عمدة القاري شرح صحيح البخاري

25 - (بابُ الاسْتِنْثَارِ فِي الوُضُوءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الاستنثار فِي الْوضُوء، والاستنثار استفعال من النثر، بالنُّون والثاء الْمُثَلَّثَة، وَالْمرَاد بِهِ الِاسْتِنْشَاق، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب الَّذِي قبله.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب بعض الْمَذْكُور فِي الْبَاب الأول.
ذكَرَهُ عثْمانُ وعَبْدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ وابنُ عَباس رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

أَي: ذكر الاستنثار فِي الْوضُوء عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الله بن زيد بن عَاصِم وَعبد الله بن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَالْمعْنَى أَن هَؤُلَاءِ رووا الاستنثار فِي الْوضُوء. أما الَّذِي رَوَاهُ عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فقد أخرجه مَوْصُولا فِي الْبَاب الَّذِي

(3/13)


قبله، وَأما الَّذِي رَوَاهُ عبد الله بن زيد فقد أخرجه مَوْصُولا فِي بَاب مسح الرَّأْس كُله، وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس فقد أخرجه مَوْصُولا فِي بَاب غسل الْوَجْه من غرفَة، وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الاستنثار، وَكَانَ المُصَنّف أَشَارَ بذلك إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد وَالْحَاكِم من حَدِيثه مَرْفُوعا: (استنثروا مرَّتَيْنِ بالغتين أَو ثَلَاثًا) ، وَلأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم واستنثر فَلْيفْعَل ذَلِك مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) ، وَإِسْنَاده حسن قلت: لَيْسَ الْأَمر كَمَا ذكره، بل فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ ذكر الاستنثار، فَإِن فِي بعض النّسخ ذكر: واستنثر، مَوضِع قَوْله: واستنشق، وَقَوله: وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بذلك إِلَى مَا رَوَاهُ أَحْمد ... إِلَى آخِره، بعيد على مَا لَا يخفى، وَحَدِيث ابي دَاوُد أخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا، وَذكر الْخلال عَن أَحْمد أَنه قَالَ: فِي إِسْنَاده شَيْء، وَذكره الْحَاكِم فِي الشواهد وَابْن الْجَارُود فِي الْمُنْتَقى، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَكَانَ يَنْبَغِي للْبُخَارِيّ إِذا عدرواة الاستنثار أَن يذكر بعد حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ من صَحِيح مُسلم، وَحَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من (صَحِيح) ابْن حبَان، وَحَدِيث وَائِل بن حجر وَسَنَده جيد عِنْد الْبَزَّار، وَحَدِيث لَقِيط بن صبرَة وَقد تقدم، وَكَذَا حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَحَدِيث الْبَراء بن عَازِب روينَاهُ فِي كتاب (الْحِلْية) لأبي نعيم بِسَنَد جيد، وَحَدِيث سَلمَة بن قيس، قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَحَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي رَوَاهُ كَامِل بن طَلْحَة الجحدري عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي إِدْرِيس عَنهُ، قَالَ ابو احْمَد الْحَاكِم: أَخطَأ فِيهِ كَامِل، وَحَدِيث الْمِقْدَام بن معدي كرب بِسَنَد جيد عِنْد ابي دَاوُد. قلت: لم يظْهر لي وَجه قَوْله: وَكَانَ يَنْبَغِي، فَإِن البُخَارِيّ مَا الْتزم بِذكر أَحَادِيث الْبَاب، وَلَا بتخريج كل حَدِيث صَحِيح، وَكم من صَحِيح عِنْد غَيره فَهُوَ لَيْسَ بِصَحِيح عِنْده.

161 - حدّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخْبرنا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أخْبرنا يُونسُ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخْبرني أبُو إدْرِيسَ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَن النَّبيِّ صلى الله عليْه وَسلم أنَّهُ قَالَ مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْثِرْ ومَنِ اسْتجْمَرَ فَلْيُوتِرْ.
(الحَدِيث 161 طرفه فِي: 162) .
مُطَابقَة الحَدِيث فِي قَوْله: (من تَوَضَّأ فليستنثر) .
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: عَبْدَانِ هُوَ لقب ابْن عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: أَبُو إِدْرِيس عَائِذ الله بِالْهَمْزَةِ والذال الْمُعْجَمَة: ابْن عبد الله الْخَولَانِيّ، بِالْمُعْجَمَةِ، التَّابِعِيّ الْجَلِيل الْقدر، الْكَبِير الشَّأْن، كَانَ قَاضِيا بِدِمَشْق لمعاوية مَاتَ سنة ثَمَانِينَ. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فالأربعة الأول تقدم ذكرهم بِهَذَا التَّرْتِيب فِي كتاب الْوَحْي، وَأَبُو إِدْرِيس مر ذكره فِي كتاب الْإِيمَان.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الجمة والإفراد وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وأيلي ومدني وشامي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ: الزُّهْرِيّ عَن أبي إِدْرِيس.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَعَن سعيد بن مَنْصُور عَن حسان بن إِبْرَاهِيم وَعَن حَرْمَلَة ابْن يحيى عَن ابْن وهب، كِلَاهُمَا عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي إِدْرِيس عَن أبي هُرَيْرَة وَأبي سعيد، كِلَاهُمَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن ابْن مهْدي وَابْن مَاجَه أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن زيد ابْن الْحباب وَدَاوُد بن عبد الله الْجَعْفَرِي أربعتهم عَن مَالك بِهِ، وَقَالَ ابْن الفلكي: رَوَاهُ كَامِل بن طَلْحَة الجحدري عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي إِدْرِيس عَن أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي. قَالَ ابو احْمَد الْحَافِظ: إِن كَامِلا أَخطَأ فِيهِ.
بَيَان إعرابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (من تَوَضَّأ) كلمة: من، مَوْصُولَة تَتَضَمَّن معنى الشَّرْط. وَقَوله: (فليستنثر) جَوَاب الشَّرْط، فَلذَلِك دَخلته الْفَاء، وَكَذَلِكَ قَوْله: (وَمن استجمر فليوتر) . قَوْله: (فليستنثر) أَي: فَليخْرجْ المَاء من الْأنف بعد الِاسْتِنْشَاق مَعَ مَا فِي الْأنف من مخاط وغبار، وَشبهه، قيل ذَلِك لما فِيهِ من المعونة على الْقِرَاءَة وتنقية مجْرى النَّفس الَّذِي بِهِ التِّلَاوَة، وبإزالة مَا فِيهِ من التفل تصح مجاري الْحُرُوف، وَيُقَال: الْحِكْمَة فِيهِ التَّنْظِيف وطرد الشَّيْطَان، لِأَنَّهُ روى فِي رِوَايَة عِيسَى بن طَلْحَة عَن أبي هُرَيْرَة أخرجهَا البُخَارِيّ فِي بَدْء الْخلق: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه فَليَتَوَضَّأ فليستنثر ثَلَاثًا، فَإِن الشَّيْطَان يبيت على خيشومه) . قَوْله: (وَمن استجمر) من الِاسْتِجْمَار، وَهُوَ مسح مَحل الْبَوْل وَالْغَائِط بالجمار، وَهِي: الْأَحْجَار الصغار، وَيُقَال:

(3/14)


الاستطابة والاستجمار والإستنجاء لتطهير مَحل الْغَائِط وَالْبَوْل، والاستجمار مُخْتَصّ بِالْمَسْحِ بالأحجار، والاستطابة والاستنجاء يكونَانِ بِالْمَاءِ وبالأحجار. وَقَالَ ابْن حبيب: وَكَانَ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يتَأَوَّل الِاسْتِجْمَار هُنَا على إجمار الثِّيَاب بالمجمر، وَنحن نستحب الْوتر فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا. يُقَال فِي هَذَا تجمر واستجمر فَيَأْخُذ ثَلَاث قطع من الطّيب أَو يتطيب مرّة وَاحِدَة، لما بعد الأولى، وَحكي عَن مَالك أَيْضا، وَالْأَظْهَر الأول، وَيُقَال: إِنَّمَا سمي بِهِ التمسح بالجمار الَّتِي هِيَ الْأَحْجَار الصغار لِأَنَّهُ يطيب الْمحل كَمَا يطيبه الِاسْتِجْمَار بالبخور، وَمِنْه سميت جمار الْحَج وَهِي: الحصيات الَّتِي يَرْمِي بهَا. قَوْله: (فليوتر) أَي: فليجعل الْحِجَارَة الَّتِي يستنجى بهَا وترا، إِمَّا وَاحِدَة، أَو ثَلَاثًا أَو خمْسا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد بالإيتار أَن يكون عدَّة المسحات ثَلَاثًا أَو خمْسا أَو فَوق ذَلِك من الأوتار. قلت: لم يذكر الْوَاحِد، مَعَ أَنه يُطلق عَلَيْهِ الإيتار هروباً عَن أَن لَا يكون الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ مطلوبية الاستنثار فِي الْوضُوء وَالْإِجْمَاع قَائِم على عدم وُجُوبه، وَالْمُسْتَحب أَن يستنثر بِيَدِهِ الْيُسْرَى، وَقد بوب عَلَيْهِ النَّسَائِيّ، وَيكرهُ أَن يكون بِغَيْر يَده، حُكيَ ذَلِك عَن مَالك أَيْضا لكَونه يشبه فعل الدَّابَّة، وَقيل: لَا يكره. فان قلت: السّنة فِي الاستنثار ثَلَاث مثل الِاسْتِنْشَاق أم لَا؟ قلت: قد ورد فِي رِوَايَة الْحميدِي فِي (مُسْنده) عَن سُفْيَان عَن ابي الزِّنَاد، وَلَفظه: (إِذا استنثر فليستنثر وترا) . وَقَوله: (وترا) يَشْمَل الْوَاحِد وَالثَّلَاث وَمَا فَوْقهمَا من الأوتار، وَورد فِي رِوَايَة البُخَارِيّ: (فليستنثر ثَلَاثًا) . كَمَا ذَكرنَاهَا، وَيُمكن أَن تكون هَذِه الرِّوَايَة مبينَة لتِلْك الرِّوَايَة، فَتكون السّنة فِيهِ أَن تكون ثَلَاثًا كالاستنشاق فَافْهَم. الثَّانِي: من فسر الاستنثار بالاستنشاق ادّعى أَن الِاسْتِنْشَاق وَاجِب، وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِيهِ دلَالَة لمَذْهَب من يَقُول: إِن الِاسْتِنْشَاق وَاجِب لمُطلق الْأَمر، وَمن لم يُوجِبهُ يحمل الْأَمر على النّدب بِدَلِيل أَن الْمَأْمُور بِهِ حَقِيقَة، وَهُوَ: الاستنثار لَيْسَ بِوَاجِب بالِاتِّفَاقِ. وَقَالَ ابْن بطال: الاستنثار هُوَ دفع المَاء الْحَاصِل فِي الْأنف بالاستنشاق، وَلم يذكر هَهُنَا الِاسْتِنْشَاق لِأَن ذكره الاستنثار دَلِيل عَلَيْهِ إِذْ لَا يكون إلاَّ مِنْهُ، وَقد أوجب بعض الْعلمَاء الاستنثار بِظَاهِر الحَدِيث، وَحمل أَكْثَرهم على النّدب، وَاسْتَدَلُّوا بِأَن غسله بَاطِن الْوَجْه غير مَأْخُوذ علينا فِي الْوضُوء: قلت: الَّذين أوجبوا الِاسْتِنْشَاق هم: أَحْمد وَإِسْحَاق وَأَبُو عبيد وَأَبُو ثَوْر وَابْن الْمُنْذر، وَاحْتَجُّوا بِظَاهِر الْأَمر، وَلكنه للنَّدْب عِنْد الْجُمْهُور بِدَلِيل مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ محسناً، وَالْحَاكِم مصححاً من قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم للأعرابي: (تَوَضَّأ كَمَا أَمرك الله تَعَالَى) ، فأحاله على الْآيَة وَلَيْسَ فِيهَا ذكر الإستنشاق. وَقَالَ بَعضهم: وَأجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد بِالْأَمر مَا هُوَ أَعم من آيَة الْوضُوء، فقد أَمر الله تَعَالَى بِاتِّبَاع نبينه، وَلم يحك أحد مِمَّن وصف وضوءه على الِاسْتِقْصَاء أَنه ترك الِاسْتِنْشَاق، بل وَلَا الْمَضْمَضَة، وَهَذَا يرد على من لم يُوجب الْمَضْمَضَة أَيْضا، وَقد ثَبت الْأَمر بهَا أَيْضا فِي (سنَن أبي دَاوُد) بِإِسْنَاد صَحِيح. قلت: القرنية الحالية والمقالية مناطقة صَرِيحًا بِأَن المُرَاد من قَوْله: (كَمَا أَمرك الله تَعَالَى) الْأَمر الْمَذْكُور فِي آيَة الْوضُوء، وَلَيْسَ فِيهَا مَا يدل على وجوب الِاسْتِنْشَاق وَلَا على الْمَضْمَضَة، فَإِن اسْتدلَّ على هَذَا الْقَائِل على وُجُوبهَا بمواظبة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِمَا من غير ترك فَإِنَّهُ يلْزمه أَن يَقُول بِوُجُوب التَّسْمِيَة أَيْضا، لِأَنَّهُ لم ينْقل أَنه ترك التَّسْمِيَة فِيهِ، وَمَعَ هَذَا فَهُوَ سنة أَو مُسْتَحبَّة عِنْد إِمَام هَذَا الْقَائِل. الثَّالِث: فِيهِ مطلوبية الإيتار فِي الِاسْتِنْجَاء. قَالَ الْكرْمَانِي: مَذْهَبنَا أَن اسْتِيفَاء الثَّلَاث وَاجِب، فَإِن حصل الْإِبْقَاء بِهِ فَلَا زِيَادَة إلاَّ وَجَبت الزِّيَادَة، ثمَّ إِن حصل بِوتْر فَلَا زِيَادَة، وَإِن حصل بشفع اسْتحبَّ الإيتار. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على وجوب عدد الثَّلَاث، إِذْ مَعْلُوم أَنه لم يرد بِهِ الْوتر الَّذِي هُوَ وَأحد لِأَنَّهُ زِيَادَة صفة على الِاسْم، وَالِاسْم لَا يحصل بِأَقَلّ من وَاحِد، فَعلم أَنه قصد بِهِ مَا زَاد على الْوَاحِد وَأَدْنَاهُ الثَّلَاث. قلت: ظَاهر الحَدِيث حجَّة لأبي حنيفَة وَأَصْحَابه فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ من أَن الِاسْتِنْجَاء لَيْسَ فِيهِ عدد مسنون، لِأَن الإيتار يَقع على الْوَاحِد كَمَا يَقع على الثَّلَاث والْحَدِيث دَال على الايتار فَقَط فَإِن قلت تعْيين الثَّلَاث من نَهْيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام عَن أَن يستنجي بِأَقَلّ من ثَلَاث أَحْجَار. قلت: لما دلّ حَدِيث أبي هُرَيْرَة (من فعل فقد أحسن، وَمن لَا فَلَا حرج) على عدم اشْتِرَاط العيين، حمل هَذَا على أَن النَّهْي فِيهِ كَانَ لأجل الِاحْتِيَاط، لِأَن التَّطْهِير غَالِبا إِنَّمَا يحصل بِالثلَاثِ، وَنحن أَيْضا نقُول: إِذا تحقق شخص أَنه لَا يطهر إلاَّ بِالثلَاثِ يتَعَيَّن عَلَيْهِ الثَّلَاث، وَالتَّعْيِين لَيْسَ لأجل التوفية فِيهِ، وَإِنَّمَا هُوَ للانقاء الْحَاصِل فِيهِ حَتَّى إِذا احْتَاجَ إِلَى رَابِع وخامس وهلم جراً يتَعَيَّن عَلَيْهِ ذَلِك. فَافْهَم.

(3/15)


26 - (بابُ الاسْتجْمَارِ وِتْراً)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاسْتِجْمَار وترا، وَقد مر تَفْسِير الِاسْتِجْمَار فِي الْبَاب السَّابِق، وَالْوتر خلاف الشفع، وانتصابه على الْحَال.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَدِيث إِن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق حكمان: أَحدهمَا: الاستنثار. وَالْآخر الِاسْتِجْمَار وترا، وَكَانَ الْبَاب مَقْصُورا على الحكم الأول. وَهَذَا الْبَاب الْمَذْكُور فِيهِ ثَلَاثَة أَشْيَاء: أَحدهمَا: الِاسْتِجْمَار وترا فاقتضت الْمُنَاسبَة أَن يعْقد بَابا على الحكم. الآخر: الَّذِي عقد لقرينه وَلم يعْقد لَهُ لِأَن مَا فِيهِ حكمان أَو أَكثر ذكر بَعْضهَا تلو بعض من وُجُوه الْمُنَاسبَة، وَلَا يلْزم أَن تكون الْمُنَاسبَة فِي الذّكر بَين الشَّيْئَيْنِ من كل وَجه، سِيمَا فِي كتاب يشْتَمل على أَبْوَاب كَثِيرَة، وَالْمَقْصُود مِنْهَا عقد التراجم، فَانْدفع بِهَذَا كَلَام من يَقُول: تَخْلِيل هَذَا الْبَاب بَين أَبْوَاب الْوضُوء، وَهُوَ بَاب الِاسْتِنْجَاء، ومرتبته التَّقْدِيم على أَبْوَاب الْوضُوء غير موجه. وَجَوَاب الْكرْمَانِي، بقوله: مُعظم نظر البُخَارِيّ إِلَى نقل الحَدِيث، وَإِلَى مَا يتَعَلَّق بِتَصْحِيحِهِ غير مهتم بتحسين الْوَضع وتزيين تَرْتِيب الْأَبْوَاب، لِأَن أمره سهل غير مرضِي، وَلَا هُوَ عذر يقبل مِنْهُ. وَكَذَا قَول بَعضهم: لِأَن أَبْوَاب الاستطابة لم تتَمَيَّز فِي هَذَا الْكتاب عَن أَبْوَاب صفة الْوضُوء لتلازمها، وَيحْتَمل أَن يكون ذكل مِمَّن دون المُصَنّف.

