عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 56 - (بابُ مَا جاءَ فِي غَسْلِ البَوْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ من الحَدِيث فِي حكم
غسل الْبَوْل.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن
الْمَذْكُور فِي الْبَاب السَّابِق الْبَوْل الَّذِي كَانَ
سَببا لعذاب صَاحبه فِي قَبره، وَهَذَا الْبَاب فِي بَيَان
غسل ذَلِك الْبَوْل: الْألف وَاللَّام، فِيهِ للْعهد
الْخَارِجِي. وَأَشَارَ بِهِ البُخَارِيّ إِلَى أَن
المُرَاد من الْبَوْل هُوَ: بَوْل النَّاس، لأجل إِضَافَة
الْبَوْل إِلَيْهِ فِي الحَدِيث السَّابِق، لَا جَمِيع
الأبوال على مَا يَأْتِي تَعْلِيقه الدَّال على ذَلِك،
فلأجل هَذَا قَالَ ابْن بطال: لَا حجَّة فِيهِ لمن حمله
على جَمِيع الأبوال، ليحتج بِهِ فِي نَجَاسَة بَوْل سَائِر
الْحَيَوَانَات. وَفِي كَلَامه رد على الْخطابِيّ حَيْثُ
قَالَ: فِيهِ دَلِيل على نَجَاسَة الأبوال كلهَا، وَلَيْسَ
كَذَلِك، بل الأبوال غير أَبْوَال النَّاس على نَوْعَيْنِ:
أَحدهمَا: نَجِسَة مثل بَوْل النَّاس يلْتَحق بِهِ لعدم
الْفَارِق، وَالْآخر: طَاهِرَة عِنْد من يَقُول بطهارتها،
وَلَهُم أَدِلَّة أُخْرَى فِي ذَلِك.
وَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِصاحبِ
القَبْرِ كَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ وَلَمْ
يَذْكُرْ سِوَى بَوْلِ النَّاسِ
هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَإِسْنَاده فِي الْبَاب
السَّابِق، وَقد قُلْنَا: إِنَّه أَرَادَ بِهِ الْإِشَارَة
إِلَى أَن المُرَاد من الْبَوْل الْمَذْكُور هُوَ بَوْل
النَّاس لَا سَائِر الأبوال، فَلذَلِك قَالَ: (وَلم يذكر
سوى بَوْل النَّاس) ، وَهُوَ من كَلَامه، نبه بِهِ على مَا
ذَكرْنَاهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
(3/121)
اللَّام فِي قَوْله: (لصَاحب الْقَبْر)
بِمَعْنى: لأجل، وَقَالَ بَعضهم: أَي، عَن صَاحب الْقَبْر.
قلت: مجىء: اللَّام، بِمَعْنى: عَن، ذكره ابْن الْحَاجِب،
وَاحْتج عَلَيْهِ بقوله تَعَالَى: {وَقَالَ الَّذين كفرُوا
للَّذين آمنُوا لَو كَانَ خيرا مَا سبقُونَا إِلَيْهِ}
(الْأَحْقَاف: 11) وَغَيره لم يقل بِهِ، بل قَالُوا: إِن:
اللَّام، فِيهِ: لَام التَّعْلِيل، فعلى هَذَا الَّذِي
ذكره الْكرْمَانِي هُوَ الأصوب، وَيجوز أَن تكون: اللَّام،
هُنَا بِمَعْنى: عِنْد، كَمَا فِي قَوْلهم: كتبته لخمس
خلون.
217 - حدّثنا يَعْقُوبُ بن إبْراهِيمَ قالَ حدّثنا
إسْماعيلُ بنُ إبْراهِيمَ قالَ حدّثنى رَوْحُ بنُ
الْقاسِمِ قَالَ حدّثنى عَطَاءُ بنُ أبي مَيْمُونَةَ عَنْ
أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ كانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إذَا تَبَرَّزمَ لِحَاجَتِهِ أتَيْتُهُ بِمَاءٍ
بِهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، تقدم فِي بَاب حب الرَّسُول من
الْإِيمَان. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم، هُوَ
ابْن علية، وَلَيْسَ هُوَ أَخا يَعْقُوب، وَقد مر ذكره فِي
الْبَاب الْمَذْكُور. الثَّالِث: روح بن الْقَاسِم
التَّمِيمِي الْعَنْبَري من ثِقَات الْبَصرِيين، ويكنى
بِأبي الْقَاسِم وبأبي غياث، بالغين الْمُعْجَمَة وبالثاء
الْمُثَلَّثَة؛ وروح، بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْوَاو
وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، وَهُوَ الْمَشْهُور. وَنقل ابْن
التِّين: أَنه قرىء، بِضَم الرَّاء، وَلَيْسَ بِصَحِيح.
