عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 46 - (بابُ الوُضُوء مِنَ التَّوْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوضُوء من التور، وَقد
مر تَفْسِير التور مُسْتَوفى، وَوَقع فِي حَدِيث شريك عَن
أنس فِي الْمِعْرَاج فَأتى بطشت من ذهب فِيهِ تور من ذهب،
فَدلَّ هَذَا أَن التور غير الطشت، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَن
يكون التور إبريقاً وَنَحْوه، لِأَن الطشت لَا بُد لَهُ من
ذَلِك. والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
199 - حدّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قالَ حدّثنا سُلَيْمانُ
قالَ حدّثنى عَمْرُو بنُ يَحْيَ عَنْ أبِيهِ قالَ كانَ
عَمِّي يُكْثِرُ مِنَ الوُضُوءِ قَالَ لَعَبْدِ اللَّهِ بن
زَيْدٍ أَخْبِرْنِي كَيْفَ رَأيْتَ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَتَوضَّأُ فَدَعَا بِتَوْرٍ مِنْ ماءٍ
فَكَفَأَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلَهُمَا ثَلاثَ مِرَارٍ
ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فِي التَّوْرِ فَمضْمَضَ
واسْتَنْثَرَ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ غَرْفَةٍ واحِدَةٍ
ثُمَّ أدْخَلَ يَدَهُ فاغْتَرَفَ بِها فَغَسَلَ وَجْهَهُ
(3/92)
ثَلاثَ مَرَّاتٍ ثُمَّ غَسَلَ يَدَيْهِ
إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ
أخَذَ بِيَدِهِ مَاء فَمَسَحَ رَأْسَهُ فأدْبَرَ بِهِ
وأقْبَلَ ثُمَّ غَسَلَ رِجْلَيْهِ فقالَ هَكَذَا رَأيْتُ
النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّأُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: خَالِد بن مخلد،
بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح
اللَّام: الْقَطوَانِي البَجلِيّ، مر فِي أول كتاب الْعلم.
الثَّانِي: سُلَيْمَان بن بِلَال أَبُو مُحَمَّد، مر فِي
أول كتاب الْإِيمَان. الثَّالِث: عَمْرو بن يحيى.
الرَّابِع: يحيى بن عمَارَة. الْخَامِس: عَم يحيى هُوَ
عَمْرو بن أبي حسن، كَمَا تقدم.
وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ وَفِيمَا يتَعَلَّق
بِالْحَدِيثِ مر فِي بَاب مسح الرَّأْس كُله، ولنذكر هُنَا
مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ.
قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) وَفِي رِوَايَة: (ثَلَاث
مَرَّات) ، فَإِن قلت: حكم الْعدَد فِي ثَلَاثَة إِلَى
عشرَة أَن يُضَاف إِلَى جمع الْقلَّة، فَلم أضيف إِلَى جمع
الْكَثْرَة مَعَ وجود الْقلَّة وَهُوَ: مَرَّات؟ قلت: هما
يتعاوضان فيستعمل كل مِنْهُمَا مَكَان الآخر كَقَوْلِه
تَعَالَى: {ثَلَاثَة قُرُوء} (الْبَقَرَة: 228) . قَوْله:
(ثمَّ ادخل يَده فِي التور فَمَضْمض) فِيهِ حذف تَقْدِيره:
ثمَّ أخرجهَا فَمَضْمض، وَقد صرح بِهِ مُسلم فِي
رِوَايَته. قَوْله: (واستنثر) قد مر تَفْسِير الاستنثار
هُنَاكَ. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ يذكر الِاسْتِنْشَاق؟ قلت:
الاستنثار مُسْتَلْزم للاستنشاق لِأَنَّهُ إِخْرَاج المَاء
من الْأنف، هَكَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لَا
يَتَأَتَّى هَذَا على قَول من يَقُول: الاستنثار
وَالِاسْتِنْشَاق وَاحِد، فعلى قَول هَذَا يكون هَذَا من
بَاب الِاكْتِفَاء أَو الِاعْتِمَاد على الرِّوَايَة
الاخرى. قَوْله: (من غرفَة وَاحِدَة) حَال من الضَّمِير
الَّذِي فِي: (مضمض) ، وَالْمعْنَى: مضمض ثَلَاث مَرَّات
واستنثر ثَلَاث مَرَّات حَال كَونه مغترفاً بغرفة وَاحِدَة
وَهُوَ أحد الْوُجُوه الْخَمْسَة للشَّافِعِيَّة. وَقَالَ
بَعضهم قَوْله (من غرفَة وَاحِدَة) يتَعَلَّق بقوله:
(فَمَضْمض واستنثر) ، وَالْمعْنَى جمع بَينهمَا بِثَلَاث
مَرَّات من غرفَة وَاحِدَة كل مرّة بغرفة. قلت: يكون
الْجَمِيع ثَلَاث غرفات، والتركيب لَا يدل على هَذَا،
وَهُوَ يُصَرح بغرفة وَاحِدَة. نعم، جَاءَ فِي حَدِيث عبد
الله بن زيد: بِثَلَاث غرفات، وَفِي رِوَايَة ابي دَاوُد
وَمُسلم: (فَمَضْمض واستنشق من كف وَاحِدَة، يفعل ذَلِك
ثَلَاثًا) . يَعْنِي: بِفعل الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق
كل مرّة مِنْهُمَا بغرفة، فَتكون المضامض الثَّلَاث
والاستنشاقات الثَّلَاث بِثَلَاث غرفات، وَهُوَ أحد
الْوُجُوه للشَّافِعِيَّة وَهُوَ الْأَصَح عِنْدهم قَوْله:
(فَغسل وَجهه ثَلَاث مَرَّات) لفظ: ثَلَاث مَرَّات،
مُتَعَلق بالفعلين اي: اغترف ثَلَاثًا فَغسل ثَلَاثًا،
وَهُوَ على سَبِيل تنَازع العاملين، وَذَلِكَ لِأَن
الْغسْل ثَلَاثًا لَا يُمكن باغتراف وَاحِد. قَوْله:
(فَأَدْبَرَ بيدَيْهِ وَأَقْبل) ، احْتج بِهِ الْحسن بن
حَيّ على أَن الْبدَاءَة بمؤخر الرَّأْس، وَالْجَوَاب أَن:
الْوَاو، لَا تدل على التَّرْتِيب، وَقد سبقت الرِّوَايَة
بِتَقْدِيم الإقبال حَيْثُ قَالَ: (فَأقبل بِيَدِهِ وَأدبر
بهَا) ، وَإِنَّمَا اخْتلف فعل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي التَّأْخِير والتقديم ليري أمته السعَة
فِي ذَلِك والتيسير لَهُم. قَوْله: (فَقَالَ) ، أَي: عبد
الله بن زيد.
200 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قالَ حدّثنا حَمَّادٌ عَنْ ثابِتٍ
عَنْ أنَسٍ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعا
بِاناءٍ مِنْ ماءٍ فُاتِيَ بِقَدَحٍ رَحْرَاحٍ فِيهِ شَيءٌ
مِنْ ماءٍ فَوَضَعَ أصَابِعَهُ فِيهِ قَالَ أنَسٌ
فَجَعَلْتُ أنْظُرُ إلَى المَاءِ يَنْبُعُ مِنْ بَيْنِ
أصَابِعِه قالَ أنَسٌ فَحَزَرْتُ مَنْ تَوضَّأَ مِنْهُ مَا
بَيْنَ السَّبْعِين إِلَى الثَّمَانِينِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة لِأَن التَّرْجَمَة
بَاب الْوضُوء من التور، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا أطلق اسْم
التور على الْقدح.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: مُسَدّد بن مسهرد.
الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، تقدم كِلَاهُمَا. فَإِن قلت:
فَلِمَ لَا يجوز أَن يكون حَمَّاد هَذَا هُوَ حَمَّاد ابْن
سَلمَة؟ قلت: لِأَن مُسَددًا لم يسمع من حَمَّاد بن
سَلمَة. الثَّالِث: ثَابت الْبنانِيّ، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة وبالنونين، مر فِي بَاب الْقِرَاءَة الْعرض.
الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَمِنْهَا: أَنهم كلهم أَئِمَّة أجلاء.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي.
بَيَان الْمَعْنى قَوْله: (رحراح) ، بِفَتْح الرَّاء
وبالحاءين الْمُهْمَلَتَيْنِ أَي: وَاسع، وَيُقَال: رحرح
أَيْضا بِحَذْف الْألف. وَقَالَ الْخطابِيّ: الرحراح:
الْإِنَاء الْوَاسِع الْفَم الْقَرِيب القعر، وَمثله لَا
يسع المَاء الْكثير، فَهُوَ أدل على المعجزة. وروى ابْن
خُزَيْمَة هَذَا الحَدِيث عَن أَحْمد بن عَبدة عَن حَمَّاد
بن زيد، فَقَالَ بدل رحراح: زجاج، بزاي مَضْمُومَة وجيمين،
(3/93)
وَبَوَّبَ عَلَيْهِ الْوضُوء من آنِية
الزّجاج، وَفِي مُسْنده عَن ابْن عَبَّاس أَن الْمُقَوْقس
أهْدى للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدحاً من زجاج،
لَكِن فِي إِسْنَاده مقَال. قَوْله: (فِيهِ شَيْء من مَاء)
أَي: قَلِيل من مَاء، لِأَن التَّنْوِين للتقليل، وَمن،
للتَّبْعِيض. قَوْله: (يَنْبع) يجوز فِيهِ فتح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَضمّهَا وَكسرهَا. قَوْله: (فحزرت) من الحزر،
بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء، وَهُوَ: الْخرص.
وَالتَّقْدِير قَوْله: (من) . فِي مَحل النصب على
المفعولية قَوْله (مَا بَين السّبْعين إِلَى
الثَّمَانِينَ) وَتقدم من رِوَايَة حميد أَنهم كَانُوا
ثَمَانِينَ وَزِيَادَة، وَالْجمع بَينهمَا أَن أنسا لم يكن
يضْبط الْعدة بل كَانَ يتَحَقَّق أَنَّهَا تنيف على
السّبْعين، ويشك هَل بلغت العقد الثَّامِن أَو جاوزته،
كَذَا قَالَ بَعضهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ورد أَيْضا عَن
جَابر ثمَّة: (كُنَّا خَمْسَة عشر وَمِائَة) ، وَهَذِه
قضايا مُتعَدِّدَة فِي مَوَاطِن مُخْتَلفَة وأحوال
مُتَغَايِرَة، وَهَذَا أوجه من ذَاك، وَيُسْتَفَاد من
هَذَا بلاغه معجزته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ أبلغ
من تفجير المَاء من الْحجر لمُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لِأَن فِي طبع الْحِجَارَة أَن يخرج مِنْهَا
المَاء الغدق الْكثير، وَلَيْسَ ذَلِك فِي طباع أَعْضَاء
بني آدم.
47 - (بابُ الوُضُوءِ بالمُدِّ)
أَي: هَذَا بَاب الْوضُوء بِالْمدِّ، بِضَم الْمِيم
وَتَشْديد الدَّال: وَالْمدّ، اخْتلفُوا فِيهِ. فَقيل:
الْمَدّ رَطْل وَثلث بالعراقي، وَبِه يَقُول الشَّافِعِي
وفقهاء الْحجاز. وَقيل: هُوَ رطلان، وَبِه يَقُول أَبُو
حنيفَة وفقهاء الْعرَاق. وَقَالَ بَعضهم: وَخَالف بعض
الحنيفة، فَقَالَ: الْمَدّ رطلان. قلت: مَذْهَب أبي حنيفَة
أَن الْمَدّ رطلان، وَهَذَا الْقَائِل لم يبين الْمُخَالف
من هُوَ، وَمَا خَالف أَبُو حنيفَة أصلا لِأَنَّهُ
يسْتَدلّ فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ جَابر، قَالَ: (كَانَ
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتَوَضَّأ بِالْمدِّ
رطلين ويغتسل بالصاع ثَمَانِيَة أَرْطَال) . أخرجه ابْن
عدي، وَبِمَا رَوَاهُ عَن أنس، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يتَوَضَّأ بِمد رطلين ويغتسل
بالصاع ثَمَانِيَة أَرْطَال) ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ.
201 - حدّثنا أبُو نعَيْمٍ قالَ حدّثنا مِسْعَرٌ قالَ
حدّثنى ابنُ جَبْرٍ قالَ سَمِعْتُ أنَساً يَقُولُ كَانَ
النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَغْسِلُ أوْ كانَ
يغْتسِلُ بِالصَّاعِ إِلَى خَمْسَةِ أمْدَادٍ
وَيَتَوَضَّأُ بالمُدِّ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة الأول: أَبُو نعيم، بِضَم
النُّون: هُوَ الْفضل بن دُكَيْن، تقدم فِي بَاب فضل من
اسْتَبْرَأَ لدينِهِ فِي كتاب الْإِيمَان. الثَّالِث:
مسعر، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح
الْعين الْمُهْملَة: ابْن كدام، بِكَسْر الْكَاف وبالدال
الْمُهْملَة. وَقَالَ أَبُو نعيم: كَانَ مسعر شكاكاً فِي
حَدِيثه. وَقَالَ شُعْبَة: كُنَّا نسمي مسعرَ المصحفَ
لصدقه. وَقَالَ إِبْرَاهِيم بن سعد: كَانَ شُعْبَة
وسُفْيَان إِذا اخْتلفَا فِي شَيْء. قَالَ: اذْهَبْ بِنَا
إِلَى الْمِيزَان: مسعر. مَاتَ سنة خمس وَخمسين وَمِائَة.
الثَّالِث: ابْن جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء
الْمُوَحدَة، وَالْمرَاد بِهِ: سبط جبر لِأَنَّهُ عبد الله
بن عبد الله جبر بن عتِيك، تقدم فِي بَاب عَلامَة الايمان
حب الْأَنْصَار، وَمن قَالَ بِالتَّصْغِيرِ فقد صحف، لِأَن
ابْن جُبَير، وَهُوَ ابْن سعيد لَا رِوَايَة لَهُ عَن أنس
فِي هَذَا الْكتاب، وَقد روى هَذَا الحَدِيث الاسماعيلي من
طَرِيق ابي نعيم، شيخ البُخَارِيّ، قَالَ: حَدثنَا مسعر،
قَالَ: حَدثنِي شيخ من الْأَنْصَار يُقَال لَهُ: ابْن جبر،
وَيُقَال لَهُ: جَابر ابْن عتِيك. الرَّابِع: أنس بن
مَالك، رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع وَالسَّمَاع. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ كوفيان: أَبُو
نعيم ومسعر، وبصريان: ابْن جبر وَأنس. وَمِنْهَا: أَن
فِيهِ من ينْسب إِلَى جده.
بَيَان اللُّغَات وَالْمعْنَى قَوْله: (أنسا)
بِالتَّنْوِينِ، لِأَنَّهُ منصرف وقعع مَفْعُولا. قَالَ
الْكرْمَانِي فِي بَعْضهَا: أنس، بِدُونِ الْألف، وَجوز
حذف الْألف مِنْهُ فِي الْكِتَابَة للتَّخْفِيف. قلت: لَا
بُد من التَّنْوِين وَإِن كَانَت الْألف لَا تكْتب.
قَوْله: (يغسل) أَي: يغسل جسده. قَوْله: (أَو يغْتَسل) شكّ
من الرَّاوِي. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الشَّك من ابْن جبر
أَنه ذكر لفظ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
أَو لم يذكر، وَفِي أَنه قَالَ: يغسل أَو يغْتَسل، من بَاب
الافتعال، وَالْفرق بَين الْغسْل والاغتسال مثل الْفرق
بَين الْكسْب والاكتساب. وَقَالَ غَيره: وَالشَّكّ فِيهِ
من البُخَارِيّ، اَوْ من أبي نعيم لما حَدثهُ بِهِ، فقد
رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ م طَرِيق ابي نعيم وَلم يشك،
فَقَالَ: يغْتَسل. قلت: الظَّاهِر أَن هَذَا من النَّاسِخ
لِأَن الْإِسْمَاعِيلِيّ لم يروه بِالشَّكِّ، فنسبته إِلَى
البُخَارِيّ، أَو إِلَى شَيْخه أَو إِلَى ابْن جبر
تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح، فَلم لَا ينْسب إِلَى مسعر.
قَوْله: (بالصاع) قَالَ الْجَوْهَرِي: الصَّاع هُوَ
الَّذِي يُكَال بِهِ، وَهُوَ: أَرْبَعَة أَمْدَاد
(3/94)
إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد. وَقَالَ ابْن
سَيّده: الصَّاع مكيال لأهل الْمَدِينَة، يَأْخُذ
أَرْبَعَة أَمْدَاد، يذكر وَيُؤَنث، وَجمعه: أصوع وأصواع
وصيعان وصواع، كالصاع. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّاع
مكيال يسع أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْمدّ مُخْتَلف فِيهِ،
وَفِي (الْجَامِع) : تصغيره صويع، فِيمَن ذكَّر، وصويعة
فِيمَن أنَّث، وَجمع التَّذْكِير أصواع وأصوع فِي
التَّذْكِير، وأصوع فِي التَّأْنِيث. وَفِي (الجمهرة) :
أصوع فِي أُذُنِي الْعدَد. وَقَالَ ابْن بري فِي (تَلْخِيص
اغلاط الْفُقَهَاء) : الصَّوَاب فِي جمع صَاع أصوع.
وَقَالَ ابْن قرقول: جَاءَ فِي أَكثر الرِّوَايَات: آصَع.
قلت: أصل الصَّاع صوع، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح
مَا قبلهَا، وَفِيه ثَلَاث لُغَات: صَاع، وصوع على
الأَصْل، وصواع؛ وَالْجمع: أصوع، وَإِن شِئْت أبدلت من
الْوَاو المضمومة همزَة. قَوْله: (وَيتَوَضَّأ بِالْمدِّ)
، وَهُوَ ربع الصَّاع، وَيجمع على أَمْدَاد ومدد ومداد،
وَيَأْتِي الْخلاف فِيهِ الْآن، وَقد مر بعضه عَن قريب.
بَيَان استنباط الحكم يستنبط مِنْهُ حكمان.
الأول: أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ
يغْتَسل بالصاع فَيقْتَصر عَلَيْهِ وَرُبمَا يزِيد
عَلَيْهِ إِلَى خَمْسَة أَمْدَاد، فَدلَّ ذَلِك أَن مَاء
الْغسْل غير مُقَدّر بل يَكْفِي فِيهِ الْقَلِيل وَالْكثير
إِذا أَسْبغ وَعم، وَلِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي: وَقد يرفق
الْفَقِيه بِالْقَلِيلِ فَيَكْفِي، ويخرق الأخرق فَلَا
يَكْفِي، وَلَكِن الْمُسْتَحبّ أَن لَا ينقص فِي الْغسْل
وَالْوُضُوء عَمَّا ذكر فِي الحَدِيث. وَقَالَ بَعضهم:
فَكَأَن أنسا لم يطلع على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم
يسْتَعْمل فِي الْغسْل أَكثر من ذَلِك، لِأَنَّهُ جعلهَا
النِّهَايَة. وَسَيَأْتِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ أَنَّهَا كَانَت تَغْتَسِل هِيَ
وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء وَاحِد
وَهُوَ: الْفرق، وروى مُسلم من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، أَيْضا أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ يغْتَسل من إِنَاء يسع ثَلَاثَة أَمْدَاد.
قلت: أنس، رَضِي الله عَنهُ، لم يَجْعَل مَا ذكره نِهَايَة
لَا يتَجَاوَز عَنْهَا، وَلَا ينقص عَنْهَا وَإِنَّمَا حكى
مَا شَاهده، وَالْحَال تخْتَلف بِقدر اخْتِلَاف الْحَاجة،
وَحَدِيث الْفرق لَا يدل على أَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
كَانَا يغتسلان بِجَمِيعِ مَا فِي الْفرق. وَغَايَة مَا
فِي الْبَاب أَنه يدل أَنَّهُمَا يغتسلان من إِنَاء وَاحِد
يُسمى: فرقا، وكونهما يغتسلان مِنْهُ لَا يسْتَلْزم
اسْتِعْمَال جَمِيع مَا فِيهِ من المَاء، وَكَذَلِكَ
الْكَلَام فِي: ثَلَاثَة أَمْدَاد. وَقَالَ هَذَا
الْقَائِل أَيْضا: وَفِيه رد على من قدر الْوضُوء
وَالْغسْل بِمَا ذكر فِي حَدِيث الْبَاب: كَابْن شعْبَان
من الْمَالِكِيَّة، وَكَذَا من قَالَ بِهِ من
الْحَنَفِيَّة مَعَ مخالفتهم لَهُ فِي مِقْدَار الْمَدّ
والصاع. قلت: لَا رد فِيهِ على من قَالَ بِهِ من
الْحَنَفِيَّة، لِأَنَّهُ لم يقل ذَلِك بطرِيق الْوُجُوب،
كَمَا قَالَ ابْن شعْبَان بطرِيق الْوُجُوب، فَإِنَّهُ
قَالَ: لَا يجزىء أقل من ذَلِك. وَأما من قَالَ بِهِ من
الْحَنَفِيَّة فَهُوَ مُحَمَّد بن الْحسن، فَإِنَّهُ
رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: إِن المغتسل لَا يُمكن أَن يعم
جسده بِأَقَلّ من مدر، وَهَذَا يخْتَلف باخْتلَاف أجساد
الْأَشْخَاص، وَلِهَذَا جعل الشَّيْخ عز الدّين بن عبد
السَّلَام للمتوضىء والمغتسل ثَلَاث أَحْوَال. أَحدهَا:
أَن يكون معتدل الْخلق كاعتدال خلقه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، فيقتدي بِهِ فِي اجْتِنَاب النَّقْص عَن
الْمَدّ والصاع. الثَّانِيَة: أَن يكون ضئيلاً ونحيف
الْخلق بِحَيْثُ لَا يعادل جسده جسده، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَيُسْتَحَب لَهُ أَن يسْتَعْمل من المَاء مَا يكون
نسبته إِلَى جسده كنسبة الْمَدّ والصاع إِلَى جسده، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. الثَّانِيَة: أَن يكون متفاحش الْخلق
طولا وعرضاً وَعظم الْبَطن وثخانة الْأَعْضَاء،
فَيُسْتَحَب أَن لَا ينقص عَن مِقْدَار يكون بِالنِّسْبَةِ
إِلَى بدنه كنسبة الْمَدّ والصاع إِلَى بدن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ثمَّ إعلم أَن الرِّوَايَات مُخْتَلفَة فِي هَذَا الْبَاب،
فَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا: (أَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، كَانَ يغْتَسل بالصاع وَيتَوَضَّأ بِالْمدِّ)
. وَمن حَدِيث جَابر كَذَلِك، وَمن حَدِيث أم عمَارَة:
(أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَأتى
بِإِنَاء فِيهِ مَاء قدر ثُلثي الْمَدّ) . وَفِي رِوَايَته
عَن أنس: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يتَوَضَّأ بِإِنَاء يسع رطلين ويغتسل الصَّاع) . وَفِي
رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان فِي
(صَحِيحَيْهِمَا) ، وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من
حَدِيث عبد الله بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أُتِي بِثُلثي مد من
مَاء فَتَوَضَّأ، فَجعل يدلك ذِرَاعَيْهِ) . وَقَالَ
الْحَاكِم: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح على شَرط
الشَّيْخَيْنِ، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الثَّوْريّ: حَدِيث
أم عمَارَة حسن. وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث عَائِشَة،
رَضِي الله عَنْهَا: (كَانَت تَغْتَسِل هِيَ وَالنَّبِيّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي إِنَاء وَاحِد يسع ثَلَاثَة
أَمْدَاد) . وَفِي رِوَايَة: (من إِنَاء وَاحِد تخْتَلف
أَيْدِينَا فِيهِ) وَفِي رِوَايَة (فدعَتْ بأناء قدر
الصَّاع فاغتسلت فِيهِ) وَفِي آخِره كَانَت تَغْتَسِل
بِخَمْسَة مكاكيك وتتوضأ بمكوك وَفِي اخرى: (تغسله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بالصاع وتوضئه بِالْمدِّ) . وَفِي
أُخْرَى: (يتَوَضَّأ بِالْمدِّ ويغتسل بالصاع إِلَى
خَمْسَة أَمْدَاد) ، وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ:
(بِنَحْوِ من صَاع) ، وَفِي لفظ: (من قدح يُقَال لَهُ:
الْفرق) ، وَعند النَّسَائِيّ فِي كتاب (التَّمْيِيز) :
نَحْو ثَمَانِيَة أَرْطَال) . وَفِي (مُسْند) أَحْمد بن
منيع: (حزرته ثَمَانِيَة أَو تِسْعَة أَو عشرَة أَرْطَال)
.
(3/95)
وَعند ابْن مَاجَه، بِسَنَد ضَعِيف عَن عبد
الله بن مُحَمَّد بن عقيل عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ:
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يجزىء من الْوضُوء
مد، وَمن الْغسْل صَاع) . وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ
فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، وَعند أبي نعيم
فِي (معرفَة الصَّحَابَة) من حَدِيث أم سعد بنت زيد بن
ثَابت ترفعه: (الْوضُوء مد وَالْغسْل صَاع) . وَقَالَ
الشَّافِعِي وَأحمد: لَيْسَ معنى الحَدِيث على التَّوْقِيت
أَنه لَا يجوز أَكثر من وَلَا أقل، بل هُوَ قدر مَا
يَكْفِي. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الشَّافِعِي وَغَيره
من الْعلمَاء الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات: إِنَّهَا
كَانَت اغتسالات فِي أَحْوَال وجدفيها أَكثر مَا
اسْتَعْملهُ وَأقله، فَدلَّ على أَنه لَا حدَّ فِي قدر
مَاء الطَّهَارَة يجب اسْتِيفَاؤهُ. قلت: الْإِجْمَاع
قَائِم على ذَلِك، فالقلة وَالْكَثْرَة بِاعْتِبَار
الْأَشْخَاص وَالْأَحْوَال. فَافْهَم.
وَالْفرق، بِفَتْح الْفَاء وَالرَّاء، وَقَالَ ابو زيد:
بِفَتْح الرَّاء وسكونها، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْفَتْح
أفْصح، وَزعم الْبَاجِيّ أَنه الصَّوَاب، وَلَيْسَ كَمَا
قَالَ، بل هما لُغَتَانِ. وَقَالَ ابْن الاثير: الْفرق،
بِالتَّحْرِيكِ: يسع سِتَّة عشر رطلا، وَهُوَ ثَلَاثَة
أصوع. وَقيل: الْفرق خَمْسَة أقساط، وكل قسط نصف صَاع.
وَأما الْفرق، بِالسُّكُونِ، فمائة وَعِشْرُونَ رطلا،
وَقَالَ أَبُو دَاوُد: سَمِعت أَحْمد بن حَنْبَل يَقُول:
الْفرق سِتَّة عشر رطلا، والمكوك إِنَاء يسع الْمَدّ،
مَعْرُوف عِنْدهم. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: المكوك:
الْمَدّ، وَقيل: الصَّاع، وَالْأول أشبه، لِأَنَّهُ جَاءَ
فِي الحَدِيث مُفَسرًا بِالْمدِّ. وَقَالَ أَيْضا: المكوك
اسْم للمكيال، وَيخْتَلف مِقْدَاره باخْتلَاف اصْطِلَاح
النَّاس عَلَيْهِ فِي الْبِلَاد، وَيجمع على مكاكي بإبدال
الْيَاء بِالْكَاف الاخيرة، ويجىء أَيْضا على مكاكيك.
الحكم الثَّانِي: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يتَوَضَّأ بِالْمدِّ، وَهُوَ رطلان عِنْد أبي حنيفَة.
