عمدة القاري شرح صحيح البخاري

40 - (بابُ اسْتِعْمالِ فَضْل وَضُوءِ الناسِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس فِي التطهر وَغَيره. وَالْوُضُوء، بِفَتْح الْوَاو؛ وَالْمرَاد من فضل الْوضُوء يحْتَمل أَن يكون مَا يبْقى فِي الظّرْف بعد الْفَرَاغ من الْوضُوء، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ المَاء الَّذِي يتقاطر عَن أَعْضَاء المتوضىء، وَهُوَ المَاء الَّذِي يَقُول لَهُ الْفُقَهَاء: المَاء الْمُسْتَعْمل. وَاخْتلف الْفُقَهَاء فِيهِ؛ فَعَن ابي حنيفَة ثَلَاث رِوَايَات: فروى عَنهُ أَبُو يُوسُف أَنه نجس مخفف، وروى الْحسن بن زِيَاد أَنه نجس مغلظ، وروى مُحَمَّد بن الْحسن وَزفر وعافية القَاضِي أَنه طَاهِر غير طهُور، وَهُوَ اخْتِيَار الْمُحَقِّقين من مَشَايِخ مَا وَرَاء النَّهر. وَفِي (الْمُحِيط) : وَهُوَ الْأَشْهر الأقيس. وَقَالَ فِي (الْمُفِيد) : وَهُوَ الصَّحِيح. وَقَالَ الأسبيجابي: وَعَلِيهِ الْفَتْوَى. وَقَالَ قاضيخان: وَرِوَايَة التَّغْلِيظ رِوَايَة شَاذَّة غير مَأْخُوذ بهَا، وَبِه يرد على ابْن حزم قَوْله: الصَّحِيح عَن ابي حنيفَة نَجَاسَته. وَقَالَ عبد الحميد القَاضِي: أَرْجُو أَن لَا تثبت رِوَايَة النَّجَاسَة فِيهِ عَن ابي حنيفَة. وَعند مَالك طَاهِر وطهور، وَهُوَ قَول النَّخعِيّ وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَالثَّوْري وَأبي ثَوْر. وَعند الشَّافِعِي طَاهِر غير طهُور وَهُوَ قَوْله الْجَدِيد. وَعند زفر إِن كَانَ مستعمله طَاهِرا فَهُوَ طَاهِر وطهور، وَإِن مُحدثا فَهُوَ طَاهِر غير طهُور. وَقَوله: اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس أَعم من أَن يسْتَعْمل للشُّرْب أَو لإِزَالَة الْحَدث أَو الْخبث أَو للاختلاط بِالْمَاءِ الْمُطلق، فعلى قَول النَّجَاسَة لَا يجوز اسْتِعْمَاله أصلا، وعَلى قَول الطّهُورِيَّة يجوز اسْتِعْمَاله فِي كل شَيْء، وعَلى قَول الطاهرية فَقَط يجوز اسْتِعْمَاله للشُّرْب والعجين والطبخ وَإِزَالَة الْخبث، وَالْفَتْوَى عندنَا على أَنه طَاهِر غير طهُور، كَمَا ذهب إِلَيْهِ مُحَمَّد بن الْحسن.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْبَاب السَّابِق فِي صفة الْوضُوء، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان المَاء الَّذِي يفضل من الْوضُوء.
وأمَرَ جَرِيرُ بنُ عبْدِ اللَّهِ أهْلهُ أنْ يَتَوَضَّؤُوا بِفَضْلِ سِوَاكِهِ

هَذَا الْأَثر غير مُطَابق للتَّرْجَمَة أصلا، فَإِن التَّرْجَمَة فِي اسْتِعْمَال فضل المَاء الَّذِي يفضل من المتوضىء، والأثر هُوَ الْوضُوء بِفضل السِّوَاك، ثمَّ فضل السِّوَاك إِن كَانَ مَا ذكره ابْن التِّين وَغَيره أَنه هُوَ المَاء الَّذِي ينتقع بِهِ السِّوَاك، فَلَا مُنَاسبَة لَهُ للتَّرْجَمَة أصلا لِأَنَّهُ لَيْسَ بِفضل الْوضُوء، وَإِن كَانَ المُرَاد أَنه المَاء الَّذِي يغمس فِيهِ المتوضىء سواكه بعد الاستياك، فَكَذَلِك لَا يُنَاسب التَّرْجَمَة. وَقَالَ بَعضهم: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن هَذَا الصَّنِيع لَا يُغير المَاء فَلَا يمْنَع التطهر بِهِ. قلت: من لَهُ أدنى ذوق من الْكَلَام لَا يَقُول هَذَا الْوَجْه فِي تطابق الْأَثر للتَّرْجَمَة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: إِن قيل: ترْجم على اسْتِعْمَال فضل الْوضُوء، ثمَّ ذكر

(3/73)


حَدِيث السِّوَاك والمجة فَمَا وَجهه؟ قلت: مَقْصُوده الرَّد على من زعم أَن المَاء الْمُسْتَعْمل فِي الْوضُوء لَا يتَطَهَّر بِهِ. قلت: هَذَا الْكَلَام أبعد من كَلَام ذَلِك الْقَائِل، فَأَي دَلِيل دلّ على ان المَاء فِي خبر السِّوَاك والمجة فضل الْوضُوء؟ وَلَيْسَ فضل الْوضُوء إِلَّا المَاء الَّذِي يفضل من وضوء المتوضي. فَإِن كَانَ لفظ: فضل الْوضُوء، عَرَبيا فَهَذَا مَعْنَاهُ، وَإِن كَانَ غير عَرَبِيّ فَلَا تعلق لَهُ هَهُنَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فضل السِّوَاك هُوَ المَاء الَّذِي ينتقع فِيهِ السِّوَاك ليترطب، وسواكهم الْأَرَاك، وَهُوَ لَا يُغير المَاء. قلت: بيّنت لَك أَن هَذَا كَلَام واهٍ، وَأَن فضل السِّوَاك لَا يُقَال لَهُ: فضل الْوضُوء، وَهَذَا لَا يُنكره إلاَّ معاند، وَيُمكن أَن يُقَال بِالْجَرِّ الثقيل: إِن المُرَاد من فضل السِّوَاك هُوَ المَاء الَّذِي فِي الظّرْف والمتوضىء يتَوَضَّأ مِنْهُ، وَبعد فَرَاغه من تسوكه عقيب فَرَاغه من الْمَضْمَضَة يرْمى السِّوَاك الملوث بِالْمَاءِ الْمُسْتَعْمل فِيهِ. ثمَّ أثر جرير الْمَذْكُور وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) وَغَيرهمَا من طَرِيق قيس بن أبي حَازِم عَنهُ، وَفِي بعض طرقه: كَانَ جرير يستاك ويغمس رَأس سواكه فِي المَاء، ثمَّ يَقُول لأَهله: توضأوا بفضله، لَا يُرى بِهِ بَأْس.

187 - حدّثنا آدَمُ قَالَ حدّثنا شْعْبَةُ قَالَ حدّثنا الحَكَمُ قالَ سَمِعْتُ أبَا جُحَيْفَةَ يَقُولُ خَرَجَ عَلَيْنَا رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهَاجِرَةِ فَأُتَيِ بِوَضُوءٍ فَتَوَضَّأَ فَجَعَلَ النَّاسُ يَأخُذُونَ مِنْ فَضْلِ وَضُوئِهِ فَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ فَصَلَّى النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظُّهْرَ رَكْعَتَيْنِ والعَصْرَ رَكْعَتَيْنِ وَبَيْنَ يَدَيْهِ عَنَزَةٌ..
هَذَا الحَدِيث يُطَابق التَّرْجَمَة إِذا كَانَ المُرَاد من قَوْله: يَأْخُذُونَ من فضل وضوئِهِ مَا سَالَ من أَعْضَاء النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَإِن كَانَ المُرَاد مِنْهُ المَاء الَّذِي فضل عَنهُ فِي الْوِعَاء فَلَا مُنَاسبَة أصلا.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: آدم بن أبي اياس تقدم. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج كَذَلِك. وَالثَّالِث: الحكم، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف: ابْن عتيبة، بِضَم الْعين وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم فِي بَاب السمر بِالْعلمِ. وَالرَّابِع: أَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء، واسْمه وهب بن عبد الله الثَّقَفِيّ الْكُوفِي، تقدم فِي بَاب كِتَابَة الْعلم، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين عسقلاني وكوفي وواسطي. وَمِنْهَا: أَنه من رباعيات البُخَارِيّ. وَمِنْهَا: أَن الحكم بن عتيبة لَيْسَ لَهُ سَماع من أحد من الصَّحَابَة إلاَّ أَبَا جُحَيْفَة، وَقيل: روى عَن أبي أوفى أَيْضا.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَن الْحسن بن مَنْصُور. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة مُحَمَّد بن المثني عَن مُحَمَّد بن بشار، كِلَاهُمَا عَن غنْدر، وَعَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي، خمستهم عَن شُعْبَة عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَمُحَمّد بن بشار بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (بالهاجرة) ، قَالَ ابْن سَيّده: الهجيرة والهجيرة والهجر والهاجر: نصف النَّهَار عِنْد زَوَال الشَّمْس مَعَ الظهيرة، وَقيل: عِنْد زَوَال إِلَى الْعَصْر، وَقيل فِي ذَلِك: إِنَّه شدَّة الْحر. وهجر الْقَوْم وأهجروا وتهجروا: سَارُوا فِي الهجيرة. وَفِي كتاب (الأنواء الْكَبِير) لأبي حنيفَة: الهاجرة بالصيف قبل الظهيرة بِقَلِيل أَو بعْدهَا بِقَلِيل، يُقَال: أَتَيْته بالهجر الْأَعْلَى وبالهاجرة الْعليا، يُرِيد فِي آخر الهاجرة، والهو يجرة: قبل الْعَصْر بِقَلِيل، والهجر مثله. وَسميت الهاجرة لهرب كل شَيْء مِنْهَا، وَلم أسمع بالهاجرة فِي غير الصَّيف إلاَّ فِي قَول العجاج فِي ثَوْر وَحش طرده الْكلاب فِي صميم الْبر:
(ولى كمصباح الدجى المزهورة ... كَانَ من آخر الهجيرة)

قوم هجان هم بالمقدورة.

وَفِي (الموعب) : أَتَيْته بالهاجرة وَعند الهاجرة وبالهجير وَعند الهجير، وَفِي (المغيث) : الهاجرة بِمَعْنى المهجورة، لِأَن السّير يهجر فِيهَا، كَمَاء دافق بِمَعْنى مدفوق، قَالَه الْهَرَوِيّ. وَأما قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (والمهجر كالمهدي بدنه) ، فَالْمُرَاد التبكير إِلَى كل صَلَاة. وَعَن الْخَلِيل: التهجير إِلَى الْجُمُعَة. التبكير، وَهِي لُغَة حجازية. قَوْله: (فأُتي بِوضُوء) ، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله:

(3/74)


(فيتمسَّحون بِهِ) ، من بَاب التفعل، وَهُوَ يَأْتِي لمعانٍ، وَمَعْنَاهُ هَهُنَا: الْعَمَل، ليدل على أَن أصل الْفِعْل حصل مرّة بعد مرّة، نَحْو تجرَّعه أَي: شربه جرعة بعد جرعة، وَالْمعْنَى هَهُنَا كَذَلِك، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم يمسح بِهِ وَجهه وَيَديه مرّة بعد أُخْرَى، وَيجوز أَن يكون للتكلف، لِأَن كل وَاحِد مِنْهُم لشدَّة الازدحام على فضل وضوئِهِ كَانَ يتعانى لتحصيله كتشجع وتصبر. قَوْله: (عنزة) ، بِالتَّحْرِيكِ: أقصر من الرمْح وأطول من العصار، وَفِيه زج كزج الرمْح.
وَأما الْإِعْرَاب فَقَوله: (يَقُول) فِي مَحل النصب على أَنه مفعول ثَان: لسمعت، على قَول من يَقُول: إِن السماع يَسْتَدْعِي مفعولين، وَالْأَظْهَر أَنه: حَال. قَوْله: (بالهاجر) : الْبَاء، فِيهِ ظرفية بِمَعْنى: فِي الهاجرة. قَوْله: (يأخذونه) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر جعل الَّذِي هُوَ من أَفعَال المقاربة. قَوْله: (عنزة) مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ وَخَبره مقدما، قَوْله: (بَين يَدَيْهِ) ، وَالْجُمْلَة حَالية.
بَيَان إستنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ الدّلَالَة الظَّاهِرَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل إِذا كَانَ المُرَاد أَنهم كَانُوا يَأْخُذُونَ مَا سَالَ من أَعْضَائِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن كَانَ المُرَاد أَنهم كَانُوا يَأْخُذُونَ مَا فضل من وضوئِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْإِنَاء فَيكون المُرَاد مِنْهُ التَّبَرُّك بذلك، وَالْمَاء طَاهِر فازداد طَهَارَة ببركة وضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يَده الْمُبَارَكَة فِيهِ. الثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على جَوَاز التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين. الثَّالِث: فِيهِ قصر الرباعة فِي السّفر، لِأَن الْوَاقِع كَانَ فِي السّفر، وَصرح فِي رِوَايَة أُخْرَى أَن خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَذَا كَانَ من قبَّة حَمْرَاء من أَدَم بِالْأَبْطح بِمَكَّة. الرَّابِع: فِيهِ نصب العنزة وَنَحْوهَا بَين يَدي الْمُصَلِّي إِذا كَانَ فِي الصَّحرَاء.
وَقَالَ أبُو مُوسَى دَعا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَدَحٍ فِيهِ ماءٌ فَغَسل يَدَيْهِ وَوجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فِيهِ ثُمَّ قَالَ لَهُمَا اشْرَبَا مِنْهُ وأَفْرِغَا علَى وُجُوهِكُمَا ونُحُورِكُمَا.
قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ هَذَا من الْوضُوء فِي شَيْء، وَإِنَّمَا هُوَ مثل من استشفى بِالْغسْلِ لَهُ فَغسل. قلت: أَرَادَ بِهَذَا الْكَلَام أَنه لَا مُطَابقَة لَهُ للتَّرْجَمَة، وَلَكِن فِيهِ مُطَابقَة من حَيْثُ إِنَّه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما غسل يَدَيْهِ وَوَجهه فِي الْقدح صَار المَاء مُسْتَعْملا وَلكنه طَاهِر، إِذْ لَو لم يكن طَاهِرا لما أَمر بشربه وإفراغه على الْوَجْه والنحر، وَهَذَا المَاء طَاهِر وطهور أَيْضا بِلَا خلاف، وَلكنه إِذا وَقع مثل هَذَا من غير النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، يكون المَاء على حَاله طَاهِرا، وَلَكِن لَا يكون مطهراً على مَا عرف.
بَيَان مَا فِيهِ من الْأَشْيَاء الأول: أَن أَبَا مُوسَى هُوَ الْأَشْعَرِيّ، واسْمه عبد الله بن قيس، تقدم فِي بَاب: أَي الْإِسْلَام أفضل.
الثَّانِي: أَن أَن هَذَا تَعْلِيق وَهُوَ طرف من حَدِيث مطول أخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَغَازِي. وأوله عَن أبي مُوسَى، قَالَ: (كنت عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالجعرانة وَمَعَهُ بِلَال، رَضِي الله عَنهُ، فَأَتَاهُ أَعْرَابِي قَالَ: أَلا تنجز لي مَا وَعَدتنِي؟ قَالَ: إبشر) الحَدِيث، وَفِيه: (دَعَا بقدح فِيهِ مَاء فَغسل يَدَيْهِ) الحَدِيث. وَأخرج أَيْضا قِطْعَة مِنْهُ فِي بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي فَضَائِل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
الثَّالِث: الْقدح، بفتحين: هُوَ الَّذِي يُؤْكَل فِيهِ. قَالَه ابْن الْأَثِير. قلت: الْقدح فِي اسْتِعْمَال النَّاس الْيَوْم الَّذِي يشرب فِيهِ. قَوْله: (وَمَج فِيهِ) اي: صب مَا تنَاوله من المَاء بِفِيهِ فِي الْإِنَاء. وَقَالَ ابْن الاثير. مج لعابه إِذا قذفه. وَقيل: لَا يكون مجاً حَتَّى تبَاعد بِهِ. قَوْله: (قَالَ لَهما) أَي: لأبي مُوسَى وبلال، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَكَانَ بِلَال مَعَ أبي مُوسَى حَاضرا عِنْد النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قَوْله: (وأفرغا) من: الإفراغ. قَوْله: (وَنَحْو ركما) بالنُّون جمع نحر، وَهُوَ: الصَّدْر.
الرَّابِع: فِيهِ الدّلَالَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَفِيه جَوَاز مج الرِّيق فِي المَاء، قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: هَذَا فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَن لعابه أطيب من الْمسك وَمن غَيره يستقذر، وَلِهَذَا كره الْعلمَاء. وَالنَّبِيّ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مقَامه أعظم، وَكَانُوا يتدافعون على نخامته ويدلكون بهَا وُجُوههم لبركتها وطيبها، وخلوفه مَا كَانَ يشابه خلوف غَيره، وَذَلِكَ لمناجاته الْمَلَائِكَة فطيب الله نكهته وخلوف فَمه وَجَمِيع رَائِحَته. وَقَالَ ابْن بطال: فِيهِ دَلِيل على أَن لعاب الْبشر لَيْسَ بِنَجس وَلَا بَقِيَّة شربه، وَذَلِكَ يدل على أَن نَهْيه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عَن النفخ فِي الطَّعَام وَالشرَاب لَيْسَ على سَبِيل أَن مَا تطاير فِيهِ من اللعاب نجس، وَإِنَّمَا هُوَ خشيَة أَن يتقذرة الْآكِل مِنْهُ، فَأمر بالتأدب فِي ذَلِك. وَقَالَ أَيْضا: وَحَدِيث ابي مُوسَى يحْتَمل أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالشرب من الَّذِي مج فِيهِ، والإفراغ على الْوُجُوه والنحور من أجل مرض أَو شَيْء أصابهما. قَالَ الْكرْمَانِي: لم يكن ذَلِك من أجل مَا ذكره، بل كَانَ لمُجَرّد التَّيَمُّن

(3/75)


والتبرك بِهِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر. قلت: فعلى هَذَا لَا تطابق بَينه وَبَين تَرْجَمَة الْبَاب، وَالْعجب من ابْن بطال حَيْثُ يَقُول بِالِاحْتِمَالِ فِي الَّذِي يدل على هَذَا الحَدِيث على التَّبَرُّك والتيمن ظَاهرا، وَيَقُول بِالْجَزْمِ فِي الَّذِي يحْتَمل غَيره.

