر أَزوَاج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ لم يتَزَوَّج بعْدهَا. وَهِي أُخْت
لبَابَة، بِضَم اللَّام وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة
وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى، بنت الْحَارِث زَوْجَة
الْعَبَّاس وَأم أَوْلَاده عبد الله وَالْفضل وَغَيرهمَا،
وَهِي أول امْرَأَة أسلمت بعد خَدِيجَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، وَكَانَ النَّبِي، صلى الله تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسلم، يزورها، وَهِي لبَابَة الْكُبْرَى
وَأُخْتهَا لبَابَة الصُّغْرَى أم خَالِد بن الْوَلِيد،
رَضِي الله عَنهُ. قَوْله: (نَام الغليم) يتَحَمَّل
الْإِخْبَار لميمونة، وَيحْتَمل الِاسْتِفْهَام عَن
مَيْمُونَة، وَحذف الْهمزَة بِقَرِينَة الْمقَام، وَهَذَا
أظهر. و (الغليم) بِضَم الْغَيْن وَفتح اللَّام وَتَشْديد
الْيَاء، تَصْغِير غُلَام، من بَاب تَصْغِير الشَّفَقَة،
نَحْو: يَا بني، وَأَرَادَ بِهِ عبد الله بن عَبَّاس،
وَرُوِيَ: يَا أم الغليم، بالنداء وَالْأول هُوَ
الصَّوَاب، وَلم تثبت بِالثَّانِي الرِّوَايَة. قَوْله:
(أَو كلمة) شكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: شكّ
من ابْن عَبَّاس. قلت: لَا يلْزم التَّعْيِين لِأَنَّهُ
يحْتَمل أَن يكون من أحد مِمَّن دونه، أَي أَو قَالَ كلمة
تشبه قَوْله: نَام الغليم، وَالثَّانيَِة بِاعْتِبَار
الْكَلِمَة أَو بِاعْتِبَار كَونهَا جملَة، وَفِي
رِوَايَة: (نَام الْغُلَام) . قَوْله: (فصلى أَربع
رَكْعَات) ، الْجُمْلَة فِي هَذِه الطَّرِيق أَنه صلى
إِحْدَى عشرَة رَكْعَة
(2/179)
أَرْبعا ثمَّ خمْسا ثمَّ رَكْعَتَيْنِ،
وَجَاء فِي مَوضِع من البُخَارِيّ: (فَكَانَت صلَاته
ثَلَاث عشرَة رَكْعَة) . وَجَاء فِي بَاب قِرَاءَة
الْقُرْآن أَنَّهَا كَانَت ثَلَاث عشرَة رَكْعَة غير
رَكْعَتي الْفجْر، فَإِن فِيهِ: (فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ رَكْعَتَيْنِ ثمَّ
رَكْعَتَيْنِ ثمَّ أوتر. ثمَّ اضْطجع حَتَّى أَتَاهُ
الْمُؤَذّن فَقَامَ فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ خرج فصلى
الصُّبْح) . وَهَذَا هُوَ الْأَكْثَر فِي الرِّوَايَات،
وَيجمع بَينهمَا بِأَن من روى إِحْدَى عشرَة أسقط
الْأَوليين وركعتي الْفجْر، وَمن أثبت الْأَوليين عدهَا
ثَلَاث عشرَة. وَقد وَقع هَذَا الِاخْتِلَاف فِي (صَحِيح
مُسلم) من حَدِيث وَاصل وَغَيره. وَأجَاب القَاضِي فِي
الْجمع بِمثلِهِ، وَقد استدرك الدَّارَقُطْنِيّ حَدِيث
وَاصل على مُسلم لِكَثْرَة اختلافه. وَقَالَ الدَّاودِيّ:
أَكثر الرِّوَايَات أَنه لم يصل قبل النّوم وَأَنه صلى
بعده ثَلَاث عشرَة رَكْعَة، فَيحْتَمل أَن نوم ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا، عِنْد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ وقوعا، فَذكر ذَلِك بعض من سَمعه.
قلت: الْمَشْهُور أَنَّهَا كَانَت وَاقعَة وَاحِدَة.
قَوْله: (ثمَّ صلى رَكْعَتَيْنِ) قَالَ الْكرْمَانِي:
فَإِن قلت: مَا فَائِدَة الْفَصْل بَينه وَبَين الْخمس
ولِمَ مَا جمع بَينهمَا بِأَن يُقَال: فصلى سبع رَكْعَات؟
قلت: إِمَّا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الْخمس
بِسَلام والركعتين بِسَلام، وَأَن الْخمس باقتداء ابْن
عَبَّاس بِهِ، والركعتين بعد اقتدائه. وَقَالَ بَعضهم:
أغرب الْكرْمَانِي فِي هَذَا وَكَأَنَّهُ ظن أَن
الرَّكْعَتَيْنِ من جملَة صَلَاة اللَّيْل وَهُوَ
مُحْتَمل، لَكِن حملهَا على سنة الْفجْر أولى ليحصل
الْخَتْم بالوتر. قلت: قطّ مَا ظن هُوَ أَن
الرَّكْعَتَيْنِ من صَلَاة اللَّيْل. غَايَة مَا فِي
الْبَاب وَقع السُّؤَال عَن تَفْصِيل ابْن عَبَّاس فِي
أخباره حَيْثُ لم يجمل، وَجَوَابه عَن وَجه ذَلِك. وَلَئِن
سلمنَا أَنه ظن أَن الرَّكْعَتَيْنِ من صَلَاة اللَّيْل
فَفِيهِ أَيْضا الْخَتْم بالوتر حَاصِل. قَوْله: (ثمَّ خرج
إِلَى الصَّلَاة) هَذَا من خَصَائِص النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، إِذْ نَومه مضجعا لَا ينْقض الْوضُوء
لِأَن عَيْنَيْهِ تنامان وَلَا ينَام قلبه، فَلَو خرج حدث
لأحس بِهِ، بِخِلَاف غَيره من النَّاس. وَفِي بعض
الرِّوَايَات فِي الصَّحِيح: (ثمَّ اضْطجع فَنَامَ حَتَّى
نفخ فَخرج فصلى الصُّبْح وَلم يتَوَضَّأ) . قَالَ
الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون فِيهِ مَحْذُوف أَي:
ثمَّ تَوَضَّأ، ثمَّ خرج قلت: قَوْله فِي الصَّحِيح: وَلم
يتَوَضَّأ يرد هَذَا الِاحْتِمَال.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول:
فِيهِ من فضل ابْن عَبَّاس وحذقه على صغر سنه حَيْثُ أرصد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طول ليلته. وَقيل: إِن
الْعَبَّاس أوصاه بمراعاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ليطلع على عمله بِاللَّيْلِ. الثَّانِي: قَالَ محيي
السّنة: فِيهِ جَوَاز الْجَمَاعَة فِي النَّافِلَة.
الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الْعَمَل الْيَسِير فِي
الصَّلَاة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة خلف من لم
ينْو الْإِمَامَة. الْخَامِس: فِيهِ جَوَاز بيتوتة
الْأَطْفَال عِنْد الْمَحَارِم، وَإِن كَانَت عِنْد
زَوجهَا. السَّادِس: فِيهِ الْإِشْعَار بقسمه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بَين زَوْجَاته. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز
التصغير على وَجه الشَّفَقَة، وَالذكر بِالصّفةِ حَيْثُ لم
يقل: نَام عبد الله. الثَّامِن: فِيهِ أَن موقف
الْمَأْمُوم الْوَاحِد عَن يَمِين الإِمَام، فَإِذا وقف
عَن يسَاره يحوله إِلَى يَمِينه. التَّاسِع: فِيهِ أَن
صَلَاة الصَّبِي صَحِيحَة. الْعَاشِر: فِيهِ أَن صَلَاة
اللَّيْل إِحْدَى عشرَة رَكْعَة. قَالَ الْكرْمَانِي: قلت:
يَنْبَغِي أَن يكون تسع رَكْعَات، فَإِن الرَّكْعَتَيْنِ
الْأَخِيرَتَيْنِ سنة الصُّبْح، والست مِنْهَا نَافِلَة،
وختمها بالوتر ثَلَاث رَكْعَات. الْحَادِي عشر: فِيهِ
جَوَاز نوم الرجل مَعَ امْرَأَته من غير مواقعة بِحَضْرَة
بعض محارمها وَإِن كَانَ مُمَيّزا، وَجَاء فِي بعض
الرِّوَايَات: إِنَّهَا كَانَت حَائِضًا وَلم يكن ابْن
عَبَّاس ليطلب الْمبيت فِي لَيْلَة فِيهَا حَاجَة، إِلَى
أَهله، وَلَا يُرْسِلهُ أَبوهُ الْعَبَّاس. الثَّانِي عشر:
فِيهِ أَن نَومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجعا غير
نَاقض للْوُضُوء، لِأَن قلبه لَا ينَام بِخِلَاف
عَيْنَيْهِ، وَكَذَا سَائِر الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام. كَمَا أخرجه البُخَارِيّ فِي
حَدِيث الْإِسْرَاء. وَأما نَومه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فِي الْوَادي إِلَى أَن طلعت الشَّمْس فَلَا
يُنَافِي هَذَا، لِأَن الْفجْر وَالشَّمْس إِنَّمَا يدركان
بِالْعينِ لَا بِالْقَلْبِ. وَأبْعد من قَالَ إِنَّه كَانَ
فِي وَقت ينَام قلبه فصادف ذَلِك. الثَّالِث عشر: فِيهِ
جَوَاز الرِّوَايَة عِنْد الشَّك فِي كلمة بِشَرْط
التَّنْبِيه عَلَيْهِ.
42 - (بابُ حِفْظِ العِلْمِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حفظ الْعلم.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن من
يسمر بِالْعلمِ فَمَا يسمر لأجل الْحِفْظ غَالِبا، وَذكر
هَذَا الْبَاب عقيب ذَلِك مُنَاسِب.
118 - حدّثنا عَبْدُ العَزِيز بنُ عَبْدِ اللَّهِ قالَ:
حدّثني مَالِكٌ عَن ابنِ شِهَابٍ عَن الأَعْرَج
(2/180)
ِ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قالَ: إنَّ النَّاسَ
يَقُولُونَ: أكْثَرَ أبُو هُرَيْرَةَ، ولوْلاَ آيَتَانِ
فِي كِتابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثا، ثُمَّ يَتْلُو:
{إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ
البَيِّنَاتِ والهُدَى إلَى قَوْلهِ الرَّحْيمُ}
(الْبَقَرَة: 159 و 174) إنَّ إخْوَانَنَا مِنَ
المُهَاجِرينَ كانَ يَشْغَلُهُمُ الصَّفْقُ بالأَسْوَاقِ،
وإنَّ إخْوَانَنَا مِنَ الأَنْصَارِ كانَ يَشْغَلُهُمُ
العَمَلُ فِي أمْوَالِهِمْ وإنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كانَ
يَلْزِمُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشبَعِ
بَطْنِهِ وَيَحْضُرُ مَا لَا يَحْضُرُونَ ويَحْفَظُ مَا
لَا يَحْفَظُونَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويحفظ مَا
لَا يحفظون) . وَقَوله: (أَكثر أَبُو هُرَيْرَة) لِأَن
الْإِكْثَار لَا يكون إلاَّ عَن حفظ.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا كلهم، وَابْن
شهَاب: هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، والأعرج: هُوَ
عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز. وَقَالُوا: يجوز ذكر الرَّاوِي
بلقبه أَو صفته الَّتِي يكرهها إِذا كَانَ المُرَاد
تَعْرِيفه لَا نَقصه، كَمَا يجوز جرحهم للْحَاجة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمُزَارعَة عَن إِبْرَاهِيم، وَفِي
الِاعْتِصَام عَن عَليّ عَن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي
الْفَضَائِل عَن قُتَيْبَة وَأبي بكر وَزُهَيْر عَن
سُفْيَان، وَعَن عبد الله بن جَعْفَر عَن يحيى عَن مَالك،
وَعَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، كلهم عَن الزُّهْرِيّ وَله
طرق من غير رِوَايَة الْأَعْرَج. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْعلم عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن
مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَن إِسْحَاق بن
عِيسَى عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي السّنة
عَن أبي مَرْوَان العثماني عَن إِبْرَاهِيم بن سعد بِهِ
مُخْتَصرا.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (إِن النَّاس)
مقول: قَالَ. وَقَوله: (يَقُولُونَ) جملَة فِي مَحل
الرّفْع خبر: إِن، قَوْله: (أَكثر أَبُو هُرَيْرَة) جملَة
من الْفِعْل وَالْفَاعِل مقول يَقُولُونَ. قَوْله:
(وَلَوْلَا آيتان) مقول. قَالَ، لَا مقول: يَقُولُونَ.
وَحذف اللَّام من جَوَاب لَوْلَا وَهُوَ جَائِز،
وَالْأَصْل: لَوْلَا آيتان موجودتان فِي كتاب الله لما
حدثت. قَوْله: (حَدِيثا) نصب على المفعولية. قَوْله: (ثمَّ
يَتْلُو) مقول: الْأَعْرَج، وَفِي بعض النّسخ: (ثمَّ تَلا)
. قَوْله: (إِن إِخْوَاننَا) اسْتِئْنَاف كالتعليل
للإكثار، كأنّ سَائِلًا سَأَلَ: لم كَانَ أَبُو هُرَيْرَة
مكثرا دون غَيره من الصَّحَابَة؟ فَأجَاب بقوله: (لِأَن
إِخْوَاننَا) كَذَا وَكَذَا، فلأجل ذَلِك ترك العاطف بَين
الجملتين. قَوْله: (من الْمُهَاجِرين) كلمة: من،
بَيَانِيَّة. قَوْله: (كَانَ يشغلهم الصفق) جملَة فِي مَحل
الرّفْع لِأَنَّهَا خبر: إِن. وَقَوله: (يشغلهم) من بَاب:
شغل يشغل كفتح يفتح بِفَتْح، عين الْفِعْل فيهمَا من
الشّغل، وَيُقَال بِضَم حرف المضارعة من الإشغال، وَهُوَ
غَرِيب. وَفِي (الْعباب) يُقَال شغلته أشغله. وَقَالَ ابْن
دُرَيْد: لَا يُقَال أشغلته. وَقَالَ ابْن فَارس: لَا
يكادون يَقُولُونَ: أشغلت، وَهُوَ جَائِز. وَقَالَ
اللَّيْث: اشتغلت أَنا، وَالْفِعْل اللَّازِم: اشْتغل.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم وَابْن دُرَيْد: لَا يُقَال: اشْتغل.
وَقَالَ ابْن فَارس فِي (المقاييس) : جَاءَ عَنْهُم:
اشْتغل فلَان بالشَّيْء وَهُوَ مشتغل. وَقَوله: (الصفق)
بِالرَّفْع فَاعل: يشغل، وَهُوَ بِفَتْح الصَّاد كِنَايَة
عَن التبايع. يُقَال: صفقت لَهُ بِالْبيعِ صفقا، أَي: ضربت
يَدي على يَده للْعقد. قَالَ الْهَرَوِيّ: يُقَال: أصفق
الْقَوْم على الْأَمر، وصفقوا بِالْبيعِ والبيعة. وَقَالَ
غَيره: أَصله من تصفيق الْأَيْدِي بَعْضهَا على بعض من
المتابعين، أَي: عاقدي الْبيعَة عِنْد عقدهم، والسوق يؤنث
وَيذكر، سميت بِهِ لقِيَام النَّاس فِيهَا على سوقهم.
قَوْله: (بشبع بَطْنه) بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ، وَفِي رِوَايَة غَيره: (لشبع بَطْنه)
بِاللَّامِ، وَهُوَ الثَّابِت فِي غير البُخَارِيّ أَيْضا،
وَكِلَاهُمَا للتَّعْلِيل، أَي: لأجل شبع بَطْنه،
وَرُوِيَ: ليشبع بَطْنه، بلام كي، ويشبع، يصيغة الْمُضَارع
الْمَنْصُوب، والشبع، بِكَسْر الشين وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة. وَفِي (الْعباب) : الشِّبَع مِثَال عِنَب،
والشبع بِالْفَتْح، وَهَذِه عَن ابْن عباد، نقيض الْجُوع.
يُقَال: شبعت خبْزًا وَلَحْمًا، وَمن خبز وَلحم شبعاً،
وَهُوَ من مصَادر الطبائع. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: الشِّبَع
والشبع بِإِسْكَان الْبَاء وتحريكها. وَقَالَ غَيره:
الشِّبَع بالإسكان اسْم مَا أشبعك من شَيْء. وَفِي
الحَدِيث: (آجر مُوسَى صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَفسه من
شُعَيْب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بشبع بَطْنه وعفة فرجه) .
قَوْله: (مَا لَا يحْضرُون) ، فِي مَحل النصب على أَنه
مفعول: (يحضر) وَكَذَلِكَ قَوْله (مَا لَا يحفظون) مفعول
(يحفظ) .