وَعند الشَّافِعِي: رَطْل وَثلث بالعراقي، وَقد
ذَكرْنَاهُ، وَأما الصَّاع: فَعِنْدَ أبي يُوسُف خَمْسَة
أَرْطَال وَثلث رَطْل عراقية، وَبِه قَالَ مَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد. وَقَالَ ابو حنيفَة وَمُحَمّد:
الصَّاع ثَمَانِيَة أَرْطَال، وَحجَّة أبي يُوسُف مَا
رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ عَنهُ، قَالَ: قدمت الْمَدِينَة،
وَأخرج إِلَى من أَثِق بِهِ صَاعا، وَقَالَ: هَذَا صَاع
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَوَجَدته خَمْسَة
أَرْطَال وَثلث، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَسمعت ابْن عمرَان
يَقُول: الَّذِي أخرجه لأبي يُوسُف هُوَ مَالك. وَقَالَ
عُثْمَان بن سعيد الدَّارمِيّ: سَمِعت عَليّ بن
الْمَدِينِيّ يَقُول: عبرت صَاع النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَوَجَدته خَمْسَة أَرْطَال وَثلث رَطْل،
وَاحْتج أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بِحَدِيث جَابر وَأنس،
رَضِي الله عَنْهُمَا، وَقد ذَكرْنَاهُ فِي أول الْبَاب.
48 - (بابُ المَسْحِ عَلَى الخُفَّيْن)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لِأَن كل وَاحِد
مِنْهُمَا فِي حكمٍ من أَحْكَام الْوضُوء.
202 - حدّثنا أصْبَغُ بنُ الفَرَجِ المِصْرِيُّ عَنِ ابنِ
وهْبٍ قالَ حدّثنى عمْرٌ وقَالَ حدّثنا أبُو النَّضْرِ
عَنْ أبي سَلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ عَنْ عَبْدِ
اللَّهِ بن عُمَرَ عنْ سَعْدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ عَنِ
النَّبِّي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ مَسَحَ عَلَى
الخُفَّيْنِ وأنّ عَبْدَ اللَّهِ بنَ عُمَرَ سَألَ عُمرَ
عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ نَعَمْ إذَا حَدَّثكَ شَيْئاً سَعْدٌ
عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلاَ تَسْأَلْ
عَنْهُ غَيْرَهُ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: أصبغ، بِفَتْح
الْهمزَة وَسُكُون الصَّاد الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَفِي آخِره عين مُعْجمَة: ابو عبد الله بن
وهب الْقرشِي الْمصْرِيّ، وَلم يكون فِي المصريين أحد
أَكثر حَدِيثا مِنْهُ، وَأصبغ كَانَ وراقاً لَهُ، مر فِي
بَاب من يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين. الثَّالِث:
عَمْرو، بِالْوَاو و: ابْن الْحَارِث أَبُو امية الْمُؤَدب
الْأنْصَارِيّ الْمصْرِيّ القارىء الْفَقِيه، مَاتَ بِمصْر
سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: أَبُو
النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة:
سَالم بن أبي أُميَّة الْقرشِي الْمدنِي، مولى عمر بن عبد
الله التَّيْمِيّ وكاتبه، مَاتَ سنة تسع وَعشْرين
وَمِائَة. الْخَامِس: أَبُو سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: عبد
الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الْقرشِي الْفَقِيه
الْمدنِي، مر فِي كتاب الْوَحْي. السَّادِس: عبد الله بن
عمر بن الْخطاب. السَّابِع: سعد بن أبي وَقاص، مر فِي
بَاب: إِذا لم يكن الْإِسْلَام على الْحَقِيقَة.
(3/96)
بينان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ
التحديث بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة من رُوَاته مصريون، وهم:
أصبغ وَابْن وهب وَعَمْرو، وَثَلَاثَة مدنيون وهم: أَبُو
النَّضر وَأَبُو سَلمَة وَابْن عمر. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ: أَبُو النَّصْر عَن أبي
سَلمَة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة صَحَابِيّ عَن
صَحَابِيّ. وَمِنْهَا: أَن مُعظم الروَاة قرشيون فُقَهَاء
أَعْلَام. وَمِنْهَا: أَن هَذَا من مُسْند سعد بِحَسب
الظَّاهِر، وَكَذَا جعله أَصْحَاب الْأَطْرَاف، وَيحْتَمل
أَن يكون من مُسْند عمر أَيْضا. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ:
رَوَاهُ أَبُو أَيُّوب الإفْرِيقِي عَن أبي النَّضر عَن
أبي سَلمَة عَن ابْن عمر عَن عمر وَسعد عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ:
وَالصَّوَاب قَول عَمْرو بن الْحَارِث عَن أبي النَّضر عَن
أبي سَلمَة عَن ابْن عمر عَن سعد.
بَيَان من أخرجه غَيره لم يُخرجهُ البُخَارِيّ إلاَّ
هَهُنَا، وَهُوَ من أَفْرَاده، وَلم يخرج مُسلم فِي
الْمسْح إلاَّ لعمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن
سُلَيْمَان بن دَاوُد، والْحَارث بن مِسْكين، كِلَاهُمَا
عَن ابْن وهب بِهِ.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (وَأَن عبد الله
بن عمر) عطف على قَوْله: (عَن عبد الله بن عمر) فَيكون
مَوْصُولا إِن حمل على أَن أَبَا سَلمَة سمع ذَلِك من عبد
الله، وإلاَّ فَأَبُو سَلمَة لم يدْرك الْقِصَّة، وَعَن
ذَلِك قَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا إِمَّا تَعْلِيق من
البُخَارِيّ، وَإِمَّا كَلَام أبي سَلمَة، وَالظَّاهِر
هُوَ الثَّانِي. قَوْله: (عَن ذَلِك) أَي: عَن مسح رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْخُفَّيْنِ. قَوْله:
(شَيْئا) نكرَة عَام، لِأَن الْوَاقِع فِي سِيَاق الشَّرْط
كالواقع فِي سِيَاق النَّفْي فِي إِفَادَة الْعُمُوم.
وَقَوله: (حَدثَك) جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول.
وَقَوله: (سعد) بِالرَّفْع فَاعله. قَوْله: (فَلَا تسْأَل
عَنهُ) أَي: عَن الشَّيْء الَّذِي حَدثهُ سعد. قَوْله:
(غَيره) أَي: غير سعد، وَذَلِكَ لقُوَّة وثوقه بنقله.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ جَوَاز الْمسْح
على الْخُفَّيْنِ وَلَا يُنكره إلاَّ المبتدع الضال.
وَقَالَت الخوراج: لَا يجوز. وَقَالَ صَاحب (الْبَدَائِع)
: الْمسْح على الْخُفَّيْنِ جَائِز عِنْد عامفة
الْفُقَهَاء، وَعَامة الصَّحَابَة إلاَّ شَيْئا رُوِيَ عَن
ابْن عَبَّاس أَنه لَا يجوز، وَهُوَ قَول الرافضة. ثمَّ
قَالَ: وَرُوِيَ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه قَالَ:
أدْركْت سبعين بَدْرِيًّا من الصَّحَابَة كلهم يرى الْمسْح
على الْخُفَّيْنِ، وَلِهَذَا رَآهُ أَبُو حنيفَة من
شَرَائِط أهل السّنة وَالْجَمَاعَة. فَقَالَ: نَحن نفضل
الشَّيْخَيْنِ، ونحب الخنتين، ونرى الْمسْح على
الْخُفَّيْنِ، وَلَا نحرم نَبِيذ الْجَرّ. يَعْنِي:
المثلث؛ وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: مَا قلت بِالْمَسْحِ
حَتَّى جَاءَنِي مثل ضوء النَّهَار، فَكَانَ الْجُحُود ردا
على كبار الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم،
ونسبته إيَّاهُم إِلَى الْخَطَأ، فَكَانَ بِدعَة،
وَلِهَذَا قَالَ الْكَرْخِي: أَخَاف الْكفْر على من لَا
يرى الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَالْأمة لم تخْتَلف أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا جَاءَ كَرَاهَة ذَلِك عَن عَليّ
وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
فَأَما الرِّوَايَة عَن عَليّ سبق الْكتاب بِالْمَسْحِ على
الْخُفَّيْنِ فَلم يرو ذَلِك عَنهُ بِإِسْنَاد مَوْصُول
يثبت مثله. وَأما عَائِشَة فَثَبت عَنْهَا أَنَّهَا أحالت
بِعلم ذَلِك على عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأما
ابْن عَبَّاس فَإِنَّمَا كرهه حِين لم يثبت مسح النَّبِي
صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم بعد نزُول الْمَائِدَة،
فَلَمَّا ثَبت رَجَعَ إِلَيْهِ. وَقَالَ الْجَوْز قاني فِي
(كتاب الموضوعات) : إِنْكَار عَائِشَة غير ثَابت عَنْهَا.
وَقَالَ الكاشاني: وَأما الرِّوَايَة عَن ابْن عَبَّاس
فَلم تصح لِأَن مَدَاره على عِكْرِمَة، وَرُوِيَ أَنه لما
بلغ عَطاء قَالَ: كذب عِكْرِمَة، وَرُوِيَ عَن عَطاء أَنه
قَالَ: كَانَ ابْن عَبَّاس يُخَالف النَّاس فِي الْمسْح
على الْخُفَّيْنِ فَلم يمت حَتَّى تَابعهمْ، وَفِي
(الْمُغنِي) لِابْنِ قدامَة: قَالَ أَحْمد: لَيْسَ فِي
قلبِي من الْمسْح شَيْء، فِيهِ أَرْبَعُونَ حَدِيثا عَن
أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَا رفعوا
إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا لم
يرفعوا؛ وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: الْمسْح أفضل، يَعْنِي
من الْغسْل، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأَصْحَابه إِنَّمَا طلبُوا الْفضل، وَهَذَا مَذْهَب
الشّعبِيّ وَالْحكم وَإِسْحَاق. وَفِي (هِدَايَة
الْحَنَفِيَّة) : الْأَخْبَار فِيهِ مستفيضة حَتَّى إِن من
لم يره كَانَ مبتدعاً، لَكِن من رَآهُ ثمَّ لم يمسح أَخذ
بالعزيمة، وَكَانَ مأجوراً. وَحكى الْقُرْطُبِيّ مثل هَذَا
عَن مَالك أَنه قَالَ عِنْد مَوته: وَعَن مَالك فِيهِ
أَقْوَال. أَحدهمَا: أَنه لَا يجوز الْمسْح أصلا.
الثَّانِي: أَنه يجوز وَيكرهُ. الثَّالِث، وَهُوَ
الْأَشْهر: يجوز أبدا بِغَيْر تَوْقِيت. الرَّابِع: أَنه
يجوز بتوقيت. الْخَامِس: يجوز للْمُسَافِر دون الْحَاضِر.
السَّادِس: عَكسه. وَقَالَ إِسْحَاق وَالْحكم وَحَمَّاد
الْمسْح أفضل من غسل الرجلَيْن، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي،
وَإِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَن احْمَد. وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: هما سَوَاء، وَهُوَ رِوَايَة عَن أَحْمد.
وَقَالَ أَصْحَاب الشَّافِعِي: الْغسْل أفضل من الْمسْح
بِشَرْط أَن لَا يتْرك الْمسْح رَغْبَة عَن السّنة، وَلَا
يشك فِي جَوَازه وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لَا أعلم أحدا من
الْفُقَهَاء رُوِيَ عَنهُ إِنْكَار الْمسْح إلاَّ
مَالِكًا، وَالرِّوَايَات الصِّحَاح عَنهُ بِخِلَاف ذَلِك.
قلت: فِيهِ نظر لما فِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة من أَن
مُجَاهدًا وَسَعِيد بن جُبَير وَعِكْرِمَة كرهوه، وَكَذَا
حكى أَبُو الْحسن النسابة عَن مُحَمَّد بن عَليّ بن
الْحُسَيْن وَأبي إِسْحَاق السبيعِي وَقيس بن الرّبيع،
وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب عَن
(3/97)
أبي بكر بن أبي دَاوُد والخوارج
وَالرَّوَافِض. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ عَن أَحْمد: فِيهِ
سَبْعَة وَثَلَاثُونَ صحابياً، وَفِي رِوَايَة الْحسن بن
مُحَمَّد عَنهُ أَرْبَعُونَ، وَكَذَا قَالَه الْبَزَّار
فِي (مُسْنده) وَقَالَ ابْن حَاتِم: أحد وَأَرْبَعُونَ
صحابياً. وَفِي (الْأَشْرَاف) عَن الْحسن: حَدثنِي بِهِ
سَبْعُونَ صحابياً. وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: مسح
على الْخُفَّيْنِ سَائِر أهل بدر وَالْحُدَيْبِيَة
وَغَيرهم من الْمُهَاجِرين وَالْأَنْصَار وَسَائِر
الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وفقهاء الْمُسلمين، وَقد
أَشَرنَا إِلَى رِوَايَة وَخمسين من الصَّحَابَة فِي
الْمسْح فِي شرحنا (لمعاني الْآثَار) للطحاوي، فَمن
أَرَادَ الْوُقُوف عَلَيْهِ فَليرْجع إِلَيْهِ.
الثَّانِي: فِيهِ تَعْظِيم لسعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ.
الثَّالِث: فِيهِ أَن الصَّحَابِيّ الْقَدِيم الصُّحْبَة
قد يخفى عَلَيْهِ من الْأُمُور الجليلة فِي الشَّرْع مَا
يطلع عَلَيْهِ غَيره، لِأَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، أنكر الْمسْح على الْخُفَّيْنِ مَعَ قدم صحبته
وَكَثْرَة رِوَايَته.
الرَّابِع: فِيهِ أَن خبر الْوَاحِد إِذا حُف بالقرائن
يُفِيد الْيَقِين، وَقد تكاثرت الرِّوَايَات بالطرق
المتعددة من الصَّحَابَة الَّذين كَانُوا لَا يفارقون
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْحَضَر وَلَا فِي
السّفر، فَجرى ذَلِك مجْرى التَّوَاتُر. وَحَدِيث
الْمُغيرَة كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك، فَسقط بِهِ من
يَقُول آيَة الْوضُوء مَدَنِيَّة، وَالْمسح مَنْسُوخ بهَا،
لِأَنَّهُ مُتَقَدم، إِذْ غَزْوَة تَبُوك آخر غَزْوَة
كائنة لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نزلت قبلهَا،
وَمِمَّا يدل على أَن الْمسْح غير مَنْسُوخ حَدِيث جرير،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه رأى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مسح على الْخُفَّيْنِ، وَهُوَ أسلم بعد
الْمَائِدَة، وَكَانَ الْقَوْم يعجبهم ذَلِك. وَأَيْضًا
فَإِن حَدِيث الْمُغيرَة فِي الْمسْح كَانَ فِي السّفر
فيعجبهم اسْتِعْمَال جرير لَهُ فِي الْحَضَر. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: لما كَانَ إِسْلَام جرير مُتَأَخِّرًا علمنَا
أَن حَدِيثه يعْمل بِهِ، وَهُوَ مُبين أَن المُرَاد بِآيَة
الْمَائِدَة غير صَاحب الْخُف، فَتكون السّنة مخصصة
لِلْآيَةِ.
الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل على أَنهم كَانُوا يرَوْنَ نسخ
السّنة بِالْقُرْآنِ، قَالَه الْخطابِيّ.
وقالَ مُوسَى بنُ عُقْبَةَ: أخْبَرَنِي أبُو النَّضْرِ أنّ
أَبَا سَلَمَةَ أخْبَرَهُ أنَ سَعْداً حَدَّثَهُ فَقَالَ
عُمَرُ لِعَبْدِ اللَّهِ نَحْوَهُ.
مُوسَى بن عقبَة، بِضَم الْعين وَسُكُون الْقَاف:
التَّابِعِيّ، صَاحب الْمَغَازِي، مَاتَ سنة إِحْدَى
واربعين وَمِائَة. وَفِيه ثَلَاثَة من التَّابِعين وهم:
مُوسَى، وَأَبُو النَّضر سَالم، وَأَبُو سَلمَة عبد الله
بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وهم على الْوَلَاء مدنيون.
وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالنَّسَائِيّ
وَغَيرهمَا، فالإسماعيلي عَن أبي يعلى: حَدثنَا
إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج حَدثنَا وهيب عَن مُوسَى بن
عقبَة عَن عُرْوَة ابْن الزبير أَن سَعْدا وَابْن عمر
اخْتلفَا فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، فَلَمَّا اجْتمعَا
عِنْد عمر قَالَ سعد لِابْنِ عمر: سل أَبَاك عَمَّا أنْكرت
عَليّ! فَسَأَلَهُ، فَقَالَ عمر: نعم، وَإِن ذهبت إِلَى
الْغَائِط. قَالَ مُوسَى: وَأَخْبرنِي سَالم أَبُو النَّضر
عَن أبي سَلمَة بِنَحْوِ من هَذَا عَن سعد وَابْن عمر
وَعمر، وَقَالَ عمر لِابْنِهِ، كَأَنَّهُ يلومه: إِذا حدث
سعد عَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَلَا
تَبْغِ وَرَاء حَدِيثه شَيْئا. وَالنَّسَائِيّ عَن
سُلَيْمَان بن دَاوُد. والْحَارث بن مِسْكين عَن ابْن وهب،
وَعَن قُتَيْبَة عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن مُوسَى.
وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث وهيب بن خَالِد عَن
مُوسَى، وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَرِوَايَة عُرْوَة
وَأبي سَلمَة عَن سعد وَابْن عمر فِي حَيَاة عمر مُرْسلَة.
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ عَن البُخَارِيّ: حَدِيث أبي سَلمَة
عَن ابْن عمر فِي الْمسْح صَحِيح، قَالَ: وَسَأَلت
البُخَارِيّ عَن حَدِيث ابْن عمر فِي الْمسْح مَرْفُوعا
فَلم يعرفهُ. وَقَالَ الْمَيْمُونِيّ: سَأَلت أَحْمد عَنهُ
فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح، ابْن عمر يُنكر على سعد
الْمسْح. قلت: إِنَّمَا أنكر عَلَيْهِ مَسحه فِي الْحَضَر،
كَمَا هُوَ مُبين فِي بعض الرِّوَايَات، وَأما السّفر فقد
كَانَ ابْن عمر يُعلمهُ. وَرَوَاهُ عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِيمَا رَوَاهُ ابْن ابي خَيْثَمَة فِي
(تَارِيخه الْكَبِير) ، وَابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من
رِوَايَة عَاصِم عَن سَالم عَنهُ: (رَأَيْت النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يمسح على الْخُفَّيْنِ بِالْمَاءِ فِي
السّفر) .
وَاعْلَم أَن خبر: إِن، فِي قَوْله: (إِن سَعْدا)
مَحْذُوف، تَقْدِيره: إِن سَعْدا حدث أَبَا سَلمَة أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مسح على
الْخُفَّيْنِ. وَقَوله: (فَقَالَ) : الْفَاء، عطف على
ذَلِك الْمُقدر. قَوْله: (نَحوه) مَنْصُوب بِأَنَّهُ مقول
القَوْل، أَي: نَحْو إِذا حَدثَك سعد عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا تسْأَل عَنهُ غَيره.
203 - حدّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ الحَرَّانِيُّ قالَ
حدّثنا اللَّيْثُ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعْدِ
بنِ إبْراهِيمَ عَنْ نافِعِ بنِ جُبَيْرٍ عَنْ عُرْوَةَ
بنِ المُغِيرَةِ عَنْ أبِيهِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ
رَضِي اللَّهُ عَنْه عَنْ
(3/98)
رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أنَّهُ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ فاتَّبَعَهُ المُغيرةُ
بِادَاوَةٍ فِيها ماءٌ فَصَبَّ عَلَيْهِ حِينَ فَرَغَ مِنْ
حاجَتِهِ فَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ عَلَى الخُفَّيْنِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عَمْرو، بِالْوَاو:
ابْن خَالِد بن فروخ، بِالْفَاءِ الْمَفْتُوحَة وَضم
الرَّاء الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة: ابو
الْحسن الْحَرَّانِي، ونسبته إِلَى حران، بِفَتْح الْحَاء
الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء وَبعد الالف نون. قَالَ
الْكرْمَانِي: مَوضِع بالجزيرة بَين الْعرَاق وَالشَّام.
قلت: لَيْسَ كَمَا قَالَه، بل هِيَ مَدِينَة قديمَة بَين
دجلة والفرات كَانَت تعدل ديار مصر، وَالْيَوْم خراب.
وَقيل: هِيَ مولد إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، ويوسف وَإِخْوَته، عَلَيْهِم
الصَّلَاة وَالسَّلَام. وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: لما خرج
نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من السَّفِينَة
بناها. وَقيل: إِنَّمَا بناها ران، خَال يَعْقُوب،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فأبدلت الْعَرَب الْهَاء
حاء فَقَالُوا: احران. الثَّانِي: اللَّيْث بن سعد
الْمصْرِيّ. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ. تقدما
فِي كتاب الْوَحْي. الرَّابِع: سعد، بِسُكُون الْعين؛
إِبْنِ ابراهيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الْخَامِس:
نَافِع بن جُبَير بن مطعم. السَّادِس: عُرْوَة بن
الْمُغيرَة بن شُعْبَة. السَّابِع: أَبُو الْمُغيرَة بن
شُعْبَة.
بَيَان لطائف اسناده الاول: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والعنعنة الْكَثِيرَة. وَالثَّانِي: أَن رُوَاته
مَا بَين حراني ومصري ومدني. وَالثَّالِث: فِيهِ أَرْبَعَة
من التَّابِعين على الْوَلَاء، وهم: يحيى وَسعد وَنَافِع
وَعُرْوَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
فِي مَوَاضِع فِي الطَّهَارَة عَن عَمْرو بن عَليّ عَن عبد
الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ، وَعَن عَمْرو ابْن خَالِد عَن
اللَّيْث، كِلَاهُمَا عَن يحيى بن سعد، وَفِي الْمَغَازِي
عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن عبد الْعَزِيز بن أبي
سَلمَة، كِلَاهُمَا عَن سعد بن إِبْرَاهِيم عَن نَافِع بن
جُبَير بن مطعم عَنهُ بِهِ، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا،
وَفِي اللبَاس عَن أبي نعيم عَن زَكَرِيَّا بن أبي
زَائِدَة عَن الشّعبِيّ عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي
الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة، وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد
بن رَافع، وَزَاد فِي قصَّة الصَّلَاة خلف عبد الرَّحْمَن
بن عَوْف. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن
أَحْمد بن صَالح، وَلم يذكر قصَّة الصَّلَاة، وَعَن
مُسَدّد عَن عِيسَى بن يُونُس. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ
عَن سُلَيْمَان بن دَاوُد والْحَارث بن مِسْكين وَعَن
قُتَيْبَة مُخْتَصرا وَعَن عبد الله بن سعد ابْن
إِبْرَاهِيم. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن
رمح.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (أَنه خرج لِحَاجَتِهِ) وَفِي
الْبَاب الَّذِي بعد هَذَا أَنه كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك
على تردد فِي ذلم من بعض رُوَاته ولمالك وَأحمد وَأبي
دَاوُود من طَرِيق عباد بن زيد عَن عُرْوَة بن الْمُغيرَة
أَنه كَانَ فِي غَزْوَة تَبُوك بِلَا تردد وَأَن ذَلِك
كَانَ عِنْد صَلَاة الْفجْر قَوْله: (فَأتبعهُ الْمُغيرَة)
. من الِاتِّبَاع؛ بتَشْديد التَّاء: من بَاب الافتعال،
ويروى: فَاتبعهُ، من الِاتِّبَاع بِالتَّخْفِيفِ من بَاب
الإفعال. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ من طَرِيق مَسْرُوق
عَن الْمُغيرَة فِي الْجِهَاد وَغَيره: أَن النَّبِي، صلى
الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَهُوَ الَّذِي أمره
أَن يتبعهُ بِالْإِدَاوَةِ. وَزَاد: (حَتَّى توارى عني
فَقضى حَاجته، ثمَّ أقبل فَتَوَضَّأ) . وَعند أَحْمد من
طَرِيق أُخْرَى عَن الْمُغيرَة أَن المَاء الَّذِي
تَوَضَّأ بِهِ أَخذه الْمُغيرَة من أعرابية صبته لَهُ من
قربَة كَانَت جلد ميتَة، وَأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: سلها إِن كَانَت دبغتها فَهُوَ طهُور
مَاؤُهَا. قَالَ: إِنِّي وَالله دبغتها. قَوْله: (بإداوة)
بِكَسْر الْهمزَة، أَي بمطهرة. قَوْله: (فَتَوَضَّأ) ،
وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد زِيَادَة وَهِي:
(وَعَلِيهِ جُبَّة شامية) . وَفِي رِوَايَة ابي دَاوُد:
(من صوف من جبات الرّوم) . وللبخاري فِي رِوَايَته الَّتِي
مَضَت فِي بَاب الرجل يوضىء صَاحبه: (فَغسل وَجهه وَيَديه)
، وَذهل الْكرْمَانِي عَن هَذِه الرِّوَايَة فَقَالَ:
فَإِن قلت الْمَفْهُوم من قَوْله: (فَتَوَضَّأ وَمسح) أَنه
غسل رجلَيْهِ وَمسح خفيه، لِأَن التَّوَضُّؤ لَا يُطلق
إلاَّ على غسل تَمام أَعْضَاء الْوضُوء، ثمَّ قَالَ: قلت:
المُرَاد بِهِ هَهُنَا غسل غير الرجلَيْن بِقَرِينَة عطف
مسح الْخُفَّيْنِ عَلَيْهِ للْإِجْمَاع على عدم وجوب
الْجمع بَين الْغسْل وَالْمسح، أَقُول: وَفِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ فِي الْجِهَاد: (إِنَّه تمضمض واستنشق وَغسل
وَجهه) . زَاد أَحْمد فِي (مُسْنده) (ثَلَاث مَرَّات،
فَذهب يخرج يَدَيْهِ من كميه فَكَانَا ضيقين، فأخرجهما من
تَحت الْجُبَّة) . وَلمُسلم من وَجه آخر: (وَألقى
الْجُبَّة على مَنْكِبَيْه) . وَلأَحْمَد: (فَغسل يَده
الْيُمْنَى ثَلَاث مَرَّات، وَيَده الْيُسْرَى ثَلَاث
مَرَّات) . وللبخاري، فِي رِوَايَة أُخْرَى: (وَمسح
بِرَأْسِهِ) . وَفِي رِوَايَة لمُسلم: (وَمسح بناصيته على
الْعِمَامَة وعَلى الْخُفَّيْنِ) ، وَلَو تَأمل
الْكرْمَانِي هَذِه الرِّوَايَات لما التجأ إِلَى هَذَا
السُّؤَال وَالْجَوَاب.
(3/99)
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ
مَشْرُوعِيَّة الْمسْح على الْخُفَّيْنِ. الثَّانِي: فِيهِ
جَوَاز الِاسْتِعَانَة، كَمَا مر فِي بَابه. الثَّالِث:
فِيهِ الِانْتِفَاع بجلود الميتات إِذا كَانَت مدبوغة.
الرَّابِع: فِيهِ الِانْتِفَاع بِثِيَاب الْكفَّار حَتَّى
يتَحَقَّق نجاستها لِأَنَّهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لبس الْجُبَّة الرومية، وَاسْتدلَّ بِهِ
الْقُرْطُبِيّ على أَن الصُّوف لَا يَتَنَجَّس
بِالْمَوْتِ، لِأَن الْجُبَّة كَانَت شامية، وَكَانَ
الشَّام إِذْ ذَاك دَار كفر، ومأكول أَهلهَا الميتات.