162 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بِنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنا مالكٌ عَنْ أبي الزِّنَادِ عَن الاعْرَجِ عنْ أبي هُرَيْرَةَ أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إِذا تَوَضَّأَأحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أنْفِهِ ثُمَّ لِيَنْثُرْ ومنِ اسْتَجْمَرَ فلْيُوتِرْ وَإِذا اسْتَيْقَظَ أحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِه فَلْيَغْسِلْ يَدَهُ قَبْلَ أنْ يُدْخِلَهَا فِي وَضُوئِهِ فانَّ أحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي أيْنَ بَاتَتْ يدُهُ.
(انْظُر الحَدِيث: 161) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمن استجمر فليوتر) وَهَذَا الحَدِيث مُشْتَمل على ثَلَاثَة أَحْكَام، وَعقد التَّرْجَمَة على الِاسْتِجْمَار الَّذِي هُوَ أحد الْأَحْكَام للْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، وَعبد الله بن يُوسُف بن عَليّ التنيسِي تقدم ذكره فِي بَاب الْوَحْي، والبقية تقدم ذكرهم جَمِيعًا فِي بَاب حب الرَّسُول من الْإِيمَان، وَأَبُو الزِّنَاد، بِكَسْر الزَّاي وبالنون: عبد الله بن ذكْوَان. والأعرج هُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون مَا خلا عبد الله. وَمِنْهَا: مَا قَالَه البُخَارِيّ: أصح أَسَانِيد أبي هُرَيْرَة: مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن الْحُسَيْن بن عِيسَى البسطامي عَن معِين بن عِيسَى عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم من طَرِيق آخر: حَدثنَا نصر بن عَليّ الْجَهْضَمِي وحامد بن عمر التكراوي قَالَا: حَدثنَا بشر بن الْمفضل عَن خَالِد بن عبد الله بن شَقِيق عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يذده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاث مَرَّات فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) . وَفِي لفظ: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فليستنشق بمنخريه من المَاء ثمَّ ليستنثر) . وَفِي لفظ: (فَلَا يغمس يَده فِي الأناء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا) . وَفِي لفظ: (اذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم فليفرغ على يَدَيْهِ ثَلَاث مَرَّات قبل أَن يدْخل يَده فِي إنائه، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي فِيمَا باتت يَده) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من طَرِيق خر، حَدثنَا مُسَدّد قَالَ: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش عَن أبي رزين وَأبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل يغمس يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاث مَرَّات فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من وَجه آخر: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد الدِّمَشْقِي، قَالَ: حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من اللَّيْل فَلَا يدْخل يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يفرغ عَلَيْهَا مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) . وَأخرجه النَّسَائِيّ من وَجه آخر: أَنبأَنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي،

(3/16)


عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من نَومه فَلَا يغمس يَده فِي وضوئِهِ حَتَّى يغسلهَا ثَلَاثًا، فَإِن أحدكُم لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) . وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الدِّمَشْقِي حَدثنَا الْوَلِيد بن مُسلم حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ حَدثنِي الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن أَنَّهُمَا حَدَّثَاهُ أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: قَالَ رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من اللَّيْل فَلَا يدْخل يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يفرغ عَلَيْهَا مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا فَإِن أحدكُم لَا يدْرِي فيمَ باتت يَده) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي (مَعَاني الْآثَار) : حَدثنَا سُلَيْمَان بن شُعَيْب قَالَ: حَدثنَا بشر بن بكير، قَالَ: حَدثنِي الْأَوْزَاعِيّ وَحدثنَا الْحُسَيْن بن نصر، قَالَ: حَدثنَا الْفرْيَابِيّ، قَالَ: حدثّنا الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: حَدثنَا ابْن شهَاب قَالَ: حَدثنِي سعيد بن الْمسيب أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يَقُول: (إِذا قَامَ احدكم من اللَّيْل) إِلَى آخِره، مثل لفظ ابْن مَاجَه، غير ان فِي لفظ الطَّحَاوِيّ: (فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أحدكُم فيمَ باتت يَده) . وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا بِإِسْنَاد حسن، وَلَفظه: (ايْنَ باتت تَطوف يَده) . وَفِي (الْأَوْسَط) للطبراني: (ويسمي قبل أَن يدخلهَا) . وَقَالَ: لم يروه عَن هِشَام، يَعْنِي عَن ابي الزِّنَاد، إلاَّ عبد الله بن يحيى بن عُرْوَة تفرد بِهِ إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، وَلَا قَالَ أحد مِمَّن رَوَاهُ عَن أبي الزِّنَاد: ويسمي، إِلَّا هِشَام بن عُرْوَة. وَفِي (جَامع) عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ صَاحب مَالك: (حَتَّى يغسل يَده أَو يفرغ فِيهَا، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي حَيْثُ باتت يَده) . وَفِي (علل) ابْن ابي حَاتِم الرَّازِيّ: (فليغرف على يَده ثَلَاث غرفات) . وَفِي لفظ: (ثمَّ ليغترف بِيَمِينِهِ من إنائه) . وَعند الْبَيْهَقِيّ: (أَيْن باتت يَده مِنْهُ) . وَعند ابْن عدي من رِوَايَة الْحسن عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (فَإِن غمس يَده فِي الْإِنَاء قبل أَن يغسلهَا فَلْيُرِقِ ذَلِك المَاء) وَفِي سنَن الكبحي الْكَبِير: (حَتَّى يصب عَلَيْهَا صبة أَو صبتين) . وَفِي لفظ: (على مَا باتت يَده) ، وَهَذَا الحَدِيث رُوِيَ عَن جَابر وَابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُم أَيْضا. أما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل فَأَرَادَ أَن يتَوَضَّأ فَلَا يدْخل يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده وَلَا على مَا وَضعهَا) . إِسْنَاده حسن. وَأما حَدِيث ابْن عمر فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن شهَاب عَن سَالم عَن عبد الله عَن أَبِيه قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه فَلَا يدْخل يَده فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا ثَلَاث مَرَّات، فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده مِنْهُ، أَو أَيْن طافت يَده، فَقَالَ لَهُ رجل: أَرَأَيْت إِن كَانَ حوضاً؟ فَحَصَبه ابْن عمر، وَقَالَ: أخْبرك عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَتقول: ارأيت إِن كَانَ حوضاً) ؟ إِسْنَاده حسن، وَحَدِيث ابي الزبير عَن عَائِشَة مَرْفُوعا نَحوه.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (فَيجْعَل فِي انفه) تَقْدِيره: فليجعل فِي أَنفه مَاء، فَحذف: مَاء، الَّذِي هُوَ الْمَفْعُول لدلَالَة الْكَلَام عَلَيْهِ، وَهَكَذَا هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين بِحَذْف: مَاء، وَفِي رِوَايَة ابي ذَر: (فليجعل فِي أَنفه مَاء) ، بِدُونِ الْحَذف، وَكَذَا اخْتلفت رُوَاة (الْمُوَطَّأ) فِي إِسْقَاطه وَذكره، وَثَبت ذكره لمُسلم من رِوَايَة سُفْيَان عَن أبي الزِّنَاد، و: الْفَاء، فِي: (فليجعل) جَوَاب الشَّرْط، أَعنِي: إِذا. وَقَالَ بعض الشَّارِحين وَمعنى (فليجعل) : فليلق. قلت: جعل بِهَذَا الْمَعْنى لم يثبت فِي اللُّغَة، وَالْأولَى أَن يُقَال: إِنَّه بِمَعْنى: صير، كَمَا فِي قَوْلك: جعلته كَذَا، أَي: صيرته. قَوْله: (ثمَّ لينتثر) على وزن ليفتعل، من بَاب الافتعال، هَكَذَا رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (ثمَّ لينثر) ، بِسُكُون النُّون وَضم الثَّاء الْمُثَلَّثَة، من بَاب الثلاثي الْمُجَرّد، وَكَذَا جَاءَت الرِّوَايَتَانِ فِي (الْمُوَطَّأ) ، قَالَ الْفراء يُقَال الرجل وانتشر والنتشر إِذا حرك النشرة وَهِي طرف الْأنف فِي الطَّهَارَة وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مَبْسُوطا وَهَذِه الْجُمْلَة معطوفة على قَوْله: (فيلجعل) . وَقَوله: (وَمن استجمر) جملَة شَرْطِيَّة. وَقَوله: (فليوتر) جَوَاب الشَّرْط، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى. قَوْله: (وَإِذا اسْتَيْقَظَ) : الا ستيقاظ بِمَعْنى التيقظ، وَهُوَ لَازم، وَكلمَة: إِذا، للشّرط وَجَوَابه قَوْله: (فليغسل يَده) . وَقَوله: (قبل) ، نصب على الظّرْف، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (فِي وضوئِهِ) ، بِفَتْح الْوَاو، وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (قبل أَن يدخلهَا فِي الْإِنَاء) ، وَهُوَ ظرف المَاء الَّذِي يعد للْوُضُوء، وَهِي رِوَايَة مُسلم من طرق، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة: (فِي إنائه أَو وضوئِهِ) على التَّرَدُّد. قَوْله: (فَإِن أحدكُم) : الْفَاء، فِيهِ للتَّعْلِيل قَوْله: (أَيْن باتت) . كلمة: أَيْن، سُؤال عَن مَكَان، إِذا قلت: أَيْن زيد؟ فَإِنَّمَا تسْأَل عَن مَكَانَهُ، وَإِنَّمَا بني إِمَّا لتَضَمّنه معنى حرف الِاسْتِفْهَام أَو المجازاة. لِأَنَّك إِذا قلت أَيْن زيد؟ فكأنك قلت أَفِي الدَّار أم فِي السُّوق ام فِي الْمَسْجِد ام فِي غَيرهَا؟ وَإِذا قلت: أَيْن تجْلِس إجلس فَمَعْنَاه: إِن تجْلِس فِي الدَّار أَجْلِس فِيهَا، وَإِن تجْلِس فِي الْمَسْجِد أَجْلِس فِيهِ.

(3/17)


بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (إِذا تَوَضَّأ) مَعْنَاهُ: إِذا أَرَادَ أَن يتَوَضَّأ. قَوْله: (وَإِذا اسْتَيْقَظَ) عطف على قَوْله: (إِذا توضا أحدكُم) قَالَ بَعضهم: وَاقْتضى سِيَاقه أَنه حَدِيث وَاحِد وَلَيْسَ هُوَ كَذَلِك فِي (الْمُوَطَّأ) ، وَقد أخرجه أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج من الْمُوَطَّأ) رِوَايَة عبد الله بن يُوسُف شيخ البُخَارِيّ مفرقاً، وَكَذَا هُوَ فِي (موطأ يحيى بن بكير) وَغَيره، وَكَذَا فرقه الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث مَالك، وَكَذَا أخرج مُسلم الحَدِيث الأول من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد، وَالثَّانِي من طَرِيق الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن عَن ابي الزِّنَاد. انْتهى. قلت: لَا يلْزم ذَلِك كُله أَن لَا يكون الحَدِيث وَاحِدًا، وَقد يجوز أَن يروي حَدِيث وَاحِد مقطعاً من طرق مُخْتَلفَة، فَمثل ذَلِك، وَإِن كَانَ حديثين أَو أَكثر بِحَسب الظَّاهِر، فَهُوَ فِي نفس الْأَمر حَدِيث وَاحِد، وَالظَّاهِر مَعَ سِيَاق البُخَارِيّ فِي كَونه حَدِيثا وَاحِدًا. قَوْله: (قبل أَن يدخلهَا) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم وَابْن خُزَيْمَة وَغَيرهمَا من طرق مُخْتَلفَة: (فَلَا يغمس يَده فَلَا فِي الْإِنَاء حَتَّى يغسلهَا) ، وَوَقع فِي رِوَايَة الْبَزَّار: (فَلَا يعمسن) ، بنُون التأكيدة الْمُشَدّدَة، فَإِنَّهُ رَوَاهُ من حَدِيث هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (إِذا اسْتَيْقَظَ أحدكُم من مَنَامه فَلَا يغمس يَده فِي طهوره حَتَّى يفرغ عَلَيْهَا) الحَدِيث وَلم يَقع هَذَا إلاَّ فِي رِوَايَة الْبَزَّار، وَالرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا: الغمس، أبين فِي المُرَاد من الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا: الإدخال، لِأَن مُطلق الإدخال لَا يَتَرَتَّب عَلَيْهِ الْكَرَاهَة، كمن أَدخل يَده فِي إِنَاء وَاسع فاغترف مِنْهُ بِإِنَاء صَغِير من غير أَن تلامس يَده الْمسَاء. قَوْله: (فَإِن أحدكُم) قَالَ الْبَيْضَاوِيّ: فِيهِ إِيمَاء إِلَى أَن الْبَاعِث على الْأَمر بذلك احْتِمَال النَّجَاسَة، لِأَن الشَّارِع إِذا ذكر حكما وعقبه بعلة دلّ على أَن ثُبُوت الحكم لأَجلهَا، وَمثله قَوْله فِي حَدِيث الْمحرم الَّذِي سقط فَمَاتَ: (فَإِنَّهُ يبْعَث ملبياً) ، بعد نهيهم عَن تطييبه فنبه على عِلّة النَّهْي وَهِي كَونه محرما. قَوْله: (أَيْن باتت يَده) أَي: من جسده. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الشَّافِعِي: معنى (لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) أَن أهل الحجار كَانُوا يستنجون بِالْحِجَارَةِ وبلادهم حارة، فَإِذا نَام أحدهم عرق، فر يَأْمَن من النَّائِم أَن تَطوف يَده على ذَلِك الْموضع النَّجس أَو على بثرة أَو على قملة أَو قذر وَغير ذَلِك. وَقَالَ الْبَاجِيّ: مَا قَالَه يسْتَلْزم الْأَمر بِغسْل ثوب النَّائِم لجَوَاز ذَلِك عَلَيْهِ، وَأجِيب عَنهُ: بِأَنَّهُ مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ الْعرق فِي اليددون الْمحل. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الْيَد إِذا عرقت فالمحل بطرِيق الأولى على مَا لَا يخفي فَلَا وَجه حِينَئِذٍ لاخْتِصَاص الْيَد بِهِ. وَقَول من قَالَ: إِنَّه مُخْتَصّ بِالْمحل يُنَافِيهِ مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره من طَرِيق مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر عَن شُعْبَة عَن خَالِد الْحذاء عَن عبد الله بن شَقِيق عَن أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الحَدِيث، قَالَ فِي آخِره: (أَيْن باتت يَده مِنْهُ) ، وَأَصله فِي مُسلم: دون: قَوْله: (مِنْهُ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: تفرد بهَا شُعْبَة. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: تفرد بهَا مُحَمَّد بن الْوَلِيد. قلت: فِيهِ نظر لِأَن ابْن مَنْدَه ذكر هَذَا اللَّفْظ أَيْضا من حَدِيث خَالِد الْحذاء عَن عبد الله بن شَقِيق عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن غنْدر، وَمُحَمّد بن يحيى عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن شُعْبَة عَن خَالِد. قَالَ: وَمَا أراهما بمحفوظين بِهَذِهِ الزِّيَادَة إلاَّ أَن رُوَاة هَذِه الزِّيَادَة ثِقَات مقبولون، وبنحوه قَالَه الدَّارَقُطْنِيّ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا أَن الْإِنَاء يغسل من ولوغ الْكَلْب ثَلَاث مَرَّات، وَذَلِكَ لِأَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَمر الْقَائِم من اللَّيْل بإفراغ المَاء على يَده مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَذَلِكَ لأَنهم كَانُوا يَتَغَوَّطُونَ ويبولون وَلَا يستنجون بِالْمَاءِ، وَرُبمَا كَانَت أَيْديهم تصيب الْمَوَاضِع النَّجِسَة فتتنجس، فَإِذا كَانَت الطَّهَارَة تحصل بِهَذَا الْعدَد من الْبَوْل وَالْغَائِط وهما أغْلظ النَّجَاسَات، وَكَانَ أولى وَأَحْرَى أَن تحصل مِمَّا هُوَ دونهمَا من النَّجَاسَات. الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ أَصْحَابنَا على أَن غسل الْيَدَيْنِ قبل الشُّرُوع فِي الْوضُوء سنة، بَيَان ذَلِك أَن أول الحَدِيث يَقْتَضِي وجوب الْغسْل للنَّهْي عَن إِدْخَال الْيَد فِي الْإِنَاء قبل الْغسْل، وَآخره يَقْتَضِي اسْتِحْبَاب الْغسْل للتَّعْلِيل بقوله: (فَإِنَّهُ لَا يدْرِي ايْنَ باتت يَده) يَعْنِي: فِي مَكَان طَاهِر من بدنه أَو نجس، فَلَمَّا انْتَفَى الْوُجُوب لمَانع فِي التَّعْلِيل الْمَنْصُوص ثبتَتْ السّنيَّة لِأَنَّهَا دون الْوُجُوب، وَقَالَ الْخطابِيّ: الْأَمر فِيهِ أَمر اسْتِحْبَاب لَا أَمر إِيجَاب، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ قد علقه بِالشَّكِّ، وَالْأَمر المضمن بِالشَّكِّ لَا يكون وَاجِبا، وأصل المَاء الطَّهَارَة وَكَذَلِكَ بدن الانسان، وَإِذا ثبتَتْ الطَّهَارَة يَقِينا لم تزل بِأَمْر مَشْكُوك فِيهِ. قلت: مَذْهَب عَامَّة أهل الْعلم أَن ذَلِك على الِاسْتِحْبَاب، وَله أَن يغمس يَده فِي الْإِنَاء قبل غسلهَا، وَأَن المَاء طَاهِر مَا لم يتَيَقَّن نَجَاسَة يَده، وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنهُ ذَلِك عُبَيْدَة وَابْن سِيرِين وابراهيم النَّخعِيّ وَسَعِيد بن جُبَير وَسَالم والبراء بن عَازِب وَالْأَعْمَش فِيمَا ذكره البُخَارِيّ، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: قَالَ أَحْمد: إِذا انتبه من النّوم فَأدْخل يَده فِي الْإِنَاء قبل الْغسْل أعجب إِلَى أَن يريق ذَلِك المَاء إِذا كَانَ من نوم اللَّيْل، وَلَا يهراق فِي قَول

(3/18)