189 - حدّثنا عَليُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْراهِيمَ بنِ سَعْدٍ قالَ حدّثنا أبي عنْ صالِحٍ عَن ابنِ شِهابٍ قَالَ أخْبرَني مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ قالَ وَهْوَ الَّذِي مَجَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي وَجْهِهِ وهْوَ غُلاَمٌ منْ بِئْرِهِمْ..
هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة أصلا، وَإِنَّمَا يدل على ممازحة الطِّفْل بِمَا قد يصعب عَلَيْهِ، لِأَن مج المَاء قد يصعب عَلَيْهِ، وَإِن كَانَ قد يستلذه.
وَقد أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي كتاب الْعلم فِي بَاب: مَتى يَصح سَماع الصَّغِير، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى من جمع الْوُجُوه.
وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، أحد الْأَعْلَام، وَصَالح هُوَ ابْن كيسَان، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. وَالربيع بِفَتْح الرَّاء.
قَوْله: (من بئرهم) ، يتَعَلَّق بقوله: (مج) . وَقَوله: (وَهُوَ غُلَام) جملَة إسمية وَقعت حَالا. وَقَوله: (وَهُوَ الَّذِي مج) إِلَى لفظ: (بئرهم) ، كَلَام لِابْنِ شهَاب ذكره تعريفاً أَو تَشْرِيفًا، وَالضَّمِير فِي بئرهم: لمحمود وَقَومه بِدلَالَة الْقَرِينَة عَلَيْهِ، وَالَّذِي اخبر بِهِ مَحْمُود هُوَ قَوْله: عقلت من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مجة مجها فِي وَجْهي وَأَنا ابْن خمس سِنِين من دلو.
وقالَ عُرْوَةُ عَنِ المِسْوَرِ وَغَيْرِهِ يُصَدِّقُ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُما صاحِبَهُ وَإِذا وَضَّأَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كادُوا يَقْتَتِلُونَ علَى وَضُوئِهِ

عُرْوَة: هُوَ ابْن الزبير بن الْعَوام تقدم. الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو: ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء: الزُّهْرِيّ ابْن بنت عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ ابْن ثَمَان سِنِين، وَصَحَّ سَمَاعه من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رُوِيَ لَهُ اثْنَان وَعِشْرُونَ حَدِيثا، ذكر البُخَارِيّ مِنْهَا سِتَّة، فَأَصَابَهُ حجر من أَحْجَار المنجنيق وَهُوَ يُصَلِّي فِي الْحجر، فَمَكثَ خَمْسَة أَيَّام ثمَّ مَاتَ زمن محاصرة الْحجَّاج مَكَّة سنة أَربع وَسِتِّينَ. وَالْألف وَاللَّام فِيهِ كالألف وَاللَّام فِي: الْحَارِث، يجوز إِثْبَاتهَا وَيجوز نَزعهَا وَهُوَ فِي الْحَالَتَيْنِ علم.
قَوْله: (يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا صَاحبه) أَي: يصد كل من الْمسور ومروان صَاحبه، لِأَن المُرَاد من قَوْله: وَغَيره، وَهُوَ مَرْوَان على مَا يَأْتِي. وَقد خبط الْكرْمَانِي هُنَا خباطاً فَاحِشا، وسأبنيه عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (وَغَيره) يُرِيد بِهِ مَرْوَان بن الحكم، لِأَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا التَّعْلِيق فِي كتاب الشُّرُوط فِي بَاب الشُّرُوط فِي الْجِهَاد مَوْصُولا، فَقَالَ: حَدثنِي عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا عبد الرَّزَّاق أخبرنَا معمر قَالَ: اخبرني الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة ابْن الزبير عَن الْمسور ابْن مخرمَة ومروان، يصدق كل وَاحِد مِنْهُمَا حَدِيث صَاحبه، قَالَا: (خرج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زمن الْحُدَيْبِيَة) الحَدِيث وَهُوَ طَوِيل جدا إِلَى أَن قَالَ: (ثمَّ إِن عُرْوَة جعل يرمق أَصْحَاب النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِعَيْنيهِ. قَالَ: فوَاللَّه مَا تنخم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نخامة إلاَّ وَقعت فِي كف رجل مِنْهُم، فدلك بهَا وَجهه وَجلده، وَإِذا أَمرهم ابتدروا أمره، وَإِذا تَوَضَّأ كَانُوا يقتتلون على وضوئِهِ، وَإِذا تكلم خفضوا أَصْوَاتهم عِنْده، وَمَا يحدون إِلَيْهِ النّظر تَعْظِيمًا لَهُ) إِلَى آخر الحَدِيث. وَالْمرَاد من قَوْله: ثمَّ إِن عُرْوَة، وَهُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود أرْسلهُ كفار مَكَّة إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، زمن الْحُدَيْبِيَة. قَوْله: (واذا تَوَضَّأ) الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، والحاكي هُوَ عُرْوَة بن مَسْعُود لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي شَاهد من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ بَين يَدي النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَهُوَ أَيْضا أخبر بذلك لأهل مَكَّة، كَمَا ستقف على الحَدِيث بِطُولِهِ. قَوْله: (كَانُوا يقتتلون) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي، رِوَايَة البَاقِينَ: (كَادُوا يقتتلون) . قَالَ بَعضهم: هُوَ الصَّوَاب، لِأَنَّهُ لم يَقع بَينهم قتال. قلت: كِلَاهُمَا سَوَاء، وَالْمرَاد بِهِ الْمُبَالغَة فِي ازدحامهم على نخامة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَلى وضوئِهِ. وَأما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ قَالَ: أَولا: فَإِن قلت: هُوَ رِوَايَة عَن الْمَجْهُول وَلَا اعْتِبَار بِهِ. قلت: الْغَالِب أَن عُرْوَة لَا يرْوى إلاَّ عَن الْعدْل، فَحكمه حكم الْمَعْلُوم. وَأَيْضًا هُوَ مَذْكُور على سَبِيل التّبعِيَّة، وَيحْتَمل فِي التَّابِع مَا لَا يحْتَمل فِي غَيره. أَقُول

(3/76)


هَذَا السُّؤَال، غير وَارِد أصلا، لِأَن هَذَا التَّعْلِيق، وَهُوَ قَوْله: وَقَالَ عُرْوَة ... قد أخرجه البُخَارِيّ مَوْصُولا، وَبَين فِيهِ أَن المُرَاد من قَوْله: وَغَيره هُوَ مَرْوَان، كَمَا ذَكرْنَاهُ، فَإِذا سقط السُّؤَال فَلَا يحْتَاج إِلَى الْجَواب. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ثَانِيًا: فَإِن قلت: هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ أم لَا؟ قلت: هُوَ عطف على مقول ابْن شهَاب اي: قَالَ ابْن شهَاب: أَخْبرنِي مَحْمُود وَقَالَ عُرْوَة، أَقُول: نعم، هَذَا تَعْلِيق وَصله فِي كِتَابه كَمَا ذكرنَا وَلَيْسَ هُوَ عطفا على مقول ابْن شهَاب. وَقَالَ ثَالِثا: قَوْله مِنْهُمَا أَي: من مَحْمُود والمسور، أَي: مَحْمُود يصدق مسوراً، ومسور يصدق مَحْمُودًا. أَقُول: لَيْسَ كَذَلِك، بل الْمَعْنى أَن الْمسور يصدق مَرْوَان بن الحكم، ومروان يصدق مسوراً. وَقَالَ رَابِعا: وَلَفظ يصدق، هُوَ كَلَام ابْن شهَاب أَيْضا، ومقول كل وَاحِد مِنْهُمَا هُوَ لفظ: وَإِذا تَوَضَّأ. أَقُول: لفظ: وَإِذا تَوَضَّأ، لَيْسَ مقول كل وَاحِد مِنْهُمَا، بل مقول عُرْوَة بن مَسْعُود، لِأَنَّهُ هُوَ الْقَائِل بذلك والحاكي بِهِ عِنْد مُشْركي مَكَّة، وَذكر أَبُو الْفضل بن طَاهِر أَن هَذَا الحَدِيث مَعْلُول، وَذَلِكَ أَن الْمسور ومروان لم يدركا هَذِه الْقِصَّة الَّتِي كَانَت بِالْحُدَيْبِية سنة سِتّ لِأَن مولدهما كَانَ بعد الْهِجْرَة بِسنتَيْنِ، وعَلى ذَلِك اتّفق المؤرخون. وَأما مَا فِي (صَحِيح مُسلم) عَن الْمسور قَالَ: (سَمِعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب النَّاس على هَذَا الْمِنْبَر وَأَنا يَوْمئِذٍ محتلم) ، فَيحْتَاج إِلَى تَأْوِيل لغَوِيّ أَنه كَانَ يعقل لَا الِاحْتِلَام الشَّرْعِيّ، أَو أَنه كَانَ سميناً غير مهزول فِيمَا ذكره الْقُرْطُبِيّ. وَقَالَ صَاحب (الْأَفْعَال) : حلم حلماً إِذا عقل. وَقَالَ غَيره: تحلم الْغُلَام صَار سميناً، وَهُوَ مَعْدُود فِي صغَار الصَّحَابَة، مَاتَ سنة أَربع وَسِتِّينَ.

190 - حدّثنا عَبْد الرَّحْمنِ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا حاتِمُ بنُ إسْماعِيلَ عَنِ الجَعْدِ قالَ سَمِعْتُ السَّائِبَ بن يَزِيدَ يَقُولُ ذَهَبَتْ بِي خالَتِي إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَتْ يَا رسولَ اللَّهِ إنَّ ابنَ اُخْتِي وَجِعٌ فَمَسَحَ رَأْسِي وَدَعا لي بالْبَرَكَةِ ثُمَّ تَوَضَأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وَضُوئِهِ ثُمَّ قُمْتُ خَلفَ ظَهْرِهِ فَنظَرْتُ إِلَى خاتَمِ النُّبُوَّةِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِرِّ الحَجَلَةِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة إِن كَانَ المُرَاد من قَوْله: (فَشَرِبت من وضوئِهِ) المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة، وَإِن كَانَ المُرَاد: من فضل وضوئِهِ، فَلَا مُطَابقَة. وَوَقع للمستملي على رَأس هَذَا الحَدِيث لَفظه: بَاب، بِلَا تَرْجَمَة. وَعند الْأَكْثَرين وَقع بِلَا فصل بَينه وَبَين الَّذِي قبله.
بَيَان رِجَاله وهم اربعة. الأول: عبد الرَّحْمَن بن يُونُس أَبُو مُسلم الْبَغْدَادِيّ الْمُسْتَمْلِي اُحْدُ الْحفاظ، استملى لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَغَيره، مَاتَ فَجْأَة سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: حَاتِم بن إِسْمَاعِيل الْكُوفِي، نزل الْمَدِينَة وَمَات بهَا سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَمِائَة، فِي خلَافَة هَارُون. الثَّالِث: الْجَعْد، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة ابْن عبد الرَّحْمَن بن أَوْس الْمدنِي الْكِنْدِيّ، وَالْمَشْهُور أَنه يُقَال لَهُ: الجعيد، بِالتَّصْغِيرِ. الرَّابِع: السَّائِب اسْم فَاعل من السَّبَب، بِالْمُهْمَلَةِ وبالياء آخر الْحُرُوف بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة الْكِنْدِيّ. قَالَ: حج بِي أبي مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حجَّة الْوَدَاع وَأَنا ابْن سبع سِنِين، رُوِيَ لَهُ خَمْسَة أَحَادِيث، وَالْبُخَارِيّ أخرجهَا كلهَا، توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة إِحْدَى وَتِسْعين.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وكوفي ومدني. وَمِنْهَا: أَن الرِّوَايَة فِيهِ من صغَار الصَّحَابَة، رَضِي الله عَنْهُم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُحَمَّد بن عبيد الله، وَفِي الطِّبّ عَن إِبْرَاهِيم بن حَمْزَة، وَفِي الدَّعْوَات عَن قُتَيْبَة وهناد عَن عبد الرَّحْمَن، أربعتهم عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل وَفِي صفة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن الْفضل بن مُوسَى. وَأخرجه مُسلم فِي صفة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن عباد، كِلَاهُمَا عَن حَاتِم بن إِسْمَاعِيل بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن قُتَيْبَة بِهِ وَقَالَ حسن غَرِيب من هَذَا الْوَجْه وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطِّبّ عَن قُتَيْبَة بِهِ.
بَيَان اللُّغَات قَوْله: (ذهبت بِهِ) ، وَالْفرق بَينه وَبَين: أذهبه أزاله وَجعله ذَاهِبًا. وَمعنى ذهب بِهِ: استصحبه وَمضى بِهِ مَعَه. قَوْله: (وَقع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْقَاف وبالتنوين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَأبي ذَر الْهَرَوِيّ وَقع بِفَتْح الْقَاف على لفظ الْمَاضِي، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (وجع) ، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الْجِيم، وَعَلِيهِ الْأَكْثَرُونَ، وَمعنى: وَقع، بِكَسْر الْقَاف: أَصَابَهُ وجع فِي قَدَمَيْهِ

(3/77)