(2/181)
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (أَكثر أَبُو
هُرَيْرَة) أَي من رِوَايَة الحَدِيث. وَهُوَ من بَاب
حِكَايَة كَلَام النَّاس أَو وضع الْمظهر مَوضِع الْمُضمر،
إِذْ حق الظَّاهِر أَن يَقُول: أكثرت، وَفِي رِوَايَة
البُخَارِيّ فِي الْبيُوع من طَرِيق شُعَيْب عَن
الزُّهْرِيّ: (أَكثر أَبُو هُرَيْرَة من الحَدِيث) . وَفِي
رِوَايَته وَفِي الْمُزَارعَة من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن
سعد عَن الزُّهْرِيّ هُنَا، زِيَادَة وَهِي: (وَيَقُولُونَ
مَا للمهاجرين وَالْأَنْصَار لَا يحدثُونَ مثل
أَحَادِيثه؟) وَهَذِه الزِّيَادَة تدلك على النُّكْتَة فِي
ذكر أبي هُرَيْرَة الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار. قَوْله:
(لَوْلَا آيتان) المُرَاد من الْآيَتَيْنِ {إِن الَّذين
يكتمون} (الْبَقَرَة: 159 و 174) إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ،
وَالْمعْنَى: لَوْلَا أَن الله تَعَالَى ذمّ الكاتمين
للْعلم لما حدثتكم أصلا، لَكِن لما كَانَ الكتمان حَرَامًا
وَجب الْإِظْهَار والتبليغ، فَلهَذَا حصل مني الْإِكْثَار
لِكَثْرَة مَا عِنْدِي مِنْهُ. ثمَّ ذكر سَبَب الْكَثْرَة
بقوله: (إِن إِخْوَاننَا) إِلَى آخِره. قَوْله: (ثمَّ
يَتْلُو) أَي: قَالَ الْأَعْرَج: ثمَّ يَتْلُو أَبُو
هُرَيْرَة، وَذكر بِلَفْظ الْمُضَارع استحضارا لصورة
التِّلَاوَة كَأَنَّهُ فِيهَا. قَوْله: (إِن إِخْوَاننَا)
: الإخوان جمع أَخ، هَذَا يدل على أَن أصل أَخ: أَخُو،
بِالتَّحْرِيكِ، وَيجمع أَيْضا على: آخاء، مثل: آبَاء.
والذاهب مِنْهُ وَاو. وعَلى: إخْوَة بِالضَّمِّ عَن
الْفراء، وَفِيه سؤالان: الأول: كَانَ حق الظَّاهِر أَن
يَقُول: إِن إخوانه، ليرْجع الضَّمِير إِلَى أبي
هُرَيْرَة. وَأجِيب: بِأَنَّهُ عدل عَنهُ لغَرَض
الِالْتِفَات، وَهُوَ فن من محَاسِن الْكَلَام. الثَّانِي:
قَالَ: إِخْوَاننَا، وَلم يقل: إخْوَانِي. وَأجِيب:
لِأَنَّهُ قصد نَفسه وَأَمْثَاله من أهل الصّفة،
وَالْمرَاد الإخوان فِي الْإِسْلَام لَا فِي النّسَب،
وَالْمرَاد من: (الْمُهَاجِرين) ، الَّذين هَاجرُوا من
مَكَّة إِلَى رَسُول الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ
وَآله وَسلم، وَمن (الْأَنْصَار) أَصْحَاب الْمَدِينَة
الَّذين آووا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، ونصروه بِأَنْفسِهِم وَأَمْوَالهمْ. قَوْله:
(الْعَمَل فِي أَمْوَالهم) يُرِيد بِهِ: الزِّرَاعَة
وَالْعَمَل فِي الْغِيطَان. وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كَانَ
يشغلهم عمل أَرضهم) . وَفِي رِوَايَة ابْن سعد: (كَانَ
يشغلهم الْقيام على أراضيهم) . قَوْله: (وَإِن أَبَا
هُرَيْرَة) فِيهِ الْتِفَات أَيْضا، لِأَن حق الظَّاهِر
أَن يَقُول: وَإِنِّي. قَوْله: (بشبع بَطْنه) يَعْنِي أَنه
كَانَ يلازم قانعا بالقوت لَا مشتغلاً بِالتِّجَارَة وَلَا
بالزارعة، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْبيُوع: (كنت
امْرأ مِسْكينا من مَسَاكِين الصّفة) . قَوْله: (ويحضر)
بِالرَّفْع عطفا على قَوْله: (يلْزم) ، وَيجوز بِالنّصب
أَيْضا على رِوَايَة من روى: ليشبع بَطْنه، بلام كي، و:
يشْبع، بِصُورَة الْمُضَارع إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة.
قَوْله: (مَا لَا يحْضرُون) أَي: من أَحْوَال الرَّسُول،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، و (يحفظ مَا لَا يحفظون)
من أَقْوَاله، وَهَذَا إِشَارَة إِلَى المسموعات وَذَاكَ
إِشَارَة إِلَى المشاهدات. لَا يُقَال: هَذَا الحَدِيث
يُعَارضهُ مَا تقدم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (مَا من
أَصْحَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحد أَكثر
حَدِيثا عَنهُ مني إِلَّا مَا كَانَ من عبد الله بن عَمْرو
فَإِنَّهُ كَانَ يكْتب وَلَا أكتب) ، لأَنا نقُول: إِن عبد
الله كَانَ أَكثر تحملاً، وَأَبُو هُرَيْرَة كَانَ أَكثر
رِوَايَة. فَإِن قلت: كَيفَ يكون الْأَكْثَر تحملاً وَهُوَ
دَاخل تَحت عُمُوم الْمُهَاجِرين؟ قلت: هُوَ أَكثر من
جِهَة ضَبطه بِالْكِتَابَةِ وتقييده بهَا، وَأَبُو
هُرَيْرَة أَكثر من جِهَة مُطلق السماع.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: فِيهِ: حفظ الْعلم والمواظبة
على طلبه. وَفِيه: فَضِيلَة أبي هُرَيْرَة وَفضل التقلل من
الدُّنْيَا وإيثار طلب الْعلم على طلب المَال. وَفِيه:
جَوَاز الْإِخْبَار عَن نَفسه بفضيلته إِذا اضْطر إِلَى
ذَلِك وَأمن الْإِعْجَاب. وَفِيه: جَوَاز إكثار
الْأَحَادِيث وَجَوَاز التِّجَارَة وَالْعَمَل وَجَوَاز
الِاقْتِصَار على الشِّبَع، وَقد تكون مندوبات، وَقد تكون
وَاجِبَات بِحَسب الْأَشْخَاص والأوقات.
119 - حدّثنا أحْمَدُ بْنُ أبِي بَكْرٍ أبُو مُصْعَبٍ
قالَ: حدّثنا مَحَمَّدُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ دِينَارٍ عَنِ
ابنِ أبي ذِئْبٍ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي
هُرَيْرَةَ قالَ: قُلْتُ: يَا رسولَ اللَّهِ! إنِّي أسْمعُ
مِنْكَ حَدِيثا كَثِيرا أنُسَاهُ، قالَ: (ابْسُطْ
رِدَاءَكَ) فَبَسَطْتُهُ، قالَ: فَغَرَفَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ
قالَ: (ضمَّهُ) ، فَضَممْتُهُ فَمَا نَسِيتُ شَيْئا
بَعْدَهُ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق
الِالْتِزَام، والْحَدِيث الْمَاضِي بطرِيق الْمُطَابقَة،
وَأَحَادِيث الْبَاب ثَلَاثَة كلهَا عَن أبي هُرَيْرَة،
والْحَدِيث الثَّالِث يدل على أَنه لم يحدث بِجَمِيعِ
محفوظه. ودلالته على التَّرْجَمَة بالمطابقة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة. الأول: أَحْمد بن أبي بكر،
وَاسم أبي بكر: الْقَاسِم، وَقيل: زُرَارَة بن الْحَارِث
بن زُرَارَة بن مُصعب بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، أَبُو
مُصعب الزُّهْرِيّ الْعَوْفِيّ، قَاضِي الْمَدِينَة
وعالمها، وَهُوَ أحد من حمل (الْمُوَطَّأ) عَن مَالك، روى
عَنهُ السِّتَّة، لَكِن النَّسَائِيّ بِوَاسِطَة. وَأخرج
لَهُ مُسلم حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (السّفر قِطْعَة من
الْعَذَاب) فَقَط، قَالَ أَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة:
صَدُوق، مَاتَ سنة
(2/182)
اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ،
عَن اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين سنة. الثَّانِي: مُحَمَّد بن
إِبْرَاهِيم بن دِينَار الْمدنِي، وَيُقَال:
الْأنْصَارِيّ، كَانَ مفتي أهل الْمَدِينَة مَعَ مَالك
وَعبد الْعَزِيز بن يزِيد بن سَلمَة، فَقِيها فَاضلا لَهُ
بِالْعلمِ عناية. قَالَ البُخَارِيّ: هُوَ مَعْرُوف
بِالْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: ثِقَة، روى لَهُ
الْجَمَاعَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن
الْمُغيرَة بن الْحَارِث بن أبي ذِئْب، بِكَسْر الذَّال
الْمُعْجَمَة، الْقرشِي العامري الْمدنِي الثِّقَة. كَبِير
الشان. وَقَالَ أَحْمد: كَانَ ابْن أبي ذِئْب أفضل من
مَالك إِلَّا أَن مَالِكًا كَانَ أَشد تنقية للرِّجَال
مِنْهُ، وأقدمه الْمهْدي بَغْدَاد حَتَّى حدث بهَا، ثمَّ
رَجَعَ يُرِيد الْمَدِينَة فَمَاتَ بِالْكُوفَةِ سنة تسع
وَخمسين وَمِائَة. ولد سنة ثَمَانِينَ. الرَّابِع: سعيد بن
أبي سعيد المَقْبُري الْمدنِي. الْخَامِس: أَبُو
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِي التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا:
أَن كلهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن إِبْرَاهِيم بن
الْمُنْذر عَن ابْن أبي فديك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
المناقب عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عُثْمَان بن عمر،
كِلَاهُمَا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن سعيد عَن أبي
هُرَيْرَة، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح، قد رُوِيَ
من غير وَجه عَن أبي هُرَيْرَة.
بَيَان الْإِعْرَاب والمعاني: قَوْله: (قلت: يَا رَسُول
الله) ويروى: (قلت: لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
. قَوْله: (كثيرا) صفة لقَوْله: حَدِيثا، لِأَنَّهُ
بِاعْتِبَار كَونه اسْم جنس يُطلق على الْكثير والقليل.
قَوْله: (انساه) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة
أُخْرَى لقَوْله: (حَدِيثا) ، وَالنِّسْيَان جهل بعد
الْعلم.
وَالْفرق بَينه وَبَين السَّهْو أَن النسْيَان زَوَال عَن
الحافظة والمدركة، والسهو زَوَال عَن الحافظة فَقَط.
وَالْفرق بَين السَّهْو وَالْخَطَأ أَن السَّهْو مَا
يتَنَبَّه صَاحبه بِأَدْنَى تَنْبِيه، وَالْخَطَأ مَا لَا
يتَنَبَّه بِهِ. وَيُقَال المأتي بِهِ إِن كَانَ على جِهَة
مَا يَنْبَغِي فَهُوَ الصَّوَاب، وَإِن كَانَ لَا على مَا
يَنْبَغِي ينظر، فَإِن كَانَ مَعَ قصد من الْآتِي بِهِ
يُسمى الْغَلَط، وَإِن كَانَ من غير قصد مِنْهُ فَإِن
كَانَ يتَنَبَّه بأيسر تَنْبِيه فَهُوَ السَّهْو، وإلاَّ
فَهُوَ الْخَطَأ. وَالنِّسْيَان حَالَة تعتري الْإِنْسَان
من غير اخْتِيَاره توجب غفلته عَن الْحِفْظ. والغفلة ترك
الِالْتِفَات بِسَبَب أَمر عَارض.
قَوْله: (قَالَ) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لأبي هُرَيْرَة: (ابْسُطْ رداءك) . قَوْله: (فبسطته)
عطف على: (ابْسُطْ) . وَعطف الْخَبَر على الْإِنْشَاء
فِيهِ خلاف، وَالَّذِي يمنعهُ يقدر شَيْئا، وَالتَّقْدِير:
لما قَالَ: ابْسُطْ رداءك امتثلت أمره فبسطته. (فغرف) أَي
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بِيَدِهِ) ، وَلم
يذكر المغروف وَلَا المغروف مِنْهُ، لِأَنَّهُ لم يكن
إِلَّا إِشَارَة مَحْضَة. قَوْله: (ضمه) بِالْهَاءِ
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: ضم،
بِلَا هَاء. وَالضَّمِير يرجع إِلَى الحَدِيث يدل عَلَيْهِ
مَا رُوِيَ فِي غير الصَّحِيح: (فغرف بيدَيْهِ، ثمَّ
قَالَ: ضم) الحَدِيث، وَفِي بعض طرقه عِنْد البُخَارِيّ:
(لن يبسط أحد مِنْكُم ثَوْبه حَتَّى أَقْْضِي مَقَالَتي
هَذِه، ثمَّ يجمعها إِلَى صَدره فينسى من مَقَالَتي شَيْئا
أبدا. فبسطت نمرة لَيْسَ عَليّ ثوب غَيرهَا حَتَّى قضى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقَالَته، ثمَّ جمعتها
إِلَى صَدْرِي، فوالذي بَعثه بِالْحَقِّ مَا نسيب من
مقَالَته تِلْكَ إِلَى يومي هَذَا) . وَفِي مُسلم:
(أَيّكُم يبسط ثَوْبه فَيَأْخُذ) فَذكره بِمَعْنَاهُ، ثمَّ
قَالَ: (فَمَا نسيت بعد ذَلِك الْيَوْم شَيْئا حَدثنِي
بِهِ) . فَفِي قَوْله: بعد ذَلِك الْيَوْم دَلِيل على
الْعُمُوم، وعَلى أَنه بعد ذَلِك لم ينس شَيْئا سَمعه من
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَا أَن ذَلِك خَاص
بِتِلْكَ الْمقَالة، كَمَا يُعْطِيهِ ظَاهر قَوْله: (من
مقَالَته تِلْكَ) ، ويعضد الْعُمُوم مَا جَاءَ فِي حَدِيث
أبي هُرَيْرَة: (إِنَّه شكى إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه ينسى) . فَفعل مَا فعل ليزول عَنهُ
النسْيَان. قلت: تنكير: شَيْئا، بعد النَّفْي يدل على
الْعُمُوم، لِأَن النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تدل
عَلَيْهِ، فَدلَّ على الْعُمُوم فِي عدم النسْيَان لكل
شَيْء من الحَدِيث وَغَيره. فَإِن قلت: قَوْله: (فوالذي
بَعثه بِالْحَقِّ مَا نسيت من مقَالَته تِلْكَ إِلَى يومي
هَذَا) ، يدل على تَخْصِيص عدم النسْيَان بِتِلْكَ
الْمقَالة فَقَط. وَقَوله: (فَمَا نسيت بعد ذَلِك الْيَوْم
شَيْئا حَدثنِي بِهِ) ، يدل على تَخْصِيص عدم النسْيَان
بِالْحَدِيثِ فَقَط. قلت: الْجَواب يفهم مِمَّا ذَكرْنَاهُ
الْآن، وَكَيف لَا وَأَبُو هُرَيْرَة اسْتدلَّ بذلك على
كَثْرَة محفوظه من الحَدِيث، فَلَا يَصح حمله على تِلْكَ
الْمقَالة وَحدهَا، أَو نقُول: وَيحْتَمل أَن يكون قد
وَقعت لَهُ قضيتان: إِحْدَاهمَا خَاصَّة. وَالْأُخْرَى:
عَامَّة. فَإِن قلت: مَا هَذِه الْمقَالة؟ قلت: هِيَ
مُبْهمَة فِي جَمِيع طرق الحَدِيث من رِوَايَة
الزُّهْرِيّ، غير أَنه صرح بهَا فِي طَرِيق أُخْرَى عَن
أبي هُرَيْرَة، أخرجهَا أَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مَا من رجل
يسمع كلمة أَو كَلِمَتَيْنِ مِمَّا فرض الله تَعَالَى
فيتعلمهن ويعلمهن إلاَّ دخل الْجنَّة) . وَقَالَ الشَّيْخ
قطب الدّين: وَقَوله: (وضمه) فِيهِ ثَلَاث لُغَات فِي
الْمِيم: الْفَتْح وَالْكَسْر وَالضَّم، وَقَالَ بَعضهم:
لَا يجوز إلاَّ الضَّم لأجل الْهَاء المضمومة بعده،
وَاخْتَارَهُ الْفَارِسِي، وَجوزهُ صَاحب (الفصيح)
(2/183)
وَغَيره: قلت: مثل هَذِه الْكَلِمَة يجوز
فِيهِ أَرْبَعَة أوجه من حَيْثُ قَوَاعِد الصرفيين: الأول:
ضم الْمِيم تبعا للضاد. وَالثَّانِي: فتحهَا لِأَن الفتحة
أخف الحركات. وَالثَّالِث: كسرهَا لِأَن السَّاكِن إِذا
حرك حرك بِالْكَسْرِ. وَالرَّابِع: فك الْإِدْغَام،
أَعنِي: أضمم. وَقَالَ بَعضهم: وَيجوز ضمهَا. وَقيل:
يتَعَيَّن لأجل ضمة الْهَاء. قلت: دَعْوَى التَّعْيِين غير
صَحِيحَة، وَلَا كَون الضمة لأجل الْهَاء، وَإِنَّمَا هُوَ
لأجل ضمة الضَّاد، كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ: وَيجوز كسرهَا
لَكِن مَعَ إسكان الْهَاء. قلت: إِن أَرَادَ بالإسكان فِي
حَالَة الْوَقْف فَمُسلم، وَإِن أَرَادَ مُطلقًا
فَمَمْنُوع، فَافْهَم، فَإِن مثل هَذَا لَا يحققه إلاَّ من
أمعن فِي النّظر فِي الْعُلُوم الآلية. قَوْله: (بعد)
بِضَم الدَّال لِأَنَّهُ قطع من الْإِضَافَة فيبنى على
الضَّم، وَفِي بعض النّسخ: (بعده) ، أَي بعد هَذَا الضَّم.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: معْجزَة النَّبِي، صلى الله
تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، حَيْثُ رفع من أبي
هُرَيْرَة النسْيَان الَّذِي هُوَ من لَوَازِم الْإِنْسَان
حَتَّى قيل: إِنَّه مُشْتَقّ مِنْهُ، وَحُصُول هَذَا من
بسط الرِّدَاء وضمه أَيْضا معْجزَة، حَيْثُ جعل الْحِفْظ
كالشيء الَّذِي يغْرف مِنْهُ، فَأخذ غرفَة مِنْهُ ورماها
فِي رِدَائه، وَمثل بذلك فِي عَالم الْحس.
حدّثنا إبراهيمُ بنُ المُنْذِرِ قالَ: حدّثنا ابنُ أبي
فُدَيْكٍ بِهَذَا، أَو قالَ: غَرَفَ بِيَدِهِ فِيه.
