عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 33 - (بابُ المَاءِ الَّذِي يُغْسَلُ بِهِ
شَعْرُ الاِنْسانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر
بني آدم.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب
الأول التمَاس النَّاس الْوضُوء، وَلَا يلْتَمس للْوُضُوء
إِلَّا المَاء الطَّاهِر، وَفِي هَذَا الْبَاب غسل شعر
الْإِنْسَان، وَشعر الانسان طَاهِر، فالماء الَّذِي يغسل
بِهِ طَاهِر، فَعلم أَن فِي كل من الْبَابَيْنِ اشْتِمَال
على حكم المَاء الطَّاهِر.
وكانَ عَطاءٌ لاَ يَرَى بِهِ بَأْساً أنْ يُتَّخَذَ
مِنْهَا الخُيُوطُ والحِبَالُ
(3/34)
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُحَمَّد بن
إِسْحَاق الفاكهي فِي (أَخْبَار مَكَّة) بِسَنَد صَحِيح
إِلَى عَطاء بن أبي رَبَاح أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا
بِالِانْتِفَاعِ بشعور النَّاس الَّتِي تحلق بِمني، وَلم
يقف الْكرْمَانِي على هَذَا حَتَّى قَالَ: الظَّاهِر أَن
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح. قَوْله: (ان يتَّخذ) بِفَتْح:
أَن، بَدَلا من الضَّمِير الْمَجْرُور فِي: بِهِ، كَمَا
فِي قَوْله: مَرَرْت بِهِ الْمِسْكِين، أَي: لَا يرى
بَأْسا باتخاذ الخيوط من الشّعْر. وَفِي بعض النّسخ لم
يُوجد لفظ: بِهِ، وَهُوَ ظَاهر. قَوْله: الخيوط، جمع خيط،
و: الحبال، جمع حَبل، وَالْفرق بَينهمَا بالرقة والغلظ،
ويروى عَن عَطاء أَن نجس الشّعْر، وَقَالَ ابْن بطال:
أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة رد قَول
الشَّافِعِي: إِن شعر الانسان إِذا فَارق الْجَسَد نجس،
وَإِذا وَقع فِي المَاء نجسه، إِذْ لَو كَانَ نجسا لما
جَازَ اتِّخَاذه خيوطاً وحبالاٌ. وَمذهب أبي حنيفَة أَنه
طَاهِر، وَكَذَا شعر الْميتَة والأجزاء الصلبة الَّتِي لَا
دم فِيهَا: كالقرون والعظم وَالسّن والحافر والظلف والخف
وَالشعر والوبر وَالصُّوف والعصب والريش والأنفحة الصلبة،
قَالَه فِي (الْبَدَائِع) . وَكَذَا من الْآدَمِيّ على
الْأَصَح، ذكره فِي (الْمُحِيط) و (التُّحْفَة) وَفِي
(قاضيخان) على الصَّحِيح: لَيست بنجسة عندنَا، وَقد
وَافَقنَا على صوفها ووبرها وشعرها وريشها مَالك وَأحمد
وَإِسْحَاق والمزني، وَهُوَ مَذْهَب عمر بن عبد الْعَزِيز
وَالْحسن وَحَمَّاد وَدَاوُد فِي الْعظم أَيْضا. وَقَالَ
النَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : حكى الْعَبدَرِي عَن
الْحسن وَعَطَاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث: إِنَّهَا
تنجس بِالْمَوْتِ، لَكِن تطهر بِالْغسْلِ. وَعَن القَاضِي
ابي الطّيب: الشّعْر وَالصُّوف والوبر والعظم والقرن
والظلف تحلها الْحَيَاة وتنجس بِالْمَوْتِ، هَذَا هُوَ
الْمَذْهَب، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ الْمُزنِيّ والبويطي
وَالربيع وحرملة عَن الشَّافِعِي، وروى ابراهيم الْبكْرِيّ
عَن الْمُزنِيّ عَن الشَّافِعِي أَنه رَجَعَ عَن تنجيس شعر
الْآدَمِيّ، وَحَكَاهُ أَيْضا الْمَاوَرْدِيّ عَن ابْن
شُرَيْح عَن الْقَاسِم الْأنمَاطِي عَن الْمُزنِيّ عَن
الشَّافِعِي، وَحكى الرّبيع الجيزي عَن الشَّافِعِي أَن
الشّعْر تَابع للجلد يطهر بِطَهَارَتِهِ وينجس
بِنَجَاسَتِهِ، قَالَ: وَأما شعر النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَالْمَذْهَب الصَّحِيح الْقطع
بِطَهَارَتِهِ. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِي الشّعْر
خلاف، فَإِن عَطاء يرْوى عَنهُ أَنه نجسه. قلت: يُشِير
بذلك إِلَى أَن اسْتِدْلَال البُخَارِيّ بِمَا روى عَن
عَطاء فِي طَهَارَة المَاء الَّذِي يغسل بِهِ الشّعْر نظر،
ثمَّ قَالَ: وَرَأى ابْن الْمُبَارك رجلا أَخذ شَعْرَة من
لحيته ثمَّ جعلهَا فِي فِيهِ، فَقَالَ لَهُ: مَه، أترد
الْميتَة إِلَى فِيك؟ فاما شعر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ مكرم مُعظم خَارج عَن هَذَا. قلت:
قَول الْمَاوَرْدِيّ: واما شعر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَالْمَذْهَب الصَّحِيح الْقطع بِطَهَارَتِهِ، يدل
على أَن لَهُم قولا بِغَيْر ذَلِك، فنعوذ بِاللَّه من
ذَلِك القَوْل. وَقد اخترق بعض الشَّافِعِيَّة، وَكَاد أَن
يخرج عَن دَائِرَة الْإِسْلَام، حَيْثُ قَالَ: وَفِي شعر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَجْهَان، وحاشا شعر
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من ذَلِك،
وَكَيف قَالَ هَذَا وَقد قيل بِطَهَارَة فضلاته فضلا عَن
شعره الْكَرِيم؟ وَقد قَالَ الْمَاوَرْدِيّ: إِنَّمَا قسم
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، شَرعه للتبرك،
وَلَا يتَوَقَّف التَّبَرُّك على كَونه طَاهِرا. قلت:
هَذَا أشنع من ذَلِك، وَقَالَ كثير من الشَّافِعِيَّة
نَحْو ذَلِك، ثمَّ قَالُوا: الَّذِي أَخذ كَانَ يَسِيرا
معفواً عَنهُ. قلت: هَذَا أقبح من الْكل، وغرضهم من ذَلِك
تمشية مَذْهَبهم فِي تنجيس شعر بني آدم، فَلَمَّا أورد
عَلَيْهِم شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
أولُوا هَذِه التأويلات الْفَاسِدَة، وَقَالَ بعض شرَّاح
البُخَارِيّ فِي بَوْله وذنه وَجْهَان والأليق الطَّهَارَة
وَذكر القَاضِي حُسَيْن فِي الْعذرَة وَجْهَيْن، وَأنكر
بَعضهم على الْغَزالِيّ حكايتهما فِيهَا، وَزعم نجاستها
بالِاتِّفَاقِ. قلت: يَا للغزالي من هفوات حَتَّى فِي
تعلقات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد
وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة أَن جمَاعَة شربوا دم النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مِنْهُم أَبُو طيبَة
الْحجام، وَغُلَام من قُرَيْش حجم النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَعبد الله بن الزبير شرب دم
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رَوَاهُ
الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ وَالْحَاكِم وَالْبَيْهَقِيّ
وَأَبُو نعيم فِي (الْحِلْية) . ويروى عَن عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه شرب دم النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَرُوِيَ أَيْضا أَن أم أَيمن شربت
بَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رَوَاهُ
الْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالطَّبَرَانِيّ وَأَبُو
نعيم، وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) فِي
رِوَايَة سلمى امْرَأَة ابي رَافع أَنَّهَا شربت بعض مَاء
غسل بِهِ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
فَقَالَ لَهَا حرم الله بدنك على النَّار. وَقَالَ بَعضهم:
الْحق أَن حكم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
كَحكم جَمِيع الْمُكَلّفين فِي الْأَحْكَام التكليفية:
إلاَّ فِيمَا يخص بِدَلِيل. قلت: يلْزم من هَذَا أَن يكون
النَّاس مساويين للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَلَا يَقُول بذلك إلاَّ جَاهِل غبي،
وَأَيْنَ مرتبته من مَرَاتِب النَّاس؟ وَلَا يلْزم أَن
يكون دَلِيل الْخُصُوص بِالنَّقْلِ دَائِما، وَالْعقل لَهُ
مدْخل فِي تميز النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
من غَيره فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء، وَأَنا اعْتقد أَنه
لَا يُقَاس عَلَيْهِ غَيره، وَإِن قَالُوا غير ذَلِك فاذني
عَنهُ صماء.
(3/35)
وسُؤْرِ الكِلابِ وَمَمرِّها فِي
المَسْجِدِ
وسؤر الْكلاب، بِالْجَرِّ، عطف على قَوْله: المَاء،
وَالتَّقْدِير: وَبَاب سُؤْر الْكلاب، يَعْنِي: مَا حكمه،
وَفِي بعض النّسخ جَمعهمَا فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِي
بَعْضهَا ذكرُوا كلهَا بعد قَوْله: (وممرها وَفِي
الْمَسْجِد) ، وَفِي بَعْضهَا سَاقِط، وَقصد البُخَارِيّ
بذلك إِثْبَات طَهَارَة الْكَلْب وطهارة سُؤْر الْكَلْب.
وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: أرى أَبَا عبد الله عَنى نَحْو
تَطْهِير الْكَلْب حَيا، وأباح سؤره، لما ذكره من هَذِه
الْأَخْبَار، وَهِي لعمري صَحِيحَة، إلاَّ أَن فِي
الِاسْتِدْلَال بهَا على طَهَارَة الْكَلْب نظرا، والسؤر،
بِالْهَمْزَةِ، بَقِيَّة المَاء الَّتِي يبقيها الشَّارِب:
وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ مَا بَقِي من الشَّرَاب وَغَيره.
وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه. والعامة لَا تهمزه، وَترك
الْهمزَة لَيْسَ بخطأ، وَلَكِن الْهمزَة أفْصح وَأعرف.
وَفِي (الواعي) : السؤر والسأر: الْبَقِيَّة من الشَّيْء.
وَقَالَ أَبُو هِلَال العسكري، فِي كتاب (البقايا) : هُوَ
مَا يبْقى فِي الْإِنَاء من الشَّرَاب بعد مَا شرب، يُقَال
مِنْهُ اسأر إسآراً، وَهُوَ مسئر، وَجَاء: سأر،
بِالتَّشْدِيدِ فِي الْمُبَالغَة.
وقالَ الزُّهْرِيُّ إِذا ولَغَ الكَلْبُ فِي إناءٍ لَيْسَ
لَهُ وَضُوءٌ غَيْرُهُ يتَوَضَّأُ بِهِ
قَول الزُّهْرِيّ هَذَا رَوَاهُ الْوَلِيد بن مُسلم فِي
مُصَنفه عَن الْأَوْزَاعِيّ، وَغَيره عَنهُ، وَلَفظه:
سَمِعت الزُّهْرِيّ: فِي إِنَاء ولغَ فِيهِ كلب فَلم يجد
مَاء غَيره قَالَ يتَوَضَّأ بِهِ اخرجه أبن عبد الْبر فِي
التَّمْهِيد من ذريقه بِسَنَد صَحِيح وَاسم الزُّهْرِيّ
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب. قَوْله: (ولغَ) اي: الْكَلْب،
والقرينة تدل عَلَيْهِ، وَجَاء فِي بعض الرِّوَايَات:
(إِذا ولغَ الْكَلْب) ، بِذكرِهِ صَرِيحًا، ولغَ: ماضٍ من
الولغ، وَهُوَ من الْكلاب وَالسِّبَاع كلهَا هُوَ أَن
يدْخل لِسَانه فِي المَاء وَغَيره من كل مَائِع فيحركه
فِيهِ، وَعَن ثَعْلَب: تحريكاً قَلِيلا أَو كثيرا، قَالَه
المطرزي. وَقَالَ مكي فِي شَرحه: فَإِن كَانَ غير مَائِع
قيل: لعقه ولحسه. قَالَ المطرزي: فَإِن كَانَ الْإِنَاء
فَارغًا يُقَال: لحسه، فَإِن كَانَ فِيهِ شَيْء يُقَال:
ولغَ، وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه: معنى ولغَ: لطع
بِلِسَانِهِ شرب فِيهِ أَو لم يشرب، كَانَ فِيهِ مَاء أَو
لم يكن. وَفِي (الصِّحَاح) : ولغَ الْكَلْب بشرابنا وَفِي
شرابنا وَمن شرابنا. وَقَالَ ابْن خالويه: ولغَ يلغ ولغاً
وولغاناً، وولغ ولغاً وولغاً وولغاناً وولوغاً، وَلَا
يُقَال: ولغَ فِي شَيْء من جوارحه سوى لِسَانه. وَقَالَ
ابْن جني: الولغ فِي الأَصْل شرب السبَاع بألسنتها، ثمَّ
كثر فَصَارَ الشّرْب مُطلقًا، وَذكر المطرزي أَنه يُقَال:
ولغَ، بِكَسْر اللَّام، وَهِي لُغَة غير فصيحة، ومستقبله:
يلغ، بِفَتْح اللَّام وَكسرهَا، وَقَالَ ابْن القطاع:
سكَّن بَعضهم اللَّام فَقَالَ: ولغَ. قَوْله: (لَيْسَ
لَهُ) أَي: لمن أَرَادَ أَن يتَوَضَّأ. قَوْله: (وضوء) ،
بِفَتْح الْوَاو: أَي المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ.
قَوْله: (غَيره) أَي غير مَا ولغَ فِيهِ، فَيجوز فِيهِ
الرّفْع وَالنّصب، وَالْجُمْلَة المنفية حَال. وَقَوله:
(يتَوَضَّأ) جَوَاب الشَّرْط. قَوْله: (بِهِ) أَي:
بِالْمَاءِ، وَفِي بعض النّسخ: بهَا، فيؤول الْإِنَاء:
بالمطهرة أَو الْإِدَاوَة، فَالْمَعْنى: يتَوَضَّأ
بِالْمَاءِ الَّذِي فِيهَا.
وقالَ سُفْيانُ: هَذَا الفِقْهُ بَعَيْنهِ يَقُولُ اللَّهُ
تَعالىَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا وهذَا ماءٌ
وَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ يَتَوضَأُ بِهِ
وَيَتَيَمَّمُ
سُفْيَان هَذَا هُوَ الثَّوْريّ، لِأَن الْوَلِيد بن مُسلم
لما روى هَذَا الْأَثر الَّذِي رَوَاهُ الزُّهْرِيّ ذكر
عَقِيبه بقوله: فَذكرت ذَلِك لِسُفْيَان الثَّوْريّ،
فَقَالَ: هَذَا وَالله الْفِقْه بِعَيْنِه، وَلَوْلَا
هَذَا التَّصْرِيح لَكَانَ الْمُتَبَادر إِلَى الذِّهْن
أَنه سُفْيَان بن عُيَيْنَة لكَونه مَعْرُوفا بالرواية عَن
الزُّهْرِيّ دون الثَّوْريّ. قَوْله: (هَذَا الْفِقْه
بِعَيْنِه) أَرَادَ أَن الحكم بِأَنَّهُ يتَوَضَّأ بِهِ
هُوَ الْمُسْتَفَاد من قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا
مَاء} (النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) لِأَن قَوْله
(مَاء) نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي فتعم وَلَا تَحض إِلَّا
لدَلِيل وَسمي الثَّوْريّ الْأَخْذ بِدلَالَة الْعُمُوم
قفهافإن قلت لما كَانَ الِاسْتِدْلَال بِالْعُمُومِ فقهاً
وَكَانَ مَذْكُورا فِي الْقُرْآن فَلم قَالَ وَفِي النَّفس
مِنْهُ شَيْء أَي دغدغه وَلم ءأى التَّيَمُّم بعد الْوضُوء
بِهِ قلت رُبمَا يكون ذَلِك لعدم ظُهُور دلَالَته أَو
لوُجُود معَارض لَهُ أما من الْقُرْآن أَو غير ذَلِك
فَلذَلِك قَالَ (يتَوَضَّأ بِهِ وَيتَيَمَّم) لِأَن المَاء
الَّذِي يشك فِيهِ اكالمعدوم وَقَالَ الْكرْمَانِي رَحمَه
الله وَلَا يخفى أَن الْوَاو بِمَعْنى ثمَّ إِذا
التَّيَمُّم بعد التوضىء قطعا قلت لَا نسلم ذَلِك فَإِن
هَذَا الْوَضع لَا يشْتَرط التَّرْتِيب بل الشَّرْط الْجمع
بَينهمَا سَوَاء قدم الْوضُوء أَو أَخّرهُ قَوْله (فَلم
تَجدوا مَاء) هَذَا نَص الْقُرْآن، وَوَقع فِي رِوَايَة
ابي الْحسن الْقَابِسِيّ عَن ابي زيد الْمروزِي، فِي
حِكَايَة قَول سُفْيَان، يَقُول الله تَعَالَى: {فان لم
تَجدوا مَاء} (النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) وَكَذَا
حَكَاهُ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) على البُخَارِيّ.
وَقَالَ الْقَابِسِيّ: قد ثَبت ذَلِك فِي الْأَحْكَام
لإسماعيل القَاضِي، يعْنى
(3/36)
بِإِسْنَادِهِ إِلَى سُفْيَان، قَالَ:
وَمَا أعرف من قَرَأَ بذلك. وَقَالَ بَعضهم: لَعَلَّ
الثَّوْريّ رَوَاهُ بِالْمَعْنَى. قلت: لَا يَصح هَذَا
أصلا، لِأَنَّهُ قلب كَلَام الله تَعَالَى، وَالظَّاهِر
أَنه سَهْو، أَو وَقع غَلطا.
170 - حدّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حَدثنَا
إسْرائِيلُ عنْ عاصِمٍ عَن ابنِ سيرِينَ قَالَ قُلْتُ
لَعبِيدَةَ عِنْدَنا مِنْ شَعَرِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أصَبْنَاهُ مِنْ قِبَلِ أنَسٍ أوْ مِنْ
قِبَلِ أهْلِ أنَسٍ فقالَ لاََنْ تَكُونَ عِنْدِي شَعَرَةٌ
مِنْهُ أحَبُّ مِنَ الدُّنْيا وَمَا فِيهَا.
(الحَدِيث 170 طرفه فِي: 171)
الْكَلَام فِيهِ من وُجُوه: الأول فِي رِجَاله وهم
خَمْسَة: الأول: مَالك بن إِسْمَاعِيل، أَبُو غَسَّان
النَّهْدِيّ، الْحَافِظ الْحجَّة العابد، روى عَنهُ مُسلم
وَالْأَرْبَعَة بِوَاسِطَة، مَاتَ فِي سنة تسع عشرَة
وَمِائَتَيْنِ، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة: مَالك بن
إِسْمَاعِيل، سواهُ الثَّانِي: إِسْرَائِيل ابْن يُونُس،
وَقد تقدم. الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحْوَال
الْبَصْرِيّ الثِّقَة الْحَافِظ، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ
وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين
وَقد تقدم. الْخَامِس: عُبَيْدَة، بِفَتْح الْعين وَكسر
الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره هَاء: ابْن عَمْرو،
وَيُقَال: ابْن قيس بن عَمْرو السَّلمَانِي، بِفَتْح
السِّين وَسُكُون اللَّام: الْمرَادِي الْكُوفِي، أسلم فِي
حَيَاة النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم
يلقه. وَقَالَ الْعجلِيّ: هُوَ كُوفِي تَابِعِيّ ثِقَة
جاهلي أسلم قبل وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِسنتَيْنِ، وَكَانَ أَعور؛ وَقَالَ سُفْيَان بن
عُيَيْنَة: كَانَ عُبَيْدَة يوازي شريحاً فِي الْعلم
وَالْقَضَاء، وَقَالَ ابْن نمير: كَانَ شُرَيْح إِذا أشكل
عَلَيْهِ الْأَمر كتب إِلَى عُبَيْدَة، روى لَهُ
الْجَمَاعَة، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَقيل:
ثَلَاث.
الثَّانِي فِي لطائف إِسْنَاده: مِنْهَا: أَن رُوَاته مَا
بَين بَصرِي وكوفي. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة
وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ
عَن التَّابِعِيّ.
الثَّالِث: أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَفِي رِوَايَته: أحب
إِلَيّ من كل صفراء وبيضاء.
الرَّابِع فِي مَعْنَاهُ واعرابه. قَوْله: (عندنَا من شعر
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) أَي: عندنَا
شَيْء من شعر، وَيحْتَمل أَن تكون: من، للتَّبْعِيض،
وَالتَّقْدِير: بعض شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَيكون: بعض، مُبْتَدأ وَقَوله: عندنَا،
خَبره. وَيجوز أَن يكون الْمُبْتَدَأ محذوفاً أَي: عندنَا
شَيْء من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
أَو عندنَا من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ السَّلَام شَيْء.
قَوْله: (اصبناه من قبل انس) أَي: حصل لنا من جِهَة أنس
ابْن مَالك، رَضِي الله عَنهُ. وَقَوله: (أَو) للتشكيك.
قَوْله: (لِأَن تكون) ، اللَّام: فِيهِ لَام الِابْتِدَاء
للتَّأْكِيد، و: أَن، مَصْدَرِيَّة، و: تكون، نَاقِصَة،
وَيحْتَمل أَن تكون تَامَّة، وَالتَّقْدِير: كَون شَعْرَة
عِنْد من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام
أحب إِلَيّ من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا من متاعها.
الْخَامِس فِي حكم المستنبط مِنْهُ: وَهُوَ أَنه لما جَازَ
أتخاذ شعر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
والتبرك بِهِ لطارته ونظافته، دلّ على أَن مُطلق الشّعْر
طَاهِر، أَلا تى أَن خَالِد بن الْوَلِيد، رَضِي الله
عَنهُ، جعل فِي قلنسوته من شعر رَسُول الله، عَلَيْهِ
السَّلَام، فَكَانَ يدْخل بهَا فِي الْحَرْب ويستنصر
ببركته، فَسَقَطت عَنهُ يَوْم الْيَمَامَة، فَاشْتَدَّ
عَلَيْهَا شدَّة، وَأنكر عَلَيْهِ الصَّحَابَة، فَقَالَ:
إِنِّي لم افْعَل ذَلِك لقيمة القلنسوة. لَكِن كرهت أَن
تقع بأيدي الْمُشْركين وفيهَا من شعر النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام. ثمَّ إِن البُخَارِيّ اسْتدلَّ
بِهِ على أَن الشّعْر طَاهِر وإلاَّ لما حفظوه، وَلَا تمنى
عُبَيْدَة أَن تكون عِنْده شَعْرَة وَاحِدَة مِنْهُ،
وَإِذا كَانَ طَاهِرا فالماء الَّذِي يغسل بِهِ طَاهِر،
وَهُوَ مُطَابق لترجمة الْبَاب، وَلما وَضعه البُخَارِيّ
فِي المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان ذكر هَذَا
الْأَثر مطابقاً للتَّرْجَمَة، ودليلاً لما ادَّعَاهُ،
ثمَّ ذكر حَدِيثا آخر مَرْفُوعا على مَا يَأْتِي الْآن.
171 - حدّثنا مُحمَّدُ بنُ عَبْدِ الرَّحيم قَالَ أخبرنَا
سَعِيدُ بنُ سُلَيْمانَ قَالَ حدّثنا عَبَّادٌ عَن ابنِ
عَوْنٍ عَن ابْن سِيرينَ عَنْ أنَسٍ أنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا حَلَقَ رَأسَهُ كانَ أبُو
طَلْحَةَ أوّلَ منْ أخَذَ مِنْ شَعَرِهِ.
(انْظُر الحَدِيث: 170)
هَذَا هُوَ الدَّلِيل الثَّانِي لما ادَّعَاهُ البُخَارِيّ
من طَهَارَة الشّعْر، وطهارة المَاء الَّذِي يغسل بِهِ،
المطابق للتَّرْجَمَة الأولى، وَهِي قَوْله: (طَهَارَة
المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الانسان) .
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة. الأول: مُحَمَّد بن عبد
الرَّحِيم صَاعِقَة، تقدم. الثَّانِي: سعيد بن سُلَيْمَان
الضَّبِّيّ الْبَزَّار أَبُو عُثْمَان سَعْدَوَيْه
الْحَافِظ الوَاسِطِيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ وَأَبُو
دَاوُد، حج سِتِّينَ حجَّة، مَاتَ سنة خمس وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ عَن مائَة سنة. الثَّالِث: عباد، بتَشْديد
الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ ابْن الْعَوام الوَاسِطِيّ،
أَبُو سهل،
(3/37)
مَاتَ سنة خمس وَثَمَانِينَ وَمِائَة،
ثِقَة صَدُوق، عَن أَحْمد أَنه مُضْطَرب الحَدِيث. وَقَالَ
مُحَمَّد بن سعد: كَانَ يتشيع، فَأَخذه هَارُون فحبسه
زَمَانا ثمَّ خلى عَنهُ، وَأقَام بِبَغْدَاد. الرَّابِع:
ابْن عون، بِفَتْح الْغَيْن الْمُهْملَة وَفِي آخر نون:
هُوَ عبد الله بن عون، تَابِعِيّ سيد قراء زَمَانه، وَقد
تقدم فِي بَاب قَول النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، رب مبلغ. الْخَامِس: مُحَمَّد بن سِيرِين،
وَقد تكَرر ذكره. السَّادِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله
عَنهُ. السَّابِع: أَبُو طَلْحَة الْأنْصَارِيّ، زوج أم
سليم، وَالِدَة أنس، رَضِي الله عَنهُ. وَاسم ابي طَلْحَة:
زيد بن سهل بن الْأسود النجاري، شهد الْعقبَة وبدراً
وأُحداً والمشاهد كلهَا مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة
اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَصلى عَلَيْهِ عُثْمَان بن
عَفَّان.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي، وَهُوَ
شيخ البُخَارِيّ، وواسطي وبصري. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ، فَالْأول عبد الله بن
عون. وَفِي مُسلم وللنسائي عبد الله بن عون بن أَمِير مصر،
وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة غَيرهمَا، وَمَعَ هَذِه
اللطائف إِسْنَاده نَازل، لَان البُخَارِيّ سمع من شيخ
شَيْخه سعيد بن سُلَيْمَان، بل سمع من ابْن عَاصِم وَغَيره
من أَصْحَاب ابْن عون، فَيَقَع بَينه وَبَين ابْن عون
وَاحِد، وَهنا بَينه وَبَينه ثَلَاثَة أنفس.
بَيَان من اخراجه غَيره لم يُخرجهُ أحد من السِّتَّة غَيره
بِهَذِهِ الْعبارَة وَهَذَا السَّنَد، وَهُوَ أَيْضا أخرجه
هُنَا فِي كِتَابه فَقَط، وَأخرجه أَبُو عوَانَة فِي
صَحِيحه، وَلَفظه: (إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَمر الحلاق فحلق رَأسه وَدفع إِلَى ابي طَلْحَة
الشق الْأَيْمن، ثمَّ حلق الشق الآخر فَأمره أَن يقسمهُ
بَين النَّاس) . وَرَوَاهُ مُسلم من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة
عَن هِشَام بن حسان عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: (لما رمى
الْجَمْرَة وَنحر نُسكه ناول الحلاق شقَّه الْأَيْمن
فحلقه، ثمَّ دَعَا أَبَا طَلْحَة فَأعْطَاهُ إِيَّاه، ثمَّ
نَاوَلَهُ الشق الْأَيْسَر فحلقه فَأعْطَاهُ أَبَا
طَلْحَة، فَقَالَ: إقسمه بَين النَّاس) . وَله من رِوَايَة
حَفْص بن غياث عَن هِشَام: (أَنه قسم الْأَيْمن فِيمَن
يَلِيهِ) ، وَفِي لفظ: (فوزعه بَين النَّاس. الشعرة
والشعرتين. وَأعْطِي الْأَيْسَر أم سليم) . وَفِي لفظ:
أَبَا طَلْحَة. فَإِن قلت: فِي هَذِه الرِّوَايَات تنَاقض
ظَاهر. قلت: لَا تنَاقض، بل يجمع بَينهمَا بِأَنَّهُ ناول
أَبَا طَلْحَة كلا من الشقين، فَأَما الْأَيْمن فوزعه
أَبُو طَلْحَة بأَمْره بَين النَّاس وَأما الايسر
فَأعْطَاهُ لأم سليم زَوجته بأَمْره، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام أَيْضا، زَاد أَحْمد فِي رِوَايَة لَهُ:
(لتجعله فِي طيبها) .
بَيَان استنباط الاحكام من الاحاديث الْمَذْكُورَة: الأول:
أَن فِيهِ الْمُوَاسَاة بَين الْأَصْحَاب فِي الْعَطِيَّة
وَالْهِبَة. الثَّانِي: الْمُوَاسَاة لَا تَسْتَلْزِم
الْمُسَاوَاة. الثَّالِث: فِيهِ تنفيل من يتَوَلَّى
التَّفْرِقَة على غَيره. الرَّابِع: فِيهِ أَن حلق
الرَّأْس سنة أَو مُسْتَحبَّة اقْتِدَاء بِفِعْلِهِ،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. الْخَامِس: فِيهِ أَن
الشّعْر طَاهِر. السَّادِس: أَن فِيهِ التَّبَرُّك بِشعر
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. السَّابِع: أَن
فِيهِ جَوَاز اقتناء الشّعْر، فَإِن قلت: من كَانَ الحالق
لرَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ قلت:
اخْتلفُوا فِيهِ، قيل: هُوَ خرَاش بن امية، وَهُوَ بِكَسْر
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره شين مُعْجمَة أَيْضا.
وَقيل: معمر بن عبد الله، وَهُوَ الصَّحِيح، وَكَانَ خرَاش
هُوَ الحالق بِالْحُدَيْبِية.
172 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ عَن مالِكٍ عنَ
أبي الزِّنادِ عَنِ الاَعْرَجِ عنْ أبي هُريْرَةَ قالَ
إنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إِذا
شَرِبَ الكَلْبُ فِي إناءِ أحَدِكُمْ فَلْيغْسِلْهُ
سَبْعاً.
لما ذكر البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب حكمين ثَانِيهمَا
فِي سُؤْر الْكَلْب أُتِي بِدَلِيل من الخديث الْمَرْفُوع
وَهُوَ أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة بَيَان رِجَاله: وهم
خَمْسَة كلهم ذكرُوا غير مرّة، وَمَالك هُوَ ابْن أنس،
وَأَبُو زناد، بِكَسْر الزَّاي الْمُعْجَمَة بعْدهَا
النُّون، واسْمه عبد الله بن ذكْوَان، والأعرج اسْمه عبد
الرَّحْمَن بن هُرْمُز.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم أَئِمَّة أجلاء.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
هُنَا عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي
الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
أَيْضا عَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن عبد الرَّحْمَن بن
الْقَاسِم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ أَيْضا عَن
قُتَيْبَة. وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا عَن مُحَمَّد بن
يحيى عَن روح بن عبَادَة، خمستهم عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه
مُسلم أَيْضا من حَدِيث الْأَعْمَش عَن ابْن رزين، وابي
صَالح عَن ابي هُرَيْرَة، بِلَفْظ: (إِذا ولغَ) ، بدل:
(شرب) ، وَمن حَدِيث
(3/38)
مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة:
(طهُور إِنَاء أحدكُم إِذا ولع فِيهِ الْكَلْب أَن يغسلهُ
سبع مَرَّات أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ، وَإِذا ولغت فِيهِ
الْهِرَّة غسله مرّة وَاحِدَة) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الطَّهَارَة عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن
سوار بن عبد الله الْعَنْبَري، كِلَاهُمَا عَن مُعْتَمر بن
سُلَيْمَان بِهِ، وَوَقفه مُسَدّد وَرَفعه سواهُ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ أَبُو دَاوُد:
ذكر الهر مَوْقُوف. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: مدرج.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (إِذا شرب الْكَلْب) كَذَا هُوَ
فِي (الْمُوَطَّأ) ، وَالْمَشْهُور عَن أبي هُرَيْرَة من
رِوَايَة جُمْهُور اصحابه عَنهُ: (إِذا ولغَ) ، وَهُوَ
الْمَعْرُوف فِي اللُّغَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ضمن:
شرب، معنى: ولغَ، فعدي تعديته. يُقَال: ولغَ الْكَلْب من
شرابنا، كَمَا يُقَال: فِي شرابنا، وَيُقَال: ولغَ شرابنا
أَيْضا. قلت: الشَّارِع أفْصح الفصحاء، وَرُوِيَ عَنهُ:
(شرب) ، و: (ولغَ) ، لتقاربهما فِي الْمَعْنى، وَلَا
حَاجَة إِلَى هَذَا التَّكَلُّف. فان قلت: الشّرْب أخص من
الولوغ فَلَا يقوم مقَامه. قلت: لَا نسلم عدم قيام
الْأَخَص مقَام الْأَعَمّ، لِأَن الْخَاص لَهُ دلَالَة على
الْعَام اللَّازِم، كَلَفْظِ الْإِنْسَان لَهُ دلَالَة على
مَفْهُوم الْحَيَوَان بالتضمن، لِأَنَّهُ جُزْء مَفْهُومه،
وَكَذَا لَهُ دلَالَة على مَفْهُوم الْمَاشِي بِالْقُوَّةِ
بالالتزام، لكَونه خَارِجا عَن معنى الْإِنْسَان لَازِما
لَهُ، فعلى هَذَا يجوز أَن يذكر الشّرْب ويرادبه الولوغ.
وَادّعى ابْن عبد الْبر أَن لَفْظَة: شرب، لم يروه إلاَّ
مَالك، وَأَن غَيره رَوَاهُ بِلَفْظ: ولغَ، وَلَيْسَ
كَذَلِك، فقد رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن الْمُنْذر من
طَرِيقين عَن هِشَام بن حسان عَن ابْن سِيرِين عَن ابي
هُرَيْرَة بِلَفْظ: (إِذا شرب) ، لَكِن الْمَشْهُور عَن
هِشَام بن حسان بِلَفْظ: (إِذا ولغَ) ، كَذَا أخرجه مُسلم
وَغَيره من طَرِيق عَنهُ، وَقد رَوَاهُ عَن ابي الزِّنَاد
شيخ مَالك بِلَفْظ: (إِذا شرب) ، وَرُوِيَ أَيْضا عَن
مَالك بِلَفْظ: (إِذا ولغَ) أخرجه أَبُو عبيد فِي (كتاب
الطّهُور) لَهُ عَن إِسْمَاعِيل بن عمر عَنهُ، وَمن
طَرِيقه أوردهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا أخرجه
الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْمُوَطَّأ) لَهُ من طَرِيق أبي
عَليّ الْحَنَفِيّ.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ دلَالَة على نَجَاسَة
الْكَلْب، لِأَن الطَّهَارَة لَا تكون إلاَّ عَن حدث أَو
نجس، وَالْأول مُنْتَفٍ فَتعين الثَّانِي، فَإِن قلت:
اسْتدلَّ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب الْمُشْتَمل على
الْحكمَيْنِ على الحكم الثَّانِي وَهُوَ سُؤْر الْكَلْب
بالأثر الَّذِي رَوَاهُ عَن الزُّهْرِيّ وَالثَّوْري، ثمَّ
اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث الْمَرْفُوع، فَمَا وَجه
دلَالَة هَذَا على مَا ادَّعَاهُ، وَالْحَال أَن الحَدِيث
يدل على خلاف مَا يَقُوله؟ قلت: أجَاب عَنهُ من ينصره
ويتغالى فِيهِ بِأَن سُؤْر الْكَلْب طَاهِر، وَأَن الْأَمر
بِغسْل الْإِنَاء سبعا من ولوغه أَمر تعبدي، فَلَا يدل على
نَجَاسَته. قلت: هَذَا بعيد جدا، لِأَن دلَالَة ظَاهر
الحَدِيث على خلاف مَا ذَكرُوهُ، على أَنا، وَلَئِن سلمنَا
أَنه يحْتَمل أَن يكون الامر لنجاسته، وَيحْتَمل أَن يكون
للتعبد، وَلَكِن رجح الأول مَا رَوَاهُ مُسلم: (طهُور
إِنَاء أحدكُم إِذا ولغَ الْكَلْب أَن يغسلهُ سبع مَرَّات
أولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ) ، وَرِوَايَته أَيْضا (إِذا ولغَ
الْكَلْب فِي إِنَاء احدكم فليرقه ثمَّ ليغسله سبع
مَرَّات) ، وَلَو كَانَ سؤره طَاهِرا لما أَمر بإراقته،
وَالَّذِي قَالُوهُ نصْرَة للْبُخَارِيّ بِغَيْر مَا يذكر
عَن الْمَالِكِيَّة. فان قلت: من قَالَ إِن البُخَارِيّ
ذهب إِلَى مَا نسبوه لَهُ؟ قلت: قَالَ ابْن بطال فِي
شَرحه: ذكر البُخَارِيّ أَرْبَعَة أَحَادِيث فِي الْكَلْب،
وغرضه من ذَلِك إِثْبَات طَهَارَة الْكَلْب وطهارة سؤره.
أَقُول: كَلَام ابْن بطال لَيْسَ بِحجَّة، فَلم، لَا يجوز
أَن يكون غَرَضه بَيَان مَذَاهِب النَّاس فَبين فِي هَذَا
الْبَاب مَسْأَلَتَيْنِ: أولاهما المَاء الَّذِي يغسل بِهِ
الشّعْر، وَالثَّانيَِة: سُؤْر الْكلاب؟ بل الظَّاهِر
هَذَا، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَنه قَالَ فِي الْمَسْأَلَة
الثَّانِيَة: وسؤر الْكلاب، وَاقْتصر على هَذِه اللَّفْظَة
وَلم يقل وطهارة سُؤْر الْكلاب.