عَطاء وَمَالك والاوزاعي وَالشَّافِعِيّ وَأبي عُبَيْدَة، وَاخْتلفُوا فِي المستيقظ من النّوم بِالنَّهَارِ، فَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: نوم النَّهَار ونوم اللَّيْل وَاحِد فِي غمس الْيَد، وَسَهل أَحْمد فِي نوم النَّهَار، وَنهى عَن ذَلِك إِذا قَامَ من نوم اللَّيْل. قَالَ أَبُو بكر: وَغسل الْيَدَيْنِ من ابْتِدَاء الْوضُوء لَيْسَ بِفَرْض، وَذهب دَاوُد الطَّبَرِيّ إِلَى إِيجَاب ذَلِك، وَأَن المَاء يجْزِيه إِن لم تكن الْيَد مغسولة. وَقَالَ ابْن حزم: وَسَوَاء تبَاعد مَا بَين نَومه ووضوئه أَو لم يتباعد، فَلَو صب على يَدَيْهِ من إِنَاء دون أَن يدْخل يَده فِيهِ لزم غسل يَده أَيْضا ثَلَاثًا إِن قَامَ من نَومه. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: غسلهمَا عبَادَة، وَقَالَ أَشهب: خشيَة النَّجَاسَة. وَفِي (الْأَحْكَام) لِابْنِ بزيزة: اخْتلف الْفُقَهَاء فِي غسل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء، فَذهب قوم إِلَى أَن ذَلِك من سنَن الْوضُوء، وَقيل: إِنَّه مُسْتَحبّ وَبِه صدر ابْن الْجلاب فِي تفريعه، وَقيل بِإِيجَاب ذَلِك مُطلقًا وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد وَأَصْحَابه، وَقيل بإيجابه فِي نوم اللَّيْل دون نوم النَّهَار، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَقَالَ: وَهل تغسلان مجتمتعين أَو متفرقتين فَفِيهِ قَولَانِ مبنيان على اخْتِلَاف أَلْفَاظ الحَدِيث الْوَارِدَة فِي ذَلِك، فَفِي بعض الطّرق: فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِفْرَاد، وَفِي بعض طرقه: (فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ) ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْجمع. انْتهى. فان قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يَنْفِي السّنيَّة لأَنهم كَانُوا يتوضؤن من الأتوار، فَلذَلِك أَمرهم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِغسْل الْيَدَيْنِ قبل إدخالهما الْإِنَاء، وَأما فِي هَذَا الزَّمَان فقد تغير ذَلِك. قلت: السّنة لما وَقعت سنة فِي الِابْتِدَاء بقيت ودامت وَإِن لم يبْق ذَلِك الْمَعْنى، لِأَن الْأَحْكَام إِنَّمَا يحْتَاج إِلَى أَسبَابهَا حَقِيقَة فِي ابْتِدَاء وجودهَا لَا فِي بَقَائِهَا، لِأَن الْأَسْبَاب تبقى حكما وَإِن لم تبْق حَقِيقَة، لِأَن للشارع ولَايَة الإيجاد والإعدام، فَجعلت الْأَسْبَاب الشَّرْعِيَّة بِمَنْزِلَة الْجَوَاهِر فِي بَقَائِهَا حكما. وَهَذَا كالرَّمَل فِي الْحَج وَنَحْوه.
الثَّالِث: اسْتدلَّ بِإِطْلَاق قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (من نَومه) ، من غير تَقْيِيد، على أَن غمس الْيَدَيْنِ فِي إِنَاء الْوضُوء مَكْرُوه قبل غسلهمَا سَوَاء كَانَ عقيب نوم اللَّيْل أَو نوم النَّهَار، وَخص أَحْمد الْكَرَاهَة بنوم اللَّيْل لقَوْله: (أَيْن باتت يَده) ، وَالْمَبِيت لَا يكون إلاَّ لَيْلًا، وَلِأَن الْإِنْسَان لَا ينْكَشف لنوم النَّهَار كَمَا ينْكَشف لنوم اللَّيْل، لقَوْله (أَيْن باتت يَده) وَالْمَبِيت لَا يكون إِلَّا لَيْلًا فَتَطُوف يَده فِي أَطْرَاف بدنه كَمَا تَطوف يَد النَّائِم لَيْلًا، فَرُبمَا أَصَابَت مَوضِع الْعذرَة، وَقد يكون هُنَاكَ لوث من أثر النَّجَاسَة، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا فِي رِوَايَة ابي دَاوُد سَاق، أسنادها مُسلم: إِذا قَامَ أحدكُم من اللَّيْل ... وَكَذَا التِّرْمِذِيّ من وَجه آخر صَحِيح، وَفِي رِوَايَة لأبي عوَانَة سَاق مُسلم إسنادها: (اذا قَامَ أحدكُم إِلَى الْوضُوء حِين يصبح) وَأَجَابُوا بِأَن الْعلَّة تَقْتَضِي إِلْحَاق نوم النَّهَار بنوم اللَّيْل، وَتَخْصِيص نوم اللَّيْل بِالذكر للغلبة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: ومذهبنا أَن هَذَا الحكم لَيْسَ مَخْصُوصًا بِالْقيامِ من النّوم، بل الْمُعْتَبر فِيهِ الشَّك فِي نَجَاسَة الْيَد فَمَتَى شكّ فِي نجاستها يسْتَحبّ غسلهَا سَوَاء قَامَ من النّوم لَيْلًا أَو نَهَارا أَو لم يقم مِنْهُ، لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، نبه على الْعلَّة بقوله: (فَإِنَّهُ لَا يدْرِي) وَمَعْنَاهُ لَا يَأْمَن من النَّجَاسَة على يَده، وَهَذَا عَام لاحْتِمَال وجود النَّجَاسَة فِي النّوم فيهمَا، وَفِي الْيَقَظَة.
الرَّابِع: إِن قَوْله: (فِي الاناء) مَحْمُول على مَا إِذا كَانَت الْآنِية صَغِيرَة كالكوز أَو كَبِيرَة كالجب وَمَعَهُ آنِية صَغِيرَة، أما إِذا كَانَت الْآنِية كَبِيرَة وَلَيْسَت مَعَه آنِية صَغِيرَة فالنهي مَحْمُول على الإدخال على سَبِيل الْمُبَالغَة، حَتَّى لَو أَدخل أَصَابِع يَده الْيُسْرَى مَضْمُومَة فِي الاناء دون الْكَفّ، وَيرْفَع المَاء من الْجب، وَيصب على يَده الْيُمْنَى، ويدلك الْأَصَابِع بَعْضهَا بِبَعْض، فيفعل كَذَلِك مَرَّات، ثمَّ يدْخل يَده الْيُمْنَى بَالغا مَا بلغ فِي الْإِنَاء إِن شَاءَ، وهذ الَّذِي ذكره أَصْحَابنَا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما إِذا كَانَ المَاء فِي إِنَاء كَبِير بِحَيْثُ لَا يُمكن الصب مِنْهُ، وَلَيْسَ مَعَه إِنَاء صَغِير يغترف بِهِ، فطريقة أَن يَأْخُذ المَاء بِفِيهِ ثمَّ يغسل بِهِ كفيه، أَو يَأْخُذهُ بِطرف ثَوْبه النَّظِيف، أَو يَسْتَعِين بِغَيْرِهِ. قلت: لَو فَرضنَا أَنه عجز عَن أَخذه بفمه، وَلم يعْتَمد على طَهَارَة ثَوْبه، وَلم يجد من يَسْتَعِين بِهِ، مَاذَا يفعل؟ وَمَا قَالَه أَصْحَابنَا أوسع وَأحسن.
الْخَامِس: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن المَاء الْقَلِيل تُؤثر فِيهِ النَّجَاسَة، وَإِن لم تغيره، وَهَذِه حجَّة قَوِيَّة لِأَصْحَابِنَا فِي نَجَاسَة الْقلَّتَيْنِ لوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ. وَإِن لم تغيره وإلاَّ لَا يكون للنَّهْي فَائِدَة.
السَّادِس: يُسْتَفَاد مِنْهُ اسْتِحْبَاب غسل النَّجَاسَات ثَلَاثًا لِأَن إِذا مر بِهِ فِي المتوهمة فَفِي المحققة أولى، وَلم يرد شَيْء فَوق الثَّلَاث، إِلَّا فِي ولوغ الْكَلْب، وَسَيَجِيءُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى أَنه عَلَيْهِ السَّلَام أوجب فِيهِ الثَّلَاث، وخيّر فِيمَا زَاد.
السَّابِع: فِيهِ أَن النَّجَاسَة المتوهمة يسْتَحبّ فِيهَا الْغسْل، وَلَا يُؤثر فِيهَا الرش فَإِنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَمر بِالْغسْلِ وَلم يَأْمر بالرش.
الثَّامِن: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ فِي أَبْوَاب الْعِبَادَات.
التَّاسِع: إِن المَاء يَتَنَجَّس بورود النَّجَاسَة عَلَيْهِ، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع، وَأما وُرُود المَاء على النَّجَاسَة فَكَذَلِك عِنْد الشَّافِعِي. وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: وَالْفرق بَين وُرُود المَاء على النَّجَاسَة وورودها عَلَيْهِ، وَأَنَّهَا إِذا وَردت عَلَيْهِ نجسته وَإِذا ورد عَلَيْهَا أزالها، وَتَقْرِيره

(3/19)


أَنه قد نهى عَن إِدْخَال الْيَدَيْنِ فِي الْإِنَاء لاحْتِمَال النَّجَاسَة، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن وُرُود النَّجَاسَة على المَاء مُؤثر فِيهِ، وَأمر بغسلها بإفراغ المَاء عَلَيْهَا للتطهير، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن ملاقاتها المَاء على هَذَا الْوَجْه غير مُفسد بِمُجَرَّد الملاقاة، وإلاَّ لما حصل الْمَقْصُود من التَّطْهِير. قلت: سلمنَا أَن ملاقاتهما على هَذَا الْوَجْه غير مُفسد بِمُجَرَّد الملاقاة للضَّرُورَة، وَلَكِن لَا نسلم أَنه يبْقى طَاهِرا بعد أَن أَزَال النَّجَاسَة. وَقَالَ النَّوَوِيّ أَيْضا: وَفِيه دلَالَة على أَن المَاء الْقَلِيل إِذا وَردت عَلَيْهِ نَجَاسَة نجسته، وَإِن قلَّت وَلم تغيره فَإِنَّهَا تنجسه لِأَن الَّذِي تعلق بِالْيَدِ وَلَا يرى قَلِيل جدا، وَكَانَت عَادَتهم اسْتِعْمَال الْأَوَانِي الصَّغِيرَة الَّتِي تقصر عَن الْقلَّتَيْنِ، بل لَا تقاربها. وَقَالَ الْقشيرِي: وَفِيه نظر عِنْد لِأَن مُقْتَضى الحَدِيث أَن وُرُود النَّجَاسَة على المَاء يُؤثر فِيهِ، وَمُطلق التَّأْثِير أَعم من التَّأْثِير بالتنجيس، وَلَا يلْزم من ثُبُوت الْأَعَمّ ثُبُوت الْأَخَص الْمعِين، فَإِذا سلم الْخصم أَن المَاء الْقَلِيل بِوُقُوع النَّجَاسَة فِيهِ يكون مَكْرُوها فقد ثَبت مُطلق التَّأْثِير، وَلَا يلْزم ثُبُوت خُصُوص التَّأْثِير بالتنجيس.
الْعَاشِر: فِيهِ اسْتِحْبَاب اسْتِعْمَال الْكِنَايَات فِي الْمَوَاضِع الَّتِي فِيهَا استهجان، وَلِهَذَا قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (فَإِنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده) ، وَلم يقل: فَلَعَلَّ يَده وَقعت على دبره أَو ذكره أَو نَجَاسَة، وَنَحْو ذَلِك، وَإِن كَانَ هَذَا معنى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا إِذا علم أَن السَّامع يفهم بِالْكِنَايَةِ الْمَقْصُود. فَإِن لم يكن كَذَلِك فَلَا بُد من التَّصْرِيح لينتفي اللّبْس والوقوع فِي خلاف الْمَطْلُوب، وعَلى هَذَا يحمل مَا جَاءَ من ذَلِك مُصَرحًا بِهِ.
الْحَادِي عشر: إِن قَوْله (فِي الْإِنَاء) ، وَإِن كَانَ عَاما لَكِن الْقَرِينَة دلّت على أَنه إِنَاء المَاء، بِدَلِيل قَوْله فِي هَذِه الرِّوَايَة: (فِي وضوئِهِ) ، وَلَكِن الحكم لَا يخْتَلف بَينه وَبَين غَيره من الْأَشْيَاء الرّطبَة.
الثَّانِي عشر: إِن مَوضِع الِاسْتِنْجَاء لَا يطهر بِالْمَسْحِ بالأحجار، بل يبْقى نجسا معفواً عَنهُ فِي حق الصَّلَاة حَتَّى إِذا أصَاب مَوضِع الْمسْح بَلل، وابتل بِهِ سراويله أَو قَمِيصه يُنجسهُ.
الثَّالِث عشر: قَوْله: (فليغسل يَده) يتَنَاوَل مَا إِذا كَانَت يَده مُطلقَة أَو مشدودة بِشَيْء، أَو فِي جراب أَو كَانَ النَّائِم عَلَيْهِ سراويله، أَو لم يَكن لعُمُوم اللَّفْظ.
الرَّابِع عشر: إِن قَوْله: (فَإِن أحدكُم) خطاب للعقلاء الْبَالِغين الْمُسلمين، فَإِن كَانَ الْقَائِم من النّوم صَبيا أَو مَجْنُونا أَو كَافِرًا، فَذكر فِي (الْمُغنِي) أَن فِيهِ وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَنه كَالْمُسلمِ الْبَالِغ الْعَاقِل لِأَنَّهُ لَا يدْرِي أَيْن باتت يَده. وَالثَّانِي أَنه لَا يُؤثر غمسه شَيْئا، لِأَن الْمَنْع من الغمس إِنَّمَا يثبت بِالْخِطَابِ، وَلَا خطاب فِي حق هَؤُلَاءِ.
الْخَامِس عشر: فِيهِ إِضَافَة النّوم إِلَى ضمير: أحدكُم، وَذَلِكَ ليخرج نَومه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِنَّهُ تنام عينه دون قلبه.
السَّادِس عشر: قَوْله: (من نَومه) يُفِيد خُرُوج الْغَفْلَة وَنَحْوهَا.
السَّابِع عشر: اخْتلفُوا فِي أَن عِلّة الْأَمر التَّنْجِيس أَو التَّعَبُّد، فَمنهمْ من قَالَ، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: إِن ذَلِك لاحْتِمَال النَّجَاسَة وَمُقْتَضَاهُ إِلْحَاق من يشك فِي ذَلِك، وَلَو كَانَ مستيقظاً، وَمَفْهُومه أَن من درى أَيْن باتت يَده، كمن لف عَلَيْهَا خرقَة مثلا، فَاسْتَيْقَظَ وَهُوَ على حَالهَا فَلَا كَرَاهَة، وَإِن كَانَ غسلهَا مُسْتَحبا كَمَا فِي المستيقظ، وَمِنْهُم من قَالَ، وَمِنْهُم مَالك: بِأَن ذَلِك للتعبد، فعلى قَوْلهم لَا يفرق بَين شاكٍ ومتيقن.
الثَّامِن عشر: قَالَ أَبُو عمر: فِيهِ إِيجَاب الْوضُوء من النّوم.
التَّاسِع عشر: قيل: فِيهِ تَقْوِيَة من يَقُول بِالْوضُوءِ من مس الذّكر، حَكَاهُ أَبُو عوَانَة فِي صَحِيحه عَن ابْن عُيَيْنَة، وَفِيه بعد جدا.
الْعشْرُونَ: مَا قَالَه الْخفاف من الشَّافِعِيَّة: إِن الْقَلِيل من المَاء لَا يصير مُسْتَعْملا بِإِدْخَال الْيَد فِيهِ لمن أَرَادَ الْوضُوء، وَفِيه بعد أَيْضا. وَالله أعلم.

27 - (بابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى القَدَمَيْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسلم الرجلَيْن فِي الْوضُوء. قَوْله: (وَلَا يمسح على الْقَدَمَيْنِ) يَعْنِي: إِذا كَانَتَا عاريتين. قَالَ الْقشيرِي: فهم البُخَارِيّ من هَذَا الحَدِيث أَن الْقَدَمَيْنِ لَا يمسحان بل يغسلان، وَهُوَ عِنْدِي غير جيد، لِأَنَّهُ مُفَسّر فِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: إِن الاعقاب كَانَت تلوح لم يَمَسهَا المَاء، وَلَا شكّ أَن هَذَا مُوجب للوعيد بالِاتِّفَاقِ، وَالَّذين استدلوا على أَن الْمسْح غير مجزىء إِنَّمَا اعتبروا لَفظه فَقَط، فقد رتب الْوَعيد على مُسَمّى الْمسْح وَلَيْسَ فِيهَا ترك بعض الْوضُوء، وَالصَّوَاب إِذا جمعت الطّرق أَن يسْتَدلّ بِبَعْضِهَا على بعض، وَيجمع مَا يُمكن جمعه فِيهِ ليظْهر المُرَاد، وَلَو إستدل فِي غسل الرجلَيْن بِحَدِيث: (إِذا تَوَضَّأ الْمُسلم فَغسل رجلَيْهِ خرجت كل خَطِيئَة بطشت بهَا رِجْلَاهُ) . فَهَذَا يدل على أَن الرجل فَرضهَا الْغسْل لِأَنَّهُ لَو كَانَ فَرضهَا الْمسْح لم يكن فِي غسلهَا ثَوَاب. أَلا ترى أَن الرَّأْس الَّذِي فَرضهَا الْمسْح لَا ثَوَاب فِي غسلهَا؟ قلت: لَا دخل فِي ذَلِك على البُخَارِيّ، لِأَنَّهُ فهم مِنْهُ أَن

(3/20)


الْإِنْكَار عَلَيْهِم إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب الْمسْح لَا بِسَبَب الِاقْتِصَار على غسل بعض الرجل، فلأجل ذَلِك قَالَ: (وَلَا يمسح على الْقَدَمَيْنِ) .
فان قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: قد مر أَن الْبَاب السَّابِق ذكر عقيب الَّذِي قبله للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَيكون هَذَا الْبَاب فِي الْحَقِيقَة يَتْلُو الْبَاب الَّذِي قبله، والمناسبة بَينهمَا ظَاهِرَة لِأَن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْوضُوء.