سَاق البُخَارِيّ الحَدِيث الْمَذْكُور بِهَذَا السَّنَد
بِعَيْنِه فِي عَلَامَات النُّبُوَّة، فَقَالَ: حَدثنِي
إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، حَدثنَا ابْن أبي فديك عَن ابْن
أبي ذِئْب عَن المَقْبُري عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله
عَنهُ قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله! إِنِّي سَمِعت مِنْك
حَدِيثا كثيرا فأنساه. قَالَ: ابْسُطْ رداءك، فبسطت، فغرف
بِيَدِهِ فِيهِ، ثمَّ قَالَ: ضمه، فضممته فَمَا نسيت
حَدِيثا بعد) .
وَالِاخْتِلَاف بَين الْحَدِيثين فِي بعض الْأَلْفَاظ.
فَفِي الأول: (إِنِّي أسمع مِنْك) ، وَفِي هَذَا: (سَمِعت
مِنْك) . وَهُنَاكَ: (انساه) ، وَهَهُنَا: (فأنساه) ،
بِالْفَاءِ. وَهُنَاكَ: (فبسطته) ، وَهنا: (فبسطت) بِدُونِ
ضمير الْمَفْعُول. وَهُنَاكَ: (فغرف بيدَيْهِ) ،
وَهَهُنَا: (بِيَدِهِ) ، وَهُنَاكَ: (فَمَا نسيت شَيْئا) ،
وَهنا: (فَمَا نسيت حَدِيثا) . وَفِي رِوَايَة
الْأَكْثَرين فِي حَدِيث الْبَاب: (فغرف) وَوَقع فِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَحده: يحذف. وَقَالَ صَاحب
(الْمطَالع) فِي بَاب حفظ الْعلم، فِي رِوَايَة
الْمُسْتَمْلِي قَوْله: (ابْسُطْ رداءك) قَول ابْن أبي
فديك. وَقَالَ: يحذف فِيهِ، أَي: كَأَنَّهُ يَرْمِي
بِيَدِهِ فِي رِدَاء أبي هُرَيْرَة شَيْئا لما كَانَ قبل
ذَلِك، فغرف بِيَدِهِ ثمَّ قَالَ: ضمه. انْتهى كَلَامه.
وَادّعى بَعضهم أَن هَذَا تَصْحِيف، وَلم يُقِم عَلَيْهِ
برهانا، غير أَنه قَالَ: لما وضح من سِيَاقه فِي عَلَامَات
النُّبُوَّة، وَقد رَوَاهُ ابْن سعد فِي (الطَّبَقَات) عَن
ابْن أبي فديك، فَقَالَ: فغرف، وَهَذَا لَيْسَ يقوم بِهِ
دَلِيل على مَا لَا يخفى، وَلَو كَانَ تصحيفا لنبه
عَلَيْهِ صَاحب (الْمطَالع)
وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر مر فِي أول كتاب الْعلم،
وَابْن أبي فديك هُوَ أَبُو إِسْمَاعِيل مُحَمَّد بن
إِسْمَاعِيل بن أبي فديك الْمدنِي، وَأَبُو فديك، بِضَم
الْفَاء وَفتح الدَّال الْمُهْملَة اسْمه: دِينَار، مَاتَ
سنة مِائَتَيْنِ.
قَوْله: (بِهَذَا) أَي: بِهَذَا الحَدِيث. قَوْله: (قَالَ)
أَي ابْن أبي فديك يحذف بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ، من الْحَذف
بِالْحَاء الْمُهْملَة والذال الْمُعْجَمَة وبالفاء. وَفِي
(الْعباب) فِي فصل الْحَاء الْمُهْملَة: حذفته بالعصا أَي:
رميته. وَهُوَ بَين كل حاذف وقاذف: فالحاذف بالعصا،
والقاذف بِالْحجرِ. وَقَالَ اللَّيْث: الْحَذف الرَّمْي
عَن جَانب وَالضَّرْب عَن جَانب. وَقَالَ فِي فصل الْخَاء
الْمُعْجَمَة. الْخذف، رميك بحصاة أَو نواة أَو نَحْوهمَا
تَأْخُذهُ بَين سبابتيك تخذف بِهِ. قلت: وَمن هَذَا قَالَ
بَعضهم: الْحَذف، بِالْمُهْمَلَةِ بالعصا، والخذف
بِالْمُعْجَمَةِ بالحصى. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد وجد
فِي بعض النّسخ هَهُنَا: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر
... الخ، ثمَّ قَالَ: وَالظَّاهِر أَن ابْن أبي فديك
يرويهِ أَيْضا عَن ابْن أبي ذِئْب، فيتفق مَعَه إِلَى آخر
الْإِسْنَاد الأول مَعَ احْتِمَال رِوَايَته عَن غَيره.
قلت: هَذَا غَفلَة مِنْهُ، وَلَو اطلع على مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ فِي عَلَامَات النُّبُوَّة لما تردد هَهُنَا،
ولجزم بِرِوَايَة ابْن أبي فديك عَن ابْن أبي ذِئْب.
120 - حدّثنا إسْماعيلُ قالَ: حدّثني أخِي عَن ابنِ أبي
ذِئْبٍ عنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عنْ أبي هُرَيْرَةَ
قالَ: حَفظْتُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وعاءَيْنِ، فَأمَّا أحَدُهُمَا فَبَثَثْتُهُ وأمَّا
الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ قُطِعَ هَذَا البُلْعُومُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة ذكرُوا كلهم، وَإِسْمَاعِيل
هُوَ ابْن أبي أويس، وَأَخُوهُ عبد الحميد
(2/184)
بن أبي أويس الأصبحي الْمدنِي الْقرشِي،
أَبُو بكر الْأَعْمَش. مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ
وَمِائَتَيْنِ. وَابْن أبي ذِئْب هُوَ مُحَمَّد بن عبد
الرَّحْمَن وَقد مر عَن قريب.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مدنيون، وَهَذَا الحَدِيث انْفَرد
بِهِ البُخَارِيّ عَن الْجَمَاعَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (وعاءين) تَثْنِيَة وعَاء،
بِكَسْر الْوَاو وبالمد، وَهُوَ الظّرْف الَّذِي يحفظ
فِيهِ الشَّيْء، وَيجمع على: أوعية، وَيُؤْخَذ مِنْهُ
الْفِعْل. يُقَال: أوعيت الزَّاد وَالْمَتَاع إِذا جعلته
فِي الْوِعَاء، قَالَ عبيد بن الأبرص:
(الْخَيْر يبْقى وَلَو طَال الزَّمَان بِهِ ... وَالشَّر
أَخبث مَا أوعيت من زَاد)
قَوْله: (فبثثته) أَي: نشرته، يُقَال: بَث الْخَيْر: وأبثه
بِمَعْنى. قَالَ ذُو الرمة:
(غيلَان وأسقيه حَتَّى كَاد مِمَّا أبثه)
وبثثت الْغُبَار: إِذا هيجته، وبثثت الْخَبَر: شدد
للْمُبَالَغَة، وبثثت الْخَبَر: كشفته ونشرته، والتركيب
يدل على تَفْرِيق الشَّيْء وإظهاره.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (حفظت عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) هَكَذَا رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي
رِوَايَة البَاقِينَ: (حفظت من رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهِي أصرح لتلقيه من النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِلَا وَاسِطَة. قَوْله:
(وعاءين) ، مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول: حفظت. قَوْله:
(فَأَما أَحدهمَا) كلمة: أما، هِيَ التفصيلية وَقَوله
(فبثثته) جَوَاب: أما، وَإِنَّمَا دخلت عَلَيْهِ الْفَاء
لتضمنها معنى الشَّرْط. وَقَوله: (وَأما الآخر) . أَي:
وَأما الْوِعَاء الآخر، وَجَوَابه قَوْله: (فَلَو بثثته) ،
وَقَوله: (لقطع هَذَا البلعوم) جَوَاب: لَو، ويروى قطع
بِدُونِ اللَّام، و: (البلعوم) مَرْفُوع بِإِسْنَاد قطع،
إِلَيْهِ وَهُوَ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل.
بَيَان الْمَعْنى: فِيهِ ذكر الْمحل وَإِرَادَة الْحَال،
وَهُوَ ذكر الْوِعَاء، وَإِرَادَة مَا يحل فِيهِ.
وَالْحَاصِل أَنه أَرَادَ بِهِ نَوْعَيْنِ من الْعلم،
وَأَرَادَ بِالْأولِ: الَّذِي حفظه من السّنَن المذاعة لَو
كتبت لاحتمل أَن يمْلَأ مِنْهَا وعَاء. وَبِالثَّانِي: مَا
كتمه من أَخْبَار الْفِتَن، كَذَلِك. وَقَالَ ابْن بطال:
المُرَاد من الْوِعَاء الثَّانِي أَحَادِيث أَشْرَاط
السَّاعَة، وَمَا عرف بِهِ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، من فَسَاد الدّين على أَيدي أغيلمة سُفَهَاء
من قُرَيْش، وَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة يَقُول: لَو شِئْت
أَن أسميهم بِأَسْمَائِهِمْ، فخشي على نَفسه فَلم يُصَرح،
وَكَذَلِكَ يَنْبَغِي لكل من أَمر بِمَعْرُوف إِذْ خَافَ
على نَفسه فِي التَّصْرِيح أَن يعرض، وَلَو كَانَت
الْأَحَادِيث الَّتِي لم يحدث بهَا فِي الْحَلَال
وَالْحرَام مَا وَسعه كتمها بِحكم الْآيَة. وَيُقَال: حمل
الْوِعَاء الثَّانِي الَّذِي لم يُنَبه على الْأَحَادِيث
الَّتِي فِيهَا تَبْيِين أسامي أُمَرَاء الْجور وأحوالهم
ووذمهم، وَقد كَانَ أَبُو هُرَيْرَة يكني عَن بَعضهم وَلَا
يُصَرح بِهِ خوفًا على نَفسه مِنْهُم، كَقَوْلِه: أعوذ
بِاللَّه من رَأس السِّتين وإمارة الصّبيان، يُشِير بذلك
إِلَى خلَافَة يزِيد بن مُعَاوِيَة لِأَنَّهَا كَانَت سنة
سِتِّينَ من الْهِجْرَة، فَاسْتَجَاب الله دُعَاء أبي
هُرَيْرَة، فَمَاتَ قبلهَا بِسنة. فَإِن قيل: الْوِعَاء
فِي كَلَام الْعَرَب الظّرْف الَّذِي يجمع فِيهِ الشَّيْء،
فَهُوَ معَارض لما تقدم مِمَّا قَالَ: إِنِّي لَا أكتب،
وَكَانَ أَي عبد الله بن عَمْرو يكْتب. أُجِيب: بِأَن
المُرَاد أَن الَّذِي حفظه من النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، من السّنَن الَّتِي حدث بهَا وحملت
عَنهُ، لَو كتبت لاحتمل أَن يمْلَأ مِنْهَا وعَاء، وَمَا
كتمه من أَحَادِيث الْفِتَن الَّتِي لَو حدث بهَا لقطع
مِنْهُ البلعوم، يحْتَمل أَن يمْلَأ وعَاء آخر، وَلِهَذَا
الْمَعْنى قَالَ: وعاءين، وَلم يقل: وعَاء وَاحِدًا
لاخْتِلَاف حكم الْمَحْفُوظ فِي الْإِعْلَام بِهِ والستر
لَهُ. وَقَالَت المتصوفة: المُرَاد بِالْأولِ: علم
الْأَحْكَام والأخلاق. وَبِالثَّانِي: علم الْأَسْرَار،
المصون عَن الأغيار، الْمُخْتَص بالعلماء بِاللَّه من أهل
الْعرْفَان. وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُم: الْعلم الْمكنون
والسر المصون علمنَا، وَهُوَ نتيجة الْخدمَة وَثَمَرَة
الْحِكْمَة، لَا يظفر بهَا إلاَّ الغواصون فِي بحار
المجاهدات، وَلَا يسْعد بهَا إلاَّ المصطفون بأنوار
المجاهدات والمشاهدات، إِذْ هِيَ أسرار متمكنة فِي
الْقُلُوب لَا تظهر إلاَّ بالرياضة وأنوار لامعة فِي
الغيوب لَا تنكشف إلاَّ للأنفس المرتاضة. قلت: نعم مَا
قَالَ، لَكِن بِشَرْط أَن لَا تَدْفَعهُ الْقَوَاعِد
الإسلامية وَلَا تنفيه القوانين الإيمانية إِذْ مَا بعد
الْحق إلاَّ الضلال. فَإِن قلت: قد وَقع فِي مُسْند أبي
هُرَيْرَة: حفظت ثَلَاثَة أجربة. فبثثت مِنْهَا جرابين،
وَهَذَا مُخَالف لحَدِيث الْبَاب؟ قلت: يحمل على أَن
الجرابين مِنْهَا كَانَا من نوع وَاحِد وَهُوَ
الْأَحْكَام، وَمَا يتَعَلَّق بظواهر الشَّرْع، والجراب
الآخر الْأَحَادِيث الَّتِي لَو نشرها لقطع بلعومه، وَلَا
شكّ أَن النَّوْع الأول كَانَ أَكثر من النَّوْع
الثَّانِي، فَلذَلِك عبر عَنهُ بالجرابين، وَالنَّوْع
الثَّانِي بجراب وَاحِد فَبِهَذَا حصل التَّوْفِيق بَين
الْحَدِيثين. وَلَقَد أبعد بَعضهم فِي قَوْله: يحمل على
أَن أحد الوعاءين كَانَ أكبر من الآخر بِحَيْثُ يَجِيء مَا
فِي الْكَبِير فِي جرابين، وَمَا فِي الصَّغِير فِي
وَاحِد. قَوْله: (فبثثته) زَاد الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فِي
النَّاس) .
(2/185)
قالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ: الْبُلْعُومُ
مَجْرَى الطَّعَامِ
هَذَا ثَبت فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، وَأَبُو عبد الله
هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. و: (البلعوم) بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة مجْرى الطَّعَام فِي الْحلق، وَهُوَ المريء
كَمَا فسره القَاضِي الْجَوْهَرِي، وَكَذَا البلعم.
وَقَالَ الْفُقَهَاء: الْحُلْقُوم مجْرى النَّفس، والمريء
مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب، وَهُوَ تَحت الْحُلْقُوم،
والبلعوم تَحت الْحُلْقُوم. وَقَالَ ابْن بطال: البلعوم
الْحُلْقُوم، وَهُوَ مجْرى النَّفس إِلَى الرئة، والمريء
مجْرى الطَّعَام وَالشرَاب إِلَى الْمعدة مُتَّصِل
بالحلقوم، وَالْمَقْصُود: كنى بذلك عَن الْقَتْل. وَفِي
رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (لقطع هَذَا) ، يَعْنِي
رَأسه.
43 - (بابُ الإِنْصَاتِ لِلْعُلَمَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْإِنْصَات لأجل الْعلمَاء،
وَاللَّام، فِيهِ للتَّعْلِيل، و: الْإِنْصَات، بِكَسْر
الْهمزَة: السُّكُوت وَالِاسْتِمَاع للْحَدِيث. يُقَال:
نصت نصتا وأنصت إنصاتا إِذا سكت واستمع للْحَدِيث. يُقَال:
أنصتوه وأنصتوا لَهُ. وانتصت سكت.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْعلم
إِنَّمَا يحفظ من الْعلمَاء، وَلَا بُد فِيهِ من
الْإِنْصَات لكَلَام الْعَالم حَتَّى لَا يشذ عَنهُ شَيْء،
فبهذه الْحَيْثِيَّة تنَاسبا فِي الاقتران.
121 - حدّثنا حَجَّاجٌ قَالَ: حدّثنا شُعْبَةُ قالَ:
أَخْبرنِي عليُّ بنُ مُدْرِكٍ عَنْ أبي زُرْعَةَ عَنْ
جَرِيرٍ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ لَهُ
فِي حَجَّةٍ الوَدَاعِ: (اسْتَنْصِتِ النَّاسَ) ، فقالَ:
(لاَ تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ
رِقابَ بَعْضٍ) ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (استنصت
النَّاس) .
بَيَان رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: حجاج بن منهال
الْأنمَاطِي. وَقد تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج،
وَقد تقدم غير مرّة. الثَّالِث: عَليّ بن مدرك، بِضَم
الْمِيم وَكسر الرَّاء: أَبُو مدرك النَّخعِيّ الْكُوفِي
الصَّالح الصدوق الثِّقَة، مَاتَ سنة عشْرين وَمِائَة، روى
لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو زرْعَة، اسْمه هرم،
بِفَتْح الْهَاء وَكسر الرَّاء، ابْن عَمْرو بن جرير بن
عبد الله البَجلِيّ، كَانَ سيدا مُطَاعًا بديع الْجمال
كَبِير الْقدر، طَوِيل الْقَامَة يصل إِلَى سَنَام
الْبَعِير، وَكَانَ نَعله ذِرَاعا مر فِي: بَاب الدّين
النصحية.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والإخبار بِصِيغَة الْمُفْرد وَالْجمع والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وواسطي وبصري.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة ابْن الابْن عَن جده.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
هُنَا عَن الْحجَّاج، وَفِي الْمَغَازِي عَن حَفْص بن
عَمْرو، وَفِي الْفِتَن عَن سُلَيْمَان، كلهم عَن شُعْبَة
عَن عَليّ بن مدرك بِهِ، وَفِي الدِّيات عَن بنْدَار عَن
غنْدر عَن شُعْبَة، وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه
عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن أبي
بكر بن أبي شيبَة عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَعَن ابْن
الْمثنى وَابْن بشار عَن غنْدر بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن عُثْمَان بن أبي صَفْوَان عبد
الرَّحْمَن بن مهْدي عَن شُعْبَة بِهِ، وَفِي الْمُحَاربَة
عَن بنْدَار عَن غنْدر وَابْن مهْدي بِهِ. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِي الْفِتَن عَن بنْدَار عَنْهُمَا بِهِ، وَهَذَا
قِطْعَة من حَدِيث أبي بكرَة الطَّوِيل، ذكره البُخَارِيّ
فِي الْخطْبَة أَيَّام منى، وَمُسلم فِي الْجِنَايَات وَقد
تقدم قِطْعَة من حَدِيث أبي بكرَة فِي كتاب الْعلم فِي
موضِعين أَحدهمَا فِي: بَاب رب مبلغ أوعى من سامع.