وَقيل: هُوَ بِالْفَتْح لَا نعلم فِيهِ خلافًا. الرَّابِع:
عَطاء بن أبي مَيْمُونَة الْبَصْرِيّ مولى أنس بن معَاذ،
تقدم فِي بَاب الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ. الْخَامِس: أنس
بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده مِنْهَا: أَن فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع وَصِيغَة الْإِفْرَاد. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ
الْإِخْبَار. وَمِنْهَا: أَن فِيهِ العنعنة. وَمِنْهَا:
أَن رُوَاته مَا بَين بغدادي وبصري.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
هَهُنَا فِي الطَّهَارَة عَن يَعْقُوب كَمَا ذكر، وَفِي
الطَّهَارَة أَيْضا، وَعَن ابي الْوَلِيد وَسليمَان بن
حَرْب، وَعَن بنْدَار عَن غنْدر، وَفِي الصَّلَاة عَن
مُحَمَّد بن حَاتِم عَن بزيغ عَن أسود بن عَامر شَاذان،
أربعتهم عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن
أبي بكر عَن وَكِيع وغندر، وَعَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن
الْمثنى عَن غنْدر، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة بِهِ، وَعَن
زُهَيْر بن حَرْب وَأبي كريب، كِلَاهُمَا عَن إِسْمَاعِيل
بن علية بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى عَن خَالِد بن عبد الله
الوَاسِطِيّ عَن خَالِد، هُوَ الْحذاء عَنهُ بِهِ. وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن وهب بن بَقِيَّة عَن
خَالِد الوَاسِطِيّ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن
شُعْبَة بِهِ.
بَيَان لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (إِذا تبرز) ، على وزن:
تفعل، بتَشْديد الْعين. وتبرز الرجل: إِذا خرج إِلَى
البرَاز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة، للْحَاجة.
وَالْبرَاز إسم للفضاء الْوَاسِع، فكنوا بِهِ عَن قَضَاء
الْغَائِط، كَمَا كنوا عَنهُ بالخلاء، لأَنهم كَانُوا
يتبرزون فِي الْأَمْكِنَة الخالية من النَّاس. قَالَ
الْخطابِيّ: المحدثون يَرْوُونَهُ بِالْكَسْرِ وَهُوَ خطأ،
لِأَنَّهُ بِالْكَسْرِ مصدر من المبارزة فِي الْحَرْب.
وَقَالَ الْجَوْهَرِي بِخِلَافِهِ، وَهَذَا لَفظه: البرَاز
المبارزة فِي الْحَرْب، وَالْبرَاز أَيْضا كِنَايَة عَن
ثقل الْغذَاء وَهُوَ الْغَائِط، ثمَّ قَالَ: وَالْبرَاز،
بِالْفَتْح: الفضاء الْوَاسِع. قَوْله: (لِحَاجَتِهِ) أَي:
لأَجلهَا وَيجوز أَن تكون: اللَّام، بِمَعْنى: عِنْد
قَضَاء حَاجته. قَوْله: (فَيغسل بِهِ) أَي: فَيغسل ذكره
بِالْمَاءِ، وَحذف الْمَفْعُول لظُهُوره، أَو للاستحياء
عَن ذكره، كَمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: مَا
رَأَيْت مِنْهُ وَلَا رأى مني، تعنى: الْعَوْرَة؛ وَيغسل،
بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَكسر السِّين، هَذِه رِوَايَة الْعَامَّة.
وَفِي رِوَايَة ابي ذَر: (فتغسل بِهِ) ، من بَاب: تفعل،
بِالتَّشْدِيدِ. يُقَال: تغسل يتغسل تغسلاً، وَهَذَا
الْبَاب للتكلف وَالتَّشْدِيد فِي الْأَمر، ويروى: (فيغتسل
بِهِ) ، من بَاب: الافتعال، وَهَذَا الْبَاب إِنَّمَا هُوَ
للاعتمال لنَفسِهِ، يُقَال: سوى لنَفسِهِ وَلغيره واستوى
لنَفسِهِ، وَكسب لأَهله ولعياله واكتسب لنَفسِهِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: أَن فِيهِ اسْتِحْبَاب
التباعد من النَّاس لقَضَاء الْحَاجة. الثَّانِي: أَن
فِيهِ الاستتار عَن أعين النَّاس. الثَّالِث: أَن فِيهِ
جَوَاز اسْتِخْدَام الصغار. الرَّابِع: أَن فِيهِ جَوَاز
الِاسْتِنْجَاء بِالْمَاءِ واستحبابه ورجحانه على
الِاقْتِصَار على الْحجر، وَقد اخْتلف النَّاس فِي هَذِه
الْمَسْأَلَة، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور من السّلف
وَالْخلف أَن الْأَفْضَل أَن يجمع بَين المَاء وَالْحجر،
فَإِن اقْتصر، اقْتصر على أَيهمَا شَاءَ، لَكِن المَاء
أفضل لأصالته فِي التنقية. وَقد قيل: ان الْحجر أفضل.
وَقَالَ ابْن حبيب الْمَالِكِي: لَا يجوز الْحجر إلاَّ لمن
عدم المَاء، ويستنبط مِنْهُ حكم آخر وَهُوَ: اسْتِحْبَاب
خدمَة الصَّالِحين وَأهل الْفضل والتبرك بذلك.