163 - حدّثنا مُوسَى قالَ حَدثنَا أبُو عَوَانَةَ عَنْ أبي بِشْرٍ عَنْ يُوسفَ بن ماهِكَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عَمْرٍ وقالَ تَخَلَّفَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَنَّا فِي سَفْرَةٍ سَافَرْنَاهَا فَادْرَكَنَا وَقَدْ أرْهَقَنَا العَصْرُ فَجَعلْنا نَتَوَضَّأُ وَنَمْسَحُ عَلَى أرْجُلنَا فَنَادَي بِأعْلَى صَوْتِهِ وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثاً.
(انْظُر الحَدِيث: 60 وطرفه)
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة تفهم من إِنْكَار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسحهم على أَرجُلهم، لِأَنَّهُ مَا أنكر عَلَيْهِم بالوعيد إلاَّ لكَوْنهم لم يستوفوا غسل الرجلَيْن.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، قد ذكرُوا كلهم، ومُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي قد مر فِي بَاب من قَالَ الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، وَأَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: هُوَ الوضاح الْيَشْكُرِي، وَأَبُو بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: جَعْفَر بن أبي وحشية الوَاسِطِيّ، وماهك رُوِيَ بِكَسْر الْهَاء وَفتحهَا منصرفاً، وَعبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ الْقرشِي، وَهَذَا الْإِسْنَاد والْحَدِيث بعينهما قد تقدما فِي بَاب: من رفع صَوته بِالْعلمِ، وَفِي بَاب: من أعَاد الحَدِيث ثَلَاثًا فِي كتاب الْعلم بِلَا تفَاوت بَينه وَبَينهمَا إلاَّ فِي الرَّاوِي الأول، فَإِنَّهُ مُوسَى هَهُنَا. وثمة فِي الْبَاب الأول: ابو النُّعْمَان. وَفِي الْبَاب الثَّانِي: مُسَدّد.
وَقد ذكرنَا فِي بَاب: من رفع صَوته بِالْعلمِ، لطائف إِسْنَاده، وتعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره، وَبَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب والمعاني، وَبَيَان وَجه الاستنباط، فَنَذْكُر هَهُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ.
قَوْله (سافرناها) هُوَ رِوَايَة كَرِيمَة وَلَيْسَ هُوَ بِثَابِت فِي رِوَايَة غَيره، وَظَاهره أَن عبد الله بن عَمْرو كَانَ فِي تِلْكَ السفرة، وَوَقع فِي رِوَايَة لمُسلم: أَنَّهَا كَانَت من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة، وَلم يَقع ذَلِك لعبد الله محققاً إلاَّ فِي حجَّة الْوَدَاع. أما غَزْوَة الْفَتْح فقد كَانَ فِيهَا، لَكِن مَا رَجَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا إِلَى الْمَدِينَة بل من مَكَّة من الْجِعِرَّانَة، وَيحْتَمل أَن تكون عمْرَة القاضاء، فإنن هِجْرَة عبد الله بن عَمْرو كَانَت فِي ذَلِك الْوَقْت اَوْ قَرِيبا مِنْهُ. قَوْله: (فَأَدْرَكنَا) ، بِفَتْح الْكَاف أَي: لحق بِنَا رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وَقد أَرْهقنَا الْعَصْر) بِفَتْح الْهَاء وَالْقَاف: من الإرهاق، وَالْعصر مَرْفُوع بِهِ لِأَنَّهُ فَاعل، هَكَذَا رِوَايَة ابي ذَر. وَفِي روايةٍ بِإِسْكَان الْقَاف وَنصب الْعَصْر على المفعولية، وَيُقَوِّي الأول رِوَايَة الْأصيلِيّ: (وَقد أرهقتنا) بتأنيث الْفِعْل وبرفع الصَّلَاة على الفاعلية. قَوْله: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) قد قُلْنَا: إِن ويل، مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَإِن كَانَ نكرَة لِأَنَّهُ دُعَاء، وَاخْتلف فِي مَعْنَاهُ على أَقْوَال أظهرها مَا رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث ابي سعيد مَرْفُوعا: (ويل وَاد فِي جَهَنَّم) . وَالْألف وَاللَّام فِي: الأعقاب، للْعهد لِأَن المُرَاد المرئية من ذَلِك، وَهَذَا حجَّة على من يتَمَسَّك بِهِ فِي إِجْزَاء الْمسْح، لِأَنَّهُ لم يُوجب مسح الْعقب. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لما أخرهم بتعميم غسل الرجلَيْن حَتَّى لَا يبْقى مِنْهَا لمْعَة دلّ على أَن فَرضهَا الْغسْل، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن الْمُنِير بِأَن التَّعْمِيم لَا يسْتَلْزم الْغسْل، فالرأس تعم بِالْمَسْحِ وَلَيْسَ فَرضهَا الْغسْل. قلت: هَذَا لَا يرد عَلَيْهِ أصلا، لِأَن كَلَامه فِيمَا يغسل، فَأمره بالتعميم يدل على فَرِيضَة الْغسْل فِي المغسول، وَالرَّأْس لَيْسَ بمغسول. فَافْهَم.
وَقد تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار عَن النّبي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي صفة وضوئِهِ أَنه غسل رجلَيْهِ، وَهُوَ الْمُبين لأمر الله تَعَالَى، وَقد قَالَ فِي حَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَغَيره مطولا فِي فضل الْوضُوء: (ثمَّ يغسل قدمية كَمَا أمره الله تَعَالَى) ، وَلم يثبت عَن أحد من الصَّحَابَة خلاف ذَلِك إِلَّا عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وانس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقد ثَبت عَنْهُم الرُّجُوع عَن ذَلِك، وروى سعيد بن مَنْصُور عَن عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى أَنه قَالَ: اجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على غسل الْقَدَمَيْنِ. وَالله أعلم.

28 - (بابُ المَضْمَضَةِ فِي الوُضُوءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْمَضْمَضَة فِي الْوضُوء.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْوضُوء.
قالَهُ ابنُ عَبَّاسٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُمْ عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

هَذَا تَعْلِيق مِنْهُ، وَلكنه أخرج حَدِيث ابْن عَبَّاس مَوْصُولا فِي بَاب غسل الوجب باليدين، وَكَذَا حَدِيث عبد الله بن

(3/21)


زيد بن عَاصِم. أخرجه مَوْصُولا فِي بَاب غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ على مَا يَأْتِي عَن قريب. فَإِن قلت: إِلَى مَا يرجع الضَّمِير فِي: قَالَه؟ قلت: يرجع إِلَى الْمَضْمَضَة، وَهُوَ فِي الأَصْل مصدر يَسْتَوِي فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث، أَو يكون تذكير الضَّمِير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور. فان قلت: مقول القَوْل يَنْبَغِي أَن يكون جملَة، وَهَهُنَا مُفْرد. قلت: القَوْل هَهُنَا بِمَعْنى الْحِكَايَة كَمَا فِي: قلت شعرًا، وَقلت قصيدة، وَالْمعْنَى حَكَاهُ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِير بِقَوْلِك: أَي قَالَ بالمضمضة ابْن عَبَّاس، كَمَا ذهب إِلَيْهِ الْكرْمَانِي. فَافْهَم.

164 - حدّثنا أبُو اليَمَانِ قالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عَطَاءُ بنُ يَزِيدَ عَنْ حُمْرَانَ مَوْلى عُثْمان بن عَفَّانَ أنَّهُ رَأَى عُثْمانَ دَعَا بِوَضُوءِ فَأَفْرغَ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ إنَائِهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَمِينَهُ فِي الوَضُوءِ ثُمَّ تمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَر ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً وَيَدَيْهِ إلَى المِرْفَقَيْنِ ثَلاثاً ثُمَّ مَسَحَ بِرَأسِهِ ثُمَّ غَسَلَ كُلَّ رِجْلٍ ثَلاثاً ثُمَّ قالَ رَأيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّأْ نَحْوَ وُضُوئِي هَذَا وقالَ مَنْ تَوَضَّأَ نَحْوَ وُضُوئِي هَذا ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ لاَ يُحَدِّثُ فيهِمَا نَفْسَهُ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذنْبِهِ.
(انْظُر الحَدِيث: 159 واطرافه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ تمضمض) .
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب بن ابي حَمْزَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عَطاء بن يزِيد، من الزِّيَادَة. الْخَامِس: حمْرَان بن أبان، وَالْكل قد ذكرُوا.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار بِصِيغَة الْجمع والإفراد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة حمصي عَن حمصي، وهما الْأَوَّلَانِ، والبقية مدنيون.
وَبَقِيَّة الْكَلَام سلفت فِي بَاب: الْوضُوء ثَلَاثًا ثَلَاثًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَا تفَاوت بَينهمَا، أَي: بَين الْحَدِيثين إلاَّ بِزِيَادَة لفظ: (واستنشق) هَهُنَا، وَزِيَادَة: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتوضؤ نَحْو وضوئي هَذَا) قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل التَّفَاوُت بَينهمَا فِي غير مَا ذكره أَيْضا، فَإِن هُنَاكَ: (دَعَا بِإِنَاء) وَهَهُنَا: (دَعَا بِوضُوء) . وَهن فأفرغ على كفيه ثَلَاث مرَارًا وَهَهُنَا فافرغ عَليّ يَدَيْهِ من إنائه وَهُنَاكَ فغسلهما ثمَّ ادخلهما وَهَهُنَا فغسلهما ثَلَاث مَرَّات) وَهُنَاكَ: (ثمَّ أَدخل يَمِينه فِي الْإِنَاء) . وَهنا: (فِي الْوضُوء) ، وَهُنَاكَ: (فَمَضْمض) ، وَهَهُنَا: (ثمَّ تمضمض) وَهُنَاكَ: (ثمَّ غسل رجلَيْهِ) ، وَهَهُنَا. (ثمَّ غسل كل رجل) ، وَهَذِه رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ والكشميهني: (ثمَّ غسل كل رجل) ، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: (كلتا رجلَيْهِ) . وَهِي الرِّوَايَة الَّتِي اعتمدها صَاحب (الْعُمْدَة) وَفِي نُسْخَة: (كل رجلَيْهِ) ، وَالْكل يرجع إِلَى معنى وَاحِد، غير أَن رِوَايَة: (كل رجله) ، تفِيد تَعْمِيم كل رجل بِالْغسْلِ. قَوْله: (غفر الله لَهُ) ، هَذِه رِوَايَة، الْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيره: (غفر لَهُ) ، على بِنَاء الْمَجْهُول، وَزَاد مُسلم فِي رِوَايَة يُونُس فِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ الزُّهْرِيّ: (كَانَ عُلَمَاؤُنَا يَقُولُونَ: هَذَا الْوضُوء اسبغ مَا يتَوَضَّأ بِهِ أحد للصَّلَاة) .

29 - (بابُ غَسْلِ الاَعْقَابِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان غسل الأعقاب، وَهِي جمع عقب، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف مِثَال: كبد، وَهُوَ الْعظم الْمُتَأَخر الَّذِي يمسك مُؤخر شِرَاك النَّعْل، وَقد مر تَحْقِيق الْكَلَام فِيهِ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، وَهِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا فِي حكم من أَحْكَام الْوضُوء.
وَكانَ ابنُ سِيرينَ يَغْسِلُ مَوْضِعَ الخَاتَمِ إذَا تَوَضَّأَ
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع: الأول: أَن هَذَا تَعْلِيق أخرجه ابْن شيبَة فِي (مُصَنفه) بِسَنَد صَحِيح مَوْصُولا عَن هشيم عَن خَالِد عَن ابْن سِيرِين، وَكَذَا أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي (التَّارِيخ) عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن مهْدي بن مَيْمُون عَنهُ: (أَنه كَانَ إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه) . فَإِن قيل: رُوِيَ عَن ابْن سِيرِين أَنه أدَار الْخَاتم فِي إصبعه: قيل: لَعَلَّ ذَلِك حَالَة أُخْرَى

(3/22)


لَهُ كَانَ وَاسِعًا يدْخل المَاء برقته إِلَيْهِ.
الثَّانِي: مَذَاهِب الْعلمَاء فِيهِ، فَقَالَ أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة: تَحْرِيك الْخَاتم الضّيق من سنَن الْوضُوء لِأَنَّهُ فِي معنى تَخْلِيل الْأَصَابِع، وَإِن كَانَ وَاسِعًا لَا يحْتَاج إِلَى تَحْرِيك، وَبِهَذَا التَّفْصِيل قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه أَقُول. قَالَ: وَكَانَ ابْن سِيرِين وَعَمْرو بن دِينَار وَعُرْوَة وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن وَابْن عُيَيْنَة وَأَبُو ثَوْر يحركونه فِي الْوضُوء. قلت: ذكر فِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة هَكَذَا: عَن أبي تَمِيم الجيشاني وَعبد الله بن هُبَيْرَة السبائي وَمَيْمُون ابْن مهْرَان، وَكَانَ حَمَّاد يَقُول فِي الْخَاتم: أزاله. قَالَ ابْن الْمُنْذر خص فِيهِ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ، وَرُوِيَ ذَلِك عَن سَالم، وَقد روى ابْن مَاجَه حَدِيثا فِيهِ ضعف عَن أبي رَافع: (كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: والاعتماد فِي هَذَا الْبَاب على أَن الْأَثر عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه كَانَ إِذا تَوَضَّأ حرك خَاتمه) . وَحكي أَيْضا عَن ابْن عمر وَعَائِشَة بنت سعد بن أبي وَقاص، وَفِي (غَرِيب الحَدِيث) لِابْنِ قُتَيْبَة من طَرِيق ابْن لَهِيعَة عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لرجل يتَوَضَّأ: عَلَيْك بالمنشلة، قَالَ: يَعْنِي مَوضِع الْخَاتم من الإصبع. قلت: المنشلة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح الشين الْمُعْجَمَة وَاللَّام.
الثَّالِث: قَوْله: (وَكَانَ ابْن سِيرِين) ، الْوَاو فِيهِ للاستفتاح، وَابْن سِيرِين: هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين من أكَابِر التَّابِعين، وَهُوَ كَلَام إضافي إسم: كَانَ. وَقَوله: (يغسل مَوضِع الْخَاتم) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ. فان قلت: كَانَ للماضي، وَيغسل: للمضارع، فَكيف يَجْتَمِعَانِ؟ قلت: يغسل للاستمرار أَو لحكاية حَال الْمَاضِي على سَبِيل الاستحضار. قَوْله: (اذا تَوَضَّأ) ، يجوز أَن تكون إِذا، للشّرط، وَأَن تكون للظرف. فَقَوله: كَانَ جَزَاء الشَّرْط: إِذا، كَانَ: إِذا للشّرط، وَهُوَ الْعَامِل فِيهِ إِذا كَانَ للظرف، وَيجوز أَن يكون قَوْله: يغسل، وَالْأول أوجه.
الرَّابِع: وَجه دُخُول هَذَا فِي هَذَا الْبَاب من حَيْثُ إِنَّه يحْتَمل أَن يكون أَرَادَ بذلك أَنه لَو أدَار الْخَاتم وَهُوَ فِي إصبعه لَكَانَ ذَلِك بِمَنْزِلَة الْمَمْسُوح، وَفرض الْأصْبع الْغسْل فقاس الْمسْح، فِي الْأصْبع على مسح الرجلينن فَإِنَّهُ قد فهم من الحَدِيث الْمسْح على مَا مر وَبَوَّبَ عَلَيْهِ كَمَا سلف.

165 - حدّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا مُحمَّدُ بنُ زِيادٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ وَكانَ يَمُرُّ بِنَا والنَّاسُ يَتَوَضَّؤُنَ مِنَ المِطْهَرَةِ قالَ أَسْبِغُوا الوُضُوءَ فَانَّ أبَا القاسِمِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَيْلٌ لِلأَعْقَابِ مِنَ النَّار.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ويل لِلْأَعْقَابِ من النَّار) .
بَيَان رِجَاله وهم اربعة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس، بِكَسْر الْهمزَة وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد تقدم. الثَّالِث: مُحَمَّد بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: أَبُو الْحَارِث الجُمَحِي الْمدنِي الأَصْل، سكن الْبَصْرَة، مولى عُثْمَان بن مَظْعُون، بالظاء الْمُعْجَمَة: تَابِعِيّ ثِقَة روى لَهُ الْجَمَاعَة. الرَّابِع: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين خراساني وبصري ومدني.
بَيَان من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب، ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع عَن شُعْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن قُتَيْبَة عَن يزِيد بن زُرَيْع، وَعَن مُؤَمل بن هِشَام عَن إِسْمَاعِيل ابْن علية، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع عَن شُعْبَة.
بَيَان اللُّغَات: قَوْله: (المطهرة) بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا: الأداوة، وَالْفَتْح أَعلَى، وَيجمع على: مظَاهر. وَفِي الحَدِيث: (السِّوَاك مطهرة للفم مرضاة للرب) . قَوْله: (أَسْبغُوا الْوضُوء) من الإسباغ وَهُوَ: إبلاغه موَاضعه وإيفاء كل عُضْو حَقه، والتركيب يدل على تَمام الشَّيْء وكماله. قَوْله: (لِلْأَعْقَابِ) جمع عقب، وَقد مر تَفْسِيره مُسْتَوفى.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (وَكَانَ يمر بِنَا) جملَة وَقعت حَالا من مفعول: سَمِعت، وَهُوَ قَوْله: (أَبَا هُرَيْرَة) ، وَالضَّمِير فِي: كَانَ، يرجع إِلَيْهِ وَهُوَ اسْمه. وَقَوله: (يمر بِنَا) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر لَهُ. قَوْله: (وَالنَّاس) مُبْتَدأ و: (يتوضؤن) خَبره، وَالْجُمْلَة حَال من فَاعل: كَانَ، وَهُوَ إِمَّا من الْأَحْوَال المتداخلة وَأما من الْأَحْوَال المترادفة. قَوْله: (فَقَالَ) إِلَى آخِره، قَائِله أَبُو هُرَيْرَة، ويروي: قَالَ، بِدُونِ: الْفَاء فَإِن

(3/23)


قلت: مَا وَجه اعرابه على الْوَجْهَيْنِ؟ قلت: وَجه وجود: الْفَاء، أَن تكون: الْفَاء تفسيرية لِأَنَّهَا تفسر: قَالَ، المحذوفة بعد قَوْله: أَبَا هُرَيْرَة، لَان تَقْدِير الْكَلَام: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: وَكَانَ يمر بِنَا ... إِلَى آخِره، وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِك لِأَن: أَبَا هُرَيْرَة، مفعول: سَمِعت. وَشرط وُقُوع الذَّات مفعول فعل السماع أَن يكون مُقَيّدا بالْقَوْل، وَنَحْوه كَقَوْلِه تَعَالَى {سمعنَا منادياً يُنَادي} (آل عمرَان: 193) وَوجه عدم: الْفَاء، أَن يكون: قَالَ، حَالا من ابي هُرَيْرَة، وَالتَّقْدِير: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة حَال كَونه قَائِلا: أَسْبغُوا الْوضُوء. قَوْله: (فَإِن أَبَا الْقَاسِم) ، الْفَاء: للتَّعْلِيل، و: أَبُو الْقَاسِم، كنية رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قَالَ) جملَة فِي مَحل الرّفْع على أَنَّهَا خبر: أَن قَوْله: (ويل للاعقاب من النَّار) مقول القَوْل، وَإِعْرَابه مر غير مرّة مَعَ سَائِر أبحاثه.

30 - (بابُ غَسْلِ الرِّجْليْنِ فِي النَّعْلَيْنِ ولاَ يَمْسَحُ عَلَى النَّعْلَيْنِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الرجلَيْن حَال كَونهمَا فِي النَّعْلَيْنِ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، وَهِي: أَن كلا مِنْهُمَا فِي بَيَان حكم غسل الرجلَيْن حَال كَونهمَا فِي النَّعْلَيْنِ، لِأَن الْبَاب الأول فِي غسل الأعقاب وَهِي من الرجلَيْن.