بَيَان الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى: قَوْله: (قَالَ) ، جملَة
فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا اسْم. إِن. قَوْله: (فِي
حجَّة الْوَدَاع) ، مُتَعَلق: بقال، الْمَشْهُور فِي
الْحَاء وَالْوَاو الْفَتْح. قَوْله: (استنصت النَّاس)
جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ: أَنْت فِي اسنتصت،
وَالْمَفْعُول وَهُوَ: النَّاس، وَهُوَ مقول القَوْل،
واستنصت، أَمر من الاستنصات: استفعال من الْإِنْصَات،
وَمثله قَلِيل، إِذْ الْغَالِب أَن الاستفعال يبْنى من
الثلاثي وَمَعْنَاهُ طلب السُّكُوت، وَهُوَ مُتَعَدٍّ،
والإنصات جَاءَ لَازِما ومتعديا، يَعْنِي اسْتعْمل أنصتوه
وأنصتوا لَهُ لَا أَنه جَاءَ بِمَعْنى الإسكات. وَسميت
بِحجَّة الْوَدَاع لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ودع النَّاس فِيهَا. فَإِن قلت: قد وَقع فِي غَالب النّسخ
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُ: أَي
لجرير، وَكَيف يكون هَذَا وَقد جزم ابْن عبد الْبر بِأَن
جَرِيرًا أسلم قبل موت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِأَرْبَعِينَ يَوْمًا؟ قلت: قد قيل: إِن لَفْظَة: لَهُ،
هَهُنَا زِيَادَة لأجل هَذَا الْمَعْنى، وَلَكِن وَقع فِي
رِوَايَة البُخَارِيّ: لهَذَا الحَدِيث فِي: بَاب حجَّة
الْوَدَاع، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
لجرير، وَهَذَا يدل على أَن
(2/186)
لَفْظَة، هَهُنَا غير زَائِدَة، وَأَن
رِوَايَة جرير قبل ذَلِك، ويصححه مَا قَالَه الْبَغَوِيّ
وَابْن مَاجَه: إِنَّه أسلم فِي رَمَضَان سنة عشر،
فَحِينَئِذٍ يخدش مَا ذكره ابْن عبد الْبر، وَالله أعلم.
قَوْله: (لَا ترجعوا) مَعْنَاهُ هَهُنَا: لَا تصيروا،
قَالَ ابْن مَالك: رَجَعَ هُنَا اسْتعْمل اسْتِعْمَال صَار
معنى وَعَملا، أَي: لَا تصيروا بعدِي كفَّارًا، فعلى
هَذَا: كفَّارًا مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر: لَا ترجعوا، أَي:
لَا تصيروا، فَتكون من الْأَفْعَال النَّاقِصَة الَّتِي
تَقْتَضِي الإسم الْمَرْفُوع وَالْخَبَر الْمَنْصُوب.
قَوْله: (بعدِي) قَالَ الطَّبَرِيّ أَي بعد فراقي فِي
موقفي هَذَا، وَقَالَ غَيره: خلافي، أَي لَا تخلفوني فِي
أَنفسكُم بعد الَّذِي أَمرتكُم بِهِ، وَيحْتَمل أَنه،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، علم أَن هَذَا لَا يكون
فِي حَيَاته فنهاهم عَنهُ بعد وَفَاته. وَقَالَ المظهري:
يَعْنِي إِذا فَارَقت الدُّنْيَا فاثبتوا بعدِي على مَا
أَنْتُم عَلَيْهِ من الْإِيمَان وَالتَّقوى، وَلَا
تَحَارَبُوا الْمُسلمين وَلَا تَأْخُذُوا أَمْوَالهم
بِالْبَاطِلِ. وَقَالَ محيي السّنة. أَي: لَا تكن أفعالكم
شَبيهَة بِأَفْعَال الْكفَّار فِي ضرب رِقَاب الْمُسلمين.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: قيل فِي مَعْنَاهُ سِتَّة أَقْوَال
أخر. أَحدهَا: إِن ذَلِك كفر فِي حق المستحل بِغَيْر حق.
ثَانِيهَا: المُرَاد كفر النِّعْمَة وَحقّ الْإِسْلَام.
ثَالِثهَا: إِنَّه يقرب من الْكفْر وَيُؤَدِّي إِلَيْهِ.
رَابِعهَا: إِنَّه حَقِيقَة الْكفْر وَمَعْنَاهُ: دوموا
مُسلمين. خَامِسهَا: حَكَاهُ الْخطابِيّ، أَن المُرَاد
بالكفار المتكفرون بِالسِّلَاحِ يُقَال: تكفر الرجل بسلاحه
إِذا لبسه، وَيُقَال للابس السِّلَاح: كَافِر. سادسها:
مَعْنَاهُ: لَا يكفر بَعضهم بَعْضًا فتستحلوا قتال
بَعْضكُم بَعْضًا.
قَوْله: (يضْرب) بِرَفْع الْبَاء، وَهُوَ الصَّوَاب وَهُوَ
الرِّوَايَة الَّتِي رَوَاهَا المتقدمون والمتأخرون.
وَفِيه وُجُوه: أَحدهَا: أَن يكون صفة لكفار أَي: لَا
ترجعوا بعدِي كفَّارًا متصفين بِهَذِهِ الصّفة القبيحة،
يَعْنِي ضرب بَعْضكُم رِقَاب آخَرين. وَالثَّانِي: أَن
يكون حَالا من ضمير: لَا ترجعوا، أَي: لَا ترجعوا بعدِي
كفَّارًا حَال ضرب بَعْضكُم رِقَاب بعض. وَالثَّالِث: أَن
يكون جملَة استئنافية، كَأَنَّهُ قيل: كَيفَ يكون
الرُّجُوع كفَّارًا؟ فَقَالَ: يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض،
فعلى الْوَجْه الأول: يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا ترجعوا
عَن الدّين بعدِي فتصيروا مرتدين مقاتلين يضْرب بَعْضكُم
رِقَاب بعض بِغَيْر حق، على وَجه التَّحْقِيق: وَأَن يكون:
لَا ترجعوا كالكفار الْمقَاتل بَعْضكُم بَعْضًا على وَجه
التَّشْبِيه بِحَذْف أداته هُوَ على الثَّانِي، يجوز أَن
يكون مَعْنَاهُ: لَا تكفرُوا حَال ضرب بَعْضكُم رِقَاب بعض
لأمر يعرض بَيْنكُم لاستحلال الْقَتْل بِغَيْر حق، وَأَن
يكون: لَا ترجعوا حَال الْمُقَاتلَة لذَلِك كالكفار فِي
الانهماك فِي تهييج الشَّرّ وإثارة الْفِتَن بِغَيْر إشفاق
مِنْكُم بَعْضكُم على بعض فِي ضرب الرّقاب. وعَلى
الثَّالِث: يجوز أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا يضْرب بَعْضكُم
رِقَاب بعض بِغَيْر حق فَإِنَّهُ فعل الْكفَّار، وَأَن
يكون لَا يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض، كَفعل الْكفَّار على
مَا تقدم،؛ وَجوز ابْن مَالك وَأَبُو الْبَقَاء جزم
الْبَاء على أَنه بدل من: لَا ترجعوا، وَأَن يكون، جَزَاء
لشرط مُقَدّر على مَذْهَب الْكسَائي، أَي: فَإِن رجعتم
يضْرب بَعْضكُم رِقَاب بعض. وَقيل: يجوز الْجَزْم بِأَن
يكون جَوَاب النَّهْي على مَذْهَب من يجوز: لَا تكفر تدخل
النَّار. وَقَالَ القَاضِي وَالنَّوَوِيّ: وَمن سكَّن
الْبَاء مِمَّن لم يضبطه أحَال الْمَعْنى، لِأَن
التَّقْدِير على الرّفْع: لَا تَفعلُوا فعل الْكفَّار
فتشبهوا بهم فِي حَالَة قتل بَعضهم بَعْضًا، ومحاربة
بَعضهم بَعْضًا. قَالَ القَاضِي، وَهَذَا أولى الْوُجُوه
الَّتِي يتَنَاوَل عَلَيْهَا هَذَا الحَدِيث. وَقد جرى
بَين الْأَنْصَار كَلَام بمحاولة الْيَهُود حَتَّى ثار
بَعضهم إِلَى بعض فِي السِّلَاح. فَأنْزل الله تَعَالَى:
{وَكَيف تكفرون وَأَنْتُم تتلى عَلَيْكُم آيَات الله} (آل
عمرَان: 101) أَي تَفْعَلُونَ فعل الْكفَّار، وَسِيَاق
الْخَبَر يدل على أَن النَّهْي عَن ضرب الرّقاب وَالنَّهْي
عَمَّا قبله بِسَبَبِهِ، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث أبي
بكرَة، رَضِي الله عَنهُ: (إِن دماءكم وَأَمْوَالكُمْ
وَأَعْرَاضكُمْ عَلَيْكُم حرَام) . وَذكر الحَدِيث، ثمَّ
قَالَ: (ليبلغ الشَّاهِد الْغَائِب، لَا ترجعوا بعدِي
كفَّارًا) الحَدِيث. فَهُوَ شرح لما تقدم من تَحْرِيم
بَعضهم على بعض. قَوْله: (رِقَاب بعض) ، وَهُوَ جمع
رَقَبَة، فَإِن قلت: لَيْسَ لكل شخص إلاَّ رَقَبَة
وَاحِدَة، وَلَا شكّ أَن ضرب الرَّقَبَة الْوَاحِدَة
مَنْهِيّ عَنْهَا. قلت: الْبَعْض وَإِن كَانَ مُفردا لكنه
فِي معنى الْجمع، كَأَنَّهُ قَالَ: رب لَا يضْرب فرقة
مِنْكُم رِقَاب فرقة أُخْرَى، وَالْجمع فِي مُقَابلَة
الْجمع: أَو مَا فِي مَعْنَاهُ يُفِيد التَّوْزِيع.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: قَالَ ابْن بطال:
فِيهِ أَن الْإِنْصَات للْعُلَمَاء والتوقير لَهُم لَازم
للمتعلمين، قَالَ الله تَعَالَى: {لَا تَرفعُوا
أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي} (الحجرات: 2) وَيجب
الْإِنْصَات عِنْد قِرَاءَة حَدِيث رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مثل مَا يجب لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَكَذَلِكَ يجب الْإِنْصَات للْعُلَمَاء لأَنهم الَّذين
يحيون سنته ويقومون بِشَرِيعَتِهِ. الثَّانِي: فِيهِ تحذير
الْأمة من وُقُوع مَا يحذر فِيهِ. الثَّالِث: تعلق بِهِ
بعض أهل الْبدع فِي إِنْكَار حجية الْإِجْمَاع، كَمَا
قَالَ الْمَازرِيّ، لِأَنَّهُ نهى الْأمة بأسرها عَن
الْكفْر، وَلَوْلَا جَوَاز إجماعها عَلَيْهِ
(2/187)
لما نهاها، وَالْجَوَاب: إِن الِامْتِنَاع
إِنَّمَا جَاءَ من جِهَة خبر الصَّادِق لَا من عدم
الْإِمْكَان، وَقد قَالَ تَعَالَى: {لَئِن أشركت ليحبطن
عَمَلك} (الزمر: 65) وَمَعْلُوم أَنه مَعْصُوم.
44 - (بابُ مَا يُسْتَحَبُّ للْعَالِمِ إذَا سُئِلَ: أيُّ
النَّاسِ أعْلَمُ؟ فَيَكِلُ العِلْمَ إلَى اللَّهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان: (مَا يسْتَحبّ للْعَالم إِذا
سُئِلَ) الخ. وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة، وَيجوز أَن تكون
مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: اسْتِحْبَاب الْعَالم ...
وَكلمَة: إِذا، ظرفية، فَتكون ظرفا لقَوْله: (يسْتَحبّ) ،
وَالْفَاء فِي قَوْله: (فيكل) ، تفسيرية على أَن قَوْله:
يكل، فِي قُوَّة الْمصدر بِتَقْدِير: أَن، وَالتَّقْدِير:
مَا يسْتَحبّ وَقت السُّؤَال هُوَ الوكول، وَيجوز أَن
تكون: إِذا شَرْطِيَّة و: الْفَاء، حِينَئِذٍ دَاخِلَة على
الْجَزَاء، وَالتَّقْدِير: فَهُوَ يكل، وَالْجُمْلَة
بَيَان لما يسْتَحبّ. قَوْله: (أَي النَّاس) أَي: أَي شخص
من أشخاص الْإِنْسَان أعلم من غَيره؟ وَرُوِيَ: (إِذا
سُئِلَ أَي النَّاس أعلم؟ أَن يكل) . و: أَن مَصْدَرِيَّة.
وَالتَّقْدِير: بَاب اسْتِحْبَاب وكول الْعَالم الْعلم
إِلَى الله تَعَالَى وَقت السُّؤَال عَنهُ: أَي النَّاس
أعلم؟ قَوْله: (يكل) أَصله: يُوكل، لِأَنَّهُ من: وكل
الْأَمر إِلَى نَفسه وكلا ووكولاً، وَهَذَا أَمر موكول
إِلَى رَأْيك، حذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة
كَمَا فِي: يعد، وَنَحْوه. وَمعنى أصل التَّرْكِيب يدل على
اعْتِمَاد غَيْرك فِي أَمرك.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول لُزُوم الْإِنْصَات
للْعَالم، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة وكول أمره إِلَيْهِ فِي
حَالَة السماع، وَكَذَلِكَ هَهُنَا: لُزُوم وكول الْأَمر
إِلَى الله تَعَالَى إِذا سُئِلَ عَن الأعلم.
122 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحمَّدٍ قَالَ: حدّثنا
سُفْيانُ قالَ: حدّثنا عَمْرٌ وقالَ: أَخْبرنِي سَعِيدُ
بنُ جُبَيْرٍ قالَ: قُلتُ لابنِ عَبَّاسٍ: إنَّ نَوْفا
البَكَالِيَّ يَزْعُمُ أنَّ مُوسَى لَيْسَ بِمُوسَى بَنِي
إسْرَائِيلَ، إنَّمَا هُو مُوسَى آخَرُ. فَقالَ: كَذَبَ
عَدُوُّ اللَّهِ. حدّثنا أُبَيُّ بنُ كَعْبٍ عَنِ
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (قامَ مُوسَى
النَّبيُّ خَطِيبا فِي بَنِي إسْرَائِيلَ. فَسُئِلَ: أيُّ
النَّاسِ أعْلَمُ؟ فقالَ: أَنَا أَعْلَمُ، فَعَتَبَ
اللَّهُ عليهِ إذْ لَمْ يَرُدَّ العِلْمَ إلَيْهِ،
فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أنَّ عَبْدا مِنْ عِبَادِي
بِمَجْمَعِ البَحْرَيْنِ هُوَ أعْلَمُ مِنْكَ، قالَ: يَا
رَبِّ! وَكَيْفَ لي بهِ؟ فَقِيلَ لَهُ: احْمِلْ حُوتا فِي
مِكْتَل فإذَا فَقَدْتَهُ فَهُوَ ثَمَّ، فانْطَلَقَ
وانْطَلَقَ بِفَتَاهُ يُوشعَ بنُ نُونٍ وَحَمَلاَ حوتا فِي
مِكْتَلٍ حَتَّى كَانَا عِنْدَ الصَّخْرَةِ وَضَعَا
رُؤُوسَهُمَا وَنَاما، فَانْسَلَّ الحُوتُ مِنَ المِكْتَلِ
فاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي البَحْرِ سَرَبا، وكانَ لمُوسَى
وفَتَاه عَجَبا، فانْطَلَقَا بَقِيَّةَ لَيْلَتِهِمَا
ويَوْمِهَما فلَمَّا أصْبَحَ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ:
آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرنَا هَذَا
نَصَبا، وَلَمْ يَجدْ مُوسَى مَسًّا مِنَ النَّصَبِ حَتَّى
جاوَزَ المَكانَ الَّذِي أُمِرَ بهِ، فَقالَ لَهُ فَتَاهُ:
{أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إلَى الصَّخْرَةِ فإنِّي نَسِيتُ
الحُوتَ} (الْكَهْف: 63) قالَ مُوسَى: {ذلِكَ مَا كُنَّا
نَبْغِي، فَارْتَدا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصا} (الْكَهْف:
64) فلمَّا انْتَهَيَا إِلَى الصَّخْرَةِ إذَا رَجُلٌ
مُسَجَّى بِثَوْبٍ أوْ قالَ: تَسَجَّى بِثَوْبهِ فَسَلَّمِ
مُوسَى فَقالَ الخَضِرُ: وأنَّى بأرْضِكَ السَّلامُ؟
فَقالَ: أنَا مُوسَى. فقالَ: مُوسَى بَنِي إسْرَائِيلَ؟
قالَ: نَعَمْ. قالَ: {هَلْ اتَّبِعُكَ عَلَى أنْ
تُعَلِّمنِي مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدا. قالَ: إنَّكَ لَنْ
تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرا} (الْكَهْف: 66 67) يَا مُوسى
إنِّي عَلَى عِلْمٍ مِنْ عِلْمِ اللَّه عَلَّمَنِيهِ لَا
تَعْلَمُهُ أنْتَ، وأنْتَ عَلَى عِلْمٍ علّمَكَهُ لاَ
أعْلَمُهُ، قَالَ: {سَتَجدُنِي إنْ شَاء اللَّهُ صابِرا
وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْرا} (الْكَهْف: 69) فانْطَلَقَا
يَمْشِيَانِ عَلَى سَاحِل البَحْرِ لَيْسَ لَهُمَا
سَفِينةٌ، فَمَرَّتْ بِهِمَا سفِينَةٌ فَكَلمُوهُمْ أنْ
يَحْمِلُوهُمَا، فَعُرِفَ الخَضِرُ فَحَمَلُوهُمَا
بِغَيْرِ نَوْلِ، فَجَاءَ عُصْفُورٌ فَوقَعَ عَلَى حَرْفِ
السَّفِينَةِ، فَنَقَرَ نَقْرَةً أَو نَقْرَتَيْنِ فِي
البَحْرِ، فقالَ الخَضِرُ: يَا مُوسَى
(2/188)
مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمَكَ مِنْ عِلْمِ
اللَّهِ إلاّ كَنَقْرةِ هَذَا العُصْفُورِ فِي البَحْرِ،
فَعَمَدَ الخَضِرُ إِلَى لوْحٍ منْ ألْوَاحِ السَّفِينَةِ
فَنَزَعَهُ، فقالَ مُوسَى: قَوْمٌ حَمَلُونَا بغيْر نَوْلٍ
عَمَدْتَ إِلَى سفينَتهم فَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ
أهْلَها؟ قالَ: {أَلَمْ أَقُلْ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطيعَ
مَعِيَ صَبْرا} (الْكَهْف: 72) قالَ لَا تُؤَاخِذْنِي
بِمَا نسِيتُ، فَكانَتِ الأُولَى مِنْ مُوسَى نِسْيَانا
فانْطَلَقَا، فإذَا غُلاَمٌ يَلْعَبُ مَعَ الغِلْمَانِ،
فأَخَذ الخَضِرُ برَأْسه مِنْ أعْلاَهُ فاقْتَلَعَ
رَأْسَهُ بيدِهِ فقالَ مُوسَى: {أَقْتَلْتَ نَفْسا
زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} (الْكَهْف: 74) {قالَ: أَلَمْ
أقلْ لَكَ أنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرا}
(الْكَهْف: 75) . قالَ ابنُ عُيَيْنَةَ: وَهَذَا أوْكَد
فانْطَلَقَا حَتَّى إِذا أتَيَا أهْلَ قَرْيَةٍ
اسْتَطْعَمَا أهْلَهَا فأبَوْا أنْ يُضِيِّفُوهُما،
فَوَجَدَا فِيها جِدَارا يُرِيدُ أنْ يَنْقضَّ. فأقَامَهُ.