الثَّانِي: فِيهِ نَجَاسَة الْإِنَاء، وَلَا فرق بَين
الْكَلْب الْمَأْذُون فِي اقتنائه وَغَيره، وَلَا بَين
الْكَلْب البدوي والحضري لعُمُوم اللَّفْظ، وللمالكية
فِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: طَهَارَته، ونجاسته، وطهارة
سُؤْر الْمَأْذُون فِي اتِّخَاذه دون غَيره، وَالْفرق بَين
الحضري والبدوي. وَقَالَ الرَّافِعِيّ فِي (شَرحه
الْكَبِير) : وَعند مَالك لَا يغسل فِي غير الولوغ، لِأَن
الْكَلْب طَاهِر عِنْده. وَالْغسْل من الولوغ تعبدي.
وَقَالَ الْخطابِيّ: إِذا ثَبت أَن لِسَانه الَّذِي
يتَنَاوَل بِهِ المَاء نجس، علم أَن سَائِر أَجْزَائِهِ
فِي النَّجَاسَة بِمَثَابَة لِسَانه، فَأَي جُزْء من بدنه
مَسّه وَجب تَطْهِيره.
الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن المَاء النَّجس يجب
تَطْهِير الْإِنَاء مِنْهُ.
الرَّابِع: قَالَ الْكرْمَانِي: فِيهِ دَلِيل على تَحْرِيم
بيع الْكَلْب إِذْ كَانَ نجس الذَّات، فَصَارَت كَسَائِر
النَّجَاسَات. قلت: يجوز بَيْعه عِنْد اصحابنا لِأَنَّهُ
منتفع بِهِ حراسةً واصطياداً. قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا
علمْتُم من الْجَوَارِح
(3/39)
مكلبين} (الْمَائِدَة: 4) فَإِن قلت: نهى
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ثمن الْكَلْب،
وَمهر الْبَغي، وحلوان الكاهن، قلت: هَذَا كَانَ فِي زمن
كَانَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَمر
فِيهِ بقتل الْكلاب، وَكَانَ الِانْتِفَاع بهَا يَوْمئِذٍ
محرما، ثمَّ بعد ذَلِك رخص فِي الِانْتِفَاع بهَا، وروى
الطَّحَاوِيّ عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده
عَن عبد الله بن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا، أَنه قضى فِي
كلب صيد قَتله رجل بِأَرْبَعِينَ درهما، وَقضى فِي كلب
مَاشِيَة بكبش، وَعنهُ عَن عَطاء: لَا بَأْس بِثمن
الْكَلْب، فَهَذَا قَول عَطاء، رَضِي الله عَنهُ، وَرُوِيَ
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن ثمن الْكَلْب من
السُّحت، وَعنهُ عَن ابْن شهَاب أَنه إِذا قتل الْكَلْب
الْمعلم فَإِنَّهُ تقوم قِيمَته فيغرمه الَّذِي قَتله،
فَهَذَا الزُّهْرِيّ يَقُول هَذَا، وَقد رُوِيَ عَن ابي
بكر بن عبد الرَّحْمَن أَن ثمن الْكَلْب من السُّحت،
وَعنهُ عَن مُغيرَة عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: لَا بَأْس
بِثمن كلب الصَّيْد، وَرُوِيَ عَن مَالك إجَازَة بيع كلب
الصَّيْد وَالزَّرْع والماشية، وَلَا خلاف عَنهُ أَن من
قتل كلب صيد أَو مَاشِيَة فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ قِيمَته،
وَعَن عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، أَنه أجَاز الْكَلْب
الضاري فِي الْمهْر وَجعل على قَاتله عشْرين من الْإِبِل،
ذكره أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) [/ ح.
الْخَامِس: استدلت بِهِ الشَّافِعِيَّة على وجوب غسل
الْإِنَاء الَّذِي ولغَ فِيهِ الْكَلْب سبع مَرَّات، وَلَا
فرق عِنْدهم بَين ولوغه وَغَيره، وَبَين بَوْله وروثه
وَدَمه وعرقه وَنَحْو ذَلِك، وَلَو ولغَ كلاب أَو كلب
وَاحِد مَرَّات فِي إِنَاء فِيهِ ثَلَاثَة أوجه:
الصَّحِيح: يَكْفِي للْجَمِيع سبع مَرَّات. وَالثَّانِي:
أَنه يجب لكل وَاحِد سبع. وَالثَّالِث: أَنه يَكْفِي
لولغات الْكَلْب الْوَاحِد سبع، وَيجب لكل كلب سبع، وَلَو
وَقعت نَجَاسَة أُخْرَى فِيمَا ولغَ فِيهِ كفى عَن
الْجَمِيع سبع، وَلَو كَانَت نَجَاسَة الْكَلْب دَمه فَلم
تزل عينه إلاَّ بست غسلات مثلا، فَهَل يحْسب ذَلِك سِتّ
غسلات أم غسلة وَاحِدَة أم لَا يحْسب من السَّبع أصلا؟
فِيهِ أَيْضا ثَلَاثَة أوجه أَصَحهَا وَاحِدَة، قَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: ظَاهر لفظ الحَدِيث يدل على أَنه
لَو كَانَ المَاء الَّذِي فِي الْإِنَاء قُلَّتَيْنِ وَلم
تَتَغَيَّر أَوْصَافه لكثرته كَانَ الولوغ فِيهِ منجساً
أَيْضا، لَكِن الْفُقَهَاء لم يَقُولُوا بِهِ. قلت: لَا
نسلم أَن ظَاهره دلّ عَلَيْهِ، إِذْ الْغَالِب فِي أوانيهم
أَنَّهَا مَا كَانَت تسع الْقلَّتَيْنِ، فبلفظ الْإِنَاء
خرج عَنهُ قلتان وَمَا فَوْقه. قلت: إِذا كَانَ الْإِنَاء
يسع الْقلَّتَيْنِ أَو أَكثر، فَمَاذَا يكون حكمه؟ والإناء
لَا يُطلق إلاَّ على مَا لَا يسع فِيهِ إلاَّ مَا دون
الْقلَّتَيْنِ، وَاللَّفْظ أَعم من ذَلِك.
السَّادِس: انه ورد فِي هَذَا الحَدِيث (سبعا) أَي: سبع
مَرَّات، وَفِي رِوَايَة: (سبع مَرَّات أولَاهُنَّ
بِالتُّرَابِ) . وَفِي رِوَايَة: (أولَاهُنَّ أَو أخراهن)
، وَفِي رِوَايَة: (سبع مَرَّات السَّابِعَة بِتُرَاب) ،
وَفِي رِوَايَة: (سبع مَرَّات وعفروه الثَّامِنَة
بِالتُّرَابِ) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَأما رِوَايَة:
وغفروه الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ، فمذهبنا وَمذهب
الجماهير، إِذا المُرَاد: إغسلوه سبعا وَاحِدَة مِنْهُنَّ
بِتُرَاب مَعَ المَاء، فَكَانَ التُّرَاب قَائِما مقَام
غسله، فسميت ثامنة. وَقَالَ بَعضهم: خَالف ظَاهر هَذَا
الحَدِيث الْمَالِكِيَّة وَالْحَنَفِيَّة، أما
الْمَالِكِيَّة فَلم يَقُولُوا بالتتريب أصلا مَعَ إيجابهم
السَّبع على الْمَشْهُور عِنْدهم، وَأجِيب: عَن ذَلِك
بِأَن التتريب لم يَقع فِي رِوَايَة مَالك، على أَن
الْأَمر بالتسبيع عِنْده للنَّدْب لكَون الْكَلْب طَاهِرا
عِنْده. فَإِن عورض بالرواية الَّتِي روى عَنهُ أَنه نجس
أُجِيب بِأَن قَاعِدَته أَن المَاء لَا ينجس إلاَّ
بالتغير، فَلَا يجب التسبيع للنَّجَاسَة بل للتعبد، فَإِن
عورض بِمَا رَوَاهُ مُسلم عَن ابي هُرَيْرَة: (طهُور
إِنَاء أحدكُم) أُجِيب: بإن الطَّهَارَة تطلق على غير
ذَلِك كَمَا فِي {خُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ}
(التَّوْبَة: 103) و: (السِّوَاك مطهرة للفم) ، فَإِن عورض
بِأَن اللَّفْظ الشَّرْعِيّ إِذا دَار بَين الْحَقِيقَة
اللُّغَوِيَّة والشرعية حملت على الشَّرْعِيَّة إلاَّ إِذا
قَامَ دَلِيل، أُجِيب: بِأَن ذَلِك عِنْد عدم الدَّلِيل،
وَهنا يحْتَمل أَن يكون من قبيل قَوْله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (التَّيَمُّم طهُور الْمُسلم) .
وَبَعض الْمَالِكِيَّة قَالُوا: الْأَمر بِالْغسْلِ من
ولوغه فِي الْكَلْب الْمنْهِي عَن اتِّخَاذه دون
الْمَأْذُون فِيهِ، فَإِن عورض بِعَدَمِ الْقَرِينَة فِي
ذَلِك، أُجِيب: بِأَن الْأذن فِي مَوَاضِع جَوَاز الاتخاذ
قرينَة، وَبَعْضهمْ قَالُوا: إِن ذَلِك مَخْصُوص بالكلب
الكَلِب، وَالْحكمَة فِيهِ من جِهَة الطِّبّ، لِأَن
الشَّارِع اعْتبر السَّبع فِي مَوَاضِع، مِنْهَا قَوْله:
(صبوا عَليّ من سبع قرب) ، وَمِنْهَا قَوْله: (من تصبح
بِسبع تمرات) ، فَإِن عورض بِأَن الْكَلْب الكِلب لَا يقرب
المَاء، فَكيف يَأْمر بِالْغسْلِ من ولوغه؟ اجيب:
بِأَنَّهُ لَا يقرب بعد استحكام ذَلِك، اما فِي ابْتِدَائه
فَلَا يمْتَنع، فان عورض بِمَنْع استلزام التَّخْصِيص
بِلَا دَلِيل، وَالتَّعْلِيل بالتنجيس أولى، لِأَنَّهُ فِي
معنى الْمَنْصُوص، وَقد ثَبت عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا التَّصْرِيح بِأَن الْغسْل من ولوغ
الْكَلْب لِأَنَّهُ رِجْس، رَوَاهُ مُحَمَّد بن نضر
الْمروزِي بأسناد صَحِيح، وَلم يَصح عَن أحد من
الصَّحَابَة خِلَافه. أُجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون
هَذَا الْإِطْلَاق مثل إِطْلَاق الرجس على الميسر
والانصاب.
واما الْحَنَفِيَّة فَلم يَقُولُوا بِوُجُوب السَّبع،
وَلَا التتريب. قلت: لم يَقُولُوا بذلك لِأَن أَبَا
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الَّذِي روى
السَّبع، رُوِيَ عَنهُ غسل الْإِنَاء مرّة من ولوغ
(3/40)
الْكَلْب ثَلَاثًا فعلا وقولاً مَرْفُوعا
وموقوفاً من طَرِيقين: الأول: أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ
بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان
عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (إِذا ولغَ الْكَلْب
فِي الْإِنَاء فأهرقه ثمَّ اغسله ثَلَاث مَرَّات) ، قَالَ
الشَّيْخ تَقِيّ الدّين فِي الإِمَام: هَذَا إِسْنَاد
صَحِيح. الطَّرِيق الثَّانِي: أخرجه ابْن عدي فِي
(الْكَامِل) عَن الْحُسَيْن بن عَليّ الْكَرَابِيسِي،
قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق الْأَزْرَق، حَدثنَا عبد الْملك
عَن عَطاء عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا ولغَ الْكَلْب فِي إِنَاء
أحدكُم فليهرقه وليغسله ثَلَاث مَرَّات) ، ثمَّ أخرجه عَن
عمر بن شبة أَيْضا: حَدثنَا إِسْحَاق الْأَزْرَق بِهِ
مَوْقُوفا، وَلم يرفعهُ غير الْكَرَابِيسِي. قلت: قَالَ
الْبَيْهَقِيّ: تفرد بِهِ عبد الْملك من أَصْحَاب عَطاء،
ثمَّ عَطاء من أَصْحَاب أبي هُرَيْرَة والحفاظ الثِّقَات
من أَصْحَاب عَطاء وَأَصْحَاب ابي هُرَيْرَة يَرْوُونَهُ:
سبع مَرَّات، وَفِي ذَلِك دلَالَة على خطأ رِوَايَة عبد
الْملك بن أبي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن ابي هُرَيْرَة فِي
الثَّلَاث، وَعبد الْملك لَا يقبل مِنْهُ مَا يُخَالف
الثِّقَات، ولمخالفته أهل الْحِفْظ والثقة فِي بعض رواياته
تَركه شُعْبَة بن الْحجَّاج وَلم يحْتَج بِهِ البُخَارِيّ
فِي (صَحِيحه) : قلت: عبد الْملك أخرج لَهُ مُسلم فِي
صَحِيحه، وَقَالَ أَحْمد وَالثَّوْري: هُوَ من الْحفاظ،
وَعَن الثَّوْريّ: هُوَ ثِقَة فَقِيه متقن، وَقَالَ أَحْمد
بن عبد الله: ثِقَة ثَبت فِي الحَدِيث، وَيُقَال: كَانَ
الثَّوْريّ يُسَمِّيه الْمِيزَان. وَأما الْكَرَابِيسِي
فقد قَالَ: ابْن عدي قَالَ لنا: أَحْمد بن الْحسن
الْكَرَابِيسِي يسْأَل مِنْهُ والكرابيسي لَهُ كتب مصنفة
ذكر فِيهَا اخْتِلَاف النَّاس فِي الْمسَائِل وَذكر فِيهَا
أَخْبَارًا كَثِيرَة، وَكَانَ حَافِظًا لَهَا، وَلم أجد
لَهُ حَدِيثا مُنْكرا، وَالَّذِي حمل عَلَيْهِ أَحْمد بن
حَنْبَل فَإِنَّمَا هُوَ من أجل اللَّفْظ بِالْقُرْآنِ.
فَأَما فِي الحَدِيث فَلم أر بِهِ بَأْسا. واما
الطَّحَاوِيّ فَقَالَ، بعد أَن روى الْمَوْقُوف عَن عبد
الْملك بن ابي سُلَيْمَان عَن عَطاء عَن ابي هُرَيْرَة:
فَثَبت بذلك نسخ السَّبع لِأَن أَبَا هُرَيْرَة هُوَ
رَاوِي السَّبع، والراوي إِذا عمل بِخِلَاف رِوَايَته أَو
أفتى بِخِلَافِهَا لَا يبْقى حجَّة، لِأَن الصَّحَابِيّ
لَا يحل لَهُ أَن يسمع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم شَيْئا، ويفتي أَو يعْمل بخلافة إِذْ تسْقط بِهِ
عَدَالَته، وَلَا تقبل رِوَايَته، وَإِنَّا نحسن الظَّن
بِأبي هُرَيْرَة، فَدلَّ على نسخ مَا رَوَاهُ. وَقد عَارض
هَذَا الْقَائِل بِأَن الْحَنَفِيَّة خالفوا ظَاهر هَذَا
الحَدِيث بقوله: يحْتَمل أَن يكون أفتى بذلك لاعتقاد ندبية
السَّبع لَا وُجُوبهَا، أَو كَانَ نسي مَا رَوَاهُ، وَمَعَ
الِاحْتِمَال لَا يثبت النّسخ، ورد بِأَن هَذَا إساءة
الظَّن بَابي هُرَيْرَة، وَالِاحْتِمَال الناشىء من غير
دَلِيل لَا يعْتد بِهِ، وادعاء الطَّحَاوِيّ النّسخ مبرهن
بِمَا رَوَاهُ بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن سِيرِين أَنه كَانَ
إِذا حدث عَن ابي هُرَيْرَة، فَقيل لَهُ: عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: كل حَدِيث ابي هُرَيْرَة
عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ قَالَ
الطَّحَاوِيّ: وَلَو وَجب الْعَمَل بِرِوَايَة السَّبع
وَلَا يَجْعَل مَنْسُوخا لَكَانَ مَا رُوِيَ عَن عبد الله
بن مُغفل فِي ذَلِك من النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، أولى مِمَّا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة،
لِأَنَّهُ زَاد عَلَيْهِ: (وعفروه الثَّامِنَة
بِالتُّرَابِ) ، وَالزَّائِد أولى من النَّاقِص، وَكَانَ
يَنْبَغِي لهَذَا الْمُخَالف أَن يَقُول لَا يطهر إلاَّ
بِأَن يغسل ثَمَان مَرَّات الثَّامِنَة بِالتُّرَابِ،
ليَأْخُذ بِالْحَدِيثين جَمِيعًا. فَإِن ترك حَدِيث ابْن
مُغفل فقد لزمَه مَا لزمَه خَصمه فِي ترك السَّبع، وَمَعَ
هَذَا لم يَأْخُذ بالتعفير الثَّابِت فِي الصَّحِيح
مُطلقًا، قيل: إِنَّه مَنْسُوخ.
فَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل بِمَا قَالَه الْبَيْهَقِيّ
بِأَن أَبَا هُرَيْرَة أحفظ من روى فِي دهره، فروايته
أولى. أُجِيب: بِالْمَنْعِ، بل رِوَايَة ابْن الْمُغَفَّل
أولى لِأَنَّهُ أحد الْعشْرَة الَّذين بَعثهمْ عمر بن
الْخطاب، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: إِلَيْنَا، يفقهُونَ
النَّاس، وَهُوَ من أَصْحَاب الشَّجَرَة وَهُوَ أفقه من
أبي هُرَيْرَة، وَالْأَخْذ بروايته أحوط، وَلِهَذَا ذهب
إِلَيْهِ الْحسن الْبَصْرِيّ، وَحَدِيثه هَذَا أخرجه ابْن
مَنْدَه من طَرِيق شُعْبَة، وَقَالَ: اسناده مجمع على
صِحَّته، وَرَوَاهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ
وَابْن مَاجَه، وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة: (إِذا ولغَ
السنور فِي الْإِنَاء يغسل سبع مَرَّات) ، وَلم يعملوا
بِهِ، فَكل جَوَاب لَهُم عَن ذَلِك فَهُوَ جَوَابنَا
عَمَّا زَاد على الثَّلَاث، فَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل
بِأَنَّهُ ثَبت أَن أَبَا هُرَيْرَة افتى بِالْغسْلِ سبعا،
وَرِوَايَة من روى عَنهُ مُوَافقَة فتياه لروايته أرجح من
رِوَايَة من روى عَنهُ مخالفتها، من حَيْثُ الْإِسْنَاد
وَمن حَيْثُ النّظر. اما النّظر فَظَاهر، واما الْإِسْنَاد
فالموافقة وَردت من رِوَايَة حَمَّاد بن زيد عَن ابْن
سِيرِين عَنهُ، وَهَذَا من أصح الْأَسَانِيد. واما
الْمُخَالفَة فَمن رِوَايَة عبد الْملك ابْن أبي
سُلَيْمَان عَن عَطاء عَنهُ، وَهُوَ دون الأول فِي
الْقُوَّة بِكَثِير. أُجِيب: بِأَن قَوْله ثَبت أَن أَبَا
هُرَيْرَة افتى بِالْغسْلِ سبعا يحْتَاج إِلَى الْبَيَان،
وَمُجَرَّد الدَّعْوَى لَا تسمع، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فقد
يحْتَمل أَن يكون فتواه بالسبع قبل ظُهُور النّسخ عِنْده،
فَلَمَّا ظهر أفتى بِالثلَاثِ. وَأما دَعْوَى الرجحان
فَغير صَحِيحه، لَا من حَيْثُ النّظر وَلَا من حَيْثُ
قُوَّة الْإِسْنَاد، لِأَن رجال كل مِنْهُمَا رجال
الصَّحِيح. كَمَا بَيناهُ عَن قريب، وَأما من حَيْثُ
النّظر فَإِن الْعذرَة أَشد فِي النَّجَاسَة من سُؤْر
الْكَلْب
(3/41)
وَلم يعْتد بالسبع، فَيكون الولوغ من بَاب
أولى.
وَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل بِأَنَّهُ لَا يلْزم من
كَونهَا أَشد مِنْهُ فِي الاستقذار أَن لَا تكون أَشد
مِنْهَا فِي تَغْلِيظ الحكم. أُجِيب: بِمَنْع عدم
الْمُلَازمَة، فَإِن تَغْلِيظ الحكم فِي ولوغ الْكَلْب
إِمَّا تعبدي وَإِمَّا مَحْمُول على من غلب على ظَنّه أَن
نَجَاسَة الولوغ لَا تَزُول بِأَقَلّ مِنْهَا، وَأما أَنهم
نهوا عَن اتِّخَاذه فَلم ينْتَهوا فغلظ عَلَيْهِم بذلك،
وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: كَانَ الْأَمر بالسبع عِنْد
الْأَمر بقتل الْكلاب، فَلَمَّا نهى عَن قَتلهَا نسخ الامر
بِالْغسْلِ سبعا. وَإِن عَارض هَذَا الْقَائِل بِأَن
الْأَمر بِالْقَتْلِ كَانَ فِي أَوَائِل الْهِجْرَة،
وَالْأَمر بِالْغسْلِ مُتَأَخّر جدا، لِأَن من رِوَايَة
ابي هُرَيْرَة وَعبد الله بن مُغفل، وَكَانَ إسلامهما سنة
سبع. أُجِيب: بِأَن كَون الْأَمر بقتل الْكَلَام، فِي
أَوَائِل الْهِجْرَة يحْتَاج إِلَى دَلِيل قَطْعِيّ،
وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَكَانَ يُمكن أَن يكون أَبُو
هُرَيْرَة قد سمع ذَلِك من صَحَابِيّ أَنه أخبرهُ أَن
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما نهى عَن
قتل الْكلاب نسخ الْأَمر بِالْغسْلِ سبعا من غير تَأْخِير،
فَرَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لاعتماده على صدق الْمَرْوِيّ
عَنهُ، لِأَن الصَّحَابَة كلهم عدُول، وَكَذَلِكَ عبد الله
بن الْمُغَفَّل، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: عملت
الشَّافِعِيَّة بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة وَتركُوا الْعَمَل
بِحَدِيث ابْن الْمُغَفَّل، وَكَانَ يلْزمهُم الْعَمَل
بذلك، ويوجبوا ثَمَانِي غسلات. وعارض هَذَا الْقَائِل
بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون الشَّافِعِيَّة لَا
يَقُولُونَ بِحَدِيث ابْن مُغفل ان يتْركُوا الْعَمَل
بِالْحَدِيثِ أصلا ورأساً، لِأَن اعتذار الشَّافِعِيَّة
عَن ذَلِك، إِن كَانَ متجها فَذَاك، وإلاَّ فَكل من
الْفَرِيقَيْنِ ملوم فِي ترك الْعَمَل بِهِ. وَأجِيب:
بِأَن زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُولَة وَلَا سِيمَا من
صَحَابِيّ فَقِيه، وَتركهَا لَا وَجه لَهُ، فالحديثان فِي
نفس الْأَمر كالواحد، وَالْعَمَل بِبَعْض الحَدِيث وَترك
بعضه لَا يجوز، واعتذارهم غير مُتَّجه لذَلِك الْمَعْنى،
وَلَا يلام الْحَنَفِيَّة فِي ذَلِك لأَنهم عمِلُوا
بِالْحَدِيثِ النَّاسِخ وَتركُوا الْعَمَل بالمنسوخ،
وَقَالَ بعض الْحَنَفِيَّة: وَقع الْإِجْمَاع على خِلَافه
فِي الْعَمَل. وعارض هَذَا الْقَائِل بِأَنَّهُ ثَبت
القَوْل بذلك عَن الْحسن، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي
رِوَايَة. وَأجِيب: بِأَن مُخَالفَة الْأَقَل لَا تمنع
انْعِقَاد الْإِجْمَاع، وَهُوَ مَذْهَب كثير من
الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالُوا عَن الشَّافِعِي أَنه قَالَ:
حَدِيث ابْن مُغفل لم أَقف على صِحَّته، قُلْنَا هَذَا
لَيْسَ بِعُذْر، وَقد وقف جمَاعَة كَثِيرُونَ على صِحَّته،
وَلَا يلْزم من عدم ثُبُوته عِنْد الشَّافِعِي ترك
الْعَمَل بِهِ عِنْد غَيره.
173 - حدّثنا إسْحاقُ قَالَ أخْبرَنا عَبْدُ الصَّمَدِ
قَالَ حدّثنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ
دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ أبي عَنْ أبي صَالِحٍ عَنْ أبي
هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ
رجُلاً رَأى كَلْباً يأْكُلُ الثَرى مِنَ العَطشِ فَأخذَ
الرَّجُلُ خُفَّهُ فَجَعَل يغْرفُ لَهُ بِهِ حَتَّى
أرْوَاهُ فَشَكَرَ اللَّهُ لهُ فأدْخَلَهُ الجَنَّةَ..
هَذَا من الْأَحَادِيث الَّتِي احْتج بهَا البُخَارِيّ على
طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، على مَا يَأْتِي فِي
الْأَحْكَام.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة، الأول: أسْحَاق بن مَنْصُور
الكوسج، على مَا جزم بِهِ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج)
، وَقَالَ الكلاباذى والجياني: اسحاق بن مَنْصُور،
وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم يرويان عَن عبد الصَّمد.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِسْحَاق هَذَا هُوَ ابْن
إِبْرَاهِيم. قلت: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام الكوسج
الْحَافِظ، أَبُو يَعْقُوب التَّيْمِيّ الْمروزِي نزيل
نيسابور. قَالَ مُسلم: ثِقَة مَأْمُون أحد الْأَئِمَّة،
مَاتَ فِي جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَخمسين ومائين،
روى عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَالتِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، وَأما إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم بن الْعَلَاء، أَبُو يَعْقُوب الْحِمصِي، روى
عَنهُ البُخَارِيّ فِي الْأَدَب. وَقَالَ النَّسَائِيّ:
لَيْسَ بِثِقَة. وَإِسْحَاق بن ابراهيم بن أبي إِسْرَائِيل
أَبُو يَعْقُوب الْمروزِي، روى عَنهُ البُخَارِيّ أَيْضا
فِي الْأَدَب، وَعَن يحيى ثِقَة. وَإِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم الْبَغَوِيّ لُؤْلُؤ ابْن عَم أَحْمد بن منيع،
روى عَنهُ البُخَارِيّ، وَوَثَّقَهُ الدَّارَقُطْنِيّ
وَجَمَاعَة، وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن مخلد بن
إِبْرَاهِيم الإِمَام، أَبُو يَعْقُوب الْحَنْظَلِي
النَّيْسَابُورِي الدَّارَقُطْنِيّ الْمروزِي الأَصْل،
الْمَعْرُوف بِابْن رَاهَوَيْه، أحد الْأَعْلَام، روى
عَنهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ. الثَّانِي: عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث،
تقدم. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دِينَار
الْمُزنِيّ الْعَدوي، مولى ابْن عمر بن الْخطاب، تكلمُوا
فِيهِ لكنه صَدُوق، وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ عَن
مُسلم، وروى لَهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ. الرَّابِع: أَبوهُ عبد الله ابْن دِينَار،
مولى ابْن عمر التَّابِعِيّ، وَلَيْسَ فِي كتب السِّتَّة
سواهُ. نعم فِي ابْن مَاجَه: عبد الله بن دِينَار
الْحِمصِي، وَلَيْسَ بِقَوي. الْخَامِس: ابو صَالح الزيات
ذكْوَان، وَقد تقدم. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة؟ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
(3/42)
والإخبار وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا:
أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري ومدني. وَمِنْهَا: أَن
فِيهِ تابعين وهما: عبد الله بن دِينَار وَأَبُو صَالح.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره هَذَا الحَدِيث
أخرجه البُخَارِيّ فِي عدَّة مَوَاضِع فِي الشّرْب
والمظالم وَالْأَدب، وَأخرجه أَيْضا من طَرِيق ابْن
سِيرِين: (بَيْنَمَا كلب يطِيف بركَة كَاد يقْتله الْعَطش
إِذْ رَأَتْهُ بغي فنزعت موقها فسبقته فغفر لَهَا) . أخرجه
فِي ذكر بني إِسْرَائِيل. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَيَوَان.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب: قَوْله: (يَأْكُل الثرى)
بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَالرَّاء، مَقْصُور:
وَهُوَ التُّرَاب الندي، قَالَه الْجَوْهَرِي وَصَاحب
(الغريبين) وَفِي (الْمُحكم) : الثرى التُّرَاب. وَقيل:
التُّرَاب الَّذِي إِذا بل يصير طيناً لازباً، وَالْجمع
اثرى. وَفِي (مجمع الغرائب) : أصل الثرى الندى، وَلذَلِك
قيل للعرق ثرى. وَمعنى يَأْكُل الثرى: يلعق التُّرَاب.
قَوْله: (من الْعَطش) أَي: من أجل الْعَطش، فَإِن قلت:
يَأْكُل الثرى، مَا مَحَله من الْإِعْرَاب؟ قلت: نصب
إِمَّا حَال من كَلْبا، أَو صفة لَهُ. قَالَ الْكرْمَانِي:
قلت: لَا يجوز أَن يكون حَالا، لِأَن الشَّرْط أَن يكون
ذُو الْحَال معرفَة، وَهَهُنَا نكرَة، وَلَا يجوز أَيْضا
أَن يكون مَفْعُولا ثَانِيًا، لِأَن الرُّؤْيَة بِمَعْنى
الإبصار. قَوْله: (فَجعل) من أَفعَال المقاربة. وَهِي مَا
وضع لدنو الْخَبَر رَجَاء أَو حصولاً أَو أخذا فِيهِ،
وَالضَّمِير فِيهِ اسْمه. وَقَوله: (يغْرف) جملَة خَبره،
أَي: طفق يغْرف لَهُ.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (حَتَّى أرواه) اي: جعله
رَيَّان. قَوْله: (فَشكر الله لَهُ) ، وَالشُّكْر هُوَ
الثَّنَاء على المحسن بِمَا أولاه من الْمَعْرُوف. يُقَال:
شكرته وشكرت لَهُ، وباللام أفْصح، وَالْمرَاد هَهُنَا
مُجَرّد الثَّنَاء، اي: فاثنى الله تَعَالَى عَلَيْهِ، أَو
المُرَاد مِنْهُ الْجَزَاء، إِذْ الشُّكْر نوع من
الْجَزَاء أَي: فجزاه الله تَعَالَى. فان قلت: إِدْخَال
الْجنَّة هُوَ نفس الْجَزَاء، فَمَا معنى الثَّنَاء؟ قلت:
هُوَ من بَاب عطف الْخَاص على الْعَام، أَو الْفَاء
تفسرية. نَحْو: {فتوبوا إِلَى بارئكم فَاقْتُلُوا
أَنفسكُم} (الْبَقَرَة: 54) على مَا فسر بِهِ من أَن
الْقَتْل كَانَ نفس نوبتهم. فَإِن قلت: هَذِه الْقِصَّة
مَتى وَقعت؟ قلت: هَذِه من الوقائع الَّتِي وَقعت فِي زمن
بني اسرائيل، فَلذَلِك قَالَ: إِن رجلا، وَلم يسم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول فِيهِ الْإِحْسَان إِلَى
كل حَيَوَان بسقيه أَو نَحوه، وَهَذَا فِي الْحَيَوَان
الْمُحْتَرَم، وَهُوَ مَا لَا يُؤمر بقتْله وَلَا يُنَاقض،
هَذَا مَا أمرنَا بقتْله أَو أُبِيح قَتله، فَإِن ذَلِك
إِنَّمَا شرع لمصْلحَة راجحة، وَمَعَ ذَلِك فقد أمرنَا
بِإِحْسَان القتلة. الثَّانِي: فِيهِ حُرْمَة الْإِسَاءَة
إِلَيْهِ، وإثم فَاعله، فَإِنَّهُ ضد الْإِحْسَان
الْمُؤَجّر عَلَيْهِ، وَقد دخلت تِلْكَ الْمَرْأَة النَّار
فِي هرة حبستها حَتَّى مَاتَت. الثَّالِث: قَالَ بعض
الْمَالِكِيَّة: أَرَادَ البُخَارِيّ بإيراد هَذَا
الحَدِيث طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، لِأَن الرجل مَلأ خفه
وسقاه بِهِ، وَلَا شكّ أَن سؤره بَقِي فِيهِ. وَأجِيب:
بانه لَيْسَ فِيهِ أَن الْكَلْب شرب المَاء من الْخُف،
إِذْ قد يجوز أَن يكون غرفه بِهِ ثمَّ صب فِي مَكَان
غَيره، أَو يُمكن أَن يكون غسل خفه إِن كَانَ سقَاهُ
فِيهِ، وعَلى تَقْدِير: أَن يكون سقَاهُ فِيهِ لَا
يلْزمنَا هَذَا، لِأَن هَذَا كَانَ فِي شَرِيعَة غَيرنَا
على مَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ عَن أبي هُرَيْرَة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أَقُول فِيهِ دغدغة، إِذْ لَا يعلم مِنْهُ
أَنه كَانَ فِي زمن بعثة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَو كَانَ قبلهَا أَو كَانَ بعْدهَا قبل ثُبُوت حكم
سُؤْر الْكلاب، أَو أَنه لم يلبس بعد ذَلِك، أَو غسله.
قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا الترديد، فَإِنَّهُ رُوِيَ
عَن ابي هُرَيْرَة أَنه: كَانَ فِي شَرِيعَة غَيرنَا، على
مَا ذكرنَا. الرَّابِع: يفهم مِنْهُ وجوب نَفَقَة
الْبَهَائِم الْمَمْلُوكَة على مَالِكهَا بِالْإِجْمَاع.
174 - وقالَ أحْمَدُ بنُ شَبِيبٍ حَدثنَا أبي عنْ يوْنُس
عنْ ابنِ شِهَابٍ. قَالَ حدّثنى حَمْزَةُ بنُ عَبْدِ
اللَّهِ عَنْ أبِيهِ قالَ كَانَتِ الكِلابُ تَبُولُ
وتُقْبِلُ وتُدْبِرُ فِي المَسْجِدِ فِي زَمانِ رسولِ
اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يَكونُوا
يَرُشُّونَ شَيْئاً مِنْ ذلِكَ.
هَذَا الَّذِي ذكره البُخَارِيّ مُعَلّقا احْتج بِهِ فِي
طَهَارَة الْكَلْب، وطهارة سؤره، وَجَوَاز مَمَره فِي
الْمَسْجِد.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: أَحْمد بن شبيب،
بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة:
ابْن سعيد التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ، شيخ البُخَارِيّ، وَلم
يخرج لَهُ غَيره، أَصله من الْبَصْرَة، نزل مَكَّة مَاتَ
بعد الْمِائَتَيْنِ ووالده، أخرج لَهُ النَّسَائِيّ،
وَهُوَ صَدُوق. الثَّانِي: أَبوهُ شبيب الْمَذْكُور،
وَكَانَ من أَصْحَاب يُونُس، وَكَانَ يخْتَلف فِي
التِّجَارَة إِلَى مصر، وَكتابه كتاب صَحِيح. الثَّالِث:
يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي، وَقد تقدم. الرَّابِع: ابْن
شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ تقدم. الْخَامِس:
حَمْزَة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: ابْن عبد الله
بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أَبُو
عمَارَة الْقرشِي الْعَدوي الْمدنِي التَّابِعِيّ، ثِقَة
قَلِيل الحَدِيث، روى لَهُ الْجَمَاعَة. السَّادِس: ابوه
عبد الله بن عمر.
(3/43)
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ
القَوْل والتحديث والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا
بَين بَصرِي وأيلي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة
تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا أَحْمد
بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن وهب، قَالَ: اخبرني
يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ حَدثنِي حَمْزَة بن عبد الله
بن عمر: (كنت أَبيت فِي الْمَسْجِد فِي عهد رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكنت شَابًّا فَتى عزباً،
وَكَانَت الْكلاب تبول وَتقبل وتدبر فِي الْمَسْجِد وَلم
يَكُونُوا يرشون شَيْئا من ذَلِك) . وَأخرجه
الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنَا ابو يعلى حَدثنَا هَارُون بن
مَعْرُوف حَدثنَا ابْن وهب اخبرني يُونُس عَن ابْن شهَاب
حَدَّثَنى حَمْزَة بِلَفْظ: (كَانَت الْكلاب تبول وَتقبل
وتدبر) . وَرَوَاهُ أَبُو نعيم عَن أبي إِسْحَاق بن
مُحَمَّد حَدثنَا مُوسَى بن سعيد عَن أَحْمد بن شبيب،
وَقَالَ: رَوَاهُ البُخَارِيّ بِلَا سَماع.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (كَانَت الْكلاب
تقبل وتدبر) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد والإسماعيلي وَأبي
نعيم وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا: (كَانَت الْكلاب تبول وَتقبل
وتدبر) ، بِزِيَاد: تبول، قبل: (تقبل وتدبر) . وستقف على
معنى هَذِه الزِّيَادَة. قَوْله: (تقبل) جملَة فِي مَحل
النصب على الخبرية إِن جعلت: كَانَت، نَاقِصَة. وَإِن جعلت
تَامَّة بِمَعْنى: وجدت، كَانَ مَحل الْجُمْلَة النصب على
الْحَال. قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) حَال أَيْضا،
وَالتَّقْدِير: حَال كَون الإقبال والإدبار فِي
الْمَسْجِد، وَالْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد. اي: فِي
مَسْجِد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله:
(فَلم يَكُونُوا يرشون) من: رش المَاء، وَحكى ابْن التِّين
عَن الدَّاودِيّ أَنه أبدل قَوْله: (يرشون) بِلَفْظ:
(يرتقبون) ، بِإِسْكَان الرَّاء وَفتح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْقَاف بعْدهَا بَاء
مُوَحدَة، وَفسّر مَعْنَاهُ بقوله: (وَلَا يَخْشونَ) فصحف
اللَّفْظ وَأبْعد فِي التَّفْسِير لِأَن معنى: الارتقاب:
الِانْتِظَار. وَأما نفي الْخَوْف من نفي الارتقاب فَهُوَ
تَفْسِير بِبَعْض لوازمه. قَوْله: (من ذَلِك) أَي من
الْمَسْجِد، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى الْبعيد فِي الْمرتبَة،
أَي: ذَلِك الْمَسْجِد الْعَظِيم الْبعيد دَرَجَته عَن فهم
النَّاس.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: احْتج بِهِ البُخَارِيّ
على طَهَارَة بَوْل الْكَلْب، كَمَا ذكرنَا عَن قريب،
فَإِن هَذَا التَّرْكِيب يشْعر باستمرار الإقبال والإدبار،
وَلَفظ: فِي زمَان رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، دَال على عُمُوم جَمِيع الْأَزْمِنَة، إِذْ
اسْم الْجِنْس الْمُضَاف من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة.