166 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا مالكٌ عَنْ سَعِيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ بنِ جُرَيّحٍ أنَّهُ قالَ لعْبدِ الله بنِ عُمَرَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ رَأيْتُكَ تَصْنَعُ أرْبَعاً لَمْ أرَ أحَداً منْ أصْحَابِكَ يَصْنَعُهَا قالَ وَمَا هِي يَا ابنَ جُرَيْجٍ قالَ رَأيْتُكَ لاَ تَمَسُّ مِنَ الاَرْكانِ إلاَّ اليَمَانِيَيْنِ وَرَأيْتُكَ تَلْبَسُ النِّعَالَ السِّبْتِيَّةَ وَرَأيْتُكَ تَصْبُغُ بالصُّفْرَةِ وَرَأيْتُكَ إذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أهَلَّ النَّاسُ إذَا رَأَوُا الهِلاَلَ وَلَمْ تُهِلَّ أنْتَ حَتَّى كَانَ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ قالَ عَبْدُ اللَّهِ أمَّ الاَرْكانُ فَانِيِّ لَمْ أرَ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمَسُّ إلاَّ اليَمَانِيَيْنِ وَأمَّا النِّعَالُ السِّبْتِيَّةُ فَانِّي رَأيْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَلْبَسُ النَّعْلَ الَّتِي لَيْسَ فِيها شَعَرٌ ويَتَوَضَّأُ فِيها فانَا أُحبُّ أنْ أَلْبَسَهَا وأمّا الصُّفْرَةُ فانِّي رَأَيْتُ رسولَ الله عَلَيْهِ وَسلم يَصْبُغُ بِها فَأَنا أُحِبُّ أَنْ أَصْبُغَ بِها وأمَّا الاِهْلالُ فِانِّي لَمْ أَرَ رسولَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بهِ راحِلَتُهُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَيتَوَضَّأ فِيهَا) فَإِن ظَاهره كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يغسل رجلَيْهِ وهما فِي نَعْلَيْنِ، لِأَن قَوْله: فِيهَا، أَي: فِي النِّعَال ظرف لقَوْله: يتَوَضَّأ، وَبِهَذَا يرد على من زعم لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي ذكره تَصْرِيح بذلك، وَإِنَّمَا هُوَ من قَوْله: (يتَوَضَّأ فِيهَا) ، لِأَن الأَصْل فِي الْوضُوء الْغسْل. قلت: مَا يُرِيد هَذَا من التَّصْرِيح أقوى من هَذَا، وَقَوله: وَلِأَن: فِيهَا، يدل على الْغسْل، وَلَو أُرِيد الْمسْح لقَالَ: عَلَيْهَا. وَهَذَا التَّعْلِيل يرد عَلَيْهِ قَوْله: لَيْسَ فِي الحَدِيث الَّذِي ذكره تَصْرِيح بذلك، وَهَذَا من الْعَجَائِب حَيْثُ ادّعى عدم التَّصْرِيح، ثمَّ أَقَامَ دَلِيلا عَلَيْهِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِيمَا ذكره البُخَارِيّ فِي النَّعْلَيْنِ وَالْوُضُوء فيهمَا نظر. قلت: وَفِي نظره نظر، وَوَجهه مَا قَرَّرْنَاهُ الْآن. قَوْله: (وَلَا يمسح على النَّعْلَيْنِ) أَشَارَ بذلك إِلَى نفي مَا رُوِيَ عَن عَليّ وَغَيره من الصَّحَابَة أَنهم مسحوا على نعَالهمْ ثمَّ صلوا. وَرُوِيَ فِي ذَلِك حَدِيث مَرْفُوع أخرجه أَبُو دَاوُد من حَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة فِي الْوضُوء، لَكِن ضعفه عبد الرَّحْمَن بن مهْدي وَغَيره، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ إِذا تَوَضَّأ ونعلاه فِي قدمية مسح ظُهُور نَعْلَيْه بيدَيْهِ، وَيَقُول: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصنع هَكَذَا، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالْبَزَّار، وَرُوِيَ فِي حَدِيث رَوَاهُ عَليّ بن يحيى بن خَلاد عَن أَبِيه عَن عَمه رِفَاعَة بن رَافع: (أَنه كَانَ جَالِسا عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ، وَفِيه: (وَمسح بِرَأْسِهِ وَرجلَيْهِ) ، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) . وَالْجَوَاب عَن حَدِيث ابْن عمر: أَنه كَانَ فِي وضوء مُتَطَوّع بِهِ لَا فِي وضوء وَاجِب عَلَيْهِ، وَعَن حَدِيث رِفَاعَة: أَن المُرَاد أَنه مسح بِرَأْسِهِ وخفيه على رجلَيْهِ، وَاسْتدلَّ الطَّحَاوِيّ على عدم الْإِجْزَاء بِالْإِجْمَاع على أَن الْخُفَّيْنِ إِذا تخرقا حَتَّى يَبْدُو القدمان، أَن الْمسْح لَا يجزىء عَلَيْهِمَا، قَالَ: فَكَذَلِك النَّعْلَانِ لِأَنَّهُمَا لَا يغيبان

(3/24)


الْقَدَمَيْنِ. قَالَ بَعضهم: هَذَا اسْتِدْلَال صَحِيح، وَلكنه مُنَازع فِي نقل الْإِجْمَاع الْمَذْكُور. وَقلت: غير مُنَازع فِيهِ لِأَن مَذْهَب الْجُمْهُور أَن مُخَالفَة الْأَقَل لَا تضر الْإِجْمَاع، وَلَا يشْتَرط فِيهِ عدد التَّوَاتُر عِنْد الْجُمْهُور. وَرُوِيَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا فَهد قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد ابْن سعيد، قَالَ: حَدثنَا عبد السَّلَام عَن عبد الْملك، قَالَ: قلت لعطاء: أَبلَغك عَن أحد من أَصْحَاب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام انه مسح على الْقَدَمَيْنِ؟ قَالَ: لَا.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، كلهم ذكرُوا مَا خلا عبيد بن جريج، كِلَاهُمَا مصغر والجرج: وعَاء يشبه الخرج وَهُوَ مدنِي ثِقَة مولى ابْن تَمِيم، وَلَيْسَ بَينه وَبَين عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج نسب، وَقد يظنّ أَن هَذَا عَمه، وَلَيْسَ كَذَلِك.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَنهم كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الأقران، لِأَن عبيدا وسعيداً تابعيان من طبقَة وَاحِدَة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي اللبَاس عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه مُسلم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك. وَأَبُو دَاوُد فِي الْحَج. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي شمائله. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة، وَابْن مَاجَه فِي اللبَاس، فالنسائي عَن كريب عَن ابْن إِدْرِيس عَن مَالك، وَابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن ابي شيبَة.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لَا تمس) من: مسست أمس بِكَسْر الْمَاضِي وَفتح الْمُسْتَقْبل مساً ومسيساً، وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ ثَعْلَب فِي مسست أمس بِكَسْر الْمَاضِي فِي الفصيح، وَفِي (الصِّحَاح) و (أَفعَال) ابْن القطاع عَن أبي عُبَيْدَة، والمطرزي فِي شَرحه عَن ابْن الْأَعرَابِي، وَابْن فَارس فِي (مجمله) وَابْن السّكيت فِي (كتاب الْإِصْلَاح) : مسست بِالْكَسْرِ، ومسست بِالْفَتْح، وبالكسر أفْصح. وَحَكَاهُ أَيْضا ابْن سَيّده، وَحكي أَيْضا عَن ابْن جني: أمسه إِيَّاه، عداهُ إِلَى مفعولين. وَعَن سِيبَوَيْهٍ، قَالُوا: مسست الشَّيْء، وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: ماسسته أَيْضا مماسة ومساساً ومساساً، بِكَسْر الْمِيم وَفتحهَا وَفِي (نَوَادِر) يُونُس: ماسسته. وَزعم ابْن درسْتوَيْه فِي كتاب (تَصْحِيح الفصيح) ، أَن: مسست، بِالْفَتْح خطأ مِمَّا تلحن فِيهِ الْعَامَّة. قَوْله: (اليمانيين) ، تَثْنِيَة: يمَان بتَخْفِيف الْيَاء، هَذَا هُوَ الْأَفْصَح الَّذِي اخْتَارَهُ ثَعْلَب، وَلم يذكر ابْن فَارس غَيره، وَذكر المطرزي فِي كِتَابه (غرائب أَسمَاء الشّعْر) ، عَن ثَعْلَب عَن سَلمَة عَن الْفراء عَن الْكسَائي، قَالَ: الْعَرَب تَقول فِي النِّسْبَة إِلَى الْيمن: رجل يمَان ويمني ويماني، وَفِي (الْكتاب الْجَامِع) : النِّسْبَة إِلَى الْيمن: يمَان على غير قِيَاس، وَالْقِيَاس يمني. وَفِي (الْمُحكم) : يمَان على نَادِر المعدول، وألفه عوض عَن الْيَاء لِأَنَّهُ يدل على مَا تدل عَلَيْهِ الْيَاء، وبنحوه ذكره فِي (الْمغرب) . وَفِي (الصِّحَاح) قَالَ سِيبَوَيْهٍ: وَبَعْضهمْ يَقُول: يماني، بِالتَّشْدِيدِ، قَالَ أُميَّة بن خلف:
(يَمَانِيا بَطل يشد كيراً ... وينفخ دَائِما لَهب الشواظ)

وَقوم يَمَانِية ويمانون مثل: ثَمَانِيَة وَثَمَانُونَ، وَفِي كتاب (التيجان) لِابْنِ هِشَام: سميت الْيمن يمناً بيعرب، واسْمه: يمن بن قحطان ابْن عَامر، وَهُوَ: هود، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلذَلِك قيل: أَرض يمن، وَهُوَ أول من قَالَ الشّعْر ووزنه، وَفِي (مُعْجم) ابْن عبيد: سمي الْيمن قبل أَن تعرف الْكَعْبَة المشرفة، لِأَنَّهُ عَن يَمِين الشَّمْس، وَقَالَ ابو عبيد: قَالَ بَعضهم: سميت بذلك لِأَنَّهَا عَن يَمِين الْكَعْبَة. وَقيل: سميت بيمن بن قحطان، وَفِي (الزَّاهِر) لِابْنِ الانباري: وَقد أَيمن ويامن إِذا اتى الْيمن. وَفِي كتاب الرشاطي: سمي الْيمن ليمنه، وَهُوَ يعزى لقطرب. قَوْله: (السبتية) نشبة إِلَى: سبت، بِكَسْر السِّين وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره تَاء مثناة من فَوق: وَهُوَ جلد الْبَقر المدبوغ بالقرظ. وَقَالَ ابو عمر: وكل مدبوغ فَهُوَ سبت. وَقَالَ ابو زيد: هِيَ السبت مدبوغة وَغير مدبوغة. وَقيل السبتية الَّتِي تشعر عَلَيْهَا وَقيل الَّتِي عَلَيْهَا الشّعْر وَفِي الحكم خص بَعضهم بِهِ جُلُود الْبَقر مدبوغة أَو غير مدبوغة وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري: إِنَّمَا سميت سبتية لِأَن شعرهَا قد سبت عَنْهَا، أَي: خلق وأزيل. يُقَال: سبت رَأسه إِذا حلقه. وَفِي (النَّبَات) لأبي حنيفَة: السبت مُعرب من سبت. وَفِي (الغريبين) : سميت سبتة لِأَنَّهَا انسبتت بالدباغ اي لانت وَفِي كتاب ابْن التِّين عَن الدَّاودِيّ: نسبته إِلَى سوق السبت، وَقيل: هِيَ سود لَا شعر فِيهَا. قَوْله: (أهلَّ) من الإهلال. وَهُوَ رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. وَفِي (الْمغرب) : كل شَيْء ارْتَفع صَوته فقد اسْتهلّ. وَقَالَ ابو الْخطاب: كل مُتَكَلم رَافع الصَّوْت أَو خافضه فَهُوَ مهل ومستهل. وَقَالَ صَاحب (الْعين) يُقَال: أهل بِعُمْرَة أَو بِحجَّة اي أحرم بهَا، وَجرى على ألسنتهم لأَنهم أَكثر مَا كَانُوا يحجون إِذا أهل الْهلَال، وإهلال الْهلَال واستهلاله رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ عِنْد رُؤْيَته، واستهلال الصَّبِي: تصويته عِنْد وِلَادَته، وَأهل الْهلَال: إِذا طلع، وَأهل واستهل: إِذا أبْصر، وأهللته: إِذا أبصرته.

(3/25)


واما الْإِعْرَاب فَقَوله: (رَأَيْتُك) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول. وَقَوله: (تصنع) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على انها مفعول ثَان (وأربعا) مفعول: تصنع، وَكَذَلِكَ الْكَلَام فِي: رَأَيْتُك، الثَّانِي وَالثَّالِث. وَأما: رَأَيْتُك، وَالْخَامِس فَإِنَّهُ يحْتَمل أَن يكون بِمَعْنى الإبصار، وَبِمَعْنى الْعلم وَقَوله: (كنت) ، يحْتَمل أَن تكون تَامَّة أَو نَاقِصَة، و: (بِمَكَّة) ظرف لَغْو أَو مُسْتَقر. وَقَوله: (إِذا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ يحْتَمل أَن تَكُونَا شرطيتين وَأَن تَكُونَا ظرفيتين، وَأَن تكون الأولى شَرْطِيَّة وَالثَّانيَِة ظرفية وَبِالْعَكْسِ. قَوْله: (أهل) يجوز أَن يكون حَالا، قَالَه الْكرْمَانِي، وَلم يبين وَجهه، وَلَيْسَ هُوَ إلاَّ جَزَاء إِذا الأول، وَإِذا الثَّانِي مُفَسّر لَهُ، وَيجوز أَن يكون: أهل، جَزَاء إِذا الثَّانِي على مَذْهَب الْكُوفِيّين لأَنهم جوزوا تَقْدِيمه على الشَّرْط. قَوْله: (حَتَّى يكون يَوْم التَّرويَة) يجوز فِي: كَانَ، أَن تكون تَامَّة وَأَن تكون نَاقِصَة، فَإِن كَانَت تَامَّة يكون يَوْم، مَرْفُوعا لِأَنَّهُ إسم: كَانَ، وَإِن كَانَت نَاقِصَة تكون خبر: كَانَ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: ذكر فِي جَوَاب كل وَاحِد من: رَأَيْتُك، الْأَرْبَع فعلا رَآهُ مِنْهُ: فَمَا هُوَ هَهُنَا يَعْنِي فِي: رَأَيْتُك الْخَامِس؟ وَكَانَ الْقيَاس أَن يَقُول: رَأَيْتُك لم تهل حَتَّى كَانَ يَوْم التَّرويَة. قلت: أما أَن يكون محذوفاً. وَالْمَذْكُور دَلِيل عَلَيْهِ. وَإِمَّا أَن تكون الشّرطِيَّة قَائِمَة مقَامه. قلت: هَذَا السُّؤَال لَا وَجه لَهُ،، وَمَا وَجه الْقيَاس الَّذِي ذكره.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (أَرْبعا) أَي: أَربع خِصَال. قَوْله: (لم أر أحدا من اصحابك يصنعها) : يحْتَمل أَن يكون مُرَاده لَا يصنعن أحد غَيْرك مجتمعة وَإِن كَانَ يصنع بَعْضهَا، وَفِي بعض النّسخ: من اصحابنا، أَي: من اصحاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي بعض النّسخ: وَمن أَصْحَابك قَوْله: (من الْأَركان) أَي: من أَرْكَان الْكَعْبَة الْأَرْبَعَة: واليمانيين، الرُّكْن الْيَمَانِيّ والركن الْيَمَانِيّ الَّذِي فِيهِ الْحجر الْأسود، وَيُقَال لَهُ الرُّكْن الْعِرَاقِيّ لكَونه إِلَى جِهَة الْعرَاق، وَالَّذِي قبله يماني لِأَنَّهُ من جِهَة الْيمن. وَيُقَال لَهما: اليمانيان تَغْلِيبًا لأحد الاسمين، وهما باقيان على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فان قلت: لمَ لَا قَالُوا: الأسودين؟ وَيَأْتِي فِيهِ التغليب أَيْضا؟ قلت: لَو قيل كَذَلِك رُبمَا كَانَ يشْتَبه على بعض الْعَوام أَن فِي كل من هذَيْن الرُّكْنَيْنِ الْحجر الْأسود، وَكَانَ يفهم التَّثْنِيَة وَلَا يفهم التغليب لقُصُور فهمه، بِخِلَاف: اليمانيين. قَوْله: (يلبس) ، بِفَتْح الْبَاء لِأَنَّهُ من بَاب فعل يفعل بِكَسْر الْعين فِي الْمَاضِي، وَفتحهَا فِي الْمُسْتَقْبل، من بَاب علم يعلم. وَأما الَّذِي بِفَتْح الْبَاء فِي الْمَاضِي فمضارعه بِكَسْر الْبَاء من بَاب: ضرب يضْرب، فمصدر الأول: اللّبْس، بِضَم اللَّام. ومصدر الثَّانِي: اللّبْس، بِالْفَتْح: وَهُوَ الْخَلْط. قَوْله: (تصبغ) ، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتحهَا لُغَتَانِ مشهورتان. قَالَ الْكرْمَانِي، قلت: فِيهِ ثَلَاث لُغَات ذكرهَا ابْن سَيّده فِي (الْمُحكم) يُقَال: صبغ الثَّوْب والشيب وَنَحْوهمَا يصبغه، ويصبغه فالكسر عَن اللحياني صبغاً وصبغا وصبغة، وَأما: الصبغة، بِالْكَسْرِ فالمرة من الصَّبْغ، وصبغه. بِالتَّشْدِيدِ. أَي: لَونه، عَن ابي حنيفَة. قَوْله: (حَتَّى كَانَ يَوْم التَّرويَة) وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة، وَاخْتلفُوا فِي سَبَب التَّسْمِيَة بذلك على قَوْلَيْنِ، حَكَاهُمَا الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره: أَحدهمَا: لِأَن النَّاس يروون فِيهِ من المَاء من زَمْزَم لِأَنَّهُ لم يكن بمنى وَلَا بِعَرَفَة مَاء. وَالثَّانِي: أَنه الْيَوْم الَّذِي رأى فِيهِ آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَوَّاء. قلت: وَفِيه قَول أخر، وَهُوَ: أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ارى فِيهِ إِبْرَاهِيم أول الْمَنَاسِك. وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: سمي بذلك لِأَن ابراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَتَاهُ الْوَحْي فِي مَنَامه أَن يذبح ابْنه، فتروى فِي نَفسه: من الله تَعَالَى هَذَا أم من الشَّيْطَان؟ فَأصْبح صَائِما، فَلَمَّا كَانَ لَيْلَة عَرَفَة أَتَاهُ الْوَحْي، فَعرف أَنه الْحق من ربه، فسميت عَرَفَة، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ فِي (فَضَائِل الاوقات) من رِوَايَة الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَنهُ. ثمَّ قَالَ: هَكَذَا قَالَ فِي هَذِه الرِّوَايَة، وروى أَبُو الطُّفَيْل عَن ابْن عَبَّاس: أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما ابْتُلِيَ بِذبح ابْنه أَتَاهُ جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأرَاهُ مَنَاسِك الْحَج، ثمَّ ذهب بِهِ إِلَى عَرَفَة. قَالَ: وَقَالَ ابْن عَبَّاس: سميت عَرَفَة لِأَن جِبْرِيل قَالَ لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام: هَل عرفت؟ قَالَ: نعم، فَمن ثمَّ سميت: عَرَفَة. قَوْله: (حَتَّى تنبعث بِهِ رَاحِلَته) ، يُقَال: بعثت النَّاقة: أثرتها فانبعثت هِيَ، وَبَعثه فانبعث فِي السّير أَي: أسْرع، وَالْمعْنَى هُنَا: استواؤها قَائِمَة. وَفِي الْحَقِيقَة هُوَ كِنَايَة عَن ابْتِدَاء الشُّرُوع فِي أَفعَال الْحَج، وَالرَّاحِلَة: هِيَ الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو انثى. قَوْله: (وَلم تهل أَنْت حَتَّى كَانَ) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (حَتَّى تكون) ؟ قَوْله: (قَالَ عبد الله) بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ هُوَ المسؤول من جِهَة عبيد بن جريج. قَوْله: (فَإِنِّي أحب أَن أصنع) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والباقين: (فَأَنا أحب) ، كَالَّتِي قبلهَا.