قَالَ الخَضِرُ بِيَدِهِ فأقامَهُ، فقالَ لَهُ موسَى: {لوْ
شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرا! قالَ: {هَذَا فِرَاقُ
بَيْنِي وَبَيْنَكَ} (الْكَهْف: 77 78) قَالَ النَّبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يَرْحَمُ الله مُوسَى،
لَودِدْنَا لَوْ صَبَرَ حتَّى يُقَصَّ عَلَيْنا مِنْ
أمْرهمَا) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: عبد الله بن مُحَمَّد
الْجعْفِيّ المسندي، بِفَتْح النُّون، وَقد تقدم.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن
دِينَار. الرَّابِع: سعيد بن جُبَير. الْخَامِس: عبد الله
بن عَبَّاس. السَّادِس: نوف، بِفَتْح النُّون وَسُكُون
الْوَاو وَفِي آخِره فَاء: ابْن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء
وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: أَبُو يزِيد، وَيُقَال: أَبُو
رشيد الْقَاص الْبكالِي، كَانَ عَالما فَاضلا إِمَامًا
لأهل دمشق. وَقَالَ ابْن التِّين: كَانَ حاجبا لعَلي،
رَضِي الله عَنهُ، وَكَانَ قَاصا، وَهُوَ ابْن امْرَأَة
كَعْب الْأَحْبَار على الْمَشْهُور، وَقيل: ابْن أَخِيه،
والبكالي، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَخْفِيف
الْكَاف: نِسْبَة إِلَى بني بكال، بطن من حمير. وَقَالَ
الرشاطي. الْبكالِي فِي حمير ينْسب إِلَى بكال بن دغمي بن
عَوْف بن عدي بن مَالك بن زيد بن سدد بن زرْعَة بن سبأ
الْأَصْغَر. قَالَ الْهَمدَانِي: وَقيد دغميا بالغين
الْمُعْجَمَة، قَالَ: وَسَائِر مَا فِي الْعَرَب بِالْعينِ
الْمُهْملَة، وَضبط، بكالاً، بِفَتْح الْبَاء. وَأَصْحَاب
الحَدِيث يَقُولُونَ بِالْفَتْح وَالْكَسْر. وَقَالَ صَاحب
(الْمطَالع) : ونوف الْبكالِي أَكثر الْمُحدثين يفتحون
الْبَاء ويشددون الْكَاف وَآخره لَام، وَكَذَا قيدناه عَن
أبي بَحر، وَابْن أبي جَعْفَر عَن العذري، وَكَذَا قَالَه
أَبُو ذَر، وَقيد عَن الْمُهلب بِكَسْر الْبَاء،
وَكَذَلِكَ عَن الصَّدَفِي وَأبي الْحُسَيْن بن سراج
بتَخْفِيف الْكَاف وَهُوَ الصَّوَاب نِسْبَة إِلَى بكال من
حمير. . وَقَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ فِي شرح
التِّرْمِذِيّ لَهُ: إِنَّه مَنْسُوب إِلَى بكيل، بطن من
هَمدَان، ورد عَلَيْهِ بِأَن الْمَنْسُوب إِلَى بكيل
إِنَّمَا هُوَ أَبُو الوداك جبر بن نوف وَغَيره، وَأما
هَذَا نوف بن فضَالة فَهُوَ مَنْسُوب إِلَى بكال بطن من
حمير. السَّابِع: أبي بن كَعْب الصَّحَابِيّ، رَضِي الله
عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد وَالسُّؤَال. وَمِنْهَا:
أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ، وهما: عَمْرو
وَسَعِيد. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن
صَحَابِيّ، وَقد مر فِي بَاب: مَا ذكر فِي ذهَاب مُوسَى،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْبَحْر إِلَى
الْخضر، أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي أَكثر من
عشرَة مَوَاضِع.
بَيَان اللُّغَات: قد مر فِي الْبَاب الْمَذْكُور
تَفْسِير: بني إِسْرَائِيل ويوشع بن نون والصخرة والقصص.
قَوْله: (فِي مكتل) ، بِكَسْر الْمِيم وَفتح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، وَهُوَ الزنبيل، وَيُقَال: القفة.
وَيُقَال: فَوق القفة والزنبيل. وَفِي (الْعباب) : المكتل
يشبه الزنبيل يسع خَمْسَة عشر صَاعا. قَوْله: (فانسل
الْحُوت) من: سللت الشَّيْء أسله سلاً فانسلّ. وأصل
التَّرْكِيب يدل على مد الشَّيْء فِي رفق وخفة. قَوْله:
(سربا) أَي: ذَهَابًا، يُقَال: سرب سربا فِي المَاء إِذا
ذهب فِيهِ ذَهَابًا. وَقيل: أمسك الله جرية المَاء على
الْحُوت فَصَارَ عَلَيْهِ مثل الطاق، وَحصل مِنْهُ فِي مثل
السرب، وَهُوَ ضد النفق، معْجزَة لمُوسَى أَو للخضر،
عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام. والسرب فِي الأَصْل
حفير تَحت الأَرْض، والطاق: عِنْد الْبناء وَهُوَ الأزج،
وَهُوَ مَا عقد أَعْلَاهُ بِالْبِنَاءِ وَترك تَحْتَهُ
خَالِيا. وَجَاء: فَجعل المَاء لَا يلتئم حَتَّى صَار
كالكوة، و: الكوة، بِالضَّمِّ وَالْفَتْح: الثقب فِي
الْبَيْت. قَوْله: (نصبا) بِفَتْح النُّون وَالصَّاد أَي:
تعبا. قَوْله: (إِذْ أوينا) من أَوَى إِلَى منزله لَيْلًا
أَو نَهَارا، إِذا أَتَى. قَوْله: (نبغي) أَي: نطلب، من:
بغيت الشَّيْء: طلبته. قَوْله: (فارتدا) أَي: رجعا.
(2/189)
قَوْله: (مسجى) أَي: مغطى كُله كتغطية وَجه
الْمَيِّت وَرجلَيْهِ وجميعه، كَذَا جَاءَ فِي
البُخَارِيّ، وَقد جعل طرفه تَحت رجله، وطرفه تَحت رَأسه،
فَسلم عَلَيْهِ مُوسَى، فكشف عَن وَجهه. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: وسجيت الْمَيِّت تسجية إِذا مددت عَلَيْهِ
ثوبا. قَوْله: (رشدا) قَالَ فِي (الْعباب) : الرشد
بِالضَّمِّ، والرشد بِالتَّحْرِيكِ، والرشاد والرشدى
مِثَال: جمزى، وَهَذِه عَن ابْن الْأَنْبَارِي: خلاف الغي.
قَالَ الله تَعَالَى: {قد تبين الرشد من الغي}
(الْبَقَرَة: 256) وَقَالَ جلّ ذكره: {وهيء لنا من أمرنَا
رشدا} (الْكَهْف: 10) وَقَالَ: {أهدكم سَبِيل الرشاد}
(غَافِر: 38) وَقد رشد يرشد، مِثَال: كتب يكْتب، ورشد يرشد
مِثَال: سمع يسمع، وَفرق اللَّيْث بَين اللغتين. فَقَالَ:
رشد الْإِنْسَان يرشد رشدا ورشادا، وَهُوَ نقيض الغي. ورشد
يرشد رشدا وَهُوَ نقيض الضلال. قَالَ: فَإِذا أصَاب وَجه
الْأَمر وَالطَّرِيق فقد رشد. قَوْله: (سفينة) فعيلة
بِمَعْنى فاعلة، كَأَنَّهَا تسفن المَاء أَي: تقشره.
قَالَه ابْن دُرَيْد. قَوْله: (بِغَيْر نول) ، بِفَتْح
النُّون أَي، بِغَيْر أجر، والنول بِالْوَاو، والمنال
والمنالة كُله الْجعل. وَأما النّيل والنوال فالعطية
ابْتِدَاء يُقَال: رجل نَالَ إِذا كَانَ كثير النوال،
كَمَا قَالُوا: رجل مَال إِذا كَانَ كثير المَال. تَقول:
نلْت الرجل أنوله نولاً، ونلت الشَّيْء أناله نيلاً.
وَقَالَ صَاحب (الْعين) : أنلته ونلته ونولته، والإسم:
النول والنيل. يُقَال: نَالَ ينَال منالاً ومنالة. قَوْله:
(عُصْفُور) بِضَم الْعين: طير مَشْهُور، وَقيل: هُوَ
الصرد. قَوْله: (فَعمد) ، بِفَتْح الْمِيم: من عَمَدت
للشَّيْء أعمد من بَاب: ضرب يضْرب عمدا: قصدت لَهُ، وَفعلت
ذَلِك عمدا على عين وَعمد عين، أَي: بجد ويقين. وعمدت
الشَّيْء: أقمته بعماد يعْتَمد عَلَيْهِ، وعمده الْمَرَض
أَي: فدحه وأضناه، وعمدت الرجل إِذا ضَربته بالعمود،
وعمدته أَيْضا إِذا ضربت عَمُود بَطْنه، وَعمد الثرى،
بِالْكَسْرِ، يعمد عمدا، بِالتَّحْرِيكِ: إِذا بلله
الْمَطَر. وَيُقَال أَيْضا: عمد الْبَعِير إِذا انتضح
دَاخل السنام من الرّكُوب وَظَاهره صَحِيح، فَهُوَ بعير
عمد. وَعمد الرجل إِذا غضب، وَعمد بالشَّيْء إِذا لزمَه.
قَوْله: (بِمَا نسيت) أَي: بِمَا غفلت. وَقيل: لم ينس
وَلكنه ترك، وَالتّرْك يُسمى نِسْيَانا. قَوْله: (وَلَا
ترهقني) قَالَ الزّجاج: لَا تغشني. وَقيل: لَا تلْحق بِي
وهما، يُقَال: رهقه الشَّيْء، بِالْكَسْرِ، يرهقه
بِالْفَتْح رهقا بِفَتْح الْهَاء: إِذا غشيه. وأرهقته:
كلفته ذَلِك. يُقَال: لَا ترهقني لَا أرهقك الله، أَي: لَا
تعسرني لَا أعسرك الله. قَوْله: (زكية) أَي: طَاهِرَة لم
تذنب، من الزَّكَاة وَهِي الطَّهَارَة. قَالَ تَعَالَى:
{وتزكيهم بهَا} (التَّوْبَة: 103) أَي تطهرهُمْ. قَوْله:
(قَالَ الْخضر بِيَدِهِ) أَي: أَشَارَ إِلَيْهِ بِيَدِهِ.
(فأقامه) : وَهُوَ من إِطْلَاق القَوْل على الْفِعْل،
وَهَذَا فِي لِسَان الْعَرَب كثير. قَالَ ابْن
الْأَعرَابِي: تَقول الْعَرَب: قَالُوا بزيد أَي:
قَتَلُوهُ، وَقُلْنَا بِهِ أَي: قَتَلْنَاهُ. وَقَالَ
الرجل بالشَّيْء أَي: غَلبه. قَوْله: (لاتخذت) ، قَالَ
مكي: التَّاء فَاء الْفِعْل. حكى أهل اللُّغَة: تخذ
يتَّخذ. قَالَ الْجَوْهَرِي: الاتخاد افتعال من الْأَخْذ،
إلاَّ أَنه أدغم بعد تليين الْهمزَة وإبدالها تَاء، ثمَّ
لما كثر اسْتِعْمَاله على لفظ الافتعال توهموا أَن التَّاء
أَصْلِيَّة، فبنوا مِنْهَا: فعل يفعل. قَالُوا: تخد
يتَّخذ، وَقَوْلهمْ: أخذت كَذَا يبدلون الذَّال تَاء
فيدغمونها، وَبَعْضهمْ يظهرها.
بَيَان الْإِعْرَاب: قَوْله: (إِن نَوْفًا) ، بِكَسْر
الْهمزَة و: نَوْفًا، بِالنّصب اسْم: إِن، هُوَ منصرف فِي
اللُّغَة الفصيحة، وَفِي بَعْضهَا غير منصرف وكتبت بِدُونِ
الْألف. قَالَ ابْن الْأَعرَابِي: النوف السنام العالي،
وَالْجمع: أنواف. قَالَ: والنوف: بظارة الْمَرْأَة،
وَقَالَ ابْن دُرَيْد: رُبمَا سمى مَا تقطعه الخافضة من
الْجَارِيَة: نَوْفًا، زَعَمُوا والنوف: الصَّوْت، يُقَال:
نافت الضبعة تنوف نَوْفًا. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: بَنو نوف
بطن من الْعَرَب، أَحْسبهُ من هَمدَان. وناف الْبَعِير
ينوف نَوْفًا إِذا ارْتَفع وَطَالَ. قلت: فعلى هَذَا: نوف،
منصرف أَلْبَتَّة لِأَنَّهُ لفظ عَرَبِيّ وَلَيْسَ فِيهِ
إلاَّ عِلّة وَاحِدَة، وَهِي العلمية، وَمن مَنعه الصّرْف
رُبمَا يزْعم أَنه لفظ أعجمي، فَتكون فِيهِ عِلَّتَانِ:
العجمة والعلمية، والأفصح فِيهِ أَيْضا الصّرْف، لِأَن
سُكُون وَسطه يُقَاوم إِحْدَى العلتين، فَيبقى الِاسْم
بعلة وَاحِدَة، كَمَا فِي: نوح وَلُوط. قَوْله:
(الْبكالِي) بِالنّصب صفة: لنوفا. قَوْله: (يزْعم) جملَة
من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر:
إِن. قَوْله: (أَن مُوسَى) بِفَتْح: أَن، لِأَنَّهُ مفعول:
يزْعم، فَإِن قلت: يزْعم من أَفعَال الْقُلُوب يَقْتَضِي
مفعولين. قلت: إِنَّمَا يكون من أَفعَال الْقُلُوب إِذا
كَانَ بِمَعْنى الظَّن، وَقد يكون بِمَعْنى القَوْل من غير
حجَّة فَلَا يَقْتَضِي إلاَّ مَفْعُولا وَاحِدًا، نَحْو
قَوْله تَعَالَى: {زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا}
(التغابن: 7) فههنا: يزْعم، يحْتَمل الْمَعْنيين، فَإِن
كَانَ بِمَعْنى: القَوْل، فمفعوله: أَن مُوسَى، وَهُوَ
ظَاهر. وَإِن كَانَ بِمَعْنى: الظَّن، فَإِن مَعَ اسْمهَا
وخبرها سدت مسد المفعولين، و: مُوسَى، لَا ينْصَرف للعلمية
والعجمة. قَوْله: (لَيْسَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل) ، وَفِي
رِوَايَة: لَيْسَ بمُوسَى، وَالْبَاء زَائِدَة
للتَّأْكِيد، وَهِي جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر
إِن. فَإِن قلت: مُوسَى علم، وَالْعلم لَا يُضَاف، فَكيف
يُضَاف مُوسَى إِلَى بني إِسْرَائِيل؟ قلت: قد نكر ثمَّ
أضيف، وَمعنى التنكير أَن يؤول بِوَاحِد من الْأمة
الْمُسَمَّاة بِهِ. قَوْله:
(2/190)
(إِنَّمَا هُوَ مُوسَى آخر) رُوِيَ بتنوين
مُوسَى، وَبِغير تَنْوِين. أما وَجه التَّنْوِين
فَلِأَنَّهُ منصرف لكَونه نكرَة. وَقَالَ ابْن مَالك: قد
يُنكر الْعلم تَحْقِيقا أَو تَقْديرا، فَيجْرِي مجْرى
نكرَة، وَجعل هَذَا مِثَال التحقيقي. وَأما وَجه ترك
التَّنْوِين فَظَاهر. وَأما لَفْظَة: آخر. فَإِنَّهُ غير
منصرف للوصفية الْأَصْلِيَّة، وَوزن الْفِعْل، فَلَا ينون
على كل حَال. فَإِن قلت: هُوَ أفعل التَّفْضِيل فلِمَ لَا
يسْتَعْمل بِأحد الْوُجُوه الثَّلَاثَة؟ قلت: غلب عَلَيْهِ
الإسمية الْمَحْضَة مضمحلاً عَنهُ معنى التَّفْضِيل
بِالْكُلِّيَّةِ. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: ابْن عَبَّاس.