وَزعم ابْن سَيّده أَنه يُقَال: وَقع الرجل وَالْفرس وَقعا فَهُوَ وَقع: إِذا حفي من الْحِجَارَة والشوط، وَقد وقعه الْحجر، وحافر وقيع وقعته الْحِجَارَة فقصت مِنْهُ، ثمَّ استعير للمشتكي الْمَرِيض، يُبينهُ قَوْلهَا: وجع، وَالْعرب تسمي كل مرض وجعاً. وَفِي (الْجَامِع) : وَقع الرجل فَوَقع إِذا حفي من مَشْيه على الْحِجَارَة. وَقيل: هُوَ أَن يشتكي لحم رجلَيْهِ من الحفا. وَقَالَ ابْن بطال: وَقع مَعْنَاهُ أَنه وَقع فِي الْمَرَض. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وَقع أَي: سقط، والوقع أَيْضا: الحفا. قَوْله: (فَشَرِبت من وضوئِهِ) بِفَتْح الْوَاو. قَوْله: (إِلَى خَاتم النُّبُوَّة) بِكَسْر: التَّاء، أَي: فَاعل الْخَتْم، وَهُوَ الْإِتْمَام وَالْبُلُوغ إِلَى الآخر، وبفتح: التَّاء، بِمَعْنى: الطابع، وَمَعْنَاهُ الشَّيْء الَّذِي هُوَ دَلِيل على أَنه لَا نَبِي بعده. وَقَالَ القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ: خَاتم النُّبُوَّة أثر بَين كَتفيهِ، نعت بِهِ فِي الْكتب الْمُتَقَدّمَة وَكَانَ عَلامَة يعلم بهَا أَنه النَّبِي الْمَوْعُود، وصيانة لنبوته عَن تطرق الْقدح إِلَيْهَا صِيَانة الشَّيْء المستوثق بالختم. قَوْله: (مثل زر الحجلة) : الزر، بِكَسْر الزَّاي وَتَشْديد الرَّاء. والحجلة، بِفَتْح الْحَاء وَالْجِيم: وَاحِدَة الحجال، وَهُوَ بيُوت تزين بالثياب والستور والإثرة، لَهَا على وأزرار. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الحجلة، بِالتَّحْرِيكِ: بَيت كالقبة يستر بالثياب وَيكون لَهُ أزرار كبار، وَيجمع على: حجال. وَقيل: المُرَاد بالحجلة: الطير، وَهِي الَّتِي تسمى القبحة، وَتسَمى الْأُنْثَى الحجلة، وَالذكر: يَعْقُوب، وزرها: بيضها. وَيُؤَيّد هَذَا أَن فِي حَدِيث آخر: (مثل بَيْضَة الْحَمَامَة) . وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله شيخ البُخَارِيّ. الحجلة من حجل الْفرس الَّذِي بَين عَيْنَيْهِ، وَفِي بعض نسخ المغاربة: الحجلة، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْجِيم. قَالَ الْكرْمَانِي: وَقد رُوِيَ أَيْضا بِتَقْدِيم الرَّاء على الزَّاي، وَيكون المُرَاد مِنْهُ: الْبيض. يُقَال: أرزت الجرادة بِفَتْح الرَّاء وَتَشْديد الزَّاي: إِذا كبست ذنبها فِي الأَرْض فباضت.
وَجَاءَت فِيهِ رِوَايَات كَثِيرَة: فَفِي رِوَايَة مُسلم عَن جَابر بن سَمُرَة: (وَرَأَيْت الْخَاتم عِنْد كَتفيهِ مثلي بَيْضَة الْحَمَامَة يشبه جسده) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد، من حَدِيث عبد الله بن سرجس: (وَرَأَيْت خَاتم النُّبُوَّة فِي نغض كتفه الْيُسْرَى كَأَنَّهُ جمع فِيهِ خيلان سود كَأَنَّهُمَا الثآليل) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد أَيْضا من حَدِيث ابي رمثة التَّيْمِيّ، قَالَ: (خرجت مَعَ أبي حَتَّى أتيت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَرَأَيْت بِرَأْسِهِ ردع حناء، وَرَأَيْت على كتفه مثل التفاحة، فَقَالَ ابي: إِنِّي طَبِيب أَلاَ أبطها لَك؟ قَالَ: طبيبها الَّذِي خلقهَا) . وَفِي (صَحِيح) الْحَاكِم: (شعر مُجْتَمع) ، وَفِي كتاب الْبَيْهَقِيّ: (مثل السّلْعَة) . وَفِي (الشَّمَائِل) : (بضعَة نَاشِزَة) . وَفِي حَدِيث عَمْرو بن أَخطب: (كشيء يخْتم بِهِ) . وَفِي (تَارِيخ) ابْن عَسَاكِر: (مثل البندقة) ، وَفِي التِّرْمِذِيّ: (كالتفاحة) . وَفِي (الرَّوْض) : كاثم المحجم الغائص على اللَّحْم. وَفِي (تَارِيخ ابْن ابي خَيْثَمَة) : شامة خضراء محتفرة فِي اللَّحْم، وَفِيه أَيْضا: شامة سوادء تضرب إِلَى الصُّفْرَة حولهَا شَعرَات متراكبات كَأَنَّهَا عرف الْفرس. وَفِي (تَارِيخ الْقُضَاعِي) : ثَلَاث مجتمعات. وَفِي كتاب (المولد) لِابْنِ عَابِد: كَانَ نورا يتلألأ. وَفِي (سيرة) ابْن أبي عَاصِم: عذرة كعذرة الْحَمَامَة. قَالَ أَبُو أَيُّوب: يعْنى فرطمة الْحَمَامَة، وَفِي (تَارِيخ نيسابور) : مثل البندقة من لحم مَكْتُوب فِيهِ بِاللَّحْمِ: (مُحَمَّد رَسُول الله) . وَعَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كتينة صَغِيرَة تضرب إِلَى الدهمة، وَكَانَت مِمَّا يَلِي الْقَفَا. قَالَت: فلمسته حِين توفّي فَوَجَدته قد رفع. وَقيل: كركبة العنز، وأسده أَبُو عمر عَن عباد بن عَمْرو، وَذكر الْحَافِظ ابْن دحْيَة فِي كِتَابه (التَّنْوِير) : كَانَ الْخَاتم الَّذِي بَين كَتِفي رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَأَنَّهُ بَيْضَة حمامة مَكْتُوب فِي بَاطِنهَا: (الله وَحده) : وَفِي ظَاهرهَا: (توجه حَيْثُ شِئْت فَإنَّك مَنْصُور) . ثمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب استنكره؛ قَالَ: وَقيل: كَانَ من نور. فَإِن قلت: هَل كَانَ خَاتم النُّبُوَّة بعد ميلاده أَو ولد هُوَ مَعَه؟ قلت: قيل: ولد وَهُوَ مَعَه، وَعَن ابْن عَائِد فِي (مغازيه) بِسَنَدِهِ إِلَى شَدَّاد بن أَوْس، فَذكر حَدِيث الرَّضَاع وشق الصَّدْر، وَفِيه: وَأَقْبل الثَّالِث. يعين الْملك وَفِي يَده خَاتم لَهُ شُعَاع فَوَضعه بَين كَتفيهِ وثدييه، وَوجد برده زَمَانا. وَفِي (الدَّلَائِل) لأبي نعيم: أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما ولد ذكرت أمه أَن الْملك غمسه فِي المَاء الَّذِي أنبعه ثَلَاث غمسات، ثمَّ أخرج صرة من حَرِير أَبيض، فَإِذا فِيهَا خَاتم، فَضرب على كَتفيهِ كالبيضة المكنونة تضيء كالزهرة: فان قلت: أَيْن كَانَ مَوْضِعه؟ قلت: قد رُوِيَ أَنه بَين كَتفيهِ. وَقيل: كَانَ على نغض كتفه اليسى، لِأَنَّهُ يُقَال: إِنَّه الْموضع الَّذِي يدْخل مِنْهُ الشَّيْطَان إِلَى بَاطِن الْإِنْسَان، فَكَانَ هَذَا عصمَة لَهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الشَّيْطَان. وَذكر أَبُو عمرَان، مَيْمُون بن مهْرَان، ذكر عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله عَنهُ: أَن رجلا سَأَلَ ربه أَن يرِيه مَوضِع الشَّيْطَان مِنْهُ، فَرَأى جسده ممهى يرى دَاخله من خَارجه، وَرَأى الشَّيْطَان فِي صُورَة ضفدع عِنْد نغض كتفه حداء قلبه، لَهُ خرطوم كخرطوم الْبَعُوضَة، وَقد أدخلهُ فِي مَنْكِبه الْأَيْسَر إِلَى قلبه

(3/78)


يوسوس إِلَيْهِ، فَإِذا ذكر الله تَعَالَى العَبْد خنس. ثمَّ الْحِكْمَة فِي الْخَاتم. على وَجه الِاعْتِبَار. أَن قلبه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما ملىء حِكْمَة وإيمانا، كَمَا فِي (الصَّحِيح) ، ختم عَلَيْهِ كَمَا يخْتم على الْوِعَاء المملوء مسكاً أَو درا، فَلم يجد عدوه سَبِيلا إِلَيْهِ من أجل ذَلِك الْخَتْم، لِأَن الشَّيْء الْمَخْتُوم محروس، وَكَذَا تَدْبِير الله، عز وَجل، فِي هَذِه الدُّنْيَا إِذا وجد الشَّيْء بختمه زَالَ الشَّك وَانْقطع الْخِصَام فِيمَا بَين الْآدَمِيّين، فَلذَلِك ختم رب العلمين فِي قلبه ختماً تطامن لَهُ الْقلب، وَبَقِي النُّور فِيهِ، ونفذت قُوَّة الْقلب إِلَى الصلب فظهرت بَين الْكَتِفَيْنِ كالبيضة، وَمن أجل ذَلِك برز بِالصّدقِ على أهل الْموقف، فَصَارَت لَهُ الشَّفَاعَة من بَين الرُّسُل بالْمقَام الْمَحْمُود، لِأَن ثَنَاء الصدْق هُوَ الَّذِي خصّه ربه بِمَا لم يخص بِهِ أحدا غَيره من الْأَنْبِيَاء، وَغَيرهم، يحققه قَول الله الْعَظِيم: {وَبشر الَّذين آمنُوا أَن لَهُم قدم صدق عِنْد رَبهم} (يُونُس: 2) قَالَ ابو سعيد الْخُدْرِيّ، وَقد صدق: هُوَ مُحَمَّد، عَلَيْهِ السَّلَام، شفيعكم يَوْم الْقِيَامَة، وَكَذَا قَالَ الْحسن وَقَتَادَة وَزيد بن أسلم: وَقَول الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا ذكره مُسلم من حَدِيث أبي بن كَعْب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وأخرت الثَّالِثَة ليَوْم ترغب إِلَيّ فِيهِ الْخلق كلهم حَتَّى إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: هَذَا الْخَاتم هُوَ أثر شقّ الْملكَيْنِ بَين كَتفيهِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا بَاطِل، لِأَن شقّ الْملكَيْنِ إِنَّمَا كَانَ فِي صَدره.
مشكلات مَا وَقع فِي هَذَا الْبَاب قَوْله: (فِي نغض كتفه الْيُسْرَى) ، بِضَم النُّون وَفتحهَا وَكسر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره ضاد مُعْجمَة، قَالَ ابْن الاثير: النغض والنغض والناغض: أَعلَى الْكَتف. وَقيل: هُوَ الْعظم الرَّقِيق الَّذِي على طرفه. قَوْله: (كأه جمع) ، بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْمِيم، مَعْنَاهُ: مثل جمع الْكَفّ، وَهُوَ أَن تجمع الْأَصَابِع وتضمها، وَمِنْه يُقَال: ضربه بِجمع كَفه. (و: الخيلان) بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء، جمع: خَال. قَوْله: (الثآليل) جمع: ثؤلول، وَهُوَ الْحبَّة الَّتِي تظهر فِي الْجلد كالحمصة فمادونها. قَوْله: (ردع حناء) ، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الدَّال وَفِي آخِره عين مُهْملَة: أَي لطخ حناء، والحناء، بِالْكَسْرِ وَالتَّشْدِيد وبالمد، مَعْرُوف. والحناءة أخص مِنْهُ. قَوْله: (أَلاَ أبطها) ؟ من البَطِّ، وَهُوَ: شقّ الدمل وَالْخَرَاج. قَوْله: (بضعَة نَاشِزَة) . الْبضْعَة، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْقطعَة من اللَّحْم. و: نَاشِزَة، بالنُّون والشين وَالزَّاي المعجمتين أَي: مُرْتَفعَة عَن الْجِسْم. قَوْله: (محتفرة) : أَي غائصة، وَأَصله من حفر الأَرْض.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الاول: فِيهِ بركَة الاسترقاء. الثَّانِي: فِيهِ الدّلَالَة على مسح رَأس الصَّغِير، وَكَانَ مولد السَّائِب الَّذِي مسح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأسه فِي السّنة الثَّانِيَة من الْهِجْرَة، وَشهد حجَّة الْوَدَاع، وَخرج مَعَ الصّبيان إِلَى ثنية الْوَدَاع يتلَقَّى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مقدمه من تَبُوك. الثَّالِث: فِيهِ الدّلَالَة على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل، وَإِن كَانَ المُرَاد من قَول السَّائِب بن يزِيد: فَشَرِبت من وضوئِهِ، وَهُوَ: المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة. وَقَالَ بَعضهم: هَذِه الْأَحَادِيث يَعْنِي الَّتِي فِي هَذَا الْبَاب. ترد عَلَيْهِ: أَي على أبي حنيفَة، لِأَن النَّجس لَا يتبرك بِهِ. قلت: قصد هَذَا الْقَائِل التشنيع على أبي حنيفَة بِهَذَا الرَّد الْبعيد، لِأَن لَيْسَ فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة مَا يدل صَرِيحًا على أَن المُرَاد من: فضل وضوئِهِ، هُوَ: المَاء الَّذِي تقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة. وَكَذَا فِي قَوْله: (كَانُوا يقتتلون على وضوئِهِ) ، وَكَذَا فِي قَول السَّائِب: (فَشَرِبت من وضوئِهِ) . وَلَئِن سلمنَا أَن المُرَاد هُوَ المَاء الَّذِي يتقاطر من أَعْضَائِهِ الشَّرِيفَة، فَأَبُو حنيفَة يُنكر هَذَا وَيَقُول بِنَجَاسَة ذَاك، حاشاه مِنْهُ، وَكَيف يَقُول ذَلِك هُوَ يَقُول بِطَهَارَة بَوْله وَسَائِر فضلاته؟ وَمَعَ هَذَا قد قُلْنَا: لم يَصح عَن أبي حنيفَة تنجيس المَاء الْمُسْتَعْمل، وفتوى الحنيفة عَلَيْهِ، فَانْقَطع شغب هَذَا المعاند. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَفِي إِجْمَاع أهل الْعلم على أَن البلل الْبَاقِي على أَعْضَاء المتوضىء، وَمَا قطر مِنْهُ على ثِيَابه، دَلِيل قوي على طَهَارَة المَاء الْمُسْتَعْمل. قلت: الْمثل.
حفظت شَيْئا وَغَابَتْ عَنْك أَشْيَاء.
وَالْمَاء الْبَاقِي على أَعْضَاء المتوضيء لَا خلاف لأحد فِي طَهَارَته، لِأَن من يَقُول بِعَدَمِ طهرته إِنَّمَا يَقُول بالانفصال عَن الْعُضْو، بل عِنْد بضعهم بالانفصال والاستقرار فِي مَكَان. وَأما المَاء الَّذِي قطر مِنْهُ على ثِيَابه فَإِنَّمَا سقط حكمه للضَّرُورَة لتعذر الِاحْتِرَاز عَنهُ.

41 - (بابُ مَنْ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدةٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من غرفَة وَاحِدَة، كَمَا فعله عبد الله بن زيد.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا من تعلقات الْوضُوء. فَالْأول: فِي الْوضُوء، بِالْفَتْح، وَالثَّانِي: فِي الْوضُوء، بِالضَّمِّ.

(3/79)


191 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدّثنى خالِدُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى عنْ أَبِيهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ أنَّهُ أفْرَغَ مِنَ الاِناءِ علَى يَدَيْهِ فَغَسَلهُمَا ثُمَّ غَسَلَ أوْ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ مِنْ كَفَّةٍ وَاحِدَةٍ فَفَعَلَ ذَلِكَ ثَلَاثًا فغَسَلَ وَجْهَهُ ثَلاَثاً ثُمَّ غَسَل يَدَيْهِ إِلَى المِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ومَسَحَ برَأُسِهِ مَا أَقْبلَ وَمَا أَدْبَرَ وَغَسَلَ رِجْلَيْهِ إِلَى الكَعْبَيْنِ ثُمَّ قالَ هَكَذَا وُضُوءُ رَسُول اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: مُسَدّد بِفَتْح الدَّال المسددة، وَقد تقدم فِي أول كتاب الايمان. الثَّانِي: خَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الوَاسِطِيّ، أَبُو الْهَيْثَم الطَّحَّان، يحْكى أَنه تصدق بزنة بدنه فضَّة ثَلَاث مَرَّات، مَاتَ سنة تسع وَسِتِّينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ابْن عمَارَة الْمَازِني الْأنْصَارِيّ، تقدم قَرِيبا. الرَّابِع: أَبوهُ يحيى، تقدم أَيْضا. الْخَامِس: عبد الله بن زيد الْأنْصَارِيّ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وواسطي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ فعل الصَّحَابِيّ ثمَّ إِسْنَاده إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد ذكرنَا عَن قريب أَن البُخَارِيّ قد أخرج حَدِيث عبد الله بن زيد فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَأخرجه مُسلم عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن خَالِد بن عبد الله بِسَنَدِهِ هَذَا من غير شكّ، وَلَفظه: (ثمَّ أَدخل يَده فاستخرجها فَمَضْمض واستنشق) : وَأخرجه أَيْضا الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق وهب بن بَقِيَّة عَن خَالِد كَذَلِك.
بَيَان لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (أفرغ) اي: صب المَاء فِي الْإِنَاء على يَدَيْهِ. قَوْله: (ثمَّ غسل) أَي: فَمه. قَوْله: (أَو مضمض) شكّ من الرَّاوِي. قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن الشَّك من يحيى. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَن الشَّك من مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ، ثمَّ قَالَ: وَأغْرب الْكرْمَانِي فَقَالَ: الظَّاهِر أَن الشَّك فِيهِ من التَّابِعِيّ: قلت: كل مِنْهُمَا مُحْتَمل، وَكَونه من الظَّاهِر من أَيْن بِلَا قرينَة؟ قَوْله: (من كفة) كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَر بن: (من كف) بِلَا هَاء، وَفِي بعض النّسخ: (من غرفَة وَاحِدَة) . وَقَالَ ابْن بطال: من كفة، أَي: من حفْنَة وَاحِدَة، فاشتق لذَلِك من اسْم الْكَفّ عبارَة عَن ذَلِك الْمَعْنى، وَلَا يعرف فِي كَلَام الْعَرَب إِلْحَاق هَاء التَّأْنِيث فِي الْكَفّ. وَقَالَ ابْن التِّين: اشتق بذلك من اسْم الْكَفّ، وَسمي الشَّيْء باسم مَا كَانَ فِيهِ. وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : هِيَ بِالضَّمِّ وَالْفَتْح مثل غرفَة وغرفة، أَي: مَلأ كَفه من مَاء. وَقَالَ بَعضهم: ومحصل ذَلِك أَن المُرَاد من قَوْله: (كَفه) فعلة فِي أَنَّهَا تَأْنِيث الْكَفّ. قلت: هَذَا مُحَصل غير حَاصِل، فَكيف يكون كفة تَأْنِيث كف، والكف مؤنث؟ وَالْأَقْرَب إِلَى الصَّوَاب مَا ذكره ابْن التِّين قَوْله: (فَغسل يَدَيْهِ إِلَى الْمرْفقين) . وَلَا يكون ذَلِك إلاَّ بعد غسل الْوَجْه، وَلم يذكر غسل الْوَجْه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: أَيْن ذكر غسل الْوَجْه؟ قلت: هُوَ من بَاب اخْتِصَار الحَدِيث وَذكر مَا هُوَ الْمَقْصُود، وَهُوَ الَّذِي ترْجم لَهُ الْبَاب مَعَ زِيَادَة بَيَان مَا اخْتلف فِيهِ من التَّثْلِيث فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق وَإِدْخَال الْمرْفق فِي الْيَد وتثنية غسل الْيَد وَمسح مَا أقبل وَأدبر من الرَّأْس وَغسل الرجل منتهياً إِلَى الكعب، وَأما غسل الْوَجْه فَأمره ظَاهر لَا احْتِيَاج لَهُ إِلَى الْبُنيان؛ فالتشبيه فِي: (هَكَذَا وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) لَيْسَ من جَمِيع الْوُجُوه، بل فِي حكم الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق. قلت: هَذَا جَوَاب لَيْسَ فِيهِ طائل، وَتصرف غير موجه، لِأَن هَذَا فِي بَاب التَّعْلِيم لغيره صفة الْوضُوء، فَيشْهد بذلك قَوْله: (هَكَذَا وضوء رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا جَاءَ فِي حَدِيث الآخر عَن عَمْرو بن يحيى الْمَازِني، عَن أَبِيه أَن رجلا قَالَ لعبد الله بن زيد، وَهُوَ حد عَمْرو بن يحيى: (أتستطيع أَن تريني كَيفَ كَانَ رَسُول الله يتَوَضَّأ) ؟ الحَدِيث ... وَقد مر عَن قريب، وكل مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن زيد فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث وَاحِد وَقد ذكر فِيهِ غسل الْوَجْه، وَكَذَا ثَبت ذَلِك فِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره، فَإِذا كَانَ هَذَا فِي بَاب التَّعْلِيم فَكيف يجوز لَهُ ترك فرض من فروض الْوضُوء وَذكر شَيْء من الزَّوَائِد؟ وَالظَّاهِر أَنه سقط من الرَّاوِي كَمَا أَنه شكّ فِي قَوْله: (ثمَّ غسل أَو مضمض) . وَقَول الْكرْمَانِي: واما غسل الْوَجْه فَأمره ظَاهر، غير ظَاهر، وَكَونه ظَاهرا عِنْد عبد الله بن زيد لَا يسْتَلْزم أَن يكون ظَاهرا عِنْد السَّائِل عَنهُ، وَلَو كَانَ ظَاهرا لما سَأَلَهُ. وَقَوله