وَفِي: (فَلم يَكُونُوا يرشون) مُبَالغَة، لَيْسَ فِي
قَوْلك: فَلم يرشوا بِهِ، بِدُونِ لفظ: الْكَوْن، كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم}
(الْأَنْفَال: 33) حَيْثُ لم يقل: وَمَا يعذبهم الله،
وَكَذَا فِي لفظ الرش حَيْثُ اخْتَارَهُ على لفظ الْغسْل،
لِأَن الرش لَيْسَ فِيهِ جَرَيَان المَاء، بِخِلَاف
الْغسْل فَإِنَّهُ يشْتَرط فِيهِ الجريان، فنفي الرش يكون
أبلغ من نفي الْغسْل، وَلَفظ: شَيْئا، أَيْضا عَام
لِأَنَّهُ نكرَة وَقعت فِي سِيَاق النَّفْي، وَهَذَا كُله
للْمُبَالَغَة فِي طَهَارَة سؤره، إِذْ فِي مثل هَذِه
الصُّورَة الْغَالِب أَن لعابه يصل إِلَى بعض أَجزَاء
الْمَسْجِد، فَإِذا قرر الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، ذَلِك وَلم يَأْمُرهُ بِغسْلِهِ قطّ علم أَنه
طَاهِر، وَهَذَا كُله من ناصري البُخَارِيّ: وَالْجَوَاب
أَن نقُول: لَا دلَالَة على ذَلِك، وَالَّذِي ذَكرُوهُ
إِنَّمَا كَانَ لِأَن طَهَارَة الْمَسْجِد متيقنة غير
مَشْكُوك فِيهَا، وَالْيَقِين لَا يرفع بِالظَّنِّ، فضلا
عَن الشَّك. وعَلى تَقْدِير دلَالَته فدلالته لَا تعَارض
مَنْطُوق الحَدِيث النَّاطِق صَرِيحًا بِإِيجَاب الْغسْل
حَيْثُ قَالَ: (فليغسله سبعا) . وَأما على رِوَايَة من
رُوِيَ: (كَانَت الْكلاب تبول وَتقبل وتدبر) ، فَلَا حجَّة
فِيهِ لمن اسْتدلَّ بِهِ على طَهَارَة الْكلاب للاتفاق على
نَجَاسَة بولها، وَتَقْرِير هَذَا أَن إقبالها وإدبارها
فِي الْمَسْجِد ثمَّ لَا يرش، فَالَّذِي فِي رِوَايَته:
تبول، يذهب إِلَى طَهَارَة بولها وَكَانَ الْمَسْجِد لم
يكن يغلق وَكَانَت تَتَرَدَّد، وعساها كَانَت تبول إِلَّا
أَن علم بولها فِيهِ لم يكن عِنْد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عِنْد اصحابه وَلَا عِنْد الرَّاوِي
أَي مَوضِع هُوَ، وَلَو كَانَ علم لأمر بِمَا أَمر فِي
بَوْل الْأَعرَابِي، فَدلَّ ذَلِك أَن بَوْل مَا سواهُ فِي
حكم النَّجَاسَة سَوَاء. وَقَالَ الْخطابِيّ: يتَأَوَّل
على أَنَّهَا كَانَت لَا تبول فِي الْمَسْجِد بل فِي
مواطنها وَتقبل وتدبر فِي الْمَسْجِد عابرة، إِذْ لَا يجوز
أَن تتْرك الْكلاب تبات فِي الْمَسْجِد حَتَّى تمتهنه
وتبول فِيهِ، وَإِنَّمَا كَانَ إقبالها وإدبارها فِي
أَوْقَات نادرة، وَلم يكن على الْمَسْجِد أَبْوَاب تمنع من
عبورها فِيهِ. قلت: إِنَّمَا تَأَول الْخطابِيّ بِهَذَا
التَّأْوِيل حَتَّى لَا يكون الحَدِيث حجَّة للحنفية فِي
قَوْلهم، لِأَن أَصْحَابنَا استدلوا بِهِ على أَن الأَرْض
إِذا أصابتها نَجَاسَة فجفت بالشمس أَو بالهواء فَذهب
أَثَرهَا تطهر فِي حق الصَّلَاة، خلافًا للشَّافِعِيّ
وَاحْمَدْ وزفرٍ، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن أَبَا دَاوُد
وضع لهَذَا الحَدِيث بَاب طهُور الأَرْض إِذا يَبِسَتْ،
وَأَيْضًا قَوْله: فَلم يَكُونُوا يرشون شَيْئا، إِذْ عدم
الرش يدل على جفاف الأَرْض وطهارتها، وَمن أكبر مَوَانِع
تَأْوِيله أَن قَوْله: (فِي الْمَسْجِد) لَيْسَ ظرفا
لقَوْله: (وَتقبل وتدبر) وَحده، وَإِنَّمَا هُوَ ظرف
لقَوْله: تبول. وَمَا بعده كلهَا، فَافْهَم.
(3/44)
وَيُقَال: الْأَوْجه فِي هَذَا أَن يُقَال:
كَانَ ذَلِك فِي ابْتِدَاء الْإِسْلَام على أصل
الْإِبَاحَة ثمَّ، ورد الْأَمر بتكريم الْمَسْجِد وتطهيره
وَجعل الْأَبْوَاب على الْمَسَاجِد.
الثَّانِي: أَن ابْن بطال قَالَ فِيهِ: إِن الْكَلْب
طَاهِر لِأَن إقبالها وإدبارها فِي الْأَغْلَب يَقْتَضِي
أَن تجر فِيهِ أنوفها وتلحس المَاء وفتات الطَّعَام،
لِأَنَّهُ كَانَ مبيت الغرباء والوفود، وَكَانُوا
يَأْكُلُون فِيهِ، وَكَانَ مسكن أهل الصّفة، وَلَو كَانَ
الْكَلْب نجسا لمنع من دُخُول الْمَسْجِد لِاتِّفَاق
الْمُسلمين على أَن الأنجاس تجنب الْمَسَاجِد،
وَالْجَوَاب: عَنهُ مَا ذكرنَا.
الثَّالِث: احْتج بِهِ أَصْحَابنَا على طَهَارَة الأَرْض
بجفاف النَّجَاسَة عَلَيْهَا، كَمَا ذَكرْنَاهُ.
175 - حدّثنى حَفْصُ بنُ عُمَر قالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عَنِ
ابنِ أبي السَّفَرِ عَن الشَّعْبِيِّ عَنْ عَدِيِّ بنِ
حاتمِ قالَ سألْتُ النَّبيَّ صلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقالَ إذَا أرْسَلْتَ كَلْبَكَ المُعَلَّمَ فَقَتَل فَكُل
وإذَا أكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ فَاِنَّمَا أمْسَكَهُ عَلَى
نَفْسِهِ قُلْتُ أُرْسِلُ كَلْبِي فَأجِدُ مَعَهُ كَلْباً
آخَرَ قالَ فَلا تَأْكُلْ فَاِنَّمَا سَمَّيْتَ عَلَى
كَلْبِكَ ولَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبٍ آخَرَ..
أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث ليستدل بِهِ لمذهبه فِي
طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، وَهُوَ مُطَابق لقَوْله: (وسؤر
الْكَلْب) فِي أول الْبَاب.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: حَفْص بن عمر.
الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: ابْن أبي
السّفر، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء: اسْمه
عبد الله، وَأَبُو السّفر اسْمه سعيد بن مُحَمَّد،
وَيُقَال: أَحْمد الْهَمدَانِي الْكُوفِي. الرَّابِع:
الشّعبِيّ، واسْمه عَامر كلهم ذكرُوا. الْخَامِس: عدي بن
حَاتِم بن عبد الله الطَّائِي، أَبُو طريف، بِفَتْح
الطَّاء: الْجواد بن الْجواد، قدم على النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي سنة سبع، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتَّة وَسِتُّونَ حَدِيثا، ذكر
البُخَارِيّ وَمُسلم مِنْهَا ثَلَاثَة، وَانْفَرَدَ مُسلم
بحديثين. نزل الْكُوفَة وَمَات بهَا زمن الْمُخْتَار،
وَهُوَ ابْن عشْرين وَمِائَة سنة، وَيُقَال: مَاتَ
بقرقيسيا، وَكَانَ أَعور، وَقَالَ أَبُو حَاتِم
السجسْتانِي فِي (كتاب المعمرين) : قَالُوا عَاشَ عدي بن
حَاتِم مائَة وَثَمَانِينَ سنة.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَمِنْهَا:
أَن كلهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْبيُوع وَالصَّيْد والذبائح. وَأخرجه مُسلم
فِي الصَّيْد عَن أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن هناد بن السّري. وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِيهِ عَن عَليّ بن الْمُنْذر.
بَيَان الْإِعْرَاب وَالْمعْنَى قَوْله: (قَالَ) أَي: عدي.
قَوْله: (سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) جملَة
من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول ذكر المسؤول عَنهُ
وَلم يذكر المسؤول، وَاكْتفى بِالْجَوَابِ لِأَنَّهُ كَانَ
يحْتَمل أَن يكون علم أصل الْإِبَاحَة، وَلكنه حصل عِنْده
شكّ فِي بعض أُمُور الصَّيْد فَاكْتفى بِالْجَوَابِ،
وَالتَّقْدِير: سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَن حكم صيد الْكلاب، وَقد صرح البُخَارِيّ بِهِ فِي
رِوَايَته الْأُخْرَى فِي كتاب الصَّيْد، وَيحْتَمل أَن
يكون قَامَ عِنْده مَانع من الْإِبَاحَة الَّتِي علم
أَصْلهَا وَقَالَ بَعضهم: حذف لفظ السُّؤَال اكْتِفَاء
بِدلَالَة الْجَواب. قلت: الْمَحْذُوف لَيْسَ لفظ
السُّؤَال، وَإِنَّمَا الْمَحْذُوف لفظ المسؤول، كَمَا
قُلْنَا. قَوْله: (قَالَ فَقَالَ) فَاعل: قَالَ. الأولى
هُوَ عدي، وفاعل: فَقَالَ، هُوَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (كلبك الْمعلم) قَالَ
الْكرْمَانِي: الْمعلم هُوَ الَّذِي ينزجر بالزجر ويسترسل
بِالْإِرْسَال وَلَا يَأْكُل من الصَّيْد لإمرة بل
مرَارًا. قلت: كَون الْكَلْب معلما مفوض إِلَى رَأْي
الْمعلم عَن ابي حنيفَة لانه يخْتَلف باخْتلَاف الاشخاص
والاحوال وَعند ابي يُوسُف وَمُحَمّد بترك اكله ثَلَاث
مَرَّات وَعند الشَّافِعِي بِالْعرْفِ، وَعند مَالك
بالانزجار، وَأما اشْتِرَاط التَّعَلُّم فَلقَوْله
تَعَالَى: {وَمَا علمْتُم من الْجَوَارِح} (الْمَائِدَة:
4) قَوْله: (فَقتل) أَي: فَقتل الكلبُ الصَيد، وطوى ذكر
الْمَفْعُول للْعلم بِهِ. قَوْله: (فَلَا تَأْكُل) أَي:
الصَّيْد الَّذِي أكل مِنْهُ الْكَلْب، وَعلل بقوله:
(فَإِنَّمَا أمْسكهُ على نَفسه) ، و: الْفَاء، فِيهِ
للتَّعْلِيل. قَوْله: (قلت) : قَائِله: عدي، هُوَ سُؤال
آخر.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن البُخَارِيّ احْتج
بِهِ لمذهبه فِي طَهَارَة سُؤْر الْكَلْب، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أذن لعدي
رَضِي الله عَنهُ، فِي أكل مَا صَاده الْكَلْب وَلم يُقيد
ذَلِك بِغسْل مَوضِع فَمه، وَمن ثمَّ قَالَ مَالك: كَيفَ
يُؤْكَل صَيْده وَيكون لعابه نجسا؟ وَأجَاب
الْإِسْمَاعِيلِيّ بِأَن الحَدِيث سيق لتعريف أَن قَتله
ذَكَاته وَلَيْسَ فِيهِ إِثْبَات نَجَاسَته وَلَا نَفيهَا،
وَلذَلِك لم يقل لَهُ إغسل الدَّم إِذا خرج من جرح نابه،
وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون وكل إِلَيْهِ
ذَلِك كَمَا تقرر عِنْده من وجوب غسل
(3/45)
الدَّم، وَيدْفَع ذَلِك بِأَن الْمقَام
مقَام التَّعْرِيف، وَلَو كَانَ ذَلِك وَاجِبا لبينه،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
وَجه ارتباط هَذَا الحَدِيث بالترجمة على مَا فِي بعض
النّسخ من لفظ: (وأكلها) ، بعد لفظ الْمَسْجِد كَمَا ذكر
مَالك عِنْد قَوْله: (وسؤر الْكلاب وممرها فِي الْمَسْجِد)
.
الثَّانِي: أَن فِي إِطْلَاق الْكَلْب دلَالَة لإباحة صيد
جَمِيع الْكلاب المعلمة من الْأسود وَغَيرهَا، وَقَالَ
أَحْمد: لَا يحل صيد الْكَلْب الْأسود لِأَنَّهُ شَيْطَان،
وَإِطْلَاق الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
الثَّالِث: أَن التَّسْمِيَة شَرط لقَوْله عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (فَإِنَّمَا سميت على كلبك) . اي:
ذكرت اسْم الله تَعَالَى على كلبك عِنْد إرْسَاله، وَعلم
من ذَلِك أَنه لَا بُد من شُرُوط أَرْبَعَة حَتَّى يحل
الصَّيْد. الأول: الْإِرْسَال. وَالثَّانِي: كَونه معلما.
وَالثَّالِث: الْإِمْسَاك على صَاحبه بِأَن لَا يَأْكُل
مِنْهُ. وَالرَّابِع: أَن يذكر اسْم الله عَلَيْهِ عِنْد
الْإِرْسَال. وَاخْتلف الْعلمَاء فِي التَّسْمِيَة، فَذهب
الشَّافِعِي إِلَى أَنَّهَا سنة فَلَو تَركهَا عمدا أَو
سَهوا يحل الصَّيْد، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ. وَقَالَت
الظَّاهِرِيَّة: التَّسْمِيَة وَاجِبَة فَلَو تَركهَا
سَهوا أَو عمدا لم يحل. وَقَالَ ابو حنيفَة: لَو تَركهَا
عمدا لم يحل وَلَو تَركهَا سَهوا يحل، وسيجىء مزِيد
الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الذَّبَائِح.
الرَّابِع: فِيهِ إِبَاحَة الِاصْطِيَاد للاكتساب
وَالْحَاجة وَالِانْتِفَاع بِهِ بِالْأَكْلِ وَغَيره وَدفع
الشَّرّ وَالضَّرَر، وَاخْتلفُوا فِيمَن صَاد للهو
والتنزه، فأباحه بَعضهم وَحرمه الْأَكْثَرُونَ. وَقَالَ
مَالك: إِن فعله ليذكيه فمكروه، وَإِن فعله من عير نِيَّة
التذكية فَحَرَام لِأَنَّهُ فَسَاد فِي الأَرْض وَإِتْلَاف
نفس.
الْخَامِس: فِيهِ التَّصْرِيح بِمَنْع أكل مَا أكل مِنْهُ
الْكَلْب.
السَّادِس: فِيهِ أَن مُقْتَضى الحَدِيث عدم الْفرق بَين
كَون الْمعلم، بِكَسْر اللَّام، مِمَّن تحل ذَكَاته أَو
لَا، وَذكر ابْن حزم فِي (الْمحلى) عَن قوم اشْتِرَاط
كَونه مِمَّن تحل ذَكَاته، وَقَالَ قوم: لَا يحل صيد جارح
علمه من لَا يحل أكل مَا ذكاه، وَرُوِيَ فِي ذَلِك آثَار:
مِنْهَا عَن يحيى بن عَاصِم عَن عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أَنه كره صيد باز الْمَجُوسِيّ وصقره.
وَمِنْهَا: عَن ابْن الزبير عَن جَابر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لَا يُؤْكَل صيد الْمَجُوسِيّ
وَلَا مَا أَصَابَهُ سَهْمه. وَمِنْهَا: عَن خصيف قَالَ:
قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: لَا
تَأْكُل مَا صيد بكلب الْمَجُوسِيّ وان سميت، فَإِنَّهُ من
تَعْلِيم الْمَجُوسِيّ، قَالَ تَعَالَى: {تعلمونهن مِمَّا
علمكُم الله} (الْمَائِدَة: 4) وَجَاء هَذَا القَوْل عَن
عَطاء وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ وَمُحَمّد وَابْن عَليّ،
وَهُوَ قَول سُفْيَان الثَّوْريّ.
السَّابِع: فِيهِ أَن الْإِرْسَال شَرط حَتَّى لَو استرسل
بِنَفسِهِ يمْنَع من أكل صَيْده، وَقَالَت الشَّافِعِيَّة:
وَلَو أرسل كَلْبا حَيْثُ لَا صيد فاعترضه صيد فَأَخذه لم
يحل على الْمَشْهُور عندنَا، وَقيل: يحل. ثمَّ إعلم أَن
الصَّيْد حَقِيقَة فِي المتوحش، فَلَو استأنس فَفِيهِ خلاف
الْعلمَاء على مَا ياتي فِي كتاب الصَّيْد إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
الثَّامِن: الحَدِيث صَرِيح فِي منع مَا أكل مِنْهُ
الْكَلْب، وَفِي حَدِيث أبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي فِي سنَن
أبي دَاوُد بِإِسْنَاد حسن: كُله وَإِن أكل مِنْهُ
الْكَلْب. قلت: التَّوْفِيق بَين الحَدِيث بِأَن يَجْعَل
حَدِيث أبي ثَعْلَبَة أصلا فِي الْإِبَاحَة، وَأَن يكون
النَّهْي فِي حَدِيث عدي بن حَاتِم على معنى التَّنْزِيه
دون التَّحْرِيم قَالَه الْخطابِيّ، وَقَالَ أَيْضا:
وَيحْتَمل أَن يكون الأَصْل فِي ذَلِك حَدِيث عدي، وَيكون
النَّهْي عَن التَّحْرِيم الثَّابِت، فَيكون المُرَاد
بقوله: وَإِن أكل مِنْهُ الْكَلْب، فِيمَا مضى من
الزَّمَان وَتقدم مِنْهُ، لَا فِي هَذِه الْحَالة،
وَذَلِكَ لِأَن من الْفُقَهَاء من ذهب الى أَنه إِذا أكل
الْكَلْب الْمعلم من الصَّيْد مرّة، بعد أَن كَانَ لَا
يَأْكُل، فَإِنَّهُ يحرم كل صيد كَانَ قد اصطاده،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: كل مِنْهُ وَإِن كَانَ قد أكل فِيمَا
تقدم إِذا لم يكن قد أكل مِنْهُ فِي هَذِه الْحَالة. قلت:
هَذَا الَّذِي ذكره هُوَ قَول ابي حنيفَة، وَأول بِهَذَا
التَّأْوِيل ليَكُون الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ وَلَيْسَ
الْأَمر كَذَلِك، فَإِن فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : (إِذا
أرْسلت كلابك المعلمة، وَذكرت اسْم الله تَعَالَى، فَكل
مِمَّا أمسكن عَلَيْك إِلَّا أَن يَأْكُل الْكَلْب فَلَا
تَأْكُل فَإِنِّي أَخَاف أَن يكون إِنَّمَا أمسك على نَفسه
(.
34 - (بابُ مَنْ لَمْ يَرَ الوُضُوءَ إلاَّ مِنَ
المَخْرجَيْنِ القُبُلِ والدُّبُرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول من لم ير الْوضُوء إلاَّ
من المخرجين، وَهُوَ تَثْنِيَة مخرج، بِفَتْح الْمِيم،
وَبَين ذَلِك بطرِيق عطف الْبَيَان بقوله: (الْقبل والدبر)
، وَيجوز أَن يكون جرهما بطرِيق الْبَدَل، والقبل
يتَنَاوَل الذّكر والفرج،، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: للْوُضُوء أَسبَاب أخر مثل النّوم وَغَيره، فَكيف حصر
عَلَيْهِمَا؟ قلت: الْحصْر إِنَّمَا هُوَ بِالنّظرِ إِلَى
اعْتِقَاد الْخصم، إِذْ هُوَ رد لما اعتقده،
وَالِاسْتِثْنَاء مفرغ، فَمَعْنَاه: من لم ير الْوضُوء من
مخرج من مخارج الْبدن إلاَّ من هذَيْن المخرجين، وَهُوَ رد
لمن راى أَن الْخَارِج من الْبدن بالفصد مثلا نَاقض
الْوضُوء، فَكَأَنَّهُ قَالَ: من لم ير الْوضُوء إلاَّ من
المخرجين لَا من مخرج آخر كالفصد، كَمَا هُوَ اعْتِقَاد
الشَّافِعِي. قلت: فِيهِ مناقشة من وُجُوه. الأول: أَنه
جعل مثل النّوم سَببا للْوُضُوء، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن
(3/46)
النّوم وَنَحْوه سَبَب لانتقاض الْوضُوء
لَا للْوُضُوء، وَالَّذِي يكون سَببا لنفي شَيْء كَيفَ
يكون سَببا لإثباته؟ الثَّانِي: قَوْله: بِالنّظرِ إِلَى
اعْتِقَاد الْخصم لَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا هُوَ حصر
بِالنّظرِ إِلَى اعْتِقَاد خصم الْخصم، والخصم لَا يَدعِي
الْحصْر على المخرجين. الثَّالِث: إِن قَوْله: فَمَعْنَاه
من لم ير الْوضُوء من مخرج ... إِلَى آخِره، يردهُ حكم من
طعن فِي سرته وَخرج الْبَوْل والعذرة، تنْتَقض الطَّهَارَة
عِنْد الْخصم أَيْضا، فَعلمنَا من هَذَا أَن احكم
الْخَارِج من الْقبل والدبر وَغَيرهمَا سَوَاء فِي الحكم
فَلَا يتَفَاوَت.
ثمَّ الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْبَاب
السَّابِق فِي نفي النَّجَاسَة عَن شعر الْإِنْسَان وَعَن
سُؤْر الْكَلْب، وَفِي هَذَا الْبَاب نفي انْتِقَاض
الْوضُوء من الْخَارِج من غير المخرجين، وَأدنى
الْمُنَاسبَة كَافِيَة.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى أوْ جاءَ أحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ
الغَائِطِ
هَذَا لَا يصلح أَن يكون دَلِيلا لما ادَّعَاهُ من الْحصْر
على الْخَارِج من المخرجين، لِأَن عِنْدهم ينْتَقض
الْوضُوء من لمس النِّسَاء وَمَسّ الْفرج، فَإِذا الْحصْر
بَاطِل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْغَائِط المطمئن من
الأَرْض، فَيتَنَاوَل الْقبل والدبر، إِذْ هُوَ كِنَايَة
عَن الْخَارِج من السَّبِيلَيْنِ مُطلقًا. قلت: تنَاوله
الْقبل والدبر لَا يسْتَلْزم حصر الحكم على الْخَارِج
مِنْهُمَا، فالآية لَا تدل على ذَلِك، لَان الله تَعَالَى
أخبر أَن الْوضُوء، أَو التَّيَمُّم عِنْد فقد المَاء، يجب
بالخارج من السَّبِيلَيْنِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يدل على
الْحصْر. فَقَالَ بَعضهم: هَذَا دَلِيل الْوضُوء مِمَّا
يخرج من المخرجين. قلت: نَحن نسلم ذَلِك، وَلَكِن لَا نسلم
دعواك أَيهَا الْقَائِل: إِن هَذَا حصر على الْخَارِج
مِنْهُمَا. وَقَالَ أَيْضا: {أَو لامستم النِّسَاء}
(النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) دَلِيل الْوضُوء من
ملامسة النِّسَاء: قلت: الْمُلَامسَة كِنَايَة عَن
الْجِمَاع، وَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْمس واللمس والغشيان
والإتيان والقربان والمباشرة: الْجِمَاع، لكنه عز وَجل
حَيّ كريم يعْفُو ويكني، فكنى باللمس عَن الْجِمَاع كَمَا
كنى بالغائط عَن قَضَاء الْحَاجة، وَمذهب عَليّ بن أبي
طَالب، وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعبيدَة السَّلمَانِي،
بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، وَعبيدَة الضَّبِّيّ، بِضَم
الْعين، وَعَطَاء وَطَاوُس وَالْحسن الْبَصْرِيّ
وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ: أَن اللَّمْس
وَالْمُلَامَسَة كِنَايَة عَن الْجِمَاع، وَهُوَ الَّذِي
صَحَّ عَن عمر بن الْخطاب أَيْضا على مَا نَقله أَبُو بكر
بن الْعَرَبِيّ وَابْن الْجَزرِي، فَحِينَئِذٍ بَطل قَول
هَذَا الْقَائِل: وَقَوله: {اَوْ لامستم النِّسَاء}
(النِّسَاء: 43، الْمَائِدَة: 6) دَلِيل الْوضُوء، بل هُوَ
دَلِيل الْغسْل وَقَالَ أَيْضا: وَفِي مَعْنَاهُ مس
الذّكر. قلت: هَذَا أبعد من الأول، فَإِن كَانَت
الْمُلَامسَة بِمَعْنى الْجِمَاع، كَيفَ يكون مس الذّكر
مثله؟ فَيلْزم من ذَلِك أَن يجب الْغسْل على من مس ذكره.
وَقَوله: مَعَ صِحَة الحَدِيث، اي: فِي مس الذّكر. قلت:
وَإِن كَانَ الحَدِيث فِيهِ صَحِيحا، قُلْنَا: أَحَادِيث
وأخبار ترفع حكم هَذَا، كَمَا قَررنَا فِي مَوْضِعه فِي
غير هَذَا الْكتاب.
وقالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهِ الدُّودُ
أوْ مِنْ ذَكَرِهِ نَحْوُ القَمْلَةِ يُعِيدُ الوُضُوءَ
عَطاء هُوَ ابْن ابي رَبَاح، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن
ابي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِإِسْنَاد صَحِيح، وَقَالَ:
حَدثنَا حَفْص بن غياث عَن ابْن جريج عَن عَطاء، فَذكره.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَنه ينْقض خُرُوج
الْغَائِط من الدبر وَالْبَوْل من الْقبل وَالرِّيح من
الدبر والمذي، قَالَ: وَدم الِاسْتِحَاضَة ينْقض فِي قَول
عَامَّة الْعلمَاء الْأَرْبَعَة. قَالَ: وَاخْتلفُوا فِي
الدُّود يخرج من الدبر فَكَانَ عَطاء ابْن ابي رَبَاح
وَالْحسن وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأَبُو مجلز
وَالْحكم وسُفْيَان وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَابْن
الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو
ثَوْر يرَوْنَ مِنْهُ الْوضُوء. وَقَالَ قَتَادَة وَمَالك:
لَا وضوء فِيهِ، روروي ذَلِك عَن النَّخعِيّ. وَقَالَ
مَالك: لَا وضوء فِي الدَّم يخرج من الدبر. انْتهى. ونقلت
الشَّافِعِيَّة عَن مَالك أَن النَّادِر لَا ينْقض،
والنادر كالمذي يَدُوم لَا بِشَهْوَة فَإِن كَانَ بهَا
فَلَيْسَ بنادر، وَكَذَا نقل ابْن بطال عَنهُ، فَقَالَ:
وَعند مَالك أَن مَا خرج من المخرجين مُعْتَادا نَاقض،
وَمَا خرج نَادرا على وَجه الْمَرَض لَا يقْض الْوضُوء:
كالاستحاضة وسلس الْبَوْل ابو والمذي وَالْحجر والدود
وَالدَّم. وَقَالَ ابْن حزم: الْمَذْي وَالْبَوْل
وَالْغَائِط، من أَي مَوضِع خرجن من الدبر أَو الإحليل أَو
المثانة أَو الْبَطن أَو غير ذَلِك من الْجَسَد أَو
الْفَم، نَاقض للْوُضُوء لعُمُوم أمره، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، بِالْوضُوءِ مِنْهَا، وَلم يخص موضعا دون
مَوضِع، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه. وَالرِّيح
الْخَارِجَة من ذكر الرجل وَقبل الْمَرْأَة لَا ينْقض
الْوضُوء عندنَا، هَكَذَا ذكره الْكَرْخِي عَن أَصْحَابنَا
إِلَّا أَن تكون الْمَرْأَة مفضاة، وَهِي الَّتِي صَار
مَسْلَك بولها وَوَطئهَا وَاحِدًا، أَو الَّتِي صَار
مَسْلَك الْغَائِط وَالْوَطْء مِنْهَا وَاحِدًا. وَعَن
الْكَرْخِي: إِن الرّيح
(3/47)
لَا يخرج من الذّكر وَإِنَّمَا هُوَ
اخْتِلَاج. وَقيل: إِن كَانَت الرّيح مُنْتِنَة يجب
الْوضُوء وَإِلَّا فَلَا، وَفِي (الذَّخِيرَة) : والدودة
الْخَارِجَة من قبل الْمَرْأَة على هَذِه الْأَقْوَال.
وَفِي (الْقَدُورِيّ) : توجب الْوضُوء، وَفِي الذّكر لَا
تنقض وَإِن خرجت الدودة من الْفَم اَوْ الْأنف أَو الْأذن
لَا تنقض.
وقالَ جابِر بنُ عَبْدِ اللَّهِ إذَا ضَحِكَ فِي
الصَّلاَةِ أعادَ الصَّلاَةَ ولَمْ يُعِدِ الوُضُوءَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة)
عَن أبي عبد الله الْحَافِظ: حَدثنَا أَبُو الْحسن بن ماتي
حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن عبد الله حَدثنَا وَكِيع عَن
الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان مَرْفُوعا: سُئِلَ جَابر
فَذكره، وَرَوَاهُ أَبُو شيبَة. قَاضِي وَاسِط عَن يزِيد
بن أبي خَالِد عَن أبي سُفْيَان مَرْفُوعا، وَاخْتلف
عَلَيْهِ فِي سنَنه وَالْمَوْقُوف هُوَ الصَّحِيح وَرَفعه
ضَعِيف. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وروينا عَن عبد الله ابْن
مَسْعُود وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَأبي أُمَامَة
الْبَاهِلِيّ مَا يدل على ذَلِك وَهُوَ قَول الْفُقَهَاء
السَّبْعَة. وَقَالَ الشّعبِيّ وَعَطَاء وَالزهْرِيّ:
وَهُوَ إِجْمَاع فِيمَا ذكره ابْن بطال وَغَيره،
وَإِنَّمَا الْخلاف: هَل ينْقض الْوضُوء؟ فَذهب مَالك
وَاللَّيْث وَالشَّافِعِيّ إِلَى أَنه لَا ينْقض، وَذهب
النَّخعِيّ وَالْحسن إِلَى أَنه ينْقض الْوضُوء
وَالصَّلَاة، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه
وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ مستدلين بِالْحَدِيثِ
الَّذِي رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابي الْمليح عَن
أَبِيه: (بَينا نَحن نصلي خلف رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِذا أقبل رجل ضَرِير الْبَصَر،
فَوَقع فِي حُفْرَة، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (من ضحك مِنْكُم فليعد الْوضُوء
وَالصَّلَاة) . وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث أنس وَعمْرَان
بن حُصَيْن وَأبي هُرَيْرَة، وضعفها كلهَا. قلت: مَذْهَب
أبي حنيفَة لَيْسَ كَمَا ذكره، وَإِنَّمَا مذْهبه مثل مَا
رُوِيَ عَن جَابر أَن الضحك يبطل الصَّلَاة وَلَا يبطل
الْوضُوء، والقهقهة تبطلهما جَمِيعًا، والتبسم لَا
يبطلهما، والضحك مَا يكون مسموعا لَهُ دون جِيرَانه،
والقهقهة مَا يكون مسموعاً لَهُ ولجيرانه، والتبسم مَا لَا
صَوت فِيهِ وَلَا تَأْثِير لَهُ دون وَاحِد مِنْهُمَا. فان
قَالَ: كَيفَ استدلت الحنيفة بِالْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ، وَلَيْسَ فِيهِ إلاَّ الضحك دون
القهقهة؟ قلت: المُرَاد من قَوْله: من ضحك مِنْكُم قهقهة،
يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن عمر. قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ضحك فِي الصَّلَاة
قهقهة فليعد الْوضُوء وَالصَّلَاة) . رَوَاهُ ابْن عدي فِي
(الْكَامِل) من حَدِيث بَقِيَّة: حَدثنَا أبي عَمْرو بن
قيس عَن عَطاء عَن ابْن عمر، وَالْأَحَادِيث يُفَسر
بَعْضهَا بَعْضًا. فان قيل: قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هَذَا
حَدِيث لَا يَصح، فَإِن بَقِيَّة من عَادَته التَّدْلِيس.
قلت: المدلس إِذا صرح بِالتَّحْدِيثِ وَكَانَ صَدُوقًا
زَالَت تُهْمَة التَّدْلِيس، وَبَقِيَّة صرح
بِالتَّحْدِيثِ وَهُوَ صَدُوق.
وَلنَا فِي هَذَا الْبَاب أحد عشر حَدِيثا عَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا أَرْبَعَة مُرْسلَة
وَسَبْعَة مُسندَة.
فَأول الْمَرَاسِيل حَدِيث ابي الْعَالِيَة الريَاحي،
رَوَاهُ عَنهُ عبد الرَّزَّاق عَن قَتَادَة عَن ابي
الْعَالِيَة، وَهُوَ عدل ثِقَة: (أَن أعمى تردى فِي بِئْر
وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّي
بِأَصْحَابِهِ، فَضَحِك بعض من كَانَ يُصَلِّي مَعَه،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأمر النَّبِي، عَلَيْهِ
السَّلَام، من كَانَ ضحك مِنْهُم أَن يُعِيد الْوضُوء
وَيُعِيد الصَّلَاة) ، وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من جِهَة
عبد الرَّزَّاق بِسَنَدِهِ، وَعبد الرَّزَّاق فَمن فَوْقه
من رجال الصَّحِيح، وَأَبُو الْعَالِيَة اسْمه: رفيع ابْن
مهْرَان الريَاحي الْبَصْرِيّ، أدْرك الْجَاهِلِيَّة
وَأسلم بعد موت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
بِسنتَيْنِ، وَدخل على أبي بكر الصّديق، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَصلى خلف عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وروى عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة،
وَوَثَّقَهُ يحيى وَأَبُو زرْعَة وَأَبُو حَاتِم، وروى
لَهُ الْجَمَاعَة، وَقَالَ ابْن رشد الْمَالِكِي: هُوَ
مُرْسل صَحِيح، وَلم يقل الشَّافِعِي إلاَّ بإرساله،
والمرسل عندنَا حجَّة وَكَذَا عِنْد مَالك، قَالَه أَبُو
بكر ابْن الْعَرَبِيّ، وَكَذَا عَن أَحْمد، حكى ذَلِك ابْن
الْجَوْزِيّ فِي التَّحْقِيق؛ وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا من
طرق سَبْعَة مُتَّصِلَة، ذكرهَا جمَاعَة مِنْهُم ابْن
الجوزى. وَالثَّانِي من الْمَرَاسِيل: مُرْسل الْحسن
الْبَصْرِيّ، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ بِإِسْنَادِهِ
إِلَيْهِ وَهُوَ أَيْضا مُرْسل صَحِيح. وَالثَّالِث:
مُرْسل النَّخعِيّ، رَوَاهُ أَبُو مُعَاوِيَة عَن
الْأَعْمَش عَن النَّخعِيّ قَالَ: جَاءَ رجل ضَرِير
الْبَصَر وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
يُصَلِّي ... الحَدِيث. وَالرَّابِع: مُرْسل معبد
الْجُهَنِيّ، رُوِيَ عَنهُ من طرق.
وَأول المسانيد حَدِيث عبد الله بن عمر، وَقد ذَكرْنَاهُ.
وَالثَّانِي: حَدِيث أنس بن مَالك، رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ من طرق. وَالثَّالِث: حَدِيث أبي
هُرَيْرَة من رِوَايَة أبي أُميَّة عَن الْحسن عَن أبي
هُرَيْرَة عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
أَنه قَالَ: إِذا قهقهه فِي الصَّلَاة أعَاد الْوضُوء
وَأعَاد الصَّلَاة، رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ.