وَقَوله: (كذب عَدو الله) ، جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل
مقول القَوْل. قَوْله: (أبي بن كَعْب) فَاعل: حَدثنَا.
قَوْله: (قَامَ مُوسَى) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل
مقول القَوْل. وَقَوله: (النَّبِي) ، بِالرَّفْع صفة
مُوسَى. قَوْله: (خَطِيبًا) نصب على الْحَال. قَوْله: (أَي
النَّاس) كَلَام إضافي مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، (وَأعلم)
خَبره، وَالتَّقْدِير: أعلم مِنْهُم، كَمَا فِي قَوْلك:
الله أكبر، أَي: من كل شَيْء. قَوْله: (فَقَالَ) عطف على
قَوْله: (فَسئلَ) . قَوْله: (أَنا أعلم) مُبْتَدأ وَخَبره
مقول القَوْل، وَالتَّقْدِير: أَنا أعلم النَّاس. قَوْله:
(فعتب الله عَلَيْهِ) ، الْفَاء تصلح للسَّبَبِيَّة.
قَوْله: (إِذْ) بِسُكُون الذَّال للتَّعْلِيل. قَوْله: (لم
يرد) يجوز فِيهِ وَفِي أَمْثَاله ضم الدَّال وَفتحهَا
وَكسرهَا. أما الضَّم فلأجل ضمة الرَّاء، وَأما الْفَتْح
فَلِأَنَّهُ أخف الحركات؛ وَأما الْكسر فَلِأَن الأَصْل
فِي السَّاكِن إِذا حرك أَن يُحَرك بِالْكَسْرِ، وَيجوز فك
الْإِدْغَام أَيْضا. وَقَوله: (الْعلم) مَنْصُوب لِأَنَّهُ
مفعول: (لم يرد) . قَوْله: (أَن عبدا) بِفَتْح: أَن لِأَن
أَصله: بِأَن عبدا. قَوْله: (من عبَادي) فِي مَحل النصب
لِأَنَّهُ صفة: عبدا. وَقَوله: (بمجمع الْبَحْرين)
يتَعَلَّق بِمَحْذُوف، أَي: كَائِنا بمجمع الْبَحْرين.
قَوْله: (هُوَ أعلم مِنْك) . جملَة إسمية فِي مَحل الرّفْع
لِأَنَّهَا خبر: أَن. قَوْله: (رب) أَصله: يَا رَبِّي،
فَحذف حرف النداء وياء الْمُتَكَلّم للتَّخْفِيف اكْتِفَاء
بِالْكَسْرِ. قَوْله: (وَكَيف لي بِهِ؟) التَّقْدِير:
كَيفَ الالتقاء لي بِهِ؟ أَي: بذلك العَبْد؟ وَقَوله: (لي)
، فِي مَحل الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف،
وَهُوَ الالتقاء الْمُقدر، وَكَيف، وَقع حَالا، إِذْ
التَّقْدِير: على أَي حَالَة الالتقاء لي؟ كَمَا فِي
قَوْلك: كَيفَ جَاءَ زيد؟ فَإِن التَّقْدِير فِيهِ: على
أَي حَالَة جَاءَ زيد؟ وَقد علم أَن كَيفَ، اسْم لدُخُول
الْجَار عَلَيْهِ بِلَا تَأْوِيل فِي قَوْله:
على كَيفَ تبيع الأحمرين
وللإخبار بِهِ مَعَ مُبَاشرَة الْفِعْل، نَحْو: وَكَيف
كنت؟ فبالإخبار بِهِ انْتَفَت الحرفية، وبمباشرته للْفِعْل
انْتَفَت الفعلية، وَالْغَالِب عَلَيْهِ أَن يكون استفهاما
إِمَّا حَقِيقِيًّا، نَحْو: وَكَيف زيد، أَو غَيره نَحوه
{كَيفَ تكفرون بِاللَّه} (الْبَقَرَة: 28) فَإِنَّهُ أخرج
مخرج التَّعَجُّب. قَوْله: (بِهِ) يتَعَلَّق بالمقدر
الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَالْفَاء فِي: (فَقيل) عاطفة.
قَوْله: (احْمِلْ) أَمر، وفاعله: أَنْت، مستتر فِيهِ
(وحوتا) مَفْعُوله، وَالْجُمْلَة مقول القَوْل. قَوْله:
(فِي مكتل) ، فِي مَوضِع النصب على أَنه صفة لحوتا، أَي:
حوتا كَائِنا فِي مكتل. قَوْله: (فَإِذا) ، للشّرط و
(فقدته) جملَة فعل الشَّرْط. وَقَوله: (فَهُوَ ثمَّ) ،
جملَة وَقعت جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء.
وَقَوله: (ثمَّ) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة ظرف
بِمَعْنى هُنَاكَ. وَقَالَت النُّحَاة: هُوَ اسْم يشار
بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد نَحْو: {وأزلفنا ثمَّ
الآخرين} (الشُّعَرَاء: 64) وَهُوَ ظرف لَا يتَصَرَّف،
فَلذَلِك غلط من أعربه مَفْعُولا لرأيت فِي قَوْله
تَعَالَى: {وَإِذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت} (الْإِنْسَان:
20) . قَوْله: (مَعَه) ، التَّصْرِيح بالمعية للتَّأْكِيد
وإلاَّ فالمصاحبة مستفادة من الْبَاء فِي قَوْله: (بفتاه)
. قَوْله: (يُوشَع) فِي مَوضِع الْجَرّ لِأَنَّهُ عطف
بَيَان من: فتاه، وَلم يظْهر فِيهِ الْجَرّ لكَونه غير
منصرف للعلمية والعجمة، و: (نون) منصرف على اللُّغَة
الفصحى كنوح، وَلُوط: فَافْهَم. قَوْله: (حَتَّى) للغاية.
قَوْله: (فَنَامَا) عطف على: وضعا. قَوْله: (فَاتخذ) عطف
على: فانسل. قَوْله: (سربا) . قَالَ الزّجاج: نصب سربا على
الْمَفْعُول، كَقَوْلِك: اتَّخذت طريقي مَكَان كَذَا،
واتخذت طريقي فِي السرب، واتخذت زيدا وَكيلا. قلت: يجوز
أَن يكون نصبا على المصدرية بِمَعْنى: يسرب سربا أَي: يذهب
ذَهَابًا يُقَال: سرب سربا فِي المَاء إِذا ذهب ذَهَابًا.
قَوْله: (عجبا) نصب على أَنه خبر: كَانَ. قَوْله:
(بَقِيَّة ليلتهما) ، كَلَام إضافي، وانتصاب: بَقِيَّة،
على أَنه بِمَعْنى الظّرْف، لِأَن بَقِيَّة اللَّيْل هِيَ
السَّاعَات الَّتِي بقيت مِنْهُ، وليلتهما مجرورة
بِالْإِضَافَة. قَوْله: (ويومهما) يجوز فِيهِ الْجَرّ
وَالنّصب. أما الْجَرّ فعطف على: ليلتهما، وَأما النصب
فعلى إِرَادَة سير جَمِيع الْيَوْم. وَوَقع فِي
التَّفْسِير: فَانْطَلقَا بَقِيَّة يومهما وليلتهما. قَالَ
القَاضِي: وَهُوَ الصَّوَاب، لقَوْله: (فَلَمَّا أصبح) .
وَفِي رِوَايَة: (حَتَّى إِذا كَانَ من الْغَد) ، وَكَذَا
وَقع فِي مُسلم بِتَقْدِيم يومهما وَلِهَذَا قَالَ بعض
الأذكياء: إِنَّه مقلوب، وَالصَّوَاب تَقْدِيم الْيَوْم
لِأَنَّهُ قَالَ: فَلَمَّا أصبح، وَلَا يصبح إلاَّ عَن
ليل. وَقَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقوله:
(فَلَمَّا أصبح) أَي: من اللَّيْلَة الَّتِي تلِي الْيَوْم
الَّذِي سارا جَمِيعه. قلت: هَذَا احْتِمَال بعيد
لِأَنَّهُ يلْزم أَن يكون سيرهما بَقِيَّة اللَّيْلَة
وَالْيَوْم الْكَامِل وَاللَّيْلَة الْكَامِلَة من
الْيَوْم الثَّانِي، وَلَيْسَ كَذَلِك. قَوْله: (قَالَ
مُوسَى) جَوَاب: لما. قَوْله: (آتنا) ، جملَة من الْفِعْل
وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَآت، أَمر من الإيتاء.
وَقَوله: (غداءنا) بِفَتْح الْغَيْن مفعول آخر، وَاللَّام
فِي: لقد للتَّأْكِيد. و: قد، للتحقيق. قَوْله: (نصبا) ،
نصب لِأَنَّهُ مفعول: لَقينَا. قَوْله:
(2/191)
(مسا) نصب لِأَنَّهُ مفعول: لم يجد.
قَوْله: (من النصب) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ صفة: مسا،
أَي: مسا حَاصِلا أَو وَاقعا من النصب. قَوْله: (حَتَّى) ،
بِمَعْنى الْغَايَة أَي إِلَى أَن جَاوز. . قَوْله: (فتاه)
مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل: قَالَ لَهُ. قَوْله:
(أَرَأَيْت) أَي: أَخْبرنِي، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن
قريب. قَوْله: (إِذْ) ظرف بِمَعْنى حِين، وَفِيه حذف
تَقْدِيره: أَرَأَيْت مَا دهاني إِذْ أوينا إِلَى
الصَّخْرَة؟ قَوْله: (فَإِنِّي) الْفَاء فِيهِ تفسيرية
يُفَسر بِهِ مَا دهاه من نِسْيَان الْحُوت حِين أويا إِلَى
الصَّخْرَة. قَوْله: (ذَلِك) مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله:
(مَا كُنَّا نبغي) وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة والعائد
مَحْذُوف، أَي: نبغيه وَيجوز حذف الْيَاء من نبغي
للتَّخْفِيف، وَهَكَذَا قرىء أَيْضا فِي الْقُرْآن،
وإثباتها أحسن، وَهِي قِرَاءَة أبي عَمْرو. قَوْله: (قصصا)
نصب على تَقْدِير: يقصان قصصا أَعنِي نصب على المصدرية.
قَوْله: (إِذا رجل مسجى) كلمة إِذا، للمفاجأة، وَرجل،
مُبْتَدأ تخصص بِالصّفةِ وَهِي قَوْله: (مسجى بِثَوْب)
وَالْخَبَر مَحْذُوف. وَالتَّقْدِير: فَإِذا رجل مسجى
بِثَوْب نَائِم. أَو نَحْو ذَلِك. قَوْله: (وأنَّى بأرضك
السَّلَام؟) كلمة: أَنى، بِهَمْزَة مَفْتُوحَة وَنون
مُشَدّدَة تَأتي بِمَعْنى: كَيفَ وَمَتى وَأَيْنَ
وَحَيْثُ، وَهَهُنَا فِيهَا وَجْهَان. أَحدهمَا: أَن يكون
بِمَعْنى: كَيفَ يعْنى للتعجب. وَالْمعْنَى: السَّلَام
بِهَذِهِ الأَرْض عَجِيب. وَيُؤَيِّدهُ مَا فِي
التَّفْسِير: (هَل بأرضى من سَلام!) وَكَأَنَّهَا كَانَت
دَار كفر أَو كَانَت تحيتهم بِغَيْر السَّلَام.
وَالثَّانِي: أَن يكون بِمَعْنى: من أَيْن؟ كَقَوْلِه
تَعَالَى: {أنَّى لكِ هَذَا} (آل عمرَان: 37) فَهِيَ ظرف
مَكَان، (وَالسَّلَام) ، مُبْتَدأ، و: أنَّى، مقدما خَبره،
وَهُوَ نَظِير مَا قيل فِي قَوْله تَعَالَى: {أَنى لكِ
هَذَا} (آل عمرَان: 37) . فَإِن: هَذَا، مُبْتَدأ و: أَنى،
مقدما خَبره. وَوجه هَذَا الِاسْتِفْهَام أَنه لما رأى
الْخضر مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي أَرض قفر استبعد
علمه بكيفية السَّلَام. فَإِن قلت: مَا موقع بأرضك من
الْإِعْرَاب؟ قلت: نصب على الْحَال من السَّلَام،
وَالتَّقْدِير: من أَيْن اسْتَقر السَّلَام حَال كَونه
بأرضك؟ قَوْله: (مُوسَى بني إِسْرَائِيل؟) خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، أَي: أَنْت مُوسَى بني إِسْرَائِيل. قَوْله:
(نعم) مقول القَوْل نَائِب على الْجُمْلَة تَقْدِيره: نعم
أَنا مُوسَى بني إِسْرَائِيل. قَوْله: (هَل) للاستفهام، و:
أَن مَصْدَرِيَّة أَي: على اتباعي، إياك. قَوْله: (علمت)
أَي: من الَّذِي علمك الله. قَوْله: (رشدا) نصب على أَنه
صفة لمصدر مَحْذُوف أَي: علما رشدا، أَي: ذَا رشد، وَهُوَ
من قبيل: رجل عدل. قَوْله: (لن تَسْتَطِيع) فِي مَحل
الرّفْع على أَنه خبر: أَن. قَوْله: (صبرا) مفعول: لن
تَسْتَطِيع. قَوْله: (من علم الله) كلمة من للتَّبْعِيض.
قَوْله: (علمنيه) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل
والمفعولين أَحدهمَا يَاء الْمَفْعُول، وَالثَّانِي:
الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى الْعلم. فَإِن قلت: موقعها
من الْإِعْرَاب؟ قلت: الْجَرّ، لِأَنَّهَا صفة لعلم،
وَكَذَلِكَ قَوْله: (لَا تعلمه أَنْت) فَالْأول من
الصِّفَات الإيجابية، وَالثَّانِي من الصِّفَات السلبية.
قَوْله: (وَأَنت على علم) مُبْتَدأ وَخبر عطف على قَوْله:
(إِنِّي على علم) . قَوْله: (علمك الله) جملَة من الْفِعْل
وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، وَالْمَفْعُول الثَّانِي
مَحْذُوف تَقْدِيره: علمك الله إِيَّاه. وَالْجُمْلَة صفة:
لعلم، وَكَذَا قَوْله: لَا أعلمهُ، صفة أُخْرَى. قَوْله:
(صَابِرًا) مفعول ثَان: لستجدني. وَقَوله: (إِن شَاءَ
الله) معترض بَين المفعولين. قَوْله: (وَلَا أعصى لَك
أمرا) . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: و: لَا أعصي، فِي مَحل
النصب عطف على: صَابِرًا أَي: ستجدني صَابِرًا وَغير عَاص.
قَوْله: (يمشيان) حَال وَقد علم أَن الْمُضَارع إِذا وَقع
حَالا وَكَانَ مثبتا لَا يجوز فِيهِ الْوَاو. وَقَوله:
(أَن يحملوهما) أَي: لِأَن يحملوهما أَي: لأجل حملهمْ
إيَّاهُمَا. قَوْله: (نقرة) نصب على المصدرية، و: (أَو
نقرتين) عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (قوم) مَرْفُوع على أَنه
خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هَؤُلَاءِ قوم، أَو: هم قوم.
قَوْله: (حملونا) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا صفة
لقوم. قَوْله. (فخرقتها) عطف على: عَمَدت. قَوْله: (لتغرق)
أَي: لِأَن تغرق، وَأَهْلهَا، مَنْصُوب بِهِ. قَوْله:
(بِمَا نسيت) كلمة: مَا، يجوز أَن تكون مَوْصُولَة أَي:
بِالَّذِي نسيت، والعائد مَحْذُوف، أَي: نَسِيته. وَيجوز
أَن تكون مَصْدَرِيَّة أَي: بنسياني. وَيجوز أَن تكون
نكرَة بِمَعْنى شَيْء أَي: بِشَيْء نَسِيته. قَوْله:
(الأولى) صفة موصوفها مَحْذُوف، أَي: الْمَسْأَلَة الأولى
من مُوسَى. و (نِسْيَانا) نصب لِأَنَّهُ خبر: كَانَت،
وَفِي بعض النّسخ: نِسْيَان بِالرَّفْع. وَوَجهه إِن صَحَّ
أَن يكون: كَانَت تَامَّة، و: الأولى، مُبْتَدأ ونسيان،
خَبره. أَو يكون: كَانَت، زَائِدَة وَالتَّقْدِير:
فَالْأولى من مُوسَى نِسْيَان. قَوْله: (فَإِذا) للمفاجأة.
وَقَوله: (غُلَام) مَرْفُوع بالإبتداء، وَقد تخصص
بِالصّفةِ وَهُوَ قَوْله: (يلْعَب مَعَ الغلمان)
وَالْخَبَر مَحْذُوف وَالتَّقْدِير فَإِذا غُلَام يلْعَب
مَعَ الغلمان بالخضرة أَو نَحْوهَا. قَوْله: (بِرَأْسِهِ)
الْبَاء فِيهِ زَائِدَة، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِنَّهَا
على أَصْلهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمَعْنى أَنه تنَاول
رَأسه ابْتِدَاء، وَإِنَّمَا الْمَعْنى أَنه جَرّه
إِلَيْهِ بِرَأْسِهِ ثمَّ اقتلعه، وَلَو كَانَت زَائِدَة
لم يكن لقَوْله: (فاقتلع) معنى زَائِد على أَخذه. قَوْله:
(أقتلت) الْهمزَة لَيست للاستفهام الْحَقِيقِيّ، ونظيرها
الْهمزَة فِي قَوْله تَعَالَى: {ألم يجدك يَتِيما فآوى}
(الضُّحَى: 6) . قَوْله: (بِغَيْر
(2/192)
نفس) الْبَاء، فِيهِ للمقابلة. قَوْله:
(أَن يُضَيِّفُوهُمَا) أَي: من أَن يُضَيِّفُوهُمَا، و:
أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: من تضييفهما. قَوْله: (يُرِيد أَن
ينْقض) أَي: يُرِيد الانقضاض أَي الْإِسْرَاع بالسقوط.