(3/80)


: ذكر مَا هُوَ الْمَقْصُود، أَي: ذكر البُخَارِيّ مَا هُوَ الْمَقْصُود، وَهُوَ الَّذِي ترْجم لَهُ الْبَاب. قلت: كَانَ يَنْبَغِي أَن يقْتَصر على المضمضمة وَالِاسْتِنْشَاق فَقَط، كَمَا هُوَ عَادَته فِي تقطيع الحَدِيث لأجل التراجم، فَيتْرك اختصاراً ذكر فرض من الْفُرُوض القطعية، وَيذكر زَوَائِد لَا تطابق التَّرْجَمَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقد يُجَاب أَيْضا بِأَن الْمَفْعُول الْمَحْذُوف الْوَجْه، أَي: ثمَّ غسل وَجهه، وَحذف لظُهُوره، فأو، بِمَعْنى: الْوَاو، فِي قَوْله: (أَو مضمض) ، وَمن كفة وَاحِدَة يتَعَلَّق: بمضمض واستنشق فَقَط. قلت: هَذَا أقرب إِلَى الصَّوَاب لِأَنَّهُ لَا يُقَال فِي الْفَم فِي الْوضُوء إلاَّ مضمض، وَإِن كَانَ يُطلق عَلَيْهِ الْغسْل.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام قد تقدم، وَإِنَّمَا مُرَاد البُخَارِيّ هَهُنَا بَيَان أَن الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق من غرفَة وَاحِدَة، وَهَذَا أحد الْوُجُوه الْخَمْسَة الْمُتَقَدّمَة، وَلَيْسَ هَذَا حجَّة على من يرى خلاف هَذَا الْوَجْه، لِأَن الْكل نقل عَنهُ، عَلَيْهِ السَّلَام، بَيَانا للْجُوَاز.

42 - (بابُ مَسْحِ الرَّأْسِ مَرَّةً)

أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان مسح الرَّأْس مرّة وَاحِدَة. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.

192 - حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قالَ حدّثنا وُهَيْبٌ قَالَ حدّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيىَ عنْ أَبِيه قَالَ شَهدْتُ عَمْرَو بنَ أبي حَسَنِ سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ زَيْدٍ عنْ وُضُوءِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَدَعا بِتَوْرٍ مِنْ ماءٍ فَتَوَضَّأَ لهُمْ (فَكَفَأَهُ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسلَهُمَا ثَلاثاً ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فِي الاِناءِ) فَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ واسْتَنْثَرَ ثَلاثاً بِثَلاثِ غَرَفاتٍ مِنْ ماءٍ ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فِي الاناءِ فَغَسَلَ وَجْههُ ثَلَاثًا ثُمَّ اَدْخَلَ يَدَهُ فِي الاِناءِ فَغَسَلَ يَدَيْهِ الى المِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ اَدْخَلَ يَدَهُ فِي الاناءِ فمَسَح بِرَأْسِهِ فَأَقْبَل بِيَدَيْهِ وَادْبَرَ بِهِمَا ثُمَّ اَدْخَلَ يَدَهُ فِي الاِناءِ فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ..
قَوْله: (بَاب مسح الرَّأْس مرّة) ، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (بَاب مسح الرَّأْس مسحة) .
ومطابقة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي قَوْله: (فَمسح بِرَأْسِهِ) ، أَي: مرّة وَاحِدَة، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ شَيْئَانِ. أَحدهمَا: أَنه نَص على الثَّلَاث وعَلى مرَّتَيْنِ فِي غَيره. وَالثَّانِي: أَنه صرح بالمرة فِي حَدِيث مُوسَى عَن وهيب، كَمَا يذكرهُ الْآن، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى. قَوْله: (وهيب) هُوَ ابْن خَالِد. قَوْله: (فَدَعَا بتور من مَاء) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَدَعَا بِمَاء) ، لم يذكر: التور. قَوْله: (فكفأه) أَي: أماله، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فاكفأه) ، بِزِيَادَة همزَة فِي أَوله، وَهَذِه كلهَا مَضَت فِي بَاب غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ، والتفاوت بَينهمَا أَنه كرر لفظ: مرَّتَيْنِ، هَهُنَا وَزَاد: الْبَاء، فِي: مسح بِرَأْسِهِ. وَلَفظ: (ثمَّ ادخل يَده فِي الاناء) ، وَنقص لفظ: مرّة وَاحِدَة، مِنْهُ وَلَفظ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَل فرق بَين تكْرَار لفظ: مرَّتَيْنِ، وَعَدَمه غير التَّأْكِيد؟ قلت: هَذَا نَص فِي غسل كل يَد مرَّتَيْنِ، وَذَلِكَ ظَاهر فِيهِ.
وحدّثنا مُوسَى قَالَ حدّثنا وُهَيْبٌ قَالَ مَسَحَ رَأسَهُ مَرَّةً.

مُوسَى هُوَ ابْن إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي؛ ووهب هُوَ ابْن خَالِد، وَتَقَدَّمت طَرِيق مُوسَى هَذَا فِي بَاب غسل الرجلَيْن إِلَى الْكَعْبَيْنِ، وَذكر فِيهَا أَنه مسح الراس مرّة وَاحِدَة. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ الشَّافِعِي: الْمسنون ثَلَاث مسحات، وَالْحجّة عَلَيْهِ أَن الْمسنون يحْتَاج إِلَى شرع، وَحَدِيث عُثْمَان، رَضِي الله عَنهُ، وَإِن كَانَ فِيهِ: أَنه مسح بِرَأْسِهِ مرّة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الشَّرْع الَّذِي قَالَ الشَّافِعِي فِي مسنونية الثَّلَاث مَا روى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، مسح ثَلَاثًا، وَالْقِيَاس على سَائِر الْأَعْضَاء. قلت: روى أَبُو دَاوُد: حَدثنَا هَارُون بن عبد الله، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن آدم، قَالَ: حَدثنَا اسرائيل عَن عَامر عَن شَقِيق بن حَمْزَة عَن شَقِيق بن سَلمَة، قَالَ: (رَأَيْت عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، غسل ذِرَاعَيْهِ ثَلَاثًا، وَمسح رَأسه ثَلَاثًا، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل هَذَا) . قلت: الْمَذْكُور من حَدِيث الْجَمَاعَة هُوَ مسح الراس مرّة وَاحِدَة، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : أَحَادِيث عُثْمَان الصِّحَاح تدل على أَن مسح الرَّأْس مرّة، فَإِنَّهُم ذكرُوا الْوضُوء ثَلَاثًا

(3/81)


وَقَالُوا فِيهَا: مسح رَأسه، وَلم يذكرُوا عددا، كَمَا ذكرُوا فِي غَيره، وَوصف عبد الله بن زيد وضوء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: مسح براسه مرّة وَاحِدَة، مُتَّفق عَلَيْهِ. وَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه: (مسح رَأسه مرّة وَاحِدَة) . وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وَكَذَا وصف عبد الله بن أبي أوفى وَابْن عَبَّاس وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَالربيع، كلهم قَالُوا: وَمسح بِرَأْسِهِ مرّة وَاحِدَة، وَلم يَصح فِي أَحَادِيثهم شَيْء صَرِيح فِي تكْرَار الْمسْح. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: قد رُوِيَ من أوجه غَرِيبَة عَن عُثْمَان ذكرُ التّكْرَار فِي مسح الرَّأْس، إلاَّ أَنَّهَا مَعَ خلاف الْحفاظ الثِّقَات لَيست بِحجَّة عِنْد أهل الْمعرفَة، وَإِن كَانَ بعض أَصْحَابنَا يحْتَج بهَا. فان قلت: قد روى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن مُحَمَّد بن مَحْمُود الوَاسِطِيّ عَن شُعَيْب بن أَيُّوب عَن أبي يحيى الجماني عَن أبي حنيفَة عَن خَالِد بن عَلْقَمَة عَن عبد خير عَن عَلَيْهِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه تَوَضَّأ) الحَدِيث، وَفِيه: (وَمسح بِرَأْسِهِ ثَلَاثًا) ، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن عَلْقَمَة بن خَالِد. وَخَالفهُ جمَاعَة من الْحفاظ الثِّقَات عَن خَالِد بن عَلْقَمَة، فَقَالُوا فِيهِ: وَمسح رَأسه مرّة وَاحِدَة وَمَعَ خلَافَة إيَّاهُم قَالَ: إِن السّنة فِي الْوضُوء مسح الرَّأْس مرّة وَاحِدَة. قلت: الزِّيَادَة عَن الثِّقَة مَقْبُولَة، وَلَا سِيمَا من مثل أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ. وَأما قَوْله: فقد خَالف فِي حكم الْمسْح، غير صَحِيح، لِأَن تكْرَار الْمسْح مسنون عَن أبي حنيفَة أَيْضا، صرح بذلك صَاحب (الْهِدَايَة) : وَلَكِن بِمَاء وَاحِد. وَقَول الْكرْمَانِي وَالْقِيَاس على سَائِر الْأَعْضَاء، ردَّ بِأَن الْمسْح مَبْنِيّ على التَّخْفِيف، بِخِلَاف الْغسْل، وَلَو شرع التّكْرَار لصار صُورَة المغسول. وَقد اتّفق على كَرَاهَة غسل الرَّأْس بدل الْمسْح وَإِن كَانَ مجزياً. وَأجِيب: بِأَن الخفة تَقْتَضِي عدم الِاسْتِيعَاب، وَهُوَ مَشْرُوع بالِاتِّفَاقِ، فَلْيَكُن الْعدَد كَذَلِك ورد بِالْحَدِيثِ الْمَشْهُور الَّذِي رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة وَصَححهُ وَغَيره أَيْضا من طَرِيق عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ فِي صفة الْوضُوء حَيْثُ قَالَ: قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعد أَن فرغ: (من زَاد على هَذَا فقد أَسَاءَ وظلم) . فَإِن فِي رِوَايَة سعيد بن مَنْصُور التَّصْرِيح بِأَنَّهُ مسح رَأسه مرّة وَاحِدَة، فَدلَّ على أَن الزِّيَادَة فِي مسح الرَّأْس على الْمرة غير مُسْتَحبَّة، وَيحمل مَا رُوِيَ من الْأَحَادِيث فِي تثليث الْمسْح، إِن صحت على إِرَادَة الِاسْتِيعَاب بِالْمَسْحِ، لَا أَنَّهَا مسحات مُسْتَقلَّة لجَمِيع الرَّأْس، جمعا بَين هَذِه الْأَدِلَّة الْقَائِل بِهَذَا الرَّد هُوَ بَعضهم مِمَّن تصدى لشرح البُخَارِيّ، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ الثَّلَاث نَص فِيهِ، والاستيعاب بِالْمَسْحِ لَا يتَوَقَّف على الْعدَد، وَالصَّوَاب أَن يُقَال: الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الْمسْح ثَلَاثًا لَا يُقَاوم الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا الْمسْح مرّة وَاحِدَة، وَلذَلِك قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمن بعدهمْ. وَقَالَ ابو عمر ابْن عبد الْبر: كلهم يَقُول مسح الرَّأْس مسحة وَاحِدَة. فَإِن قلت: هَذَا الَّذِي ذكرته يرد على أبي حنيفه. قلت: لَا يرد أصلا، فَإِنَّهُ رأى التَّثْلِيث سنة لكَونه رَوَاهُ، وَلكنه شَرط أَن يكون بِمَاء وَاحِد، وَهَذَا خلاف مَا قَالَه الشَّافِعِي، رَحمَه الله، وَمَعَ هَذَا الْمَذْهَب: الْإِفْرَاد لَا التثليثْ، لما ذكرنَا.

43 - (بابُ وُضُوءِ الرَّجُلِ مَعَ إمْرَأَتِهِ وَفَضْلِ وَضُوءِ المَرْأَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته فِي إِنَاء وَاحِد، وَالْوُضُوء فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِضَم الْوَاو فِي الأول وَفِي الثَّانِي بِالْفَتْح، لِأَن المُرَاد من الأول وَالْفِعْل، وَمن الثَّانِي المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (وَفضل) بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: (وضوء الرجل) وَفِي بعض النّسخ: (بَاب وضوء الرجل مَعَ الْمَرْأَة) ، وَهُوَ أَعم من أَن تكون: امْرَأَته، أَو غَيرهَا.
وَتَوَضَّأَ عُمَرُ بِالحَمِيمِ مِنْ بَيْتِ نَصْرَانِيَّةٍ

هَذَا الْأَثر الْمُعَلق لَيْسَ لَهُ مُطَابقَة للتَّرْجَمَة أصلا، وَهَذَا ظَاهر كَمَا ترى. وَقَالَ بَعضهم: ومناسبته للتَّرْجَمَة من جِهَة الْغَالِب أَن أهل الرجل تبع لَهُ فِيمَا يفعل، فَأَشَارَ البُخَارِيّ إِلَى الرَّد على من منع الْمَرْأَة أَن تتطهر بِفضل الرجل، لِأَن الظَّاهِر أَن امْرَأَة عمر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَت تَغْتَسِل بفضله أَو مَعَه، فَنَاسَبَ قَوْله: وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته من إِنَاء وَاحِد. قلت: من لَهُ ذوق أَو إِدْرَاك يَقُول هَذَا الْكَلَام الْبعيد، فمراده من قَوْله: إِن اهل الرجل تبع لَهُ فِيمَا يفعل، فِي كل الْأَشْيَاء أَو فِي بضعهما؟ فَإِن كَانَ الأول فَلَا نسلم ذَلِك، وَإِن كَانَ الثَّانِي فَيجب التَّعْيِين. وَقَوله: لِأَن الظَّاهِر. إِلَى آخِره، أَي: ظَاهر دلّ على هَذَا. وَهل هَذَا إلاَّ حدس وتخمين؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه مناسبته للتَّرْجَمَة؟ قلت: غَرَض البُخَارِيّ فِي هَذَا الْكتاب لَيْسَ منحصراً

(3/82)