الْخَامِس: فِيهِ الرَّد على من زعم أَن الْمسْح على
الْخُفَّيْنِ مَنْسُوخ بِآيَة الْوضُوء الَّتِي فِي
الْمَائِدَة لِأَنَّهَا نزلت فِي غَزْوَة الْمُريْسِيع،
وَكَانَت هَذِه الْقِصَّة فِي غَزْوَة تَبُوك وَهِي
بعْدهَا بِلَا خلاف. السَّادِس: فِيهِ التشمير فِي السّفر
وَلبس الثِّيَاب الضيقة فِيهِ لكَونهَا أعون على ذَلِك.
السَّابِع: فِيهِ قبُول خبر الْوَاحِد فِي الْأَحْكَام
وَلَو كَانَت امْرَأَة، سَوَاء كَانَ ذَلِك فِيمَا تعم
بِهِ الْبلوى ام لَا، لِأَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، قبل خبر الأعرابية. الثَّامِن: فِيهِ
اسْتِحْبَاب التواري عَن أعين النَّاس عِنْد قَضَاء
الْحَاجة والإبعاد عَنْهُم. التَّاسِع: فِيهِ جَوَاز خدمَة
السادات بِغَيْر إذْنهمْ. الْعَاشِر: فِيهِ اسْتِحْبَاب
الدَّوَام على الطَّهَارَة، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، امْر الْمُغيرَة أَن يتبعهُ بِالْمَاءِ لأجل
الْوضُوء. الْحَادِي عشر: فِيهِ أَن الِاقْتِصَار على غسل
مُعظم الْمَفْرُوض غسله لَا يجوز لإخراجه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَدَيْهِ من تَحت الْجُبَّة، وَلم يكتف
بِمَا بَقِي.
204 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قالَ حدّثنا شَيْبَانُ عَنْ
يَحْيىَ عَنْ أبي سَلَمَةَ عَنْ جعْفَرِ بنِ عَمرٍ وبنِ
أُمَيَّةَ الضَّمْرِيِّ أنّ أباهُ أخْبَرَهُ أنَّهُ رَأَى
النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمْسَحُ عَلَى
الخفَّيْنِ.
(الحَدِيث 204 طرفه فِي: 205) .
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: أَبُو نعيم هُوَ الْفضل
بن دُكَيْن. الثَّانِي: شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن
النَّحْوِيّ. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير التَّابِعِيّ.
الرَّابِع: أَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف، تقدمُوا فِي بَاب كِتَابَة الْعلم. الْخَامِس:
جَعْفَر بن عَمْرو بن أُميَّة الضمرِي، بالضاد
الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة: أَخُو عبد الْملك بن مَرْوَان
من الرضَاعَة، من كبار التَّابِعين، مَاتَ سنة خمس
وَتِسْعين. السَّادِس: عَمْرو بن أُميَّة، شهد بَدْرًا
وأُحداً مَعَ الْمُشْركين، وَأسلم حِين انْصَرف
الْمُشْركُونَ عَن أحد، وَكَانَ من رجال الْعَرَب نجدة
وجراءة، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عشرُون حَدِيثا، للْبُخَارِيّ مِنْهَا حديثان، مَاتَ
بِالْمَدِينَةِ سنة سِتِّينَ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ ثَلَاثَة
من التَّابِعين وهم: يحيى وابو سَلمَة وجعفر. وَمِنْهَا:
أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري ومدني.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة
عَن عَبَّاس الْعَنْبَري عَن عبد الرَّحْمَن بن مهْدي عَن
حَرْب بن شَدَّاد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر
بن أبي شيبَة عَن مُحَمَّد بن مُصعب عَن الْأَوْزَاعِيّ.
بَيَان الحكم: وَهُوَ مَشْرُوعِيَّة الْمسْح على
الْخُفَّيْنِ.
وتابَعَهُ حَرْبُ بنُ شَدَّادٍ وأبَانُ عَنْ يَحْيىَ
اي: تَابع شَيبَان بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور حَرْب بن
شَدَّاد. فَقَوله: (حَرْب) مَرْفُوع لِأَنَّهُ فَاعل:
تَابعه، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى
شَيبَان، وَقد وَصله النَّسَائِيّ عَن عَبَّاس الْعَنْبَري
عَن عبد الرَّحْمَن عَن حَرْب عَن يحيى بن أبي كثير عَن
أبي سَلمَة. قَوْله: (وَأَبَان) عطف على حَرْب، وَهُوَ
أبان بن يزِيد الْعَطَّار، وَحَدِيثه وَصله الطَّبَرَانِيّ
فِي (مُعْجَمه الْكَبِير) عَن مُحَمَّد ابْن يحيى بن
الْمُنْذر الْقَزاز، حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
حَدثنَا أبان بن يزِيد عَن يحيى فَذكره. ثمَّ إعلم أَن
أبان، عِنْد من صرفه، الْألف فِيهِ أَصْلِيَّة، ووزنه:
فعال، وَمن مَنعه عَكسه. فَقَالَ: الْهمزَة زَائِدَة
وَالْألف بدل من الْيَاء، لِأَن أَصله بَين.
205 - حدّثنا عَبْدَانُ قالَ أخْبرنا عَبْدُ اللَّهُ قَالَ
أخْبرنا الاَوْزاعِيُّ عَنْ يَحْيىَ عَن أبي سَلَمَةَ عَنْ
جَعْفَرِ بنِ عَمْرٍ عَنْ أبِيهِ قَالَ رَأيْتُ النَّبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَمْسَحُ عَلى عِمَامَتِهِ
وخُفَّيْهِ.
(انْظُر الحَدِيث: 204) .
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عَبْدَانِ، بِفَتْح
الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: لقب عبد الله
بن عُثْمَان الْعَتكِي الْحَافِظ. الثَّانِي: عبد الله بن
الْمُبَارك الْمروزِي، شيخ الْإِسْلَام، تقدما فِي كتاب
الْوَحْي. الثَّالِث: الْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ عبد
الرَّحْمَن، تقدم فِي كتب الْعلم فِي بَاب الْخُرُوج فِي
طلب الْعلم. الرَّابِع: يحيى بن أبي كثير. الْخَامِس:
أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. السَّادِس:
جَعْفَر بن عَمْرو. السَّابِع: أَبوهُ عَمْرو بن أُميَّة.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن
رُوَاته مَا بَين مروزي وشامي ومدني.
(3/100)
بَيَان الْمَعْنى قَوْله: (على عمَامَته
وخفيه) ، وَهَكَذَا رَوَاهُ الْأَوْزَاعِيّ وَهُوَ
مَشْهُور عَنهُ، وَأسْقط بعض الروَاة عَنهُ جعفراً من
الْإِسْنَاد هُوَ خطأ، قَالَه أَبُو حَاتِم الرَّازِيّ،
وَقَالَ الْأصيلِيّ: ذكر الْعِمَامَة فِي هَذَا الحَدِيث
من خطأ الْأَوْزَاعِيّ، لِأَن شَيبَان رَوَاهُ عَن يحيى
وَلم يذكرهَا، وَتَابعه حَرْب وَأَبَان، وَالثَّلَاثَة
خالفوا الْأَوْزَاعِيّ، لِأَن شَيبَان رَوَاهُ عَن يحيى،
فَوَجَبَ تَغْلِيب الْجَمَاعَة على الْوَاحِد. أَقُول: على
تَقْدِير تفرد الْأَوْزَاعِيّ بِذكر الْعِمَامَة لَا
يسْتَلْزم ذَلِك تخطئته، لِأَنَّهُ زِيَادَة من ثِقَة غير
مُنَافِيَة لرِوَايَة غَيره فَتقبل.
بَيَان الحكم وَهُوَ شَيْئَانِ: أَحدهمَا: الْمسْح على
الْعِمَامَة. وَالْآخر: على الْخُفَّيْنِ. أما الأول:
فَاخْتلف الْعلمَاء فِيهِ، فَذهب الإِمَام أَحْمد إِلَى
جَوَاز الِاقْتِصَار على الْعِمَامَة بِشَرْط الاعمام بعد
كَمَال الطَّهَارَة، كَمَا فِي الْمسْح على الْخُفَّيْنِ،
وَاحْتج المانعون بقوله تَعَالَى: {وامسحوا برؤوسكم}
(الْمَائِدَة: 6) وَمن مسح على الْعِمَامَة لم يمسح على
رَأسه، وَأَجْمعُوا على أَنه لَا يجوز مسح الْوَجْه فِي
التَّيَمُّم على حَائِل دونه، فَكَذَلِك الرَّأْس. وَقَالَ
الْخطابِيّ: فرض الله مسح الرَّأْس، والْحَدِيث فِي مسح
الْعِمَامَة مُحْتَمل للتأويل، فَلَا يتْرك الْمُتَيَقن
للمحتمل. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَمِمَّنْ مسح على
الْعِمَامَة: أَبُو بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَبِه قَالَ عمر وَأنس وَأَبُو أُمَامَة، وَرُوِيَ
عَن سعد بن مَالك وَأبي الدارداء. وَبِه قَالَ عمر بن عبد
الْعَزِيز وَالْحسن وَقَتَادَة وَمَكْحُول
وَالْأَوْزَاعِيّ وابو ثَوْر. وَقَالَ عُرْوَة
وَالنَّخَعِيّ وَالشعْبِيّ وَالقَاسِم وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ واصحاب الرَّأْي: لَا يجوز الْمسْح
عَلَيْهَا؛ وَفِي (المغنى) : وَمن شَرَائِط جَوَاز الْمسْح
على الْعِمَامَة شَيْئَانِ: أَحدهمَا: أَن تكون تَحت
الحنك، سَوَاء أرْخى لَهَا ذؤابة أم لَا، قَالَه القَاضِي،
وَلَا فرق بَين الصَّغِيرَة والكبيرة إِذا وَقع عَلَيْهَا
الِاسْم. وَقيل: إِنَّمَا لم يجز الْمسْح على الْعِمَامَة
الَّتِي لَيْسَ لَهَا حنك، لِأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر بالتلحي وَنهى عَن الاقتعاط. قَالَ
أَبُو عبيد: الاقتعاط: أَن لَا يكون تَحت الحنك مِنْهَا
شَيْء. وَرُوِيَ أَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رأى
رجلا لَيْسَ تَحت حنكه من عمَامَته شَيْء، فحنكه بكور
مِنْهَا، وَقَالَ: مَا هَذِه الفاسقية؟ الشَّرْط
الثَّانِي: أَن تكون ساترة لجَمِيع الرَّأْس إلاَّ مَا جرت
الْعَادة بكشفه، كمقدم الرَّأْس والأذنين، وَيسْتَحب أَن
يمسح على مَا ظهر من الرَّأْس مَعَ الْمسْح على
الْعِمَامَة، نَص عَلَيْهِ أَحْمد، وَلَا يجوز الْمسْح على
القلنسوة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَا نعلم أحدا قَالَ
بِالْمَسْحِ على القلنسوة إلاَّ أنسا مسح على قلنسوته.
وَفِي جَوَاز الْمسْح للْمَرْأَة على الْخمار
رِوَايَتَانِ: احداهما: يجوز، وَالثَّانيَِة: لَا يجوز.
قَالَ نَافِع وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان
وَالْأَوْزَاعِيّ وَسَعِيد بن عبد الْعَزِيز، وَلَا يجوز
الْمسْح على الْوِقَايَة قولا وَاحِدًا، وَلَا نعلم فِيهِ
خلافًا لِأَنَّهُ لَا يشق نَزعهَا. وَأما الحكم الثَّانِي:
للْحَدِيث فقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
وتابَعَهُ مَعْمَرٌ عَنْ يَحْيىَ عَنْ أبي سَلَمَة عَنْ
عَمْرٍ وَقَالَ رَأَيْتُ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَمْسَحُ عَلَى عِمَامَتِه وخُفَّيْهِ.
أَي: تَابع الْأَوْزَاعِيّ معمر بن رَاشد. فَقَوله: (معمر)
بِالرَّفْع فَاعل لقَوْله: (تَابعه) ، وَالضَّمِير
الْمَنْصُوب فِيهِ للأوزاعي، وَهَذِه الْمُتَابَعَة
مُرْسلَة وَلَيْسَ فِيهَا ذكر الْعِمَامَة، لما روى عَنهُ
عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن يحيى عَن أبي سَلمَة عَن عمر،
وَقَالَ: (رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمسح
على خفيه) ، هَكَذَا وَقع فِي مُصَنف عبد الرَّزَّاق، وَلم
يذكر الْعِمَامَة. وَأَبُو سَلمَة لم يسمع من عَمْرو،
وَإِنَّمَا سمع من أَبِيه جَعْفَر، فَلَا حجَّة فِيهَا.
قَالَه الْكرْمَانِي، قلت: وَقع فِي كتاب الطَّهَارَة
لِابْنِ مُنْذر من طَرِيق معمر: وَفِيه إِثْبَات ذكر
الْعِمَامَة، وَقَالَ بَعضهم: سَماع أبي سَلمَة من عَمْرو
مُمكن، فَإِنَّهُ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة سِتِّينَ،
وَأَبُو سَلمَة مدنِي، وَقد سمع من خلق مَاتُوا قبل عمر.
وَقلت: كَونه مدنياً وسماعه من خلق مَاتُوا قبله لَا
يسْتَلْزم سَمَاعه من عَمْرو، وبالاحتمال لَا يثبت ذَلِك.
49 - (بابٌ إِذا أدْخَلَ رِجْلَيْهِ وهُمَا طَاهِرَتانِ)
قَوْله: (بَاب) إِذا قطع عَمَّا بعده لَا يكون معرباً،
لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ فِي جُزْء الْمركب،
وَإِذا أضيف إِلَى مَا بعده بِتَأْوِيل: بَاب فِي بَيَان
إِدْخَال الرجل رجلَيْهِ فِي خفيه وهما طاهرتان، أَي:
وَالْحَال أَن رجلَيْهِ طاهرتان، عَن الْحَدث بِأَن يكون
الْبَاب معرباً على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي:
هَذَا بَاب فِي بَيَان إِدْخَال الرجل ... إِلَى آخِره.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لِأَن كلاًّ
مِنْهُمَا فِي حكم الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
(3/101)
206 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قالَ حدّثنا
زَكَرِيَّاءُ عَنْ عامِرٍ عَنْ عُرْوَةَ بن المُغِيرَةِ
عَنْ أبِيهِ قَالَ كُنْتُ مَعَ النَّبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ فأهْوَيْتُ لاَنْزِعَ خُفَّيْهِ
فقالَ دَعْهُمَا فَانِّي أدْخَلْتُهُمَا طَاهرَتَيْنِ
فَمَسَحَ عَلَيْهمَا..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن
دُكَيْن. الثَّانِي: ذكريا بن أبي زَائِدَة الْكُوفِي.
الثَّالِث: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ التَّابِعِيّ،
قَالَ: ادركت خَمْسمِائَة صَحَابِيّ أَو أَكثر يَقُولُونَ:
عَليّ وَطَلْحَة وَالزُّبَيْر فِي الْجنَّة، تقدم هُوَ
وزَكَرِيا فِي بَاب فضل من اسْتَبْرَأَ لدينِهِ.
الرَّابِع: عُرْوَة بن الْمُغيرَة. الْخَامِس: الْمُغيرَة
بن شُعْبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم كوفيون.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد مر عَن قريب.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (فِي سفر) : هُوَ
سفرة غَزْوَة تَبُوك كَمَا ورد مُبينًا فِي رِوَايَة
أُخْرَى فِي (الصَّحِيح) وَكَانَت فِي رَجَب سنة تسع.
قَوْله: (فَأَهْوَيْت) أَي: مددت يَدي، وَيُقَال: أَي
أَشرت إِلَيْهِ. قَالَ الْجَوْهَرِي: يُقَال أَهْوى
إِلَيْهِ بيدَيْهِ ليأخذه. قَالَ الْأَصْمَعِي: اهويت
الشَّيْء إِذا أَوْمَأت بِهِ. وَقَالَ التَّيْمِيّ: أهويت
أَي: قصدت الْهوى من الْقيام إِلَى الْقعُود. وَقيل:
الإهواء: الإمالة. قَوْله: (لأنزع) ، بِكَسْر الزَّاي من
بَاب: ضرب يضْرب، فَإِن قلت: فِيهِ حرف الْحلق، وَمَا
فِيهِ حرف من حُرُوف الْحلق، يكون من بَاب: فعل يفعل
بِالْفَتْح، فيهمَا. قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك،
وَإِنَّمَا إِذا وجد فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا،
فَالشَّرْط فِيهِ أَن يكون فِيهِ حرف من حُرُوف الْحلق،
وَأما إِذا كَانَت كلمة فِيهَا حرف حلق لَا يلْزم أَن تكون
من بَاب فعل يفعل بِالْفَتْح فيهمَا. قَوْله: (خُفْيَة)
أَي: خَفِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله:
(دعهما) اي: دع الْخُفَّيْنِ. فَقَوله: (دع) أَمر
مَعْنَاهُ: أترك، وَهُوَ من الْأَفْعَال الَّتِي أماتوا
ماضيها. قَوْله: (فَإِنِّي أدخلتهما) أَي: الرجلَيْن.
قَوْله: (طاهرتين) أَي من الْحَدث، وَهُوَ مَنْصُوب على
الْحَال، وَهَذَا رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (وهما طاهرتان) ، وَهِي جملَة أسمية حَالية.
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَإِنِّي أدخلت الْقَدَمَيْنِ
الْخُفَّيْنِ وهما طاهرتان) . وللحميدي فِي (مُسْنده) :
(قلت يَا رَسُول الله: أيمسح أَحَدنَا على خفيه؟ قَالَ:
نعم، إِذا أدخلهما وهما طاهرتان) . وَلابْن خُزَيْمَة من
حَدِيث صَفْوَان بن غَسَّان: (أمرنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن نمسح على الْخُفَّيْنِ إِذا نَحن
أدخلناهما على طهر ثَلَاثًا إِذا سافرنا، وَيَوْما
وَلَيْلَة إِذا أَقَمْنَا) . قَوْله: (فَمسح عَلَيْهِمَا)
أَي: على الْخُفَّيْنِ، وَفِيه إِضْمَار تَقْدِيره: فأحدث
فَمسح عَلَيْهِمَا، لِأَن وَقت جَوَاز الْمسْح بعد
الْحَدث. وَالْوُضُوء، وَلَا يجوز قبله، لِأَنَّهُ على
طَهَارَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ جَوَاز الْمسْح
على الْخُفَّيْنِ وَبَيَان مشروعيته. الثَّانِي: احتجت
بِهِ الشَّافِعِيَّة على أَن شَرط جَوَاز الْمسْح لبسهما
على طَهَارَة كَامِلَة قبل لبس الْخُف، لِأَن الحَدِيث جعل
الطَّهَارَة قبل لبس الْخُف شرطا لجَوَاز الْمسْح،
وَالْمُعَلّق بِشَرْط لَا يَصح إلاَّ بِوُجُود ذَلِك
الشَّرْط. وَقَالَ بَعضهم: قَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) من
الْحَنَفِيَّة: شَرط إِبَاحَة الْمسْح لبسهما على طَهَارَة
كَامِلَة. قَالَ وَالْمرَاد بالكاملة وَقت الْحَدث لَا
وَقت اللّبْس. انْتهى. فَقَالَ: والْحَدِيث حجَّة
عَلَيْهِ، وَذكر مَا ذَكرْنَاهُ الْآن عَن الشَّافِعِيَّة.
قلت: نقُول أَولا مَا قَالَه صَاحب (الْهِدَايَة) ، ثمَّ
نرد على هَذَا الْقَائِل مَا قَالَه. أما عبارَة صَاحب
الْهِدَايَة فَهِيَ قَوْله: إِذا لبسهما على طَهَارَة
كَامِلَة، لَا يُفِيد اشْتِرَاط الْكَمَال وَقت اللّبْس،
بل وَقت الْحَدث، وَهُوَ الْمَذْهَب عندنَا حَتَّى لَو غسل
رجلَيْهِ وَلبس خفيه ثمَّ أكمل الطَّهَارَة ثمَّ أحدث
يجْزِيه الْمسْح، وَهَذَا لِأَن الْخُف مَانع حُلُول
الْحَدث بالقدم، فيراعى كَمَال الطَّهَارَة وَقت الْمَنْع
وَهُوَ وَقت الْحَدث، حَتَّى لَو كَانَت نَاقِصَة عِنْد
ذَلِك كَانَ الْخُف رَافعا. وَأما بَيَان الرَّد على هَذَا
الْقَائِل: بِأَن الحَدِيث الْمَذْكُور لَيْسَ بِحجَّة على
صَاحب (الْهِدَايَة) ، فَهُوَ إِنَّا نقُول أَولا: إِن
اشْتِرَاط اللّبْس على طَهَارَة كَامِلَة لَا خلاف فِيهِ
لأحد، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي أَنه هَل يشْتَرط الْكَمَال
عِنْد اللّبْس أَو عِنْد الْحَدث؟ فعندنا عِنْد الْحَدث،
وَعند الشَّافِعِي عِنْد اللّبْس. وَتظهر ثَمَرَته فِيمَا
إِذا غسل رجلَيْهِ أَولا وَلبس خفيه، ثمَّ أتم الْوضُوء
قبل أَن يحدث، ثمَّ أحدث جَازَ لَهُ الْمسْح عندنَا،
خلافًا لَهُ. وَكَذَا لَو تَوَضَّأ فرتب. لَكِن غسل
إِحْدَى رجلَيْهِ وَلبس الْخُف، ثمَّ غسل الْأُخْرَى وَلبس
الْخُف الآخر يجوز عندنَا خلافًا لَهُ، ثمَّ قَوْله:
الْمُعَلق بِشَرْط لَا يَصح إلاَّ بِوُجُود ذَلِك
الشَّرْط، سلمناه، وَلَكِن لَا نسلم أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم شَرط كَمَال الطَّهَارَة وَقت اللّبْس،
لِأَنَّهُ لَا يفهم من نَص الحَدِيث غَايَة مَا فِي
الْبَاب أَنه أخبر أَنه لبسهما وَقَدمَاهُ كَانَتَا
طاهرتين، فأخذنا من هَذَا اشْتِرَاط الطَّهَارَة لأجل
جَوَاز الْمسْح، سَوَاء كَانَت الطَّهَارَة حَاصِلَة وَقت
اللّبْس أَو وَقت
(3/102)
الْحَدث، وتقييده بِوَقْت اللّبْس أَمر
زَائِد لَا يفهم من الْعبارَة. فَإِذا تقرر هَذَا على
هَذَا لم يكن الحَدِيث حجَّة على صَاحب (الْهِدَايَة) ، بل
هُوَ حجَّة لَهُ، حَيْثُ اشْترط الطَّهَارَة لأجل جَوَاز
الْمسْح، وَحجَّة عَلَيْهِ حَيْثُ يَأْخُذ مِنْهُ مَا
لَيْسَ يدل على مدعاه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: معنى قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أدخلتهما طاهرتين، يجوز أَن
يُقَال: غسلتهما، وَإِن لم يكمل الطَّهَارَة صلى
رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يتم صلَاته، وَيحْتَمل أَن يُرِيد:
طاهرتان من جَنَابَة أَو خبث. وَلَو قلت: دَخَلنَا
الْبَلَد وَنحن ركبان، يشْتَرط أَن يكون كل وَاحِد
رَاكِبًا عِنْد دُخُوله، وَلَا يشْتَرط افترانهم فِي
الدُّخُول، فَتكون كل وَاحِدَة من رجلَيْهِ عِنْد إدخالها
الْخُف طَاهِرَة إِذا لم يدخلهما الْخُفَّيْنِ مَعًا، وهما
طاهرتان، لِأَن إدخالهما مَعًا غير مُتَصَوّر عَادَة،
وَإِن أَرَادَ إِدْخَال كل وَاحِدَة الْخُف وَهِي طَاهِرَة
بعد الْأُخْرَى فقد وجد الْمُدَّعِي، وَمَعَ هَذَا فَإِن
هَذِه الْمَسْأَلَة مَبْنِيَّة على أَن التَّرْتِيب شَرط
عِنْد الشَّافِعِي وَلَيْسَ بِشَرْط عندنَا، وَقَالَ:
هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَلابْن خُزَيْمَة، من حَدِيث
صَفْوَان بن عَسَّال: (أمرنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن نمسح على الْخُفَّيْنِ إِذا نَحن
أدخلناهما على طهر ثَلَاثًا إِذا سافرنا، وَيَوْما
وَلَيْلَة إِذا أَقَمْنَا) . قَالَ ابْن خُزَيْمَة: ذكرته
للمزني فَقَالَ لي: حدث بِهِ أَصْحَابنَا، فَإِنَّهُ أقوى
حجَّة للشَّافِعِيّ. قلت: فَإِن كَانَ مُرَاده من قَوْله:
فَإِنَّهُ من أقوى حجَّة، كَون مُدَّة الْمسْح للْمُسَافِر
ثَلَاثَة أَيَّام وللمقيم يَوْمًا وَلَيْلَة، فَمُسلم.
وَنحن نقُول بِهِ، وَإِن كَانَ مُرَاده اشْتِرَاط
الطَّهَارَة وَقت اللّبْس فَلَا نسلم ذَلِك، لِأَنَّهُ لَا
يفهم ذَلِك من نَص الحَدِيث على مَا ذَكرْنَاهُ الْآن.
وَقَالَ أَيْضا: وَحَدِيث صَفْوَان، وَإِن كَانَ صَحِيحا،
لكنه لَيْسَ على شَرط البُخَارِيّ، لَكِن حَدِيث الْبَاب
مُوَافق لَهُ فِي الدّلَالَة على اشْتِرَاط الطَّهَارَة
عِنْد اللّبْس. قلت: بعد أَن صَحَّ حَدِيث صَفْوَان عِنْد
جمَاعَة من الْمُحدثين لَا يلْزم أَن يكون على شَرط
البُخَارِيّ. وَقَوله: مُوَافق لَهُ فِي الدّلَالَة. إِلَى
آخِره، غير مُسلم فِي كَون الطَّهَارَة عِنْد اللّبْس.
نعم، مُوَافق لَهُ فِي مُطلق اشْتِرَاط الطَّهَارَة لَا
غير، فَإِن ادّعى هَذَا الْقَائِل أَنه يدل على كَونهَا
عِنْد اللّبْس، فَعَلَيهِ الْبَيَان بِأَيّ نوع من
أَنْوَاع الدّلَالَة. الثَّالِث: من الْأَحْكَام، فِيهِ:
خدمَة الْعَالم، وللخادم أَن يقْصد إِلَى مَا يعرف من
خدمته دون أَن يَأْمر بهَا. الرَّابِع: فِيهِ إِمْكَان
الْفَهم عَن الْإِشَارَة ورد الْجَواب بِالْعلمِ على مَا
يفهم من الْإِشَارَة، لِأَن الْمُغيرَة أَهْوى لينزع
الْخُفَّيْنِ، ففهم عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا
أَرَادَ، فَأجَاب بِأَنَّهُ يجْزِيه الْمسْح. الْخَامِس:
فِيهِ: أَن من لبس خفيه على غير طَهَارَة انه لَا يمسح
عَلَيْهِمَا بِلَا خلاف.
50 - (بابُ مَنْ لَمْ يَتَوَضَّأْ مِنْ لَحْمِ الشَّاةِ
والسَّوِيقِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي حكم من لم يتَوَضَّأ من أكل لحم
الشَّاة، قيد بِلَحْم الشَّاة ليندرج مَا هُوَ مثلهَا
وَمَا هُوَ دونهَا فِي حكمهَا. قَوْله: (والسويق)
بِالسِّين وَالصَّاد، لُغَة فِيهِ لمَكَان المضارعة،
وَالْجمع: أسوقة. وَسمي بذلك لانسياقه فِي الْخلق، والقطعة
من السويق سويقة، وَعَن أبي حنيفَة: الجذيذة السويق، لِأَن
الْحِنْطَة جذت لَهُ. يُقَال: جذذت الْحِنْطَة للسويق.