(3/26)


بَيَان استنباط الاحكام الأول: أَن فِيهِ مس الرُّكْنَيْنِ اليمانيين: قَالَ القَاضِي عِيَاض: اتّفق الْفُقَهَاء الْيَوْم على أَن الرُّكْنَيْنِ الشاميين وهما مُقَابلا اليمانيين لَا يستلمان، وَإِنَّمَا كَانَ الْخلاف فِيهِ فِي الْعَصْر الأول بَين بعض الصَّحَابَة وَبَعض التَّابِعين، ثمَّ ذهب الْخلاف. وَتَخْصِيص الرُّكْنَيْنِ اليمانين بالاستلام لِأَنَّهُمَا كَانَا على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِخِلَاف الرُّكْنَيْنِ الآخرين، لِأَنَّهُمَا ليسَا على قَوَاعِد ابراهيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما ردهما عبد الله بن الزبير، رَضِي الله عَنْهُمَا، على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استلمها. أَيْضا، لَو بني الْآن كَذَلِك استلمت كلهَا اقْتِدَاء بِهِ، صرح بِهِ القَاضِي عِيَاض. وركن الْحجر الْأسود خص بشيئين: الاستلام والتقبيل، والركن الآخر خص بالاستلام فَقَط، والآخران لَا يقبلان وَلَا يستلمان. وَكَانَ بعض الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى، عَنْهُم وَالتَّابِعِينَ يمسحهما على وَجه الِاسْتِحْبَاب. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: رُوِيَ عَن جَابر وَأنس وَابْن الزبير وَالْحسن وَالْحُسَيْن، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَنهم كَانُوا يستلمون الْأَركان كلهَا. وَعَن عُرْوَة مثل ذَلِك. وَاخْتلف عَن مُعَاوِيَة وَابْن عَبَّاس فِي ذَلِك. وَقَالَ أَحدهمَا: لَيْسَ بِشَيْء من الْبَيْت مَهْجُورًا، وَالصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ يَقُول: إلاَّ الرُّكْن الْأسود واليماني، وهما المعروفان باليمانيين. وَلما رأى عبيد بن جريج جمَاعَة يَفْعَلُونَ على خلاف ابْن عمر سَأَلَهُ عَن ذَلِك.
الثَّانِي: فِي حكم النِّعَال السبتيه، قَالَ ابو عمر: لَا أعلم خلافًا فِي جَوَاز لبسهَا فِي غير الْمَقَابِر، وَحكي عَن ابْن عمر أَنه روى عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه لبسهَا، وَإِنَّمَا كره قوم لبسهَا فِي الْمَقَابِر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لذَلِك الْمَاشِي بَين الْمَقَابِر: (ألق سبيتك) . وَقَالَ قوم: يجوز ذَلِك وَلَو كَانَ فِي الْمَقَابِر، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اذا وَقع الْمَيِّت فِي قَبره انه يسمع قرع نعَالهمْ) وَقَالَ الْحَكِيم التِّرْمِذِيّ فِي (نَوَادِر الاصول) إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَ لذَلِك الرجل: (إلق سبتيتك) لِأَن الْمَيِّت كَانَ يُسأل، فَلَمَّا صر نعل ذَلِك الرجل شغله عَن جَوَاب: الْملكَيْنِ، فكاد يهْلك لَوْلَا أَن ثبته الله تَعَالَى.
الثَّالِث: الصَّبْغ بالصفرة، وَلَفظ الحَدِيث يَشْمَل صبغ الثِّيَاب وصبغ الشّعْر، وَاخْتلفُوا فِي المُرَاد مِنْهُمَا، فَقَالَ القَاضِي عِيَاض: الْأَظْهر أَن المُرَاد ضبغ الثِّيَاب لِأَنَّهُ أخبر أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صبغ، وَلم يقل: إِنَّه صبغ شعره. قلت: جَاءَت آثَار عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، بيَّن فِيهَا تصفير ابْن عمر لحيته، وَاحْتج بِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يصفر لحيته بالورس والزعفران، أخرجه أَبُو دَاوُد، وَذكر أَيْضا فِي حَدِيث آخر احتجاجه بِهِ بِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يصْبغ بهما ثِيَابه حَتَّى عمَامَته، وَكَانَ أَكثر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ يخضب بالصفرة مِنْهُم أَبُو هُرَيْرَة وَآخَرُونَ، ويروى ذَلِك عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ. الرَّابِع: فِيهِ حكم الإهلال، وَاخْتلف فِيهِ، فَعِنْدَ الْبَعْض: الْأَفْضَل أَن يهل لاستقبال ذِي الْحجَّة، وَعند الشَّافِعِي: الْأَفْضَل أَن يحرم إِذا انبعثت رَاحِلَته، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَقَالَ ابو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: يحرم عقيب الصَّلَاة وَهُوَ جَالس قبل ركُوب دَابَّته، وَقبل قِيَامه، وَفِيه حَدِيث من رِوَايَة ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ بعض الشُّرَّاح: وَهُوَ ضَعِيف. قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُحَمَّد بن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا يَعْقُوب يَعْنِي ابْن ابراهيم، قَالَ: حَدثنَا ابي عَن ابْن اسحاق، قَالَ: حَدثنَا خصيف ابْن عبد الرَّحْمَن الْجَزرِي عَن سعيد بن جُبَير، قَالَ: قلت لِابْنِ عَبَّاس: يَا ابْن الْعَبَّاس؛ عجبت لاخْتِلَاف أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إهلال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين أوجب. فَقَالَ: إِنِّي لأعْلم النَّاس بذلك، إِنَّهَا إِنَّمَا كَانَت من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة وَاحِدَة فَمن مَعنا هُنَاكَ اخْتلفُوا. خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَاجا، فَلَمَّا صلى فِي مَسْجده بِذِي الحليفة ركعتيه أوجبه فِي مَجْلِسه فأهلَّ بِالْحَجِّ حِين فرغ من ركعتيه، فَسمع ذَلِك مِنْهُ أَقوام فحفظته عَنهُ، ثمَّ ركب، فَلَمَّا اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته أهل، وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام وَذَلِكَ أَن النَّاس إِنَّمَا كَانُوا يأْتونَ أَرْسَالًا، فسمعوه حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته يهل فَقَالُوا: إِنَّمَا أهل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته، ثمَّ مضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا علا شرف الْبَيْدَاء أهل، وَأدْركَ ذَلِك مِنْهُ أَقوام فَقَالُوا: إِنَّمَا أهل حِين علا شرف الْبَيْدَاء، وأيم الله لقد أوجب فِي مُصَلَّاهُ، وَأهل حِين اسْتَقَلت بِهِ نَاقَته، وَأهل حِين علا شرف الْبَيْدَاء. قَالَ سعيد: فَمن أَخذ بقول ابْن عَبَّاس أهل فِي مصلاة إِذا فرغ من ركعتيه وَأخرج الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) نَحوه، ثمَّ قَالَ: هَذَا الحَدِيث صَحِيح على شَرط مُسلم، مُفَسّر فِي الْبَاب، وَلم يخرجَاهُ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ ثمَّ قَالَ: وَبَين ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الْوَجْه الَّذِي مِنْهُ جَاءَ الِاخْتِلَاف، وَأَن إهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي ابْتَدَأَ بِالْحَجِّ وَدخل بِهِ فِيهِ كَانَ فِي مصلاة، فَبِهَذَا نَأْخُذ. فَيَنْبَغِي للرجل إِذا أَرَادَ الْإِحْرَام أَن يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ يحرم فِي دبرهما، كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد. وَقد ذكر الطَّحَاوِيّ هَذَا بعد أَن ذكر اخْتِلَاف الْعلمَاء، فروى أَولا عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى بِذِي الْخَلِيفَة

(3/27)


ثمَّ أَتَى براحلته فركبها، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ الْبَيْدَاء أهلَّ، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذَا فاستحبوا الْإِحْرَام من اليبداء لإحرام النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهَا. وَأَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: الْأَوْزَاعِيّ وَعَطَاء وَقَتَادَة، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، وَأَرَادَ بهم الْأَئِمَّة الاربعة وَأكْثر أَصْحَابهم، فَإِنَّهُم قَالُوا: سنة الْإِحْرَام أَن يكون من ذِي الحليفة. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) : اسْتحبَّ مَالك وَأكْثر الْفُقَهَاء أَن يهل الرَّاكِب إِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة، وَاسْتحبَّ أَبُو حنيفَة أَن يكون إهلاله عقب الصَّلَاة إِذا سلم مِنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِي: يهل إِذا أخذت نَاقَته فِي الْمَشْي، وَحين كَانَ يركب رَاحِلَته قَائِمَة كَمَا يَفْعَله كثير من الْحجَّاج الْيَوْم، وَقَالَ عِيَاض: جَاءَ فِي رِوَايَة: (اهل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا اسْتَوَت النَّاقة) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (حَتَّى اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته) ، وَفِي أُخْرَى: (حَتَّى تنبعث بِهِ نَاقَته) ، وكل ذَلِك مُتَّفق عَلَيْهِ. ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: أجَاب هَؤُلَاءِ عَمَّا قَالَه أهل الْمقَالة الاولى من اسْتِحْبَاب الْإِحْرَام من الْبَيْدَاء وَحَاصِله: لَا نسلم أَن إِحْرَامه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْبَيْدَاء يدل على اسْتِحْبَاب ذَلِك، وَأَنه فَضِيلَة اخْتَارَهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون ذَلِك، لَا الْقَصْد أَن للاحرام مِنْهَا فَضِيلَة على الْإِحْرَام من غَيرهَا، وَقد فعل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي حجَّته فِي مَوَاضِع لَا لفضل قَصده، وَمن ذَلِك نُزُوله بالمحصب. وروى عَطاء عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لَيْسَ المحصب بِشَيْء، إِنَّمَا هُوَ منزل نزله رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَمَّا حصب رَسُول الله، عَلَيْهِ السَّلَام، وَلم يكن ذَلِك لِأَنَّهُ سنة، فَكَذَلِك يجوز أَن يكون إِحْرَامه من الْبَيْدَاء كَذَلِك. قَالَ: وَأنكر قوم أَن يكون رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحرم من الْبَيْدَاء، وَقَالُوا: مَا أحرم إلاَّ من الْمَسْجِد، وَأَرَادَ بالقوم هَؤُلَاءِ: الزُّهْرِيّ وَعبد الْملك بن جريج وَعبد الله بن وهب، وَرووا فِي ذَلِك مَا رَوَاهُ مَالك عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه أَنه قَالَ: (بيداؤكم هَذِه الَّتِي تكذبون على رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه أهل مِنْهَا، مَا أهل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إلاَّ من عِنْد الْمَسْجِد) ، يَعْنِي: مَسْجِد ذِي الحليفة، أخرجه الطَّحَاوِيّ عَن يزِيد بن سِنَان عَن عبد الله بن مُسلم عَن مَالك عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم عَن أَبِيه، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا. فان قلت: كَيفَ يجوز لِابْنِ عمر أَن يُطلق الْكَذِب على الصَّحَابَة؟ قلت: الْكَذِب يَجِيء بِمَعْنى الْخَطَأ، لِأَنَّهُ يُشبههُ فِي كَونه ضد الصَّوَاب، كَمَا أَن ضد الْكَذِب الصدْق، وافترقا من حَيْثُ النِّيَّة وَالْقَصْد، لِأَن الْكَاذِب يعلم أَن الَّذِي يَقُوله كذب، والمخطىء لَا يعلم وَلَا يظنّ بِهِ أَنه كَانَ ينْسب الصَّحَابَة إِلَى الْكَذِب. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَلَمَّا جَاءَ هَذَا الِاخْتِلَاف بيَّن ابْن عَبَّاس الْوَجْه الَّذِي جَاءَ مِنْهُ الِاخْتِلَاف كَمَا ذكرنَا آنِفا.

31 - (بابُ التَّيَمُّنِ فِي الوُضُوءِ والغُسل)

أَي: هَذَا بَاب فِي باين التَّيَمُّن فِي الْوضُوء وَالْغسْل، والتيمن هُوَ الْأَخْذ بِالْيَمِينِ.
والمناسبة بَين الْأَبْوَاب ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن الْأَبْوَاب الْمَاضِيَة فِي أَحْكَام الْوضُوء، والتيمن أَيْضا من أَحْكَامه، وَلَا سِيمَا بَينه وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله، لِأَنَّهُ فِي غسل الرجلَيْن وَفِيه التَّيَمُّن أَيْضا سنة أَو مُسْتَحبّ.

167 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا إسْماعِيلُ قَالَ حدّثنا خالِدٌ عنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سيرِين عنْ أُمِّ عطِيَّةَ قالتْ: قَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُنَّ فِي غسْلِ ابْنَتِهِ: ابْدَأْنَ بِمَيَامِنِهَا وَمَوَاضِعِ الوُضُوءِ مِنْهَا..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (بميامنها) ، لِأَن الامر بالتيمن فِي التغسيل والتوضئة كليهمَا مُسْتَفَاد من عُمُوم اللَّفْظ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد ذكر. الثَّانِي: اسماعيل: هُوَ ابْن علية، وَقد مر. الثَّالِث: خَالِد الْحذاء، وَقد مضى. الرَّابِع: حَفْصَة بنت سِيرِين الْأَنْصَارِيَّة، أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين. الْخَامِس: أم عَطِيَّة بنت كَعْب، وَيُقَال: بنت الْحَارِث الْأَنْصَارِيَّة، وَاسْمهَا نسيبة، بِضَم النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء، وَحكي فتح النُّون مَعَ كسر السِّين: يَعْنِي يحيى بن معِين، وَلها صُحْبَة وَرِوَايَة، تعد فِي أهل الْبَصْرَة، وَكَانَت تغسل الْمَوْتَى وتمرض المرضى وتداوي الْجَرْحى وتغزو مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، غزت مَعَه سبع غزوات، وَشهِدت خَيْبَر

(3/28)


وَكَانَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يقيل عِنْدهَا، وَكَانَت تنتف إبطه بورسة. لَهَا أَرْبَعُونَ حَدِيثا اتفقَا على سَبْعَة أَو سِتَّة، وللبخاري حَدِيث، وَلمُسلم آخر، روى لَهَا الْجَمَاعَة.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التابعية عَن الصحابية.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَعَن حَامِد بن عمر عَن حَمَّاد بن زيد، كِلَاهُمَا عَن أَيُّوب بِهِ، وَحَدِيث الثَّقَفِيّ أتم. وَأخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن الثَّقَفِيّ بِهِ.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (لَهُنَّ) أَي: لأم عَطِيَّة وَلمن مَعهَا. قَوْله: (فِي غسل ابْنَته) أَي: صفة غسل ابْنَته. قيل: اسْمهَا أم كُلْثُوم زوج عُثْمَان بن عَفَّان، غسلتها أَسمَاء بنت عُمَيْس وَصفِيَّة بنت عبد الْمطلب، وَشهِدت أم عَطِيَّة غسلهَا، وَذكرت قَوْله، عَلَيْهِ السَّلَام، فِي كَيْفيَّة غسلهَا، وَفِي (صَحِيح مُسلم) أَنَّهَا زَيْنَب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمَاتَتْ فِي السّنة الثَّانِيَة، وَلما نقل القَاضِي عِيَاض عَن بعض أهل السّير أَنَّهَا أم كُلْثُوم قَالَ: الصَّوَاب زَيْنَب، كَمَا صرح بِهِ مُسلم فِي رِوَايَته، وَقد يجمع بَينهمَا بِأَنَّهَا: غسلت زَيْنَب وَحَضَرت غسل أم كُلْثُوم، وَذكر الْمُنْذِرِيّ فِي حَوَاشِيه: أَن أم كُلْثُوم توفيت وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببدر غَائِب، وَغلط فِي ذَلِك، فَتلك رقية، وَلما دفن أم كُلْثُوم قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (دفن الْبَنَات من المكرمات) ، وَالْعجب من الْكرْمَانِي أَنه يَقُول: قَالَ النَّوَوِيّ فِي (تَهْذِيب الْأَسْمَاء) : إِن المغسولة اسْمهَا زَيْنَب، وَهَذَا مُسلم قد صرح بِهِ، فَكَأَنَّهُ مَا كَانَ ينظر فِيهِ حَتَّى نسب ذَاك إِلَى النَّوَوِيّ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: اسْتِحْبَاب الْوضُوء فِي أَو غسل الْمَيِّت، عملا بقوله: (ومواضع الْوضُوء مِنْهَا) ، وَنقل النَّوَوِيّ عَن ابي حنيفَة عدم إستحبابه. قلت: هَذَا غير صَحِيح، فَفِي كتبنَا مثل (الْقَدُورِيّ) و (الْهِدَايَة) يذكر ذَلِك، قَالَ فِي (الْهِدَايَة) : لِأَن ذَلِك من سنة الْغسْل، غير أَنه لَا يمضمض وَلَا يستنشق، لِأَن إِخْرَاج المَاء من فَمه مُتَعَذر، وَهل يتَوَضَّأ فِي الغسلة الأولى أَو الثَّانِيَة أَو فيهمَا؟ فِيهِ خلاف للمالكية حَكَاهُ الْقُرْطُبِيّ.
الثَّانِي: اسْتِحْبَاب تَقْدِيم الميامن فِي غسل الْمَيِّت، وَيلْحق بِهِ الطهارات، وَبِه تشعر تَرْجَمَة البُخَارِيّ، وَكَذَا أَنْوَاع الْفَضَائِل، وَالْأَحَادِيث فِيهِ كَثِيرَة، وبالاستحباب قَالَ أَكثر الْعلمَاء. وَقَالَ ابْن حزم: وَلَا بُد من البدء بالميامن. وَقَالَ ابْن سِيرِين: يبْدَأ بمواضع الْوضُوء ثمَّ بالميامن. وَقَالَ أَبُو قلَابَة: يبْدَأ بِالرَّأْسِ ثمَّ باللحية ثمَّ بالميامن.
الثَّالِث: فِيهِ فضل الْيَمين على الشمَال، أَلا ترى قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حاكيا عَن ربه: (وكلتا يَدَيْهِ يَمِين) ؟ وَقَالَ تَعَالَى: {فاما من أُوتِيَ كِتَابه بِيَمِينِهِ} (سُورَة الحاقة: الْآيَة 19، وَسورَة الانشقاق؛ الْآيَة 7) . وهم أهل الْجنَّة.