فِي ذكر متون الْأَحَادِيث، بل يُرِيد الإفادة أَعم من ذَلِك، وَلِهَذَا يذكر آثَار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وفتاوى السّلف وأقوال الْعلمَاء، ومعاني اللُّغَات وَغَيرهَا، فقصد هَهُنَا بَيَان التوضيء بِالْمَاءِ الَّذِي مسته النَّار وتسخن بهَا بِلَا كَرَاهَة دفعا لما قَالَ مُجَاهِد. قلت: هَذَا أعجب من الأول وَأغْرب، وَكَيف يُطَابق هَذَا الْكَلَام وَقد وضع أبواباً مترجمة، وَلَا بُد من رِعَايَة تطابق بَين تِلْكَ الْأَبْوَاب وَبَين الْآثَار الَّتِي يذكرهَا فِيهَا، وإلاَّ يعد من التخابيط؟ وَكَونه يذكر فَتَاوَى السّلف وأقوال الْعلمَاء ومعاني اللُّغَات لَا يدل على ترك المناسبات والمطابقات، وَهَذِه الْأَشْيَاء أَيْضا إِذا ذكرت بِلَا مُنَاسبَة يكون التَّرْتِيب مخبطاً، فَلَو ذكر شخص مَسْأَلَة فِي الطَّلَاق مثلا فِي كتاب الطَّهَارَة، أَو مَسْأَلَة من كتاب الطَّهَارَة فِي كتاب الْعتاق مثلا، نسب إِلَيْهِ التخبيط. ثمَّ هَذَا الْأَثر الأول وَصله سعيد بن مَنْصُور وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا بِإِسْنَاد صَحِيح بِلَفْظ: إِن عمر، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يتَوَضَّأ بالحميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ، وَرَوَاهُ ابي شيبَة وَالدَّارَقُطْنِيّ بِلَفْظ: (كَانَ يسخن لَهُ مَاء فِي حميم ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: إِسْنَاده صَحِيح.
قَوْله: (بالحميم) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة: وَهُوَ المَاء المسخن. وَقَالَ ابْن بطال: قَالَ الطَّبَرِيّ: هُوَ المَاء السخين، فعيل بِمَعْنى مفعول. وَمِنْه سمي الْحمام حَماما لإسخانه من دخله، والمحموم محموماً لسخونة جسده. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع أهل الْحجاز وَأهل الْعرَاق جَمِيعًا على الْوضُوء بِالْمَاءِ السخن غير مُجَاهِد فَإِنَّهُ كرهه. رَوَاهُ عَنهُ لَيْث بن أبي سليم. وَذكر الرَّافِعِيّ فِي كِتَابه: إِن الصَّحَابَة تطهروا بِالْمَاءِ المسخن بَين يَدي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يُنكر عَلَيْهِم هَذَا الْخَبَر. وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: لم أره فِي غير الرَّافِعِيّ! قلت: قد وَقع ذَلِك لبَعض الصَّحَابَة فِيمَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالْحسن بن سُفْيَان فِي (مُسْنده) ؛ وَأَبُو نعيم فِي (الْمعرفَة) ، وَالْمَشْهُور من طَرِيق الأسلع بن شريك، قَالَ: كنت أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأصابتني جَنَابَة فِي لَيْلَة بَارِدَة، وَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرحلة فَكرِهت أَن أرحل نَاقَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا جنب، وخشيت أَن اغْتسل بِالْمَاءِ الْبَارِد فأموت أَو أمرض، فَأمرت رجلا من الْأَنْصَار يرحلها، وَوضعت أحجاراً فاسخنت بهَا مَاء فاغتسلت، ثمَّ لحقت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرت ذَلِك لَهُ فَأنْزل الله تَعَالَى: {يَا ايها الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وانتم سكارى} (النِّسَاء: 43) إِلَى {غَفُورًا} (النِّسَاء: 43) وَفِي سَنَده: الْهَيْثَم بن زُرَيْق الرَّاوِي لَهُ عَن أَبِيه عَن الأسلع مَجْهُولَانِ، والْعَلَاء بن الْفضل رَاوِيه عَن الْهَيْثَم وَفِيه ضعف، وَقد قيل: إِنَّه تفرد بِهِ. وَقد رُوِيَ ذَلِك عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة مِنْهُم عمر بن الْخطاب، رَضِي الله عَنهُ، كَمَا ذكره البُخَارِيّ، وَمِنْهُم سَلمَة بن الْأَكْوَع أَنه كَانَ يسخن المَاء يتَوَضَّأ بِهِ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد صَحِيح، وَمِنْهُم ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَنه قَالَ: (إِنَّا نَتَوَضَّأ بالحميم وَقد أغلي على النَّار) ، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن مُحَمَّد بن بشر عَن مُحَمَّد بن عَمْرو: حَدثنَا سملة، قَالَ: قَالَ ابْن عَبَّاس. وَمِنْهُم ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع: أَن ابْن عمر كَانَ يتَوَضَّأ بالحميم.
قَوْله: (وَمن بَيت نَصْرَانِيَّة) وَهُوَ الْأَثر الثَّانِي، وَهُوَ عطف على قَوْله: (بالحميم) أَي: وَتَوَضَّأ عمر من بَيت نَصْرَانِيَّة. وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة بِحَذْف الْوَاو من قَوْله: (وَمن بَيت) ، وَهَذَا غير صَحِيح لِأَنَّهُمَا أثران مستقلان، فَالْأول ذَكرْنَاهُ، وَالثَّانِي الَّذِي علقه البُخَارِيّ وَوَصله الشَّافِعِي وَعبد الرَّزَّاق وَغَيرهمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن زيد بن أسلم عَن أَبِيه: (أَن عمر تَوَضَّأ من مَاء نَصْرَانِيَّة فِي جر نَصْرَانِيَّة) ، وَهَذَا لفظ الشَّافِعِي. وَقَالَ الْحَافِظ أَبُو بكر الْحَازِمِي: رَوَاهُ خَلاد بن أسلم عَن سُفْيَان بِسَنَدِهِ فَقَالَ: (مَاء نَصْرَانِيّ) ، بالتذكير. وَالْمَحْفُوظ مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي: (نَصْرَانِيَّة) ، بالتأنيث. وَفِي (الام) للشَّافِعِيّ: من جرة نَصْرَانِيَّة، بِالْهَاءِ فِي آخرهَا. وَفِي (الْمُهَذّب) لأبي إِسْحَاق: جر نَصْرَانِيّ، وَقَالَ: صَحِيح. وَذكر ابْن فَارس فِي (حلية الْعلمَاء) : هَذَا سلاخة عرقوب الْبَعِير يَجْعَل وعَاء للْمَاء، فَإِن قلت: مَا وَجه تطابق هَذَا الاثر للتَّرْجَمَة؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: بِنَاء على حذف وَاو الْعَطف من قَوْله: (وَمن بَيت نَصْرَانِيَّة) ، ومعتقداً أَنه أثر وَاحِد لما كَانَ هَذَا الاخير الَّذِي هُوَ مُنَاسِب لترجمة الْبَاب من فعل عمر، رَضِي الله عَنهُ. ذكر الْأَمر الأول أَيْضا، وَإِن لم يكن مناسباً لَهَا، لاشْتِرَاكهمَا فِي كَونهمَا من فعله تكثيراً للفائدة واختصاراً فِي الْكتاب. وَيحْتَمل أَن يكون هَذَا قصَّة وَاحِدَة، أَي: تَوَضَّأ من بَيت النَّصْرَانِيَّة بِالْمَاءِ الْحَمِيم، وَيكون الْمَقْصُود ذكر اسْتِعْمَال سُؤْر الْمَرْأَة النَّصْرَانِيَّة، وَذكر الْحَمِيم إِنَّمَا هُوَ لبَيَان الْوَاقِع، فَتكون مناسبته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة قلت: هَذَا مِنْهُ لعدم إطلاعه فِي كتب الْقَوْم، فَظن أَنه أثر وَاحِد، وَقد عرفت أَنَّهُمَا أثران مستقلان. ثمَّ ادّعى أَن الْأَمر الْأَخير مُنَاسِب للتَّرْجَمَة، فهيهات أَن يكون مناسباً، لِأَن الْبَاب فِي وضوء الرجل مَعَ امْرَأَته، وَفضل وضوء الْمَرْأَة؟ فَأَي وَاحِد من هذَيْن مُنَاسِب لهَذَا؟ وَأي وَاحِد من هذَيْن يدل على ذَلِك؟ أما توضؤ عمر بالحميم فَلَا يدل على شَيْء من ذَلِك ظَاهرا، وَأما توضؤ عمر

(3/83)


من بَيت نَصْرَانِيَّة فَهَل يدل على أَن وضوءه كَانَ من فضل هَذِه النَّصْرَانِيَّة؟ فَلَا يدل وَلَا يسْتَلْزم ذَلِك. فَمن ادّعى ذَلِك فَعَلَيهِ الْبَيَان بالبرهان.
وَقَالَ بَعضهم الثَّانِي مُنَاسِب لقَوْله: وَفضل وضوء الْمَرْأَة، لِأَن عمر، رَضِي الله عَنهُ، تَوَضَّأ بِمَائِهَا، وَفِيه دَلِيل على جَوَاز التطهر بِفضل وضوء المراة الْمسلمَة لِأَنَّهَا لَا تكون أَسْوَأ حَالا من النَّصْرَانِيَّة. قلت: التَّرْجَمَة فضل وضوء الْمَرْأَة، والنصرانية هَل لَهَا فضل وضوء حَتَّى يكون التطابق بَينه وَبَين التَّرْجَمَة؟ فَقَوله: من بَيت نَصْرَانِيَّة لَا يدل على أَن المَاء كَانَ من فضل اسْتِعْمَال النَّصْرَانِيَّة، وَلِأَن المَاء كَانَ لَهَا. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة الشَّافِعِي: من مَاء نَصْرَانِيَّة فِي جر نَصْرَانِيَّة، قلت: نعم، وَلَكِن لَا يدل على أَنه كَانَ من فضل اسْتِعْمَالهَا، وَالَّذِي يدل عَلَيْهِ هَذَا الْأَثر جَوَاز اسْتِعْمَال مِيَاههمْ، وَلَكِن يكره اسْتِعْمَال أوانيهم وثيابهم. سَوَاء فِيهِ أهل الْكتاب وَغَيرهم. وَقَالَ الشَّافِعِيَّة: وأوانيهم المستعملة فِي المَاء أخف كَرَاهَة، فَإِن تَيَقّن طَهَارَة أوانيهم أَو ثِيَابهمْ فَلَا كَرَاهَة إِذا فِي اسْتِعْمَالهَا. قَالُوا: وَلَا نعلم فِيهَا خلافًا، وَإِذا تطهر من إِنَاء كَافِر وَلم يتَيَقَّن طَهَارَته وَلَا نَجَاسَته، فَإِن كَانَ من قوم لَا يتدينون باستعمالها صحت طَهَارَته قطعا، وَإِن كَانَ من قوم يتدينون باستعمالها فَوَجْهَانِ: أصَحهمَا: الصِّحَّة، وَالثَّانِي: الْمَنْع. وَمِمَّنْ كَانَ لَا يرى بَأْسا بِهِ: الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أعلم أحدا كرهه إلاَّ أَحْمد وَإِسْحَاق. قلت: وتبعهما أهل الظَّاهِر، وَاخْتلف قَول مَالك فِي هَذَا، فَفِي (الْمُدَوَّنَة) : لَا يتَوَضَّأ بسؤر النَّصْرَانِي وَلَا بِمَاء أَدخل يَده فِيهِ. وَفِي (الْعُتْبِيَّة) أجَازه مرّة وَكَرِهَهُ أُخْرَى. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الام) : لَا بَأْس بِالْوضُوءِ من مَاء الْمُشرك وبفضل وضوئِهِ مَا لم يعلم فِيهِ نَجَاسَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: انْفَرد إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ بِكَرَاهَة فضل الْمَرْأَة إِن كَانَت جنبا.

193 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ: أخبرنَا مالِكٌ عنْ نافِعٍ عنْ عبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ انَّهُ قالَ كانَ الرِّجالُ والنِّسَاءُ

(3/84)


يَتَوَضَّؤُنَ فِي زَمانِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جمِيعاً.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَنَّهُ يدل على التَّرْجَمَة صَرِيحًا، لِأَن الْمَذْكُور فِيهَا شَيْئَانِ، والْحَدِيث لَيْسَ فِيهِ إلاَّ شَيْء وَاحِد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يدل على الأول صَرِيحًا، وعَلى الثَّانِي التزاماً. فَإِن قلت: هَذَا لَا يدل على أَن الرِّجَال وَالنِّسَاء كَانُوا يتوضؤون من إِنَاء وَاحِد. قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وروى هَذَا الحَدِيث مُحَمَّد بن النُّعْمَان عَن مَالك بِلَفْظ: (من الميضأة) . وَفِي رِوَايَة القعْنبِي وَابْن وهب عَنهُ: (كَانُوا يتوضؤون زمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْإِنَاء الْوَاحِد) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر قَالَ: (كُنَّا نَتَوَضَّأ نَحن وَالنِّسَاء من إِنَاء وَاحِد على عهد رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ندلي فِيهِ أَيْدِينَا) ، وَلَا شكّ أَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة كلهم تقدمُوا، وَعبد الله هُوَ التنيسِي.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني. وَمِنْهَا: أَن هَذَا السَّنَد من سلسلة الذَّهَب، وَعَن البُخَارِيّ: أصح أَسَانِيد مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر.
بَيَان الْمعَانِي قَالَ بَعضهم ظَاهر: (كَانَ الرِّجَال) التَّعْمِيم، لَكِن: اللَّام، للْجِنْس لَا للاستغراق. قلت: أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: يُقرر فِي علم الْأُصُول أَن الْجمع الْمحلى بِالْألف وَاللَّام للاستغراق، فَمَا حكمه هَهُنَا؟ قلت: قَالُوا بِعُمُومِهِ إِلَّا إِذا دلّ الدَّلِيل على الْخُصُوص، وَهَهُنَا الْقَرِينَة العادية مخصصة بالبغض. قلت: الْجمع مثل الرِّجَال وَالنِّسَاء وَمَا فِي مَعْنَاهُ من الْعَام المتناول للمجموع إِذا عرّف بِاللَّامِ يكون مجَازًا عَن الْجِنْس، مثلا إِذا قلت: فلَان يركب الْخَيل ويلبس الثِّيَاب الْبيض، يكون للْجِنْس للْقطع بِأَن لَيْسَ الْقَصْد إِلَى عهد أَو استغراق، فَلَو حلف لَا يتَزَوَّج النِّسَاء وَلَا يَشْتَرِي العبيد أَو لَا يكلم النَّاس يَحْنَث بِالْوَاحِدِ، إِلَّا أَن يَنْوِي الْعُمُوم فَلَا يَحْنَث قطّ، لِأَنَّهُ نوى حَقِيقَة كَلَامه، ثمَّ هَذَا الْجِنْس بِمَنْزِلَة النكرَة يخص فِي الْإِثْبَات، كَمَا إِذا حلف أَن يركب الْخَيل يحصل الْبر بركوب وَاحِد، ثمَّ قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء) إِثْبَات فَيَقَع على الْأَقَل بِقَرِينَة الْعَادة، وَإِن كَانَ يحْتَمل الْكل. فَإِن قلت: لَا يصلح التَّمَسُّك بِهِ لِأَن قَوْله: (جَمِيعًا) يُنَافِي وُقُوعه على الْأَقَل. قلت: مَعْنَاهُ مُجْتَمعين، فالاجتماع رَاجع إِلَى حَالَة كَونهم يتوضؤون لَا إِلَى كَون الرِّجَال وَالنِّسَاء مُطلقًا. فَافْهَم. فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي. فان قلت: لَا يَصح التَّمَسُّك بِهِ، لِأَن فعل البغض لَيْسَ بِحجَّة. قلت: التَّمَسُّك لَيْسَ بِالْإِجْمَاع بل بتقرير الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. أَقُول: حَاصِل السُّؤَال أَنه لَا يَصح التَّمَسُّك بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عمر من قَوْله: (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء يتوضؤون فِي زمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) لِأَنَّك قد قلت: إِن المُرَاد الْبَعْض لقِيَام الْقَرِينَة عَلَيْهِ بذلك، واجتماع الْكل مُتَعَذر، فَلَا يكون حجَّة لعدم الْإِجْمَاع عَلَيْهِ، وَحَاصِل الْجَواب أَن التَّمَسُّك لَيْسَ بطرِيق الِاجْتِمَاع، بل بِأَن الرَّسُول، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قررهم على ذَلِك وَلم يُنكر عَلَيْهِم، فَيكون ذَلِك حجَّة للْجُوَاز. وَقد ذكر أهل الْأُصُول أَن قَول الصَّحَابِيّ: كَانَ النَّاس يَفْعَلُونَ، وَنَحْو ذَلِك، حجَّة فِي الْعَمَل. لَا سِيمَا إِذا قيد الصَّحَابِيّ ذَلِك بِزَمن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: لِمَ لَا يكون من بَاب الْإِجْمَاع السكوتي، وَهُوَ حجَّة عِنْد الْأَكْثَر؟ قلت: لَا يتَصَوَّر الْإِجْمَاع إلاَّ بعد وَفَاة رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ أَن الصَّحَابِيّ إِذا أسْند الْفِعْل إِلَى زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يكون حكمه الرّفْع عِنْد الْجُمْهُور، خلافًا لقوم. وَقَالَ بعضهمم: يُسْتَفَاد مِنْهُ أَن البُخَارِيّ يرى ذَلِك. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن البُخَارِيّ وضع هَذَا الْمَرْوِيّ عَن ابْن عمر لبَيَان جَوَاز وضوء الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا من إِنَاء وَاحِد، وَمَعَ هَذَا لَا يُطَابق هَذَا تَرْجَمَة الْبَاب بِحَسب الظَّاهِر كَمَا قَرَّرْنَاهُ.
الثَّانِي فِيهِ دَلِيل على جَوَاز توضيء الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد. وَأما فضل الْمَرْأَة فَيجوز عِنْد الشَّافِعِي الْوضُوء بِهِ أَيْضا للرجل، سَوَاء خلت بِهِ أَو لَا. قَالَ الْبَغَوِيّ، وَغَيره: فَلَا كَرَاهَة فِيهِ للأحاديث الصَّحِيحَة فِيهِ، وَبِهَذَا قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَجُمْهُور الْعلمَاء. وَقَالَ أَحْمد وَدَاوُد: لَا يجوز إِذا خلت بِهِ، وَرُوِيَ هَذَا عَن عبد الله بن سرجس وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَرُوِيَ عَن أَحْمد كمذهبنا، وَعَن ابْن الْمسيب وَالْحسن كَرَاهَة فَضلهَا مُطلقًا. وَحكى ابو عمر فِيهَا خَمْسَة مَذَاهِب: أَحدهَا: أَنه لَا بَأْس أَن يغْتَسل الرجل بفضلها مَا لم تكن جنبا أَو حَائِضًا. وَالثَّانِي: يكره أَن يتَوَضَّأ بفضلها وَعَكسه. وَالثَّالِث: كَرَاهَة فَضلهَا لَهُ والرخصة فِي عَكسه. وَالرَّابِع: لَا بَأْس بشروعهما مَعًا، وَلَا ضير فِي فَضلهَا، وَهُوَ قَول احْمَد. وَالْخَامِس: لَا بَأْس بِفضل كل مِنْهُمَا شرعا جَمِيعًا أَو خلا كل وَاحِد مِنْهُم بِهِ، وَعَلِيهِ فُقَهَاء الْأَمْصَار.
اما اغتسال الرِّجَال وَالنِّسَاء من إِنَاء وَاحِد، فقد نقل الطَّحَاوِيّ والقرطبي وَالنَّوَوِيّ الِاتِّفَاق على جَوَاز ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه نظر لما حَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يُنْهِي عَنهُ. وَكَذَا حَكَاهُ ابْن عبد الْبر عَن قوم. قلت: فِي نظره نظر، لأَنهم قَالُوا بالِاتِّفَاقِ دون الْإِجْمَاع، فَهَذَا الْقَائِل لم يعرف الْفرق بَين الِاتِّفَاق والاجماع، على أَنه روى جَوَاز ذَلِك عَن تِسْعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وهم: عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عَبَّاس وَجَابِر وَأنس وَأَبُو هُرَيْرَة وَعَائِشَة وَأم سَلمَة وَأم هانىء ومَيْمُونَة. فَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله عَنهُ، عَن أَحْمد قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث عِكْرِمَة عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَعَائِشَة اغتسلا من إِنَاء وَاحِد من جَنَابَة، وتوضآ جَمِيعًا للصَّلَاة) ؛ وَحَدِيث جَابر، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأزواجه يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ؛ وَحَدِيث أنس عِنْد البُخَارِيّ عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن جُبَير عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل هُوَ وَالْمَرْأَة من نِسَائِهِ من الْإِنَاء الْوَاحِد) . وروى الطَّحَاوِيّ نَحوه عَن أبي بكرَة القَاضِي؛ وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنهُ، عِنْد الْبَزَّار فِي (مُسْنده) قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَهله أَو بعض أَهله. يغتسلون من إِنَاء وَاحِد) ؛ وَحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، عِنْد الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ، قَالَ: (كنت اغْتسل أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد فَيبْدَأ قبلي) ؛ وَحَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي، قَالَت: (كنت أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من إِنَاء وَاحِد) ، وَأخرجه البُخَارِيّ بأتم مِنْهُ، وَحَدِيث أم هانىء، رَضِي الله عَنْهَا، عِنْد النَّسَائِيّ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل هُوَ ومَيْمُونَة من إِنَاء وَاحِد فِي قَصْعَة فِيهَا أثر الْعَجِين) ؛ وَحَدِيث مَيْمُونَة عِنْد التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، قَالَ: حَدَّثتنِي مَيْمُونَة، قَالَت: (كنت اغْتسل أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد من الْجَنَابَة) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، فَهَذِهِ الْأَحَادِيث كلهَا حجَّة على من يكره أَن يتَوَضَّأ الرجل بِفضل الْمَرْأَة، أَو تتوضأ الْمَرْأَة بِفضل الرجل، وَبَقِي الْكَلَام فِي ابْتِدَاء أَحدهمَا قبل الآخر. وَجَاء حَدِيث بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اغْتَسَلت من جَنَابَة، فجَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليتوضأ مِنْهَا أَو يغْتَسل. فَقَالَت لَهُ: يَا رَسُول الله إِنِّي كنت جنبا فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن المَاء لَا يجنب) . وَجَاء أَيْضا حَدِيث أم حَبِيبَة الجهنية عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي قَالَت: (رُبمَا اخْتلفت يَدي وَيَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْوضُوء من إِنَاء وَاحِد) ، وَهَذَا فِي حق الْوضُوء. قَالَ الطَّحَاوِيّ: هَذَا يدل على أَن أَحدهمَا كَانَ يَأْخُذ من المَاء بعد صَاحبه.
فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عبد الله بن سرجس، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يغْتَسل الرجل بِفضل