وَقَالَ أَبُو حَاتِم: إِذا أَرَادوا أَن يعملوا الفريصة،
وَهِي ضرب من السويق، ضربوا من الزَّرْع مَا يُرِيدُونَ
حِين يستفرك، ثمَّ يسهمونه، وتسهيمه أَن يسخن على المقلى
حَتَّى ييبس، وَإِن شاؤا جعلُوا مَعَه على المقلى الفودنج،
وَهُوَ أطيب الْأَطْعِمَة. وَعَابَ رجل السويق بِحَضْرَة
أَعْرَابِي فَقَالَ: لَا تَعبه، فَإِنَّهُ عدَّة
الْمُسَافِر، وَطَعَام العجلان، وغذاء المبتكر، وبلغة
الْمَرِيض، وَهُوَ يسر فؤاد الحزين، وَيرد من نفس المحرور،
وجيد فِي التسمين، ومنعوت فِي الطِّبّ، وفقارة لحلق
البلغم، وملتوته يصفي الدَّم؛ وَإِن شِئْت كَانَ شرابًا،
وَإِن شِئْت كَانَ طَعَاما، وَإِن شِئْت ثريداً وَإِن
شِئْت خبيصاً. وثريت السويق: صببت عَلَيْهِ مَاء ثمَّ
لتيته، وَفِي (مجمع الغرائب) : ثرى يثري ثرية: إِذا بل
التُّرَاب، وَإِنَّمَا بل السويق لما كَانَ لحقه من اليبس
والقدم، وَهُوَ شَيْء يتَّخذ من الشّعير أَو الْقَمْح، يدق
فَيكون شبه الدَّقِيق إِذا احْتِيجَ إِلَى أكله خلط
بِمَاء، أَو لبن أَو رب أَو نَحوه. وَقَالَ قوم: الكعك.
قَالَ السفاقسي: قَالَ بَعضهم: كَانَ ملتوتاً بِسمن.
وَقَالَ الدَّاودِيّ: هُوَ دَقِيق الشّعير والسلت المقلو،
وَيرد قَول من قَالَ: إِن السويق هُوَ الكعك قَول
الشَّاعِر:
(يَا حبذا الكعك بِلَحْم مثرود ... وخشكنان مَعَ سويق
مقنود.)
وَقَالَ ابْن التِّين لَيْسَ فِي حَدِيثي الْبَاب ذكر
السويق، وَقَالَ بَعضهم: أُجِيب بِأَنَّهُ دخل من بَاب
أولى، لِأَنَّهُ إِذا لم يتَوَضَّأ من اللَّحْم مَعَ
دسومته، فعدمه من السويق أولى، وَلَعَلَّه أَشَارَ بذلك
إِلَى الحَدِيث فِي الْبَاب الَّذِي بعد. قلت: وَإِن
سلمنَا مَا قَالَه،
(3/103)
فتخصيص السويق بِالذكر لماذا؟ وَقَوله:
وَلَعَلَّه ... إِلَى آخِره، أبعد من الْجَواب الأول،
لِأَنَّهُ عقد على السويق بَابا، فَلَا يذكر إلاَّ فِي
بَابه، وَذكره إِيَّاه هَهُنَا لَا طائل تَحْتَهُ.
لِأَنَّهُ لَا يُفِيد شَيْئا زَائِدا.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر، لِأَن أَكثر
هَذِه الْأَبْوَاب فِي أَحْكَام الْوضُوء.
وأكَلَ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ وعُثْمانُ رَضِي الله عَنْهُم
فَلَمْ يَتَوَضَّؤوُا
لَيْسَ فِي رِوَايَة أبي ذَر لَحْمًا، وَإِنَّمَا روى: أكل
أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان فَلم يتوضؤوا، وَوجد ذَلِك فِي
رِوَايَة الْكشميهني، وَالْأولَى أَعم، لِأَن فِيهَا حذف
الْمَفْعُول، وَهُوَ يتَنَاوَل أكل كل مَا مسته النَّار
لَحْمًا أَو غَيره، وَكَذَا وصل هَذَا التَّعْلِيق
الطَّبَرَانِيّ فِي (مُسْند الشاميين) بِإِسْنَاد حسن من
طَرِيق سُلَيْمَان بن عَامر، قَالَ: (رَأَيْت أَبَا بكر
وَعمر وَعُثْمَان أكلُوا مِمَّا مست النَّار وَلم يتوضؤوا)
وروى ابْن أبي شيبَة عَن هَيْثَم: أخبرنَا عَليّ بن زيد
حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: (أكلت مَعَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَعَ أبي بكر وَعمر
وَعُثْمَان خبْزًا وَلَحْمًا فصلوا وَلم يتوضؤوا)
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ عَن ابْن أبي عمر عَن ابْن
عُيَيْنَة حَدثنَا ابْن عقيل فَذكره مطولا، وَرَوَاهُ ابْن
حبَان عَن عبد الله بن مُحَمَّد حَدثنَا إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم حَدثنَا أَبُو عَلْقَمَة عبد الله بن مُحَمَّد
بن أبي فَرْوَة حَدثنِي مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَنهُ،
وَرَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة حَدثنَا مُوسَى بن سهل حَدثنَا
عَليّ بن عَبَّاس حَدثنَا شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن ابْن
الْمُنْكَدر، وروى الطَّحَاوِيّ عَن أبي بكرَة، قَالَ:
حَدثنَا أَبُو دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا رَبَاح بن أبي
مَعْرُوف عَن عَطاء عَن جَابر، قَالَ: (أكلنَا مَعَ ابي
بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خبْزًا وَلَحْمًا ثمَّ
صلى وَلم يتَوَضَّأ) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من عشر طرق،
وروى أَيْضا عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، نَحوه. قَوْله: (فَلم يتوضؤوا) : غَرَضه
مِنْهُ بَيَان الْإِجْمَاع السكوتي.
70 - (حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف قَالَ أخبرنَا مَالك عَن
زيد بن أسلم عَن عَطاء بن يسَار عَن عبد الله بن عَبَّاس
أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
أكل كتف شَاة ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ) مُطَابقَة الحَدِيث
للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (بَيَان رِجَاله) وهم خَمْسَة.
كلهم ذكرُوا. وَمن لطائف إِسْنَاده التحديث بِصِيغَة
الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْجمع والعنعنة. (بَيَان من
أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد جَمِيعًا فِي
الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك. (بَيَان الْمَعْنى)
قَوْله " أكل كتف شَاة " أَي أكل لَحْمه وَفِي لفظ
للْبُخَارِيّ فِي الْأَطْعِمَة " تعرق " أَي أكل مَا على
الْعرق بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء
وَهُوَ الْعظم وَيُقَال لَهُ الْعرَاق بِالضَّمِّ أَيْضا
وَفِي لفظ " انتشل عرقا من قدر " وَعند مُسلم " أَنه أكل
عرقا أَو لَحْمًا ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ وَلم يمس مَاء "
وَرَوَاهُ أَبُو إِسْحَاق السراج فِي مُسْنده بِزِيَادَة "
وَلم يمضمض " وَفِي مُسْند أَحْمد " انتهش من كتف " وَعند
ابْن ماجة " ثمَّ مسح يَده بمسح كَانَ تَحْتَهُ " وَفِي
الْمنصف " أكل من عظم أَو تعرق من ضلع " وَفِي سنَن أبي
دَاوُد " فرأيته يسيل على لحيته أمشاج من دم دَمًا ثمَّ
قَامَ إِلَى الصَّلَاة " وَفِي مُسْند القَاضِي
إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق كَانَ ذَلِك فِي بَيت ضباعة بنت
الْحَارِث بن عبد الْمطلب وَهِي بنت عَم النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. (بَيَان الحكم) وَهُوَ أكل
مَا مسته النَّار لَا يُوجب الْوضُوء وَهُوَ قَول
الثَّوْريّ وَالْأَوْزَاعِيّ وَأبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد
واسحق وَأبي ثَوْر وَأهل الشَّام وَأهل الْكُوفَة وَالْحسن
بن الْحسن وَاللَّيْث بن سعد وَأَبُو عبيد وَدَاوُد بن
عَليّ وَابْن جرير الطَّبَرِيّ إِلَّا أَن أَحْمد يرى
الْوضُوء من لحم الْجَزُور فَقَط وَقَالَ ابْن الْمُنْذر
وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان وَعلي وَابْن مَسْعُود
وعامر بن ربيعَة وَأَبُو أُمَامَة وَأبي بن كَعْب وَأَبُو
الدَّرْدَاء لَا يرَوْنَ الْوضُوء مِمَّا مست النَّار
وَقَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَالزهْرِيّ وَأَبُو قلَابَة
وَأَبُو مجلز وَعمر بن عبد الْعَزِيز يجب الْوضُوء مِمَّا
غيرت النَّار وَهُوَ قَول زيد بن ثَابت وَأبي طَلْحَة
وَأبي مُوسَى وَأبي هُرَيْرَة وَأنس وَعَائِشَة أم
الْمُؤمنِينَ وَأم حَبِيبَة أم الْمُؤمنِينَ وَأبي أَيُّوب
وَاحْتَجُّوا بِأَحَادِيث كَثِيرَة مِنْهَا حَدِيث أبي
طَلْحَة صَاحب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَنه أكل ثَوْر أقط فَتَوَضَّأ مِنْهُ قَالَ
عمر والثور الْقطعَة " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد
صَحِيح وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَمِنْهَا حَدِيث
زيد بن ثَابت رَضِي الله عَنهُ عَن رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ " توضؤا مِمَّا غيرت
النَّار " رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالنَّسَائِيّ
وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير وَمِنْهَا حَدِيث أم
حَبِيبَة قَالَت " أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ
(3/104)
توضؤا مِمَّا مست النَّار " رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَأحمد فِي مُسْنده
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَمِنْهَا حَدِيث أبي
هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ قَالَ رَسُول
الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " توضؤا
مِمَّا غيرت النَّار وَلَو من ثَوْر أقط " رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ
فِي الْكَبِير وَأحمد فِي مُسْنده وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
والسراج فِي مُسْنده وَمِنْهَا حَدِيث سهل بن
الْحَنَفِيَّة قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من أكل لَحْمًا فَليَتَوَضَّأ "
رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد حسن واحتجت الْجَمَاعَة
الأولى بِأَحَادِيث مِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس وَحَدِيث
عَمْرو بن أُميَّة وَغَيرهمَا وَأَحَادِيث هَؤُلَاءِ
مَنْسُوخَة بِمَا روى عَن جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
قَالَ " كَانَ آخر الْأَمريْنِ من رَسُول الله - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هُوَ ترك الْوضُوء مِمَّا
مست النَّار " أخرجه الطَّحَاوِيّ وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ وَابْن حبَان فِي صَحِيحه وَقَالُوا أَيْضا
يجوز أَن يكون المُرَاد من الْوضُوء فِي الْأَحَادِيث
الأول غسل الْيَد لَا وضوء الصَّلَاة فَإِن قلت روى
تَوَضَّأ وروى وَلم يتَوَضَّأ قلت هُوَ دائر بَين
الْأَمريْنِ فَحَدِيث جَابر بَين أَن المُرَاد الْوضُوء
الَّذِي هُوَ غسل الْيَد
208 - حدّثنا يَحْيىَ بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدّثنا اللَّيْثُ
عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ قالَ أخْبرَنِي جَعْفَرُ
بنُ عَمْرِ وابِن أُمَيَّةَ أنّ أخْبَرهُ أَبَاهُ أنَّهُ
رأى رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَحْتَزُّ مِنْ
كَتِفِ شَاةٍ فَدُعِيَ إِلَى الصَّلاَةِ فألْقى
السِّكِّينَ فَصَلَّى ولَمْ يَتَوضَّأْ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: يحيى بن بكير هُوَ يحيى
بن عبد الله بن بكير الْمصْرِيّ. الثَّانِي: اللَّيْث بن
سعد الْمصْرِيّ. الثَّالِث: عقيل، بِضَم الْعين: بن خَالِد
الْأَيْلِي الْمصْرِيّ، سبقوا فِي كتاب الْوَحْي.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس: جَعْفَر بن عَمْرو بن أُميَّة. السَّادِس:
أَبوهُ عَمْرو بن امية.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والعنعنة والإخبار. وَمِنْهَا: أَن ثَلَاثَة من
رُوَاته مصريون وَالثَّلَاثَة الْبَاقِيَة مدنيون.
وَمِنْهَا: أَن فيهم إمامين كبيرين.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله،
وَفِي الْجِهَاد كَذَلِك، وَفِي الْأَطْعِمَة عَن أبي
الْيَمَان، وفيهَا عَن مُحَمَّد بن مقَاتل أَيْضا. وَأخرجه
مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَعَن
أَحْمد بن عِيسَى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَطْعِمَة
عَن مَحْمُود بن غيرن. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الْوَلِيمَة عَن أَحْمد بن مُحَمَّد. وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِي الطَّهَارَة عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن
دُحَيْم.
بَيَان الْمَعْنى وَغَيره قَوْله: (يحتز) بِالْحَاء
الْمُهْملَة وبالزاي اي: يقطع، يُقَال احتزه اي: قطعه.
وَزَاد البُخَارِيّ فِي الْأَطْعِمَة من طَرِيق معمر عَن
الزُّهْرِيّ: (يَأْكُل مِنْهَا) ، وَفِي الصَّلَاة من
طَرِيق صَالح عَن الزُّهْرِيّ: (يَأْكُل ذِرَاعا يحتز
مِنْهَا) ، وَفِي أُخْرَى: (يحتز من كتف يَأْكُل مِنْهَا)
. قَوْله: (من كتف شَاة) قَالَ ابْن سَيّده: الْكَتف
الْعَظِيم بِمَا فِيهِ، وَهِي أُنْثَى، وَالْجمع أكتاف.
يُقَال: كتف، بِفَتْح الْكَاف وَكسر التَّاء، و: كتف،
بِكَسْر الْكَاف وَسُكُون التَّاء، وَقيل: هِيَ عظم عريض
خلف الْمنْكب، وَهِي تكون للنَّاس وَغَيرهم، والكتف من
الْإِبِل وَالْخَيْل وَالْبِغَال وَالْحمير وَغَيرهَا: مَا
فَوق الْعَضُد. وَقيل: الكتفان أَعلَى الْيَدَيْنِ،
وَالْجمع أكتاف. قَالَ سِيبَوَيْهٍ: لم يجاوزوا بِهِ هَذَا
الْبناء، وَحكى اللحياني فِي جمعه: كتفه. قَوْله: (فالقى
السكين) زَاد فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي الْيَمَان عَن
شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ: (فألقاها) . و: السكين، على وزن:
فعيل، كشريب يذكر وَيُؤَنث. وَحكى الْكسَائي: سكينَة،
وَلَعَلَّه سمى بِهِ لِأَنَّهُ يسكن حَرَكَة الْمَذْبُوح
بِهِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: فِيهِ دلَالَة على أَن
أكل مَا مسته النَّار لَا يُوجب الْوضُوء، وَقد
ذَكرْنَاهُ. الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز قطع اللَّحْم
بالسكين. فَإِن قلت: ورد النَّهْي عَن ذَلِك فِي (سنَن ابي
دَاوُد) . قلت: حَدِيث ضَعِيف، فَإِذا ثَبت خص بِعَدَمِ
الْحَاجة الداعية إِلَى ذَلِك لما فِيهِ من التَّشَبُّه
بالأعاجم وَأهل الترف. الثَّالِث: فِيهِ جَوَاز دُعَاء
الْأَئِمَّة إِلَى الصَّلَاة، وَكَانَ الدَّاعِي فِي
الحَدِيث بِلَالًا، رَضِي الله عَنهُ. الرَّابِع: فِيهِ
قبُول الشَّهَادَة على النَّفْي محصوراً، مثل هَذَا أعنى
قَوْله: (وَلم يتَوَضَّأ) .
51 - (بابُ مَنْ مَضْمَضَ مِنَ السَّوِيقِ ولَمْ
يَتَوَضَّأْ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من مضمض من أكل السويق
وَلم يتَوَضَّأ. وَفِي رِوَايَة: (لم يتَوَضَّأ) يجوز
وَجْهَان. أَحدهمَا: إِثْبَات
(3/105)
الْهمزَة الساكنة، عَلامَة للجزم.
وَالْآخر: حذفهَا. تَقول: لم يتوضَّ، كَمَا تَقول: لم
يخشَ، بِحَذْف الْألف، وَالْأول هُوَ الْأَشْهر. وَقَالَ
بعض الشَّارِحين: يجوز فِي: (لم يتَوَضَّأ) رِوَايَتَانِ.
قلت: لَا يُقَال فِي مثل هَذَا رِوَايَتَانِ، بل يُقَال:
وَجْهَان، أَو لُغَتَانِ، أَو طَرِيقَانِ، أَو نَحْو
ذَلِك.
209 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخْبرنا
مالِكٌ عَنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عَنْ بُشيْرِ بنِ يَسَارٍ
مَوْلَى بَنِي حارِثَةَ أنّ سُوَيْدَ بن النُّعْمانِ
أخْبرَهُ أنَّهُ خَرَجَ مَعَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَام خَيْبَرَ حتَّى إذَا كانُوا
بالصَّهْبَاءِ وَهْيَ أدْنَى خَيْبَرَ فَصَلَّى العَصْرَ
ثُمَّ دَعا بِالاَزْوَادِ فَلَمْ يُؤْتَ إلاَّ بِالسَّوِيق
فأمرَ بِهِ فَتُرِّي فَأكَلَ رسولُ اللَّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وأكلْنَا ثُمَّ قامَ إلَى المَغْرِبِ
فمَضْمَضَ ومَضْمَضْنَا ثُمَّ صلي ولَمْ يَتَوَضَّأ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الثَّلَاثَة الأُول تكَرر
ذكرهم، وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ، وَبشير، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الشين الْمُعْجَمَة: ابْن يسَار
بِفَتْح، الْيَاء آخر الْحُرُوف: كَانَ شَيخا كَبِيرا
فَقِيها فَقِيها أدْرك عَامَّة الصَّحَابَة، وسُويد بِضَم
السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو سُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف ابْن النُّعْمَان، بِضَم النُّون: الْأنْصَارِيّ
الأوسي الْمدنِي من أَصْحَاب بيعَة الرضْوَان، رُوِيَ لَهُ
سَبْعَة أَحَادِيث للْبُخَارِيّ مِنْهَا حَدِيث وَاحِد،
وَهُوَ هَذَا الحَدِيث.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع، والإخبار كَذَلِك والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن
رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ شيخ البُخَارِيّ. وَمِنْهَا:
أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ،
كِلَاهُمَا من أكَابِر التَّابِعين. وَمِنْهَا: أَن
رُوَاته كلهم أَئِمَّة أجلاء فُقَهَاء كبار.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
فِي سَبْعَة مَوَاضِع من الْكتاب فِي الطَّهَارَة فِي
موضِعين، وَفِي أَحدهمَا عَن عبد الله بن يُوسُف، وَفِي
الآخر عَن خَالِد بن مخلد، وَأخرجه فِي الْمَغَازِي عَن
القعْنبِي عَن مَالك، وَعَن مُحَمَّد بن بشار، وَفِي
الْجِهَاد عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي موضِعين فِي
الْأَطْعِمَة أَحدهمَا: عَن عَليّ بن عبد الله، وَعَن
سُلَيْمَان بن حَرْب. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث، وَفِي
الْوَلِيمَة عَن مُحَمَّد بن بشار. وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِيهِ أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
بَيَان اللُّغَات وَالْإِعْرَاب قَوْله: (عَام خَيْبَر) ،
عَام: مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. و: خَيْبَر، بَلْدَة
مَعْرُوفَة بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة نَحْو أَربع مراحل.
وَقَالَ ابو عبيد: ثَمَانِيَة برد، وَسميت باسم رجل من
العماليق نزلها وَكَانَ اسْمه خَيْبَر بن فانية بن مهلائل،
وَكَانَ عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مصَّرها،
وَهِي غير منصرف للعلمية والتأنيث، فتحهَا رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ عِيَاض: اخْتلفُوا فِي
فتحهَا، فَقيل: فتحت عنْوَة، وَقيل: صلحا، وَقيل: جلا
أَهلهَا عَنْهَا بِغَيْر قتال، وَقيل: بَعْضهَا صلحا
وَبَعضهَا عنْوَة وَبَعضهَا جلاء أَهلهَا بِغَيْر قتال.
قَوْله: (بالصبهاء) بِالْمدِّ، مَوضِع على رَوْحَة من
خَيْبَر، كَذَا رَوَاهُ فِي الْأَطْعِمَة، وَقَالَ
الْبكْرِيّ: على بريد، على لفظ تَأْنِيث أصهب. قَوْله:
(وَهِي أدنى خَيْبَر) أَي: اسفلها وطرفها جِهَة
الْمَدِينَة. قَوْله: (فصلى الْعَصْر) ، الْفَاء: فِيهِ
لمحض الْعَطف وَلَيْسَت للجزاء إِذْ قَوْله: إِذا لَيست
جزائية بل هِيَ ظرفية. قَوْله: (بالأزواد) جمع زَاد،
وَهُوَ طَعَام يتَّخذ للسَّفر. قَوْله: (فَأمر بِهِ) أَي:
بالسويق. قَوْله: (فثرى) بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة، على
صِيغَة الْمَجْهُول من الْمَاضِي، من التثرية،
وَمَعْنَاهُ: بلَّ، وَقد مر مَعْنَاهُ عَن قريب مُسْتَوفى.
قَوْله: (فَأكل رَسُول الله، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام) أَي: مِنْهُ. قَوْله: (وأكلنا) زَاد فِي
رِوَايَة سُلَيْمَان: (وشربنا) ؛ وَفِي الْجِهَاد من
رِوَايَة عبد الْوَهَّاب: (فأكلنا وشربنا) . قَوْله:
(فَمَضْمض) اي: قبل الدُّخُول فِي الصَّلَاة. فَإِن قلت:
مَا فَائِدَة الْمَضْمَضَة مِنْهُ وَلَا دسم لَهُ؟ قلت:
يحتبس مِنْهُ شَيْء فِي أثْنَاء الْأَسْنَان وجوانب الْفَم
فيشغله تتبعه عَن أَحْوَال الصَّلَاة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ اسْتِحْبَاب
الْمَضْمَضَة بعد الطَّعَام، للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ
آنِفا، وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بِهِ البُخَارِيّ على
جَوَاز صَلَاتَيْنِ فَأكْثر بِوضُوء وَاحِد. قلت:
البُخَارِيّ لم يضع الْبَاب لذَلِك، وَإِن كَانَ يفهم
مِنْهُ ذَلِك. الثَّانِي: فِيهِ دلَالَة على عدم وجوب
الْوضُوء مِمَّا مسته النَّار، وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ
دَلِيل على أَن الْوضُوء مِمَّا مست النَّار مَنْسُوخ
لِأَنَّهُ مُتَقَدم، وخيبر كَانَت سنة سبع، وَقَالَ
بَعضهم: لَا دلَالَة فِيهِ لِأَن أَبَا هُرَيْرَة حضر بعد
فتح خَيْبَر. قلت: لَا يستبعد ذَلِك، لِأَن أَبَا
هُرَيْرَة رُبمَا يروي حَدِيثا عَن صَحَابِيّ كَانَ ذَلِك
قبل أَن يسلم فيسنده إِلَى النَّبِي، صلى الله تَعَالَى
عَلَيْهِ وَآله وَسلم، لِأَن
(3/106)
الصَّحَابَة كلهم عدُول. الثَّالِث: فِيهِ
دلَالَة على جمع الرفقاء على الزَّاد فِي السّفر، لِأَن
الْجَمَاعَة رَحْمَة وَفِيهِمْ الْبركَة. الرَّابِع:
اسْتدلَّ بِهِ الملهب على أَن للْإِمَام أَن يَأْخُذ
المحتكرين بِإِخْرَاج الطَّعَام عِنْد قلته ليبيعوه من أهل
الْحَاجة. الْخَامِس: فِيهِ الدّلَالَة على أَن على
الإِمَام أَن ينظر لأهل الْعَسْكَر فَيجمع الزَّاد ليصيب
مِنْهُ من مَا لَا زَاد لَهُ.
210 - حدّثنا أصْبَغُ قالَ أخْبرنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ
أخْبرني عَمْرٌ وعَنْ بُكَيْرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنْ
مَيْمُونَةَ أنّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَكلَ
عِندها كتِفاً ثُمَّ صلَّى ولَمْ يَتَوضَّأْ..
كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر هَذَا الحَدِيث فِي الْبَاب
الَّذِي قبله لمطابقة التَّرْجَمَة، وَلَا مُطَابقَة لَهُ
للتَّرْجَمَة فِي هَذَا الْبَاب، وَكَذَا سَأَلَ
الْكرْمَانِي بقوله: فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث لَا
يتَعَلَّق بالترجمة، ثمَّ أجَاب بقوله: قلت: الْبَاب الأول
من هذَيْن الْبَابَيْنِ هُوَ أصل التَّرْجَمَة، لَكِن لما
كَانَ فِي الحَدِيث الثَّالِث حكم آخر سوى عدم التوضىء،
وَهُوَ الْمَضْمَضَة، أدرج بَين أَحَادِيثه بَابا آخر
مترجماً بذلك الحكم، تَنْبِيها على الْفَائِدَة الَّتِي
فِي ذَاك الحَدِيث الزَّائِدَة على الأَصْل، أَو هُوَ من
قلم الناسخين، لِأَن النُّسْخَة الَّتِي عَلَيْهَا خطّ
الْفربرِي هَذَا الحَدِيث مِنْهَا فِي الْبَاب الأول،
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ الحَدِيث الأول
مِنْهُمَا، وَهُوَ ظَاهر. أَقُول: هَذَا بِلَا شكّ من
النساخ الجهلة، لِأَن غَالب من يستنسخ هَذَا الْكتاب
يسْتَعْمل نَاسِخا حسن الْخط جدا، وغالب من يكون خطه حسنا
لَا يَخْلُو عَن الْجَهْل، وَلَو كتب كلَّ فن أَهله لقل
الْغَلَط والتصحيف، وَهَذَا ظَاهر لَا يخفى.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: أصبغ، وَعبد الله بن وهب،
وَعَمْرو بن الْحَارِث تقدمُوا قَرِيبا. وَبُكَيْر، بِضَم
الْبَاء الْمُوَحدَة مُصَغرًا: ابْن عبد الله الاشج
الْمدنِي التَّابِعِيّ، وكريب مُصَغرًا تقدما. ومَيْمُونَة
أم الْمُؤمنِينَ تقدّمت فِي بَاب السمر بِالْعلمِ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة.
وَمِنْهَا: أَن النّصْف الأول مصريون، وَالنّصف الثَّانِي
مدنيون. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ إسمين مصغَّرين وهما
تابعيان.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن
احْمَد بن عِيسَى عَن ابْن وهب.
بَيَان الْمَعْنى وَالْحكم قَوْله: (كَتفًا) اي: كتف لحم.
وَفِيه عدم الْوضُوء عِنْد أكل اللَّحْم، أَي لحمٍ كَانَ.
(بَاب هَل يمضم من اللَّبن)
بَاب، بِالسُّكُونِ: غير مُعرب، لِأَن الْإِعْرَاب
يَقْتَضِي التَّرْكِيب، فَإِن قدر شَيْء قبله نَحْو: هَذَا
بَاب، يكون معرباً على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف.
قَوْله: (يمضمض) على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع،
وَفِي بعض النّسخ: (هَل يتمضمض) ، وَكلمَة: هَل، للاستفهام
على سَبِيل الاستفسار.