وَالرَّابِع: حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن عَن النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَنه
(3/48)
قَالَ: (من ضحك فِي الصَّلَاة قرقرة فليعد
الْوضُوء) . وَالْخَامِس: حَدِيث جَابر أخرجه
الدَّارَقُطْنِيّ. وَالسَّادِس: حَدِيث ابي الْمليح بن
أُسَامَة، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا. وَالسَّابِع:
حَدِيث رجل من الْأَنْصَار: (أَن رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يُصَلِّي، فَمر رجل فِي
بَصَره سوء فتردى فِي بِئْر وَضحك طوائف من الْقَوْم،
فَأمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من كَانَ ضحك
أَن يُعِيد الْوضُوء وَالصَّلَاة) ، رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ بَعضهم حاكياً عَن ابْن
الْمُنْذر: أَجمعُوا على أَنه لَا ينْقض خَارج الصَّلَاة،
وَاخْتلفُوا إِذا وَقع فِيهَا فَخَالف من قَالَ
بِالْقِيَاسِ الْجَلِيّ، وتمسكوا بِحَدِيث لَا يَصح، وحاشا
أَصْحَاب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
الَّذين هم خير الْقُرُون، أَن يضحكوا بَين يَدي الله
سُبْحَانَهُ خلف رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام. قلت: هَذَا الْقَائِل أعجبه هَذَا الْكَلَام
المشوب بالطعن على الْأَئِمَّة الْكِبَار، وفساده ظَاهر من
وجوده: الأول: كَيفَ يجوز التَّمَسُّك بِالْقِيَاسِ مَعَ
وجود الْأَخْبَار الْمُشْتَملَة على مَرَاسِيل مَعَ
كَونهَا حجَّة عِنْدهم. وَالثَّانِي قَوْله: تمسكوا
بِحَدِيث لَا يَصح، وَلَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، بل تمسكوا
بالأحاديث الَّتِي ذَكرنَاهَا وَإِن كَانَ بَعضهم قد ضعف
مِنْهَا، فبكثرتها وَاخْتِلَاف طرقها ومتونها ورواتها
تتعاضد وتتقوى على مَا لَا يخفى، وَمَعَ هَذَا فَإِن
الروَاة الَّذين فِيهَا من الضُّعَفَاء على زعم الْخصم لَا
يُسلمهُ من يعْمل بأحاديثهم، وَلم يسلم أحد من التَّكَلُّم
فِيهِ. وَالثَّالِث: قَوْله: حاشا من أَصْحَاب رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... إِلَى آخِره، لَيْسَ بِحجَّة
فِي ترك الْعَمَل فِي الْأَخْبَار الْمَذْكُورَة، وَكَانَ
يُصَلِّي خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الصَّحَابَة وَغَيرهم من الْمُنَافِقين والأعراب
الْجُهَّال، وَهَذَا من بَاب حسن الظَّن بهم، وإلاَّ
فَلَيْسَ الضحك كَبِيرَة، وهم لَيْسُوا من الصَّغَائِر
بمعصومين وَلَا عَن الْكَبَائِر، على تَقْدِير كَونه
كَبِيرَة، وَمَعَ هَذَا وَقع من الْأَحْدَاث فِي حَضْرَة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا هُوَ أَشد من هَذَا.
وَقَالَ الْقَائِل الْمَذْكُور، بعد نَقله كَلَام ابْن
الْمُنْذر الَّذِي ذَكرْنَاهُ: على أَنهم لم يَأْخُذُوا
بِمَفْهُوم الْخَبَر الْمَرْوِيّ فِي الضحك، بل خصوه
بالقهقهة. قلت: هَذَا كَلَام من لَا ذوق لَهُ من دقائق
التراكيب، وَكَيف لم يَأْخُذُوا بِمَفْهُوم الْخَبَر
الْمَرْوِيّ فِي الضحك، وَلَو لم يَأْخُذُوا مَا قَالُوا:
الضحك يفْسد الصَّلَاة وَلَا خصوه بالقهقهة؟ فَإِن لَفظه
القهقهة ذكر صَرِيحًا كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عمر
صَرِيحًا. وَجَاء أَيْضا لفظ: القرقرة، فِي حَدِيث عمرَان
بن حُصَيْن. وَقد ذكرناهما قَرِيبا، وَقد ذكرنَا أَن
الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
وقالَ الحَسَنُ: إنْ أخَذَ مِنْ شَعَرِهِ وأظْفَارِهِ أوْ
خَلعَ خُفَّيْهِ فَلاَ وُضُوءَ عَليْهِ
أَي قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ، رَضِي الله عَنهُ، وَهَذِه
مَسْأَلَتَانِ ذكرهمَا بِالتَّعْلِيقِ. التَّعْلِيق الأول:
وَهُوَ قَوْله: (ان اخذ من شعره أَو اظفاره) أخرجه سعيد بن
مَنْصُور وَابْن الْمُنْذر بِإِسْنَاد صَحِيح مَوْصُولا،
وَبِه قَالَ أهل الْحجاز وَالْعراق. وَعَن ابي الْعَالِيَة
وَالْحكم وَحَمَّاد وَمُجاهد إِيجَاب الْوضُوء فِي ذَلِك،
وَقَالَ عَطاء وَالشَّافِعِيّ وَالنَّخَعِيّ: يمسهُ
المَاء. وَقَالَ اصحابنا الْحَنَفِيَّة: وَلَو حلق رأسة
بعد الْوضُوء، أَو جزَّ شَاربه أَو قلَّم ظفره أَو قشط خفه
بعد مَسحه فَلَا إِعَادَة عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن جرير:
وَعَلِيهِ الْإِعَادَة. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: عَلَيْهِ
إمرار المَاء على ذَلِك الْموضع. وَالتَّعْلِيق الثَّانِي:
وَصله ابْن ابي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن هِشَام عَن
يُونُس عَنهُ قَوْله: (اَوْ خلع خفيه) قيد بِالْخلْعِ
لِأَنَّهُ إِذا أَخذ من خفيه بِمَعْنى قشط من مَوضِع
الْمسْح فَلَا وضوء عَلَيْهِ، وَأما لَو خلع خفيه بعد
الْمسْح عَلَيْهِمَا فَفِيهِ أَرْبَعَة أَقْوَال: فَقَالَ
مَكْحُول وَالنَّخَعِيّ وَابْن أبي ليلى وَالزهْرِيّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: يسْتَأْنف الْوضُوء،
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي القَوْل الْقَدِيم.
وَالْقَوْل الثَّانِي: يغسل رجلَيْهِ مَكَانَهُ فَإِن لم
يفعل اسْتَأْنف الْوضُوء، وَبِه قَالَ مَالك وَاللَّيْث.
وَالثَّالِث: يغسلهما إِذا أَرَادَ الْوضُوء، وَبِه قَالَ
الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ فِي
(الْجَدِيد) والمزني وَأَبُو ثَوْر. وَالرَّابِع: لَا
شَيْء عَلَيْهِ وَيغسل كَمَا هُوَ، وَبِه قَالَ الْحسن
وَقَتَادَة، وَرُوِيَ مثله عَن النَّخعِيّ.
وقالَ أبُو هُرَيْرَةَ لاَ وُضُوءَ منْ حَدَثٍ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله إِسْمَاعِيل القَاضِي فِي
(الْأَحْكَام) بِإِسْنَاد صَحِيح من حَدِيث مُجَاهِد عَنهُ
مَوْقُوفا، وَرَوَاهُ أَبُو عبيد فِي كتاب (الطّهُور)
بِلَفْظ (لَا وضوء إلاَّ من حدث أَو صَوت أَو ريح) .
وَقَالَ بَعضهم: وَرَوَاهُ أَحْمد وَأَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيّ من طَرِيق شُعْبَة عَن سهل بن أبي صَالح
عَن أَبِيه عَنهُ مَرْفُوعا. قلت: الَّذِي رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد غير مَا رُوِيَ عَن ابي هُرَيْرَة، وَخِلَافَة على
مَا تقف عَلَيْهِ الْآن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: معنى (لَا
وضوء إلاَّ من حدث) : لَا وضوء إلاَّ من الْخَارِج من
السَّبِيلَيْنِ. قلت: الْحَدث أَعم من هَذَا، وكل وَاحِد
من الْإِغْمَاء وَالنَّوْم وَالْجُنُون حدث، وَجَمِيع
الْأَئِمَّة يَقُولُونَ: لَا وضوء إلاَّ من حدث؛ فَإِن
اعْتمد الْكرْمَانِي فِي هَذَا
(3/49)
التَّفْسِير على حَدِيث أبي دَاوُد
الْمَرْفُوع، فَلَا يساعده ذَلِك، لِأَن لفظ حَدِيث أبي
دَاوُد عَن أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (إِذا كَانَ أحدكُم فِي الصَّلَاة
فَوجدَ حَرَكَة فِي دبره أحدث أَو لم يحدث فأشكل عَلَيْهِ،
فَلَا ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا) . فالحدث
هُنَا خَاص وَهُوَ: سَماع الصَّوْت أَو وجدان الرّيح.
وَأثر أبي هُرَيْرَة عَام فِي سَائِر الْأَحْدَاث، لِأَن
قَوْله: من حدث، لفظ عَام لَا يخْتَص بِحَدَث دون حدث.
ويُذْكَرُ عَنْ جابِرٍ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كانَ فِي غَزْوَةِ ذَاتِ الرِّقاعِ فَرُمِيَ رَجُلٌ
بِسَهْمٍ فَنَزَفَهُ الدَّمُ فَرَكَعَ وسَجَدَ ومَضَى فِي
صَلاَتِهِ
الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن هَذَا الحَدِيث وَصله ابْن إِسْحَاق فِي
الْمَغَازِي، قَالَ: حَدثنِي صَدَقَة بن يسَار عَن عقيل
ابْن جَابر عَن ابيه قَالَ: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) . يَعْنِي فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع
فَأصَاب رجلٌ أمْرَأَة رجلٍ من الْمُشْركين، فَحلف أَن لَا
أَنْتَهِي حَتَّى أهريق دَمًا فِي أَصْحَاب مُحَمَّد،
فَخرج يتبع أثر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَنزل
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم منزلا فَقَالَ: من رجل
يكلؤنا؟ فَانْتدبَ رجل من الْمُهَاجِرين وَرجل من
الْأَنْصَار، قَالَ: كونا بِفَم الشّعب. قَالَ: فَلَمَّا
خرج الرّجلَانِ إِلَى فَم الشّعب اضْطجع الْمُهَاجِرِي
وَقَامَ الْأنْصَارِيّ يُصَلِّي، وأتى الرجل، فَلَمَّا رأى
شخصه عرف أَنه ربيئة للْقَوْم، فَرَمَاهُ بِسَهْم فَوَضعه
فِيهِ، ونزعه حَتَّى مضى ثَلَاثَة أسْهم، ثمَّ ركع وَسجد،
ثمَّ انتبه صَاحبه، فَلَمَّا عرف أَنه قد نذروا بِهِ هرب،
وَلما رأى الْمُهَاجِرِي مَا بِالْأَنْصَارِيِّ من
الدِّمَاء قَالَ: سُبْحَانَ الله أَلا أنبهتني أول مَا
رمى؟ قَالَ: كنت فِي سُورَة أقرؤها فَلم أحب أَن اقطعها.
الثَّانِي: أَن هَذَا الحَدِيث صَحِيح. أخرجه ابْن حبَان
فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَصَححهُ
ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَأحمد فِي (مُسْنده)
وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) كلهم من طَرِيق إِسْحَاق.
فَإِن قلت: إِذا كَانَ كَذَلِك فَلِمَ لم يجْزم بِهِ
البُخَارِيّ؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: ذكره بِصِيغَة
التمريض لِأَنَّهُ غير مجزوم بِهِ، بِخِلَاف قَوْله: قَالَ
جَابر فِي الحَدِيث الَّذِي مضى هُنَا، لِأَن: قَالَ،
وَنَحْوه تَعْلِيق بِصِيغَة التَّصْحِيح مَجْزُومًا بِهِ.
قلت: فِيهِ نظر، لِأَن الحَدِيث الَّذِي قَالَ فِيهِ:
قَالَ جَابر، لَا يُقَاوم الحَدِيث على مَا وقفت عَلَيْهِ،
وَكَانَ على قَوْله يَنْبَغِي ان يكون الْأَمر
بِالْعَكْسِ. وَقَالَ بَعضهم: لم يجْزم بِهِ لكَونه
مُخْتَصرا. قلت: هَذَا أبعد من تَعْلِيل الْكرْمَانِي،
فَإِن كَون الحَدِيث مُخْتَصرا لَا يسْتَلْزم أَن يذكر
بِصِيغَة التمريض،، وَالصَّوَاب فِيهِ أَن يُقَال: لأجل
الِاخْتِلَاف فِي ابْن إِسْحَاق.
الثَّالِث فِي رِجَاله، وهم: صَدَقَة بن يسَار الْجَزرِي،
سكن مَكَّة، قَالَ ابْن معِين: ثِقَة. وَقَالَ ابو حَاتِم:
صَالح، روى لَهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه
أَيْضا. وَعقيل، بِفَتْح الْعين: ابْن جَابر الْأنْصَارِيّ
الصَّحَابِيّ، وَلم يعرف لَهُ راوٍ غير صَدَقَة وَجَابِر
بن عبد الله بن عمر والأنصاري.
الرَّابِع: فِي لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (فِي غَزْوَة
ذَات الرّقاع) سميت بإسم شَجَرَة هُنَاكَ، وَقيل: باسم جبل
هُنَاكَ فِيهِ بَيَاض وَسَوَاد وَحُمرَة، يُقَال لَهُ:
الرّقاع، فسميت بِهِ. وَقيل: سميت بِهِ لرقاع كَانَت فِي
أَلْوِيَتهم. وَقيل: سميت بذلك لِأَن أَقْدَامهم نقبت
فلفوا عَلَيْهَا الْخرق، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، لِأَن
أَبَا مُوسَى حَاضر ذَلِك مُشَاهدَة وَقد أخبر بِهِ،
وَكَانَت غَزْوَة ذَات الرّقاع فِي سنة أَربع من
الْهِجْرَة. وَذكر البُخَارِيّ أَنَّهَا كَانَت بعد
خَيْبَر، لِأَن أَبَا مُوسَى جَاءَ بعد خَيْبَر. قَوْله:
(حَتَّى أهريق) أَي: أريق، وَالْهَاء فِيهِ زَائِدَة.
قَوْله: (أثر النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) ،
بِفَتْح الْهمزَة والثاء الْمُثَلَّثَة، وَيجوز
بِكَسْرِهَا وَسُكُون الثَّاء. قَوْله: (من رجل) ، كلمة:
من، استفهامية أَي: أَي رجل يكلؤنا؟ اي: يحرسنا؟ من كلأ
يكلأ كلاءة، من بَاب: فتح يفتح. كلأته أكلؤه فَأَنا كالىء،
وَهُوَ مكلوء. وَقد تخفف همزَة الكلاءة وتقلب يَاء
فَيُقَال: كلاية. قَوْله: (فَانْتدبَ) ، يُقَال نَدبه
لِلْأَمْرِ فَانْتدبَ لَهُ اي: دَعَا لَهُ فَأجَاب،
وَالرجلَانِ هما: عمار بن يَاسر وَعباد بن بشر. وَيُقَال
الْأنْصَارِيّ، وَهُوَ عمَارَة بن حزم، وَالْمَشْهُور
الأول. قَوْله: (الشّعب) ، بِكَسْر الشين: الطَّرِيق فِي
الْجَبَل، وَجمعه شعاب. قَوْله: (وَقَامَ الْأنْصَارِيّ) ،
وَهُوَ عباد بن بشر. قَوْله: (ربيئة) ، بِفَتْح الرَّاء
وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: هُوَ الْعين والطليعة الَّذِي
ينظر للْقَوْم لِئَلَّا يدهمهم عَدو، وَلَا يكون إلاَّ على
جبل أَو شرف ينظر مِنْهُ، من: ربأ يربأ من بَاب: فتح يفتح.
قَوْله: (فَرَمَاهُ) ، الضَّمِير الْمَرْفُوع يرجع إِلَى
الْمُشرك، والمنصوب إِلَى الْأنْصَارِيّ. قَوْله: (حَتَّى
مضى ثَلَاثَة أسْهم) اي: حَتَّى كمل ثَلَاثَة أسْهم.
قَوْله: (قد نذروا بِهِ) ، بِفَتْح النُّون وَكسر الذَّال
الْمُعْجَمَة: أَي علمُوا وأحسوا بمكانه. قَوْله: (أَلا
انبهتني) كلمة: ألاَّ، بِفَتْح الْهمزَة وَالتَّخْفِيف
بِمَعْنى الْإِنْكَار، فَكَأَنَّهُ أنكر عَلَيْهِ عدم
إنباهه، وَيجوز بِالْفَتْح وَالتَّشْدِيد، وَيكون
بِمَعْنى: هلا، بِمَعْنى اللوم والعتب على ترك الإنباه.
قَوْله: (كنت فِي سُورَة أقرؤها) ، وَكَانَت سُورَة
الْكَهْف، حَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ. قَوْله: (فنزفه الدَّم)
،
(3/50)
فِي رِوَايَة البُخَارِيّ بِفَتْح الزَّاي،
وبالفاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال نزفه الدَّم إِذا خرج
مِنْهُ دم كثير حَتَّى يضعف، فَهُوَ نزيف ومنزوف، وَقَالَ
ابْن التِّين: هَكَذَا روينَاهُ، وَالِدي عِنْد أهل
اللُّغَة: نزف دَمه، على صِيغَة الْمَجْهُول، أَيْن: سَالَ
دَمه. وَقَالَ ابْن جني: أنزفت الْبِئْر وأنزفت هِيَ،
جَاءَ مُخَالفا للْعَادَة. وَفِي (الْمُحكم) : أنزفت
الْبِئْر: نزحت. وَقَالَ ابْن طَرِيق: تَمِيم تَقول:
أنزفت، وَقيس تَقول: نزفت، ونزفه الْحجام ينزفه وينزفه:
أخرج دَمه كُله، ونزفه الدَّم، وَإِن شِئْت قلت: أنزفه،
وَحكى الْفراء: أنزفت الْبِئْر: ذهب مَاؤُهَا.
الْخَامِس فِي استنباط الاحكام مِنْهُ احْتج الشَّافِعِي
وَمن مَعَه بِهَذَا الحَدِيث: أَن خُرُوج الدَّم وسيلانه
من غير السَّبِيلَيْنِ لَا ينْقض الْوضُوء، فَإِنَّهُ لَو
كَانَ ناقضاً للطَّهَارَة لكَانَتْ صَلَاة الْأنْصَارِيّ
بِهِ تفْسد أول مَا أَصَابَهُ الرَّمية، وَلم يكن يجوز
لَهُ بعد ذَلِك أَن يرْكَع وَيسْجد وَهُوَ مُحدث، وَاحْتج
أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة بِأَحَادِيث كَثِيرَة أقواها
وأصحها مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي (صَحِيحه) عَن هِشَام
بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، قَالَت: (جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: يَا
رَسُول الله إِنِّي امْرَأَة أسْتَحَاض فَلَا أطهر، أفأدع
الصَّلَاة؟ قَالَ: لَا إِنَّمَا ذَلِك عرق وَلَيْسَت
بالحيضة، فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فدعي الصَّلَاة، وَإِذا
أَدْبَرت فاغسلي عَنْك الدَّم. قَالَ هِشَام: قَالَ أبي:
ثمَّ توضيء لكل صَلَاة حَتَّى يَجِيء ذَلِك الْوَقْت) .
لَا يُقَال: قَوْله: (ثمَّ توضيء لكل صَلَاة) ، من كَلَام
عُرْوَة، لِأَن التِّرْمِذِيّ لم يَجعله من كَلَام عُرْوَة
وَصَححهُ. وَأما احتجاج الشَّافِعِي وَمن مَعَه بذلك
الحَدِيث فمشكل جدا، لِأَن الدَّم إِذا سَالَ أصَاب بدنه
وَجلده، وَرُبمَا أصَاب ثِيَابه وَمن نزل عَلَيْهِ
الدِّمَاء مَعَ إِصَابَة شَيْء من ذَلِك، وَإِن كَانَ
يَسِيرا لَا تصح صلَاته عِنْدهم، وَلَئِن قَالُوا: إِن
الدَّم كَانَ يخرج من الْجراحَة على سَبِيل الزرق حَتَّى
لَا يُصِيب شَيْئا من ظَاهر بَدَنَة إِن كَانَ كَذَلِك
فَهُوَ أَمر عَجِيب وَهُوَ بعيد جدا، وَقَالَ الْخطابِيّ:
لست أَدْرِي كَيفَ يَصح الِاسْتِدْلَال بِهِ وَالدَّم إِذا
سَالَ يُصِيب بدنه وَرُبمَا أصَاب ثِيَابه، وَمَعَ
إِصَابَة شَيْء من ذَلِك، وَإِن كَانَ يَسِيرا. لَا تصح
صلَاته، وَقَالَ بَعضهم: وَلَو لم يظْهر الْجَواب عَن كَون
الدَّم أَصَابَهُ فَالظَّاهِر أَن البُخَارِيّ كَانَ يرى
أَن خُرُوج الدَّم فِي الصَّلَاة لَا يبطل، بِدَلِيل أَنه
ذكر عقيب هَذَا الحَدِيث اثر الْحسن الْبَصْرِيّ، قَالَ:
مَا زَالَ الْمُسلمُونَ يصلونَ فِي جراحاتهم. قلت: هَذَا
أعجب من الْكل وَأبْعد من الْعقل، وَكَيف يجوز هَذَا
الْقَائِل نِسْبَة جَوَاز الصَّلَاة مَعَ خُرُوج الدَّم
فِيهَا مَعَ غير دَلِيل قوي إِلَى البُخَارِيّ؟ وَأثر
الْحسن لَا يدل على شَيْء من ذَلِك أصلا، لِأَنَّهُ لَا
يلْزم من قَوْله: (يصلونَ فِي جراحاتهم) ، أَن يكون الدَّم
خَارِجا وقتئذ، وَمن لَهُ جِرَاحَة لَا يتْرك الصَّلَاة
لأَجلهَا بل يُصَلِّي وجراحته إِمَّا معصبة بِشَيْء، أَو
مربوطة بجبيرة، وَمَعَ ذَلِك لَو خرج شَيْء من ذَلِك تفْسد
صلَاته بِمُجَرَّد الْخُرُوج، وَلَا بُد من سيلانه ووصوله
إِلَى مَوضِع يلْحقهُ حكم التَّطْهِير.
وَقَالَ الحَسَنُ مَا زَال المُسْلِمُونَ يُصَلُّونَ فِي
جِرَاحاتِهِمْ
اي: قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَمَعْنَاهُ يصلونَ فِي
جراحاتهم من غير سيلان الدَّم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا
رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن هِشَام عَن
يُونُس عَن الْحسن: أَنه كَانَ لَا يرى الْوضُوء من الدَّم
إلاَّ مَا كَانَ سَائِلًا، هَذَا الَّذِي رُوِيَ عَن
الْحسن بِإِسْنَاد صَحِيح هُوَ مَذْهَب الْحَنَفِيَّة،
وَحجَّة لَهُم على الْخصم، فَبَطل بذلك قَول الْقَائِل
الْمَذْكُور، وَلَو لم يظْهر الْجَواب ... إِلَى آخِره،
وَلم يكن المُرَاد من أثر الْحسن مَا ذهب إِلَيْهِ فهمه بل
وهمه، فَذَلِك مَعَ علمه ووقوفه على الَّذِي رَوَاهُ ابْن
أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) الْمَذْكُور تَركه، وَلم يذكرهُ
لكَونه يرد عَلَيْهِ مَا ذهب إِلَيْهِ، وَيبْطل مَا اعْتمد
عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا شَأْن المنصفين وَإِنَّمَا هَذَا
دأب المعاندين المعتصبين الَّذِي يدقون الْحَدِيد
الْبَارِد على السندان.
وقالَ طَاوُسٌ ومُحمَّدُ بنُ عَلِيٍّ وأهْلُ الحِجَازِ
لَيْسَ فِي الدَّمِ وُضُوءٌ
طَاوس هُوَ ابْن كيسَان الْيَمَانِيّ الْحِمْيَرِي، أحد
الْأَعْلَام التَّابِعين وَخيَار عباد الله الصَّالِحين.
قَالَ يحيى بن معِين: اسْمه ذكْوَان، وَسمي طاوساً
لِأَنَّهُ كَانَ طَاوس الْقُرَّاء، وَوصل أَثَره ابْن ابي
شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح عَن عبيد الله بن مُوسَى عَن
حَنْظَلَة عَن طَاوس أَنه كَانَ لَا يرى فِي الدَّم
السَّائِل وضوء يغسل مِنْهُ الدَّم ثمَّ حَبسه، وَهَذَا
لَيْسَ بِحجَّة لَهُم لأَنهم لَا يرَوْنَ الْعَمَل بِفعل
التَّابِعِيّ، وَلَا هُوَ حجَّة على الْحَنَفِيَّة من
وَجْهَيْن: الأول: أَنه لَا يدل على أَن طاوساً كَانَ
يُصَلِّي وَالدَّم سَائل. وَالثَّانِي: وَإِن سلمنَا
ذَلِك، فالمنقول عَن أبي حنيفَة أَنه كَانَ يَقُول:
التابعون رجال وَنحن رجال يزاحموننا ونزاحمهم، وَالْمعْنَى
أَن أحدا مِنْهُم إِذا أدّى
(3/51)
اجْتِهَاده إِلَى شَيْء لَا يلْزمنَا
الْأَخْذ بِهِ، بل نجتهد كَمَا اجْتهد هُوَ، فَمَا أدّى
اجتهادنا إِلَيْهِ عَملنَا بِهِ وَتَركنَا اجْتِهَاده.
واما مُحَمَّد بن عَليّ فَهُوَ: مُحَمَّد بن عَليّ بن
الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم أَجْمَعِينَ، الْهَاشِمِي الْمدنِي، أَبُو جَعْفَر
الْمَعْرُوف: بالباقر، سمي بِهِ لِأَنَّهُ بقر الْعلم أَي:
شقَّه بِحَيْثُ عرف حقائقه، وَهُوَ أحد الْأَعْلَام
التَّابِعين الأجلاء، وروى هَذَا مَوْصُولا فِي (فَوَائِد)
الْحَافِظ أبي بشر الْمَعْرُوف بسمويه، من طَرِيق
الْأَعْمَش، قَالَ: سَأَلت أَبَا جَعْفَر الباقر عَن
الرعاف، فَقَالَ: لَو سَالَ نهر من دم مَا أعدت مِنْهُ
الْوضُوء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يكون
مُحَمَّد بن عَليّ هَذَا مُحَمَّد بن عَلَيْهِ الْمَشْهُور
بِابْن الحنيفة، وَالظَّاهِر الاول. وَاعْلَم أَن جَمِيع
مَا ذكر فِي هَذَا الْبَاب لَيْسَ بِحجَّة على
الْحَنَفِيَّة، فَإِن كَانَ من أَقْوَال الصَّحَابَة فَكل
وَاحِد لَهُ تَأْوِيل ومحمل صَحِيح، وَإِن كَانَ من قَول
التَّابِعين فَلَيْسَ بِحجَّة عَلَيْهِم، لما ذكرنَا عَن
ابي حنيفَة الْآن. وَأما عَطاء فَهُوَ ابْن أبي رَبَاح
وأثره وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَنهُ. قَوْله:
(وَأهل الْحجاز) من عطف الْعَام على الْخَاص، لِأَن طاوساً
وَمُحَمّد بن عَليّ وَعَطَاء حجازيون، وَغير هَؤُلَاءِ
الثَّلَاثَة مثل سعيد بن الْمسيب وَسَعِيد بن جُبَير
وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة من أهل الْمَدِينَة، وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَآخَرُونَ، وَخَالفهُم أَبُو حنيفَة،
وَاسْتدلَّ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ: إلاَّ أَن
يكون دَمًا سَائِلًا، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ. قَالَ ابو عمر: وَبِه قَالَ
الثَّوْريّ وَالْحسن بن حَيّ وَعبيد الله بن الْحسن
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد بن حَنْبَل وَإِسْحَاق بن
رَاهَوَيْه، وَإِن كَانَ الدَّم يَسِيرا غير خَارج وَلَا
سَائل فَإِنَّهُ لَا ينْقض الْوضُوء عِنْد جَمِيعهم، وَمَا
أعلم أحدا أوجب الْوضُوء من يسير الدَّم إلاَّ مُجَاهدًا
وَحده.
وعَصَر ابنُ عُمَرَ بَثْرَةً فَخَرَجَ مِنْهَا الدَّمُ
ولَمْ يَتَوضَّا
وَصله ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح: حَدثنَا عبد
الْوَهَّاب حَدثنَا سُلَيْمَان بن التَّيْمِيّ عَن بكر،
قَالَ: (رَأَيْت ابْن عمر عصر بثرة فِي وَجهه فَخرج
مِنْهَا شَيْء من دم، فحكه بَين إصبعيه ثمَّ صلى وَلم
يتَوَضَّأ) . (البثرة) ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة، وَيجوز فتحهَا وَهُوَ
خَرّاج صَغِير. يُقَال: بثر وَجهه، وَهَذَا الْأَثر حجَّة
للحنفية، لِأَن الدَّم الْخَارِج بالعصر لَا ينْقض
الْوضُوء عِنْدهم لِأَنَّهُ مخرج، والنقض يُضَاف إِلَى
الْخَارِج دون الْمخْرج كَمَا هُوَ مُقَرر فِي كتبهمْ،
فَإِن فَرح أحد من الْخُصُوم أَنه حجَّة على الْحَنَفِيَّة
فَهِيَ فرحة غير مستمرة.
وبَزَقَ ابنُ أبي أوْفَى دَماً فَمَضَى فِي صَلاَتِهِ
ابْن أبي أوفى: اسْمه عبد الله، وَأَبُو أوفى اسْمه:
عَلْقَمَة بن الْحَارِث الصَّحَابِيّ بن الصَّحَابِيّ، شهد
بيعَة الرضْوَان وَمَا بعْدهَا من الْمشَاهد، وَهُوَ آخر
من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْكُوفَةِ سنة سبع
وَثَمَانِينَ، وَقد كف بَصَره، وَهُوَ أحد من رَآهُ أَبُو
حنيفَة من الصَّحَابَة وروى عَنهُ، وَلَا يلْتَفت إِلَى
قَول الْمُنكر المتعصب: وَكَانَ عمر أبي حنيفَة حِينَئِذٍ
سبع سِنِين، وَهُوَ سنّ التَّمْيِيز. هَذَا على الصَّحِيح
إِن مولد أبي حنيفَة سنة ثَمَانِينَ، وعَلى قَول من قَالَ:
سنة سبعين، يكون عمره حِينَئِذٍ سَبْعَة عشر سنة، ويستبعد
جدا أَن يكون صَحَابِيّ مُقيما ببلدة، وَفِي أَهلهَا من
لَا يكون رَآهُ وَأَصْحَابه أخبر بِحَالهِ وهم ثِقَات فِي
أنفسهم قَوْله: (بزق) ، بالزاي وَالسِّين وَالصَّاد:
بِمَعْنى وَاحِد، وَهَذَا الْأَثر وَصله سُفْيَان
الثَّوْريّ، وَفِي (جَامعه) عَن عَطاء بن السَّائِب أَنه
رَآهُ يفعل ذَلِك، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه)
بِسَنَد جيد عَن عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن عَطاء بن
السَّائِب، قَالَ: رَأَيْت ابْن أبي أوفى بزق دَمًا هُوَ
يُصَلِّي ثمَّ مضى فِي صلَاته، وَهَذَا لَيْسَ بِحجَّة
لَهُم علينا، لِأَن الدَّم الَّذِي يخرج من الْفَم، إِن
كَانَ من جَوْفه فَلَا ينْقض وضوءه، وَإِن كَانَ من بَين
أَسْنَانه فالاعتبار للغلبة بالبزاق وَالدَّم، وَلم
يتَعَرَّض الرَّاوِي لذَلِك، فَلم يبْق حجَّة. وَالْحكم
بالغلبة لَهُ أصل وروى ابْن أبي شيبَة عَن الْحسن فِي رجل
بزق فَرَأى فِي بزاقه دَمًا أَنه لم يرد ذَلِك شَيْئا
حَتَّى يكون عبيطاً، وَرُوِيَ عَن ابْن سِيرِين أَنه
رُبمَا بزق فَيَقُول لرجل: أنظر هَل تغير الرِّيق؟ فَإِن
تغير، بزق الثَّانِيَة، فان كَانَ فِي الثَّانِيَة متغيراً
فَإِنَّهُ يتَوَضَّأ، وَإِن لم يكن فِي الثَّانِيَة
متغيراً لم ير وضوأً. قلت: التَّغَيُّر لَا يكون إلاَّ
بالغلبة.
وقالَ ابنُ عُمَرَ والَحسنُ فِيمَنْ يَحْتَجِمُ لَيْسَ
عَلَيْهِ إلاَّ غَسْلُ مَحاجِمِهِ
(3/52)
عبد الله بن عمر وَالْحسن الْبَصْرِيّ
وَهَذَانِ رَوَاهُمَا ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) :
حَدثنَا ابْن نمير حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع عَن ابْن
عمر رَضِي الله عَنْهُمَا (أَنه كَانَ إِذا احْتجم غسل أثر
محاجمه) . وَحدثنَا حَفْص عَن أَشْعَث عَن الْحسن وَابْن
سِيرِين (أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ بِغسْل أثر
المحاجم) . وَلما ذكر ابْن بطال فِي شَرحه أثر ابْن عمر
وَالْحسن. قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ الْمُسْتَمْلِي وَحده
بِإِثْبَات: إلاَّ، وَرَوَاهُ الْكشميهني، وَأكْثر الروَاة
بِغَيْر: إلاَّ، ثمَّ قَالَ: وَرِوَايَة الْمُسْتَمْلِي
هِيَ الصَّوَاب، وَكَذَا قَالَ الْكرْمَانِي، ومقصودهم من
تَصْحِيح هَذِه الرِّوَايَة إِلْزَام الْحَنَفِيَّة، وَلَا
يصعد ذَلِك مَعَهم لِأَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رَأَوْا
فِيهِ الْغسْل، مِنْهُم: ابْن عَبَّاس وَعبد الله بن
عَمْرو وَعلي بن أبي طَالب، وروته عَائِشَة، رَضِي الله
عَنْهَا، عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بأسانيد جِيَاد، وَهُوَ مَذْهَب
مُجَاهِد أَيْضا، وَأَيْضًا فالدم الَّذِي يخرج من مَوضِع
الْحجامَة مخرج وَلَيْسَ بِخَارِج، والنقض يتَعَلَّق
بالخارج كَمَا ذكرنَا، فَإِذا احْتجم وَخرج الدَّم فِي
المحجم بمص الْحجام وَلم يسل وَلم يلْحق إِلَى مَوضِع
يلْحقهُ حكم التَّطْهِير، فعلى الأَصْل الْمَذْكُور لَا
ينْتَقض وضوؤه، وَلَكِن لَا بُد من غسل مَوضِع الْحجامَة،
وَالْمَقْصُود إِزَالَة ذَلِك من مَوضِع الْحجامَة بِأَيّ
شَيْء كَانَ، وَلَا يتَعَيَّن المَاء، وَفِي (الْمحلى) فِي
أثر ابْن عمر: غسله بحصاة فَقَط، وَعَن اللَّيْث: يجْزِيه
أَن يمسحه وَيُصلي وَلَا يغسلهُ، فَهَذَا يدل على أَن
المُرَاد إِزَالَة ذَلِك. قَوْله: (محاجمه) جمع محجمة،
بِفَتْح الْمِيم: مَكَان الْحجامَة، وبكسر الْمِيم: اسْم
القارورة، وَالْمرَاد هَهُنَا الأول.
176 - حدّثنا آدَمُ بنُ أبي إيَاسٍ قالَ حدّثنا ابنُ أبي
ذِئْبٍ عَنْ سَعيدٍ المَقْبُرِيِّ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ
قالَ قالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ يَزَالُ
العَبْدُ فِي صَلاَةٍ مَا كانَ فِي الَمسْجِدِ ينْتَظِرُ
الصَّلاَةَ مَا لمْ يُحْدِثْ فقالَ رَجُلٌ أعْجَمِيٌّ مَا
الحَدَثُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ قالَ الصَّوْتُ يَعْنِي
الضَّرْطَةَ.
اقول: إِن كَانَ البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث هَهُنَا
للرَّدّ على أحد مِمَّن هُوَ معود بِالرَّدِّ عَلَيْهِ
فَغير مُنَاسِب، لِأَن حكم هَذَا الحَدِيث مجمع عَلَيْهِ،
وَلَيْسَ فِيهِ خلاف. وَإِن كَانَ لأجل مطابقته لترجمة
الْبَاب فَلَيْسَ كَذَلِك أَيْضا، لِأَنَّهُ دَاخل فِيمَن
يرى الْوضُوء من المخرجين، وَقَالَ بعض الشُّرَّاح:
وَالْبُخَارِيّ سَاقه لأجل تَفْسِير أبي هُرَيْرَة
بالضرطة، وَهُوَ إِجْمَاع. قلت: لم يتَأَمَّل هَذَا مَا
قَالَه، لِأَن الْبَاب مَا عقد لَهُ، وَلَا لَهُ مُنَاسبَة
هُنَا.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة كلهم قد ذكرُوا، وَابْن أبي
ذِئْب: مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن الْمُغيرَة بن
الْحَارِث بن أبي ذِئْب، واسْمه: هِشَام بن شُعْبَة،
وَسَعِيد بن أبي سعيد المقبرى، بِضَم الْبَاء وَفتحهَا،
وَقيل: بِكَسْرِهَا أَيْضا.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ آدم فَإِنَّهُ
أَيْضا دخل الْمَدِينَة.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لَا يزَال
العَبْد فِي صَلَاة) اي: فِي ثَوَاب صَلَاة. قَوْله: (فِي
صَلَاة) خبر: لَا يزَال. قَوْله: (مَا كَانَ فِي مَسْجِد)
، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مَا دَامَ فِي مَسْجِد) .