(3/85)


المراة وَالْمَرْأَة بِفضل الرجل، وَلَكِن يشرعان جَمِيعًا) ، وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث الحكم الْغِفَارِيّ، قَالَ: (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يتَوَضَّأ الرجل بِفضل الْمَرْأَة أَو بسؤر الْمَرْأَة، لَا يدْرِي أَبُو حَاجِب أَيهمَا قَالَ) . وَأَبُو حَاجِب هُوَ الَّذِي روى عَن الحكم، وَاسم أبي حَاجِب: سوَادَة بن عَاصِم الْعَنزي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه والطَّحَاوِي، وَرُوِيَ أَيْضا عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: (كنت لقِيت من صحب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَمَا صَحبه أَبُو هُرَيْرَة أَربع سِنِين، قَالَ: نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، فَذكر مثله، أخرجه الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي الْمعرفَة. قلت: نقل عَن الإِمَام أَحْمد أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي منع التطهر بِفضل الْمَرْأَة، وَفِي جَوَاز ذَلِك مضطربة، قَالَ: لَكِن صَحَّ من الصَّحَابَة الْمَنْع فِيمَا إِذا دخلت بِهِ، وَلَكِن يُعَارض هَذَا مَا رُوِيَ بِصِحَّة الْجَوَاز عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة الَّذين ذَكَرْنَاهُمْ.
وَأشهر الْأَحَادِيث عِنْد المانعين: حَدِيث عبد الله ابْن سرجس، وَحَدِيث حكم الْغِفَارِيّ. وَأما حَدِيث عبد الله بن سرجس، فَإِنَّهُ رُوِيَ مَرْفُوعا وموقوفاً. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: الْمَوْقُوف أولى بِالصَّوَابِ، وَقد قَالَ البُخَارِيّ: أَخطَأ من رَفعه. قلت: الحكم للرافع، لِأَنَّهُ زَاد: والراوي قد يُفْتِي بالشَّيْء ثمَّ يرويهِ مرّة أُخْرَى، وَيجْعَل الْمَوْقُوف فَتْوَى فَلَا يُعَارض الْمَرْفُوع، وَصَححهُ ابْن حزم مَرْفُوعا من حَدِيث عبد الْعَزِيز بن الْمُخْتَار الَّذِي فِي مُسْنده، والشيخان أخرجَا لَهُ، وَوَثَّقَهُ ابْن معِين وَأَبُو حَاتِم وَأَبُو زرْعَة، فَلَا يضرّهُ وقف من وَقفه. وَتوقف ابْن الْقطَّان فِي تَصْحِيحه لِأَنَّهُ لم يره إلاَّ فِي كتاب الدَّارَقُطْنِيّ، وَشَيخ الدَّارَقُطْنِيّ فِيهِ لَا يعرف حَاله. قلت: شَيْخه فِيهِ عبد الله بن مُحَمَّد بن سعد المَقْبُري، وَلَو رَآهُ عِنْد ابْن مَاجَه أَو عِنْد الطَّحَاوِيّ لما توقف، لَان ابْن مَاجَه رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن المعلي بن أَسد، والطَّحَاوِي رَوَاهُ مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، وهما مشهوران. وَأما حَدِيث الحكم الْغِفَارِيّ، فَقَالَت جمَاعَة من أهل الحَدِيث، إِن هَذَا الحَدِيث لَا يَصح، وَأَشَارَ الْخطابِيّ أَيْضا إِلَى عدم صِحَّته، وَقَالَ ابْن مَنْدَه: لَا يثبت من جِهَة السَّنَد. قلت: لما أخرجه التِّرْمِذِيّ قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وَرجحه ابْن مَاجَه على حَدِيث عبد الله بن سرجس، وَصَححهُ ابْن حبَان وَأَبُو مُحَمَّد الْفَارِسِي، وَالْقَوْل قَول من صَححهُ لَا من ضعفه، لِأَنَّهُ مُسْند ظَاهره السَّلامَة من تضعف وَانْقِطَاع، وَقَالَ ابْن قدامَة: الحَدِيث رَوَاهُ أَحْمد وَاحْتج بِهِ، وتضعيف البُخَارِيّ لَهُ بعد ذَلِك لَا يقبل لاحْتِمَال أَن يكون وَقع لَهُ من غير طَرِيق صَحِيح، وَيرد بِهَذَا أَيْضا قَول النَّوَوِيّ: اتّفق الْحفاظ على تَضْعِيفه.
الثَّالِث من الْأَحْكَام أَن ظَاهر الحَدِيث يدل على جَوَاز تنَاول الرِّجَال وَالنِّسَاء المَاء فِي حَالَة وَاحِدَة، وَحكى ابْن التِّين عَن قوم: أَن الرِّجَال وَالنِّسَاء كَانُوا يتوضؤون جَمِيعًا من إِنَاء وَاحِد، هَؤُلَاءِ على حِدة وَهَؤُلَاء على حِدة. قلت: الزِّيَادَة فِي الحَدِيث وَهُوَ قَوْله: (من إِنَاء وَاحِد) يرد عَلَيْهِم، وَكَأَنَّهُم استبعدوا إجتماع الرِّجَال وَالنِّسَاء الأجنبيات، وَأجَاب ابْن التِّين عَن ذَلِك بِمَا حَكَاهُ عَن سَحْنُون أَن مَعْنَاهُ كَانَ الرِّجَال يتوضؤون ويذهبون، ثمَّ تَأتي النِّسَاء فيتوضأن. قلت: هَذَا خلاف الَّذِي يدل عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَمَعَ هَذَا جَاءَ صَرِيحًا وحدة الْإِنَاء فِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) فِي هَذَا الحَدِيث من طَرِيق مُعْتَمر عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَنه أبْصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه يتطهرون، وَالنِّسَاء مَعَهم، من إِنَاء وَاحِد كلهم يتطهرون مِنْهُ) . قيل: وَلنَا أَن نقُول: مَا كَانَ مَانع من ذَلِك قبل نزُول آيَة الْحجاب، وَأما بعده فَيخْتَص بالزوجات والمحارم، وَفِيه نظر، وَالله تَعَالَى أعلم.

44 - (بابُ صَبِّ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضوءَهُ علَى المُغْمَى عَلَيهِ)

أَي: هَذَا فِي بَيَان صب النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وضوء، بِفَتْح الْوَاو: وَهُوَ المَاء الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ على من أُغمي عَلَيْهِ، يُقَال: أُغمي عَلَيْهِ، بِضَم الْهمزَة، فَهُوَ مغمى عَلَيْهِ، وغمي بِضَم الْغَيْن وَتَخْفِيف الْمِيم فَهُوَ مغمى عَلَيْهِ، بِصِيغَة الْمَفْعُول، لِأَن أَصله مغموي على وزن: مفعول، اجْتمعت الْوَاو وَالْيَاء وسبقت إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ فقلبت يَاء، ثمَّ أدغمت الْيَاء فِي الْيَاء، فَصَارَ: مغمى، بِضَم الْمِيم الثَّانِيَة وَتَشْديد الْيَاء، ثمَّ أبدلت من ضمة الْمِيم كسرة لأجل الْيَاء، فَصَارَ مغمى، وَالْإِغْمَاء والغشي بِمَعْنى وَاحِد. قَالَه الْكرْمَانِي: وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الغشي مرض يحصل من طول التَّعَب، وَهُوَ أخف من الْإِغْمَاء، وَالْفرق بَينه وَبَين الْجُنُون وَالنَّوْم أَن الْعقل يكون فِي الْإِغْمَاء مَغْلُوبًا، وَفِي الْجُنُون يكون مسلوباً، وَفِي النّوم يكون مَسْتُورا.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي كل وَاحِد مِنْهُمَا نوعا من الْوضُوء.

(3/86)


194 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ عنْ مُحَمَّدِ بن المِنْكَدِرِ قالَ سَمِيْتُ جابِراً يَقُولُ جاءَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعُودُني وَانَا مَرِيضٌ لاَ اَعْقلُ فَتَوَضَّأَ وَصَبَّ علَيَّ مِنْ وَضُوئِهِ فَعَقَلْتُ فَقُلْتُ يَا رسولَ اللَّهِ لِمَنِ المِيرَاثُ إنَّمَا يَرِثُنِي كَلاَلَةٌ فَنزلَتْ آيَةُ الفَرَائِضِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: أَبُو الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ هِشَام بن عبد الْملك، تقدم فِي كتاب الايمان. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث: مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر التَّيْمِيّ الْقرشِي التَّابِعِيّ الْمَشْهُور، الْجَامِع بَين الْعلم والزهد، وَكَانَ الْمُنْكَدر خَال عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَشكى إِلَيْهَا الْحَاجة فَقَالَت لَهُ: أول شَيْء يأتيني أبْعث بِهِ إِلَيْك، فَجَاءَهَا عشرَة آلَاف دِرْهَم، فَبعثت بهَا إِلَيْهِ فَاشْترى مِنْهَا جَارِيَة فَولدت لَهُ مُحَمَّدًا إِمَامًا متألهاً بكاء، مَاتَ سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: جَابر بن عبد الله الصَّحَابِيّ الْكَبِير، تقدم فِي كتاب الْوَحْي.
بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني وَمِنْهَا: أَنهم كلهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا عَن أبي الْوَلِيد، وَفِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر، وَفِي الْفَرَائِض عَن عبد الله بن عُثْمَان عَن عبد الله بن الْمُبَارك. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَرَائِض عَن مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بهز بن أَسد، عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن النَّضر بن شُمَيْل وَأبي عَامر الْعَقدي، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن وهب بن جرير. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ، وَفِي الطَّهَارَة، وَفِي التَّفْسِير، وَفِي الطِّبّ عَن مُحَمَّد بن الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث، ثمانيتهم عَنهُ بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْمعْنَى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (يَقُول) جملَة وَقعت حَالا، وَكَذَا قَوْله: (يعودنِي) . وَكَذَا قَوْله: (وَأَنا مَرِيض لَا أَعقل) اي: لَا أفهم، وَحذف مَفْعُوله إِمَّا للتعميم أَي: لَا أَعقل شَيْئا، أَو لجعله كالفعل اللَّازِم. قَوْله: (من وضوئِهِ) ، بِفَتْح الْوَاو: مَعْنَاهُ من المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ، أَو مِمَّا بَقِي مِنْهُ. وَأخرج فِي الِاعْتِصَام عَن عَليّ بن عبد الله: ثمَّ صب وضوءه عَليّ، وَلأبي دَاوُد: (فَتَوَضَّأ وصبه عَليّ) . قَوْله: (لمن الْمِيرَاث) ؟ الْألف وَاللَّام فِيهِ عوض عَن يَاء الْمُتَكَلّم، أَي: لمن ميراثي، وَيُؤَيِّدهُ مَا أخرجه فِي الِاعْتِصَام أَنه قَالَ: (كَيفَ اصْنَع فِي مالى) ؛ وَفِي رِوَايَة: (مَا تَأْمُرنِي أَن أصنع فِي مَالِي) ؟ وَفِي أُخْرَى: (كَيفَ أَقْْضِي فِي مَالِي) ، وَفِي أُخْرَى: (إِنَّمَا ترثني سبع أَخَوَات) ، وَفِي أُخْرَى فَنزلت: {يُوصِيكُم الله فِي أَوْلَادكُم} (النِّسَاء: 11) . قَوْله: (كَلَالَة) فِيهَا أَقْوَال أَصَحهَا: مَا عدا الْوَالِد وَالْولد، وَفِيه حَدِيث صَحِيح من طَرِيق الْبَراء بن عَازِب. وَقيل: مَا عدا الْوَلَد خَاصَّة، وَقيل: الْأُخوة للام، وَقيل: بَنو الْعم وَمن أشبهم، وَقيل: الْعَصَبَات كلهم وَإِن بعدوا، ثمَّ قيل: للْوَرَثَة، وَقيل: للْمَيت، وَقيل: لَهما، وَقيل: لِلْمَالِ الْمَوْرُوث. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الكُّل: الَّذِي لَا ولد لَهُ وَلَا وَالِد، يُقَال: كَلُّ الرجل يكلُّ كَلَالَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: تطلق الْكَلَالَة على ثَلَاثَة: على من لم يخلف ولدا وَلَا والداً، وعَلى من لَيْسَ بِولد وَلَا وَالِد من الْمُخلفين، وعَلى الْقَرَابَة من غير جِهَة الْوَلَد وَالْوَالِد. قَوْله: (فَنزلت آيَة الْفَرَائِض) وَهِي قَوْله تَعَالَى: {يستفتونك قل الله يفتيكم فِي الْكَلَالَة} (النِّسَاء: 176)
إِلَى آخر السُّورَة، وَقيل: هِيَ آيَة الْمَوَارِيث مُطلقًا. والفرائض: جمع فَرِيضَة، وَالْمرَاد هَهُنَا: الحصص الْمقدرَة فِي كتاب الله للْوَرَثَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: قَالَ ابْن بطال فِيهِ دَلِيل على طهورية المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ، لِأَنَّهُ لَو لم يكن طَاهِرا لما صبه عَلَيْهِ. قلت: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه صب من الْبَاقِي فِي الْإِنَاء. الثَّانِي: فِيهِ رقية الصَّالِحين للْمَاء ومباشرتهم إِيَّاه، وَذَلِكَ مِمَّا يُرْجَى بركته. الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن بركَة يَد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزيل كل عِلّة. الرَّابِع: فِيهِ أَن مَا يقْرَأ على المَاء مِمَّا ينفع. الْخَامِس: فِيهِ فَضِيلَة عِيَادَة الضُّعَفَاء. السَّادِس: فِيهِ فَضِيلَة عِيَادَة الأكابرِ الأصاغرَ.