211 - حدّثنا يَحْيىَ بنُ بُكَيرٍ وقُتَيْبَةُ قالاَ
حدّثنا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيْلٍ عَنِ ابنِ شِهابٍ عَنْ
عُبَيْدَ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عتْبَةَ عَنِ ابنِ
عَبَّاسٍ أنّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
شَرِبَ لَبَناً فَمَضْمَضَ وَقَالَ إنّ لَهُ دَسمَاً.
(الحَدِيث 211 طرفه فِي: 5609) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة تقدم ذكرهم، وَبُكَيْر بِضَم
الْبَاء، وَعقيل بِضَم الْعين، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن
مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد الله بن عبيد الله بتصغير الابْن
وتكبير الاب، وَعتبَة بِضَم الْعين وَسُكُون الثَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ شيخين للْبُخَارِيّ
وهما: ابْن بكير وقتيبة بن سعيد، كِلَاهُمَا يرويان عَن
اللَّيْث بن سعد، وَهَذَا أحد الْأَحَادِيث الَّتِي
أخرجهَا الْأَئِمَّة السِّتَّة غير ابْن مَاجَه عَن شيخ
وَاحِد وَهُوَ قُتَيْبَة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين
مصري وَهُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير، وَاللَّيْث وَعقيل،
وبلخي وَهُوَ قُتَيْبَة ومدني وَهُوَ ابْن شهَاب وَعبيد
الله.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن
قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه مُسلم أَيْضا عَن زُهَيْر بن
حَرْب وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى، وَعَن أَحْمد بن عِيسَى.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن دُحَيْم
(3/107)
عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ
بِهِ.
بَيَان الْمَعْنى وَالْحكم قَوْله: (دسماً) مَنْصُوب
لِأَنَّهُ إسم: إِن، وَقدم عَلَيْهِ خَبره. و: الدسم،
بِفتْحَتَيْنِ: الشَّيْء الَّذِي يظْهر على اللَّبن من
الدّهن. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ من دسم الْمَطَر
الأَرْض إِذا لم يبلغ أَن يبل الثرى، و: الدسم، بِضَم
الدَّال وَسُكُون السِّين: الشَّيْء الْقَلِيل.
وَأما الحكم فَفِيهِ دلَالَة على اسْتِحْبَاب تنظيف الْفَم
من أثر اللَّبن وَنَحْوه. ويستنبط مِنْهُ أَيْضا
اسْتِحْبَاب تنظيف الْيَدَيْنِ.
تابَعَهُ يُونُسُ وصالِحُ بنُ كَيْسَانَ عَنِ الزُّهْرِيِّ
أَي: تَابع عقيلاً يُونُس بن يزِيد. وَقَوله: (يُونُس)
فَاعل: (تَابع) ، وَالضَّمِير يرجع إِلَى: عقيل، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يرويهِ عَن
مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَوَصله مُسلم عَن
حَرْمَلَة عَن ابْن وهب، حَدثنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب
بِهِ. قَوْله: (وَصَالح بن كيسَان) اي: تَابع عقيلاً
أَيْضا صَالح بن كيسَان، وَوَصله أَبُو الْعَبَّاس السراج
فِي (مُسْنده) وَتَابعه أَيْضا الْأَوْزَاعِيّ. أخرجه
البُخَارِيّ فِي الْأَطْعِمَة عَن أبي عَاصِم عَنهُ
بِلَفْظ حَدِيث الْبَاب. وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من طَرِيق
الْوَلِيد بن مُسلم، قَالَ: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ،
فَذكره بِصِيغَة الْأَمر: (مضمضوا من اللَّبن) الحَدِيث.
وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن
اللَّيْث بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور. وَأخرج ابْن مَاجَه
من حَدِيث أم سَلمَة وَسَهل بن سعد مثله. وَإسْنَاد كل
مِنْهُمَا حسن. وَفِي (التَّهْذِيب) لِابْنِ جرير
الطَّبَرِيّ: هَذَا خبر عندنَا صَحِيح وَإِن كَانَ عِنْد
غَيرنَا فِيهِ نظر لاضطراب ناقليه فِي سَنَده، فَمن
قَائِل: عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن عَبَّاس، من غير
إِدْخَال: عبيد الله، بَينهمَا؛ وَمن قَائِل: عَن
الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله أَن النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، من غير ذكر: ابْن عَبَّاس.
وَبعد فَلَيْسَ فِي مضمضته، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، وجوب مضمضة وَلَا وضوء على من شربه، إِذا
كَانَت أَفعاله غير لَازِمَة الْعَمَل بهَا لأمته، إِذا لم
تكن بَيَانا عَن حكم فرض فِي التَّنْزِيل. وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) وَفِيه نظر من حَيْثُ إِن ابْن مَاجَه
رَوَاهُ عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم: حَدثنَا
الْوَلِيد بن مُسلم ... الحَدِيث ذَكرْنَاهُ الْآن. وَفِي
حَدِيث مُوسَى بن يَعْقُوب عِنْده ايضاً، وَهُوَ بِسَنَد
صَحِيح، قَالَ: حَدثنِي أَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله بن
زَمعَة عَن أَبِيه عَن أم سَلمَة مَرْفُوعا: (إِذا شربتم
اللَّبن فمضمضوا فَإِن لَهُ دسماً) ، وَعِنْده أَيْضا من
حَدِيث عبد المهين بن عَبَّاس بن سهل بن سعد عَن أَبِيه
عَن جده: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(مضمضوا من اللَّبن فَإِن لَهُ دسما) . وَعند ابْن أبي
حَاتِم فِي (كتاب الْعِلَل) من حَدِيث أنس: (هاتوا مَاء،
فَمَضْمض بِهِ) . وَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله عَنهُ من
عِنْد ابْن شاهين: (فَمَضْمض من دسمه) . وَقَالَ الشَّيْخ
أَبُو جَعْفَر الْبَغْدَادِيّ: الَّذِي رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة
عَن زيد بن حباب عَن مُطِيع بن رَاشد عَن تَوْبَة
الْعَنْبَري، سمع أنس بن مَالك أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (شرب لَبَنًا فَلم يمضمض وَلم يتَوَضَّأ
وَصلى) ، يدل على نسخ الْمَضْمَضَة. وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) : يخدش فِيهِ مَا رَوَاهُ أَحْمد بن منيع
فِي (مُسْنده) بِسَنَد صَحِيح: حَدثنَا إِسْمَاعِيل
حَدثنَا أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين عَن أنس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: (أَنه كَانَ يمضمض من اللَّبن ثَلَاثًا) ،
فَلَو كَانَ مَنْسُوخا لما فعله بعد النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام قلت: لَا يلْزم من فعله هَذَا،
وَالصَّوَاب فِي هَذَا أَن الْأَحَادِيث الَّتِي فِيهَا
الْأَمر بالمضمضة أَمر اسْتِحْبَاب لَا وجوب، وَالدَّلِيل
على ذَلِك مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الْمَذْكُور آنِفا،
وَمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى،
بِإِسْنَاد حسن عَن أنس: (أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، شرب لَبَنًا فَلم يتمضمض وَلم يتَوَضَّأ) . فَإِن
قلت: ادّعى ابْن شاهين أَن حَدِيث أنس نَاسخ لحَدِيث ابْن
عَبَّاس. قلت: لم يقل بِهِ أحد، وَمن قَالَ فِيهِ
بِالْوُجُوب حَتَّى يحْتَاج إِلَى دَعْوَى النّسخ؟ .
53 - (بابُ الوُضُوءِ مِنَ النوْمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْوضُوء من النّوم. هَل يجب
أَو يسْتَحبّ؟
والمناسبة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله
من حَيْثُ إِن كلا مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام
الْوضُوء.
وَمَنْ لمْ يَرَ مِنَ النَّعْسِةِ والنَّعْسَتَيْنِ أوِ
الخَفْقَةِ وُضُوءًا
(3/108)
هَذَا عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير:
وَبَاب من لم ير من النعسة ... إِلَى آخِره، والنعسة: على
وزن فعلة: مرّة من النعس، من بَاب: نعس، بِفَتْح الْعين،
يَنْعس: بضَمهَا من بَاب: نصر ينصر؛ وَمن قَالَ: نعس،
بِضَم الْعين فقد أَخطَأ. وَفِي (الموعب) : وَبَعض بني
عَامر يَقُول: يَنْعس، بِفَتْح الْعين. يُقَال: نعس يَنْعس
نعساً ونعاساً فَهُوَ ناعس ونعسان. وَامْرَأَة نعسى.
وَقَالَ ابْن السّكيت وثعلب: لَا يُقَال: نعسان، وَحكى
الزّجاج عَن الْفراء أَنه قَالَ: قد سَمِعت: نعسان، من
أَعْرَابِي من عنزة، قَالَ: وَلَكِن لَا أشتهيه. وَعَن
صَاحب (الْعين) أَنه قَالَ: وسمعناهم يَقُولُونَ: نعسان
ونعسى، حملوه على: وَسنَان ووسنى. وَفِي (الْمُحكم) :
النعاس النّوم. وَقيل: ثقلته، وَامْرَأَة نعسانة وناعسة
ونعوس، وَفِي (الصِّحَاح) و (الْمُجْمل) : النعاس: الوسن.
وَقَالَ كرَاع: وَسنَان أَي: ناعس، وَالسّنة، بِكَسْر
السِّين، أَصْلهَا: وَسنة، مثل: عدَّة أَصْلهَا وعدة، حذفت
الْوَاو تبعا لحذفها فِي مضارعه، ونقلت فتحتها إِلَى عين
الْفِعْل: وَزنهَا عِلّة. قَوْله: (والنعستين) تَثْنِيَة
نعسة. قَوْله: (اَوْ الخفقة) عطف على قَوْله: (النعسة)
وَهُوَ أَيْضا على وزن فعلة: مرّة، من الخفق، يُقَال: خَفق
الرجل، بِفَتْح الْفَاء، يخْفق خفقاً إِذا حرك رَأسه
وَهُوَ ناعس؛ وَفِي (الغريبين) : معنى تخفق رؤوسهم: تسْقط
أذقانهم على صُدُورهمْ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: خَفق إِذا
نعس، والخفوق الِاضْطِرَاب، وخفق اللَّيْل إِذا ذهب.
وَقَالَ ابْن التِّين: الخفقة النعسة، وَإِنَّمَا كرر
لاخْتِلَاف اللَّفْظ، وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنه من
ذكر الْخَاص بعد الْعَام قلت: على قَول ابْن التِّين بَين
النعس والخفقة مُسَاوَاة، وعَلى قَول بَعضهم: عُمُوم وخصوص
بِمَعْنى أَن كل خفقة نعسة، وَلَيْسَ كل نعسة خفقة، وَيدل
عَلَيْهِ مَا قَالَ أهل اللُّغَة: خَفق رَأسه إِذا حركها
وَهُوَ ناعس. وَقَالَ ابو زيد: خَفق بِرَأْسِهِ من النعاس:
أماله، وَمِنْه قَول الْهَرَوِيّ فِي (الغريبين) : تخفق
رؤوسهم، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِيه: الخفق مَعَ النعاس.
وَقَوله: هَذَا من حَدِيث أخرجه مُحَمَّد بن نصر فِي قيام
اللَّيْل بِإِسْنَاد صَحِيح عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (كَانَ أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ينتظرون الصَّلَاة فينغسون حَتَّى تخفق رؤوسهم، ثمَّ
يقومُونَ الى الصَّلَاة) . وَقَالَ بَعضهم: ظَاهر كَلَام
البُخَارِيّ: النعاس يُسمى نوماً، وَالْمَشْهُور
التَّفْرِقَة بَينهمَا، أَن من فترت حواسه بِحَيْثُ يسمع
كَلَام جليسه وَلَا يفهم مَعْنَاهُ فَهُوَ ناعس، وَإِن
زَاد على ذَلِك فَهُوَ نَائِم، وَمن عَلَامَات النّوم
الرُّؤْيَا، طَالَتْ أَو قصرت. قلت: لَا نسلم أَن ظَاهر
كَلَام البُخَارِيّ يدل على عدم التَّفْرِقَة، فَإِنَّهُ
عطف قَوْله: (وَمن لم ير من النعسة) إِلَى آخِره على
قَوْله: (النّوم والنعس) فِي قَوْله: (بَاب النّوم) .
وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن مَعنا ثَلَاثَة
أَشْيَاء: النّوم والنعسة والخفقة. أما النّوم: فَمن
قَالَ: إِن نفس النّوم حدث يَقُول بِوُجُوب الْوضُوء من
النعاس، وَمن قَالَ: إِن نفس النّوم لَيْسَ بِحَدَث لَا
يَقُول بِوُجُوب الْوضُوء على الناعس؛ وَأما الخفقة: فقد
رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: وَجب الْوضُوء على كل
نَائِم إلاَّ من خَفق خفقة. فَالْبُخَارِي أَشَارَ إِلَى
هَذِه الثَّلَاثَة، فَأَشَارَ إِلَى النّوم بقوله: (بَاب
النّوم) . وَالنَّوْم فِيهِ تَفْصِيل كَمَا نذكرهُ عَن
قريب، وَأَشَارَ بقوله: (النعسة والنعستين) إِلَى القَوْل
بِعَدَمِ وجوب الْوضُوء فِي النعسة والنعستين، وَيفهم من
هَذَا أَن النعسة إِذا زَادَت على النعستين وَجب الْوضُوء،
لِأَنَّهُ يكون حِينَئِذٍ نَائِما مُسْتَغْرقا، وَأَشَارَ
إِلَى من يَقُول بِعَدَمِ وجوب الْوضُوء على من يخْفق خفقة
وَاحِدَة، كَمَا روى عَن ابْن عَبَّاس بقوله: (اَوْ
الخفقة) ، وَيفهم من هَذَا أَن الخفقة إِذا زَادَت على
الْوَاحِدَة يجب الْوضُوء، وَلِهَذَا قيد ابْن عَبَّاس
الخفقة بالواحدة.
واما النّوم فَفِيهِ أَقْوَال. الأول: إِن النّوم لَا
ينْقض الْوضُوء بِحَال، وَهُوَ محكي عَن أبي مُوسَى
الْأَشْعَرِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب، وَأبي مجلز وَحميد بن
عبد الرَّحْمَن والأعرج، وَقَالَ ابْن حزم: وَإِلَيْهِ ذهب
الْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ قَول صَحِيح عَن جمَاعَة من
الصَّحَابَة وَغَيرهم، مِنْهُم: ابْن عمر وَمَكْحُول
وَعبيدَة السَّلمَانِي. الثَّانِي: النّوم ينْقض الْوضُوء
على كل حَال وَهُوَ مَذْهَب الْحسن والمزني وابي عبد الله
الْقَاسِم بن سَلام وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، قَالَ ابْن
الْمُنْذر: وَهُوَ قَول غَرِيب عَن الشَّافِعِي، قَالَ:
وَبِه أَقُول. قَالَ: وَرُوِيَ مَعْنَاهُ عَن ابْن عَبَّاس
وَأنس وَأبي هُرَيْرَة، وَقَالَ ابْن حزم: النّوم فِي
ذَاته حدث ينْقض الْوضُوء، سَوَاء قل أَو كثر، قَاعِدا أَو
قَائِما فِي صَلَاة أَو غَيرهَا أَو رَاكِعا أَو سَاجِدا
أَو مُتكئا أَو مُضْطَجعا، أَيقَن من حواليه أَنه لم يحدث
أَو لم يوقنوا. الثَّالِث: كثير النّوم ينْقض وقليله لَا
ينْقض بِكُل حَال، قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَهُوَ قَول
الزُّهْرِيّ وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَأحمد
فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ، وَعند التِّرْمِذِيّ:
وَقَالَ بَعضهم: إِذا نَام حَتَّى غلب على عقله وَجب
عَلَيْهِ الْوضُوء، وَبِه يَقُول إِسْحَاق. الرَّابِع:
إِذا نَام على هَيْئَة من هيئات الْمُصَلِّي: كالراكع
والساجد والقائم والقاعد، لَا ينْقض وضوءه، سَوَاء كَانَ
فِي الصَّلَاة أَو لم يكن، فَإِن نَام مُضْطَجعا أَو
مُسْتَلْقِيا على قَفاهُ انْتقض، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة
وَدَاوُد، وَقَول غَرِيب للشَّافِعِيّ، وَقَالَهُ أَيْضا
حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان
(3/109)
وسُفْيَان. الْخَامِس: لَا يقنقص إلاَّ نوم
الرَّاكِع، وَهُوَ قَول عَن أَحْمد ذكره ابْن التِّين.
السَّادِس: لَا ينْقض إلاَّ نوم الساجد، رُوِيَ أَيْضا عَن
أَحْمد. السَّابِع: من نَام سَاجِدا فِي مُصَلَّاهُ
فَلَيْسَ عَلَيْهِ وضوء. وَإِن نَام سَاجِدا فِي غير
صَلَاة تَوَضَّأ، وَإِن تعمد النّوم فِي الصَّلَاة
فَعَلَيهِ الْوضُوء، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك.
الثَّامِن: لَا ينْقض النّوم الْوضُوء فِي الصَّلَاة،
وينقض خَارج الصَّلَاة، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي.
التَّاسِع: إِذا نَام جَالِسا مُمكنا مقعدته من الأَرْض لم
ينْقض، سَوَاء قل أَو كثر، وَسَوَاء كَانَ فِي الصَّلَاة
أَو خَارِجهَا، وَهَذَا مَذْهَب الشَّافِعِي، رَحمَه الله
تَعَالَى؛ وَقَالَ أَبُو بكر بن الْعَرَبِيّ: تتبع
عُلَمَاؤُنَا مسَائِل النّوم الْمُتَعَلّقَة بالأحاديث
الجامعة لتعارضها، فوجدوها أحد عشر حَالا: مَاشِيا،
وَقَائِمًا، ومستنداً، وراكعاً، وَقَاعِدا متربعاً،
ومحتبياً، ومتكئاً، وراكباً، وساجداً، ومضطجعاً، ومستقراً.
وَهَذَا فِي حَقنا، فَأَما سيدنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَمن خَصَائِصه أَنه لَا ينْتَقض وضوؤه
بِالنَّوْمِ، مُضْطَجعا وَلَا غير مُضْطَجع.
212 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ
عَنْ هِشامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ أَن رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إذَا نَعَسَ أحَدُكُمْ وَهْوَ
يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ حَتَّى يَذْهَبَ عنهُ النَّوْمُ
فانَّ أحَدَكُمْ إذَ صَلَّى وَهْوَ ناعِسٌ لَا يَدْرِي
لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبَّ نَفْسَهُ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث وَالَّذِي بعده للتَّرْجَمَة
تفهم من معنى الحَدِيث، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لما أوجب قطع الصَّلَاة، وَأمر بالرقاد دلّ ذَلِك
على أَنه كَانَ مُسْتَغْرقا فِي النّوم، فَإِنَّهُ علل
ذَلِك بقوله: (فان أحدكُم) الخ، وَفهم من ذَلِك أَنه إِذا
كَانَ النعاس أقل من ذَلِك، وَلم يغلب عَلَيْهِ فَإِنَّهُ
مَعْفُو عَنهُ، وَلَا وضوء فِيهِ: وَأَشَارَ البُخَارِيّ
إِلَى ذَلِك بقوله: (وَمن لم من النعسة) الخ، وَلَا
غَلَبَة فِي النعسة والنعستين، فَإِذا زَادَت يغلب
عَلَيْهِ النّوم فينتقض وضوؤه، كَمَا ذكرنَا، وَكَذَلِكَ
لَا غَلَبَة فِي الخفقة الْوَاحِدَة كَمَا أَشَرنَا
إِلَيْهِ عَن قريب، وَقَالَ ابْن الْمُنِير: فان قلت:
كَيفَ مخرج التَّرْجَمَة من الحَدِيث ومضمونها أَن لَا
يتَوَضَّأ من النعاس الْخَفِيف، ومضمون الحَدِيث النَّهْي
عَن الصَّلَاة مَعَ النعاس؟ قلت: إِمَّا أَن يكون
البُخَارِيّ تلقاها من مَفْهُوم تَعْلِيل النَّهْي عَن
الصَّلَاة حِينَئِذٍ بذهاب الْعقل الْمُؤَدِّي إِلَى أَن
ينعكس الْأَمر: (يُرِيد أَن يَدْعُو فيسب نَفسه) ،
فَإِنَّهُ دلّ أَنه إِن لم يبلغ هَذَا الْمبلغ صلى بِهِ،
وَإِمَّا أَن يكون تلقاها من كَونه إِذا بَدَأَ بِهِ
النعاس، وَهُوَ فِي النَّافِلَة اقْتصر على إتْمَام مَا
هُوَ فِيهِ وَلم يسْتَأْنف أُخْرَى، فتماديه على مَا كَانَ
فِيهِ يدل على أَن النعاس الْيَسِير لَا يُنَافِي
الطَّهَارَة، وَلَيْسَ بِصَرِيح فِي الحَدِيث، بل يحْتَمل
قطع الصَّلَاة الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَيحْتَمل النَّهْي
عَن اسْتِئْنَاف شَيْء آخر، وَالْأول أظهر.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة ذكرُوا كلهم غير مرّة،
وَهِشَام هُوَ ابْن عُرْوَة يروي عَن أَبِيه عُرْوَة بن
الزبير بن الْعَوام عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا.
وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ صرح بِذكر عُرْوَة، والرواة
كلهم مدنيون غير شيخ البُخَارِيّ.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة
عَن قُتَيْبَة عَن مَالك. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
القعْنبِي عَن مَالك.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (وَهُوَ يُصَلِّي)
جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فليرقد) أَي: فلينم،
وللنسائي من طَرِيق أَيُّوب عَن هِشَام: (فلينصرف) ،
وَالْمرَاد بِهِ الْخُرُوج من الصَّلَاة بِالتَّسْلِيمِ،
فان قلت: فقد جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، فِي نَومه
فِي بَيت مَيْمُونَة رَضِي الله عَنْهَا: (فَجعلت إِذا
غفيت يَأْخُذ بشحمتي أُذُنِي) ، وَلم يَأْمُرهُ
بِالنَّوْمِ. قلت: لِأَنَّهُ جَاءَ تِلْكَ اللَّيْلَة
ليتعلم مِنْهُ فَفعل ذَلِك ليَكُون أثبت لَهُ. فان قلت:
الشَّرْط هُوَ سَبَب للجزاء، فههنا النعاس سَبَب للنوم أَو
لِلْأَمْرِ بِالنَّوْمِ؟ قلت: مثله مُحْتَمل للأمرين،
كَمَا يُقَال فِي نَحْو: اضربه تاديباً، لِأَن التَّأْدِيب
مفعول لَهُ، إِمَّا لِلْأَمْرِ بِالضَّرْبِ وَإِمَّا
للْمَأْمُور بِهِ، وَالظَّاهِر الأول. قَوْله: (وَهُوَ
ناعس) جملَة اسمية وَقعت حَالا. فَإِن قلت: مَا
الْفَائِدَة فِي تَغْيِير الأسلوب حَيْثُ قَالَ: ثمَّة
وَهُوَ يُصَلِّي، بِلَفْظ الْفِعْل، وَهَهُنَا: وَهُوَ
ناعس، بِلَفْظ إسم الْفَاعِل؟ قلت: ليدل على أَنه لَا
يَكْفِي تجدّد أدنى نُعَاس وتقضيه فِي الْحَال، بل لَا بُد
من ثُبُوته بِحَيْثُ يُفْضِي إِلَى عدم درايته بِمَا
يَقُول. وَعدم علمه بِمَا يقْرَأ. فَإِن قلت: هَل فرق بَين
نعس وَهُوَ يُصَلِّي، وَصلى وَهُوَ ناعس؟ قلت: الْفرق
الَّذِي بَين ضرب قَائِما، وَقَامَ ضَارِبًا، وَهُوَ
احْتِمَال الْقيام بِدُونِ الضَّرْب فِي الأول،
وَاحْتِمَال الضَّرْب بِدُونِ الْقيام فِي الثَّانِي.
وَإِنَّمَا اخْتَار ذَلِك ثمَّة وَهَذَا هُنَا لِأَن
الْحَال قيد وفضلة، وَالْأَصْل فِي الْكَلَام هُوَ مَاله
الْقَيْد، فَفِي الأول: لَا شكّ أَن النعاس هُوَ عِلّة
الْأَمر بالرقاد لَا الصَّلَاة فَهُوَ
(3/110)
الْمَقْصُود الْأَصْلِيّ فِي التَّرْكِيب،
وَفِي الثَّانِي: الصَّلَاة عِلّة للاستغفار، إِذْ
تَقْدِير الْكَلَام: فَإِن أحدكُم إِذا صلى وَهُوَ ناعس
يسْتَغْفر. وَقَوله: (لَا يدْرِي) وَقع موقع الْجَزَاء
إِذا كَانَت كلمة: إِذا، شَرْطِيَّة. وَإِن لم تكن
شَرْطِيَّة يكون خَبرا: لَان، فَافْهَم. قَوْله: (لَعَلَّه
يسْتَغْفر) أَي: يُرِيد الاسْتِغْفَار، (فيسب) يَعْنِي:
يَدْعُو على نَفسه، وَصرح بِهِ النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة
من طَرِيق أَيُّوب عَن هِشَام؛ وَفِي بعض النّسخ: (يسب) ،
بِدُونِ الْفَاء. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَينهمَا؟ قلت:
بِدُونِ الْفَاء تكون الْجُمْلَة حَالا، وبالفاء عطفا على:
(يسْتَغْفر) ؛ وَيجوز فِي: (يسب) الرّفْع وَالنّصب، أما
الرّفْع فباعتبار عطف الْفِعْل على الْفِعْل، وَأما النصب
فباعتبار أَنه جَوَاب لكلمة: لَعَلَّ، الَّتِي للترجي،
فَإِنَّهَا مثل: لَيْت. فَإِن قلت: كَيفَ يَصح هَهُنَا
معنى الترجي؟ قلت: الترجي فِيهِ عَائِد إِلَى الْمُصَلِّي
لَا إِلَى الْمُتَكَلّم بِهِ، أَي: لَا يدْرِي أمستغفر أم
سَاب مترجياً للاسغفار، فَهُوَ فِي الْوَاقِع بضد ذَلِك.
أَو اسْتعْمل بِمَعْنى التَّمَكُّن بَين الاسْتِغْفَار
والسب، لِأَن الترجى بَين حُصُول المرجو وَعَدَمه،
فَمَعْنَاه: لَا يدْرِي أيستغفر أم يسب؟ وَهُوَ مُتَمَكن
مِنْهُمَا على السوية.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ الْأَمر
بِقطع الصَّلَاة عِنْد غَلَبَة النّوم عَلَيْهِ، وَأَن
وضوءه ينْتَقض حِينَئِذٍ. الثَّانِي: أَن النعاس إِذا
كَانَ أقل من ذَلِك يُعْفَى عَنهُ، فَلَا ينْتَقض وضوؤه،
وَقد أَجمعُوا على أَن النّوم الْقَلِيل لَا ينْقض
الْوضُوء، وَخَالف فِيهِ الْمُزنِيّ فَقَالَ: ينْقض
قَلِيله وَكَثِيره، لما ذكرنَا. وَقَالَ الْمُهلب وَابْن
بطال وَابْن التِّين وَغَيرهم: إِن الْمُزنِيّ خرق
الْإِجْمَاع. قلت: هَذَا تحامل مِنْهُم عَلَيْهِ، لِأَن
الَّذِي قَالَه نقل عَن بعض الصَّحَابَة التَّابِعين، وَقد
ذَكرْنَاهُ عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّالِث:
فِيهِ الْأَخْذ بِالِاحْتِيَاطِ لِأَنَّهُ علل بِأَمْر
مُحْتَمل. الرَّابِع: فِيهِ الدُّعَاء فِي الصَّلَاة من
غير تعْيين بِشَيْء من الْأَدْعِيَة. الْخَامِس: فِيهِ
الْحَث على الْخُشُوع وَحُضُور الْقلب فِي الْعِبَادَة،
وَذَلِكَ لِأَن الناعس لَا يحضر قلبه، والخشوع إِنَّمَا
يكون بِحُضُور الْقلب.