قَوْله: (ينْتَظر) : إِمَّا خبر للْفِعْل النَّاقِص،
وَإِمَّا حَال. و (فِي الْمَسْجِد) خَبره، وَإِنَّمَا نكر
الصَّلَاة وَعرف الْمَسْجِد لِأَنَّهُ قصد بالتنكير
التنويع، ليعلم أَن المُرَاد نوع صلَاته الَّتِي ينتظرها،
مثلا لَو كَانَ فِي انْتِظَار صَلَاة الظّهْر كَانَ فِي
صَلَاة الظّهْر، وَفِي انْتِظَار الْعَصْر كَانَ فِي
صَلَاة الْعَصْر، وهلم جراً. وَأما تَعْرِيف الْمَسْجِد
فَظَاهر، لِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ الْمَسْجِد الَّذِي
هُوَ فِيهِ، وَهَذَا الْكَلَام فِيهِ الْإِضْمَار،
تَقْدِيره: لَا يزَال العَبْد فِي ثَوَاب صَلَاة ينتظرها
مَا دَامَ ينتظرها، والقرينة لفظ الِانْتِظَار، وَلَو
كَانَ يجْرِي على ظَاهره لم يكن لَهُ أَن يتَكَلَّم، وَلَا
أَن يَأْتِي بِمَا لَا يجوز فِي الصَّلَاة. قَوْله: (مَا
لم يحدث) أَي: مَا لم يَأْتِ بِالْحَدَثِ. وَكلمَة: مَا،
مَصْدَرِيَّة زمانية، وَالتَّقْدِير: مُدَّة دوَام. عدم
الْحَدث، كَمَا قَوْله تَعَالَى: {مَا دمت} (مَرْيَم: 31)
أَي: مُدَّة دوامي {حَيا} (مَرْيَم: 31) فَحذف الظّرْف
وخلفته: مَا، وصلتها. قَوْله: (أعجمي) نِسْبَة إِلَى
الْأَعْجَم، كَذَا قيل، وَهُوَ الَّذِي لَا يفصح وَلَا
يبين كَلَامه وَإِن كَانَ من الْعَرَب، والعجم خلاف
الْعَرَب، وَالْوَاحد أعجمي. وَقَالَ ابْن الاثير: كل من
لَا يقدر على الْكَلَام فَهُوَ اعجم ومستعجم. وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: لَا نقل: رجل أعجمي، فتنسبه إِلَى نَفسه
إلاَّ أَن يكون أعجم؛ وأعجمي بِمَعْنى مثل: دوار ودواري.
قلت: فهم من كَلَامه أَن الْيَاء فِي: أعجمي، لَيست
للنسبة، كَمَا قَالَ بَعضهم، وَإِنَّمَا هِيَ
للْمُبَالَغَة. قَوْله: (فَقَالَ رجل) إِلَى آخِره: مدرج
من سعيد.
بَيَان اسنتباط الاحكام الأول فِيهِ فضل انْتِظَار
الصَّلَاة، لِأَن انْتِظَار الْعِبَادَة عبَادَة.
الثَّانِي: فِيهِ أَن من يتعاطى أَسبَاب
(3/53)
الصَّلَاة يُسمى مُصَليا. الثَّالِث: فِيهِ
أَن هَذِه الْفَضِيلَة الْمَذْكُورَة لمن لَا يحدث.
وَقَوله: (مَا لم يحدث) أَعم من أَن يكون فسَاء اَوْ
ضراطاً أَو غَيرهم من نواقض الْوضُوء من الْمجمع عَلَيْهِ
والمختلف فِيهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْحَدث
لَيْسَ منحصراً فِي الضرطة. قلت: المُرَاد الضرطة
وَنَحْوهَا من الفساء وَسَائِر الخارجات من
السَّبِيلَيْنِ، وَإِنَّمَا خصص بهَا لِأَن الْغَالِب أَن
الْخَارِج مِنْهُمَا فِي الْمَسْجِد لَا يزِيد عَلَيْهَا.
قلت: السُّؤَال عَام وَالْجَوَاب خَاص، وَيَنْبَغِي أَن
يُطَابق الْجَواب وَالسُّؤَال، وَلَكِن فهم أَبُو
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن مَقْصُود هَذَا
السَّائِل الْحَدث الْخَاص، وَهُوَ الَّذِي يَقع فِي
الْمَسْجِد حَالَة الِانْتِظَار، وَالْعَادَة أَن ذَلِك
لَا يكون إلاَّ الضرطة، فَوَقع الْجَواب طبق السُّؤَال،
وإلاَّ فأسباب النَّقْض كَثِيرَة.
177 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ
عَن الزُّهْريِّ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ
عَن النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ لاَ يَنْصَرفْ
حَتى يَسْمَعَ صَوْتاً أوْ يَجِدَ رِيحاً.
(انْظُر الحَدِيث 137 وطرفه) .
قَالَ بَعضهم: أورد البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا
لظُهُور دلَالَته على حصر النَّقْض بِمَا يخرج من
السَّبِيلَيْنِ. قلت: هَذَا قِطْعَة من حَدِيث عبد الله بن
زيد، وَهُوَ جَوَاب للرجل الَّذِي شكى إِلَى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة،
حَتَّى يخيل إِلَيْهِ. فَقَالَ: لَا ينْصَرف حَتَّى يسمع
صَوتا أَو يجد ريحًا، وَهُوَ جَوَاب مُطَابق للسؤال، لِأَن
سُؤَاله عَن هَذَا وَهُوَ فِي حَالَة الصَّلَاة، وَفِي
حَالَة الصَّلَاة لَا يُوجد غَالِبا إلاَّ ضراط أَو فسَاء.
فَأجَاب صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَنَّهُ لَا ينْصَرف
حَتَّى يجد أحد هذَيْن الشَّيْئَيْنِ، وَلَيْسَ هَذَا حصر
النَّقْض بِمَا يخرج من السَّبِيلَيْنِ، فالقائل
الْمَذْكُور، وَإِن كَانَ أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام
نصْرَة البُخَارِيّ وتوجيه وضع هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا
الْبَاب لما ذكره، فَلَيْسَ بِشَيْء.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: أَبُو الْوَلِيد:
هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، هَذَا الَّذِي
قَالَه الْأَكْثَرُونَ وَفِيهِمْ هِشَام بن عمار، ويكنى
بِأبي الْوَلِيد، وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن عُيَيْنَة،
ويروي عَنهُ البُخَارِيّ أَيْضا فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن
مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عبَّاد، بتَشْديد
الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن تَمِيم الْأنْصَارِيّ.
الْخَامِس: عَمه عبد الله بن زيد الْمَازِني رَضِي، الله
تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده: مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته أَئِمَّة أجلاء.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن عَليّ بن عبد الله وَأبي
الْوَلِيد، فرقهما. وَفِي الْبيُوع عَن أبي نعيم. وَأخرجه
مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن ابي بكر بن أبي شيبَة وَزُهَيْر
بن حَرْب وَعَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد ابْن أَحْمد بن أبي خلف. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن مَنْصُور.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن صباح، عشرتهم
عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب وَعباد
بن تَمِيم عَن عَمه عَن عبد الله بن زيد بِهِ.
بَيَان الْمعَانِي وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لَا ينْصَرف)
أَي: الْمُصَلِّي عَن صلَاته، لِأَن تَمام الحَدِيث: (شكى
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الرجل يخيل
إِلَيْهِ أَنه يجد الشَّيْء فِي الصَّلَاة؟ فَقَالَ: لَا
ينْصَرف حَتَّى يسمع صَوتا أَو يجد ريحًا) . وَفِي
رِوَايَة (لَا ينفلت) بِمَعْنى: لَا ينْصَرف، وَكلمَة:
حَتَّى، للغاية. وَكلمَة: ان، مقدرَة بعْدهَا، وَإِنَّمَا
ذكر شَيْئَيْنِ وهما: سَماع الصَّوْت ووجدان الرَّائِحَة،
حَتَّى يتَنَاوَل الْأَصَم والأخشم، وَقد اسْتَوْفَيْنَا
الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب: لَا يتَوَضَّأ من الشَّك حَتَّى
يستيقن.
178 - حدّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قالَ حدّثنا جَرِيرٌ
عَنِ الاَعْمش عَنْ مُنْذِرٍ أبي يَعْلَى الثَّوْرِيِّ
عَنْ مُحمَّدِ بنِ الحَنَفيَّةِ قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ
كنْتُ رَجُلاً مَدَّاءً فاسْتَحيَيْتُ أنَ أسْألَ رسولَ
اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرْتُ المِقْدَادَ بنَ
الاَسْوَدِ فَسَألَهُ فقالَ فِيهِ الوُضُوءُ.
(انْظُر الحَدِيث: 132 وطرفه) .
تقدم الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى: فِي آخر كتاب الْعلم،
وَجَرِير هُوَ ابْن عبد الحميد، وَالْأَعْمَش هُوَ
سُلَيْمَان بن مهْرَان، وَذكر الْكل فِيمَا مضى. وَقَالَ
بَعضهم: أورد البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب هَذَا
الحَدِيث لدلالته على إِيجَاب الْوضُوء من الْمَذْي.
وَهُوَ خَارج من أحد المخرجين. قلت: هَذَا مجمع عَلَيْهِ
وَلَيْسَ لَهُ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة. فَافْهَم.
وَرَواهُ شُعْبَةُ عَنِ الاَعْمَشِ
(3/54)
أَي: روى هَذَا الحَدِيث شُعْبَة بن
الْحجَّاج عَن سُلَيْمَان الْأَعْمَش عَن مُنْذر إِلَى
آخِره. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن
خَالِد عَن شُعْبَة عَن الْأَعْمَش بِهِ، والمذاء على وزن:
فعال، بِالتَّشْدِيدِ يَعْنِي: كثير الْمَذْي.
179 - حدّثنا سَعْدُ بنُ حَفْصٍ قَالَ حدّثنا شَيْبَانُ
عَنْ يَحْيَ عَنْ أبي سَلمَةَ أَن عطَاءَ بن يَسَارٍ
أخْبرهُ أنّ زَيْدَ بنَ خالِدٍ أخْبرَهُ أنّهُ سَألَ
عُثْمانَ بنَ عَفَّانَ رَضِي الله عنهُ قُلْتُ أرَأيْتَ
إِذا جامَع فَلَمْ يُمْنِ قالَ عُثْمانُ يَتَوَضَّأُكما
يَتَوَضَّأُ لِلصَّلاَةِ ويَغْسِلُ ذَكَرَهُ قالَ عُثْمانُ
سَمِعْتُهُ مِنْ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَسَألْتُ عَنْ ذَلِكَ عَلِيًّا وَالزُّبَيْرَ وطَلْحَةَ
وأَبَيَّ بنَ كَعْبٍ رَضِي الله عنْهُمْ فأمَرُوْهُ
بذَلِكَ.
(الحَدِيث 179 طرفه فِي: 292) .
قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه مناسبته
للتَّرْجَمَة؟ قلت: هُوَ مُنَاسِب لجزء من التَّرْجَمَة،
إِذْ هُوَ يدل على وجوب الْوضُوء من الْخَارِج من الْمخْرج
الْمُعْتَاد. نعم لَا يدل على الْجُزْء الآخر وَهُوَ عدم
الْوُجُوب فِي غَيره، وَلَا يلْزم أَن يدل كل حَدِيث فِي
الْبَاب على كل التَّرْجَمَة، بل لَو دلّ الْبَعْض على
الْبَعْض بِحَيْثُ لَا يدل كل مَا فِي الْبَاب على كل
التَّرْجَمَة لصَحَّ التَّعْبِير بهَا. قلت: نعم لَا يلْزم
أَن يدل كل حَدِيث فِي البا إِلَى آخِره، لَكِن الحَدِيث
مَنْسُوخ بِالْإِجْمَاع فَلَا يُنَاسِبه التَّرْجَمَة
لِأَن الْبَاب مَعْقُود فِيمَن لم ير الْوضُوء إلاَّ من
المخرجين وَهَهُنَا لَا خلاف فِيهِ.
بَيَان رِجَاله الْمَذْكُورين فِيهِ وهم أحد عشر رجلا.
الأول: سعد بن حَفْص أَبُو مُحَمَّد الطلحي، بالمهملتين:
الْكُوفِي. الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن
النَّحْوِيّ، أَبُو مُعَاوِيَة. الثَّالِث: يحيى بن أبي
كثير الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة،
بِفَتْح اللَّام: عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف
التَّابِعِيّ، وكل هَؤُلَاءِ تقدمُوا فِي بَاب كِتَابَة
الْعلم. الْخَامِس: عَطاء بن يسَار، بِفَتْح الْيَاء آخر
الْحُرُوف وبالسين الْمُهْملَة: الْمدنِي، مر فِي بَاب
كفران العشير. السَّادِس: زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ
الْمدنِي الصَّحَابِيّ، تقدم فِي بَاب الْغَضَب فِي
الموعظة. السَّابِع: عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، تقدم فِي بَاب الْوضُوء ثَلَاثًا،
وَالْأَرْبَعَة الْبَاقِيَة هم الصَّحَابَة المشهورون.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة
والإخبار وَالسُّؤَال وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
ثَلَاثَة من التَّابِعين: إثنان من كبار التَّابِعين، وهما
أَبُو سَلمَة وَعَطَاء، وَالثَّالِث تَابِعِيّ صَغِير
وَهُوَ: يحيى بن أبي كثير، وَالثَّلَاثَة على نسق وَاحِد.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ صحابيين يرْوى أَحدهمَا عَن الآخر
وهما: زيد بن ابي خَالِد وَعُثْمَان بن عَفَّان.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره وَأخرجه
البُخَارِيّ هُنَا عَن سعد بن حَفْص عَن شَيبَان، وَأخرجه
أَيْضا عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن حُسَيْن
الْمعلم كِلَاهُمَا، عَن يحيى بن أبي كثير عَن أبي سَلمَة
عَن يسَار عَنهُ بِهِ، زَاد فِي حَدِيث حُسَيْن عَن يحيى،
قَالَ: وَأَخْبرنِي أَبُو سَلمَة ان عُرْوَة بن الزبير
أخبرهُ أَن أَيُّوب الْأنْصَارِيّ أخبرهُ أَنه سمع ذَلِك
من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَأخرجه
مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعبد
بن حميد وَعبد الْوَارِث بن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث،
ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث عَن أَبِيه
عَن حُسَيْن الْمعلم بِهِ، وَذكر الزِّيَارَة الَّتِي فِي
آخِره عَن عبد الْوَارِث ابْن عبد الصَّمد بن عبد
الْوَارِث عَن أَبِيه عَن جده.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (قلت) ، بِصِيغَة
الْمُتَكَلّم، وَإِنَّمَا لم يقل: قَالَ كَمَا قَالَ
إِنَّه سَأَلَ، لِأَن فِيهِ نوع من محَاسِن الْكَلَام
لِأَن فِيهِ اعتبارين وهما عبارتان عَن أَمر وَاحِد فَفِي
الأول نظر إِلَى جَانب الْغَيْبَة، وَفِي الثَّانِي إِلَى
جَانب الْمُتَكَلّم. قَوْله: (أَرَأَيْت) مَعْنَاهُ:
أَخْبرنِي، ومفعوله مَحْذُوف تَقْدِيره: أَرَأَيْت أَنه
يتوضؤ. قَوْله: (فَلم يمن) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف:
من الإمناء، عَلَيْهِ الرِّوَايَة، وَفِيه لُغَة ثَانِيَة:
فتح الْيَاء، وثالثة: ضم الْيَاء مَعَ فتح الْمِيم
وَتَشْديد النُّون. يُقَال: منى وأمنى وَمنى، ثَلَاث
لُغَات وَالْوُسْطَى أشهر وأفصح، وَبهَا جَاءَ الْقُرْآن.
قَالَ الله تَعَالَى: {افرأيتم مَا تمنون} (الْوَاقِعَة:
58) قَوْله: (يتَوَضَّأ) أمره بِالْوضُوءِ احْتِيَاطًا،
لِأَن الْغَالِب خُرُوج الْمَذْي من المجامع وَإِن لم
يشْعر بِهِ. قَوْله: (كَمَا يتَوَضَّأ للصَّلَاة) احْتَرز
بِهِ عَن الْوضُوء اللّغَوِيّ. قَوْله: (وَيغسل ذكره) ،
أمره بذلك لتنجسه بالمذي، وَلَا يُقَال الْغسْل مقدم على
التوضيء، فَلم أَخّرهُ؟ لأَنا نقُول: الْوَاو وَلَا تدل
على التَّرْتِيب بل للْجمع الْمُطلق، فَلَو تَوَضَّأ قبله
يجوز وَلَا ينْتَقض وضوؤه. قَوْله: (سَمِعت) أَي: سَمِعت
الْمَذْكُور كُله من رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
(3/55)
وَالسَّلَام. قَوْله: (فَسَأَلت عَن ذَلِك)
مقول زيد لَا مقول عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (فامروه) الضَّمِير الْمَرْفُوع فِيهِ رَاجع إِلَى
هَؤُلَاءِ الصَّحَابَة الْأَرْبَعَة: عَليّ وَالزُّبَيْر
وَطَلْحَة وَأبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ رَاجع إِلَى المجامع. فَإِن
قلت: لم يمض ذكر المجامع. قلت: قَوْله: (إِذا جَامع) اي:
الرجل يدل على المجامع ضمنا من قبل قَوْله تَعَالَى:
{أعدلوا هُوَ اقْربْ للتقوى} (الْمَائِدَة: 8) اي: الْعدْل
أقرب، دلّ عَلَيْهِ: اعدلوا. قَوْله: (بذلك) أَي:
بِأَنَّهُ يتَوَضَّأ وَيغسل ذكره.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ وجوب الْوضُوء
على من يُجَامع امْرَأَته وَلَا ينزل. الثَّانِي: فِيهِ
وجوب غسل ذكره، وَاخْتلفُوا هَل يجب غسل كل الذّكر أَو غسل
مَا أَصَابَهُ الْمَذْي، فَقَالَ مَالك بالاول، وَقَالَ
الشَّافِعِي بِالثَّانِي. قلت: اخْتلف أَصْحَاب مَالك،
مِنْهُم من أوجب غسل الذّكر كُله لظَاهِر الْخَبَر،
وَمِنْهُم من أوجب غسل مخرج الْمَذْي وَحده وَعَن
الزُّهْرِيّ، لَا يغسل مَالك، مِنْهُم من أوجب غسل الذّكر
كُله لظَاهِر الْخَبَر، وَمِنْهُم من أوجب غسل الْمَذْي
وَحده وَعَن الزُّهْرِيّ، لَا يغسل الانثيين من الْمَذْي
إلاَّ أَن يكون أصابهما شَيْء. وَقَالَ الْأَثْرَم: وعَلى
هَذَا مَذْهَب ابي عبد الله، سمعته لَا يرى فِي الْمَذْي
إلاَّ الْوضُوء، وَلَا يرى فِيهِ الْغسْل وَهَذَا قَول
أَكثر أهل الْعلم. وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة:
الْمَذْي ينْقض الْوضُوء وَهُوَ مَا يخرج لزجاً متسبسباً
عِنْد الشَّهْوَة فَيكون على رَأس الذّكر. وَاخْتلفت
الرِّوَايَة فِي حكمه، فَروِيَ أَنه لَا يُوجب
الِاسْتِنْجَاء وَالْوُضُوء، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة
يجب غسل الذّكر والانثيين مَعَ الْوضُوء. وَقَالَ
الطَّحَاوِيّ: لم يكن قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: (يغسل مذاكيره) لإِيجَاب الْغسْل، وَلكنه
ليتقلص اي ليرتفع وينزوي الْمَذْي فَلَا يخرج، وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ مَا جَاءَ، فِي (صَحِيح مُسلم) : (تَوَضَّأ وانضح
فرجك) ، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه، وَبِه
قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي رِوَايَة، وَأحمد فِي
رِوَايَة.
فَائِدَة إعلم أَن حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (كنت رجلا مذَّاء) ، وَهُوَ الْمَذْكُور قبل هَذَا
الحَدِيث وَفِي مَوضِع آخر من (صَحِيح البُخَارِيّ) :
(فَكنت أستحى أَن اسْأَل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لمَكَان ابْنَته. فَقَالَ: ليغسل ذكره
وَيتَوَضَّأ) . وَقَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: (أرسلنَا الْمِقْدَاد إِلَى رَسُول
الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَسَأَلَهُ عَن
الْمَذْي الَّذِي يخرج من الْإِنْسَان، كَيفَ يفعل؟
فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: تَوَضَّأ وانضح
فرجك) . وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) من حَدِيث أبي عبد
الرَّحْمَن عَن عَليّ: (كنت رجلا مذَّاء فَسَأَلت
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَقَالَ: إِذا
رَأَيْت المَاء فاغسل ذكرك) . وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث حُصَيْن بن عبد الرَّحْمَن عَن
حُصَيْن بن قبيصَة عَنهُ: (كنت رجلا مذَّاءً فَسَأَلت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ) الحَدِيث.
قَالَ ابو الْقَاسِم: لم يروه عَن حُصَيْن إلاَّ زَائِدَة،
تفرد بِهِ إِسْمَاعِيل بن عَمْرو، وَرَوَاهُ غير
إِسْمَاعِيل عَن أبي حُصَيْن عَن حُصَيْن بن قبيصَة. وَعند
ابْن مَاجَه عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ:
(سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
الْمَذْي) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد عَن عبد الله: حَدثنِي
أَبُو مُحَمَّد شَيبَان حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُسلم
الْقَسْمَلِي حَدثنَا يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عبد
الرَّحْمَن عَن عَليّ: (كنت رجلا مذَّاءً، فَسَأَلت
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن ذَلِك)
الحَدِيث، وَفِيه أَيْضا من حَدِيث هانىء بن هانىء عَن
عَليّ: (فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَ النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَضَحِك فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء)
. وَفِي (سنَن الْكَجِّي) كل: فَحل يمذي، وَلَيْسَ فِيهِ
إلاَّ الطّهُور. وَفِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) من حَدِيث
الدكين عَن حُصَيْن عَنهُ بِلَفْظ: فَذكرت ذَلِك للنَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. أَو ذكر لَهُ. وَفِي
(صَحِيح الْحَافِظ ابي عوَانَة) من حَدِيث عُبَيْدَة
عَنهُ: (يغسل انثييه وَذكره وَيتَوَضَّأ وضوء للصَّلَاة) .
وَفِي هَذَا رد لما ذكره أَبُو دَاوُد عَن أَحْمد مَا
قَالَ: غسل الْأُنْثَيَيْنِ إلاَّ هِشَام بن عُرْوَة فِي
حَدِيثه.
وَأما الاحاديث كلهَا فَلَيْسَ فِيهَا ذَا، وَفِي (صَحِيح
ابْن حبَان) من حَدِيث رَافع بن خديج: (أَن عليا أَمر
عماراً أَن يسْأَل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَقَالَ: يغسل مذاكيره) . وَفِي (صَحِيح ابْن
خُزَيْمَة) : أخبرنَا يُونُس عَن عبد الْأَعْلَى أخبرنَا
ابْن وهب أَن مَالِكًا حَدثهُ عَن سَالم بن أبي النَّضر
عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن الْمِقْدَاد (أَنه سَأَلَ
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن الرجل يدنو
من امْرَأَته فَلَا ينزل؟ قَالَ: إِذا وجد أحدكُم ذَلِك
فلينضح فرجه) . زَاد ابْن حبَان عَن عَطاء: أَخْبرنِي عايش
ابْن أنس قَالَ: تَذَاكر عَليّ وعمار والمقداد الْمَذْي،
فَقَالَ عَليّ: إِنِّي، رجل مذاء، فسألا عَن ذَلِك
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَالَ عايش:
فَسَأَلَهُ أحد الرجلَيْن. عمار أَو الْمِقْدَاد. قَالَ
عَطاء: وَسَماهُ عايش فَنسيته، قَالَ أَبُو عمر: رِوَايَة
يحيى عَن مَالك: (فلينضح فرجه) . وَفِي رِوَايَة ابْن بكير
والقعنبي وَابْن وهب: (فليغسل فرجه وليتوضأ وضوءه
للصَّلَاة) . وَهَذَا هُوَ الصَّحِيح، وَبِه رَوَاهُ عبد
الرَّزَّاق عَن مَالك، كَمَا رَوَاهُ يحيى: (ولينضح فرجه)
. وَلَو صحت رِوَايَة يحيى وَمن تَابعه كَانَت مجملة
تفسرها رِوَايَة غَيره،
(3/56)
لِأَن النَّضْح يكون فِي لِسَان الْعَرَب
مرّة الْغسْل وَمرَّة الرش، وَفِيه نظر لما تقدم من عِنْد
ابْن مَاجَه، وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه)
عَن القعْنبِي، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي كتاب
(أَحَادِيث الْمُوَطَّأ) : أَن أَبَا مُصعب وَأحمد بن
إِسْمَاعِيل الْمدنِي وَأبي وهب وَعبد الله بن يُونُس
وَيحيى بن بكير وَالشَّافِعِيّ وَابْن الْقَاسِم وَعتبَة
بن عبد الله وَأَبا عَليّ الْحَنَفِيّ وَإِسْحَاق بن
عِيسَى وَالقَاسِم ابْن يزِيد رَوَوْهُ عَن مَالك بِلَفْظ:
(فلينضح) ، إلاَّ ابْن وهب فان فِي بعض أَلْفَاظه:
(فليغسل) . فَلَو كَانَ أَبُو عمر عكس قَوْله لَكَانَ
صَوَابا من فعله. وَقَالَ ابْن حبَان: قد يتَوَهَّم بعض
المستمعين لهَذِهِ الْأَخْبَار أَن بَينهَا تضاداً
وتهاتراً، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون
عَليّ أَمر عماراً أَن يسْأَله، فَسَأَلَهُ. ثمَّ أَمر
الْمِقْدَاد أَن يسْأَله فَسَأَلَهُ، ثمَّ سَأَلَ هُوَ
بِنَفسِهِ وَالدَّلِيل على صِحَة مَا ذكرت أَن متن كل خبر
بِخِلَاف متن الآخر فَفِي خبر عبد الرَّحْمَن: (إِذا
رَأَيْت المَاء فاغسل ذكرك، وَإِذا رَأَيْت الْمَنِيّ
فاغتسل) . وَفِي خبر إِيَاس بن خَليفَة عَن عمار: (يغسل
مذاكيره وَيتَوَضَّأ) ، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمَنِيّ،
وَخبر الْمِقْدَاد مُسْتَأْنف ينبئك أَنه لَيْسَ بالسؤالين
اللَّذين ذكرناهما، لِأَن فِيهِ سؤالاً عَن الرجل إِذا دنا
من أَهله فَخرج مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ؟ فَإِن
عِنْدِي ابْنَته، فَذَلِك مَا وَصفنَا. على أَن هَذِه
أسئلة متباينة فِي مَوَاضِع مُخْتَلفَة لعلل مَوْجُودَة.
وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَقد ورد فِي حَدِيث حسن
الْإِسْنَاد أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، هُوَ السَّائِل لَهُ، ثمَّ رَوَاهُ
بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَن قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (رَآنِي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
وَقد شحبت، فَقَالَ: يَا عَليّ قد شحبت. قلت: شحبت من
اغتسال المَاء وَأَنا رجل مذاء، فاذا رَأَيْت مِنْهُ
شَيْئا اغْتَسَلت. قَالَ: لَا تَغْتَسِل يَا عَليّ) . ثمَّ
قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : فَيحْتَمل أَن يكون عَليّ،
رَضِي الله عَنهُ، لما بعث من بعث رَآهُ، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي غُضُون الْبعْثَة شاحباً،
وَنزل على جَوَابه عَن ذَلِك بِمَنْزِلَة السُّؤَال
ابْتِدَاء تجوزاً. وَفِي (سنَن الْبَيْهَقِيّ الْكَبِير)
من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء أَن عليا، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، كَانَ يدْخل فِي إحليله الفيلة من كَثْرَة
الْمَذْي، وَفِي حَدِيث حسان بن عبد الرَّحْمَن الضبعِي
عِنْد ابي مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي معرفَة الصَّحَابَة
بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ، قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: (لَو اغتسلتم من الْمَذْي كَانَ أَشد
عَلَيْكُم من الْحيض) . وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد
الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ: (لَا يَصح أَن رجلا قَالَ: يَا
رَسُول الله! إِنِّي كلما تَوَضَّأت سَالَ، فَقَالَ: إِذا
تَوَضَّأت فَسَالَ من قرنك إِلَى قدمك فَلَا وضوء عَلَيْك)
.
180 - حدّثنا إسْحاقُ هُو ابْنُ مَنْصُورٍ قالَ أخبرنَا
النَّضْرُ قالَ أخبرنَا شُعْبَةُ عَنِ الحَكَمِ عَنْ
ذَكْوَانَ أبي صَالِحٍ عَنْ أبي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ أنَّ
رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسَلَ إلَى رَجُل
مِنَ الاَنْصَارِ فَجَاءَ ورَأْسُهُ يَقْطُرُ فَقال
النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّنَا أعْجَلْنَاك
فقالَ نَعَمْ فَقَالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إذَا اُعْجِلْتَ أوْ قُحِطْتَ فَعَلَيْكَ الوُضُوءُ.
هَذَا الحَدِيث لَا يُنَاسب تَرْجَمَة الْبَاب إلاَّ أَن
بعض الشُّرَّاح قَالَ: أقل حَال هَذَا الحَدِيث حُصُول
الْمَذْي لمن جَامع وَلم يمن، فَصدق عَلَيْهِ وجوب
الْوضُوء من الْخَارِج من أحد السَّبِيلَيْنِ، وَلَكِن
يُعَكر عَلَيْهِ إِجْمَاع أهل الْعلم وأئمة الْفَتْوَى على
وجوب الْغسْل من مُجَاوزَة الختانن الْخِتَان لأمر
الشَّارِع بذلك، وَهُوَ زِيَادَة على مَا فِي هَذَا
الحَدِيث، فَيجب الْأَخْذ بهَا.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق بن مَنْصُور،
هَذِه رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة
وَغَيرهَا: إِسْحَاق، كَذَا بِلَا ذكر: مَنْصُور، وَفِي
رِوَايَة ابي ذَر: حَدثنَا إِسْحَاق بن مَنْصُور بن
بهْرَام، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: وَهُوَ الْمَعْرُوف
بالكوسج الْمروزِي، مر فِي بَاب فضل من علم، وَهُوَ
الْأَصَح، نَص عَلَيْهِ أَبُو نعيم رَحمَه الله فِي
(الْمُسْتَخْرج) الثَّانِي: النَّضر، بِفَتْح النُّون
وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن شُمَيْل، بِضَم الشين
الْمُعْجَمَة: ابْن وَالْحسن الْمَازِني الْبَصْرِيّ، تقدم
فِي آخر بَاب حمل العنزة فِي الِاسْتِنْجَاء. الثَّالِث:
شُعْبَة بن الْحجَّاج. الرَّابِع: الحكم، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف: ابْن عتيبة، تَصْغِير عتبَة
الْبَاب، تقدم فِي بَاب السمر بِالْعلمِ. الْخَامِس: أَبُو
صَالح ذكْوَان الزيات الْمدنِي، تقدم فِي بَاب أُمُور
الْإِيمَان وَغَيره. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ
سعد بن مَالك الْأنْصَارِيّ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والعنعنة
والإخبار. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بن مروزي وبصري
وواسطي وكوفي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره لَيْسَ لَهُ تعدد.
وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن ابي بكر بن أبي
شيبَة، وَمُحَمّد بن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار،
ثَلَاثَتهمْ عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن
مَاجَه عَن ابي بكر بن أبي شيبَة وَابْن بشار بِهِ.
(3/57)
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله:
(أرسل إِلَى رجل من الْأَنْصَار) وَلمُسلم وَغَيره: مر على
رجل، فَيحمل على أَنه مر بِهِ فَأرْسل إِلَيْهِ وسمى مُسلم
هَذَا الرجل فِي رِوَايَته من طَرِيق أُخْرَى عَن ابي سعيد
عتْبَان، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة، وَسُكُون التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا بَاء مُوَحدَة، وَلَفظه: من
رِوَايَة شريك بن أبي نمر عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد
عَن أَبِيه، قَالَ: (خرجت مَعَ النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى قبا، حَتَّى إِذا كُنَّا فِي
بني سَالم وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
بَاب عتْبَان فَخرج يجر إزَاره فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: أعجلنا الرجل) . فَذكر الحَدِيث
بِمَعْنَاهُ، وعتبان الْمَذْكُور هُوَ ابْن مَالك
الْأنْصَارِيّ الخزرجي السالمي البدري، وَإِن لم يذكرهُ
ابْن إِسْحَاق فيهم، وَكَذَا نسبه تَقِيّ بن مخلد فِي
رِوَايَته لهَذَا الحَدِيث من هَذَا الْوَجْه، وَوَقع فِي
رِوَايَة فِي (صَحِيح ابي عوَانَة) أَنه ابْن عتبَة.
وَالْأول أصح، وَرَوَاهُ ابْن إِسْحَاق فِي (الْمَغَازِي)
عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي سعيد عَن أَبِيه عَن
جده، لكنه قَالَ: فَهَتَفَ بِرَجُل من أَصْحَابه يُقَال
لَهُ: صَالح، فَإِن حمل على تعدد الْوَقْعَة وإلاَّ فطريق
مُسلم أصح، وَقد وَقعت الْقِصَّة أَيْضا لرافع بن خديج
وَغَيره. أخرجه أَحْمد وَغَيره، وَلَكِن الْأَقْرَب فِي
تَفْسِير الْمُبْهم الَّذِي فِي البُخَارِيّ أَنه عتْبَان.
وَالله اعْلَم. قَوْله: (فجَاء) أَي: الرجل الْمَدْعُو.
قَوْله: (وَرَأسه يقطر) جملَة إسمية وَقعت حَالا من
الضَّمِير الَّذِي فِي: جَاءَ، وَمعنى: يقطر، ينزل من
المَاء قَطْرَة قَطْرَة من أثر الِاغْتِسَال، وَإسْنَاد
الْقطر إِلَى الرَّأْس مجَاز من قبل: سَالَ الْوَادي.
قَوْله: (لَعَلَّنَا) كلمة: لَعَلَّ، هُنَا لإِفَادَة
التَّحْقِيق، فَمَعْنَاه: قد أعجلناك. وَقَوله: (فَقَالَ:
نعم) مُقَرر لَهُ، وَلَا يُمكن أَن يكون: لَعَلَّ، هُنَا
على بَابه للترجي، والترجي لَا يحْتَاج إِلَى جَوَاب،
وَهنا قد أجَاب الرجل بقوله: نعم. (و: أعجلناك) من
الإعجال. يُقَال: أعجله إعجالاً وعجله تعجيلاً: إِذا
استحثه، وَمَعْنَاهُ: اعجلناك عَن فرَاغ شغلك وحاجتك عَن
الْجِمَاع. قَوْله: (إِذا أعجلت) على بِنَاء الْمَجْهُول،
وَفِي أصل أبي ذَر: (إِذا عجلت) ، بِفَتْح الْعين وَكسر
الْجِيم المخففة، وَفِي رِوَايَة: (إِذا أعجلت) ،
بِالتَّشْدِيدِ على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (أَو
قحطت) ، بِضَم الْقَاف وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة. قَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ: أَصْحَاب الحَدِيث يَقُولُونَ: قحطت،
بِفَتْح الْقَاف. وَقَالَ لنا شَيخنَا عبد الله بن احْمَد
النَّحْوِيّ: الصَّوَاب ضم الْقَاف. وَفِي (صَحِيح مُسلم)
: (أقحطت) ، بِفَتْح الْهمزَة والحاء، وَفِي رِوَايَة ابْن
بشار بِضَم الْهمزَة وَكسر الْحَاء، وَالرِّوَايَتَانِ
صحيحتان، وَمعنى الإقحاط هُنَا عدم الْإِنْزَال فِي
الْجِمَاع، وَهُوَ اسْتِعَارَة من قُحُوط الْمَطَر، وَهُوَ
انحباسه، وقحوط الأَرْض وَهُوَ عدم إخْرَاجهَا النَّبَات.
وَحكى الْفراء: قحط الْمَطَر، بِالْكَسْرِ. وَفِي
(الْمُحكم) : الْفَتْح أَعلَى، وقحط النَّاس بِالْكَسْرِ
لَا غير وأقحطوا، وكرهها بَعضهم. وَلَا يُقَال: قحطوا
وَلَا أقحطوا. وَحكى أَبُو حنيفَة: قحط الْقَوْم وَفِي
(أمالي) الهجري: أقحط النَّاس. وَقَالَ التَّمِيمِي: وَقع
فِي الْكتاب: قحطت، وَالْمَشْهُور أقحطت بِالْألف. يُقَال
للَّذي أعجل فِي الْإِنْزَال فِي الْجِمَاع، فَفَارَقَ
وَلم ينزل المَاء أَو جَامع فَلم يَأْته المَاء: أقحط.