45 - (بابُ الْغُسْلِ وَالوُضُوءِ فِي المِخْضَبِ والقَدَحِ والخَشَبِ والحِجَارَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة. قَالَ ابْن سَيّده: المخضب شبه الإجانة، وَقَالَ صَاحب (الْمُنْتَهى) : هُوَ المركن. وَقَالَ ابو هِلَال العسكري فِي كتاب (التَّلْخِيص) : إِنَاء يغسل فِيهِ. وَفِي (مجمع الغرائب) هُوَ إجانة تغسل فِيهِ الثِّيَاب وَيُقَال لَهُ المركن. قَوْله: (والقدح) وَاحِد الأقداح الَّتِي للشُّرْب

(3/87)


وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْقدح الَّذِي يُؤْكَل فِيهِ، وَأكْثر مَا يكون من الْخشب مَعَ ضيف فِيهِ. قَوْله: (والخشب) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة: جمع خَشَبَة، وَكَذَلِكَ: الْخشب، بِضَمَّتَيْنِ وبسكون الشين أَيْضا، وَمرَاده: الْإِنَاء الْخشب، وَكَذَلِكَ الْإِنَاء الْحِجَارَة، وَذَلِكَ لِأَن الْأَوَانِي تكون من الْخشب وَالْحجر وَسَائِر جَوَاهِر الأَرْض كالحديد والصفر والنحاس وَالذَّهَب وَالْفِضَّة. فَقَوله: (والخشب) يتَنَاوَل سَائِر الأخشاب. وَقَوله: (وَالْحِجَارَة) يتَنَاوَل سَائِر الْأَحْجَار من الَّتِي لَهَا قيمَة، وَالَّتِي لَا قيمَة لَهَا، وَالْحِجَارَة حمع حجر وَهُوَ جمع نَادِر: كالجمالة جمع جمل، وَكَذَلِكَ: حجار، بِدُونِ الْهَاء، وهما جمع كَثْرَة، وَجمع الْقلَّة أَحْجَار. فَإِن قلت: مَا وَجه عطف: الْخشب وَالْحِجَارَة، على: الخضب والقدح؟ قلت: من بَاب عطف التَّفْسِير، لِأَن المخضب والقدح قد يكونَانِ من الْخشب، وَقد يكونَانِ من الْحِجَارَة، وَقد صرح فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب بمخضب من حِجَارَة كَمَا يَأْتِي عَن قريب، وَالدَّلِيل على صِحَة ذَلِك مَا قد وَقع فِي بعض النّسخ الصَّحِيحَة: فِي المخضب والقدح الْخشب وَالْحِجَارَة، بِدُونِ حرف الْعَطف. وَقَالَ بَعضهم: وَعطف: الْخشب وَالْحِجَارَة، على: المخضب والقدح، لَيْسَ من عطف الْعَام على الْخَاص فَقَط، بل بَين هذَيْن وهذين عُمُوم وخصوص من وَجه. قلت: قصارى فهم هَذَا الْقَائِل أَنه لَيْسَ من عطف الْعَام على الْخَاص، ثمَّ أضْرب عَنهُ إِلَى بَيَان الْعُمُوم وَالْخُصُوص من وَجه بَين هَذِه الْأَشْيَاء، وَلم يبين وَجه الْعَطف مَا هُوَ وَقد وَقع فِي بعض النّسخ بعد قَوْله: وَالْحِجَارَة. (والتور) ، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، قَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ إِنَاء يشرب فِيهِ، زَاد المطرزي: صَغِير، وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: هُوَ إِنَاء يشبه إجانة من صفر، أَو حِجَارَة يتَوَضَّأ فِيهِ ويؤكل. وَقَالَ ابْن قر قَول: هُوَ مثل قدح من الْحِجَارَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
والمناسبة بَين هَذَا الْبَاب والأبواب الَّتِي قبله ظَاهِرَة، لِأَن الْكل فِيمَا يتَعَلَّق بِالْوضُوءِ.

195 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ مُنِيرٍ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بنَ بَكْرٍ حدّثنا حُمَيْدٌ عنْ أَنَسٍ قالَ حَضَرَت الصَّلاَةُ فَقامَ مَنْ كانَ قَرِيبَ الدَّارِ إِلَى أَهْلِهِ وَبَقِيَ قَوْمٌ فَاُتِيَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِخْضَبٍ مِنْ حِجَارَةٍ فِيهِ ماءٌ فَصَغُرَ المِخْضَبُ اَنْ يَبْسُطَ فِيهِ كَفَّهُ فَتَوَضَّأَ القَوْمُ كُلُّهُمْ قُلْنَا كَمْ كُنْتُمْ قَالَ ثَمَانِينَ وزِيادَةً..
مُطَابق الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي قَوْله: (بمخضب من حِجَارَة) إِلَى آخِره.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: عبد الله بن مُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رواء، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: ابْن الْمُنِير، بِالْألف وَاللَّام. قلت: يجوز كِلَاهُمَا كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، وَقد يلتبس هَذَا: بِابْن الْمُنِير، الَّذِي لَهُ كَلَام فِي تراجم البُخَارِيّ وَفِي غَيرهَا، وَهُوَ بِضَم الْمِيم وَفتح النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ مُتَأَخّر عَن ذَلِك بزهاء أَرْبَعمِائَة سنة، وَهُوَ: أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن ابي الْمَعَالِي مُحَمَّد كَانَ قَاضِي اسكندرية وخطيبها، وَعبد الله بن مُنِير الْحَافِظ الزَّاهِد السَّهْمِي الْمروزِي، مَاتَ سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن بكر أَبُو وهب الْبَصْرِيّ، نزل بَغْدَاد وَتُوفِّي فِي خلَافَة الْمَأْمُون سنة ثَمَان وَمِائَتَيْنِ. الثَّالِث: حميد، بِالتَّصْغِيرِ، ابْن ابي حميد الطَّوِيل، مَاتَ وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي، وَقد تقدم فِي بَاب خوف الْمُؤمن أَن يحبط عمله. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع وَالسَّمَاع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي عَلَامَات النُّبُوَّة عَن يزِيد بن هَارُون، وَأخرجه مُسلم وَلَفظه: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه بالزوراء، والزوراء بِالْمَدِينَةِ عِنْد السُّوق وَالْمَسْجِد، دَعَا بقدح فِيهِ مَاء فَوضع كَفه فِيهِ فَجعل يَنْبع من بَين أَصَابِعه، فَتَوَضَّأ جَمِيع أَصْحَابه. قَالَ: قلت: كم كَانُوا يَا أَبَا حَمْزَة؟ قَالَ: كَانُوا زهاء الثلاثمائة) . وَأخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ وَغَيره.
بَيَان الْمعَانِي وَالْإِعْرَاب قَوْله: (حضرت الصَّلَاة) هِيَ صَلَاة الْعَصْر. قَوْله: (من كَانَ) فِي مَحل الرّفْع، لِأَنَّهُ فَاعل: قَامَ. قَوْله: (إِلَى أَهله) يتَعَلَّق بقوله: (فَقَامَ) ، وَذَلِكَ الْقيام كَانَ لقصد تَحْصِيل المَاء والتوضىء بِهِ. قَوْله: (وَبَقِي قوم) أَي: عِنْد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا غَابُوا عَن مَجْلِسه وَلم يَكُونُوا على الْوضُوء أَيْضا، وَإِنَّمَا توضؤوا من المخضب الَّذِي اتى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فأُتي) بِضَم الْهمزَة على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (من حِجَارَة) كلمة: من. للْبَيَان. قَوْله: (فصغر المخضب) أَي: لم يسع بسط

(3/88)


الْكَفّ فِيهِ لصغره، وَقد علم من ذَلِك أَن المخضب يكون من حِجَارَة وَغَيره، وَيكون صَغِيرا وكبيراً. قَوْله: (ان يبسط) اي: لِأَن يبسط، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: لبسط الْكَفّ فِيهِ. قَوْله: (فَتَوَضَّأ الْقَوْم) أَي: الْقَوْم الَّذين بقوا عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك المخضب الصَّغِير. قَوْله: (فَقُلْنَا) وَفِي بعض النّسخ وَفِي بَعْضهَا: قلت. وَهُوَ من كَلَام حميد الطَّوِيل الرَّاوِي عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (كم كُنْتُم) ؟ مُمَيّز: كم، مَحْذُوف تَقْدِيره: كم نفسا كُنْتُم؟ وَكَذَلِكَ مُمَيّز ثَمَانِينَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ خبر للكون الْمُقدر تَقْدِيره: كُنَّا ثَمَانِينَ نفسا وَزِيَادَة على الثَّمَانِينَ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام: الأول: فِيهِ دلَالَة على معْجزَة كَبِيرَة للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِي: فِيهِ التهيء للْوُضُوء عِنْد حُضُور الصَّلَاة. الثَّالِث: فِيهِ أَن الْأَوَانِي كلهَا، سَوَاء كَانَت من الْخشب أَو من جَوَاهِر الأَرْض طَاهِرَة، فَلَا كَرَاهَة فِي اسْتِعْمَالهَا، وَذكر أَبُو عبيد فِي (كتاب الطّهُور) عَن ابْن سِيرِين: كَانَت الْخُلَفَاء يتوضأون فِي الطشت، وَعَن الْحسن رَأَيْت عُثْمَان يصب عَلَيْهِ من إبريق يعْنى نُحَاسا. قَالَ أَبُو عبيد: وعَلى هَذَا أَمر النَّاس فِي الرُّخْصَة والتوسعة فِي الْوضُوء فِي آنِية النّحاس وأشباهه من الْجَوَاهِر إلاَّ مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر من الْكَرَاهَة. قلت: ذكر ابْن أبي شيبَة عَن يحيى بن سليم عَن ابْن جريج قَالَ: قَالَ مُعَاوِيَة: كرهت أَن أتوضأ فِي النّحاس، وَفِي كتاب (الْأَشْرَاف) : رخص كثير من أهل الْعلم فِي ذَلِك، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ وَابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، وَمَا علمت أَنِّي رَأَيْت أحدا كره الْوضُوء فِي آنِية الصفر والنحاس والرصاص وَشبهه، والأشياء على الْإِبَاحَة وَلَيْسَ يحرم مَا هُوَ مَوْقُوف على ابْن عمر. وَقَالَ ابْن بطال: وَقد وجدت عَن ابْن عمر أَنه تَوَضَّأ فِيهِ، وَهَذِه الرِّوَايَة أشبه للصَّوَاب، وَكَانَ الشَّافِعِي وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر يكْرهُونَ الْوضُوء فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة، وَبِه نقُول. وَلَو تَوَضَّأ لَهُ متوضىء أَجزَأَهُ وَقد أَسَاءَ، وَعَن أبي حنيفَة، رَضِي الله عَنهُ، كَانَ يكره الْأكل وَالشرب فِي آنِية الْفضة، وَكَانَ لَا يرى بَأْسا بالمفضض، وَكَانَ لَا يرى بِالْوضُوءِ مِنْهُ بَأْسا. قلت: أَبُو حنيفَة كَانَ يكره الْأكل فِي آنِية الذَّهَب أَيْضا، وَالْمرَاد من الْكَرَاهَة: كَرَاهَة التَّحْرِيم، وَفِي (سنَن) أبي دَاوُد، بِسَنَد ضَعِيف عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (كنت أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي تور من شبه) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد بِسَنَد صَحِيح عَن زَيْنَب بنت جحش: (أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يتَوَضَّأ من مخضب من صفر) . الصفر، بِضَم الصَّاد: هُوَ النّحاس الْجيد. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: كسر الصَّاد فِيهِ لُغَة وَلم يجزه غَيره، وَيُقَال لَهُ: الشّبَه، أَيْضا بِفتْحَتَيْنِ لِأَنَّهُ يشبه الذَّهَب.

196 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ العَلاَءِ قَالَ حدّثنا أبُو أسَامَةَ عنْ بُرَيْدٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبي مُوسى أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعا بِقَدَحٍ فِيهِ ماءٌ فَغَسلَ يَدَيْهِ وَوَجْهَهُ فِيهِ وَمَجَّ فيهِ.
(انْظُر الحَدِيث: 188 وطرفه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْعَلَاء، بِالْمُهْمَلَةِ وبالمد. الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة حَمَّاد ابْن اسامة. الثَّالِث: بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: بن عبد الله بن أبي بردة بن أبي مُوسَى، وَاسم أبي الْحَارِث، وَيُقَال: عَامر، وَيُقَال: اسْمه كنيته، وَأَبُو مُوسَى اسْمه عبد الله بن قيس الْأَشْعَرِيّ، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه تقدم فِي بَاب فضل من علم وَعلم. وَلَا تفَاوت بَينهمَا إلاَّ فِي لفظ حَمَّاد، فَإِنَّهُ ذكر هُنَا بالكنية. وثمة بِالِاسْمِ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة مكيون.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (مج فِيهِ) أَي: صب فِيهِ، وَمِنْه: مج لعابه إِذا قذفه. قَوْله: (فِيهِ مَاء) ، جملَة إسمية فِي مَوضِع الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لقدح. قَوْله: (فَغسل يَدَيْهِ) : الْفَاء، للْعَطْف على: دَعَا بِالْمُهْمَلَةِ، وَمعنى دَعَا طلب. قَوْله: (وَوَجهه) بِالنّصب عطف على قَوْله: (يَدَيْهِ) . وَقَوله: (وَمَج) عطف على (غسل) .
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: قَالَ الْكرْمَانِي، هَذَا الحَدِيث يدل على الْغسْل فِي الْقدح، بِفَتْح الْغَيْن، لَا على الْغسْل، بِضَم الْغَيْن، وَلَا على الْوضُوء. الثَّانِي: قَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ جَوَاز الْوضُوء بِمَاء قد مج فيهه. الثَّالِث: فِيهِ دلَالَة على جَوَاز الشّرْب مِنْهُ، وَكَذَا الإفراغ مِنْهُ على الْوُجُوه والنحور، لِأَن تَمام الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ مُعَلّقا عَن أبي مُوسَى فِي بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس، وَقد ذكرنَا بَقِيَّة الْكَلَام هُنَاكَ.

(3/89)


197 - حدّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قالَ حدّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ أبي سَلَمَة قَالَ حدّثنا عَمْرُو بنُ يَحْيَى عنْ أبِيهِ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ زَيْدٍ قالَ أتَى رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاخْرَجْنا لَهُ مَاء فِي تَوْرٍ مِنْ صُفْرٍ فَتَوَضَّأَ فَغَسلَ وَجْهَهُ ثَلاثاً وَيَدَيْهِ مَرَّتَيْن مَرَّتَيْن وَمَسَحَ بِرَأسِهِ فَاقْبَلَ بِهِ وَأدْبَرَ وَغَسَلَ رِجلَيْه..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس، نسب إِلَى جده، تقدم فِي بَاب من قَالَ: الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل الصَّالح. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن عبد الله بن أبي سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: الْمَاجشون، بِفَتْح الْجِيم، مر فِي بَاب السُّؤَال والفتيا عِنْد رمي الْجمار. الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى. الرَّابِع: أَبوهُ يحيى بن عمَارَة. الْخَامِس: عبد الله بن زيد، وَقد تقدمُوا فِي بَاب غسل الرجلَيْن.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ اثْنَيْنِ وهما أَحْمد بن يُونُس وَعبد الْعَزِيز، وَكِلَاهُمَا منسوبان إِلَى جدهما، وَاسم أَب كل مِنْهُمَا: عبد الله، وكنية كل مِنْهُمَا: ابو عبد الله، وكل مِنْهُمَا: ثِقَة حَافظ فَقِيه.
بَيَان الْمَعْنى وَالْحكم قَوْله: (أَتَانَا رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) رِوَايَة الْكشميهني وابي الْوَقْت، وَرِوَايَة غَيرهمَا: (أَتَى رَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . قَوْله: (فِي تور) صفة لقَوْله: (مَاء) ، وَمحله النصب، وَكلمَة: من فِي: (من صفر) للْبَيَان، وَتَفْسِير: التور، قد مر عَن قريب قَوْله: (فَغسل وَجهه) تَفْسِير لقَوْله: (فَتَوَضَّأ) وَفِيه حذف تَقْدِيره: فَمَضْمض واستنشق، كَمَا دلّت عَلَيْهِ الرِّوَايَات الْأُخَر، والمخرج مُتحد. قَوْله: (فِي تور من صفر) زِيَادَة عبد الْعَزِيز. قَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: لم يذكر فِي التَّرْجَمَة لفظ: التور، وَكَانَ الْمُنَاسب أَن يذكر هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي بعده. قلت: لَعَلَّ إِيرَاده فِي هَذَا الْبَاب من جِهَة أَن ذَلِك لتور كَانَ على شكل الْقدح، أَو من جملَة أَنه حجر، لِأَن الصفر من أَنْوَاع الْأَحْجَار، أَقُول: رَأَيْت فِي نُسْخَة صَحِيحَة بِخَط المُصَنّف: والتور، بعد قَوْله: (والخشب وَالْحِجَارَة) .