213 - حدّثنا أبْو مَعْمَرٍ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَارِث
قَالَ حدّثنا أيُّوبُ عَنْ أبي قِلاَبَةَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ إذَا نَعَسَ
أحَدُكُمْ فِي الصَّلاَةِ فَلْيَنَمْ حَتَّى يَعْلَمَ مَا
يَقرَأُ.
وَجه الْمُطَابقَة للتَّرْجَمَة قد ذَكرْنَاهُ
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح
الميمين: هُوَ عبد الله بن عَمْرو الْمَشْهُور بالمقعد،
تقدم ذكره فِي بَاب قَول النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: (اللَّهُمَّ علمه الْكتاب) . الثَّانِي: عبد
الْوَارِث بن سعيد بن ذكْوَان التنوري، تقدم فِي الْبَاب
الْمَذْكُور. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، سبق
ذكره فِي بَاب حلاوة الْإِيمَان. الرَّابِع: أَبُو
قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف وَتَخْفِيف اللَّام: واسْمه عبد
الله بن زيد الحرمي، سبق ذكره فِي الْبَاب الْمَذْكُور.
الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن
التَّابِعِيّ، وهما: أَيُّوب وَأَبُو قلَابَة، رحمهمَا
الله تَعَالَى.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي
الطَّهَارَة عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم عَن مُحَمَّد بن
عبد الرَّحْمَن الطفَاوِي عَن أَيُّوب.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (إِذا نعس أحدكُم)
لَيْسَ فِي بعض النّسخ لفظ: احدكم، بل الْمَوْجُود: إِذا
نعس، فَقَط اي: إِذا نعس الْمُصَلِّي، وَحذف فَاعله للْعلم
بِهِ بِقَرِينَة ذكر الصَّلَاة، وَقد جَاءَ فِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ: (إِذا نعس احدكم) ، وَفِي (مُسْند)
مُحَمَّد بن نصر من طَرِيق وهيب عَن أَيُّوب: (فلينصرف) .
قَوْله: (فلينم) قَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا هَذَا فِي
صَلَاة اللَّيْل، لِأَن الْفَرِيضَة لَيست فِي أَوْقَات
النّوم، وَلَا فِيهَا من التَّطْوِيل مَا يُوجب ذَلِك.
قُلْنَا: الْعبْرَة لعُمُوم اللَّفْظ لَا لخُصُوص
السَّبَب. قَوْله: (فِي الصَّلَاة) وَفِي بعض النّسخ
لَيْسَ فِيهِ ذكر الصَّلَاة. قَوْله: (حَتَّى يعلم)
بِالنّصب لَا غير، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل معنى:
(فلينم) ؛ فليتجوز فِي الصَّلَاة ويتمها وينام. قَوْله:
(مَا يقْرَأ) كلمة: مَا، مَوْصُولَة، والعائد الْمَفْعُول
مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: مَا يَقْرَؤُهُ، وَيحْتَمل أَن
تكون استفهامية. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: فِي هَذَا
الحَدِيث اضْطِرَاب، لِأَن حَمَّاد بن زيد رَوَاهُ
فَوَقفهُ، وَقَالَ فِيهِ: قرىء عَليّ كتاب عَن أبي
قلَابَة، فعرفته. وَرَوَاهُ عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ
عَن أَيُّوب فَلم يذكر أنسا. وَأجِيب: بِأَن هَذَا لَا
يُوجب الِاضْطِرَاب، لِأَن رِوَايَة عبد الْوَارِث أرجح
بموافقة وهيب والطفاوي لَهُ عَن أَيُّوب. قَوْله: (قرىء
على) لَا يدل على أَنه لم يسمعهُ من أبي قلَابَة، بل يحمل
على أَنه عرف أَنه فِيمَا سَمعه من أبي قلَابَة.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ الْأَمر
بِقطع الصَّلَاة عِنْد غَلَبَة النّوم. الثَّانِي: أَن
قَلِيل النّوم مَعْفُو كَمَا ذكرنَا
(3/111)
فِي الحَدِيث السَّابِق، لِأَن ذَلِك يُوضح
معنى هَذَا. الثَّالِث: فِيهِ الْحَث على الخضوع والخشوع،
وَذَلِكَ بطرِيق الِالْتِزَام.
54 - (بابُ الوُضُوءِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوضُوء من غير حدث،
وَالْمرَاد بِهِ وضوء المتوضىء يَعْنِي: يكون على ظهرة
ثمَّ يتَطَهَّر ثَانِيًا من غير حدث بَينهمَا.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لكَون كل مِنْهُمَا
من تعلقات الْوضُوء.
214 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قالَ حدّثنا سُفْيانُ
عَنْ عَمْرِو بنِ عامِرٍ قالَ سَمِعْتُ أنَساً ح قالَ
وحدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا يَحْيىَ عَنْ سُفْيانَ
قالَ حدّثنى عَمْرُو بنُ عامِرٍ عَنْ أنَسٍ قالَ كانَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَتَوَضَّأُ عِنْدَ كُلِّ
صَلاَةٍ قُلْتُ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ قالَ
يُجْزِيءُ أحَدَنَا الوُضُوءُ مَا لَمْ يُحْدِثْ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة؛ وَلِلْحَدِيثِ إِسْنَاد ان:
أَحدهمَا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ مر فِي
بَاب: لَا يمسك ذكره بِيَمِينِهِ، عَن سُفْيَان الثَّوْريّ
تقدم فِي بَاب عَلامَة الْمُنَافِق عَن عَمْرو، بِالْوَاو،
ابْن عَامر الْأنْصَارِيّ الثِّقَة الصَّالح، روى لَهُ
الْجَمَاعَة عَن أنس بن مَالك. وَالْآخر عَن مُسَدّد بن
مسرهد، تكَرر ذكره عَن يحيى الْقطَّان، مر ذكره، وَهَذَا
تَحْويل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر، وَفِي بعض النّسخ
بعد قَوْله: سَمِعت أنسا صُورَة: ح، وَهُوَ إِشَارَة إِلَى
التَّحْوِيل، أَو إِلَى الْحَائِل أَو إِلَى: صَحَّ، أَو
إِلَى الحَدِيث، وَقد مر تَحْقِيقه.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِي الْإِسْنَاد الأول
التحديث بِصِيغَة الْجمع والعنعنة وَالسَّمَاع. وَفِي
الثَّانِي: التحديث بِصِيغَة الْجمع والتحديث بِصِيغَة
الْإِفْرَاد والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن فِي الْإِسْنَاد
الأول: بَين البُخَارِيّ وَبَين سُفْيَان رجل. وَفِي
الثَّانِي: بَينهمَا رجلَانِ. وَمِنْهَا: أَن فِي
الْإِسْنَاد الثَّانِي: صرح بِسَمَاع سُفْيَان عَن عَمْرو
حَيْثُ قَالَ: حَدثنِي عمر، وَفِي الاول: قَالَ عَن
عَمْرو، وسُفْيَان من المدلسين، والمدلس لَا يحْتَج
بعنعنته إِلَّا أَن يثبت سَمَاعه من طَرِيق آخر.
وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين فريابي وكوفي وبصري.
وَمِنْهَا: أَن الْإِسْنَاد الأول عَال، وَالثَّانِي
نَازل، وَذَلِكَ بِكَوْن سُفْيَان الثَّوْريّ أَتَى
بِالْحَدِيثِ عَن عَمْرو، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه هُوَ
الثَّوْريّ لأَنا لم نجد لِسُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عمر
رِوَايَة.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الطَّهَارَة عَن ابْن بشار عَن يحيى وَعبد الرَّحْمَن،
كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ: صَحِيح. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن
خَالِد عَن شُعْبَة عَنهُ بِمَعْنَاهُ. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِيهِ عَن سُوَيْد ابْن سعيد عَن شريك نَحوه.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ من حَدِيث سَلمَة بن الْفضل عَن
مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن حميد عَن أنس: (ان النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يتَوَضَّأ بِكُل صَلَاة،
طَاهِرا كَانَ أَو غير طَاهِر. قَالَ: قلت لأنس: كَيفَ
كُنْتُم تَصْنَعُونَ) ؟ الحَدِيث، وَقَالَ: حَدِيث حميد
عَن أنس غَرِيب من هَذَا الْوَجْه، وَالْمَشْهُور عِنْد
أهل الْعلم حَدِيث عَمْرو، وَفِي (الْعِلَل) قَالَ
التِّرْمِذِيّ: سَأَلت مُحَمَّدًا يَعْنِي البُخَارِيّ عَن
هَذَا الحَدِيث فَقَالَ: لَا ادري مَا سَلمَة هَذَا؟ وَلم
يعرف مُحَمَّد هَذَا من حَدِيث حميد.
بَيَان الْمَعْنى وَالْإِعْرَاب قَوْله: (كَانَ النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يتَوَضَّأ) هَذِه الْعبارَة تدل
على أَنه كَانَ عَادَة لَهُ. قَوْله: (عِنْد كل صَلَاة)
أَرَادَ بهَا الصَّلَاة الْمَفْرُوضَة من الْأَوْقَات
الْخَمْسَة. قَوْله: (قلت كَيفَ تَصْنَعُونَ) ؟ الحَدِيث.
الْقَائِل عَمْرو بن عَامر، وَالْخطاب للصحابة، رَضِي الله
عَنْهُم، وَكلمَة: كَيفَ، يسْأَل بهَا عَن الْحَال.
قَوْله: (يجزىء) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف، أَي:
يَكْفِي من أجزأني الشَّيْء أَي: كفاني، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ: يكْتَفى، وفاعله الْوضُوء بِالرَّفْع.
قَوْله: (أَحَدنَا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول يجزىء.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: اخْتلفُوا فِي هَذَا
الْبَاب، فَذَهَبت طَائِفَة من الظَّاهِرِيَّة والشيعة
إِلَى وجوب الْوضُوء لكل صَلَاة فِي حق المقيمين دون
الْمُسَافِرين، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث بُرَيْدَة
بن الْحصيب؛ (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
يتَوَضَّأ لكل صَلَاة، فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْفَتْح صلى
الصَّلَوَات الْخمس بِوضُوء وَاحِد) . أخرجه الطَّحَاوِيّ
وَابْن أبي شيبَة وابو يعلى، وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد
عَنهُ، قَالَ: (صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَوْم فتح مَكَّة خمس صلوَات بِوضُوء وَاحِد.
(3/112)
.) ، الحَدِيث، وَذَهَبت طَائِفَة، الى أَن
الْوضُوء وَاجِب لكل صَلَاة مُطلقًا من غير حدث، وَرُوِيَ
ذَلِك عَن ابْن عمر وَأبي مُوسَى وَجَابِر أَن عبد الله،
وَعبيدَة السَّلمَانِي، وَأبي الْعَالِيَة، وَسَعِيد بن
الْمسيب وابراهيم وَالْحسن.
وَحكى ابْن حزم فِي (كتاب الْإِجْمَاع) هَذَا الْمَذْهَب
عَن عَمْرو بن عبيد، قَالَ: وروينا عَن إِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ أَنه لَا يُصَلِّي بِوضُوء واحدٍ أَكثر من خمس
صلوَات، وَمذهب أَكثر الْعلمَاء من الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة، وَأكْثر أَصْحَاب الحَدِيث وَغَيرهم: أَن
الْوضُوء لَا يجب إلاَّ من حدث. وَقَالُوا: لِأَن آيَة
الْوضُوء نزلت فِي إِيجَاب الْوضُوء من الْحَدث عِنْد
الْقيام إِلَى الصَّلَاة، لِأَن معنى قَوْله تَعَالَى:
{إِذا قُمْتُم الى الصَّلَاة} (الْمَائِدَة: 6) إِذا أردتم
الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَأَنْتُم محدثون، وَاسْتدلَّ
الدَّارمِيّ على ذَلِك بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(لَا وضوء إِلَّا من حدث) . وَحكى الشَّافِعِي عَمَّن
لقِيه من أهل الْعلم أَن التَّقْدِير: إِذا قُمْتُم من
النّوم. فَإِن قلت: ظَاهر الْآيَة يَقْتَضِي التّكْرَار،
لِأَن الحكم الْمَذْكُور وَهُوَ قَوْله: {فَاغْسِلُوا}
(الْمَائِدَة: 6) مُعَلّق بِالشّرطِ، وَهُوَ {إِذا قُمْتُم
الى الصَّلَاة} (الْمَائِدَة: 6) فَيَقْتَضِي تكْرَار
الحكم عِنْد تكْرَار الشَّرْط، كَمَا هُوَ الْقَاعِدَة
عِنْدهم. قلت: الْمَسْأَلَة مُخْتَلف فِيهَا،
وَالْأَكْثَرُونَ على أَنه لَا يَقْتَضِيهِ لفظا. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: فَإِن قلت: ظَاهر
الْآيَة يُوجب الْوضُوء على كل قَائِم إِلَى الصَّلَاة،
مُحدث وَغير مُحدث، فَمَا وَجهه؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون
الْأَمر للْوُجُوب، فَيكون الْخطاب للمحدثين خَاصَّة.
وَأَن يكون للنَّدْب. فان قلت: هَل يجوز أَن يكون الامر
شَامِلًا للمحدثين وَغَيرهم، لهَؤُلَاء على وَجه
الْإِيجَاب ولهؤلاء على وَجه النّدب؟ قلت: لَا، لِأَن
تنَاول الْكَلِمَة الْوَاحِدَة لمعنيين مُخْتَلفين من بَاب
الإلغاز والعمية. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله
تَعَالَى: قد يجوز أَن يكون وضوؤه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لكل صَلَاة على مَا روى بُرَيْدَة، كَانَ
ذَلِك على التمَاس الْفضل لَا على الْوُجُوب، وَالدَّلِيل
على ذَلِك مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَابْن أبي شيبَة من
حَدِيث أبي عطيف الْهُذلِيّ، قَالَ: (صليت مَعَ عبد الله
بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الظّهْر فَانْصَرف
فِي مجْلِس فِي دَاره، فَانْصَرَفت مَعَه حَتَّى إِذا
نُودي بالعصر دَعَا بوضؤ فَتَوَضَّأ، فَقلت لَهُ: أَي
شَيْء هَذَا يَا ابا عبد الرَّحْمَن الْوضُوء عِنْد كل
صَلَاة؟ فَقَالَ: وَقد فطنت لهَذَا مني، لَيست بِسنة، إِن
كَانَ لكافياً وضوئي لصَلَاة الصُّبْح وصلواتي كلهَا مَا
لم أحدث، وَلَكِنِّي سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يَقُول: (من تَوَضَّأ على طهر كتب الله لَهُ بذلك
عشر حَسَنَات، فَفِي ذَلِك رغبت يَا ابْن أخي) .
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد رُوِيَ عَن أنس بن مَالك مَا
يدل على مَا ذكرنَا، يَعْنِي اكْتِفَاء الْمُصَلِّي
بِوضُوء وَاحِد لصلوات كَثِيرَة مَا لم يحدث، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ قد علم حكم مَا ذكرنَا من فعل رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم ير ذَلِك فرضا، بل كَانَ ذَلِك
لإصابة الْفضل، وإلاَّ لما كَانَ وَسعه، وَلَا لغيره، أَن
يخالفوه. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا: وَيجوز أَن يكون
ذَلِك فرضا أَولا ثمَّ نسخ، ثمَّ اسْتدلَّ على ذَلِك
بِحَدِيث أَسمَاء ابْنة زيد بن الْخطاب ابْن عبد الله بن
حَنْظَلَة بن أبي عَامر حَدثنَا أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر بِالْوضُوءِ لكل صَلَاة طَاهِرا كَانَ
أَو غير طَاهِر، فَلَمَّا شقّ ذَلِك عَلَيْهِ أَمر
بِالسِّوَاكِ لكل صَلَاة فَهَذَا دلّ على النّسخ.
وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) : فَلَمَّا
شقّ ذَلِك عَلَيْهِ أَمر بِالسِّوَاكِ عِنْد كل صَلَاة،
وَوضع عَنهُ الْوضُوء إلاَّ من حدث. وَيُقَال فِي
الْجَواب: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك من خَصَائِص النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ ابْن شاهين: لم يبلغنَا
أَن أحدا من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ كَانُوا يتعمدون
الْوضُوء لكل صَلَاة إلاَّ ابْن عمر، وَفِيه نظر،
لِأَنَّهُ روى ابْن ابي شيبَة. حَدثنَا وَكِيع عَن ابْن
عون عَن ابْن سِيرِين: كَانَ الحلفاء يتوضؤون لكل صَلَاة.
وَفِي لفظ: كَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان يتوضؤون لكل
صَلَاة. وَقَالَ بَعضهم: يُمكن حمل الْآيَة على ظَاهرهَا
من غير نسخ، وَيكون الْأَمر فِي حق الْمُحدثين على
الْوُجُوب، وَفِي حق غَيرهم للنَّدْب. قلت: هَذَا لَا يَصح
لما ذكرنَا عَن قريب أَنه على هَذَا يكون من بَاب الإلغاز،
فَلَا يجوز.
الثَّانِي من الاحكام: فِيهِ دلَالَة على فَضِيلَة
الْوضُوء لكل صَلَاة وَحدهَا.
الثَّالِث: يجوز الِاكْتِفَاء بِوضُوء وَاحِد مَا لم يحدث.
الرَّابِع: فِيهِ دلَالَة على وجوب الْوضُوء عِنْد الْحَدث
لمن يُرِيد الصَّلَاة.
215 - حدّثنا خالِدُ بنُ مَخْلَدٍ قالَ حدّثنا سُلَيْمانُ
قَالَ حدّثنا يحْيى ابنُ سَعِيدٍ قالَ أَخْبرنِي بُشَيْرُ
بنُ يَسَارٍ قَالَ أخْبرني سُوَيْدُ بنُ النُّعْمانِ قَالَ
خَرَجْنَا مَعَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عامَ خَيْبَرَ حَتَّى إذَا كُنَّا بالصَّهْباءِ صَلي لَنَا
رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العَصْرَ فَلَمَّا
صلى دَعَا بالاَطْعِمَةِ فَلَم يُوتَإلاَّ بالسَّويقِ
فأكَلْنَا وَشَرِبْنَا ثُمَّ قامَ النَّبيُّ صلى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسلم إلَى المَغْرِبِ فَمضْمَضَ
(3/113)
ثُمَّ صلَّى لنَا المغْرِبَ ولَمْ
يَتوَضأ..
هَذَا الحَدِيث قد تقدم فِي بَاب: من مضمض من السويق وَلم
يتَوَضَّأ عَن قريب، وتكلمنا هُنَاكَ بِمَا يتَعَلَّق
بِهِ، وَهَهُنَا ذكره ثَانِيًا لفوائد. مِنْهَا: أَن
هُنَاكَ رَوَاهُ عَن عبد الله بن يُوسُف بِالتَّحْدِيثِ
عَن مَالك بالإخبار عَن يحيى بن سعيد بالعنعنة، وَهَهُنَا
رُوِيَ عَن خَالِد بن مخلد بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع
عَن سُلَيْمَان بن بِلَال بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْجمع
عَن يحيى بن سعيد بِالتَّحْدِيثِ بِصِيغَة الْإِفْرَاد
صَرِيحًا مِنْهُ وَمن شَيْخه بالإخبار بِصِيغَة
الْإِفْرَاد، وَعَن شيخ شَيْخه بالإخبار بِصِيغَة الْجمع.
وَمِنْهَا: أَن هُنَاكَ قَالَ: عَن بشير بن يسَار، مولى
بني حَارِثَة، أَن سُوَيْد بن النُّعْمَان أخبرهُ،
بالإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد، وَهَهُنَا: أَخْبرنِي بشير
بن يسَار، قَالَ: أخبرنَا سُوَيْد بن النُّعْمَان،
بِصِيغَة الْجمع. وَهُنَاكَ: أَنه خرج مَعَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهَهُنَا: خرجنَا مَعَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَهُنَاكَ: عَام خَيْبَر
حَتَّى إِذا كَانُوا بالصهباء. وَهِي ادنى خَيْبَر،
وَهَهُنَا: حَتَّى إِذا كُنَّا بالصبهاء، وَلم يقل: وَهِي
أدني خَيْبَر. وَهُنَاكَ: فصلى الْعَصْر، وَهَهُنَا: صلى
لنا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَصْر.
وَهُنَاكَ: ثمَّ دَعَا بالأزواد، وَهَهُنَا: فَلَمَّا صلى
دَعَا بالأطعمة. وَهُنَاكَ بعد قَوْله: فَلم يُؤْت إلاَّ
بالسويق فَأمر بِهِ فثرى فاكل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم واكلنا، وَهَهُنَا: فَلم يُؤْت إلاَّ
بالسويق فاكلنا وشربنا. وَهُنَاكَ: ثمَّ قَامَ إِلَى
الْمغرب فَمَضْمض ومضمضنا ثمَّ صلى وَلم يتَوَضَّأ،
وَهَهُنَا: فَمَضْمض ثمَّ صلى لنا الْمغرب وَلم يتَوَضَّأ.
وَاعْلَم أَنه لَيْسَ للْبُخَارِيّ حَدِيث لسويد بن
النُّعْمَان إلاَّ هَذَا الحَدِيث الْوَاحِد. وَقد أخرجه
فِي مَوَاضِع كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَهُوَ أَنْصَارِي حارثي،
شهد بيعَة الرضْوَان، وَذكر ابْن سعد أَنه شهد قبل ذَلِك
أحدا وَمَا بعْدهَا، وَالله اعْلَم.
55 - (بَاب)
بَاب بِالسُّكُونِ، لِأَن الْإِعْرَاب لَا يكون إلاَّ
بِالْعقدِ والتركيب، اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا قدر شَيْء
فَيكون حِينَئِذٍ معرباً نَحْو مَا تَقول: هَذَا بَاب،
لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يكون خبر مُبْتَدأ. وَقَالَ بَعضهم:
بَاب، بِالتَّنْوِينِ هُوَ غلط.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب
الأول ذكر الْوضُوء من غير حدث، وَله فضل كَبِير إِذا
كَانَ المتوضىء محترزاً عَن إِصَابَة الْبَوْل بدنه أَو
ثَوْبه، وَفِي هَذَا الْبَاب يذكر الْوَعيد فِي حق من لَا
يحْتَرز مِنْهُ.
مِنَ الكَبَائِر أنْ لاَ يَسْتَتَرَ مِنْ بَوْلهِ
كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع على
الِابْتِدَاء. قَوْله: (من الْكَبَائِر) ، مقدما خَبره،
وَالتَّقْدِير: ترك استتار الرجل من بَوْله من
الْكَبَائِر، وَهُوَ جمع: كَبِيرَة، وَهِي: الفعلة القبيحة
من الذُّنُوب الْمنْهِي عَنْهَا شرعا، الْعَظِيم أمرهَا:
كَالْقَتْلِ وَالزِّنَا والفرار من الزَّحْف وَغير ذَلِك،
وَهِي من الصِّفَات الْغَالِبَة، يَعْنِي: صَار إسما
لهَذِهِ الفعلة القيبحة. وَفِي الأَصْل هِيَ صفة،
وَالتَّقْدِير: الفعلة الْكَبِيرَة. وَاخْتلفُوا فِي
الْكَبَائِر فَقيل: سبع، وَهُوَ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ
وَمُسلم من حَدِيث ابي هُرَيْرَة، أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (اجتنبوا السَّبع الموبقات، فَقيل:
يَا رَسُول الله وَمَا هن؟ قَالَ: الاشراك بِاللَّه، وَقتل
النَّفس الَّتِي حرم الله إِلَّا بِالْحَقِّ، وَالسحر،
وَأكل الرِّبَا، وَأكل مَال الْيَتِيم، والتولي يَوْم
الزَّحْف، وَقذف الْمُحْصنَات الْمُؤْمِنَات الْغَافِلَات)
. وَقيل: الْكَبَائِر تسع، وروى الْحَاكِم فِي حَدِيث
طَوِيل: (والكبائر تسع) فَذكر السَّبْعَة الْمَذْكُورَة،
وَزَاد عَلَيْهَا: (عقوق الْوَالِدين الْمُسلمين،
وَاسْتِحْلَال الْبَيْت الْحَرَام) . وَقيل: الْكَبِيرَة
كل مَعْصِيّة. وَقيل: كل مَعْصِيّة. وَقيل: كل ذَنْب قرن
بِنَار أَو لعنة أَو غضب أَو عَذَاب، وَقَالَ رجل لِابْنِ
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: الْكَبَائِر سبع؟
فَقَالَ: هِيَ إِلَى سَبْعمِائة. قلت: الْكَبِيرَة أَمر
نسبي، فَكل ذَنْب فَوْقه ذَنْب فَهُوَ بِالنِّسْبَةِ
إِلَيْهِ صَغِيرَة، وبالنسبة إِلَى مَا تَحْتَهُ كَبِيرَة.
216 - حدّثنا عُثْمانُ قَالَ حدّثنا جَرِيرٌ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ قالَ مَرَّ
النَّبيُّ صلَّى الله عَلَيْهِ وسلمِ بِحَائِطٍ مِنْ
حِيطَانِ المَدِينَةِ أوْ مَكَّةَ فَسَمِعَ صَوْتَ
إنْسَانَيْنِ يُعَذَّبَانِ فِي قُبُورِهمَا فقالَ النبيُّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَان
فِي كَبِيرٍ ثُمَّ قالَ بَلى كانَ أحَدُهُمَا
(3/114)
لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وكانَ
الآخَرُ يَمْشِيِ بالنَّميمَةِ ثمَّ دَعَا بِجَرِيدةٍ
فَكَسَرَهَا كِسْرَتَيْنِ فَوَضَع عَلَى كُلِّ قَبْرٍ
مِنْهُمَا كِسْرَةً لهُ يَا رسولَ اللَّهِ لِمَ فَعَلْتَ
هَذا قالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَعَلَّهُ أنْ
يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَم يَيْبسَا أوْ أنْ يَيْبَسَا..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفي.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: عُثْمَان بن أبي شيبَة
الْكُوفِي. الثَّانِي: جرير ابْن عبد الحميد. الثَّالِث:
مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، الثَّلَاثَة تقدمُوا فِي بَاب:
من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا. الرَّابِع: مُجَاهِد بن
جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة:
الإِمَام فِي التَّفْسِير، تقدم فِي أول كتاب الْإِيمَان.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع والعنعنة. وَمِنْهَا: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي
ورازي ومكي. وَمِنْهَا: أَن هَذَا الحَدِيث رَوَاهُ
الْأَعْمَش عَن مُجَاهِد عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس،
فَادْخُلْ بَينه وَبَين ابْن عَبَّاس طاوساً، لما يَأْتِي
عَن قريب أَن البُخَارِيّ أخرجه هَكَذَا، وَإِخْرَاج
البُخَارِيّ بِهَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ يَقْتَضِي أَن
كليهمَا صَحِيح عِنْده، فَيحمل على أَن مُجَاهدًا سَمعه من
طَاوس عَن ابْن عَبَّاس، وسَمعه أَيْضا من ابْن عَبَّاس
بِلَا وَاسِطَة. أَو الْعَكْس، وَيُؤَيّد ذَلِك أَن فِي
سِيَاق: مُجَاهِد عَن طَاوس زِيَادَة على مَا فِي
رِوَايَته عَن ابْن عَبَّاس، وَصرح ابْن حبَان بِصِحَّة
الطَّرِيقَيْنِ مَعًا، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: رِوَايَة
الْأَعْمَش أصح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (الْعِلَل) :
سَأَلت مُحَمَّدًا: أَيهمَا أصح؟ فَقَالَ: رِوَايَة
الْأَعْمَش أصح، فَإِن قيل: إِذا كَانَ حَدِيث الْأَعْمَش
أصح فلِمَ لم يُخرجهُ وَخرج الَّذِي غير صَحِيح؟ قيل لَهُ:
كِلَاهُمَا صَحِيح؟ قيل لَهُ: كِلَاهُمَا صَحِيح، فَحَدِيث
الْأَعْمَش أصح، فَالْأَصَحّ يسْتَلْزم الصَّحِيح على مَا
لَا يخفى، وَيُؤَيِّدهُ أَن شُعْبَة بن الْحجَّاج رَوَاهُ
عَن الْأَعْمَش كَمَا رَوَاهُ مَنْصُور وَلم يذكر طاوساً.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه الْأَئِمَّة
السِّتَّة وَغَيرهم، وَالْبُخَارِيّ أخرجه فِي مَوَاضِع
هُنَا عَن عُثْمَان، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن
مُحَمَّد بن الْمثنى فِي موضِعين، وَفِي الْجَنَائِز عَن
يحيى بن يحيى، وَفِي الْأَدَب عَن يحيى، وَعَن مُحَمَّد بن
سَلام، وَفِي الْجَنَائِز أَيْضا عَن قُتَيْبَة، وَفِي
الْحَج عَن عَليّ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي
سعيد الْأَشَج، وَأبي كريب، وَإِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم،
ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ، وَعَن أَحْمد بن يُوسُف.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن زُهَيْر بن حَرْب، وهناد
بن السّري، كِلَاهُمَا عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة وهناد وَأبي كريب،
ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ،
وَفِي التَّفْسِير عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ، وَفِي
الْجَنَائِز عَن هناد عَن مُعَاوِيَة بِهِ. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي
مُعَاوِيَة ووكيع بِهِ.