وَأَن مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (قَالَ الْخضر بِيَدِهِ)
جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل، وَمَعْنَاهُ: أَشَارَ
بِيَدِهِ فأقامه. قَوْله: (يرحم الله مُوسَى) إِخْبَار،
وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ الْإِنْشَاء لِأَنَّهُ دُعَاء
لَهُ بِالرَّحْمَةِ. قَوْله: (لَوَدِدْنَا) اللَّام فِيهِ
جَوَاب قسم مَحْذُوف، وَكلمَة: لَو، هَهُنَا بِمَعْنى: أَن
الناصبة للْفِعْل كَقَوْلِه تَعَالَى: {ودوا لَو تدهن
فيدهنون} (الْقَلَم: 9) وَالتَّقْدِير: وَالله لَوَدِدْنَا
صَبر مُوسَى، أَي: لِأَنَّهُ لَو صَبر لَأبْصر أعجب
الْأَعَاجِيب، وَهَكَذَا حكم كل فعل وَقع مصدرا بلو بعد
فعل الْمَوَدَّة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي قَوْله
تَعَالَى: {ودوا لَو تدهن} (الْقَلَم: 9) ودوا ادهانك.
قَوْله: (حَتَّى يقص) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (من
أَمرهمَا) مفعول مَا لم يسمَّ فَاعله.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (يزْعم أَن مُوسَى لَيْسَ
مُوسَى بني إِسْرَائِيل) ، يَعْنِي: يزْعم نوف أَن مُوسَى
صَاحب الْخضر، عَلَيْهِمَا السَّلَام، الَّذِي قصّ الله
تَعَالَى علينا فِي سُورَة الْكَهْف لَيْسَ مُوسَى بن
عمرَان الَّذِي أرسل إِلَى فِرْعَوْن، وَإِنَّمَا هُوَ
مُوسَى بن مِيشَا، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف بالشين الْمُعْجَمَة، وميشا بن يُوسُف بن
يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم
السَّلَام، وَهُوَ أول مُوسَى، وَهُوَ أَيْضا نَبِي
مُرْسل. وَزعم أهل التَّوْرَاة أَنه هُوَ صَاحب الْخضر،
وَالَّذِي ثَبت فِي الصَّحِيح أَنه مُوسَى بن عمرَان،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والسائل هَا هُنَا هُوَ
سعيد بن جُبَير، والمجيب ابْن عَبَّاس، وَفِيمَا تقدم أَن
ابْن عَبَّاس تمارى هُوَ وَالْحر بن قيس فِي صَاحب مُوسَى
الَّذِي سَأَلَ مُوسَى السَّبِيل إِلَى لقِيه، فَقَالَ
ابْن عَبَّاس: هُوَ خضر، فَمر بهما أبي بن كَعْب، رَضِي
الله عَنهُ، فَسَأَلَهُ ابْن عَبَّاس فَأخْبرهُ، فَيحْتَمل
أَن يكون سعيد بن جُبَير سَأَلَ ابْن عَبَّاس بعد
الْوَقْعَة الأولى الْمُتَقَدّمَة لِابْنِ عَبَّاس
وَالْحر، فَأخْبرهُ ابْن عَبَّاس لما سَأَلَهُ عَن قَول
نوف أَن مُوسَى لَيْسَ مُوسَى بني إِسْرَائِيل، وَجَاء أَن
السَّائِل غير سعيد بن جُبَير. رُوِيَ عَن سعيد أَنه
قَالَ: جَلَست عِنْد ابْن عَبَّاس وَعِنْده قوم من أهل
الْكتاب، فَقَالَ بَعضهم: يَا أَبَا عبد الله إِن نَوْفًا
ابْن امْرَأَة كَعْب يزْعم عَن كَعْب أَن مُوسَى النَّبِي
الَّذِي طلب الْخضر إِنَّمَا هُوَ مُوسَى بن مِيشَا؟
فَقَالَ ابْن عَبَّاس: كذب نوف، وحَدثني أبي ... وَذكر
الحَدِيث. قَوْله: (كذب عَدو الله) ، هَكَذَا وَقع من ابْن
عَبَّاس على طَرِيق الإغلاظ على الْقَائِل، بِخِلَاف
قَوْله، وألفاظ الْغَضَب تَجِيء على غير الْحَقِيقَة فِي
الْغَالِب، وَابْن عَبَّاس قَالَه على وَجه الزّجر عَن مثل
هَذَا القَوْل، لِأَنَّهُ يعْتَقد أَنه عَدو لله ولدينه
حَقِيقَة، إِنَّمَا قَالَه مُبَالغَة فِي إِنْكَاره،
وَكَانَ ذَلِك فِي حَال غضب ابْن عَبَّاس لشدَّة
الْإِنْكَار، وَحَال الْغَضَب تطلق الْأَلْفَاظ وَلَا
يُرَاد بهَا حقائقها. وَقَالَ ابْن التِّين: لم يرد ابْن
عَبَّاس إِخْرَاج نوف عَن ولَايَة الله، وَلَكِن قُلُوب
الْعلمَاء تنفر إِذا سَمِعت غير الْحق، فيطلقون أَمْثَال
هَذَا الْكَلَام لقصد الزّجر والتحذير مِنْهُ وَحَقِيقَته
غير مُرَادة. قَوْله: (فَسئلَ: أَي النَّاس أعلم؟ قَالَ:
أَنا أعلم) وَفِيمَا تقدم: هَل تعلم أحدا أعلم مِنْك؟
قَالَ: لَا. وَفِي مُسلم: مَا أعلم فِي الأَرْض رجلا خيرا
مني وَأعلم، من غير تقدم ذكر سُؤال، فَأوحى الله إِلَيْهِ:
إِنِّي أعلم بِالْخَيرِ عِنْد من هُوَ. إِن فِي الأَرْض
رجلا هُوَ أعلم مِنْك. وَقَالَ ابْن بطال: كَانَ يَنْبَغِي
أَن يَقُول: الله أعلم، إِذا قيل لَهُ: أَي النَّاس أعلم؟
لِأَنَّهُ لم يحط علما بِكُل عَالم فِي الدُّنْيَا. وَقد
قَالَت الْمَلَائِكَة: {سُبْحَانَكَ لَا علم لنا إلاَّ مَا
علمتنا} (الْبَقَرَة: 32) وَسُئِلَ النَّبِي عَن الرّوح
وَغَيره، فَقَالَ: لَا أَدْرِي حَتَّى أسأَل الله
تَعَالَى. وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء، ردا على ابْن بطال فِي
حصر الصَّوَاب فِي ترك الْجَواب بقوله: الله أعلم: بل
الْجَواب أَن رد الْعلم إِلَى الله، سُبْحَانَهُ
وَتَعَالَى، مُتَعَيّن أجَاب أم لَا، فَإِن أجَاب قَالَ:
أَنا وَالله أعلم، فَإِن لم يجب قَالَ: الله أعلم،
وَبِهَذَا تأدب الْمفْتُون عقب أجوبتهم: وَالله أعلم.
وَلَعَلَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام لَو قَالَ: أَنا
وَالله أعلم، أَي: هَذَا لَكَانَ جَوَابا، وَإِنَّمَا
وَقعت الْمُؤَاخَذَة على الِاقْتِصَار على قَوْله: (أَنا
أعلم) . وَقَالَ الْمَازرِيّ فِي الْجَواب: أما على
رِوَايَة من روى: هَل تعلم؟ فَلَا عتب عَلَيْهِ إِذا أخبر
عَمَّا يعلم، وَأما على رِوَايَة: أَي النَّاس أعلم؟ وَقد
أخبر الله تَعَالَى أَن الْخضر أعلم مِنْهُ، فمراد مُوسَى
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؛ أَنا أعلم، أَي: فِيمَا
ظهر لي واقتضاه شَاهد الْحَال، وَدلَالَة النُّبُوَّة
لِأَن مُوسَى فِي النُّبُوَّة، بِالْمَكَانِ الأرفع،
وَالْعلم من أَعلَى الْمَرَاتِب، فقد يعْتَقد أَن يكون
أعلم لهَذِهِ الْأُمُور. وَقيل: المُرَاد أَنه أعلم بِمَا
تَقْتَضِيه وظائف النُّبُوَّة وَأُمُور الشَّرِيعَة،
وَالْخضر أعلم مِنْهُ على الْخُصُوص بِأُمُور أخر غير
عَيْنِيَّة، وَكَانَ مُوسَى أعلم على الْعُمُوم وَالْخضر
أعلم مِنْهُ على الْخُصُوص. قَوْله: (فعتب الله عَلَيْهِ)
أَي: لم يرض قَوْله شرعا، فَإِن العتب بِمَعْنى
الْمُؤَاخَذَة وَتغَير النَّفس، وَهُوَ مُسْتَحِيل على
الله سُبْحَانَهُ، وَهُوَ من بَاب: ضرب يضْرب. وَيُقَال:
أصل العتب الْمُؤَاخَذَة، يُقَال مِنْهُ: عتب عَلَيْهِ،
فَإِذا واخذه بذلك وَذكر لَهُ قيل: عاتبه، والتغير
والمؤاخذة فِي حق الله تَعَالَى محَال، فيراد بِهِ: لم يرض
قَوْله شرعا ودينا. وَرُوِيَ عَن أبي، رَضِي الله تَعَالَى
(2/193)
عَنهُ، إِنَّه قَالَ: أعجب مُوسَى
بِعِلْمِهِ فَعَاتَبَهُ الله بِمَا لَقِي من الْخضر. قَالَ
الْعلمَاء: هَذَا من بَاب التَّنْبِيه لمُوسَى والتعليم
لمن بعده لِئَلَّا يَقْتَدِي بِهِ غَيره فِي تَزْكِيَة
نَفسه وَالْعجب بِحَالِهَا فَيهْلك. قَوْله: (إِن عبدا)
أَي الْخضر، (بمجمع الْبَحْرين) أَي: ملتقى بحري فَارس
وَالروم مِمَّا يَلِي الْمشرق. وَحكى الثَّعْلَبِيّ عَن
أبي بن كَعْب أَنه بأفريقية. وَقيل: طنجة. قَوْله: (حوتا)
أَي: سَمَكَة. قيل: حمل سَمَكَة مملوحة، وَقيل: مَا كَانَت
إلاَّ شقّ سَمَكَة. قَوْله: (فَإِذا فقدته) أَي: الْحُوت.
قَوْله: (فَهُوَ ثمَّ) أَي: العَبْد الأعلم مِنْك. ثمَّ
أَي: هُنَاكَ. قَوْله: (حَتَّى كَانَا عِنْد الصَّخْرَة
وضعا رؤوسهما فَنَامَا) ، وَفِي طَرِيق للْبُخَارِيّ:
وَفِي أصل الصَّخْرَة عين يُقَال لَهَا الْحَيَاة لَا
يُصِيب من مَائِهَا شَيْء إِلَّا حييّ، فَأصَاب الْحُوت من
مَاء تِلْكَ الْعين فَتحَرك وانسل من المكتل فَدخل
الْبَحْر. وَفِي بَعْضهَا: فَقَالَ فتاه: لَا أوقظه،
حَتَّى إِذا اسْتَيْقَظَ نسي أَن يُخبرهُ وَأمْسك الله عَن
الْحُوت حَتَّى كَانَ أَثَره فِي حجر. وَفِي بَعْضهَا:
فَأمْسك الله عَن الْحُوت جرية المَاء فَصَارَ عَلَيْهِ
مثل الطاق، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ نسي يُوشَع أَن يُخبرهُ،
فنسي يُوشَع وَحده وَنسب النسْيَان إِلَيْهِمَا. فَقَالَ
تَعَالَى: {نسيا حوتهما} (الْكَهْف: 61) كَمَا قَالَ
تَعَالَى: {يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤ والمرجان}
(الرَّحْمَن: 22) وَإِنَّمَا يخرج من الْملح. وَقيل: نسي
مُوسَى أَن يتَقَدَّم إِلَى يُوشَع فِي أَمر الْحُوت،
وَنسي يُوشَع أَن يُخبرهُ بذهابه {فَاتخذ سَبيله فِي
الْبَحْر سربا} (الْكَهْف: 61) صَار عَلَيْهِ المَاء مثل
الطاق. قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا: أحيى
الله الْحُوت فَاتخذ سَبيله فِي الْبَحْر سربا وَجَاء
فَجعل لَا يلتئم عَلَيْهِ المَاء حَتَّى صَار كالكوة.
وَالضَّمِير فِي: اتخذ، يجوز أَن يكون للحوت كَمَا هُوَ
الظَّاهِر، وَيجوز أَن يكون لمُوسَى على معنى: فَاتخذ
مُوسَى سَبِيل الْحُوت فِي الْبَحْر سربا، أَي: مذهبا
ومسلكا، كَمَا يَأْتِي أَنَّهُمَا اتبعا أثر الْحُوت وَقد
يبس المَاء فِي مَمَره، فَصَارَ طَرِيقا. لَكِن مَا جَاءَ
فِي الحَدِيث يُضعفهُ، وَهُوَ قَوْله: (فَكَانَ للحوت سربا
ولموسى عجبا) . قَوْله: (عجبا) قَالَ الزّجاج: يجوز أَن
يكون من قَول يُوشَع وَمن قَول مُوسَى، وانْتهى كَلَام
يُوشَع عِنْد قَوْله: وَاتخذ سَبيله فِي الْبَحْر، ثمَّ
قَالَ مُوسَى: عجبت من هَذَا عجبا، فَيحسن على هَذَا
الْوَقْف على الْبَحْر، ويبتدىء من: عجبا. وَقَالَ غَيره:
يجوز أَن يكون إِخْبَارًا من الله تَعَالَى، أَي: اتخذ
مُوسَى طَرِيق الْحُوت فِي الْبَحْر عجبا. قَوْله: (ذَلِك)
أَي: فقدان الْحُوت هُوَ الَّذِي كُنَّا نبغيه أَي نطلبه،
لِأَنَّهُ عَلامَة وجدان الْمَقْصُود. قَوْله (فارتدا على
آثارهما قصصاً) أَي: يقصان قصصا، يَعْنِي: رجعا يقصان
آثارهما حَتَّى أَتَيَا الصَّخْرَة. وَفِي مُسلم (فارتدا
على آثارهما قصصا) . (فَأرَاهُ مَكَان الْحُوت فَقَالَ:
هَهُنَا وصف لي) ، ويروى: أَن مُوسَى ويوشع اتبعا أثر
الْحُوت وَقد يبس المَاء فِي مَمَره فَصَارَ طَرِيقا،
فَأتيَا جَزِيرَة فوجدا الْخضر قَائِما يصلى على طنفسة
خضراء على كبد الْبَحْر، أَي وَسطه. قَوْله: {إِنَّك لن
تَسْتَطِيع معي صبرا} (الْكَهْف: 72) أَي سترى شَيْئا
ظَاهره مُنكر فَلَا تصبر عَلَيْهِ. قَوْله: (مَا نقص علمي
وعلمك) هَذَا الْبَاب من النَّقْص مُتَعَدٍّ، وَمن
النُّقْصَان لَازم، وَهَذَا هُوَ المُرَاد. قَالُوا: لفظ
النَّقْص هُنَا لَيْسَ على ظَاهره، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ:
أَن علمي وعلمك بِالنِّسْبَةِ إِلَى علم الله تَعَالَى
كنسبة مَا نقر العصفور إِلَى مَاء الْبَحْر، وَهَذَا على
التَّقْرِيب إِلَى الأفهام، وإلاَّ فنسبة علمهما أقل.
وَقيل: نقص بِمَعْنى أَخذ، لِأَن النَّقْص أَخذ خَاص.
قَالَ عِيَاض: يرجع ذَلِك فِي حَقّهمَا. أَي: مَا نقص
علمنَا مِمَّا جهلناه من مَعْلُومَات إلاَّ مثل هَذَا فِي
التَّقْدِير. وَجَاء فِي البُخَارِيّ: (مَا علمي وعلمك فِي
جنب علم الله تَعَالَى إلاَّ كَمَا أَخذ هَذَا العصفور)
أَي: فِي جنب مَعْلُوم الله تَعَالَى، وَيُطلق الْعلم
وَيُرَاد بِهِ الْمَعْلُوم، من بَاب إِطْلَاق الْمصدر
لإِرَادَة الْمَفْعُول، كَمَا قَالُوا: دِرْهَم ضرب
الْأَمِير، أَي: مضروبه. وَقيل: إِن، إلاَّ، هَهُنَا
بِمَعْنى: وَلَا، كَأَنَّهُ قَالَ: مَا نقص علمي وعلمك من
علم الله وَلَا مَا أَخذ هَذَا العصفور من هَذَا الْبَحْر،
لِأَن علم الله لَا ينقص بِحَال. قَوْله: (فَعمد الْخضر
إِلَى لوح من أَلْوَاح السَّفِينَة) قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: قلع لوحين مِمَّا يَلِي المَاء. وَفِي
البُخَارِيّ: فوتد فِيهَا وتدا، وَفِيه: فَعمد إِلَى قدوم
فخرق بِهِ. وَيُقَال: أَخذ فأسا فخرق لوحا حَتَّى دخل
المَاء فحشاها مُوسَى بِثَوْبِهِ. وَقَالَ ابْن عَبَّاس:
لما خرق الْخضر السَّفِينَة فنحى مُوسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِنَاحِيَة، ثمَّ قَالَ فِي نَفسه:
مَا كنت أصنع بمصاحبة هَذَا الرجل؟ كنت أتلو فِي بني
إِسْرَائِيل كتاب الله غدْوَة وَعَشِيَّة، وَآمرهُمْ
فيطيعوني. فَقَالَ لَهُ الْخضر: يَا مُوسَى! أَتُرِيدُ أَن
أخْبرك بِمَا حدثت بِهِ نَفسك؟ قَالَ: نعم. قَالَ: قلت
كَذَا وَكَذَا. قَالَ: صدقت، ثمَّ انْطَلقَا يمشيان فَإِذا
غُلَام يلْعَب مَعَ الغلمان، وَكَانُوا عشرَة وَهُوَ
أطرفهم وأوضؤهم، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ غُلَاما لم
يبلغ الْحِنْث، وَقَالَ الضَّحَّاك: كَانَ غُلَاما يعمد
بِالْفَسَادِ ويتأذى مِنْهُ أَبَوَاهُ. وَقَالَ
الْكَلْبِيّ: كَانَ الْغُلَام يسرق الْمَتَاع بِاللَّيْلِ،
فَإِذا أصبح لَجأ إِلَى أَبَوَيْهِ فيحلفان دونه شَفَقَة
عَلَيْهِ، ويقولان: لقد بَات عندنَا. وَاخْتلفُوا فِي
اسْمه، فَقَالَ الضَّحَّاك: جيسون. وَقَالَ شُعْبَة:
جيسور، وَقَالَ ابْن وهب: كَانَ اسْم أَبِيه ملاس، وَاسم
أمه رحمى، فَأَخذه الْخضر بِرَأْسِهِ من أَعْلَاهُ
فاقتلعه، كَذَا فِي البُخَارِيّ. وَجَاء فِيهِ فِي بَدْء
الْخلق:
(2/194)
فَأخذ الْخضر بِرَأْسِهِ فَقَطعه بِيَدِهِ
هَكَذَا، وَأَوْمَأَ سُفْيَان بأطراف أَصَابِعه كَأَنَّهُ
يقطف شَيْئا. وَجَاء فِيهِ، فِي التَّفْسِير: (ثمَّ خرجا
من السَّفِينَة، فَبَيْنَمَا هما يمشيان على السَّاحِل
إِذْ أبْصر الْخضر غُلَاما مَعَ الغلمان، فاقتلع رَأسه
فَقتله) . وَجَاء: (فَوجدَ غلمانا يَلْعَبُونَ، فَأخذ
غُلَاما كَافِرًا ظريفا، فأضجعه ثمَّ ذبحه بالسكين) .