198 - حدّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبَةَ أنَّ عائِشَةَ قالَتْ لمَا ثَقُلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واشْتَدَّ بِهِ وَجَعُهُ اسْتَأْذَنَ أزْوَاجَهُ فِي أَنْ يُمَرَّضَ فِي بَيْتِي فاذِنَّ لهُ فَخَرَجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَخُطُّ رِجْلاَهُ فِي الارْضِ بَيْنَ عَبَّاسٍ وَرَجُلٍ آخَرَ قالَ عُبَيْدُ اللَّهِ فاخبَرْتُ عَبْدَ اللَّهِ ابنَ عَبَّاسٍ فقالَ أتَدْرِي منِ الرَّجُلُ الآخَرُ قُلْتُ لَا قالَ هُوَ عَلِيٌّ وكانَتْ عائِشَةُ رَضِي اللَّهُ عَنْهَا تُحَدِّثُ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ بَعْدَ مَا دَخَلَ بَيْتَهُ واشْتَدَّ وَجعُهُ هَرِيقُوا عَليَّ مِنْ سَبْع قِرَبٍ لمْ تُحْلَلْ اوْ كِيَتُهُنَّ لعَلِّي أَعْهَدُ إلَى النَّاسِ وأُجْلِسَ فِي مِخْضَبٍ لحَفْصَةَ زَوْجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ طَفِقْنَا نَصُبُّ عَلَيْهِ من تِلْكَ القِرَبِ حَتَّى طَفِقَ يُشِيرُ إليْنَا أنْ قدْ فَعَلْتُنَّ ثُمَّ خَرَجَ إلَى النَّاسِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف: واسْمه الحكم ابْن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة دِينَار، وَأَبُو بشر الْحِمصِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عبيد الله بن عبد الله، بتصغير الابْن وتكبير الْأَب، وَالْكل تقدمُوا فِي كتاب الْوَحْي. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع والإخبار، وبصيغة الْإِفْرَاد وَالْقَوْل. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بن حمصي ومدني. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رَاوِيَيْنِ جليلين: الزُّهْرِيّ وَعبيد الله.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي سبع مَوَاضِع هُنَا، وَفِي الصَّلَاة فِي موضِعين، وَفِي حد الْمَرِيض يشْهد الْجَمَاعَة، وَإِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ مُخْتَصرا، وَفِي الْهِبَة، وَالْخمس، وَأجر الْمَغَازِي، وَفِي بَاب مَرضه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي الطِّبّ. وَأخرجه مُسلم

(3/90)


فِي الصَّلَاة عَن عبد بن حميد وَمُحَمّد بن رَافع. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء، وَفِي الْوَفَاة عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور، وَفِي الْوَفَاة أَيْضا عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ، وَلم يذكر ابْن عَبَّاس. أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْجَنَائِز عَن ابْن إِسْمَاعِيل عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (لما ثقل) ، بِضَم الْقَاف، يُقَال: ثقل الشَّيْء ثقلاً، مِثَال صغر صغراً، فَهُوَ ثقيل. وَقَالَ ابو نصر: أصبح فلَان ثاقلاً إِذا أثقله الملاض، والثقل ضد الخفة، وَالْمعْنَى هَهُنَا: اشْتَدَّ مَرضه، ويفسره قَوْلهَا بعده: وَاشْتَدَّ بِهِ وَجَعه، وَأما: الثّقل، بِفَتْح الثَّاء وَسُكُون الْقَاف، فَهُوَ مصدر: ثقل، بِفَتْح الْقَاف: الشَّيْء فِي الْوَزْن يثقله ثقلاً، من بَاب: نصر ينصر، إِذا وَزنه. وَكَذَلِكَ: ثقلت الشَّاة إِذا رفعتها للنَّظَر مَا ثقلهَا من خفتها. وَقَالَ بَعضهم: وَفِي الْقَامُوس: ثقل كفرح يعْنى بِكَسْر الْقَاف فَهُوَ ثاقل وثقيل: اشْتَدَّ مَرضه. قلت: هَذَا يحْتَاج إِلَى نسبته إِلَى أحد من أَئِمَّة اللُّغَة الْمُعْتَمد عَلَيْهِم. قَوْله: (فِي أَن يمرض) على صِيغَة الْمَجْهُول، من: التمريض، يُقَال: مَرضه تمريضاً إِذا أَقمت عَلَيْهِ فِي مَرضه، يَعْنِي: خدمته فِيهِ. وَيحْتَمل أَن يكون التَّشْدِيد فِيهِ للسلب والإزالة كَمَا تَقول قردت الْبَعِير إِذا أزلت قراده، والمعني هُنَا: أزلت مَرضه بِالْخدمَةِ. قَوْله: (فَأذن) بتَشْديد النُّون لِأَنَّهُ جمَاعَة النِّسَاء، أَي: أَذِنت زَوْجَات النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَن يمرض فِي بَيتهَا. قَوْله: (تخط رِجْلَاهُ) بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة، و: رِجْلَاهُ، فَاعله أَي: يُؤثر بِرجلِهِ على الأَرْض كَأَنَّهَا تخط خطا، وَفِي بعض النّسخ: تخط، بِصِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (قَالَ عبيد الله) هُوَ الرَّاوِي لَهُ عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَهُوَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور بِغَيْر وَاو الْعَطف. قَوْله: (وَكَانَت) مَعْطُوف أَيْضا بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وعباس هُوَ ابْن عبد الْمطلب عَم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَأخْبرت) أَي: بقول عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا. قَوْله: (بعد مَا دخل بَيته) وَفِي بعض النّسخ: (بَيتهَا) ، وأضيف إِلَيْهَا مجَازًا: بملابسة السُّكْنَى فِيهِ. قَوْله: (هريقوا عَليّ) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِدُونِ الْهمزَة فِي أَوله، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (أهريقوا) ، بِزِيَادَة الْهمزَة. وَفِي بعض النّسخ: (اريقوا) . إعلم أَن فِي هَذِه الْمَادَّة ثَلَاث لُغَات. الأولى: هراق المَاء يهرقه هراقة أَي: صب، وَأَصله: أراق يريق إِرَاقَة، من بَاب الإفعال، وأصل: أراق يريق على وزن أفعل، نقلت حَرَكَة الْيَاء إِلَى مَا قبلهَا، ثمَّ قلبت ألفا لتحركها فِي الأَصْل وانفتاح مَا قبلهَا بعد النَّقْل، فَصَارَ أراق، وأصل: يريق يأريق على وزن: يؤفعل، مثل: يكرم، أَصله: يؤكرم، حذفت الْهمزَة مِنْهُ اتبَاعا لحذفها فِي الْمُتَكَلّم لِاجْتِمَاع الهمزتين فِيهِ، وَهُوَ ثقيل. اللُّغَة الثَّانِيَة: أهرق المَاء يهرقه إهراقاً على وزن: أفعل إفعالاً. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: قد أبدلوا من الْهمزَة الْهَاء ثمَّ لَزِمت فَصَارَت كَأَنَّهَا من نفس الْكَلِمَة حذفت الْألف بعد الْهَاء، وَتركت الْهَاء عوضا عَن حذفهم الْعين، لِأَن أصل أهرق: أريق. اللُّغَة الثَّالِثَة: أهراق يهريق إهراياقاً، فَهُوَ مهريق، وَالشَّيْء مهراق ومهراق أَيْضا بِالتَّحْرِيكِ، وَهَذَا شَاذ، وَنَظِيره: اسطاع يسطيع اسطياعاً، بِفَتْح الْألف فِي الْمَاضِي، وَضم الْيَاء فِي الْمُضَارع وَهُوَ لُغَة فِي: اطاع يُطِيع، فَجعلُوا السِّين عوضا من ذهَاب حَرَكَة عين الْفِعْل، فَكَذَلِك حكم: الْهَاء، وَقد خبط بَعضهم خباطاً فِي هَذَا الْمَوْضُوع لعدم وقوفهم على قَوَاعِد علم الصّرْف. قَوْله: (من سبع قرب) جمع قربَة، وَهِي مَا يستقى بِهِ، وَهُوَ جمع الْكَثْرَة، وَجمع الْقلَّة: قربات، بِسُكُون الرَّاء وَفتحهَا وَكسرهَا. قَوْله: (أوكيتهن) الأوكية جمع: وكاء، وَهُوَ الَّذِي يشد بِهِ رَأس الْقرْبَة. قَوْله: (أَعهد) بِفَتْح الْهَاء اي: أوصى من بَاب: علم يعلم، يُقَال عهِدت إِلَيْهِ أَي: أوصيته. قَوْله: (واجلس) على صِيغَة الْمَجْهُول اي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (فاجلس) بِالْفَاءِ. و: المخضب، مر تَفْسِيره عَن قريب، وَزَاد ابْن خريمة من طَرِيق عُرْوَة عَن عَائِشَة أَنه كَانَ من نُحَاس. قَوْله: (ثمَّ طفقنا نصب عَلَيْهِ) بِكَسْر الْفَاء وَفتحهَا، حَكَاهُ الْأَخْفَش، وَالْكَسْر أفْصح. وَهُوَ من أَفعَال المقاربة، وَمَعْنَاهُ: جعلنَا نصب المَاء على رَأس النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (تِلْكَ) أَي: الْقرب السَّبع، وَفِي بعض الرِّوَايَات: (تِلْكَ الْقرب) . وَهُوَ فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول نصب. قَوْله: (حَتَّى طفق) اي حَتَّى جعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُشِير إِلَيْنَا، وَفِي: طفق، معنى الِاسْتِمْرَار والمواصلة. قَوْله: (أَن قد فعلتن) أَي: بِأَن فعلتن مَا أمرتكن بِهِ من إهراق المَاء من الْقرب الموصوفة، و: فعلتن، بِضَم التَّاء وَتَشْديد النُّون، وَهُوَ جمع الْمُؤَنَّث الْمُخَاطب. قَوْله: (ثمَّ خرج إِلَى النَّاس) أَي: خرج من بَيت عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، وَزَاد البُخَارِيّ فِيهِ من طَرِيق عقيل عَن الزُّهْرِيّ: (فصلى بهم وخطبهم) ، على مَا يَأْتِي، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ الدّلَالَة على وجوب الْقسم على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وإلاَّ لم يحْتَج إِلَى الاسْتِئْذَان عَنْهُن، ثمَّ

(3/91)


وُجُوبه على غَيره بِالطَّرِيقِ الاولى. الثَّانِي: فِيهِ لبَعض الضرات أَن تهب نوبتها للضرة الْأُخْرَى. الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الْوَصِيَّة. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز الإجلاس فِي المخضب وَنَحْوه لأجل صب المَاء عَلَيْهِ، سَوَاء كَانَ من خشب أَو حجر أَو نُحَاس، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عمر كَرَاهَة الْوضُوء فِي النّحاس، وَقد ذَكرْنَاهُ وَقد رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: أَنا أتوضأ بِالنُّحَاسِ وَمَا يكره مِنْهُ شَيْء إلاَّ رَائِحَته فَقَط. وَقيل: الْكَرَاهَة فِيهِ لِأَن المَاء يتَغَيَّر فِيهِ، وَرُوِيَ أَن الْمَلَائِكَة تكره ريح النّحاس. وَقيل: يحْتَمل أَن تكون الْكَرَاهَة فِيهِ لِأَنَّهُ مستخرج من معادن الأَرْض شَبيه بِالذَّهَب وَالْفِضَّة، وَالصَّوَاب: جَوَاز اسْتِعْمَاله بِمَا ذكرنَا من رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة، وَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الأسوة الْحَسَنَة وَالْحجّة الْبَالِغَة. الْخَامِس: فِيهِ إِرَاقَة المَاء على الْمَرِيض بنية التَّدَاوِي وَقصد الشِّفَاء. السَّادِس: فِيهِ دلَالَة على فضل عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، لتمريض النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيتهَا. السَّابِع: فِيهِ إِشَارَة إِلَى جَوَاز الرقي والتداوي للعليل، وَيكرهُ ذَلِك لمن لَيْسَ بِهِ عِلّة. الثَّامِن: فِيهِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يشْتَد بِهِ الْمَرَض ليعظم الله أجره بذلك، وَفِي الحَدِيث الآخر: (إِنِّي أوعك كَمَا يوعك رجلَانِ مِنْكُم) . التَّاسِع: فِيهِ جَوَاز الْأَخْذ بِالْإِشَارَةِ. الْعَاشِر: فِيهِ أَن الْمَرِيض تسكن نَفسه لبَعض أَهله دون بعض.
الأسئلة والاجوبة: الأول: مَا كَانَت الْحِكْمَة فِي طلب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء فِي مَرضه؟ أُجِيب: بِأَن الْمَرِيض إِذا صب عَلَيْهِ المَاء الْبَارِد ثَابت إِلَيْهِ قوته، لَكِن فِي مرض يَقْتَضِي ذَلِك، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم ذَلِك فَلذَلِك طلب المَاء، وَلذَلِك بعد اسْتِعْمَال المَاء قَامَ وَخرج إِلَى النَّاس. الثَّانِي: مَا الْحِكْمَة فِي تعْيين الْعدَد بالسبعة فِي الْقرب؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون ذَلِك من نَاحيَة التَّبَرُّك، وَفِي عدد السَّبع بركَة، لِأَن لَهُ دُخُولا كثيرا فِي كثير من أُمُور الشَّرِيعَة، وَلِأَن الله تَعَالَى خلق كثيرا من مخلوقاته سبعا. قلت: نِهَايَة الْعدَد عشرَة، وَالْمِائَة تتركب من العشرات، والالوف من المئات، والسبعة من وسط الْعشْرَة، وَخير الْأُمُور أوساطها، وَهِي وتر، وَالله تَعَالَى يحب الْوتر، بِخِلَاف السَّادِس وَالثَّامِن، وَأما التَّاسِع فَلَيْسَ من الْوسط وَإِن كَانَ وترا. الثَّالِث: مَا الْحِكْمَة فِي تعْيين الْقرب؟ أُجِيب: بِأَن المَاء يكون فِيهَا مَحْفُوظًا وَفِي مَعْنَاهَا مَا يشاكلها مِمَّا يحفظ فِيهِ المَاء، وَلِهَذَا جَاءَ فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي هَذَا الحَدِيث من آبار شَتَّى. الرَّابِع: مَا الْحِكْمَة فِي شَرطه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فِي الْقرب عدم حل أوكيتهن؟ أُجِيب: بِأَن أولى المَاء أطهره وأصفاه، لِأَن الْأَيْدِي لم تخالطه وَلم تدنسه بعد، والقرب إِنَّمَا توكى وَتحل على ذكر الله تَعَالَى، فَاشْترط أَن يكون صب المَاء عَلَيْهِ من الأسقية الَّتِي لم تحلل ليَكُون قد جمع بركَة الذّكر فِي شدها وحلها مَعًا. الْخَامِس: مَا الْحِكْمَة فِي أَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قَالَت: (وَرجل آخر) وَلم تعينه، مَعَ أَنه كَانَ هُوَ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ كَانَ فِي قَلبهَا مِنْهُ مَا يحصل فِي قُلُوب الْبشر مِمَّا يكون سَببا فِي الْإِعْرَاض عَن ذكر اسْمه، وَجَاء فِي رِوَايَة: (بَين الْفضل ابْن عَبَّاس) ، وَفِي أُخْرَى: (بَين رجلَيْنِ أَحدهمَا أُسَامَة) ، وَطَرِيق الْجمع أَنهم كَانُوا يتناوبون الْأَخْذ بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، تَارَة هَذَا وَتارَة هَذَا، وَكَانَ الْعَبَّاس أَكْثَرهم أخذا بِيَدِهِ الْكَرِيمَة، لِأَنَّهُ كَانَ أدومهم لَهَا إِكْرَاما لَهُ واختصاصاً بِهِ، وَعلي وَأُسَامَة وَالْفضل يتناوبون الْيَد الْأُخْرَى، فعلى هَذَا يُجَاب بِأَنَّهَا صرحت بِالْعَبَّاسِ وأبهمت الآخر لكَوْنهم ثَلَاثَة، وَهَذَا الْجَواب أحسن من الاول. السَّادِس: قَالَ الْكرْمَانِي: أَيْن ذكر الْخشب فِي هَذِه الاحاديث الَّتِي فِي هَذَا الْبَاب؟ ثمَّ أجَاب بقوله: لَعَلَّ الْقدح كَانَ من الْخشب.