قَالَ الْكرْمَانِي: فعلى هَذَا التَّقْدِير لَا يكون
لقَوْله: أعجلت فَائِدَة، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يُقَال:
إِنَّه من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص. فَإِن قلت: كلمة:
أَو، مَا مَعْنَاهَا هَهُنَا؟ هَل هُوَ شكّ من روى أَو
تنويع الحكم عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟
قلت: الظَّاهِر أَنه من كَلَامه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وَمرَاده بَيَان أَن عدم الْإِنْزَال سَوَاء
كَانَ بِأَمْر خَارج عَن ذَات الشَّخْص أَو كَانَ من ذَاته
لَا فرق بَينهمَا فِي الحكم فِي أَن الْوضُوء عَلَيْهِ
فيهمَا. قَوْله: (فَعَلَيْك الْوضُوء) يجوز فِي الْوضُوء
الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى أَنه مُبْتَدأ وَخَبره
قَوْله: (عَلَيْك) ، وَالنّصب على أَن مفعول: عَلَيْك،
لِأَنَّهُ إسم فعل نَحْو: عَلَيْك زيدا، وَمَعْنَاهُ:
فَالْزَمْ الْوضُوء.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ جَوَاز الْأَخْذ
بالقرائن، لِأَن الصَّحَابِيّ لما أبضأ عَن الْإِجَابَة
مُدَّة الِاغْتِسَال خَالف الْمَعْهُود مِنْهُ، وَهُوَ
سرعَة الْإِجَابَة للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فَلَمَّا رأى عَلَيْهِ أثر الْغسْل دلّ على
أَنه كَانَ مَشْغُولًا بجماع. الثَّانِي: يسْتَحبّ
الدَّوَام على الطَّهَارَة لكَون النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يُنكر عَلَيْهِ تَأْخِير
إجَابَته، وَكَأن ذَلِك كَانَ قبل إِيجَابهَا، إِذْ
الْوَاجِب لَا يُؤَخر للمستحب. الثَّالِث: أَن هَذَا الحكم
مَنْسُوخ، وَلم يق بِعَدَمِ نسخه إلاَّ من روى عَن هِشَام
بن عُرْوَة وَالْأَعْمَش وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَدَاوُد،
وَادّعى القَاضِي عِيَاض أَنه لَا يعلم من قَالَ بِهِ بعد
خلاف الصَّحَابَة إلاَّ الْأَعْمَش وَدَاوُد. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: إعلم أَن الْأمة مجمعة الْآن على وجوب
الْغسْل بِالْجِمَاعِ، وَإِن لم يكن مَعَه إِنْزَال، وعَلى
وُجُوبه بالإنزال، وَكَانَت جمَاعَة من الصَّحَابَة على
أَنه لَا يجب إلاَّ بالإنزال، ثمَّ رَجَعَ بَعضهم وانعقد
الْإِجْمَاع بعد الآخرين. وَفِي (الْمحلى) : وَمِمَّنْ رأى
أَن لَا غسل من الْإِيلَاج فِي الْفرج إِن لم يكن إِنْزَال
عُثْمَان بن عَفَّان وَعلي بن أبي طَالب وَالزُّبَيْر بن
الْعَوام وَطَلْحَة بن عبيد الله وَسعد بن أبي وَقاص وَعبد
الله بن مَسْعُود وَرَافِع بن خديج وَأَبُو سعيد
الْخُدْرِيّ وَأبي بن كَعْب وَأَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ
وَابْن عَبَّاس والنعمان بن
(3/58)
بشير وَزيد بن ثَابت وَجُمْهُور
الْأَنْصَار وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَأَبُو سَلمَة بن عبد
الرَّحْمَن وَهِشَام بن عُرْوَة وَالْأَعْمَش وَبَعض
أَصْحَاب الظَّاهِر. وَقَالَ ابْن حزم: وَرُوِيَ إِيجَاب
الْغسْل عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ وَأَبُو بكر الصّديق
وَعمر بن الْخطاب وَابْن عمر وَعُثْمَان بن عَفَّان وَعلي
بن ابي طَالب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس والمهاجرين.
قلت: وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ
وَأحمد وأصحابهم وَبَعض أَصْحَاب الظَّاهِر وَالنَّخَعِيّ
وَالثَّوْري.
تابَعَهُ وَهْبٌ.
أَي تَابع النَّضر بن شُمَيْل وهب بن جرير ابْن حَازِم،
وَوصل هَذِه الْمُتَابَعَة أَبُو الْعَبَّاس السراج فِي
مُسْنده عَن زِيَاد بن أَيُّوب.
قالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ أبوُ عَبْدِ اللَّهِ وَلَمْ
يَقُلْ غُنْدَرٌ ويحْيىَ عنْ شُعْبَةَ الوُضُوءُ
قَوْله: (قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة) وَفِي بعض النّسخ:
حَدثنَا شُعْبَة، بِدُونِهِ لفظ: قَالَ، وَهُوَ المُرَاد
سَوَاء ذكر أَو لَا، أَي: قَالَ وهب: حَدثنَا شُعْبَة عَن
الحكم عَن ذكْوَان ... إِلَى آخِره، بِمثل مَا ذكر. وَفِي
رِوَايَة وهب عَن شُعْبَة. أخرجهَا الطَّحَاوِيّ. قَالَ:
أخبرنَا يزِيد، قَالَ: حَدثنَا وهب، قَالَ: حَدثنَا
شُعْبَة عَن الْحَاكِم عَن ذكْوَان أبي صَالح عَن أبي سعيد
الْخُدْرِيّ ... الحَدِيث. قَوْله: (وَلم يقل) ، من كَلَام
البُخَارِيّ أَي: لم يقل غنْدر، وَهُوَ مُحَمَّد بن
جَعْفَر وَيحيى بن سعيد الْقطَّان الْوضُوء، يَعْنِي رويا
هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة بِهَذَا الْإِسْنَاد والمتن،
لَكِن لم يَقُولَا فِيهِ لفظ: الْوضُوء، بل قَالَا:
فَعَلَيْك، فَقَط بِحَذْف الْمُبْتَدَأ وَجَاز ذَلِك
لقِيَام الْقَرِينَة عَلَيْهِ، والمقدر عَن الْقَرِينَة
كالملفوظ. كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. وَقَالَ بَعضهم:
لَكِن لم يَقُولَا فِيهِ: عَلَيْك الْوضُوء، وَأما يحيى
فَهُوَ كَمَا قَالَه، قد أخرجه أَحْمد فِي (مُسْنده) عَنهُ
وَلَفظه: فَلَيْسَ عَلَيْك غسل. وَأما غنْدر فقد أخرجه
أَحْمد أَيْضا فِي مُسْنده عَنهُ لكنه ذكر الْوضُوء
وَلَفظه: (فَلَا غسل عَلَيْك، عَلَيْك الْوضُوء) .
وَهَكَذَا أخرجه مُسلم وَابْن مَاجَه والإسماعيلي وَأَبُو
نعيم من طرق عَنهُ، وَكَذَا ذكر أَكثر أَصْحَاب شُعْبَة
كَأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ وَغَيره عَنهُ، وَكَأن بعض
مَشَايِخ البُخَارِيّ حَدثهُ بِهِ عَن يحيى وغندر مَعًا،
فساقه لَهُ على لفظ يحيى. وَالله اعْلَم. قلت: أما
الْكَلَام الْكرْمَانِي فَلَا وَجه لَهُ، لِأَن معنى
قَوْله: عَلَيْك، على مَا قَرَّرَهُ يحْتَمل أَن يكون:
عَلَيْك الْغسْل، وَيحْتَمل أَن يكون: عَلَيْك الْوضُوء،
وَالِاحْتِمَال الأول غير صَحِيح لِأَن فِي رِوَايَة يحيى
فِي مُسْند أَحْمد التَّصْرِيح بقوله: فَلَيْسَ عَلَيْك
غسل، وَالِاحْتِمَال الثَّانِي هُوَ الصَّحِيح، لِأَن فِي
رِوَايَة غنْدر: عَلَيْك الْوضُوء، فَحِينَئِذٍ قَوْله: لم
يقل غندرو يحيى عَن شُعْبَة الْوضُوء، مَعْنَاهُ: لم
يذكرَا لفظ: عَلَيْك الْوضُوء، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت فِي
رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى لَيْسَ فِيهَا: عَلَيْك
الْوضُوء، وَإِنَّمَا لَفظه: فَلَيْسَ عَلَيْك غسل. فان
قلت: كَيفَ قَالَ البُخَارِيّ: لم يَقُولَا عَن شُعْبَة
الْوضُوء، فَهَذَا فِي رِوَايَة غنْدر ذكر: عَلَيْك
الْوضُوء؟ قلت: كَأَنَّهُ سمع من بعض مشايخه أَنه حَدثهُ
عَن يحيى وغندر كليهمَا، فساق شَيْخه لَهُ على لفظ يحيى،
وَلم يسقه على لفظ غنْدر، فَهَذَا تَقْرِير مَا قَالَه
بَعضهم، وَلَكِن فِيهِ نظر على مَا لَا يخفى.
35 - (بابُ الرَّجُلِ يُوَضِّىءُ صَاحبَهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من يوضىء غَيره. قَوْله:
(يوضىء) بِالتَّشْدِيدِ والهمزة فِي آخِره من: وضأ يوضىء،
من بَاب التفعيل.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا
مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْوضُوء.
181 - حدّثنى مُحَّمدُ بنُ سَلاَمٍ قَالَ أخبرنَا يَزِيدُ
بنُ هارُونَ عَنْ يَحْيى عَنْ مُوسَى بنِ عُقْبَةَ عَنْ
كُرَيْبٍ مَوْلى ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ اُسَامَةَ بنِ زَيْدٍ
أنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمَّا أفَاض
مِنْ عَرَفَةَ عَدَلَ إلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حاجَتَهُ
قَالَ اُسَامَةُ بنُ زيْدٍ فَجَعَلْتُ أصُبُّ عَلَيْهِ
ويتَوَضَّا فَقَلْتُ يَا رسولَ الله أتُصلِّي فقالَ
المُصَلَّى أَمامَكَ.
(انْظُر الحَدِيث: 139 وطرفه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: هُوَ مُحَمَّد بن سَلام
كَمَا هُوَ فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَسَلام بتَخْفِيف
اللَّام، وَقيل بِالتَّشْدِيدِ، وَالْأول أصح، وَقد مر فِي
كتاب الْإِيمَان. الثَّانِي: يزييد بن هَارُون، أحد
الْأَعْلَام، مر فِي بَاب
(3/59)
التبرز فِي الْبيُوت. الثَّالِث: يحيى بن
سعيد الْأنْصَارِيّ، مر فِي كتاب الْوَحْي. الرَّابِع:
مُوسَى بن عقبَة الْأَسدي الْمدنِي التَّابِعِيّ، تقدم فِي
إسباغ الْوضُوء. الْخَامِس: كريب مولى ابْن عَبَّاس
التَّابِعِيّ، تقدم أَيْضا فِي إسباغ الْوضُوء. السَّادِس:
أُسَامَة بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث والإخبار
والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة ثَلَاثَة من
التَّابِعين فِي نسق وَاحِد، وهم: يحيى ومُوسَى وكريب،
وَهُوَ من أوساط التَّابِعين. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا
بَين بيكندي وواسطي ومدني، وَوَقع لِابْنِ الْمُنِير فِي
هَذَا الاسناد وهم فَإِنَّهُ قَالَ: فِيهِ ابْن عَبَّاس
عَن أُسَامَة بن زيد، وَلَيْسَ من رِوَايَة ابْن عَبَّاس،
وَإِنَّمَا هُوَ من رِوَايَة كريب مولى ابْن عَبَّاس عَن
أُسَامَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي وَعَن ابْن سَلام، وَأخرجه
فِي الْحَج عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن مُوسَى
بن عقبَة، فِي الْحَج أَيْضا عَن مُسَدّد عَن حَمَّاد بن
زيد عَن يحيى عَن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن
يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن رمح عَن
لَيْث بن سعد عَن يحيى بن سعيد بِهِ، وَعَن إِسْحَاق عَن
يحيى بن آدم عَن زُهَيْر كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم بن
عقبَة، وَعَن إِسْحَاق عَن وَكِيع عَن سُفْيَان عَن
مُحَمَّد بن عقبَة كِلَاهُمَا عَن كريب بِهِ. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي بِهِ. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن وَكِيع عَن
سُفْيَان عَن إِبْرَاهِيم بن عقبَة بِهِ، وَعَن أَحْمد بن
سُلَيْمَان عَن يزِيد بن هَارُون بِهِ، وَعَن قُتَيْبَة
عَن مَالك بِهِ عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد بن زيد عَن
إِبْرَاهِيم بن عقبَة بِهِ مُخْتَصرا.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لما أَفَاضَ)
أَي: لما رَجَعَ أَو دفع. قَوْله: (من عَرَفَة) أَي: من
وقُوف عَرَفَة، لِأَن عَرَفَة اسْم الزَّمَان، وَالدَّفْع
كَانَ من عَرَفَات لِأَنَّهُ اسْم الْمَكَان، وَقيل: جَاءَ
عَرَفَة أَيْضا اسْما للمكان، فعلى هَذَا لَا يحْتَاج
إِلَى التَّقْدِير. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قَول النَّاس:
نزلنَا عَرَفَة شَبيه بمولَّد وَلَيْسَ بعربي مَحْض.
قَوْله: (عدل إِلَى الشّعب) أَي: توجه إِلَيْهِ، والشعب،
بِكَسْر الشين: الطَّرِيق فِي الْجَبَل. قَوْله: (أصب)
بِضَم الصَّاد، ومفعوله مَحْذُوف، وَالْجُمْلَة خبر: جعلت،
لِأَنَّهُ من أَفعَال المقاربة. قَوْله: (يتَوَضَّأ) جملَة
موضعهَا النصب على الْحَال، وَجَاز وُقُوع الْفِعْل
الْمُضَارع الْمُثبت حَالا مَعَ الْوَاو. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ: قَوْله تَعَالَى: {وَيجْعَل الله فِيهِ
خيرا كثيرا} (النِّسَاء: 19) حَال، وَكَذَا {ونطمع أَن
يدخلنا رَبنَا مَعَ الْقَوْم الصَّالِحين} (الْمَائِدَة:
84) ، وَيجوز أَن يقدر مُبْتَدأ: (وَيتَوَضَّأ) خَبره،
وَالتَّقْدِير: وَهُوَ يتَوَضَّأ، فَحِينَئِذٍ تكون جملَة
إسمية أَو تكون الْوَاو للْعَطْف: قَوْله: (قَالَ) ، وَفِي
رِوَايَة: (فَقَالَ) ، بفاء الْعَطف اي: قَالَ النَّبِي،
صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم. قَوْله:
(الْمصلى) أَي: مَكَان الصَّلَاة. (أمامك) بِفَتْح الْمِيم
الثَّانِيَة لِأَنَّهُ ظرف، أَي: قدامك.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: مَا قَالَه
النَّوَوِيّ: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي
الْوضُوء، وَهِي على ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا أَن
يَسْتَعِين فِي إِحْضَار المَاء فَلَا كَرَاهِيَة فِيهِ.
الثَّانِي: أَن يَسْتَعِين فِي غسل الْأَعْضَاء ويباشر
الْأَجْنَبِيّ بِنَفسِهِ غسل الْأَعْضَاء فَهَذَا مَكْرُوه
إلاَّ لحَاجَة. الثَّالِث: أَن يصب عَلَيْهِ، فَهَذَا
مَكْرُوه فِي أحد الْوَجْهَيْنِ، وَالْأولَى تَركه. قلت:
فِيهِ حزازة لِأَن مَا فعل رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يُقَال فِيهِ: الأولى تَركه،
لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَا يتحَرَّى
إلاَّ مَا فعله أولى ثمَّ إِذا قيل: الأولى تَركه، كَيفَ
يُنَازع فِي كَرَاهَته وَلَيْسَ حَقِيقَة الْمَكْرُوه
إلاَّ ذَلِك؟ كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: هَذَا
حَقِيقَة الْمَكْرُوه كَرَاهَة التَّنْزِيه لَا
الْمَكْرُوه كَرَاهَة التَّحْرِيم. وَقَالَ ابْن بطال:
وَاسْتدلَّ البُخَارِيّ من صب المَاء عَلَيْهِ أَنه يجوز
للرجل أَن يوضئه غَيره لِأَنَّهُ لما لزم المتوضىء اغتراف
المَاء من الْإِنَاء بأعضائه، جَازَ لَهُ أَن يَكْفِيهِ
ذَلِك غَيره بِدَلِيل صب أُسَامَة. والاغتراف بعض أَعمال
الْوضُوء، فَكَذَلِك يجوز سَائِر أَعماله، وَهَذَا من بَاب
القربات الَّتِي يجوز أَن يعملها الرجل عَن غَيره،
بِخِلَاف الصَّلَاة. وَلما أَجمعُوا أَنه جَائِز للْمَرِيض
أَن يوضئه غَيره، وييممه إِذا لم يسْتَطع، وَلَا يجوز أَن
يُصَلِّي عَنهُ إِذا لم يسْتَطع، ذدل أَن حكم الْوضُوء
بِخِلَاف حكم الصَّلَاة. قَالَ: وَهَذَا الْبَاب رد لما
رُوِيَ عَن جمَاعَة أَنهم قَالُوا: نكره أَن يشركنا فِي
الْوضُوء أحد. فَإِن قلت: البُخَارِيّ لم يبين فِي هَذَا
الْمَسْأَلَة الْجَوَاز وَلَا عَدمه. قلت: إِذا عقد
الْبَاب أَفلا يعلم مِنْهُ جَوَازه، وَإِن لم يُصَرح بِهِ؟
وَقَالَ ابْن الْمُنِير: قَاس البُخَارِيّ توضئة الرجل
غَيره على صبه عَلَيْهِ لاجتماعهما فِي الْإِعَانَة قلت:
هَذَا قِيَاس بالفارق، وَالْفرق ظَاهر، وَرُوِيَ عَن عمر
وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنَّهُمَا نهيا
أَن يستقى لَهما المَاء لوضوئهما، وَقَالا: نكره أَن
يشركنا فِي
(3/60)
الْوضُوء أحد، ورويا ذَلِك عَن النَّبِي،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قلت: الحَدِيث هُوَ
قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (أَنا لَا أستعين
فِي وضوئي بِأحد) قَالَه لعمر، رَضِي الله عَنهُ، وَقد
بَادر ليصب المَاء على يَدَيْهِ. قَالَ النَّوَوِيّ فِي
(شرح الْمُهَذّب) : هَذَا حَدِيث بَاطِل لَا أصل لَهُ،
وَذكره الْمَاوَرْدِيّ فِي (الْحَاوِي) بسياق آخر،
فَقَالَ: رُوِيَ أَن أَبَا بكر الصّديق، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، هم بصب المَاء على يَد رَسُول الله،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، (فَقَالَ: أَنا لَا أحب
أَن يشاركني فِي وضوئي أحد) ، وَهَذَا الحَدِيث لَا أصل
لَهُ، وَالَّذِي وَقع على زعم الرَّاوِي كَانَ لعمر، رَضِي
الله عَنهُ، دون أبي بكر، وَرُوِيَ عَن ابْن عمر أَنه
قَالَ: مَا أُبَالِي أعانني رجل على طهوري اَوْ على ركوعي
وسجودي، وَثَبت عَن ابْن عمر خلاف مَا ذكر عَنهُ، فروى
شُعْبَة عَن أبي بشر عَن مُجَاهِد أَنه كَانَ يسْكب على
ابْن عمر المَاء فَيغسل رجلَيْهِ، وهذ أصح عَن ابْن عمر،
إِذا رَاوِي الْمَنْع رجل اسْمه أَيفع وَهُوَ مَجْهُول،
والْحَدِيث عَن عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، لَا يَصح لِأَن
رَاوِيه النَّضر بن مَنْصُور عَن ابي الْجنُوب عَنهُ، وهما
غير حجَّة فِي الدّين وَلَا يعْتد بنقلهما. وَقَالَ
الْبَزَّار فِي كتاب (السّنَن) : لَا نعلمهُ يرْوى عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ من هَذَا
الْوَجْه، يَعْنِي من حَدِيث النَّضر عَن أبي الْجنُوب
عقبَة بن عَلْقَمَة. وَقَالَ عُثْمَان بن سعيد فِيمَا ذكره
ابْن عدي: قلت ليحيى: مَا حَال هَذَا السَّنَد؟ فَقَالَ:
هَؤُلَاءِ حمالَة الْحَطب وَتَمام الحَدِيث أخرجه،
الْبَزَّار فِي كتاب الطَّهَارَة، وَأَبُو يعلى فِي
مُسْنده من طَرِيق النَّضر بن مَنْصُور عَن أبي الْجنُوب،
قَالَ: رَأَيْت عليا، رَضِي الله عَنهُ يَسْتَقِي المَاء
لطهوره، فبادرت استقى لَهُ فَقَالَ: مَه يَا أَبَا
الْجنُوب {فَإِنِّي رايت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَسْتَقِي المَاء لوضوئه، فبادرت استقى لَهُ
فَقَالَ: مَه يَا أَبَا الْحسن} فَإِنِّي رَأَيْت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَقِي المَاء لوضوئه
فبادرت أستقي لَهُ فَقَالَ: مَه يَا عمر فَإِنِّي لَا
أُرِيد أَن يُعِيننِي على وضوئي أحد) . وَقَالَ
الطَّبَرِيّ: صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس أَنه صب على يَدي
عمر، رَضِي الله عَنهُ، الْوضُوء بطرِيق مَكَّة، شرفها
الله تَعَالَى، حِين سَأَلَهُ عَن الْمَرْأَتَيْنِ
اللَّتَيْنِ تظاهرتا. وَقيل: صب ابْن عَبَّاس على يَدي عمر
أقرب للمعونة من استقاء المَاء، ومحال أَن يمْنَع عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، استقاء المَاء وبييح صب المَاء
عَلَيْهِ للْوُضُوء مَعَ سَمَاعه من النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْكَرَاهَة. قلت: لقَائِل أَن يَقُول: إِن
أُسَامَة تبرع بالصب وَكَذَا غَيره أَمر مِنْهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَهُم. فان قلت: هَل يجوز أَن يَسْتَدْعِي
الْإِنْسَان الصب من غَيره بِأَمْر؟ قلت: نعم لما رُوِيَ
التِّرْمِذِيّ محسناً من حَدِيث ابْن عقيل عَن الرّبيع،
قَالَت: (أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بميضأة
فَقَالَ: اسكبي: فَسَكَبت، فَذكرت وضوءه، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام) رَوَاهُ الْحَاكِم فِي
(الْمُسْتَدْرك) قَالَ: وَلم يحْتَج البُخَارِيّ بِابْن
عقيل وَهُوَ مُسْتَقِيم الحَدِيث مُتَقَدم فِي الشّرف.
وروى ابْن مَاجَه بِسَنَد صَحِيح على شَرط ابْن حبَان من
حَدِيث صَفْوَان بن عَسَّال، قَالَ: (صببت على النَّبِي،
صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، المَاء فِي
السّفر والحضر فِي الْوضُوء) ، وَعِنْده أَيْضا بِسَنَد
مُعَلل عَن أم عَيَّاش، وَكَانَت أمه لرقية بنت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: (كنت أوضىء رَسُول
الله، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أَنا
قَائِمَة وَهُوَ قَاعد) . وَمِمَّنْ كَانَ يَسْتَعِين على
وضوئِهِ بِغَيْرِهِ من السّلف عُثْمَان، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَالَ الْحسن: رَأَيْته يصب عَلَيْهِ من
إبريق. وَفعله عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى،، وَالضَّحَّاك
ابْن مُزَاحم، وَقَالَ أَبُو الضُّحَى: وَلَا بَأْس
للْمَرِيض أَن يوضئه الْحَائِض، وَبَقِيَّة الْأَحْكَام
ذَكرنَاهَا فِي بَاب: إسباغ الْوضُوء.
182 - حدّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قالَ حدّثنا عَبْدُ
الوَهَّابِ قالَ سَمِعْتُ يَحْيَى بنَ سَعِيدٍ قالَ
أخْبرَنِي سَعْدُ بنُ إبْراهِيمَ أنَّ نَافعَ بنَ جُبَيْرِ
بنِ مُطْعِمٍ أخْبَرَهُ أنَّه سَمِعَ عُرْوَةَ بنَ
المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ يُحَدِّثُ عَن المُغيرَةِ بنِ
شُعْبَةَ أنَّهُ كانَ مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ وأنَّهُ ذَهَبَ لِحَاجَةٍ لَهُ
وأنَّ مُغِيرَةَ جَعلَ يَصُبُّ الماءَ عَلَيْهِ وَهْوَ
يتَوَضَّاُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ويَدَيْهِ وَمَسَحَ
بِرَأْسهِ وَمَسَحَ عَلَى الخفَّيْنِ..
ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث هُنَا لأجل الِاسْتِدْلَال
على الْإِعَانَة فِي الْوضُوء.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة. الأول: عَمْرو بن عَليّ
الفلاس، أحد الْحفاظ الْأَعْلَام الْبَصرِيين. الثَّانِي:
عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ الْبَصْرِيّ.
الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ التَّابِعِيّ.
الرَّابِع: سعد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف
الْقرشِي التَّابِعِيّ، قَاضِي الْمَدِينَة. الْخَامِس:
نَافِع
(3/61)
بن جُبَير بن مطعم الْقرشِي النَّوْفَلِي
الْمدنِي التَّابِعِيّ. السَّادِس: عُرْوَة بن الْمُغيرَة
الثَّقَفِيّ الْكُوفِي. السَّابِع: الْمُغيرَة، بِضَم
الْمِيم، تقدم فِي آخر كتاب الْإِيمَان، وَهُوَ بِاللَّامِ
مثل: الْحَارِث، فِي أَنه علم يدْخلهُ لَام التَّعْرِيف
على سَبِيل الْجَوَاز، لَا مثل: النَّجْم للثريا، فَإِن
التَّعْرِيف بِاللَّامِ لَازم فِيهِ. فَإِن قلت: لماذا
يدْخلُونَ اللَّام فِي مثل الْمُغيرَة وَمَا فَائِدَته؟
قلت: للمح الوصفية.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِالْجمعِ
والإفراد والإخبار كَذَلِك وَالسَّمَاع والعنعنة، وراعى
البُخَارِيّ أَلْفَاظ الشُّيُوخ بِعَينهَا حَيْثُ فرق بَين
التحديث والإخبار وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا
بَين بَصرِي وكوفي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ أَرْبَعَة
من التَّابِعين يرْوى بَعضهم عَن بعض، وَهُوَ من أحسن
اللطائف: اثْنَان مِنْهُم تابعيان صغيران وهما: يحيى
وَسعد، وَاثْنَانِ تابعيان وسطان وهما: نَافِع بن جُبَير
وَعُرْوَة بن الْمُغيرَة، وهم من نسق وَاحِد. وَفِيه
رِوَايَة الأقران فِي موضِعين الأول فِي الصغيرين
وَالثَّانِي فِي الوسطين.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن عَمْرو بن خَالِد عَن اللَّيْث
عَن يحيى بن سعيد، وَفِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن بكير عَن
اللَّيْث، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا، وَفِي اللبَاس عَن
أبي نعيم عَن زَكَرِيَّا بن ابي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ
عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة
وَمُحَمّد بن رمح، كِلَاهُمَا عَن اللَّيْث عَن يحيى بن
سعيد بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب
الثَّقَفِيّ بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن
أَبِيه عَن زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن الشّعبِيّ
عَنهُ بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الطَّهَارَة عَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب عَن يُونُس
عَن الزُّهْرِيّ نَحوه، وَلم يذكر قصَّة الصَّلَاة خلف عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَن
مُسَدّد عَن عِيسَى بن يُونُس عَن أَبِيه عَن الشّعبِيّ
بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ مِنْهُ عَن سُلَيْمَان بن
دَاوُد والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن
مَالك وَيُونُس وَعَمْرو بن الْحَارِث، ثَلَاثَتهمْ عَن
الزُّهْرِيّ بِهِ، إلاَّ أَن مَالِكًا لم يذكر عُرْوَة بن
الْمُغيرَة، وَعَن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم عَن غنْدر عَن
بشر بن الْفضل عَن ابْن عون عَن الشّعبِيّ بِهِ، وَهُوَ
أتم، وَعَن قُتَيْبَة بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه ابْن مَاجَه
عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (أَنه كَانَ) أَي:
أَن الْمُغيرَة كَانَ مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأدّى عُرْوَة كَلَام أَبِيه
بِعِبَارَة نَفسه، وإلاَّ فَمُقْتَضى الْحَال أَن يَقُول:
قَالَ إِنِّي كنت مَعَ رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام. وَكَذَا قَوْله: (وَأَن الْمُغيرَة) جعل
وَالضَّمِير فِي و: أَنه، وَفِي: لَهُ، للرسول، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (جعل) أَي: طفق من أَفعَال
المقاربة. قَوْله: (هُوَ يتَوَضَّأ) جملَة إسمية وَقعت
حَالا. قَوْله: (فَغسل) ، الْفَاء: فِيهِ هِيَ الْفَاء
الَّتِي تدخل بَين الْمُجْمل والمفصل، لِأَن الْمفصل
كَأَنَّهُ يعقب الْمُجْمل، كَمَا ذكره الزَّمَخْشَرِيّ فِي
قَوْله تَعَالَى: {فَإِن فاؤا فَإِن الله غَفُور رَحِيم
وَإِن عزموا الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم} (الْبَقَرَة:
226، 227) لتفصيل قَوْله تَعَالَى: {اللَّذين يؤلون من
نِسَائِهِم} (الْبَقَرَة: 226) فَإِن قلت: لِمَ قَالَ:
فَغسل، مَاضِيا وَلم يقل بِلَفْظ الْمُضَارع ليناسب لفظ:
يتَوَضَّأ؟ قلت: الْمَاضِي هُوَ الأَصْل، وَعدل فِي:
يتَوَضَّأ، إِلَى الْمُضَارع حِكَايَة عَن الْحَال
الْمَاضِيَة. قَوْله: (وَمسح بِرَأْسِهِ وَمسح على
الْخُفَّيْنِ) إِنَّمَا ذكر فِي الأول حرف الإلصاق
لِأَنَّهُ الأَصْل، وَفِي الثَّانِي كلمة: على، نظرا إِلَى
الاستعلاء، كَمَا يُقَال: مسح إِلَى الكعب، نظرا إِلَى
الِانْتِهَاء، وبحسب الْمَقَاصِد تخْتَلف صلات
الْأَفْعَال. فَإِن قلت: لم كرر لفظ: مسح، وَلم يُكَرر
لفظ: غسل؟ قلت: لِأَنَّهُ يُرِيد بِذكر الْمسْح على
الْخُفَّيْنِ بَيَان تأسيس قَاعِدَة شَرْعِيَّة، فَصرحَ
اسْتِقْلَالا بِالْمَسْحِ عَلَيْهِمَا، بِخِلَاف قَضِيَّة
الْغسْل فَإِنَّهَا مقررة بِنَصّ الْقُرْآن.
بَيَان ابستنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز
الِاسْتِعَانَة بِغَيْرِهِ فِي الْوضُوء، لَكِن من يَدعِي
أَن الْكَرَاهَة مُخْتَصَّة بِغَيْر الْمَشَقَّة والاحتياج
لَا يتم لَهُ الِاسْتِدْلَال بِهَذَا الحَدِيث لِأَنَّهُ
كَانَ فِي السّفر. الثَّانِي: فِيهِ حكم مسح الرَّأْس.
الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز الْمسْح على الْخُفَّيْنِ،
وَبَقِيَّة الْكَلَام بَعْضهَا مضى وَبَعضهَا يَأْتِي فِي
بَاب: الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. الرَّابِع: فِيهِ من
الْأَدَب خدمَة الصَّغِير للكبير، وَلَو كَانَ لَا يَأْمر
بذلك.
36 - (بابُ قِرَاءَةِ القُرْآنِ بَعْدَ الحَدَثِ
وَغَيْرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قِرَاءَة الْقُرْآن بعد
الْحَدث. قَالَ بَعضهم: أَي الْحَدث الْأَصْغَر. قلت:
الْحَدث أَعم من الْأَصْغَر والأكبر، وَقِرَاءَة الْقُرْآن
بعد الْأَصْغَر تجوز دون الْأَكْبَر، وَكَأن هَذَا
الْقَائِل إِنَّمَا خصص الْحَدث بِالْأَصْغَرِ نظرا إِلَى
أَن البُخَارِيّ تعرض هُنَا إِلَى حكم قِرَاءَة الْقُرْآن
بعد الْحَدث الْأَصْغَر دون الْأَكْبَر، وَلَكِن جرت
عَادَته أَن يبوب الْبَاب بترجمة، ثمَّ يذكر
(3/62)
فِيهِ جُزْءا مِمَّا تشْتَمل عَلَيْهِ
تِلْكَ التَّرْجَمَة، وَهَهُنَا كَذَلِك. قَوْله:
(وَغَيره) قَالَ بَعضهم: أَي من مظان الْحَدث. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: أَي غير الْقُرْآن من السَّلَام وَسَائِر
الْأَذْكَار. قلت: أما قَول هَذَا الْقَائِل: من مظان
الْحَدث، فَلَيْسَ بِشَيْء لِأَن عود الضَّمِير لَا يَصح
إلاَّ إِلَى شَيْء مَذْكُور لفظا وتقديراً بِدلَالَة
الْقَرِينَة اللفظية، أَو الحالية، وَلم يبين أَيْضا مظان
الْحَدث، ومظنة الْحَدث أَيْضا على نَوْعَيْنِ: أَحدهمَا:
مثل الْحَدث، وَالْآخر: لَيْسَ مثله، فَإِن كَانَ مُرَاده
النَّوْع الأول فَهُوَ دَاخل فِي قَوْله: بعد الْحَدث،
وَإِن كَانَ الثَّانِي. فَهُوَ خَارج عَن الْبَاب، فَإِذا
لَا وَجه لما قَالَه على مَا لَا يخفى. وَأما قَول
الْكرْمَانِي: أَي غير الْقُرْآن، فَهُوَ الْوَجْه،
وَلَكِن قَوْله: من السَّلَام وَسَائِر الْأَذْكَار، لَا
وَجه لَهُ فِي التَّمْثِيل، لِأَن الْمُحدث إِذا جَازَ
لَهُ قِرَاءَة الْقُرْآن، فالسلام وَسَائِر الْأَذْكَار
بِالطَّرِيقِ الأولى أَن يجوز، وَلَو قَالَ غير الْقُرْآن
مثل: كِتَابَة الْقُرْآن، لَكَانَ أوجه وأشمل للقولي
والفعلي، على أَن تَعْلِيق البُخَارِيّ قَول مَنْصُور بن
الْمُعْتَمِر عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ مُشْتَمل على
الْقسمَيْنِ: أَحدهمَا: قِرَاءَة الْقُرْآن بعد الْحَدث،
وَالثَّانِي: كِتَابَة الرسائل فِي حَالَة الْحَدث.
ثمَّ المناسة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة من وَجه أَن فِي
الْبَاب الأول حكم التوضئة، وَفِي هَذَا الْوضُوء، وَهَذَا
الْقدر كافٍ. فَافْهَم.
وقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ إبْراهِيمَ لاَ بَأْسَ
بِالقِرَاءَةِ فِي الحَمَّامِ وَبِكَتْبِ الرِّسالَةِ
عَلَى غَيْرِ وُضُوءِ.
مَنْصُور هُوَ: ابْن الْمُعْتَمِر السّلمِيّ الْكُوفِي،
تقدم فِي بَاب من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا.
وَإِبْرَاهِيم هُوَ ابْن يزِيد النَّخعِيّ الْكُوفِي
القعْنبِي، مر فِي بَاب ظلم دون ظلم، وَهَذَا التَّعْلِيق
وَصله سعيد بن مَنْصُور عَن أبي عوَانَة عَن مَنْصُور
مثله، وروى عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ عَن مَنْصُور،
قَالَ: سَأَلت إِبْرَاهِيم عَن الْقِرَاءَة فِي الْحمام؟
فَقَالَ: لم يُبْنَ للْقِرَاءَة، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا
يُخَالف رِوَايَة أبي عوَانَة. قلت: لَا مُخَالفَة
بَينهمَا، لِأَن قَوْلهم: لم يبن للْقِرَاءَة، إِخْبَار
بِمَا هُوَ الْوَاقِع فِي نَفسه، فَلَا يدل على
الْكَرَاهَة وَلَا على عدمهَا. أَو نقُول: عَن إِبْرَاهِيم
رِوَايَتَانِ، وَفِي رِوَايَة يكره، وَفِي رِوَايَة لَا
يكره. وَقد روى سعيد بن مَنْصُور أَيْضا عَن مُحَمَّد بن
أبان عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان، قَالَ: سَأَلت
إِبْرَاهِيم عَن الْقِرَاءَة فِي الْحمام؟ فَقَالَ: يكره
ذَلِك. فان قلت: لِمَ ذكر البُخَارِيّ الْأَثر الَّذِي
فِيهِ ذكر الْحمام، والتبويب أَعم من هَذَا؟ قلت: لِأَن
الْغَالِب أَن أهل الْحمام أَصْحَاب الْأَحْدَاث.