بَيَان لغاته قَوْله: (بحائط) أَي: بُسْتَان من النّخل
إِذا كَانَ عَلَيْهِ جِدَار، وَيجمع على: حيطان وحوائط،
وَأَصله: حاوط بِالْوَاو، قلبت الْوَاو: يَاء، لِأَنَّهُ
من الحوط، وَهُوَ الْحِفْظ والحراسة، والبستان إِذا عمل
حواليه جدران يحفظ من الدَّاخِل، وَلَا يُسمى الْبُسْتَان
حَائِطا إِلَّا إِذا كَانَ عَلَيْهِ جدران. فان قلت: أخرج
البُخَارِيّ فِي هَذَا الْأَدَب، وَلَفظه: (خرج النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من بعض حيطان الْمَدِينَة) ،
وَهنا: (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بحائط) .
وَبَينهمَا تنافٍ. قلت: مَعْنَاهُ أَن الْحَائِط الَّذِي
خرج مِنْهُ غير الْحَائِط الَّذِي مر بِهِ، وَفِي
(أَفْرَاد) الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث جَابر: أَن
الْحَائِط كَانَت لأم مُبشر الْأَنْصَارِيَّة. قَوْله:
(أَو مَكَّة) الشَّك من جرير بن عبد الحميد. وَأخرجه
البُخَارِيّ فِي الْأَدَب: (من حيطان الْمَدِينَة) ،
بِالْجَزْمِ من غير شكّ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة
الدَّارَقُطْنِيّ، لِأَن حَائِط أم مُبشر كَانَ
بِالْمَدِينَةِ، وَإِنَّمَا عرف: الْمَدِينَة، وَلم يعرف:
مَكَّة، لِأَن: مَكَّة، علم فَلَا تحْتَاج إِلَى
التَّعْرِيف، ومدينة اسْم جنس، فَعرفت بِالْألف وَاللَّام
ليَكُون معهوداً عَن مَدِينَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (يعذبان فِي قبورهما) ، وَفِي رِوَايَة
الْأَعْمَش: (مر بقبرين) ، وَزَاد ابْن مَاجَه فِي
رِوَايَته: (بقبرين جديدين فَقَالَ: إنَّهُمَا يعذبان) فان
قلت: المعذب مَا فِي القبرين، فَكيف أسْند الْعَذَاب إِلَى
القبرين؟ قلت: هَذَا من بَاب ذكر الْمحل وَإِرَادَة
الْحَال. قَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون الضَّمِير
عَائِدًا على غير مَذْكُور، لِأَن سِيَاق الْكَلَام يدل
عَلَيْهِ. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن الَّذِي يرجع
إِلَيْهِ الضَّمِير مَوْجُود، وَهُوَ: القبران، وَلَو لم
يكن مَوْجُودا لَكَانَ لكَلَامه وَجه، وَالْوَجْه مَا
ذَكرْنَاهُ. فَافْهَم. قَوْله: (لَا يسْتَتر) هَكَذَا فِي
أَكثر الرِّوَايَات، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق، وَكسر الثَّانِيَة، من: الستْرَة، وَمَعْنَاهُ: لَا
يستر جسده وَلَا ثَوْبه من مماسة الْبَوْل، وَفِي رِوَايَة
ابْن عَسَاكِر: (لَا يستبرىء) ، بِالْبَاء الْمُوَحدَة
(3/115)
الساكنة بعد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
الْمَفْتُوحَة، من: الِاسْتِبْرَاء، وَهُوَ طلب
الْبَرَاءَة. وَفِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد فِي
حَدِيث الْأَعْمَش: (لَا يستنزه) ، بتاء مثناة من فَوق
مَفْتُوحَة وَنون سَاكِنة وزاي مَكْسُورَة بعْدهَا هَاء،
من: النزه. وَهُوَ الإبعاد. وَرُوِيَ: (لَا يستنثر) ، بتاء
مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وَنون سَاكِنة وثاء مُثَلّثَة
مَكْسُورَة، من: الاستنثار، وَهُوَ طلب النثر، يَعْنِي:
نثر الْبَوْل عَن الْمحل. وَرُوِيَ: (لَا ينتتر) ، بتائين
مثناتين من فَوق بعد النُّون الساكنة، من: النتر، وَهُوَ
جذب فِيهِ قُوَّة وحفوة، وَفِي الحَدِيث: (إِذا بَال
أحدكُم فينتتر) . قَوْله: (بالنميمة) : هِيَ نقل كَلَام
النَّاس. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ نقل كَلَام الْغَيْر
بِقصد الْإِضْرَار، وَهُوَ من أقبح القبائح. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: هَذَا لَا يَصح على قَاعِدَة الْفُقَهَاء،
لأَنهم يَقُولُونَ: الْكَبِيرَة هِيَ الْمُوجبَة للحد،
وَلَا حد على الْمَاشِي بالنميمة إلاَّ أَن يُقَال:
الِاسْتِمْرَار الْمُسْتَفَاد مِنْهُ يَجعله كَبِيرَة،
لِأَن الْإِصْرَار على الصَّغِيرَة حكمه حكم الْكَبِيرَة
أَو لَا يُرِيد بالكسرة الْكَبِيرَة مَعْنَاهَا الاصطلاحي.
وَقَالَ بَعضهم: وَمَا نَقله عَن الْفُقَهَاء لَيْسَ هُوَ
قَول جَمِيعهم، لَكِن كَلَام الرَّافِعِيّ يشْعر بترجيحه
حَيْثُ حكى فِي تَعْرِيف الْكَبِيرَة وَجْهَيْن: أَحدهمَا:
هَذَا، وَالثَّانِي: مَا فِيهِ وَعِيد شَدِيد. قَالَ: وهم
إِلَى الأول أميل، وَالثَّانِي أوفق لما ذَكرُوهُ عِنْد
تَفْصِيل الْكَبَائِر. قلت: لَا وَجه لتعقيبه على
الْكرْمَانِي لِأَنَّهُ لم يُمَيّز قَول الْجَمِيع عَن
قَول الْبَعْض حَتَّى يعْتَرض على قَوْله على قَاعِدَة
الْفُقَهَاء، على أَن الذَّنب المستمر عَلَيْهِ صَاحبه،
وَإِن كَانَ صَغِيرَة، فَهُوَ كَبِيرَة فِي الحكم، وَفِيه
وَعِيد. لقَوْله: (لَا صَغِيرَة مَعَ الْإِصْرَار) .
قَوْله (ثمَّ دَعَا بجريدة) ، وَفِي رِوَايَة الْأَعْمَش:
(بعسيب رطب) ، وَهُوَ بِفَتْح الْعين وَكسر السِّين
الْمُهْملَة على وزن فعيل نَحْو كريم: وَهِي الجريدة
الَّتِي لم ينْبت فِيهَا خوص، وَإِن نبت فَهِيَ: السعفة،
وَعلم من هَذَا أَن الجريدة هِيَ الْغُصْن من النّخل
بِدُونِ الْوَرق. قَوْله: (فَوضع) ، وَفِي رِوَايَة
الْأَعْمَش، وَهِي تَأتي: (فغرز) ، فالغرز يسْتَلْزم
الْوَضع بِدُونِ الْعَكْس. قَوْله: (فَقيل لَهُ) ، وَفِي
رِوَايَة: (قَالُوا) ، أَي: الصَّحَابَة، وَلم يعلم
الْقَائِل من هُوَ. قَوْله: (مَا لم ييبسا) بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة من: يبس ييبس، من بَاب: علم يعلم،
وَفِيه لُغَة يبس ييبس بِالْكَسْرِ فيهمَا، وَهِي شَاذَّة،
وَهَكَذَا رُوِيَ فِي كثير من الرِّوَايَات، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (إلاَّ أَن ييبسا) بِحرف
الِاسْتِثْنَاء، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (إِلَى
أَن ييبسا) ، بِكَلِمَة: إِلَى، الَّتِي للغاية. وَيجوز
فِيهِ التَّأْنِيث والتذكير، أماالتأنيث فباعتبار رُجُوع
الضَّمِير فِيهِ إِلَى الكسرتين، وَأما التَّذْكِير
فباعتبار رُجُوعه إِلَى العودين، لِأَن الكسرتين هما
العودان، والكسرتان بِكَسْر الكافية، تَثْنِيَة كسرة،
وَهِي الْقطعَة من الشَّيْء المكسور، وَقد تبين من
رِوَايَة الْأَعْمَش أَنَّهَا كَانَت نصفا، وَفِي رِوَايَة
جرير عَنهُ بِاثْنَتَيْنِ، وَقَالَ النووى: الْبَاء،
زَائِدَة للتَّأْكِيد، وَهُوَ مَنْصُوب على الْحَال.
بَيَان الْإِعْرَاب قَوْله: (يعذبان) جملَة وَقعت حَالا
(من إنسانين) ، وَكَذَا قَوْله: (فِي قبورهما) أَي: حَال
كَونهمَا يعذبان وهما فِي قبريهما. وَإِنَّمَا قَالَ: (فِي
قبورهما) ، مَعَ أَن لَهما قبرين، لِأَن فِي مثل هَذَا
اسْتِعْمَال التَّثْنِيَة قَلِيل، وَالْجمع أَجود كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم:
4) والاصل فِيهِ أَن الْمُضَاف إِلَى الْمثنى إِذا كَانَ
جُزْء مَا أضيف إِلَيْهِ يجوز فِيهِ التَّثْنِيَة
وَالْجمع، وَلَكِن الْجمع أَجود نَحْو: أكلت راسي شَاتين،
وَإِن كَانَ غير جزئه، فالأكثر مَجِيئه بِلَفْظ
التَّثْنِيَة نَحْو: سل الزيدان سيفيهما، وَإِن أَمن من
اللّبْس جَازَ جعل الْمُضَاف بِلَفْظ الْجمع، كَمَا فِي
قَوْله: (فِي قبورهما) ، وَقد تجمع التَّثْنِيَة وَالْجمع
كَمَا فِي قَوْله.
ظهراهما مثل ظُهُور الترسين.
قَوْله: (لَعَلَّه ان يُخَفف عَنْهُمَا) شبه: لَعَلَّ
بعسى، فَأتى بِأَن فِي خَبره، وَقَالَ الْمَالِكِي
الرِّوَايَة: أَن يُخَفف عَنْهَا على التَّوْحِيد،
والتأنيث وَهُوَ ضمير النَّفس، فَيجوز إِعَادَة الضميرين
فِي: لَعَلَّه، وعنها إِلَى الْمَيِّت بِاعْتِبَار كَونه
إنْسَانا، وَكَونه نفسا، وَيجوز أَن يكون الضَّمِير فِي:
لَعَلَّه، ضمير الشان، وَفِي: عَنْهَا، للنَّفس، وَجَاز
تَفْسِير الشَّأْن بِأَن وصلتها، مَعَ أَنَّهَا فِي
تَقْدِير مصدر، لِأَنَّهَا فِي حكم جملَة لاشتمالها على
مُسْند ومسند إِلَيْهِ، وَلذَلِك سدت مسد مفعولي: حسب
وَعَسَى، فِي قَوْله تَعَالَى {أم حسبتم أَن تدْخلُوا
الْجنَّة} (الْبَقَرَة: 214، وَآل عمرَان: 142) وَيجوز فِي
قَول الْأَخْفَش أَن تكون: أَن، زَائِدَة مَعَ كَونهَا
ناصبة كزيادة الْبَاء، وَمن كَونهمَا جارتين، وَمن
تَفْسِير ضمير الشَّأْن: بِأَن وصلتها، قَول عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: فَمَا هُوَ إلاَّ أَن سَمِعت أَبَا
بكر تَلَاهَا فعقرت حَتَّى مَا تقلبني رجلاي. وَقَالَ
الطَّيِّبِيّ: لَعَلَّ الظَّاهِر أَن يكون الضَّمِير
مُبْهما يفسره مَا بعده، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن
هِيَ إلاَّ حياتنا الدُّنْيَا} (الْأَنْعَام: 29) .
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى: هَذَا
ضمير لَا يعلم مَا يَعْنِي بِهِ إلاَّ مَا يتلوه من
بَيَانه، وَأَصله: أَن لَا حَيَاة إلاَّ الْحَيَاة
الدُّنْيَا، ثمَّ وضع: هِيَ، مَوضِع: الْحَيَاة، لِأَن
الْخَبَر يدل عَلَيْهَا ويبينها، وَمِنْه: هِيَ النَّفس
تتحمل مَا حملت، وَالرِّوَايَة بتثنية الضَّمِير فِي:
عَنْهُمَا، لَا يَسْتَدْعِي إلاَّ هَذَا التَّأْوِيل.
قَوْله: (مَا لم ييبسا) كلمة: مَا، هُنَا مَصْدَرِيَّة
زمانية، وَأَصله: مُدَّة دوامها إِلَى زمن اليبس.
(3/116)
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (أَو بِمَكَّة)
شكّ من الرواي. وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله:
(إنسانين) أَي: بشرين، قَالَ الْجَوْهَرِي: الْإِنْس
الْبشر، الْوَاحِد أنسي وأنسي بِالتَّحْرِيكِ، وَالْجمع:
أناسي، وَإِن شِئْت جعلته إنْسَانا، ثمَّ جمعته إناسي،
فَتكون الْيَاء عوضا عَن النُّون، وَقَالَ قوم: أصل
الْإِنْسَان: إنسيان، على إفعلان، فحذفت: الْيَاء،
اسْتِخْفَافًا لِكَثْرَة مَا يجْرِي على ألسنتهم، وَإِذا
صغروها ردوهَا. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: إِنَّمَا سمي
إنْسَانا لِأَنَّهُ عهد إِلَيْهِ فنسي. وَيُقَال: من
الْأنس، خلاف: الوحشة. وَيُقَال للْمَرْأَة أَيْضا
إِنْسَان، وَلَا يُقَال: إنسانة، والعامة تَقوله. قَوْله:
(يعذبان فِي قبورهما) وَقد ورد فِي حَدِيث أبي بكرَة من
(تَارِيخ البُخَارِيّ) بِسَنَد جيد: مر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بقبرين فَقَالَ: (إنَّهُمَا ليعذبان، وَمَا
يعذبان فِي كَبِير، أما أَحدهمَا فيعذب فِي الْبَوْل،
وَأما الآخر فيعذب فِي الْغَيْبَة) . وَفِي حَدِيث ابي
هُرَيْرَة من (صَحِيح ابْن حبَان) : (مر، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِقَبْر فَوقف عَلَيْهِ وَقَالَ:
ائْتُونِي بجريدتين، فَجعل أحداهما عِنْد رَأسه
وَالْأُخْرَى عِنْد رجلَيْهِ. وَقَالَ: (لَعَلَّه يُخَفف
عَنهُ بعض عَذَاب الْقَبْر) . وَهُوَ عِنْد أبي مُوسَى
بِلَفْظ: (قبرين، رجل لَا يتَطَهَّر من الْبَوْل،
وَامْرَأَة تمشي بالنميمة) . وَعند ابْن أبي شيبَة من
حَدِيث يعلى بن شَبابَة: (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِقَبْر يعذب صَاحِبَة فَقَالَ: (إِن هَذَا الْقَبْر
يعذب صَاحبه فِي غير كَبِير) ، وَذكره البرقي فِي
(تَارِيخه) قَالَ: (قبرين أَحدهمَا يَأْكُل لُحُوم النَّاس
ويغتابهم، وَكَانَ هَذَا لَا يَتَّقِي بَوْله) . وَفِي
(تَارِيخ بحشل) من حَدِيث الْأَعْمَش عَن أبي سُفْيَان عَن
جَابر: (دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَائِطا
لأم مُبشر، فَإِذا بقبرين، فَدَعَا بجريدة رطبَة فَشَقهَا
ثمَّ وضع وَاحِدَة على أحد القبرين، وَالْأُخْرَى على
الآخر، ثمَّ قَالَ: لَا يرفعان عَنْهُمَا حَتَّى يجفا، أما
أَحدهمَا فَكَانَ يمشي بالنميمة، وَالْآخر كَانَ لَا يتنزه
من الْبَوْل) . وَفِي حَدِيث أنس: (مر النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بقبرين من بني النجار يعذبان فِي النميمة
وَالْبَوْل، فَأخذ سعفة رطبَة فَشَقهَا، وَجعل على ذَا
نصفا وعَلى ذَا نصفا، وَقَالَ: لَا يزَال يُخَفف عَنْهُمَا
الْعَذَاب مَا دامتا رطبتين) . وَفِي (كتاب ابْن
الْجَوْزِيّ) : (مر بِرَجُل يعذب فِي الْغَيْبَة وبآخر
يعذب فِي الْبَوْل) .
وَورد فِي عَذَاب الْقَبْر أَحَادِيث كَثِيرَة عَن جمَاعَة
من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم: مِنْهَا:
حَدِيث عبَادَة بن الصَّامِت بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عِنْد
الْبَزَّار. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي سعيد وَزيد بن ثَابت
عِنْد مُسلم. وَمِنْهَا: حَدِيث شُرَحْبِيل بن حَسَنَة.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ عِنْد أبي
دَاوُد. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة وَأبي رَافع،
ذكرهمَا ابو مُوسَى الْمَدِينِيّ فِي (كتاب التَّرْغِيب
والترهيب) . وَمِنْهَا: حَدِيث مَيْمُونَة، ذكره ابْن
مَنْدَه فِي كتاب الطَّهَارَة. وَمِنْهَا: حَدِيث
عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد اللالكائي.
قَوْله: (وَمَا يعذبان فِي كَبِير) أَي: بكبير تَركه
عَلَيْهِمَا، إلاَّ أَنه كَبِير من حَيْثُ الْمعْصِيَة.
وَقيل: يحمل كَبِير على أكبر، تَقْدِيره: لَيْسَ هُوَ أكبر
الذُّنُوب، إِذْ الْكَبَائِر مُتَفَاوِتَة. وَقَالَ
القَاضِي عِيَاض: إِنَّه غير كَبِير عنْدكُمْ لقَوْله
تَعَالَى {وتحسبونه هيناً وَهُوَ عِنْد الله عَظِيم}
(النُّور: 15) وَذَلِكَ أَن عدم التَّنَزُّه من الْبَوْل
يلْزم مِنْهُ بطلَان الصَّلَاة، وَتركهَا كَبِيرَة. وَفِي
(شرح السّنة) معنى: (مَا يعذبان فِي كَبِير) : أَنَّهُمَا
لَا يعذبان فِي أَمر كَانَ يكبر ويشق عَلَيْهِمَا
الِاحْتِرَاز مِنْهُ إِذْ لَا مشقة فِي الاستتار عِنْد
الْبَوْل وَترك النميمة وَلم يرد أَنَّهُمَا غير كَبِير
فِي أَمر الدّين وَقَالَ الْمَازرِيّ [/ قع: الذُّنُوب
تَنْقَسِم إِلَى مَا يشق تَركه طيبا كالملاذ الْمُحرمَة
وَإِلَى مَا بنفرد مِنْهُ طبعا كتارك السمُوم، وَإِلَى مَا
لَا يشق تَركه طبعا: كالغيبة وَالْبَوْل. قَوْله:
(لَعَلَّه ايْنَ يُخَفف عَنْهُمَا) أَي: لَعَلَّه يُخَفف
ذَلِك من نَاحيَة التَّبَرُّك بأثر النَّبِي، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، ودعائه بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا،
فَكَأَن صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جعل مُدَّة بَقَاء
النداوة فيهمَا حدا لما وَقعت لَهُ الْمَسْأَلَة من
تَخْفيف الْعَذَاب عَنْهُمَا، وَلَيْسَ ذَلِك من أجل أَن
فِي الرطب معنى لَيْسَ فِي الْيَابِس، قَالَه الْخطابِيّ.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ الْعلمَاء: هُوَ مَحْمُول على
أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَأَلَ الشَّفَاعَة لَهما
فاجيبت شَفَاعَته بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُمَا إِلَى أَن
ييبسا. وَقيل: يحْتَمل أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَدْعُو لَهما تِلْكَ الْمدَّة، وَقيل: لِكَوْنِهِمَا
يسبحان مَا دامتا رطبتين وَلَيْسَ لليابس بتسبيح، قَالُوا:
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إلاَّ يسبح
بِحَمْدِهِ} (الْإِسْرَاء: 44) مَعْنَاهُ: وَإِن من شَيْء
حَيّ، ثمَّ حَيَاة كل شَيْء بِحَسبِهِ، فحياة الْخَشَبَة
مَا لم يتبس وحياة الْحجر مَا لم يقطع، وَذهب
الْمُحَقِّقُونَ إِلَى أَنه على عُمُومه، ثمَّ اخْتلفُوا:
هَل يسبح حَقِيقَة أم فِيهِ دلَالَة على الصَّانِع، فَيكون
مسبحاً منزهاً بِصُورَة حَاله، وَأهل التَّحْقِيق على أَنه
يسبح حَقِيقَة، وَإِذا كَانَ الْعقل لَا يحِيل جعل
التَّمْيِيز فِيهَا وَجَاء النَّص بِهِ، وَجب الْمصير
إِلَيْهِ. وَاسْتحبَّ الْعلمَاء قِرَاءَة الْقُرْآن عِنْد
الْقَبْر لهَذَا الحَدِيث، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى
التَّخْفِيف لتسبيح الجريد، فتلاوة الْقُرْآن أولى. فَإِن
قلت: مَا الْحِكْمَة فِي كَونهمَا مَا داما رطبين يمنعان
الْعَذَاب، بعد دَعْوَى الْعُمُوم فِي تَسْبِيح كل شَيْء؟
قلت: يُمكن أَن يكون معرفَة هَذَا كمعرفة عدد
الزَّبَانِيَة فِي أَنه تَعَالَى هُوَ الْمُخْتَص بهَا.
قَوْله:
(3/117)
(ثمَّ قَالَ: بلَى) مَعْنَاهُ أَي: أَنه
لكبير وَقد صرح بذلك فِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ،
من طَرِيق عُبَيْدَة بن حميد عَن مَنْصُور فَقَالَ: وَمَا
يعذبان فِي كَبِير، وَإنَّهُ لكبير؛ وَهَذَا من زيادات
رِوَايَة مَنْصُور على الْأَعْمَش، وَمُسلم لَمْ يذكر
الرواتين، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: لفظ: بلَى،
مُخْتَصّ بِإِيجَاب النَّفْي، فَمَعْنَاه: بلَى إنَّهُمَا
ليعذبان فِي كَبِير، فَمَا وَجه التَّوْفِيق بَينه وَبَين:
مَا يعذبان فِي كَبِير؟ قلت: قَالَ ابْن بطال: (وَمَا
يعذبان بكبير) يَعْنِي: عنْدكُمْ وَهُوَ كَبِير، يَعْنِي:
عِنْد الله تَعَالَى، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ عبد الْملك
الْبونِي فِي معنى قَوْله: (وانه لكبير) ، يحْتَمل أَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ظن أَن ذَلِك غير
كَبِير، فَأوحى الله تَعَالَى إِلَيْهِ فِي الْحَال
بِأَنَّهُ كَبِير، وَفِيه نظر.
بَيَان استنباط الاحكام الاول: فِيهِ أَن عَذَاب الْقَبْر
حق يجب الْإِيمَان بِهِ وَالتَّسْلِيم لَهُ، وعَلى ذَلِك
أهل السّنة وَالْجَمَاعَة خلافًا للمعتزلة، وَلَكِن ذكر
القَاضِي عبد الْجَبَّار رَئِيس الْمُعْتَزلَة فِي كتاب
(الطَّبَقَات) تأليفه: إِن قيل مذهبكم أداكم إِلَى
إِنْكَار عَذَاب الْقَبْر، وَهَذَا قد أطبقت عَلَيْهِ
الْأمة. قيل: إِن هَذَا الْأَمر إِنَّمَا أنكرهُ أَولا
ضرار بن عمر وَلما كَانَ من أَصْحَاب وَاصل ظنُّوا أَن
ذَلِك مِمَّا أنكرته الْمُعْتَزلَة، وَلَيْسَ الْأَمر
كَذَلِك، بل الْمُعْتَزلَة رجلَانِ: أَحدهمَا: يجوز ذَلِك
كَمَا وَردت بِهِ الْأَخْبَار، وَالثَّانِي: يقطع بذلك.
وَأكْثر شُيُوخنَا يقطعون بذلك، وَإِنَّمَا يُنكرُونَ قَول
جمَاعَة من الجهلة: إِنَّهُم يُعَذبُونَ وهم موتى،
وَدَلِيل الْعقل يمْنَع من ذَلِك، وبنحوه ذكره أَبُو عبيد
الله المرزباني فِي كتاب (الطَّبَقَات) تأليفه. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: إِن الملحدة وَمن يذهب مَذْهَب الفلاسفة
انكروه أَيْضا، وَالْإِيمَان بِهِ وَاجِب لَازم حسب مَا
أخبر بِهِ الصَّادِق، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِن الله
يحيى العَبْد وَيرد الْحَيَاة وَالْعقل، وَهَذَا نطقت بِهِ
الْأَخْبَار، وَهُوَ مَذْهَب أهل السّنة وَالْجَمَاعَة،
وَكَذَلِكَ يكمل الْعقل للصغار ليعلموا مَنْزِلَتهمْ
وسعادتهم، وَقد جَاءَ أَن الْقَبْر يَنْضَم عَلَيْهِ
كالكبير، وَصَارَ أَبُو الْهُذيْل وَبشر إِلَى أَن من خرج
عَن سمة الْإِيمَان فَإِنَّهُ يعذب بَين النفختين،
وَإِنَّمَا المساءلة إِنَّمَا تقع فِي تِلْكَ الْأَوْقَات،
وَأثبت الْبَلْخِي والجبائي وَابْنه عَذَاب الْقَبْر،
وَلَكنهُمْ نفوه عَن الْمُؤمنِينَ وأثبتوه للْكَافِرِينَ
والفاسقين. وَقَالَ بَعضهم: عَذَاب الْقَبْر جَائِز،
وَإنَّهُ يجْرِي على الْمَوْتَى من غير رد روحهم إِلَى
الْجَسَد، وَإِن الْمَيِّت يجوز أَن يتألم ويحس، وَهَذَا
مَذْهَب جمَاعَة من الكرامية. وَقَالَ بعض الْمُعْتَزلَة:
إِن الله تَعَالَى يعذب الْمَوْتَى فِي قُبُورهم وَيحدث
الآلام وهم لَا يَشْعُرُونَ، فَإِذا حشروا وجدوا تل الآلام
كَالسَّكْرَانِ والمغشي عَلَيْهِ إِن ضُربوا لم يَجدوا
ألماً، فَإِذا عَاد عقلهم إِلَيْهِم وجدوا تِلْكَ الآلام،
وَأما بَاقِي الْمُعْتَزلَة مثل ضرار بن عمر وَبشر المريسي
وَيحيى بن كَامِل وَغَيرهم فَإِنَّهُم أَنْكَرُوا عَذَاب
الْقَبْر أصلا، وَهَذِه الْأَقْوَال كلهَا فَاسِدَة تردها
الْأَحَادِيث الثَّابِتَة، وَإِلَى الانكار أَيْضا ذهب
الْخَوَارِج وَبَعض المرجئة. ثمَّ المعذب عِنْد أهل السّنة
الْجَسَد بِعَيْنِه أَو بعضه بعد إِعَادَة الرّوح إِلَى
جسده أَو إِلَى جزئه، وَخَالف فِي ذَلِك مُحَمَّد بن جرير
وَطَائِفَة فَقَالُوا: لَا يشْتَرط إِعَادَة الرّوح،
وَهَذَا أَيْضا فَاسد.