وَقَالَ الْكَلْبِيّ: صرعه ثمَّ نزع رَأسه من جسده فَقتله.
وَقيل: رفصه بِرجلِهِ فَقتله. وَقيل: ضرب رَأسه بالجدار
حَتَّى قَتله. وَقيل: أَدخل أُصْبُعه فِي سرته فاقتلعها
فَمَاتَ، فَلَمَّا قَتله قَالَ مُوسَى: {اقتلت نفسا زكية}
(الْكَهْف: 74) أَي: طَاهِرَة {بِغَيْر نفس لقد جِئْت
شَيْئا نكرا} (الْكَهْف: 74) أَي مُنْكرا. قَالَ: فَغَضب
الْخضر فاقتلع كتف الصَّبِي الْأَيْسَر، وقشر اللَّحْم
عَنهُ فَإِذا فِي عظم كتفه مَكْتُوب كَافِر لَا يُؤمن
بِاللَّه أبدا. وَفِي مُسلم: (وَأما الْغُلَام فطبع يَوْم
طبع كَافِرًا، وَكَانَ أَبَوَاهُ قد عطفا عَلَيْهِ، فَلَو
أَنه أدْرك أرهقهما طغيانا وَكفرا) . والطغيان:
الزِّيَادَة فِي الإضلال. قَالَ البُخَارِيّ: وَكَانَ ابْن
عَبَّاس يقْرَأ: {وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين} (الْكَهْف:
78) وَهُوَ كَانَ كَافِرًا. وَعنهُ: وَأما الْغُلَام
فَكَانَ كَافِرًا وَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤمنين. وَقَوله:
غُلَاما، يدل على أَنه كَانَ غير بَالغ، والغلام اسْم
للمولود إِلَى أَن يبلغ، وَزعم قوم أَنه كَانَ بَالغا
يعْمل الْفساد، وَاحْتَجُّوا بقوله: بِغَيْر نفس، إِن
الْقصاص إِنَّمَا يكون فِي حق الْبَالِغ. وَأجَاب
الْجُمْهُور عَن ذَلِك: بِأَنا لَا نعلم كَيفَ كَانَ
شرعهم، فَلَعَلَّهُ كَانَ يجب على الصَّبِي فِي شرعهم
كَمَا يجب فِي شرعنا عَلَيْهِم غَرَامَة الْمُتْلفَات،
وَيُقَال: المُرَاد بِهِ التَّنْبِيه على أَنه قتل بِغَيْر
حق. فَإِن قلت: فِي أَيْن كَانَ قَضِيَّة قتل الْغُلَام؟
قلت: فِي أبله، بِضَم الْهمزَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة
وَتَشْديد اللَّام الْمَفْتُوحَة بعْدهَا هَاء، وَهِي
مَدِينَة بِالْقربِ من بصرة وعبادان، وَيُقَال: أيلاء،
بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء وَاللَّام الممدودة:
مَدِينَة كَانَت على سَاحل بَحر القلزم على طَرِيق حجاج
مصر. قَوْله: (قَالَ ابْن عُيَيْنَة) أَي: سُفْيَان بن
عُيَيْنَة، وَهَذَا أوكد، وَالِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ
إِنَّمَا هُوَ بِزِيَادَة: لَك، فِي هَذِه الْمرة. قَالَ
الْعَلامَة جَار الله: فَإِن قلت: مَا معنى زِيَادَة لَك؟
قلت: زِيَادَة المكافحة بالعتاب على رفض الْوَصِيَّة
والوسم بقلة الصَّبْر عِنْد الكرة الثَّانِيَة. قَوْله:
(حَتَّى إِذا أَتَيَا) وَفِي بعض النّسخ: (حَتَّى أَتَيَا)
بِدُونِ لَفْظَة: إِذا. قَوْله: (أهل قَرْيَة) هِيَ:
أنطاكية، قَالَه ابْن عَبَّاس. وَقَالَ ابْن سِيرِين: ابلة
وَهِي أبعد الأَرْض من السَّمَاء، وَجَاء أَنهم كَانُوا من
أهل قَرْيَة لئام. وَقيل: قَرْيَة من قرى الرّوم يُقَال
لَهَا ناصرة وإليها تنْسب النَّصَارَى. وَقَالَ
السُّهيْلي: قيل: إِنَّهَا برقة، وَقيل: إِنَّهَا باجروان
وَهِي مَدِينَة بنواحي أرمينية من أَعمال شرْوَان،
عِنْدهَا فِيمَا قيل عين الْحَيَاة الَّتِي وجدهَا الْخضر،
عَلَيْهِ السَّلَام، فوافياها بعد غرُوب الشَّمْس،
فَاسْتَطْعَمَا أَهلهَا واستضافاهم فَأَبَوا أَن
يُضَيِّفُوهُمَا، وَلم يجدا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة فِي
تِلْكَ الْقرْيَة قرى وَلَا مأوى، وَكَانَت لَيْلَة
بَارِدَة، فالتجآ إِلَى حَائِط على شاطىء الطَّرِيق يُرِيد
أَن ينْقض، أَي: يكَاد أَن يسْقط، وَإسْنَاد الْإِرَادَة
إِلَى الْجِدَار مجَاز، إِذْ لَا إِرَادَة لَهُ حَقِيقَة،
وَالْمرَاد هَهُنَا: المشارفة على السُّقُوط. وَقَالَ
الْكسَائي: إِرَادَة الْجِدَار هَهُنَا ميله، وَفِي
البُخَارِيّ: مائل، وَكَانَ أهل الْقرْيَة يَمرونَ
تَحْتَهُ على خوف قَوْله: (قَالَ الْخضر بِيَدِهِ فأقامه)
قد قُلْنَا: إِن مَعْنَاهُ: أَشَارَ بِيَدِهِ فأقامه.
وَفِي رِوَايَة قَالَ: (فمسحه بِيَدِهِ) ، وَذكر
الثَّعْلَبِيّ أَن سمك الْجِدَار مِائَتَا ذِرَاع بِذِرَاع
تِلْكَ الْقرى، وَطوله على وَجه الأَرْض خَمْسمِائَة
ذِرَاع، وَعرضه خَمْسُونَ ذِرَاعا. قيل: إِنَّه مَسحه
كالطين يمسحه القلاَّل فَاسْتَوَى. وَعَن ابْن عَبَّاس:
هَدمه ثمَّ قعد يبنيه. وَقيل: أَقَامَهُ بعمود عمده بِهِ.
فَقَالَ لَهُ مُوسَى: لَو شِئْت لاتخذت عَلَيْهِ أجرا
فَيكون لنا قوتا وبلغة على سفرنا إِذْ استضفناهم فَلم
يضيفونا. فَقَالَ الْخضر: {هَذَا فِرَاق بيني وَبَيْنك}
الْآيَة. (الْكَهْف: 78) فَإِن قلت: هَذَا إِشَارَة إِلَى
مَاذَا؟ قلت: قد تصور فِرَاق بَينهمَا عِنْد حُلُول ميعاده
على مَا قَالَ: فَلَا تُصَاحِبنِي، فَأَشَارَ إِلَيْهِ
وَجعله مُبْتَدأ، وَيجوز أَن يكون إِشَارَة إِلَى
السُّؤَال الثَّالِث أَي: هَذَا الِاعْتِرَاض سَبَب
الْفِرَاق.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: وَهُوَ على وُجُوه. الأول:
فِيهِ اسْتِحْبَاب الرحلة للْعلم. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز
التزود للسَّفر. الثَّالِث: فِيهِ فَضِيلَة طلب الْعلم
وَالْأَدب مَعَ الْعَالم، وَحُرْمَة الْمَشَايِخ، وَترك
الإعتراض عَلَيْهِم وَتَأْويل مَا لم يفهم ظَاهره من
أَقْوَالهم وأفعالهم، وَالْوَفَاء بعهودهم، والاعتذار
عِنْد الْمُخَالفَة. الرَّابِع: فِيهِ إِثْبَات كرامات
الْأَوْلِيَاء وَصِحَّة الْولَايَة. الْخَامِس: فِيهِ
جَوَاز سُؤال الطَّعَام عِنْد الْحَاجة. السَّادِس: فِيهِ
جَوَاز الْإِجَارَة. السَّابِع: فِيهِ جَوَاز ركُوب
الْبَحْر وَنَحْو ذَلِك بِغَيْر أُجْرَة برضى صَاحبه.
الثَّامِن: فِيهِ الحكم بِالظَّاهِرِ حَتَّى يتَبَيَّن
خِلَافه. التَّاسِع: فِيهِ أَن الْكَذِب الْإِخْبَار على
خلاف الْوَاقِع عمدا أَو سَهوا خلافًا للمعتزلة.
الْعَاشِر: إِذا تَعَارَضَت مفسدتان يجوز دفع أعظمهما
بارتكاب أخفهما، كَمَا فِي خرق الْخضر السَّفِينَة لدفع
غصبهَا وَذَهَاب جُمْلَتهَا. الْحَادِي عشر: فِيهِ بَيَان
أصل عَظِيم وَهُوَ: وجوب التَّسْلِيم لكل مَا جَاءَ بِهِ
الشَّرْع، وَإِن كَانَ بعضه لَا تظهر حكمته للعقول وَلَا
يفهمهُ أَكثر النَّاس، وَقد لَا يفهمونه كلهم: كالقدر،
وَمَوْضِع الدّلَالَة قتل الْغُلَام، وخرق السَّفِينَة
فَإِن
(2/195)
صورتيهما صُورَة الْمُنكر، وَكَانَ صَحِيحا فِي نفس
الْأَمر لَهُ حِكْمَة بَيِّنَة، لَكِنَّهَا لَا تظهر
لِلْخلقِ فَإِذا علمهمْ الله تَعَالَى بهَا علموها،
وَلِهَذَا قَالَ: {وَمَا فعلته عَن أَمْرِي} (الْكَهْف:
82) الثَّانِي عشر: قَالَ ابْن بطال: وَفِيه أصل وَهُوَ:
مَا تعبد الله تَعَالَى بِهِ خلقه من شَرِيعَته يجب أَن
يكون حجَّة على الْعُقُول، وَلَا تكون الْعُقُول حجَّة
عَلَيْهِ، أَلا ترى أَن إِنْكَار مُوسَى، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ صَوَابا فِي الظَّاهِر،
وَكَانَ غير ملوم فِيهِ، فَلَمَّا بيَّن الْخضر وَجه ذَلِك
صَار الصَّوَاب الَّذِي ظهر لمُوسَى فِي إِنْكَاره خطأ،
وَالْخَطَأ الَّذِي ظهر لَهُ من فعل الْخضر صَوَابا،
وَهَذَا حجَّة قَاطِعَة فِي أَنه يجب التَّسْلِيم لله
تَعَالَى فِي دينه وَلِرَسُولِهِ فِي سنته، واتهام
الْعُقُول إِذا قصرت عَن إِدْرَاك وَجه الْحِكْمَة فِيهِ.
الثَّالِث عشر: فِيهِ أَن قَوْله: {وَمَا فعلته عَن
أَمْرِي} (الْكَهْف: 82) يدل على أَنه فعله بِالْوَحْي،
فَلَا يجوز لأحد أَن يقتل نفسا لما يتَوَقَّع وُقُوعه
مِنْهَا، لِأَن الْحُدُود لَا تجب إِلَّا بعد الْوُقُوع،
وَكَذَا لَا يقطع على أحد قبل بُلُوغه، لِأَنَّهُ إِخْبَار
عَن الْغَيْب، وَكَذَا الْإِخْبَار عَن أَخذ الْملك
السَّفِينَة، وَعَن اسْتِخْرَاج الغلامين الْكَنْز، لِأَن
هَذَا كُله لَا يدْرك إلاَّ بِالْوَحْي. الرَّابِع عشر:
فِيهِ حجَّة لمن قَالَ بنبوة الْخضر، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام. الْخَامِس عشر: قَالَ القَاضِي: فِيهِ جَوَاز
إِفْسَاد بعض المَال لإِصْلَاح بَاقِيه، وخصاء
الْأَنْعَام، وَقطع بعض آذانها لتميز.
الأسئلة والأجوبة: مِنْهَا مَا قيل: فِي قَوْله: (فَإِنِّي
نسيت الْحُوت) كَيفَ نسي ذَلِك وَمثله لَا ينسى لكَونه
أَمارَة على الْمَطْلُوب، وَلِأَن ثمَّة معجزتين: حَيَاة
السَّمَكَة المملوحة الْمَأْكُول مِنْهَا على الْمَشْهُور،
وانتصاب المَاء مثل الطاق ونفوذها فِي مثل السرب مِنْهُ؟
أُجِيب: بِأَنَّهُ قد شغله الشَّيْطَان بوسواسه والتعود
بمشاهدة أَمْثَاله عِنْد مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، من الْعَجَائِب والاستئناس بأخواته مُوجب
لقلَّة الاهتمام بِهِ. وَمِنْهَا مَا قيل: فِي قَوْله:
(على أَن تعلمني مِمَّا علمت رشدا) أما دلّت حَاجته إِلَى
التَّعَلُّم من آخر فِي عَهده أَنه كَمَا قيل: مُوسَى بن
مِيشَا لَا مُوسَى بن عمرَان، لِأَن النَّبِي يجب أَن يكون
أعلم أهل زَمَانه وإمامهم المرجوع إِلَيْهِ فِي أَبْوَاب
الدّين؟ أُجِيب: لَا غَضَاضَة بِالنَّبِيِّ فِي أَخذ
الْعلم من نَبِي مثله، وَإِنَّمَا يغض مِنْهُ أَن يَأْخُذ
مِمَّن دونه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَذَا الْجَواب لَا
يتم على تَقْدِير ولَايَته. قلت: هَذَا الْجَواب للزمخشري،
وَهُوَ قَائِل بنبوته، كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْجُمْهُور، بل
هُوَ رَسُول وَيَنْبَغِي اعْتِقَاد ذَلِك لِئَلَّا يتوسل
بِهِ أهل الزيغ وَالْفساد من المبتدعة الْمَلَاحِدَة فِي
دَعوَاهُم: أَن الْوَلِيّ أفضل من النَّبِي، نَعُوذ
بِاللَّه تَعَالَى من هَذِه الْبِدْعَة. وَقَالَ بَعضهم:
وَفِي هَذَا الْجَواب نظر، لِأَنَّهُ يسْتَلْزم نفي مَا
أوجب. قلت: هَذِه الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة، فَلَو بَين
وَجههَا لأجيب عَن ذَلِك. وَمِنْهَا مَا قيل: فِي قَوْله:
فحملوهما، وهم ثَلَاثَة. فَقَالَ: كلموهم بِلَفْظَة
الْجمع، فَلم قَالَ: فحملوهما بالتثنية؟ أُجِيب: بِأَن
يُوشَع كَانَ تَابعا فَاكْتفى بِذكر الأَصْل عَن الْفَرْع.
وَمِنْهَا مَا قيل: إِن نِسْبَة النقرة إِلَى الْبَحْر
نِسْبَة المتناهي إِلَى المتناهي، وَنسبَة علمهما إِلَى
علم الله نِسْبَة المتناهي إِلَى غير المتناهي، وللنقرة
إِلَى الْبَحْر فِي الْجُمْلَة نِسْبَة مَا بِخِلَاف
علمهما، فَإِنَّهُ لَا نِسْبَة لَهُ إِلَى علم الله.
أُجِيب: بِأَن الْمَقْصُود مِنْهُ التَّشْبِيه فِي
الْقلَّة والحقارة، لَا الْمُمَاثلَة من كل الْوُجُوه.
وَمِنْهَا مَا قيل: مَتى كَانَت قصَّة الْخضر مَعَ مُوسَى
عَلَيْهِمَا السَّلَام؟ أُجِيب: حَيْثُ كَانَ مُوسَى فِي
التيه، فَلَمَّا فَارقه الْخضر رفع إِلَى قومه وهم فِي
التيه. وَقيل: كَانَت قبل خُرُوجه من مصر. وَالله أعلم. |