وَاخْتلفُوا فِي قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحمام. فَعَن
ابي حنيفَة أَنه يكره، وَعَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه لَا
يكره، وَبِه قَالَ مَالك. وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ دَلِيل خَاص، قلت: إِنَّمَا كره أَبُو حنيفَة
قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الْحمام لِأَن حكمه حكم بَيت
الْخَلَاء، لِأَنَّهُ مَوضِع النَّجَاسَة، وَالْمَاء
الْمُسْتَعْمل فِي الْحمام نجس عِنْده، وَعند مُحَمَّد
طَاهِر، فَلذَلِك لم يكرهها. قَوْله: (وبكتب الرسَالَة)
أَي: وبكتابة الرسَالَة، لِأَن الْكتب مصدر دخلت عَلَيْهِ
الْبَاء حرف الْجَرّ، وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله: (لَا
بَأْس بِالْقِرَاءَةِ) ، وَالتَّقْدِير: وَلَا بَأْس بكتب
الرسَالَة على غير وضوء، وَهَذِه فِي رِوَايَة كَرِيمَة،
وَفِي رِوَايَة غَيرهَا: وَيكْتب الرسَالَة، على صِيغَة
الْمَجْهُول من الْمُضَارع، وَالْوَجْه الأول أوجه،
وَهَذَا الْأَثر وَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ
أَيْضا عَن مَنْصُور، قَالَ: سَأَلت إِبْرَاهِيم: أأكتب
الرسَالَة على غير وضوء؟ قَالَ: نعم، وَقَالَ بَعضهم:
وَتبين بِهَذَا أَن قَوْله: (على غير وضوء) يتَعَلَّق
بِالْكِتَابَةِ لَا بالقراء فِي الْحمام. قلت: لَا نسلم
ذَلِك، فَإِن قَوْله: (وبكتب الرسَالَة) على الْوَجْهَيْنِ
يتَعَلَّق على قَوْله: (بِالْقِرَاءَةِ) . وَقَوله: (وعَلى
غير وضوء) يتَعَلَّق بالمعطوف عَلَيْهِ لِأَنَّهُمَا كشيء
وَاحِد. وَقَالَ أَصْحَابنَا: يكره للْجنب أَو الْحَائِض
أَن يكْتب الْكتاب الَّذِي فِي بعض سطوره آيَة من
الْقُرْآن وَإِن كَانَا لَا يقرآن شَيْئا، لِأَنَّهُمَا
منهيان عَن مس الْقُرْآن، وَفِي الْكِتَابَة مس، لِأَنَّهُ
يكْتب بالقلم وَهُوَ فِي يَده، وَهُوَ صُورَة الْمس: وَفِي
(الْمُحِيط) : لَا بَأْس لَهما بِكِتَابَة الْمُصحف إِذا
كَانَت الصَّحِيفَة على الأَرْض عِنْد أبي يُوسُف
لِأَنَّهُ لَا يمس الْقُرْآن بِيَدِهِ وَإِنَّمَا يكْتب
حرفا فحرفاً، وَلَيْسَ الْحَرْف الْوَاحِد بقرآن. وَقَالَ
مُحَمَّد: أجب إِلَى أَن لَا يكْتب لِأَنَّهُ فِي الحكم
مَاس للحروف، وَهِي بكليتها قُرْآن ومشايخ بخاري أخذُوا
بقول مُحَمَّد، كَذَا فِي (الذَّخِيرَة) .
وَقَالَ حمَّادٌ عَنْ إبْراهِيمَ إنْ كانَ عَلَيْهِمْ
إزَارٌ فَسَلِّمْ وإلاَّ فَلاَ تُسَلِّمْ.
حَمَّاد هُوَ ابْن أبي سُلَيْمَان، فَقِيه الْكُوفَة
وَشَيخ أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ. وَإِبْرَاهِيم هُوَ
النَّخعِيّ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الثَّوْريّ فِي
(جَامعه) عَنهُ. قَوْله: (عَلَيْهِم) أَي على: أهل الْحمام
العراة المتطهرين، وَقَالَ بَعضهم: اي على من فِي الْحمام،
وَالْمرَاد الْجِنْس. قلت:
(3/63)
قَوْله: من فِي الْحمام، يتَنَاوَل العراء
فِيهِ والقاعدين بثيابهم فِي مسلخ الْحمام، وَقَول
إِبْرَاهِيم مُخْتَصّ بالعراة حَيْثُ قَالَ: إِن كَانَ
عَلَيْهِم إِزَار فنسلم عَلَيْهِم، و: إلاَّ، أَي: وَإِن
لم يكن عَلَيْهِم إِزَار فَلَا نسلم. فَكيف يُطلق هَذَا
الْقَائِل كَلَامه على من فِي الْحمام على سَبِيل
الْعُمُوم، وَالسَّلَام على القاعدين بثيابهم لَا خلاف
فِيهِ؟ .
183 - حدّثنا إسْماعِيلُ قَالَ حدّثنى مالكٌ عَنْ
مَخْرمَةَ بنِ سُلَيْمان عَنْ كرَيْبٍ مَوْلى ابنِ
عَبَّاسٍ أنَّ عَبْدَ الله بنَ عبَّاسٍ أخْبرَهُ أنَّهُ
بَاتَ لَيْلَةً عِنْدَ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَهْيَ خالَتُهُ فَاضْطَجَعْتُ فِي
عَرْضِ الوِسَادَة واضْطَجَعَ رسولُ اللَّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَأهلُهُ فِي طُولِهَا فَنَامَ رسولُ
اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حنَتَّى إِذا انْتَصَف
اللَّيْلُ أوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ
أوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رسولُ اللَّهِ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَجَلَسَ يَمْسَحُ النَّوْمَ عَنْ
وَجْهِهِ بِيَدِهِ ثُمَّ قَرَأَ العَشْرَ اْلا يَاتِ
الخَوَاتِمَ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَان ثُمَّ قامَ إلَي
شَنٍّ مُعلَّقَةٍ فَتوَضأَ مِنْهَا فَاحْسَنَ وُضُوءَهُ
ثُمَّ قامَ يُصَلِّي قالَ ابنُ عَبَّاسٍ فَقمْتُ
فَصَنَعْتُ مِثْلَ مَا صيَعَ ثُمَّ ذَهَبْتُ فَقُمْتُ إلَى
جَنْبِهِ فَوَضَعَ يَدَهُ اليُمْنى عَلَى رَأسِي وَأخَذَ
بِاُذُنِي اليُمْنَى يَفْتِلُهَا فَصَلَّى رَكْعَتيْنِ
ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ
ثُمَّ رَكْعتَيْنِ ثُمَّ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ أَوْتَرَ
ثُمَّ اضْطَجَعَ حَتَّى أتَاهُ المُؤَذِّنُ فَقامَ
فَصَلَّى رَكْعتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى
الصُّبْحَ..
قيل: مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قِرَاءَة
الْقُرْآن بعد الْحَدث، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَرَأَ الْعشْر الْآيَات من آخر آل عمرَان بعد
قِيَامه من نَومه قبل وضوئِهِ. قلت: كَيفَ يُقَال هَذَا
ونومه لَا ينْقض وضوءه؟ وَقَالَ بَعضهم: الْأَظْهر أَن
مُنَاسبَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة من جِهَة أَن مضاجعة
الْأَهْل فِي الْفراش لَا تَخْلُو من الْمُلَامسَة. قلت:
هَذَا أبعد من ذَاك، لأَنا لَا نسلم وجود ذَلِك على
التَّحْقِيق، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فمراده من الْمُلَامسَة
اللَّمْس بِالْيَدِ أَو الْجِمَاع؟ فَإِن كَانَ الأول:
فَلَا ينْقض الْوضُوء أصلا، سِيمَا فِي حَقه، عَلَيْهِ
السَّلَام؛ وَإِن كَانَ الثَّانِي: فَيحْتَاج إِلَى
الِاغْتِسَال، وَلم يُوجد هَذَا أصلا فِي هَذِه الْقِصَّة،
وَالظَّاهِر أَن البُخَارِيّ وضع هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا
الْبَاب بِنَاء على ظَاهر الحَدِيث، حَيْثُ تَوَضَّأ بعد
قِيَامه من النّوم، وإلاَّ مُنَاسبَة فِي وَضعه هَذَا
الحَدِيث هَهُنَا. فَافْهَم.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي
أويس الأصبحي. الثَّانِي: مَالك بن أنس، خَال إِسْمَاعِيل
الْمَذْكُور. الثَّالِث: مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء. ابْن سُلَيْمَان
الْوَالِي الْمدنِي. الرَّابِع: كريب، مولى ابْن عَبَّاس.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِالْجمعِ
والإفراد والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته
مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الرَّاوِي عَن خَاله، وَهُوَ
رِوَايَة إِسْمَاعِيل عَن خَاله مَالك.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا الْأصيلِيّ فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن يُوسُف،
وَفِي الْوتر عَن القعْنبِي، وَفِي التَّفْسِير عَن
قُتَيْبَة وَعَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الصَّلَاة
أَيْضا عَن أَحْمد عَن ابْن وهب. وَأخرجه مُسلم فِي
الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن هَارُون
ابْن سعيد عَن ابْن وهب بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة
عَن ابْن وهب، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد عَن القعْنبِي وَعَن عبد الْملك بن شُعَيْب.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن قُتَيْبَة
بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى وَعَن مُحَمَّد بن عبد
الله. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن
خَلاد عَن معن بِهِ.
بَيَان لغاته قَوْله: (فِي عرض الوسادة) ، بِفَتْح الْعين
وَسُكُون الرَّاء، وَقَالَ السفاقسي؛ ضم الْعين غير
صَحِيح، ورويناه بِفَتْحِهَا عَن جمَاعَة، وَقَالَ ابو عبد
الْملك: رُوِيَ بِفَتْح الْعين وَهُوَ ضد الطول، وبالضم
الْجَانِب، وَالْفَتْح أَكثر. وَقَالَ الدَّاودِيّ عرضهَا
بِضَم الْعين، وَأنْكرهُ أَبُو الْوَلِيد، وَقَالَ: لَو
كَانَ كَمَا قَالَ لقَالَ: توسد النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله طول الوسادة، وتوسد ابْن عَبَّاس
عرضهَا. فَقَوله: (فاضطجع فِي عرضهَا) يَقْتَضِي أَن يكون
الْعرض محلا لاضطجاعه، وَلَا يَصح ذَلِك إلاَّ أَن يكون
فراشا. وَفِي (الْمطَالع)
(3/64)
: الْفَتْح عِنْد أَكثر مَشَايِخنَا،
وَوَقع عَن جمَاعَة مِنْهُم: الدَّاودِيّ وحاتم الطرابلسي
والأصيليل بِضَم الْعين، وَالْأول أظهر. قَالَ
النَّوَوِيّ: هُوَ الصَّحِيح، والوساد: المتكأ. قَالَ ابْن
سَيّده: وَقد توسد ووسده إِيَّاه. وَفِي (الْمُجْمل) : جمع
الوسادة وسائد، والوسادة مَا يتوسد عَن الموم، وَالْجمع
وسد. وَفِي (الصِّحَاح) : الوساد والوسادة: المخدة،
وَالْجمع: وسائد ووسد، وَزعم ابْن التِّين أَن الوساد
الْفراش الَّذِي ينَام عَلَيْهِ، فَكَأَن اضطجاع ابْن
عَبَّاس فِي عرضهَا عِنْد رؤوسها أَو أرجلهما، كَذَا قَالَ
أَبُو الْوَلِيد: قَالَ النَّوَوِيّ: وَهَذَا بَاطِل.
قَوْله: (الى شن) بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد
النُّون: وَهُوَ وعَاء المَاء إِذا كَانَ من أَدَم فأخلق،
وَجمعه: شنان، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد
النُّون. قَوْله: (بأذني) بِضَم الْهمزَة وَسُكُون الذَّال
الْمُعْجَمَة. قَوْله: (يفتلها) أَي: يدلكها ويعركها.
قَوْله: (ثمَّ خرج) أَي من الججرة إِلَى الْمَسْجِد فصلى
الصُّبْح أَي بِالْجَمَاعَة.
بَيَان الْمعَانِي وَالْإِعْرَاب قَوْله: (فاضطجعت) أَي:
وضعت الْجنب على الأَرْض وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر أَن
يَقُول: اضْطجع بِصُورَة الْمَاضِي الْغَائِب، كَمَا
قَالَ: إِنَّه بَات. أَو قَالَ: بت كَمَا قَالَ: فاضطجعت،
بِصُورَة الْمُتَكَلّم فيهمَا، وَلكنه قصد بذلك التفنن فِي
الْكَلَام وَهُوَ نوع من أَنْوَاع الِالْتِفَات. فَإِن
قلت: من هُوَ القاصد لذَلِك؟ قلت: كريب، لِأَنَّهُ هُوَ
الَّذِي نقل كَلَام ابْن عَبَّاس، وَالظَّاهِر أَن
اخْتِلَاف العبارتين من ابْن عَبَّاس وَمن كريب، لِأَنَّهُ
كريباً أخبر أَولا عَن ابْن عَبَّاس أَنه باتت لَيْلَة
عِنْد مَيْمُونَة، ثمَّ أضمر لفظ: قَالَ، قبل قَوْله:
(فاضطجعت) ، فَيكون الْكَلَام على أسلوب وَاحِد. قَوْله:
(حَتَّى) للغاية. قَوْله: (أَو قبله) ظرف لقَوْله:
(اسْتَيْقَظَ) . إِن قُلْنَا: إِن: اذا ظرفية اي: حَتَّى
اسْتَيْقَظَ وَقت انتصاف اللَّيْل، أَو قبل انتصافه.
وَكلمَة: أَو، للتشكيك أَو يكون مُتَعَلقا بِفعل مُقَدّر.
إِن قُلْنَا: إِن إِذا، شَرْطِيَّة و: اسْتَيْقَظَ،
جزاؤها، وَالتَّقْدِير: حَتَّى إِذا استنصف اللَّيْل، أَو
كَانَ قبل الانتصاف، اسْتَيْقَظَ. قَوْله: (فَجَلَسَ يمسح
النّوم عَن وَجهه بِيَدِهِ) وَفِي بعض النّسخ: (فَجعل يمسح
النّوم) . فَفِي الْوَجْه الأول يكون: يمسح، الَّتِي هِيَ
جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على الْحَال
من الضَّمِير الَّذِي فِي: فَجَلَسَ وَفِي الْوَجْه
الثَّانِي: تكون الْجُمْلَة خبر: فَجعل، لِأَنَّهُ من
أَفعَال المقاربة. وَمسح النّوم من الْعَينَيْنِ من بَاب
إِطْلَاق اسْم الْحَال على الْمحل، لِأَن الْمسْح لَا يَقع
إلاَّ على الْعَينَيْنِ، وَالنَّوْم لَا يمسح. وَقَالَ
بَعضهم: أَو أثر النّوم من بَاب إِطْلَاق إسم السَّبَب على
الْمُسَبّب. قلت: أثر النّوم من النّوم لِأَنَّهُ
بَقِيَّته، فَكيف يكون من هَذَا الْبَاب؟ قَوْله: (ثمَّ
قَرَأَ الْعشْر الْآيَات) بِإِضَافَة الْعشْر إِلَى
الْآيَات، وَيجوز دُخُول لَام التَّعْرِيف على الْعدَد
عِنْد الْإِضَافَة، نَحْو: الثَّلَاثَة الأثواب، وَهُوَ من
بَاب إِضَافَة الصّفة إِلَى الْمَوْصُوف. قَوْله:
(الْخَوَاتِم) بِالنّصب لِأَنَّهُ صفة: الْعشْر، وَهُوَ
جمع خَاتِمَة أَي: أَوَاخِر سُورَة آل عمرَان، وَهُوَ
قَوْله تَعَالَى: {إِن فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض}
(آل عمرَان: 190) الى آخر السُّورَة. فَإِن قلت: ذكر فِي
هَذَا الحَدِيث الَّذِي تقدم فِي بَاب التَّخْفِيف،
هَكَذَا: فَتَوَضَّأ من شن مُعَلّق وضُوءًا خَفِيفا،
بتذكير وصف الشن، وتوصيف الْوضُوء بالخفة، وَهَهُنَا أنث
الْوَصْف حَيْثُ قَالَ: معلقَة، وَقَالَ: فَأحْسن وضوءه،
وَالْمرَاد بِهِ الْإِتْمَام والإتيان بِجَمِيعِ
المندوبات. فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ قلت: الشن: يذكر
وَيُؤَنث، والتذكير بِاعْتِبَار لَفظه أَو بِاعْتِبَار
الْأدم أَو الْجلد، والتأنيث بِاعْتِبَار الْقرْبَة،
وإتمام الْوضُوء لَا يُنَافِي التَّخْفِيف، لِأَنَّهُ يجوز
أَن يكون أَتَى بِجَمِيعِ المندوبات مَعَ التَّخْفِيف، أَو
هَذَا كَانَ فِي وَقت، وَذَاكَ فِي وَقت آخر. قَوْله:
(فصنعت مثل مَا صنع) أَي: قَالَ ابْن عَبَّاس: فصنعت مثل
مَا صنع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: تَوَضَّأت
نَحوا مِمَّا تَوَضَّأ، كَمَا صرح بِهِ فِي بَاب
التَّخْفِيف، وَيحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ أَعم من ذَلِك
فَيشْمَل النّوم حَتَّى انتصاف اللَّيْل وَمسح
الْعَينَيْنِ عَن النّوم وَقِرَاءَة الْعشْر الْآيَات
وَالْقِيَام إِلَى الشن وَالْوُضُوء وإحسانه. قَوْله:
(يفتلها) جملَة وَقعت حَالا، وَأما فتله أُذُنه: إِمَّا
للتّنْبِيه عَن الْغَفْلَة وَإِمَّا لإِظْهَار الْمحبَّة.
كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لم يكن فتله أُذُنه إلاَّ
لأجل أَنه لما وقف وقف بجنبه الْيَسَار فَأخذ أُذُنه
وعركها وأداره إِلَى يَمِينه. قَوْله: (فصلى رَكْعَتَيْنِ)
لفظ: رَكْعَتَيْنِ، سِتّ مَرَّات فَيكون الْمَجْمُوع،
اثْنَي عشر رَكْعَة. قَوْله: (ثمَّ أوتر) قَالَ
الْكرْمَانِي: أَي جَاءَ بِرَكْعَة أُخْرَى فردة. قلت: لم
لَا يجوز أَن يكون معنى قَوْله: أوتر، صلى ثَلَاث
رَكْعَات، لِأَنَّهَا وترا ايضاً، بل الْأَوْجه هَذَا
لِأَنَّهُ ورد النَّهْي عَن البتيراء، وَهُوَ التَّنَفُّل
بِرَكْعَة وَاحِدَة. ثمَّ إعلم أَن قَوْله: (فصلى
رَكْعَتَيْنِ) إِلَى قَوْله: (ثمَّ اوتر) تَقْيِيد
وَتَفْسِير للمطلق الَّذِي ذكر فِي بَاب التَّخْفِيف
حَيْثُ قَالَ هُنَاكَ: فصلى مَا شَاءَ الله.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: قَالَ ابْن بطال فِيهِ
رد على من كره قِرَاءَة الْقُرْآن على غير طَهَارَة لمن لم
يكن جنبا، وَهِي الْحجَّة الكافية فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَرَأَ الْعشْر الْآيَات
بعد قِيَامه من النّوم قبل الْوضُوء، وَقَالَ
الْكرْمَانِي:
(3/65)
أَقُول: لَيْسَ ذَلِك حجَّة كَافِيَة،
لِأَن قلب رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
لَا ينَام وَلَا ينْتَقض وضوؤه بِهِ، وَكَذَا رد عَلَيْهِ
ابْن الْمُنِير، ثمَّ قَالَ: وَأما كَونه تَوَضَّأ عقيب
ذَلِك فَلَعَلَّهُ جدد الْوضُوء أَو أحدث بعد ذَلِك
فَتَوَضَّأ. وَاسْتحْسن بَعضهم كَلَامه بِالنِّسْبَةِ
إِلَى كَلَام ابْن بطال حَيْثُ قَالَ: بعد قِيَامه من
النّوم، ثمَّ قَالَ: لِأَنَّهُ لم يتَعَيَّن كَونه أحدث
فِي النّوم، لَكِن لما عقب ذَلِك بِالْوضُوءِ كَانَ ظَاهرا
فِي كَونه أحدث، وَلَا يلْزم من كَون نَومه لَا ينْقض
وضوءه أَن لَا يَقع مِنْهُ حدث وَهُوَ نَائِم، نعم، إِن
وَقع شعر بِهِ بِخِلَاف غَيره، وَمَا أَدْعُوهُ من
التَّجْدِيد وَغَيره الأَصْل عَدمه. قلت: قَوْله: وَلَا
يلْزم من كَون نَومه ... إِلَى آخِره غير مُسلم، وَكَيف
يمْنَع عدم الْمُلَازمَة، بل يلْزم من كَون نَومه لَا
ينْقض وضوءه أَن لَا يَقع مِنْهُ حدث فِي حَالَة النّوم،
لَان هَذَا من خَصَائِصه، فَيلْزم من قَول هَذَا الْقَائِل
أَن لَا يفرق بَين نوم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ونوم غَيره، وَقَوله: وَمَا أَدْعُوهُ من التَّجْدِيد
وَغَيره الأَصْل عَدمه. قلت: هَذَا عِنْد عدم قيام
الدَّلِيل على ذَلِك، وَهَهُنَا قَامَ الدَّلِيل بِأَن
وضوءه لم يكن لأجل الْحَدث، وَهُوَ قَوْله، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: (تنام عَيْنَايَ وَلَا ينَام
قلبِي) ، وَحِينَئِذٍ يكون تَجْدِيد وضوئِهِ لأجل طلب
زِيَادَة النُّور، حَيْثُ قَالَ: الْوضُوء نور على نور.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الِاضْطِجَاع عِنْد الْمحرم،
وَإِن كَانَ زَوجهَا عِنْدهَا. الثَّالِث: فِيهِ
اسْتِحْبَاب صَلَاة اللَّيْل وَقِرَاءَة الْآيَات
الْمَذْكُورَة بعد الانتباه من النّوم. الرَّابِع: فِيهِ
جَوَاز عَرك أذن الصَّغِير لأجل التَّأْدِيب، أَو لأجل
الْمحبَّة. الْخَامِس: فِيهِ اسْتِحْبَاب مَجِيء
الْمُؤَذّن إِلَى الإِمَام وإعلامه بِإِقَامَة الصَّلَاة.
السَّادِس فِيهِ تَخْفيف الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ قبل
صَلَاة الصُّبْح مَعَ مُرَاعَاة أَدَائِهَا. وَغير ذَلِك
من الْأَحْكَام الَّتِي مضى ذكر بَعْضهَا، وَسَيَأْتِي
بَعْضهَا أَيْضا فِي كتاب الْوتر. إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
37 - (بابُ مَنْ لَمْ يرَ الوُضُوءَ إِلَّا مِنَ الغَشْيِ
المُثْقِلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من لم ير الْوضُوء إلاَّ من
الغشي، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الشين
الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره يَاء آخر الْحُرُوف. يُقَال: غشى
عَلَيْهِ غشية وغشياناً فَهُوَ مغشي عَلَيْهِ، والغشى: مرض
يعرض من طول التَّعَب وَالْوُقُوف، وَهُوَ ضرب من
الْإِغْمَاء، إلاَّ أَنه أخف مِنْهُ. وَقَالَ صَاحب
(الْعين) : غشي عَلَيْهِ: ذهب عقله، وَفِي الْقُرْآن:
{كَالَّذي يغشى عَلَيْهِ من الْمَوْت} (الْأَحْزَاب: 19)
وَقَالَ الله تَعَالَى {فاغشيناهم فهم لَا يبصرون} (ي س:
9) . قَوْله: (المثقل) ، بِضَم الْمِيم: من أثقل يثقل
إثقالاً فَهُوَ مثقل بِكَسْر الْقَاف للْفَاعِل،
وَبِفَتْحِهَا للْمَفْعُول، وَهُوَ ضد الْخَفِيف. فان قلت:
كَيفَ يجوز هَذَا الْحصْر وللوضوء أَسبَاب أخر غير الغشي؟
قلت: أَيْنَمَا يَقع مثل هَذَا الْحصْر فَالْمُرَاد أَنه
رد لاعتقاد السَّامع حَقِيقَة أَو ادِّعَاء، فَكَأَن
هَهُنَا من يعْتَقد وجوب الْوضُوء من الغشي مُطلقًا،
سَوَاء كَانَ مُثقلًا أَو غير مثقل، وأشركهما فِي الحكم،
فالمتكلم حصر على أحد النَّوْعَيْنِ من الغشي فأفرده
بالحكم مزيلاً للشَّرِكَة، وَمثله يُسمى قصر الْإِفْرَاد،
وَمَعْنَاهُ أَنه لَا يتَوَضَّأ إلاَّ من الغشي المثقل،
لَا من الغشي الْغَيْر المثقل، وَلَيْسَ الْمَعْنى أَنه
يتَوَضَّأ تَوَضَّأ من الغشي المثقل لَا من سَبَب من
أَسبَاب الْحَدث، وَجَوَاب آخر: أَنه اسْتثِْنَاء مفرغ،
فَلَا بُد من تَقْدِير الْمُسْتَثْنى مِنْهُ مناسباً لَهُ،
فتقديره من لم ير الْوضُوء من الغشي. إلاَّ من الغشي
المثقل.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب
السَّابِق عدم لُزُوم الْوضُوء عَن الْقِرَاءَة، وَهَهُنَا
عدم لُزُومه عِنْد الغشي الْغَيْر المثقل.
184 - حدّثنا إسْماعِيلُ قالَ حدّثنى مالِكٌ عَنْ هِشَامِ
بنِ عُرْوةَ عَنِ امْرَأتِهِ فَاطِمة عَن جَدَّتِها
أسْماءَ بِنْتِ أبِي بَكْرٍ أنَّها قالتْ أتَيْتُ عائِشَة
زَوْجَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِينَ خَسَفَتِ
الشَّمْسُ فاذَا النَّاسُ قِيَامٌ يُصَلُّونَ وإذَا هِي
قَائِمَةٌ تُصَلِّي فَقُلْتُ مَا لِنَّاسِ فَأَشَارَتْ
بِيَدِهَا نَحْوَ السَّمَاءِ وقالَتْ سُبْحَانَ اللَّهِ
فقُلْتُ آيَةٌ فَأَشَارَتْ أيْ نَعَمْ فَقُمْتُ حَتَّى
تَجَلاَّنِي الغَشْيُ وَجَعَلْتُ أصُبُّ فَوْقَ رَأْسي
مَاء فَلَمَّا انْصَرَفَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حَمِد اللَّهَ وَأثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ مَا
مِنْ شَيْءٍ كُنْتُ لَمْ أرَهُ إلاَّ قَدْ رَأَيْتُهُ فِي
مَقَامِي هَذَا حَتَّى الجَنَّةِ وَالنَّارِ وَلَقَدْ
أُوحِيَ إليَّ أنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي القُبُورِ
(3/66)
مثْلَ أوْ قَرِيباً من فِتْنَةِ
الدَّجَّالِ لاَ أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قالَتْ أسْمَاءُ
يُؤْتَي أحَدُكُمْ فَيُقَال مَا عِلْمُكَ بِهَذَا
الرَّجُلِ فأَما المُؤْمِنُ أوِ المُوقِنُ لاَ أدْرِي أيَّ
ذَلِكَ قالَتْ أسْمَاءُ فَيَقُولُ هُوَ مُحَمَّدٌ رسولُ
اللَّهِ جاءَنَا بالبَيِّنَاتِ والهُدَى فَاجَبْنَا
وآمنَّا واتَّبَعْنَا فَيُقالُ نَمْ صَالِحاً فَقَدْ
عَلِمْنَا إنْ كُنْتَ لَمُؤْمِناً وأمَّا المُنَافِقُ أوِ
المُرْتَابُ لَا أدْرِي أيَّ ذَلِكَ قالتْ أْسمَاءُ
فَيقُولُ لاَ أدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شيْئاً
فقلْتُهُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله:
(حَتَّى تجلاني الغشي) ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ مُثقلًا
لَكَانَ إنتقض الْوضُوء مِنْهَا، لِأَنَّهُ كالإغماء
حِينَئِذٍ، وَالدَّلِيل على أَنه لم يكن مُثقلًا
لِأَنَّهَا صبَّتْ المَاء على رَأسهَا ليزول الغشي،
وَذَلِكَ يدل على أَن حواسها كَانَت حَاضِرَة، وَهُوَ يدل
على عدم انْتِقَاض وضوئها.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن أبي
أويس، وَقد مر عَن قريب. الثَّانِي: مَالك بن أنس.
الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام
القريشي؛ وَالرَّابِع: فَاطِمَة بنت الْمُنْذر بن الزبير
بن الْعَوام. الْخَامِس: جدَّتهَا أَسمَاء، على وزن
حَمْرَاء، بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله عَنْهُم،
وَزَوْجَة الزبير بن الْعَوام، وَفِي بعض النّسخ عَن:
جدته، بتذكير الضَّمِير، وَكِلَاهُمَا صَحِيحَانِ بِلَا
تفَاوت فِي الْمَعْنى، لِأَن أَسمَاء جدة لهشام ولفاطمة
كليهمَا، وَتقدم ذكر الثَّلَاثَة فِي بَاب: من أجَاب
الْفتيا بِإِشَارَة الْيَد. السَّادِس: عَائِشَة أم
الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله عَنْهَا.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد والعنعنة وَالْقَوْل.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
رِوَايَة الأقران هِشَام وَامْرَأَته فَاطِمَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
فِي خَمْسَة مَوَاضِع فِي الطَّهَارَة عَن إِسْمَاعِيل،
وَفِي الْكُسُوف عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي
الِاعْتِصَام عَن القعْنبِي، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك، وَفِي
الْعلم عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب، وَفِي
الْجِهَاد، وَقَالَ مَحْمُود: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة،
ثَلَاثَتهمْ عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ، وَفِي السمر عَن
يحيى ابْن سُلَيْمَان عَن ابْن وهب عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ عَن هِشَام بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه مُسلم فِي
الصَّلَاة عَن أبي كريب عَن عبد الله بن نمير عَن هِشَام
بن عُرْوَة بِهِ، وَعَن أبي بكر وَأبي كريب، كِلَاهُمَا
عَن أبي أُسَامَة نَحوه، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذَا
الحَدِيث مُسْتَوفى فِي كتاب الْعلم فِي بَاب: من أجَاب
الْفتيا بِإِشَارَة الْيَد وَالرَّأْس، وَكَانَت تَرْجَمَة
الْبَاب فِيهِ.
38 - (بابُ مَسْحِ الرَّأْسِ كُلِّهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم مسح كل الرَّأْس فِي
الْوضُوء وَلَفظ: (كُله) ، مَوْجُود عِنْدهم إلاَّ فِي
رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي فَإِنَّهُ سَاقِط.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ أَن الْبَاب الأول مترجم بترك
الْوضُوء من الغشي إلاَّ إِذا كَانَ مُثقلًا، وَهَذَا
الْبَاب يشْتَمل على مسح جَمِيع الرَّأْس، وَهُوَ جُزْء من
الْوضُوء.
لِقَوْلِ اللَّهِ تَعالىَ وامْسَحُوا بِرُوسِكُمْ
احْتج البُخَارِيّ فِي وجوب مسح جَمِيع الرَّأْس بقوله
تَعَالَى {وامسحو برؤوسكم} (الْمَائِدَة: 6) واحتجاجه بِهِ
إِنَّمَا يتم إِذا كَانَت: الْبَاء، زَائِدَة كَمَا ذهب
إِلَيْهِ مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى.
وقالَ ابنُ المُسَيَّبِ المَرْأةُ بِمَنْزِلَةِ الرَّجُلِ
تمْسَحُ عَلَى رَأْسِهَا
أَي: قَالَ ابْن الْمسيب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَوَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حَدثنَا وَكِيع
عَن سُفْيَان عَن عبد الْكَرِيم يعْنى ابْن مَالك عَن سعيد
بن الْمسيب الْمَرْأَة وَالرجل فِي مسح الرَّأْس سَوَاء.
قَوْله: (بِمَنْزِلَة الرجل) أَي: فِي وجوب مسح جَمِيع
الرَّأْس، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي، وَمَعَ هَذَا
يحْتَمل أَن يكون مُرَاده أَنه بِمَنْزِلَة الرجل فِي وجوب
أصل الْمسْح، فَحِينَئِذٍ هَذَا الْأَثر لَا يساعد
البُخَارِيّ فِي تبويبه لمسح كل الرَّأْس، وَنقل عَن
أَحْمد أَنه قَالَ: يَكْفِي الْمَرْأَة مسح مقدم رَأسهَا.
(3/67)
وَسُئِلَ مالِكٌ: أيُجْزِىءُ أنْ يَمْسَحَ
بَعْضَ الرَّأْسِ فاحْتَجَّ بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ
زَيْدٍ
أيجزىء: يجوز فِيهِ الوجان: احدهما: بِفَتْح الْيَاء من
جزى أَي كفى، والهمزة فِيهِ للاستفهام. وَالثَّانِي: بِضَم
الْيَاء من الْإِجْزَاء وَهُوَ الْأَدَاء الْكَافِي
لسُقُوط التَّعَبُّد بِهِ، وَفِي بعض النّسخ: بِبَعْض
رَأسه، وَفِي بَعْضهَا: بعض الرَّأْس، والسائل عَن مَالك
فِي مسح الرَّأْس هُوَ إِسْحَاق بن عِيسَى ابْن الطباع،
بَينه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من طَرِيقه، وَلَفظه:
سَأَلت مَالِكًا عَن الرجل يمسح مقدم رَأسه فِي وضوئِهِ
أيجزيه؟ فَقَالَ: حَدثنِي عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه عَن
عبد الله بن زيد، قَالَ: (مسح رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي وضوئِهِ من ناصيته إِلَى قَفاهُ، ثمَّ
رد يَدَيْهِ إِلَى ناصيته فَمسح رَأسه كُله) . وَقَالَ
بَعضهم: مَوضِع الدّلَالَة من الحَدِيث وَالْآيَة: ان لفظ
الْآيَة مُجمل لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مسح
الْكل، عَن أَن: الْبَاء، زَائِدَة، أَو مسح الْبَعْض على
أَنَّهَا تبعيضية، فَتبين بِفعل النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن المُرَاد الأول. قلت: لَا إِجْمَال فِي
الْآيَة، وَإِنَّمَا الْإِجْمَال فِي الْمِقْدَار دون
الْمحل، لِأَن الرَّأْس وَهُوَ مَعْلُوم، وَفعله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ بَيَانا للإجمال الَّذِي فِي
الْمِقْدَار، وَهَذَا الْقَائِل لَو علم معنى الْإِجْمَال
لما قَالَ لفظ الْآيَة مُجمل. قَوْله: (فاحتج) اي: مَالك
احْتج بِحَدِيث عبد الله بن زيد الَّذِي سَاقه هُنَا على
عدم الْإِجْزَاء فِي مسح بعض الرَّأْس، وَالْمعْنَى: أَنه
لما سُئِلَ عَن مسح الرَّأْس روى هَذَا الحَدِيث وَاحْتج
بِهِ على أَنه لَا يجوز أَن يقْتَصر بِبَعْض الرَّأْس.
185 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا
مالِكٌ عَنْ عَمرِو بن يَحْيىَ المَازِنيِّ عَنْ أبِيهِ
أنَّ رَجُلاً قالَ لَعْبدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ وَهوَ جَدُّ
عَمْرِو بنِ يَحْيىَ أتَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيَنِي كَيْفَ
كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّا
فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ زَيْدٍ نَعَمْ فَدَعًّ بِماءٍ
فَأفْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
مَضْمَضَ وَاسْتَنْثَرَ ثَلاثاً ثُمَّ غَسَلَ وجْهَهُ
ثَلاثاً ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْن مَرَّتَيْنِ
إلَى المِرْفَقَيْنِ ثُمَّ مَسَحَ رأْسَهُ بِيَدَيْهِ
فأقْبَلَ بِهِمَا وَأدْبَرَ بَدَأَ بِمقَدَّم رَأْسِهِ
حَتَّى ذَهَبَ بِهِمَا إلَى قَفَاهُ ثُمَّ رَدَّهُمَا إلَى
المَكانِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ مسح
رَأسه) . إِلَى آخِره.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: عبد الله يُوسُف
التنيسِي. الثَّانِي: مَالك بن انس. الثَّالِث: عَمْرو بن
يحيى بن عمَارَة، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف
الْمِيم، وَقد تقدمُوا. الرَّابِع: أَبوهُ يحيى بن عمَارَة
بن أبي حسن، واسْمه تَمِيم بن عبد بن عَمْرو بن قيس،
وَأَبُو حسن لَهُ صُحْبَة، وَكَذَا لعمارة فِيمَا جزم بِهِ
ابْن عبد الْبر. وَقَالَ أَبُو نعيم: فِيهِ نظر. وَقَالَ
الذَّهَبِيّ: عمَارَة بن أبي حسن الْأنْصَارِيّ
الْمَازِني، لَهُ صُحْبَة، وَقيل: ابوه بَدْرِي وعقبي.