168 - حدّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حَدثنَا شُعْبَة قَالَ أَخْبرنِي أشْعَثُ بنُ سُليْمٍ قالَ سَمِعْتُ أبي عنْ مَسْرُوقٍ عنْ عائِشَةَ قَالتْ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وطُهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ..
فِيهِ الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة، لِأَن فِيهِ إعجابه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي شَأْنه كُله، وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل اسْتِحْبَاب التَّيَامُن فِي كل شَيْء: فِي الْوضُوء وَالْغسْل والتغسيل وَغير ذَلِك.
أما الْمُنَاسبَة بَين الْحَدِيثين فظاهرة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: حَفْص ابْن عمر الحوضي الْبَصْرِيّ الثبت الْحجَّة، قَالَ احْمَد: لَا يُؤْخَذ عَلَيْهِ حرف، مَاتَ سنة خمس وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ، وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ حَفْص بن عمر غَيره، وَفِي السّنَن مفرقاً جماعات. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد مر ذكره. الثَّالِث: أَشْعَث، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة: ابْن سليم، بِالتَّصْغِيرِ، من ثِقَات شُيُوخ الْكُوفِيّين وَهُوَ الرَّابِع: من الروَاة، وَهُوَ سليم بن الْأسود الْمحَاربي، بِضَم الْمِيم، الْكُوفِي أَبُو الشعْثَاء، وشهرته بكنيته أَكثر من اسْمه. الْخَامِس: مَسْرُوق بن الأجدع الْكُوفِي، أَبُو عَائِشَة، أسلم قبل وَفَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأدْركَ الصَّدْر الأول من الصَّحَابَة، وَكَانَت عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ قد تبنت مسروقاً فَسمى ابْنَته عَائِشَة، فكني بِأبي عَائِشَة، وَقد مر فِي بَاب عَلَامَات الْمُنَافِق. السَّادِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.

(3/29)


بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ كبيرين قرينين من اتِّبَاع التَّابِعين وهما: أَشْعَث وَشعْبَة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ كبيرين قرينين من كبار التَّابِعين وهما: سليم ومسروق.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْب، وَفِي اللبَاس عَن أبي الْوَلِيد وحجاج بن الْمنْهَال، وَفِي الْأَطْعِمَة عَن عَبْدَانِ عَن عبد الله بن الْمُبَارك، خمستهم عَن شُعْبَة عَن أَشْعَث بن أبي الشعْثَاء عَن أَبِيه بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه شُعْبَة بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى عَن أبي الْأَحْوَص عَن أَشْعَث بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي اللبَاس عَن حَفْص بن عمر وَسَلَمَة بن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي آخر الصَّلَاة عَن هناد بن السّري عَن أبي الْأَحْوَص بِهِ: وَقَالَ: حسن صَحِيح، وَفِي الشَّمَائِل عَن أبي مُوسَى عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة، وَفِي الزِّينَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث، وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن هناد بِهِ، وَعَن سُفْيَان بن وَكِيع عَن عمر بن عبيد عَن أَشْعَث بِهِ.
بَيَان اللُّغَات قَوْله: (يُعجبهُ) من: الْإِعْجَاب، يُقَال: أعجبني هَذَا الشَّيْء لحسنه. والعجيب: الْأَمر الَّذِي يُتعجب مِنْهُ وَكَذَلِكَ العجاب بِالضَّمِّ وَالتَّخْفِيف وبالتشديد أَكثر مِنْهُ، وَكَذَلِكَ الأعجوبة، وَعَجِبت من كَذَا وتعجبت مِنْهُ واستعجبت بِمَعْنى، والمصدر: الْعجب، بِفتْحَتَيْنِ. وَأما الْعجب، بِضَم الْعين وَسُكُون الْجِيم. فَهُوَ اسْم من أعجب فلَان بِنَفسِهِ فَهُوَ معجب بِفَتْح الْجِيم بِرَأْيهِ وبنفسه، وَأما الْعجب، بِفَتْح الْعين وَسُكُون الْجِيم: فَهُوَ أصل الذَّنب. قَوْله: (التَّيَمُّن) هُوَ الْأَخْذ بِالْيَمِينِ فِي الْأَشْيَاء. قَوْله: (تنعله) أَي فِي لبسه النَّعْل وَهِي الَّتِي تلبس فِي الْمَشْي، تسمى الْآن تأسومه، قَالَه ابْن الاثير، وَهِي مُؤَنّثَة، يُقَال: نعلت وأنتعلت إِذا لبست النَّعْل، وانعلب الْخَيل، بِالْهَمْزَةِ وَمِنْه الحَدِيث: (إِن غَسَّان تنعل خيلها) ، وَفِي رِوَايَات البُخَارِيّ كلهَا: (فِي تنعله) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح النُّون وَتَشْديد الْعين، وَهَكَذَا ذكره الْحميدِي والحافظ عبد الْحق فِي كِتَابَيْهِمَا (الْجمع بَين الصَّحِيحَيْنِ) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فِي نَعله) على إِفْرَاد النَّعْل، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (نَعْلَيْه) بالتثنية، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وهما صَحِيحَانِ وَلم ير فِي شَيْء من نسخ بِلَادنَا غير هذَيْن الْوَجْهَيْنِ. قلت: الرِّوَايَات كلهَا صَحِيحَة. قَوْله: (وَترَجله) أَي: فِي تمشيطه الشّعْر وَهُوَ تسريحه، وَهُوَ أَعم من أَن يكون فِي الرَّأْس وَفِي اللِّحْيَة، وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ تسريحه ودهنه. قلت: اللَّفْظ لَا يدل على الدّهن، فَهَذَا التَّفْسِير من عِنْده وَلم يفسره أهل اللُّغَة كَذَلِك، وَفِي (الْمغرب) للمطرزي: رجل شعره أَي: أرْسلهُ بالمرجل، وَهُوَ الْمشْط. وترجل فعل ذَلِك بِنَفسِهِ، وَيُقَال: شعر رجل وَرجل، وَهُوَ: السبوطة والجعودة، وَقد رجل رجلا وَرجله هُوَ، وَرجل رجل الشّعْر وَرجل، وَجَمعهَا أرجال وَرِجَال، ذكره ابْن سَيّده فِي (الْمُحكم) ، فَانْظُر هَل ترى شَيْئا فِيهِ هَذِه الْموَاد يدل على الدّهن؟ والمرجل، بِكَسْر الْمِيم: الْمشْط، وَكَذَلِكَ المسرح، بِالْكَسْرِ، ذكره فِي (الغريبين) . قَوْله: (وَطهُوره) قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ بصم الطَّاء وَلَا يجوز فتحهَا هُنَا. قلت: لَا نسلم هَذَا على الْإِطْلَاق، لِأَن الْخَلِيل والأصمعي وابا حَاتِم السجسْتانِي والأزهري وَآخَرين ذَهَبُوا إِلَى أَن الطّهُور، بِالْفَتْح فِي الْفِعْل الَّذِي هُوَ الْمصدر وَالْمَاء الَّذِي يتَطَهَّر بِهِ. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : وَحكي الضَّم فيهمَا، وَالْفرق الْمَذْكُور نَقله ابْن الْأَنْبَارِي عَن جمَاعَة من أهل اللُّغَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك فَقَوْل الْكرْمَانِي: وَلَا يجوز فتحهَا، غير صَحِيح على الْإِطْلَاق. قَوْله: (فِي شَأْنه) الشَّأْن هُوَ الْحَال والخطب، وَأَصله الشَّأْن، بِالْهَمْزَةِ الساكنة فِي وَسطه، وَلكنهَا سهلت بقلبها ألفا لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله، والشأن أَيْضا وَاحِد الشؤون وَهِي، مواصل قبائل الرَّأْس وملتقاها، وَمِنْهَا تَجِيء الدُّمُوع.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (يُعجبهُ) فعل ومفعول، و: التَّيَمُّن، فَاعله، وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا خبر: كَانَ، قَوْله: (فِي تنعله) فِي مَحل النصب على الْحَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي فِي يُعجبهُ، وَالتَّقْدِير كَانَ يُعجبهُ التَّيَمُّن حَال كَونه لابساً النَّعْل. وَيجوز أَن يكون من التَّيَمُّن أَي: يُعجبهُ التَّيَمُّن حَال كَون التَّيَمُّن فِي تنعله. قَوْله: (وَترَجله) عطف على: تنعله، و: ظُهُوره، عطف على: ترجله. قَوْله: (فِي شَأْنه) بدل من الثَّلَاثَة الْمَذْكُورَة قبله بدل الاشتمال، وَالشّرط فِي بدل الاشتمال أَن يكون الْمُبدل مِنْهُ مُشْتَمِلًا على الثَّانِي، أَي: متقاضياً لَهُ بِوَجْه مَا، وَهَهُنَا كَذَلِك على مَا لَا يخفي، وَإِذا لم يكن الْمُبدل مِنْهُ مُشْتَمِلًا على الثَّانِي يكون بدل الْغَلَط، وَإِنَّمَا قيل لهَذَا بدل الاشتمال من حَيْثُ اشْتِمَال الْمَتْبُوع، على التَّابِع، لَا كاشتمال الظّرْف

(3/30)


على المظروف، بل من حَيْثُ كَونه دَالا عَلَيْهِ إِجْمَالا ومتقاضياً لَهُ بِوَجْه مَا، وَالْعجب من الْكرْمَانِي حَيْثُ نفى كَونه بدل الاشتمال لكَون الشَّرْط أَن يكون بَينهمَا مُلَابسَة بِغَيْر الْجُزْئِيَّة والكلية. وَهَهُنَا الشَّرْط مُنْتَفٍ. ثمَّ يَقُول: مَا قَوْلك فِيهِ؟ ثمَّ يُجيب بِأَنَّهُ بدل الاشتمال، وَهَهُنَا الملابسة مَوْجُودَة، وَمَعَ هَذَا قَوْله: لكَون الشَّرْط. إِلَى آخِره، لَيْسَ على الْإِطْلَاق لِأَنَّهُ يدْخل فِيهِ بعض الْغَلَط، نَحْو: جَاءَنِي زيد غُلَامه أَو حِمَاره، وَلَقِيت زيدا أَخَاهُ. وَلَا شكّ فِي كَونهَا بدل الْغَلَط. وَمن العجيب أَيْضا أَنه قَالَ: وَلَا يجوز أَن يكون بدل الْغَلَط لِأَنَّهُ لَا يَقع فِي فصيح الْكَلَام، ثمَّ قَالَ: أَو هُوَ بدل الْغَلَط وَقد يَقع فِي الْكَلَام الفصيح قَلِيلا، وَلَا مُنَافَاة بَين الْغَلَط والبلاغة. قلت: لَا يَقع بدل الْغَلَط الصّرْف وَلَا بدل النسْيَان فِي كَلَام الفصحاء، وَإِنَّمَا يَقع بدل البداء فِي كَلَام الشُّعَرَاء للْمُبَالَغَة والتفنن، وَبدل البداء أَن يذكر الْمُبدل مِنْهُ عَن قصد وتعمد ثمَّ يتدارك بِالثَّانِي، وَيدل الصّرْف وَهُوَ يدل على غلط صَرِيح فِيمَا إِذا أردْت أَن تَقول: جَاءَنِي حمَار فيسبقك لسَانك إِلَى رجل ثمَّ تداركت الْغَلَط فَقلت: حمَار، وَبدل النسْيَان أَن تتعمد ذكر مَا هُوَ غلط، وَلَا يسبقك لسَانك إِلَى ذكره، لَكِن تنسى الْمَقْصُود ثمَّ بعد ذَلِك تتداركه بِذكر الْمَقْصُود، فَمن هَذَا عرفت أَن أَنْوَاع بدل الْغَلَط ثَلَاثَة. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة ابي الْوَقْت: (وَفِي شَأْنه) ، بِإِثْبَات الْوَاو، قلت: على هَذَا يكون عطف الْعَام على الْخَاص، وَهُوَ ظَاهر. فان قلت: هَل يجوز أَن تقدر: الْوَاو، وَفِي الرِّوَايَة الخالية عَن: الْوَاو؟ قلت: جوزه بعض النُّحَاة إِذا قَامَت قرينَة عَلَيْهِ. وَقَالَ بَعضهم نَاقِلا عَن الْكرْمَانِي من غير تَصْرِيح بِهِ، قَوْله: (فِي شَأْنه كُله) بِدُونِ: الْوَاو، مُتَعَلق: بيعجبه، لَا: بالتيمن، أَي يُعجبهُ فِي شَأْنه كُله التَّيَمُّن فِي تنعله ... إِلَى آخِره أَي: لَا يتْرك ذَلِك سفرا وَلَا حضرا، وَلَا فِي فراغة وَلَا شغله وَنَحْو ذَلِك. قلت: كَلَام النَّاقِل وَالْمَنْقُول مِنْهُ سَاقِط، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يكون إعجابه التَّيَمُّن فِي هَذِه الثَّلَاثَة مَخْصُوصَة فِي حالاته كلهَا، وَلَيْسَ كَذَلِك، بل كَانَ يُعجبهُ التَّيَمُّن فِي كل الْأَشْيَاء فِي جَمِيع الْحَالَات. أَلا ترى أَنه أكد الشَّأْن بمؤكد؟ والشأن بِمَعْنى الْحَال، وَالْمعْنَى فِي جَمِيع حالاته؟ ثمَّ قَالَ هَذَا النَّاقِل: وَقَالَ الطَّيِّبِيّ، فِي قَوْله: (فِي شَأْنه) بدل من قَوْله: (فِي تنعله) ، بِإِعَادَة الْعَامِل، وَكَأَنَّهُ ذكر التنعل لتَعَلُّقه بِالرجلِ، والترجل لتَعَلُّقه بِالرَّأْسِ، وَالطهُور لكَونه مِفْتَاح أَبْوَاب الْعِبَادَة، فَكَأَنَّهُ نبه على جَمِيع الْأَعْضَاء، فَيكون كبدل الْكل من الْكل. قلت: هَذَا لم يتَأَمَّل كَلَام الطَّيِّبِيّ، لِأَن كَلَامه لَيْسَ على رِوَايَة البُخَارِيّ وَإِنَّمَا هُوَ على رِوَايَة مُسلم، وَهِي: (كَانَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يحب التَّيَمُّن فِي شَأْنه كُله: فِي تنعله وَترَجله) . لِأَن صَاحب الْمشكاة نقل عبارَة مُسلم، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ فِي شَرحه: بِهَذِهِ الْعبارَة أَقُول. قَوْله: (فِي طهوره وَترَجله وتنعله) بدل من قَوْله: (فِي شَأْنه) ، بِإِعَادَة الْعَامِل وَلَعَلَّه إِنَّمَا بَدَأَ فِيهَا بِذكر الطّهُور لِأَنَّهُ فتح لأبواب الطَّاعَات كلهَا، وثنى بِذكر التَّرَجُّل وَهُوَ يتَعَلَّق بِالرَّأْسِ، وَثلث بالتنعل وَهُوَ مُخْتَصّ بِالرجلِ ليشْمل جَمِيع الْأَعْضَاء، فَيكون كبدل الْكل من الْكل، وَالْعجب من هَذَا النَّاقِل أَنه لما نقل كَلَام الطَّيِّبِيّ على رِوَايَة مُسلم، ثمَّ قَالَ: وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم بِتَقْدِيم قَوْله: (فِي شَأْنه كُله) على قَوْله فِي: تنعله. إِلَى آخِره، قَالَ: فَيكون بدل الْبَعْض من الْكل، فَكَأَنَّهُ ظن أَن كَلَام الطَّيِّبِيّ من الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا ذكر الشان مُتَأَخِّرًا كَمَا هِيَ رِوَايَة البُخَارِيّ هُنَا، ثمَّ قَالَ: وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم بِتَقْدِيم قَوْله: (فِي شَأْنه) ، وَهَذَا كَمَا ترى فِيهِ خبط ظَاهر.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (التَّيَمُّن) لفظ مُشْتَرك ترك بَين الِابْتِدَاء بِالْيَمِينِ، وَبَين تعَاطِي الشَّيْء بِالْيَمِينِ، وَبَين التَّبَرُّك وَبَين قصد الْيمن، وَلَكِن الْقَرِينَة دلّت على أَن المُرَاد الْمَعْنى الأول. قَوْله: (فِي تنعله) إِلَى آخِره زَاد أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة: (وسواكه) ، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: (كَانَ يحب التَّيَامُن مَا اسْتَطَاعَ فِي شَأْنه) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ أَيْضا عَن شُعْبَة: (مَا اسْتَطَاعَ) ، فنبه على الْمُحَافظَة على ذَلِك مَا لم يمْنَع مَانع، وَفِي رِوَايَة ابْن حبَان: (كَانَ يحب التَّيَامُن فِي كل شَيْء حَتَّى فِي التَّرَجُّل والانتعال) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَنْدَه: (كَانَ يحب التَّيَامُن فِي الْوضُوء والانتعال) . قَوْله: (كُله) تَأْكِيد لقَوْله: (فِي شَأْنه) ، فَإِن قلت: مَا وَجه التَّأْكِيد وَقد اسْتحبَّ التياسر فِي بعض الْأَفْعَال كدخول الْخَلَاء وَنَحْوه؟ قلت: هَذَا عَام مَخْصُوص بالأدلة الخارجية. قَالَ الْكرْمَانِي: وَمَا من عَام إِلَّا وَقد خص: إلاَّ {وَالله بِكُل شَيْء عليم} (الْبَقَرَة: 282، النِّسَاء: 2176، النُّور: 35 و 64 الحجرات: 16، التغابن: 11) . قلت: إِن أَرَادَ بِهِ أَنه يقبل التَّخْصِيص أَو يحْتَملهُ فَمُسلم، وَإِن أَرَادَ بِالْإِطْلَاقِ فَفِيهِ نظر. وَقَالَ الشَّيْخ محيي الدّين: هَذِه قَاعِدَة مستمرة فِي الشَّرْع، وَهِي أَن مَا كَانَ من بَاب التكريم والتشريف: كلبس الثَّوْب والسراويل والخف وَدخُول الْمَسْجِد والسواك والاكتحال وتقليم الأظافر وقص الشَّارِب وترجيل الشّعْر ونتف

(3/31)