الثَّانِي: فِيهِ نَجَاسَة الأبوال مُطلقًا، قليلها
وكثيرها، وَهُوَ مَذْهَب عَامَّة الْفُقَهَاء، وَسَهل بن
الْقَاسِم بن مُحَمَّد، وَمُحَمّد بن عَليّ وَالشعْبِيّ،
وَصَارَ أَبُو حنيفَة وصاحباه إِلَى الْعَفو عَن قدر
الدِّرْهَم الْكَبِير اعْتِبَارا للْمَشَقَّة وَقِيَاسًا
على المخرجين. وَقَالَ الثَّوْريّ: كَانُوا يرخصون فِي
الْقَلِيل من الْبَوْل، وَرخّص الْكُوفِيُّونَ فِي مثل
رُؤُوس الأبر من الْبَوْل، وَفِي الْجَوَاهِر للمالكية:
إِن الْبَوْل والعذرة من بني آدم الآكلين الطَّعَام نجسان،
وطاهران من كل حَيَوَان مُبَاح الأول، ومكروهان من
الْمَكْرُوه أكله. وَقيل: بل نجسان. وَعَامة الْفُقَهَاء
لم يخففوا فِي شَيْء من الدَّم إلاَّ فِي الْيَسِير من دم
الْحيض، وَاخْتلف أَصْحَاب مَالك فِي مِقْدَار الْيَسِير،
فَقيل: قدر الدارهم الْكَبِير.
الثَّالِث: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على
اسْتِحْبَاب تِلَاوَة الْكتاب الْعَزِيز على الْقُبُور،
لِأَنَّهُ إِذا كَانَ يُرْجَى عَن الْمَيِّت التَّخْفِيف
بتسبيح الشّجر، فتلاوة الْقُرْآن الْعَظِيم أعظم رَجَاء
وبركة. قلت: اخْتلف النَّاس فِي هَذَا الْمَسْأَلَة، فَذهب
أَبُو حنيفَة وَأحمد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
إِلَى وُصُول ثَوَاب قِرَاءَة الْقُرْآن إِلَى الْمَيِّت،
لما روى أَبُو بكر النجار فِي كتاب (السّنَن) عَن عَليّ بن
أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من مر بَين الْمَقَابِر
فَقَرَأَ: قل هُوَ الله أحد، أحد عشر مرّة، ثمَّ وهب
أجرهَا للأموات أعطي من الْأجر بِعَدَد الْأَمْوَات) .
وَفِي (سنَنه) أَيْضا عَن أنس يرفعهُ: (من دخل الْمَقَابِر
فَقَرَأَ سُورَة: يس، خفف الله عَنْهُم يَوْمئِذٍ) . وَعَن
أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من زار قبر وَالدية. أَو
أَحدهمَا، فَقَرَأَ عِنْده، أَو عِنْدهمَا يس، غفر لَهُ) .
وروى أَبُو حَفْص بن شاهين عَن أنس قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَالَ: الْحَمد لله رب
الْعَالمين رب السَّمَوَات، وَرب الأَرْض رب الْعَالمين،
وَله الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَهُوَ
الْعَزِيز الْحَكِيم، لله الْحَمد رب السَّمَوَات وَرب
الأَرْض رب الْعَالمين، وَله
(3/118)
العظمة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَهُوَ
الْعَزِيز الْحَكِيم هُوَ الْملك رب السَّمَوَات وَرب
الأَرْض وَرب الْعَالمين، وَله النُّور فِي السَّمَوَات
وَالْأَرْض وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم، مرّة وَاحِدَة،
ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَل ثَوَابهَا لوالدي لم يبْق
لوَالِديهِ حق إلاَّ أَدَّاهُ إِلَيْهِمَا) . وَقَالَ
النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي
وَجَمَاعَة: أَن قِرَاءَة الْقُرْآن لَا تصل إِلَى
الْمَيِّت، وَالْأَخْبَار الْمَذْكُورَة حجَّة عَلَيْهِم،
وَلَكِن أجمع الْعلمَاء على أَن الدُّعَاء يَنْفَعهُمْ
ويصلهم ثَوَابه، لقَوْله تَعَالَى: {وَالَّذين جَاءُوا من
بعدهمْ يَقُولُونَ رَبنَا اغْفِر لنا وَلِإِخْوَانِنَا
الَّذين سبقُونَا بالايمان} (الْحَشْر: 59) وَغير ذَلِك من
الْآيَات، وبالاحاديث الْمَشْهُورَة مِنْهَا: قَوْله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (اللَّهُمَّ اغْفِر لأهل بَقِيع
الْغَرْقَد) ، وَمِنْهَا قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(اللَّهُمَّ اغْفِر لحينا وميتنا) ، وَغير ذَلِك. فان قلت:
هَل يبلغ ثَوَاب الصَّوْم أَو الصَّدَقَة أَو الْعتْق؟
قلت: روى أَبُو بكر النجار فِي كتاب (السّنَن) من حَدِيث
عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده: (أَنه سَأَلَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: يَا رَسُول
الله، إِن الْعَاصِ بن وَائِل كَانَ نذر فِي
الْجَاهِلِيَّة أَن ينْحَر مائَة بَدَنَة، وَإِن هِشَام بن
الْعَاصِ نحر حِصَّته خمسين، أفيجزىء عَنهُ؟ فَقَالَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن أَبَاك لَو كَانَ
أقرّ بِالتَّوْحِيدِ فَصمت عَنهُ أَو تَصَدَّقت عَنهُ أَو
أعتقت عَنهُ بلغه ذَلِك) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ: (قَالَ
رجل: يَا رَسُول الله كَيفَ أبر أَبَوي بعد مَوْتهمَا؟
فَقَالَ: إِن من الْبر بعد الْمَوْت أَن تصلي لَهما مَعَ
صَلَاتك، وَأَن تَصُوم لَهما مَعَ صيامك، وَأَن تصدق
عَنْهُمَا مَعَ صدقتك) . وَفِي كتاب القَاضِي الإِمَام أبي
الْحُسَيْن بن الْفراء، عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَقَالَ: يَا رَسُول الله إِذا نتصدق عَن مَوتَانا ونحج
عَنْهُم وندعو لَهُم فَهَل يصل ذَلِك اليهم؟ قَالَ: نعم،
ويفرحون بِهِ كَمَا يفرح أحدكُم بالطبق إِذا أهدي
إِلَيْهِ) . وَعَن سعد: (أَنه قَالَ: يَا رَسُول الله إِن
أبي مَاتَ، أفاعتق عَنهُ؟ قَالَ: نعم) . وَعَن ابي جَعْفَر
مُحَمَّد بن عَليّ بن حُسَيْن: (أَن الْحسن وَالْحُسَيْن،
رَضِي الله عَنْهُمَا، كَانَا يعتقان عَن عَليّ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ) . وَفِي (الصَّحِيح) (قَالَ رجل: يَا
رَسُول الله إِن أُمِّي توفيت، أينفعها أَن أَتصدق
عَنْهَا؟ قَالَ: نعم) .
فان قلت: قَالَ الله تَعَالَى {وَأَن لَيْسَ للْإنْسَان
إلاَّ مَا سعى} (النَّجْم: 39) وَهُوَ يدل على عدم وُصُول
ثَوَاب الْقُرْآن للْمَيت؟ قلت: اخْتلف الْعلمَاء فِي
هَذِه الْآيَة على ثَمَانِيَة أَقْوَال: أَحدهمَا:
إِنَّهَا مَنْسُوخَة بقوله تَعَالَى: {وَالَّذين آمنُوا
وَاتَّبَعتهمْ ذُرِّيتهمْ} (الطّور: 21) أَدخل الْآبَاء
الْجنَّة بصلاح الأبناي، قَالَه ابْن عَبَّاس، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا. الثَّانِي: إِنَّهَا خَاصَّة بِقوم
إِبْرَاهِيم ومُوسَى، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَأما هَذِه
الْأمة فَلهم مَا سعوا، وَمَا سعى لَهُم غَيرهم، قَالَه
عِكْرِمَة. الثَّالِث: المُرَاد بالإنسان هَهُنَا
الْكَافِر، قَالَه الرّبيع بن أنس. الرَّابِع: لَيْسَ
للْإنْسَان إلاَّ مَا سعى من طَرِيق الْعدْل، فَأَما من
بَاب الْفضل فَجَائِز أَن يزِيد الله تَعَالَى مَا شَاءَ،
قَالَه الْحُسَيْن بن فضل. الْخَامِس: إِن معنى: مَا سعى:
مَا نوى، قَالَه أَبُو بكر الْوراق. السَّادِس: لَيْسَ
للْكَافِرِ من الْخَيْر إِلَّا مَا عمله فِي الدُّنْيَا
فيثاب عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَا يبْقى لَهُ فِي
الْآخِرَة شَيْء، ذكره الثَّعْلَبِيّ. السَّابِع إِن:
اللَّام، فِي: الْإِنْسَان، بِمَعْنى: على، تَقْدِيره:
لَيْسَ على الْإِنْسَان إلاَّ مَا سعى. الثَّامِن: إِنَّه
لَيْسَ لَهُ إلاَّ سَعْيه، غير أَن الْأَسْبَاب مُخْتَلفَة
فَتَارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل الشَّيْء بِنَفسِهِ،
وَتارَة يكون سَعْيه فِي تَحْصِيل سَببه، مثل سَعْيه فِي
تَحْصِيل قِرَاءَة ولد يترحم عَلَيْهِ، وصديق يسْتَغْفر
لَهُ، وَتارَة يسْعَى فِي خدمَة الدّين وَالْعِبَادَة
فيكتسب محبَّة أهل الدّين، فَيكون ذَلِك سَببا حصل بسعيه،
حَكَاهُ أَبُو الْفرج عَن شَيْخه ابْن الزغواني.
الرَّابِع: فِيهِ وجوب الِاسْتِنْجَاء إِذْ هُوَ المُرَاد
بِعَدَمِ الاستتار من الْبَوْل، فَلَا يَجْعَل بَينه
وَبَينه حِجَابا من مَاء أَو حجر، وَيبعد أَن يكون
المُرَاد: الاستتار عَن الْأَعْين. وَقَالَ ابْن بطال
مَعْنَاهُ: وَلَا يسْتَتر جسده وَلَا ثَوْبه من مماسة
الْبَوْل، وَلما عذب على استخفافه بِغسْلِهِ، وبالتحرز
عَنهُ دلّ على أَن من ترك الْبَوْل فِي مخرجه وَلم يغسلهُ
أَنه حقيق بِالْعَذَابِ. وَقَالَ الْبَغَوِيّ: فِيهِ وجوب
الاستتار عِنْد قَضَاء الْحَاجة عَن أعين النَّاس عِنْد
الْقَضَاء. قلت: هَذَا رد على من قَالَ: وَيبعد أَن يكون
المُرَاد الاستتار عَن الْأَعْين، وَلَكِن كِلَاهُمَا
وَاجِب على مَا لَا يخفى، وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا
الْكَلَام أَن معنى رِوَايَة الاستتار إِذا حمل على
حَقِيقَته يلْزم مِنْهُ أَن يكون سَبَب الْعَذَاب مُجَرّد
كشف الْعَوْرَة، وَفِي الحَدِيث مَا يدل على أَن للبول
خُصُوصِيَّة فِي عَذَاب الْقَبْر يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ
ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أبي هُرَيْرَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: (أَكثر عَذَاب
الْقَبْر من الْبَوْل) ، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تعين أَن
يكون معنى الاستتار على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ،
لتتفق أَلْفَاظ الحَدِيث على معنى وَاحِد وَلَا تخْتَلف،
وَيُؤَيّد ذَلِك رِوَايَة ابي بكرَة عِنْد أَحْمد، وَابْن
مَاجَه: (أما أَحدهمَا فيعذب فِي الْبَوْل) . وَمثله عِنْد
الطَّبَرَانِيّ عَن أنس، وَكلمَة: فِي، للتَّعْلِيل أَي:
يعذب أَحدهمَا بِسَبَب الْبَوْل.
الْخَامِس: فِيهِ حُرْمَة النميمة، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
(3/119)
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا: أَن هَذَا
الحَدِيث رَوَاهُ ابْن عَبَّاس، فعلى تَقْدِير كَون هَذَا
فِي مَكَّة على مَا دلّ عَلَيْهَا السَّنَد، كَيفَ
يتَصَوَّر هَذَا، وَكَانَ ابْن عَبَّاس عِنْد هِجْرَة
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من مَكَّة ابْن
ثَلَاث سِنِين؟ فَكيف ضبط مَا وَقع بِمَكَّة؟ الْجَواب: من
ثَلَاثَة أوجه: الأول: أَنه يحْتَمل وُقُوع هَذِه
الْقَضِيَّة بعد مُرَاجعَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى مَكَّة سنة الْفَتْح، أَو سنة الْحَج.
الثَّانِي: أَنه يحْتَمل أَنه سمع من النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ذَلِك. الثَّالِث: أَنه يكون مَا رَوَاهُ
من مَرَاسِيل الصَّحَابَة، كَذَا قيل. قلت: لَهُ وَجه
رَابِع: وَهُوَ أَن يكون ابْن عَبَّاس سمع ذَلِك من
صَحَابِيّ، فاسقط ذكره من بَينه وَبَين النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، ونظائره كَثِيرَة. وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة
دَاخل فِي الْوَجْه الثَّالِث.
وَمِنْهَا: أَن فِي متن هَذَا الحَدِيث: (ثمَّ دَعَا
بجريدة فَكَسرهَا كسرتين) يَعْنِي: أُتِي بهَا فَكَسرهَا،
وَفِي حَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَوَاهُ
مُسلم
أَنه الَّذِي قطع الغصنين، فَهَل هَذِه قَضِيَّة وَاحِدَة
ام قضيتان؟ الْجَواب: أَنَّهُمَا قضيتان، والمغايرة
بَينهمَا من أوجه. الأول: أَن هَذِه كَانَت فِي
الْمَدِينَة، وَكَانَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم جمَاعَة، وَقَضِيَّة جَابر كَانَت فِي السّفر
وَكَانَ خرج لِحَاجَتِهِ فَتَبِعَهُ جَابر وَحده.
الثَّانِي: أَن فِي هَذِه الْقَضِيَّة أَنه، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، غرس الجريدة بعد أَن شقها
نِصْفَيْنِ، كَمَا فِي رِوَايَة الْأَعْمَش الْآتِيَة فِي
الْبَاب الَّذِي بعده، وَفِي حَدِيث جَابر: أَمر، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام جَابِرا، فَقطع غُصْنَيْنِ من
شجرتين كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استتر بهما
عِنْد قَضَاء حَاجته، ثمَّ أَمر جَابِرا فَألْقى
غُصْنَيْنِ عَن يَمِينه وَعَن يسَاره، حَيْثُ كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا، وَأَن جَابِرا
سَأَلَهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِنِّي مَرَرْت بقبرين
يعذبان، فَأَحْبَبْت بشفاعتي أَن يرفع عَنْهُمَا مَا دَامَ
الغصنان رطبين. الثَّالِث: لم يذكر فِي قصَّة جَابر مَا
كَانَ السَّبَب فِي عذابهما. الرَّابِع: لم يذكر فِيهِ
كلمة: الترحبي، فَدلَّ ذَلِك كُله على أَنَّهُمَا قضيتان
مُخْتَلِفَتَانِ، بل روى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَن أبي
هُرَيْرَة: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مر بِقَبْر
فَوقف عَلَيْهِ فَقَالَ: ائْتُونِي بجريدتين فَجعل
إِحْدَاهمَا عِنْد رَأسه، وَالْأُخْرَى عِنْد رجلَيْهِ)
فَهَذَا بِظَاهِرِهِ يدل على أَن هَذِه قَضِيَّة ثَالِثَة،
فَسقط بِهَذَا كَلَام من ادّعى أَن الْقَضِيَّة وَاحِدَة،
كَمَا مَال إِلَيْهِ النَّوَوِيّ والقرطبي.
وَمِنْهَا: أَن مَا كَانَت الْحِكْمَة فِي عدم بَيَان إسمي
المقبورين وَلَا أَحدهمَا؟ الْجَواب: أَنه يحْتَمل أَنه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يبين ذَلِك قصدا للستر
عَلَيْهِمَا، خوفًا من الافتضاح، وَهُوَ عمل مستحسن، وَلَا
سِيمَا من حَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الَّذِي شَأْنه الرَّحْمَة والرأفة على عباد الله
تَعَالَى، وَيحْتَمل أَن يكون قد بَينه ليحترز غَيره من
مُبَاشرَة مَا بَاشر صَاحب القبرين، وَلَكِن الرَّاوِي
أبهمه عمدا لما ذكرنَا. فان قلت: قد ذكر الْقُرْطُبِيّ عَن
بَعضهم أَن أَحدهمَا كَانَ سعد بن معَاذ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ. قلت: هَذَا قَول فَاسد لَا يلْتَفت
إِلَيْهِ، وَمِمَّا يدل على فَسَاده أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم حضر جنَازَته كَمَا ثَبت فِي الصَّحِيح،
وَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سيداً حَيْثُ
قَالَ لأَصْحَابه: (قومُوا إِلَى سيدكم) . وَقَالَ: إِن
حكمه وَافق حكم الله تَعَالَى، وَقَالَ: إِن عرش
الرَّحْمَن اهتز لمَوْته، وَغير ذَلِك من مناقبه
الْعَظِيمَة، رَضِي الله عَنهُ، وَقد حضر النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم دفن المقبورين، دلّ عَلَيْهِ حَدِيث
أبي أُمَامَة، رَضِي الله عَنهُ، رَوَاهُ أَحْمد، وَلَفظه:
(أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَهُم: من دفنتم
الْيَوْم هَهُنَا) ؟ وَلم ينْقل عَنهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، مَا ذكره الْقُرْطُبِيّ عَن الْبَعْض، فَدلَّ
ذَلِك على بُطْلَانه فِي هَذِه الْقَضِيَّة.
وَمِنْهَا: أَن هذَيْن المقبورين هَل كَانَا مُسلمين أَو
كَافِرين؟ الْجَواب: أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيهِ،
فَقيل: كَانَا كَافِرين، وَبِه جزم أَبُو مُوسَى
الْمَدِينِيّ فِي كِتَابه (التَّرْغِيب والترهيب) وَاحْتج
فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن
أُسَامَة بن زيد عَن أبي الزبير عَن جَابر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (مر نَبِي الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم على قبرين من بني النجار هلكا فِي الجاهيلة، فسمعهما
يعذبان فِي الْبَوْل والنميمة) ، قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن،
وَإِن كَانَ إِسْنَاده لَيْسَ بِالْقَوِيّ لِأَنَّهُمَا
لَو كَانَا مُسلمين لما كَانَ لشفاعته صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لَهما إِلَى أَن ييبسا معنى، وَلكنه لما رآهما
يعذبان لم يستجز من عطفه ولطفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
حرمانهما من ذَلِك، فشفع لَهما إِلَى الْمدَّة
الْمَذْكُورَة، وَلما رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْأَوْسَط) : (مر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
قُبُور نسَاء من بني النجار هلكن فِي الْجَاهِلِيَّة
فسمعهن يعذبن فِي النميمة) . قَالَ: لم يروه عَن أُسَامَة
إلاَّ ابْن لَهِيعَة، وَقيل: كَانَا مُسلمين وَجزم بِهِ
بَعضهم، لِأَنَّهُمَا لَو كَانَا كَافِرين لم يدع،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَهما بتَخْفِيف
الْعَذَاب وَلَا ترجاه لَهما، وَيُقَوِّي هَذَا مَا فِي
بعض طرق حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله عَنهُ تَعَالَى
عَنْهُمَا: (مر بقبرين من قُبُور الْأَنْصَار جديدين) .
فَإِن تعدّدت الطّرق، وَهُوَ الْأَقْرَب لاخْتِلَاف
الْأَلْفَاظ، فَلَا بَأْس. وَإِن لم تَتَعَدَّد فَهُوَ
بِالْمَعْنَى إِذْ بَنو النجار من الْأَنْصَار، وَهُوَ لقب
إسلامي لقبوا بِهِ لنصرهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَلم يعرف بهَا مُسَمّى فِي الْجَاهِلِيَّة، ويقويه
أَيْضا مَا فِي رِوَايَة مُسلم: (فاجبت بشفاعتي) ،
والشفاعة لَا تكون إلاَّ لمُؤْمِن، وَمَا فِي رِوَايَة
أَحْمد الْمَذْكُورَة: (فَقَالَ من دفنتم الْيَوْم
هَهُنَا) ؟ فَهَذَا أَيْضا
(3/120)
يدل على أَنَّهُمَا كَانَا مُسلمين، لِأَن البقيع مَقْبرَة
الْمُسلمين، وَالْخطاب لَهُم. فَإِن قلت: لِمَ لَا يجوز
أَن يَكُونَا كَافِرين، كَمَا ذهب إِلَيْهِ أَبُو مُوسَى،
وَكَانَ دُعَاء النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهما من
خَصَائِصه كَمَا فِي قصَّة أبي طَالب؟ قلت: لَو كَانَ
ذَلِك من خَصَائِصه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لبينه، على
أَنا نقُول: إِن هَذِه الْقَضِيَّة مُتعَدِّدَة كَمَا
ذكرنَا، فَيجوز تعدد حَال المقبورين. فَإِن قلت: ذكر
الْبَوْل والنميمة يُنَافِي ذَلِك، لِأَن الْكَافِر، وَإِن
عذب على أَحْكَام الاسلام، فَإِنَّهُ يعذب مَعَ ذَلِك على
الْكفْر بِلَا خلاف. قلت: لم يبين فِي حَدِيث جَابر
الْمَذْكُور سَبَب الْعَذَاب مَا هُوَ، وَلَا ذكر فِيهِ
الترجي لرفع الْعَذَاب، كَمَا فِي حَدِيث غَيره، وَظهر من
ذَلِك صِحَة مَا ذكرنَا من تعدد الْحَال، ورد بَعضهم
احتجاج ابي مُوسَى بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور: بِأَنَّهُ
ضَعِيف، كَمَا اعْترف بِهِ. وَقد رَوَاهُ أَحْمد
بِإِسْنَاد صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر
سَبَب التعذيب، فَهُوَ من تَخْلِيط ابْن لَهِيعَة. قلت:
هَذَا من تَخْلِيط هَذَا الْقَائِل لِأَن أَبَا مُوسَى لم
يُصَرح بِأَنَّهُ ضَعِيف، بل قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن
وَإِن كَانَ إِسْنَاده لَيْسَ بِقَوي، وَلم يعلم هَذَا
الْقَائِل الْفرق بَين الْحسن والضعيف، لِأَن بَعضهم عد
الْحسن من الصَّحِيح لَا قسيمه، وَلذَلِك يُقَال للْحَدِيث
الْوَاحِد: إِنَّه حسن صَحِيح. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ:
الْحسن مَا لَيْسَ فِي إِسْنَاده من يتهم بِالْكَذِبِ،
وَعبد الله بن لَهِيعَة الْمصْرِيّ لَا يتهم بِالْكَذِبِ،
على أَن طَائِفَة مِنْهُم قد صححوا حَدِيثه ووثقوه،
مِنْهُم: أَحْمد، رَضِي الله عَنهُ.
وَمِنْهَا: أَنه قيل: هَل للجريد معنى يَخُصُّهُ فِي الغرز
على الْقَبْر لتخفيف الْعَذَاب؟ الْجَواب: أَنه لَا
لِمَعْنى يَخُصُّهُ، بل الْمَقْصُود أَن يكون مَا فِيهِ
رُطُوبَة من أَي شجر كَانَ، وَلِهَذَا أنكر الْخطابِيّ
وَمن تبعه وضع الجريد الْيَابِس، وَكَذَلِكَ مَا يَفْعَله
أَكثر النَّاس من وضع مَا فِيهِ رُطُوبَة من الرياحين
والبقول وَنَحْوهمَا على الْقُبُور لَيْسَ بِشَيْء،
وَإِنَّمَا السّنة الغرز
. فَإِن قلت: فِي الحَدِيث الْمَذْكُور: فَوضع على كل قبر
مِنْهُمَا كسرة. قلت: فِي رِوَايَة الْأَعْمَش: (فغرز) ،
فَيَنْبَغِي أَن يغرز، لِأَن الْوَضع يُوجد فِي الغرز
بِخِلَاف الْوَضع فَافْهَم.
وَمِنْهَا أَنه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علل
غرزهما على الْقَبْر بِأَمْر معِين من الْعَذَاب، وَنحن
لَا نعلم ذَلِك مُطلقًا؟ الْجَواب: أَنه لَا يلْزم من
كوننا لَا نعلم أيعذب ام لَا؟ أَن نَتْرُك ذَلِك. أَلاَ
ترى أَنا نَدْعُو للْمَيت بِالرَّحْمَةِ، وَلَا نعلم أَنه
يرحم أم لَا؟ .
وَمِنْهَا: أَنه هَل لأحد أَن يَأْمر بذلك لأحد أم
الشَّرْط أَن يباشره بِيَدِهِ؟ الْجَواب: أَنه لَا يلْزم
ذَلِك، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن بُرَيْدَة بن الْحصيب،
رَضِي الله عَنهُ، أوصى أَن يوضع على قَبره جريدتان، كَمَا
يَأْتِي فِي هَذَا الْكتاب. وَقَالَ بَعضهم: لَيْسَ فِي
السِّيَاق مَا يقطع على أَنه بَاشر الْوَضع بِيَدِهِ
الْكَرِيمَة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل يحْتَمل أَن يكون
أَمر بِهِ. قلت: هَذَا كَلَام واهٍ جدا، وَكَيف يَقُول
ذَلِك وَقد صرح فِي الحَدِيث: (ثمَّ دَعَا بجريدتين
فكسرهما فَوضع على كل قبر مِنْهُمَا كسرة) ؟ . وَهَذَا
صَرِيح فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضعه بيدَيْهِ
الْكَرِيمَة، وَدَعوى احْتِمَال الْأَمر لغيره بِهِ
بعيدَة، وَهَذِه كدعوى احْتِمَال مَجِيء غُلَام زيد فِي
قَوْلك: جَاءَ زيد، وَمثل هَذَا الِاحْتِمَال لَا يعْتد
بِهِ. |