الْخَامِس: الرجل السَّائِل هُوَ عمر بن يحيى، وَإِنَّمَا
قَالَ: جد عَمْرو بن يحيى تجوزاً لِأَنَّهُ عَم أَبِيه،
وَسَماهُ جَداً لكَونه فِي مَنْزِلَته. وَقيل: إِن
المُرَاد بقوله هُوَ عبد الله بن زيد وَهَذَا وهم،
لِأَنَّهُ لَيْسَ جَداً لعَمْرو بن يحيى لَا حَقِيقَة
وَلَا مجَازًا، وَذكر فِي (الْكَمَال) فِي تَرْجَمَة
عَمْرو بن يحيى أَنه ابْن بنت عبد الله بن زيد. قَالُوا:
إِنَّه غلط، وَقد ذكر مُحَمَّد بن سعد أَن أم عَمْرو بن
يحيى هِيَ حميدة بنت مُحَمَّد بن إِيَاس بن بكير، وَقَالَ
غَيره: هِيَ أم النُّعْمَان بنت أبي حَيَّة. وَالله
اعْلَم. وَقد اخْتلف رُوَاة (الْمُوَطَّأ) فِي تعْيين
هَذَا السَّائِل فأبهمه أَكْثَرهم. قَالَ معن بن عِيسَى
فِي رِوَايَته عَن عَمْرو عَن ابيه يحيى: إِنَّه سمع أَبَا
مُحَمَّد بن حسن، وَهُوَ جد عَمْرو بن يحيى. قَالَ لعبد
الله بن زيد، وَكَانَ من الصَّحَابَة فَذكر الحَدِيث،
وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن الشَّيْبَانِيّ: عَن مَالك
حَدثنَا عَمْرو عَن أَبِيه يحيى أَنه سمع جده أَبَا حسن
يسْأَل عبد الله بن زيد، وَكَذَا سَاقه سَحْنُون فِي
(الْمُدَوَّنَة) . وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) : عَن
مَالك عَن عَمْرو عَن أَبِيه. فَإِن قلت: هَل يُمكن أَن
يجمع هَذَا الِاخْتِلَاف؟ قلت: يُمكن أَن يُقَال: اجْتمع
عِنْد عبد الله بن زيد بن ابي حسن الْأنْصَارِيّ وَابْنه
عَمْرو وَابْن ابْنه عمَارَة بن أبي حسن، فَسَأَلُوهُ عَن
صفة وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَتَوَلَّى
السُّؤَال مِنْهُم لَهُ عمَارَة بن أبي حسن، فَحَيْثُ نسب
إِلَيْهِ السُّؤَال كَانَ على الْحَقِيقَة، وَيُؤَيِّدهُ
رِوَايَة سُلَيْمَان بن بِلَال عِنْد البُخَارِيّ فِي بَاب
الْوضُوء من التور، قَالَ: حَدثنِي عَمْرو بن يحيى عَن
أَبِيه قَالَ: كَانَ عمي، يعْنى عَمْرو بن أبي حسن، يكثر
الْوضُوء، فَقَالَ لعبد الله ابْن زيد: أَخْبرنِي، فَذكره.
وَحَيْثُ نسب السُّؤَال إِلَى أبي حسن فعلى الْمجَاز
لكَونه كَانَ الْأَكْبَر وَكَانَ حَاضرا، وَحَيْثُ نسب
السُّؤَال ليحيى بن عمَارَة فعلى الْمجَاز أَيْضا لكَونه
ناقل الحَدِيث، وَقد حضر السُّؤَال، وَكَانُوا كلهم متفقين
على السُّؤَال،
(3/68)
غير أَن السَّائِل مِنْهُم كَانَ عَمْرو بن
أبي حسن، ويوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي
(الْمُسْتَخْرج) من حَدِيث الدَّرَاورْدِي عَن عَمْرو بن
يحيى عَن أَبِيه عَن عَمه عَمْرو بن أبي حسن. قَالَ: كنت
كثير الْوضُوء فَقلت لعبد الله بن زيد ... الحَدِيث
السَّادِس: من الرِّجَال عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع وَالْأَخْبَار، كَذَلِك والعنعنة وَالْقَوْل.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم مذنيون إلاَّ عبد الله بن
يُوسُف وَقد دَخلهَا. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة
الابْن عَن الْأَب.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
فِي الطَّهَارَة فِي خَمْسَة مَوَاضِع عَن عبد الله بن
يُوسُف هُنَا، وَعَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَسليمَان بن
حَرْب، كِلَاهُمَا عَن وهيب، وَعَن خَالِد بن مخلد عَن
سُلَيْمَان بن بِلَال، وَعَن مُسَدّد عَن خَالِد بن عبد
الله وَعَن أَحْمد ابْن يُونُس عَن عبد الْعَزِيز بن أبي
سَلمَة الْمَاجشون، خمستهم عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني
عَن أَبِيه بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا
عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَعَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا،
وَعَن إِسْحَاق بن مُوسَى، وَعَن عبد الرَّحْمَن بن بشر.
وَأخرجه الْأَرْبَعَة أَيْضا فِي الطَّهَارَة: فَأَبُو
دَاوُد عَن مُسَدّد وَعَن القعْنبِي وَعَن الْحسن بن
عَليّ، وَالتِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى
الْأنْصَارِيّ بِهِ مُخْتَصرا. وَالنَّسَائِيّ عَن عقبَة
بن عبد الله بن الْيَعْمرِي وَعَن مُحَمَّد بن مسلمة
والْحَارث بن مِسْكين وَعَن مُحَمَّد بن مَنْصُور؛ وَابْن
مَاجَه عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان وحرملة بن عِيسَى
كِلَاهُمَا عَن الشَّافِعِي عَن مَالك وَعَن أبي بكر بن
أبي شيبَة مُخْتَصرا، وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد مُخْتَصرا.
بَيَان اللُّغَات والمعاني قَوْله: (فأفرغ على يَده) أَي:
فصب المَاء على يَده، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (يَدَيْهِ)
. قَوْله: وَفِي رِوَايَة مُوسَى عَن وهيب: فأكفأ،
بهمزتين. وَفِي رِوَايَة سُلَيْمَان بن حَرْب فِي بَاب مسح
الرَّأْس مرّة عَن وهيب: فكفأ، بِفَتْح الْكَاف وهما
لُغَتَانِ بِمَعْنى. يُقَال: كفأ الْإِنَاء وأكفأه إِذا
أماله. وَقَالَ الْكسَائي: كفأت الْإِنَاء كببته، وأكفأته
أملته، وَالْمرَاد فِي الْمَوْضِعَيْنِ أفراغ المَاء من
الْإِنَاء على الْيَد. قَوْله: (فَغسل يَده مرَّتَيْنِ)
بإفراد الْيَد فِي رِوَايَة مَالك، وتثنية الْيَد فِي
رِوَايَة وهيب وَسليمَان بن بِلَال عِنْد البُخَارِيّ،
وَكَذَا الدراورذي عِنْد ابي نعيم، وَفِي رِوَايَة مَالك:
(فَغسل يَده مرَّتَيْنِ) . بإفراد الْيَد، يحمل على
الْجِنْس، ثمَّ إِنَّه عِنْد مَالك مرَّتَيْنِ، وَعند
هَؤُلَاءِ ثَلَاثًا، وَكَذَا لخَالِد بن عبد الله عِنْد
مُسلم فان قلت: لِمَ لَا يحمل هَذَا على الوقعتين؟ قلت:
الْمخْرج وَاحِد وَالْأَصْل عدم التَّعَدُّد. قَوْله:
(ثمَّ تمضمض واستنثر) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (مضمض
واستنشق) وَمعنى استنثر: استنشق المَاء ثمَّ اسْتِخْرَاج
ذَلِك بِنَفس الْأنف، والنثرة الخيشوم وَمَا ولاه وتشق
واستنشق المَاء فِي أَنفه صبه فِيهِ وَيُقَال نشر وانتشر
واستنشر إِذا حرك النشرة، وَهِي طرف الْأنف. وَقَالَ
بَعضهم: الاستنثار يسْتَلْزم الِاسْتِنْشَاق بِلَا عكس.
قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي وَابْن
قُتَيْبَة: الِاسْتِنْشَاق والاستنثار وَاحِد. قَوْله:
(ثمَّ غسل وَجهه ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث مَرَّات، وَلم
تخْتَلف الرِّوَايَات فِي ذَلِك. قَوْله: (ثمَّ غسل
يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ) كَذَا بتكرار:
مرَّتَيْنِ، وَلم تخْتَلف الرِّوَايَات عَن عَمْرو بن يحيى
فِي غسل الْيَدَيْنِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ، وَفِي
رِوَايَة مُسلم من طَرِيق حبَان بن وَاسع عَن عبد الله بن
زيد: (انه رأى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
تَوَضَّأ وَفِيه يَده الْيُمْنَى ثَلَاثًا ثمَّ الْأُخْرَى
ثَلَاثًا) فَيحمل عل أَنه وضوء آخر لكَون مخرج الْحَدِيثين
غير مُتحد. قَوْله: (إِلَى الْمرْفقين) كَذَا رِوَايَة
الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي:
إِلَى الْمرْفق، بِالْإِفْرَادِ على إِرَادَة الْجِنْس.
قَوْله: (ثمَّ مسح رَأسه) زَاد ابْن الطباع لَفظه: كُله،
وَكَذَا فِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة، وَفِي رِوَايَة
خَالِد بن عبد الله: (مسح بِرَأْسِهِ) ، بِزِيَادَة:
الْبَاء. قَوْله: (ثمَّ غسل رجلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة
وهيب الْآتِيَة إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (أتستطيع) ؟ الْهمزَة فِيهِ
للاستفهام. قَوْله: (أَن تريني) فكلمة أَن، مَصْدَرِيَّة،
وَالْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول:
تَسْتَطِيع، وَالتَّقْدِير: هَل تَسْتَطِيع الإراءة
إيَّايَ كَيفَ كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يتَوَضَّأ؟ قَوْله: (يتَوَضَّأ) جملَة فِي مَحل النصب على
أَنَّهَا خبر: كَانَ، وَيجوز أَن تكون تَامَّة وَيكون
قَوْله: (يتَوَضَّأ) حَالا. قَوْله: (نعم) ، مقول القَوْل،
وَهُوَ يكون جملَة، وَالتَّقْدِير: نعم أَسْتَطِيع أَن
أريك. قَوْله: (فَدَعَا بِمَاء) الْفَاء: للتعقيب،
وَكَذَا: الْفَاء فِي: فافرغ، وَفِي: فَغسل يَدَيْهِ،
وَأما كلمة: ثمَّ، فِي سِتَّة مَوَاضِع فِي الحَدِيث
بِمَعْنى: الْوَاو، وَلَيْسَت على مَعْنَاهَا الْأَصْلِيّ،
وَهُوَ: الْإِمْهَال. كَذَا قَالَ ابْن بطال. قلت: ثمَّ،
(3/69)
فِي هَذِه الْمَوَاضِع للتَّرْتِيب لِأَن:
ثمَّ، تسْتَعْمل لثَلَاثَة معَان: التَّشْرِيك فِي الحكم،
وَالتَّرْتِيب، والمهلة. مَعَ أَن فِي كل وَاحِد خلافًا،
وَالْمرَاد من التَّرْتِيب هُوَ التَّرْتِيب فِي
الْإِخْبَار لَا التَّرْتِيب فِي الحكم مثل مَا يُقَال
بَلغنِي مَا صنعت الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب! أَي:
ثمَّ أخْبرك أَن الَّذِي صَنعته أمس أعجب. قَوْله: (بَدَأَ
بِمقدم رَأسه) إِلَى قَوْله: (مِنْهُ) بَيَان لقَوْله:
(فَأقبل بهما وَأدبر) ، وَلذَلِك لم تدخل الْوَاو
عَلَيْهِ. قَوْله: (بَدَأَ مِنْهُ) إِلَى آخِره من
الحَدِيث، وَلَيْسَ مدرجاً من كَلَام مَالك.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ غسل الْيَد قبل
شُرُوعه فِي الْوضُوء، وَذكر هُنَا مرَّتَيْنِ، وَذكر فِي
حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، ثمَّ إِن هَذَا الْغسْل لَيْسَ
من سنَن الْوضُوء وَلَا من الْفُرُوض، وَذهب دَاوُد وَابْن
جرير الطَّبَرِيّ إِلَى إِيجَاب ذَلِك، وَأَن المَاء ينجس
إِن لم تكن الْيَد مغسولة. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم:
غسلهمَا عبَادَة؛ وَقَالَ مَالك: السّنة أَن يغسل يَدَيْهِ
قبل الشُّرُوع فِي الْوضُوء مرَّتَيْنِ، كَمَا هُوَ فِي
رِوَايَة هَذَا الحَدِيث. قلت: فِيهِ أَقْوَال خَمْسَة:
الأول: إِنَّه سنة، وَهُوَ الْمَشْهُور عندنَا، كَذَا فِي
(الْمُحِيط) و (الْمَبْسُوط) وَيدل عَلَيْهِ أَنه،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يتَوَضَّأ قطّ إلاَّ
غسل يَدَيْهِ. وَفِي (الْمَنَافِع) تَقْدِيم غسلهمَا إِلَى
الرسغين سنة تنوب عَن الْفَرْض، كالفاتحة تنوب عَن
الْوَاجِب وَفرض الْقِرَاءَة. الثَّانِي: إِنَّه مُسْتَحبّ
للشَّاكِّ فِي طَهَارَة يَده، كَذَا رُوِيَ عَن مَالك.
الثَّالِث: إِنَّه وَاجِب على المنتبه من نوم اللَّيْل دون
نوم النَّهَار، قَالَ أَحْمد. الرَّابِع: إِن من شكّ: هَل
أَصَابَت يَده نَجَاسَة أم لَا؟ يجب غسلهمَا فِي مَشْهُور
مَذْهَب مَالك. الْخَامِس: إِنَّه وَاجِب على المنتبه من
النّوم مُطلقًا، وَبِه قَالَ دَاوُد وَأَصْحَابه. وَفِي
الْحَوَاشِي تَقْدِيم غسل الْيَدَيْنِ للمستيقظ يتْرك
بِالْحَدِيثِ، وإلاَّ فسببه شَامِل لَهُ وَلغيره.
الثَّانِي: فِيهِ الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق، وهما
سنتَانِ فِي الْوضُوء، فرضان فِي الْغسْل. وَبِه قَالَ
الثَّوْريّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: سنتَانِ فيهمَا،
وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ
وَالزهْرِيّ وَقَتَادَة وَالْحكم وَرَبِيعَة وَيحيى بن
سعيد الْأنْصَارِيّ وَمَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث،
وَهُوَ رِوَايَة عَن عَطاء وَأحمد، وَعنهُ أَنَّهُمَا
واجبتان فيهمَا، وَهُوَ مَذْهَب ابْن أبي ليلى وَحَمَّاد
وَإِسْحَاق. وَالْمذهب الرَّابِع: أَن الِاسْتِنْشَاق
وَاجِب فِي الْوضُوء وَالْغسْل دون الْمَضْمَضَة، وَبِه
قَالَ أَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد، وَهُوَ رِوَايَة عَن
أَحْمد.
الثَّالِث: فِيهِ أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
مضمض واستنشق ثَلَاثًا بِثَلَاث غرفات، وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي، وَفِي (الرَّوْضَة) . فِي كيفيته وَجْهَان:
أصَحهمَا: يتمضمض من غرفَة ثَلَاثًا، ويستنشق من أُخْرَى
ثَلَاثًا. وَالثَّانِي: بست غرفات. وَاسْتدلَّ أَصْحَابنَا
بِحَدِيث التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ عَن عَليّ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَفِي: (مضمض ثَلَاثًا، واستنشق ثَلَاثًا)
، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. فَإِن قلت: لَمْ يحكِ فِيهِ
ان كل وَاحِدَة من المضامض والاستنشاقات بِمَاء وَاحِدَة
بل حكى انه تمضمض ثَلَاثًا واستنشق ثَلَاثًا قلت مضمونه
ظَاهرا مَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ أَن يَأْخُذ لكل وَاحِد
مِنْهُمَا مَاء جَدِيدا، وَكَذَا روى الْبُوَيْطِيّ عَن
الشَّافِعِي أَنه يَأْخُذ ثَلَاث غرفات للمضمضة، وَثَلَاث
غرفات للاستنشاق.
الرَّابِع: فِيهِ غسل الْوَجْه ثَلَاث مَرَّات، وَلَيْسَ
فِيهِ خلاف.
الْخَامِس: فِيهِ غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ، وَجَاء فِي
رِوَايَة مُسلم: ثَلَاثًا. فَإِن قلت: هَل هَذَا يغسل
يَدَيْهِ هَهُنَا من أول الْأَصَابِع أَو يغسل
ذِرَاعَيْهِ؟ قلت: ذكر فِي الأَصْل غسل ذِرَاعَيْهِ لَا
غير لتقدم غسل الْيَدَيْنِ إِلَى الرسغ مرّة، وَفِي
(الذَّخِيرَة) : الْأَصَح عِنْدِي أَن يُعِيد غسل
الْيَدَيْنِ ظاهرهما وباطنهما، لِأَن الأول كَانَ سنة
افْتِتَاح الْوضُوء، فَلَا يَنُوب عَن فرض الْوضُوء.
السَّادِس: فِيهِ أَن الْمرْفقين هما يدخلَانِ فِي غسل
الْيَدَيْنِ عِنْد الْجُمْهُور، خلافًا لزفَر وَمَالك فِي
رِوَايَة، وَقد روى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث جَابر:
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا تَوَضَّأ
أدَار المَاء على مرفقيه) ، وروى الْبَزَّار
وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث وَائِل بن حجر: (وَغسل
ذِرَاعَيْهِ حَتَّى جَاوز الْمرْفق) ، وروى الطَّحَاوِيّ
وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث ثَعْلَبَة بن عباد الْعَبْدي
عَن أَبِيه مَرْفُوعا: (ثمَّ غسل ذِرَاعَيْهِ حَتَّى يسيل
المَاء على مرفقيه) .
السَّابِع: فِيهِ مسح رَأسه، احْتج بِهِ مَالك وَابْن علية
وَأحمد فِي رِوَايَة عَليّ أَن مسح جَمِيع الرَّأْس فرض؛
وَلَكِن أَصْحَاب مَالك اخْتلفُوا، فَقَالَ أَشهب: يجوز
مسح بعض الرَّأْس، وَقَالَ غَيره: الثُّلُث فَصَاعِدا،
وَعِنْدنَا وَعند الشَّافِعِي: الْفَرْض مسح بعض الرَّأْس.
فَقَالَ أَصْحَابنَا: ذَلِك الْبَعْض هُوَ ربع الرَّأْس،
وَاسْتَدَلُّوا بِحَدِيث الْمُغيرَة بن شُعْبَة لِأَن
الْكتاب مُجمل فِي حق الْمِقْدَار فَقَط، لِأَن: الْبَاء،
فِي (وامسحو برؤوسكم) للإلصاق بِاعْتِبَار أصل الْوَضع،
فَإِذا قرنت بِآلَة الْمسْح يتَعَدَّى الْفِعْل بهَا إِلَى
مَحل الْمسْح فَيتَنَاوَل جَمِيعه، كَمَا تَقول: مسحت
الْحَائِط بيَدي، ومسحت رَأس الْيَتِيم بيَدي، فَيتَنَاوَل
كُله،
(3/70)
وَإِذا قرنت بِمحل الْمسْح يتَعَدَّى
الْفِعْل بهَا إِلَى الْآلَة فَلَا يَقْتَضِي
الِاسْتِيعَاب، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي إلصاق الْآلَة
بِالْمحل، وَذَلِكَ يستوعب الْكل عَادَة بل أَكثر الْآلَة
ينزل منزلَة الْكل فيتأدى الْمسْح بإلصاق ثَلَاثَة
أَصَابِع بِمحل الْمسْح، وَمعنى التَّبْعِيض إِنَّمَا يثبت
بِهَذَا الطَّرِيق لَا بِمَعْنى أَن: الْبَاء،
للتَّبْعِيض، كَمَا قَالَه الْبَعْض. وَقد أنكر بعض أهل
الْعَرَبيَّة كَون: الْبَاء، للتَّبْعِيض، وَقَالَ ابْن
برهَان: من زعم أَن: الْبَاء، تفِيد التَّبْعِيض فقد جَاءَ
أهل اللُّغَة بِمَا لَا يعْرفُونَ، وَقد جعل
الْجِرْجَانِيّ معنى الإلصاق فِي: الْبَاء، أصلا وَإِن
كَانَت تَجِيء لمعانٍ كَثِيرَة. وَقَالَ ابْن هَاشم: أثبت
مَجِيء: الْبَاء، للتَّبْعِيض الْأَصْمَعِي والفارسي
والقتبي وَابْن مَالك. قيل: والكوفيون، وَجعلُوا مِنْهُ:
{عينا يشرب بهَا عباد الله} (الْإِنْسَان: 6) قيل وَمِنْه:
{وامسحوا برؤوسكم} (الْمَائِدَة: 6) فَالظَّاهِر
أَن: الْبَاء، فيهمَا للإلصاق. وَقيل: هِيَ فِي آيَة
الْوضُوء للاستعانة، وَإِن فِي الْكَلَام حذفا وَقَلْبًا،
فَإِن: مسح، يتَعَدَّى إِلَى المزال عَنهُ بِنَفسِهِ،
وَإِلَى المزيل: بِالْبَاء، فَالْأَصْل امسحوا رؤوسكم
بِالْمَاءِ. فان قلت: أَلَيْسَ أَن فِي التَّيَمُّم حكم
الْمسْح ثَبت بقوله: {فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ
مِنْهُ} (النِّسَاء: 43) ، ثمَّ الإستيعاب فِيهِ شَرط؟
قلت: عرف الِاسْتِيعَاب فِيهِ إِمَّا بِإِشَارَة الْكتاب،
وَهُوَ أَن الله تَعَالَى أَقَامَ التَّيَمُّم فِي هذَيْن
العضوين مقَام الْغسْل عِنْد تعذره، والاستيعاب فرض
بِالنَّصِّ، وَكَذَا فِيمَا قَامَ مقَامه، أَو عرف ذَلِك
بِالسنةِ وَهُوَ قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
لعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (يَكْفِيك ضربتان:
ضَرْبَة للْوَجْه وضربه للذراعين) . وَأما على رِوَايَة
الْحسن عَن أبي حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِنَّه
لَا يشْتَرط الِاسْتِيعَاب فَلَا يرد شَيْء. فَإِن قلت:
الْمسْح فرض، والمفروض مِقْدَار الناصية، وَمن حكم
الْفَرْض أَن يكفر جاحده، وجاحد الْمِقْدَار لَا يكفر،
فَكيف يكون فرضا؟ قلت: بل جَاحد، أصل الْمسْح كَافِر
لِأَنَّهُ قَطْعِيّ، وجاحد الْمِقْدَار لَا يكفر لِأَنَّهُ
فِي حق الْمِقْدَار ظَنِّي. فان قلت: أَيهَا الْحَنَفِيّ!
إِنَّك استدللت بِحَدِيث الْمُغيرَة على أَن الْمِقْدَار
فِي الْمسْح هُوَ قدر الناصية، وَتركت بَقِيَّة الحَدِيث
وَهُوَ: الْمسْح على الْعِمَامَة. قلت: لَو عَملنَا بِكُل
الحَدِيث يلْزم بِهِ الزِّيَادَة على النَّص، لِأَن هَذَا
خبر الْوَاحِد، وَالزِّيَادَة بِهِ على الْكتاب نسخ، فَلَا
يجوز. وَأما الْمسْح على الرَّأْس فقد ثَبت بِالْكتاب
فَلَا يلْزم ذَلِك، وَأما مَسحه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، على الْعِمَامَة فأوله الْبَعْض بَان
المُرَاد بِهِ مَا تَحْتَهُ من قبيل إِطْلَاق اسْم الْحَال
على الْمحل، وأوله الْبَعْض بِأَن الرَّاوِي كَانَ بَعيدا
عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَمسح على
رَأسه وَلم يضع الْعِمَامَة من رَأسه، فَظن الرَّاوِي أَنه
مسح على الْعِمَامَة. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: وَأحسن مَا
حمل عَلَيْهِ أَصْحَابنَا حَدِيث الْمسْح على الْعِمَامَة
أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَعَلَّه كَانَ
بِهِ مرض مَنعه كشف رَأسه، فَصَارَت الْعِمَامَة كالجبيرة
الَّتِي يمسح عَلَيْهَا للضَّرُورَة. وَقَالَ بَعضهم:
فَإِن قيل: فَلَعَلَّهُ اقْتصر على مسح الناصية لعذر
لِأَنَّهُ كَانَ فِي سفر، وَهُوَ مَظَنَّة الْعذر،
وَلِهَذَا مسح على الْعِمَامَة بعد مسح الناصية، كَمَا
هُوَ ظَاهر سِيَاق مُسلم من حَدِيث الْمُغيرَة. قُلْنَا:
قد رُوِيَ عَنهُ مسح مقدم الرَّأْس من غير مسح على
الْعِمَامَة. وَهُوَ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي من حَدِيث
عَطاء: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ
فحسر الْعِمَامَة عَن رَأسه وَمسح مقدم رَأسه) ، وَهُوَ
مُرْسل، لكنه اعتضد من وَجه آخر مَوْصُولا، أخرجه أَبُو
دَاوُد من حَدِيث أنس. وَفِي إِسْنَاده أَبُو معقل لَا
يعرف حَاله، فقد اعتضد كل من الْمُرْسل والموصول
بِالْآخرِ، وحصلت الْقُوَّة من الصُّورَة الْمَجْمُوعَة.
قلت: قَول هَذَا الْقَائِل من أعجب الْعَجَائِب لِأَنَّهُ
يَدعِي أَن الْمُرْسل غير حجَّة عِنْد إِمَامه، ثمَّ
يَدعِي أَنه اعتضد بِحَدِيث مَوْصُول ضَعِيف باعترافه
هُوَ، ثمَّ يَقُول: وحصلت الْقُوَّة من الصُّورَة
الْمَجْمُوعَة، فَكيف تحصل الْقُوَّة من شَيْء لَيْسَ
بِحجَّة وَشَيْء ضَعِيف؟ فَإِذا كَانَ الْمُرْسل غير حجَّة
يكون فِي حكم الْعَدَم، وَلَا يبْقى إلاَّ الحَدِيث
الضَّعِيف وَحده، فَكيف تكون الصُّورَة الْمَجْمُوعَة؟ .
الثَّامِن: فِيهِ الْبدَاءَة فِي مسح الرَّأْس بمقدمه،
وَرُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث كَثِيرَة. فَعِنْدَ
النَّسَائِيّ من حَدِيث عبد الله بن زيد: (ثمَّ مسح رَأسه
بيدَيْهِ، فَأقبل بهما وادبر، بَدَأَ بِمقدم رَأسه ثمَّ
ذهب بهما إِلَى قَفاهُ، ثمَّ ردهما حَتَّى رَجَعَ إِلَى
الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ) . وَعند ابْن أبي شيبَة
من حَدِيث الرّبيع: (بَدَأَ بمؤخره ثمَّ مد يَدَيْهِ على
ناصيته) . وَعند الطَّبَرَانِيّ: (بَدَأَ بمؤخر رَأسه ثمَّ
جَرّه إِلَى مؤخره) . وَعند أبي دَاوُد: (يبْدَأ بمؤخره
ثمَّ بمقدمه وبإذنه كليهمَا) . وَفِي لفظ: (مسح الراس كُله
من قرن الشّعْر كل ناحيته لمنصب الشّعْر لَا يُحَرك
الشّعْر عَن هَيئته) . وَفِي لفظ: (مسح رَأسه كُله وَمَا
أقبل وَمَا أدبر وصدغيه) . وَعند الْبَزَّار من حَدِيث أبي
بكرَة يرفعهُ: (تَوَضَّأ ثَلَاثًا ثَلَاثًا) وَفِيه: (مسح
بِرَأْسِهِ يقبل بِيَدِهِ من مقدمه إِلَى مؤخره وَمن مؤخره
إِلَى مقدمه) . وَعند ابْن نَافِع من حَدِيث أبي
هُرَيْرَة: (وضع يَدَيْهِ
(3/71)
على النّصْف من رَأسه ثمَّ جرهما إِلَى
مقدم رَأسه ثمَّ أعادهما إِلَى الْمَكَان الَّذِي بَدَأَ
مِنْهُ وجرهما إِلَى صدغيه) . وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث
أنس: (أَدخل يَده من تَحت الْعِمَامَة فَمسح بِمقدم رَأسه)
. وَفِي كتاب ابْن السكن: (فَمسح بَاطِن لحيته وَقَفاهُ) .
وَفِي (مُعْجم) الْبَغَوِيّ وَكتاب ابْن ابي خَيْثَمَة:
(مسح رَأسه إِلَى سالفته) . وَفِي كتاب النَّسَائِيّ عَن
عَائِشَة، ووصفت وضوءه، عَلَيْهِ السَّلَام، وَوضعت يَدهَا
فِي مقدم رَأسهَا ثمَّ مسحت إِلَى مؤخره، ثمَّ مدت
بِيَدَيْهَا بأذنيها، ثمَّ مدت على الْخَدين. فَهَذِهِ
أوجه كَثِيره يخْتَار المتوضىء أَيهَا شَاءَ، وَاخْتَارَ
بعض أَصْحَابنَا رِوَايَة عبد الله بن زيد. وَقَالَ
بَعضهم: فِي قَوْله: بَدَأَ بِمقدم رَأسه، حجَّة على من
قَالَ: السّنة أَن يبْدَأ بمؤخر الرَّأْس الى ان يَنْتَهِي
الى مقدمه. قلت: لَا يُقَال: إِن مثل هَذَا حجَّة
عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ ورد فِيهِ الْأَوْجه الَّتِي
ذَكرنَاهَا الْآن، وَالَّذِي قَالَ: السّنة أَن يبْدَأ
بمؤخر الرَّأْس اخْتَار الْوَجْه الَّذِي فِيهِ البداء
بمؤخر الرَّأْس، وَله أَيْضا أَن يَقُول: هَذَا الْوَجْه
حجَّة عَلَيْك أَيهَا الْمُخْتَار فِي الْبدَاءَة بالمقدم.
التَّاسِع: فِيهِ غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ،
وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْمرْفقين.
الْعَاشِر: فِيهِ جَرَيَان التلطف بَين الشَّيْخ وتلميذه
فِي قَوْله: (أتستطيع أَن تريني) إِلَى آخِره.
الْحَادِي عشر: فِيهِ جَوَاز الِاسْتِعَانَة فِي إِحْضَار
المَاء من غير كَرَاهَة.
الثَّانِي عشر: فِيهِ التَّعْلِيم بِالْفِعْلِ.
الثَّالِث عشر: فِيهِ أَن الاغتراف من المَاء الْقَلِيل
لَا يصير المَاء مُسْتَعْملا، لِأَن فِي رِوَايَة وهيب
وَغَيره: ثمَّ أَدخل يَده.
الرَّابِع عشر: فِيهِ اسْتِيعَاب مسح الرَّأْس، وَلَكِن
سنة لَا فرضا، كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الْخَامِس عشر: فِيهِ الِاقْتِصَار فِي مسح الرَّأْس على
مرّة وَاحِدَة.
39 - (بابُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ إلَى الكعْبَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان غسل الرجلَيْن إِلَى
الْكَعْبَيْنِ فِي الْوضُوء. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ
ظَاهِرَة.
186 - حدّثنا مُوسَى بْنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدّثنا
وُهَيْبٌ عَنْ عَمْرٍ عَنْ أبِيهِ شَهدْتُ عَمْرَو بنَ أبي
حَسَنٍ سَألَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ زَيْدٍ عَنْ وُضُوءِ
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ
ماءٍ فَتَوَضَّأَ لَهُمْ وُضُوءَ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَاكْفَأَ علَى يَدِهِ مِنَ النَّوْرِ
فَغَسَلَ يَدَيْه ثَلاثاً ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي
النَّوْرِ فَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ ثَلاثَ
غَرَفاتٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهِ فَغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً
ثُمَّ غَسَلَ يدَيْهِ مَرَّتَيْنِ إِلَى المرْفَقَيْنِ
ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَمَسَحَ رَأْسَهُ فَاقْبَلَ
بِهِمَا وأدْبَرَ مرَّةً غَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى
الكَعْبَيْنِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والمناسبة بَين
الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، والأبحاث الْمُتَعَلّقَة بِهِ قد
ذَكرنَاهَا فِي الحَدِيث السَّابِق، وَنَذْكُر هَهُنَا
الَّتِي لم نذْكر هُنَاكَ.
فَنَقُول: مُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي، مر
فِي كتاب الْوَحْي، ووهيب هُوَ ابْن خَالِد الْبَاهِلِيّ
مر فِي بَاب من أجَاب الْفتيا، وَعمر وَهُوَ ابْن يحيى بن
عمَارَة، شيخ مَالك الْمُتَقَدّم ذكره فِي الحَدِيث
السَّابِق، وَعمر وَابْن أبي حسن، بِفَتْح الْحَاء،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: عَمْرو هَذَا جد عَمْرو بن يحيى.
فَإِن قلت: تقدم أَن السَّائِل هُوَ جَده، وَهَذَا يدل على
أَنه أَخُو جده، فَمَا وَجه الْجمع بَينهمَا؟ قلت: لَا
مُنَافَاة فِي كَونه جَداً لَهُ من جِهَة الْأُم، عَمَّا
لِأَبِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: أغرب الْكرْمَانِي فَقَالَ:
عَمْرو بن ابي حسن جد عَمْرو بن يحيى من قبل أمه، وَقدمنَا
أَن أم عَمْرو بن يحيى لَيست بِنْتا لعَمْرو بن أبي حسن،
فَلم يستقم مَا قَالَه بِالِاحْتِمَالِ. قلت: لم يغرب
الْكرْمَانِي فِي ذَلِك، وَلَا قَالَه بِالِاحْتِمَالِ،
فَإِن صَاحب (الْكَمَال) قَالَ ذَلِك، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ فِي الْبَاب الَّذِي مضى.
قَوْله: (بتور) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره رَاء: هُوَ الطشت، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: إِنَاء يشرب مِنْهُ. وَقَالَ
الدَّرَاورْدِي: قدح. وَقيل: يشبه الطشت، وَقيل: مثل
الْقدر يكون من صفر أَو حِجَارَة، وَفِي رِوَايَة عبد
الْعَزِيز ابْن أبي سَلمَة عِنْد البُخَارِيّ فِي بَاب
الْغسْل فِي المخضب والصفر، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة
وَسُكُون الْفَاء: صنف من جيد النّحاس قيل: إِنَّه سمي
بذلك لكَونه يشبه الذَّهَب، وَيُسمى أَيْضا: الشّبَه،
بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة.
قَوْله: (لَهُم) أَي: لأجلهم، وهم: السَّائِل وَأَصْحَابه.
قَوْله: (فأكفأ) فعل ماضٍ من الإكفاء، وَقد مر فِي
الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (واستنشق واستنثر) قَالَ
الْكرْمَانِي: هَذَا دَلِيل من قَالَ: إِن الاستنشار هُوَ
غير الِاسْتِنْشَاق، وَهُوَ الصَّوَاب. قلت: قد ذكرنَا
فِيمَا مضى عَن ابْن الْأَعرَابِي وَابْن قُتَيْبَة: أَن
الِاسْتِنْشَاق والاستنثار وَاحِد، فان قلت: فعلى هَذَا
يكون عطف الشَّيْء على نَفسه. قلت: لَا نسمِ
(3/72)
ذَلِك، لِأَن اخْتِلَاف اللَّفْظَيْنِ يجوز ذَلِك،
وَيحْتَمل أَن يكون عطف تَفْسِير. قَوْله: (ثَلَاثَة
غرفات) قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا
أَنَّهَا كَانَت للمضمضة ثَلَاثًا وللاستنشاق ثَلَاثًا،
أَو كَانَت الثَّلَاث لَهما، وَلِهَذَا هُوَ الظَّاهِر.
قلت: الظَّاهِر هُوَ الأول لَا الثَّانِي، لِأَنَّهُ ثَبت
فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَغَيره: أَنه مضمض واستنشق
ثَلَاثًا. فان قلت: لَا يعلم أَن كل وَاحِدَة من الثَّلَاث
بغرفة. قلت: قد قُلْنَا لَك فِيمَا مضى: إِن الْبُوَيْطِيّ
روى عَن الشَّافِعِي أَنه روى عَنهُ أَنه: يَأْخُذ ثَلَاث
غرفات للمضمضة وَثَلَاث غرفات للاستنشاق، وكل مَا رُوِيَ
من خلاف هَذَا فَهُوَ مَحْمُول على الْجَوَاز. قَوْله:
(ثمَّ أَدخل يَده) يدل على أَنه اغترف بِإِحْدَى يَدَيْهِ،
هَكَذَا هُوَ فِي بَاقِي الرِّوَايَات، وَفِي مُسلم
وَغَيره، وَلَكِن وَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر وَأبي
الْوَقْت من طَرِيق سُلَيْمَان ابْن بِلَال الْآتِيَة:
(ثمَّ أَدخل يَدَيْهِ) ، بالتثنية، وَلَيْسَ كَذَلِك فِي
رِوَايَة أبي ذَر، وَلَا الْأصيلِيّ، وَلَا فِي شَيْء من
الرِّوَايَات خَارج الصَّحِيح، قَالَه النَّوَوِيّ: (ثمَّ
غسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ) ، المُرَاد: غسل كل يَد
مرَّتَيْنِ، كَمَا تقدم من طَرِيق مَالك: (ثمَّ غسل
يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ مرَّتَيْنِ) ، وَلَيْسَ المُرَاد
توزيع الْمَرَّتَيْنِ على الْيَدَيْنِ ليَكُون لكل يَد
مرّة وَاحِدَة. قَوْله: (إِلَى الْمرْفقين) الْمرْفق،
بِكَسْر الْمِيم وبفتح الْفَاء: هُوَ الْعظم الناتىء فِي
الذِّرَاع، سمي بذلك لِأَنَّهُ يرتفق فِي الإتكاء
وَنَحْوه. قَوْله: (إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الكعب هُوَ
الْعظم الناتيء عِنْد ملتقى السَّاق والقدم. قَالَ بَعضهم:
وَحكي عَن أبي حنيفَة أَنه الْعظم الَّذِي فِي ظهر الْقدَم
عِنْد معقد الشرَاك. قلت: هَذَا مختلق على أبي حنيفَة،
وَلم يقل بِهِ أصلا، بل نقل ذَلِك عَن مُحَمَّد بن الْحسن،
وَهُوَ أَيْضا غلط، لِأَن هَذَا التَّفْسِير فسره مُحَمَّد
فِي حق الْمحرم إِذا لم يجد نَعْلَيْنِ يلبس خُفَّيْنِ
يقطعهما أَسْفَل من الْكَعْبَيْنِ بالتفسير الَّذِي ذكره. |