الابط وَحلق الراس وَالسَّلَام من الصَّلَاة وَغسل أَعْضَاء الطَّهَارَة وَالْخُرُوج إِلَى الْخَلَاء وَالْأكل وَالشرب والمصافحة واستلام الْحجر الْأسود، وَغير ذَلِك مِمَّا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، يسْتَحبّ التَّيَامُن فِيهِ؛ وَأما مَا كَانَ بضده: كدخول الْخَلَاء وَالْخُرُوج من الْمَسْجِد والامتخاط والاستنجاء وخلع الثَّوْب والسراويل والخف وَمَا أشبه ذَلِك، فَيُسْتَحَب التياسر فِيهِ، وَيُقَال: حَقِيقَة الشَّأْن مَا كَانَ فعلا مَقْصُودا، وَمَا يسْتَحبّ فِيهِ التياسر لَيْسَ من الْأَفْعَال الْمَقْصُودَة، بل هِيَ إِمَّا تروك وَإِمَّا غير مَقْصُودَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ الدّلَالَة على شرف الْيَمين وَقد مر فِي معنى الحَدِيث السَّابِق. الثَّانِي: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْبدَاءَة بشق الرَّأْس الْأَيْمن فِي الرتجل وَالْغسْل وَالْحلق. فَإِن قلت: هُوَ من بَاب الْإِزَالَة، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يبْدَأ بالأيسر. قلت: لَا، بل هُوَ من بَاب التزيين والتجميل. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْبِدَايَة فِي التنعل والتخفف كَذَلِك. الرَّابِع: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْبدَاءَة بِالْيَمِينِ فِي الْوضُوء، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَن لَا إِعَادَة على من بَدَأَ بيساره فِي وضوئِهِ قبل يَمِينه وروينا عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا قَالَا: (لَا تبالي بِأَيّ شَيْء بدأت) . زَاد الدَّارَقُطْنِيّ: أَبَا هُرَيْرَة، وَنقل المرتضى الشِّيعَة عَن الشَّافِعِي فِي (الْقَدِيم) : وجوب تَقْدِيم الْيَمين على الْيُسْرَى، وَنسب المرتضى فِي ذَلِك إِلَى الْغَلَط، فَكَأَنَّهُ ظن أَن ذَلِك لَازم من وجوب التَّرْتِيب عِنْد الشَّافِعِي، وَقَالَ [قع النَّوَوِيّ [/ قع: أجمع الْعلمَاء على أَن تَقْدِيم الْيَمين فِي الْوضُوء سنة من خالفها فَاتَهُ الْفضل وَتمّ وضوؤه، وَالْمرَاد من قَوْله: الْعلمَاء أهل السّنة، لِأَن مَذْهَب الشِّيعَة الْوُجُوب، وَقد صحف العمراني فِي (الْبَيَان) والبندنيجي فِي (التَّجْرِيد) . الشِّيعَة، بالشين الْمُعْجَمَة، بالسبعة من الْعدَد فِي نسبتها القَوْل بِالْوُجُوب إِلَى الْفُقَهَاء السَّبْعَة، وَفِي كَلَام الرَّافِعِيّ أَيْضا مَا يُوهم أَن أَحْمد بن حَنْبَل قَالَ بِوُجُوبِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن صَاحب (الْمُغنِي) قَالَ: لَا نعلم فِي عدم الْوُجُوب خلافًا. فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ بِإِسْنَاد جيد عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ: (إِذا توضأتم فابدأوا بميامنكم) . وَفِي أَكثر طرقه: (بأيامنكم) ، جمع: أَيمن، (إِذا لبستم وَإِذا توضأتم) . قلت: الْأَمر فِيهِ للاستحباب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَاعْلَم أَن الِابْتِدَاء باليسار، وَإِن كَانَ مجزئاً، فَهُوَ مَكْرُوه، نَص عَلَيْهِ الشَّافِعِي، رَضِي الله عَنهُ فِي (الام) ، وَقَالَ ايضا: ثمَّ اعْلَم أَن من الْأَعْضَاء فِي وَالْوُضُوء مَا لَا يسْتَحبّ فِيهِ التَّيَامُن وَهُوَ: الأذنان والكفان والخدان، بل يطهران دفْعَة وَاحِدَة، فَإِن تعذر ذَلِك كَمَا فِي حق الأقطع وَنَحْوه قدم الْيَمين، وَمِمَّا رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن عمر قَالَ: خير الْمَسْجِد الْمقَام ثمَّ ميامن الْمَسْجِد. وَقَالَ سعيد بن الْمسيب، يُصَلِّي فِي الشق الْأَيْمن من الْمَسْجِد، وَكَانَ إِبْرَاهِيم يُعجبهُ أَن يقوم عَن يَمِين الإِمَام، وَكَانَ أنس يُصَلِّي فِي الشق الْأَيْمن، وَكَذَا عَن الْحسن وَابْن سِيرِين.

32 - (بابُ الْتِمَاسِ الوَضُوءِ إِذا حانَتِ الصَّلاةُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التمَاس الْوضُوء إِذا حانت الصَّلَاة. وَالْوُضُوء، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (اذا حانت) أَي: قربت، يُقَال: حَان حِينه أَي: قرب وقته.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ مَا يَأْتِي إلاَّ بِالْجَرِّ الثقيل، وَهُوَ أَن الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق طلب التَّيَمُّن لأجل الْوضُوء وَالْغسْل، وَهَهُنَا طلب المَاء لأجل الْوضُوء.
وقالَتْ عائِشَةُ حضَرَتِ الصبْحُ فالتُمِسَ المَاءُ فلمْ يُوجَدْ فَنْزَلَ التَّيَمُّمُ

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فالتمس المَاء) . وَفِي قَوْله: (فالتمس النَّاس الْوضُوء) ، وَهَذَا تَعْلِيق صَحِيح لِأَنَّهُ أخرجه فِي كِتَابه مُسْندًا فِي مَوَاضِع شَتَّى، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيثهَا فِي قصَّة نزُول آيَة التَّيَمُّم، ذكره فِي كتاب التَّيَمُّم. قَوْله: (حضرت الصُّبْح) ، الْقيَاس: حضر الصُّبْح، لِأَنَّهُ مُذَكّر، والتأنيث بِاعْتِبَار صَلَاة الصُّبْح. قَوْله: (فالتمس) بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فَنزل التَّيَمُّم) أَي: فَنزلت آيَة التَّيَمُّم، وَإسْنَاد النُّزُول إِلَى التَّيَمُّم مجَاز عَقْلِي.

169 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ إسْحاقَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أبي طَلْحَةَ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ أنَّهُ قالَ رَأَيْتُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وحانَتْ صَلاةُ العَصْرِ فالْتَمَسَ

(3/32)


النَّاسُ الوَضُوءَ فَلَمْ يَجِدُوهُ فَأُوتِيَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوَضُوءِ فَوَضَعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِكَ الاِناءِ يَدَهُ وأَمَرَ النَّاسَ أنْ يَتَوَضَّؤُا مِنْهُ قالَ فَرَأَيْتُ المَاءَ يَنْبِعُ مِنْ تَحْتِ أصابِعِهِ حَتَّى تَوَضَّؤُا مِنْ عِنْدِ آخِرِهِمْ.

وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة مَا ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. قد ذكرُوا كلهم، وَهُوَ من رباعيات البُخَارِيّ، وَأَبُو طَلْحَة اسْمه زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني وبصري، فعبد الله بن يُوسُف شَامي نزل تنيس، بَلْدَة بساحل الْبَحْر الْملح، بِالْقربِ من دمياط، وَالْيَوْم خراب: وَمَالك بن أنس وَإِسْحَاق مدنيان، وَأنس بن مَالك يعد من أهل الْبَصْرَة. وَمِنْهَا: أَن إِسْنَاده قريب إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن القعْنبِي. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ عَن معن، وَعَن أبي الطَّاهِر أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح عَن ابْن وهب وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة، خمستهم عَنهُ بِهِ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح.
بَيَان لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (حانت) بِالْحَاء الْمُهْملَة، أَي: قرب وَقت صَلَاة الْعَصْر، وَزَاد قَتَادَة: (وَهُوَ بالزوراء) ، وَهُوَ سوق بِالْمَدِينَةِ. قَوْله: (فالتمس النَّاس) الالتماس: الطّلب. قَوْله: (الْوضُوء) ، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ، وَكَذَا قَوْله: (فاتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوضُوء) بِالْفَتْح، قَوْله: (يَنْبع) فِيهِ ثَلَاث لُغَات: ضم الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسرهَا وَفتحهَا، وَمَعْنَاهُ: يخرج مثل مَا يخرج من الْعين. قَوْله: (من بَين أَصَابِعه) جمع: أصْبع، فِيهِ لُغَات: إِصْبَع، بِكَسْر الْهمزَة وَضمّهَا، وَالْبَاء مَفْتُوحَة فيهمَا، وَلَك أَن تتبع الضمة الضمة والكسرة الكسرة.
وَأما الْإِعْرَاب: فَقَوله: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِمَعْنى: أَبْصرت، فَلذَلِك اقْتصر على مفعول وَاحِد. قَوْله: (وحانت) الْوَاو، فِيهِ للْحَال، وَالتَّقْدِير: وَالْحَال أَنه قد حانت صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (فَلم يجدوه) بالضمير الْمَنْصُوب، رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَلم يَجدوا) ، بِدُونِ الضَّمِير، وَهُوَ من الوجدان بِمَعْنى الْإِصَابَة. قَوْله: (فاتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَالصَّحِيح من الرِّوَايَة: (فأُتي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِصِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فِي ذَلِك الْإِنَاء) مُتَعَلق بقوله: (فَوضع) ، و (يَده) مَنْصُوب بِهِ. قَوْله: (أَن يتوضؤا) أَي: بَان يتوضؤا، و: أَن، مَصْدَرِيَّة اي: بالتوضىء مِنْهُ، أَي: من ذَلِك الْإِنَاء. قَوْله: (قَالَ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَوْله: (يَنْبع) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَهُوَ الضَّمِير الَّذِي هُوَ فِيهِ الَّذِي يرجع إِلَى المَاء، وَهِي فِي مَحل النصب على الْحَال، وَقد علم أَن الْجُمْلَة أَن الْجُمْلَة الفعلية إِذا وَقعت حَالا تَأتي بِلَا، وَاو إِذا كَانَ فعلهَا مضارعاً. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون مَفْعُولا ثَانِيًا لرأيت؟ قلت: قد قلت لَك إِن: رَأَيْت، هُنَا بِمَعْنى: أَبْصرت، فَلَا تَقْتَضِي إلاَّ مَفْعُولا وَاحِدًا. قَوْله: (حَتَّى توضؤا) قَالَ الْكرْمَانِي: حَتَّى، للتدريج: وَمن، للْبَيَان أَي: تَوَضَّأ النَّاس حَتَّى تَوَضَّأ الَّذين من عِنْد آخِرهم ... وَهُوَ كِنَايَة عَن جَمِيعهم، ثمَّ نقل عَن النَّوَوِيّ أَن: من، فِي: من عِنْد آخِرهم، بِمَعْنى إِلَى، وَهِي لُغَة. ثمَّ قَالَ: أَقُول وُرُود: من، بِمَعْنى إِلَى شَاذ قل مَا، يَقع فِي فصيح الْكَلَام. قلت: حَتَّى، هَهُنَا حرف ابْتِدَاء، يَعْنِي حرف يبتدأ بعده جملَة، أَي: تسْتَأْنف فَتكون إسمية أَو فعلية، والفعلية يكون فعلهَا مَاضِيا ومضارعاً، وَمِثَال الإسمية قَول جرير.
(فَمَا زَالَت الْقَتْلَى تمج دماؤها ... بدجلة حَتَّى مَاء دجلة أشكل)

وَمِثَال الفعلية الَّتِي فعلهَا مَاض: {حَتَّى عفوا} (الْأَعْرَاف: 95) . و: (حَتَّى توضؤا) ، وَمِثَال الفعلية الَّتِي فعلهَا مضارع: {حَتَّى يَقُول الرَّسُول} (الْبَقَرَة: 214) فِي قِرَاءَة نَافِع. قَوْله: (من) ، للْبَيَان. قلت: إِنَّمَا تكون من للْبَيَان إِذا كَانَ فِيمَا قبلهَا إِبْهَام، وَلَا إِبْهَام هَهُنَا، لِأَن التَّقْدِير: وَأمر النَّاس أَن يتوضؤا فتوضؤا حَتَّى تَوَضَّأ من عِنْد آخِرهم، على ان: من، الَّتِي للْبَيَان كثيرا مَا يَقع بعد: مَا، وَمهما. الإفراط إبها مهما، نَحْو: {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا} (فاطر: 2) {وَمهما تأتنا بِهِ من آيَة} (الْأَعْرَاف: 132) وَمَعَ هَذَا أنكر قوم مجىء: من، لبَيَان الْجِنْس. وَالظَّاهِر ان: من، هَهُنَا للغاية، تَوَضَّأ النَّاس ابْتِدَاء من أَوَّلهمْ حَتَّى انْتَهوا إِلَى آخِرهم. على أَن: من، تَأتي على خَمْسَة عشر وَجها،

(3/33)


وَالْغَالِب عَلَيْهَا أَن تكون للغاية حَتَّى ادّعى قوم أَن سَائِر مَعَانِيهَا رَاجِعَة إِلَيْهَا، وَلم أجد فِي هَذِه الْمعَانِي الْخَمْسَة عشرَة مَجِيء: من، بِمَعْنى: إِلَى. وَادّعى الْكرْمَانِي أَنَّهَا لُغَة قوم وَلم يبين ذَلِك، ثمَّ أدعى أَنه شَاذ. قلت: إِن اسْتعْمل بِمَعْنى: الى، فِي كَون كل مِنْهُمَا للغاية لِأَن: من، لابتداء الْغَايَة، و: إِلَى، لانْتِهَاء الْغَايَة، يجوز ذَلِك لِأَن الْحُرُوف يَنُوب بَعْضهَا عَن بعض، وَالْمرَاد، بالغاية فِي قَوْلهم ابْتِدَاء الْغَايَة وانتهاء الْغَايَة، جَمِيع الْمسَافَة، إِذْ لَا معنى لابتداء الْغَايَة وانتهاء الْغَايَة، فَيكون معنى الحَدِيث: حَتَّى توضؤوا وانتهوا إِلَى آخِرهم وَلم يبْق مِنْهُم أحد، والشخص هُوَ آخِرهم دَاخل فِي هَذَا الحكم لِأَن السِّيَاق يقتضى الْعُمُوم وَالْمُبَالغَة، فَإِن قلت: عِنْد، ظرف خَاص وَاسم للحضور الْحسي، فالعموم من أَيْن يَأْتِي؟ قلت: عِنْد هُنَا تجْعَل لمُطلق الظَّرْفِيَّة حَتَّى تكون بِمَعْنى: فِي، كَأَنَّهُ. قَالَ: حَتَّى تَوَضَّأ الَّذين هم فِي آخِرهم، وَأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، دَاخل فِي عُمُوم لفظ النَّاس، وَلَكِن الْأُصُولِيِّينَ اخْتلفُوا فِي أَن الْمُخَاطب بِكَسْر الطَّاء دَاخل فِي عُمُوم مُتَعَلق خطابه أمرا أَو نهيا أَو خَبرا أم غير دَاخل؟ وَالْجُمْهُور على أَنه دَاخل.
بَيَان الْمعَانِي: قَوْله: (فَأتوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِوضُوء) وَفِي بعض الرِّوَايَات: (فَأتي بقدح رحراح) وَفِي بَعْضهَا: (زجاج) ، وَفِي بَعْضهَا: (جَفْنَة) ، وَفِي بَعْضهَا: (ميضأة) ، وَفِي بَعْضهَا: (مزادة) . وَفِي رِوَايَة ابْن الْمُبَارك: (فَانْطَلق رجل من الْقَوْم فجَاء بقدح من مَاء يسير) . وروى الْمُهلب أَنه كَانَ مِقْدَار وضوء رجل وَاحِد. قَوْله: (وامر النَّاس) ، وَكَانُوا خمس عشرَة وَمِائَة، وَفِي بعض الرِّوَايَات ثَمَانمِائَة، وَفِي بَعْضهَا زهاء ثَلَاثمِائَة، وَفِي بَعْضهَا، ثَمَانِينَ، وَفِي بَعْضهَا سبعين. قَوْله: (يَنْبع من تَحت أَصَابِعه) وَفِي بعض الرِّوَايَات: (يفور من بَين أَصَابِعه) ، وَفِي بَعْضهَا: (يتفجر من أَصَابِعه كأمثال الْعُيُون) ، وَفِي بَعْضهَا: (سكب مَاء فِي ركوة وَوضع إصبعه وبسطها وغسلها فِي المَاء) ، وَهَذِه المعجزة أعظم من تفجر الْحجر بِالْمَاءِ. وَقَالَ الْمُزنِيّ، نبع المَاء بَين أَصَابِعه أعظم مِمَّا أوتيه مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين ضرب بعصاه الْحجر فِي الأَرْض، لِأَن المَاء مَعْهُود أَن يتفجر من الْحِجَارَة، وَلَيْسَ بمعهود أَن يتفجر من بَين الْأَصَابِع، وَقَالَ غَيره: وَأما من لحم وَدم فَلم يعْهَد من غَيره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَهَذِه الْقَضِيَّة رَوَاهَا الثِّقَات من الْعدَد الْكثير عَن الجم الْغَفِير عَن الكافة مُتَّصِلا عَمَّن حدث بهَا من جملَة الصَّحَابَة، وأخبارهم أَن ذَلِك كَانَ فِي مَوَاطِن اجْتِمَاع الْكثير مِنْهُم من محافل الْمُسلمين وَمجمع العساكر، وَلم يرو وَاحِد من الصَّحَابَة مُخَالفَة للراوي فِيمَا رَوَاهُ، وَلَا إِنْكَار عَمَّا ذكر عَنْهُم أَنهم رَأَوْهُ كَمَا رَآهُ، فسكوت السَّاكِت مِنْهُم كنطق النَّاطِق مِنْهُم، إِذْ هم المنزهون عَن السُّكُوت على الْبَاطِل، والمداهنة فِي كذب وَلَيْسَ هُنَاكَ رَغْبَة وَلَا رهبة تمنعهم، فَهَذَا النَّوْع كُله مُلْحق بالقطعي من معجزاته، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِيه رد على ابْن بطال حَيْثُ قَالَ فِي شَرحه: هَذَا الحَدِيث شهده جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة، إلاَّ أَنه لم يروَ إلاَّ من طَرِيق أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذَلِكَ، وَالله تَعَالَى أعلم لطول عمره، وَيطْلب النَّاس الْعُلُوّ فِي السَّنَد.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ عدم وجوب طلب المَاء للتطهر قبل دُخُول الْوَقْت، لِأَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يُنكر عَلَيْهِم التَّأْخِير، فَدلَّ على الْجَوَاز. وَذكر ابْن بطال: أَن إِجْمَاع الامة على أَنه إِن تَوَضَّأ قبل الْوَقْت فَحسن، وَلَا يجوز التَّيَمُّم عِنْد أهل الْحجاز قبل دُخُول الْوَقْت، وَأَجَازَهُ الْعِرَاقِيُّونَ: الثَّانِي: أَن فِيهِ دَلِيلا على وجوب الْمُوَاسَاة عِنْد الضَّرُورَة لمن كَانَ فِي مَائه فضل عَن وضوئِهِ. الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن الصَّلَاة لَا تجب إلاَّ بِدُخُول الْوَقْت. الرَّابِع: يسْتَحبّ التمَاس الماى لمن كَانَ على غير طَهَارَة، وَعند دُخُول الْوَقْت يجب. الْخَامِس: فِيهِ رد على من يُنكر المعجزة من الْمَلَاحِدَة. السَّادِس: إستنبط الْمُهلب مِنْهُ أَن الْأَمْلَاك ترْتَفع عِنْد الضَّرُورَة، لِأَنَّهُ لما أُتِي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِالْمَاءِ لم يكن أحد أَحَق بِهِ من غَيره، بل كَانُوا فِيهِ سَوَاء، ونوقش فِيهِ، وَإِنَّمَا تجب الْمُوَاسَاة عِنْد الضَّرُورَة لمن كَانَ فِي مَائه فضل عَن وضوئِهِ.