(3/122)
(بَاب)
كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَقد ذكرنَا أَنه على
هَذِه الصُّورَة غير مُعرب، بل حكمه حكم تعدد الْأَسْمَاء،
لِأَن الْإِعْرَاب إِنَّمَا يكون بعد العقد والتركيب،
فَإِذا قُلْنَا: هَذَا بَاب، أَو: بَاب فِي حكم كَذَا،
يكون معرباً. وَمن قَالَ: بَاب، بِالتَّنْوِينِ من غير وصل
بِشَيْء فقد غلط.
218 - حدّثنا مُحَمَّدُ بن المُثَنَّى قَالَ حدّثنا
مُحَمَّدُ بنُ خازِمٍ قَالَ حَدثنَا الاْعمَشُ عَنْ
مُجَاهِدٍ عَنْ طاووُسٍ عَنِ ابنِ عبَّاسٍ قَالَ مَرَّ
النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِقَبْرَيْنِ فقالَ
إنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبيرٍ
أمَّا أحَدُهُمَا فكانَ لاَ يَسْتَتِرُ مِنَ البَوْلِ
وَأمَّا الآخَرُ فكانَ يَمْشِي بالنَّمِيمَةِ ثُمَّ أخَذَ
جَرِيدَةً رَطْبَةً فَشَقَّها نِصْفَيْنِ فَغَرَزَ فِي
كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً قَالُوا يَا رسولَ اللَّهِ لِمَ
فَعَلْتَ هَذَا قَالَ لَعلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا
لَمْ يَبْبَسَا..
هَذَا الحَدِيث فِي نفس الْأَمر هُوَ الحَدِيث الَّذِي
ترْجم لَهُ البُخَارِيّ بقوله: (بَاب من الْكَبَائِر أَن
لَا يسْتَتر من بَوْله) ، لِأَن مخرجهما وَاحِد، غير أَن
الِاخْتِلَاف فِي السَّنَد وَبَعض الْمَتْن: لِأَن هُنَاكَ
عَن مُجَاهِد عَن ابْن عَبَّاس، وَهَهُنَا عَن مُجَاهِد
عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، وَقد قُلْنَا هُنَاكَ: إِن
إِخْرَاج البُخَارِيّ بِهَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ صَحِيح
عِنْده، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن مُجَاهدًا سَمعه تَارَة عَن
ابْن عَبَّاس وَتارَة عَن طَاوس عَن ابْن عَبَّاس، فَإِذا
كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَلَا يحْتَاج إِلَى طلب تَرْجَمَة
هَذَا الحَدِيث لهَذَا الْبَاب، على تَقْدِير وجود لَفظه:
بَاب، لِأَن وَجه التَّرْجَمَة ومطابقة الحَدِيث لَهَا قد
ذكر هُنَاكَ، فان قلت: بَينهمَا بَاب آخر، وَهُوَ قَوْله:
(بَاب مَا جَاءَ فِي غسل الْبَوْل) . قلت: هَذَا تَابع للباب
الأول. لِأَنَّهُ فِي بَيَان حكم من أَحْكَامه، وَلَيْسَ
للتابع اسْتِقْلَال فِي شَأْنه، فعلى هَذَا قَول
الْكرْمَانِي: فان قلت: كَيفَ دلَالَته على التَّرْجَمَة؟
قلت: من جِهَة إِثْبَات الْعَذَاب على ترك استتار جسده من
الْبَوْل وَعدم غسله غير سديد مُسْتَغْنى عَنهُ، لِأَنَّهُ
إِن اعْتبر فِيمَا قَالَه لَفظه بَاب مُفردا فَلَيْسَ
فِيهِ تَرْجَمَة، وَإِن لم يعْتَبر ذَلِك فَيكون الحَدِيث
فِي بَاب: مَا جَاءَ فِي غسل الْبَوْل، وَلَيْسَ لَهُ
مُنَاسبَة ظَاهرا، وَالتَّحْقِيق مَا ذكرته. فَافْهَم.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى،
بِضَم الْمِيم وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد
النُّون: الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف بالزَّمِن، تقدم فِي
بَاب حلاوة الايمان. الثَّانِي: مُحَمَّد بن خازم،
بِالْخَاءِ وَالزَّاي المعجمتين: أَبُو مُعَاوِيَة
الضَّرِير، عمي وعمره أَربع سِنِين، وَقد تقدم فِي بَاب
الْمُسلم من سلم الْمُسلمُونَ من يَده. الثَّالِث:
الْأَعْمَش وَهُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان الْكُوفِي
التَّابِعِيّ، تقدم فِي بَاب ظلم دون ظلم. الرَّابِع:
مُجَاهِد بن جبر. الْخَامِس: طَاوس بن كيسَان، تقدم فِي
بَاب من لم ير الْوضُوء إلاَّ من المخرجين. السَّادِس: عبد
الله ابْن عَبَّاس.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
ثَلَاث مَرَّات. وَفِيه: العنعنة ثَلَاث مَرَّات. وَفِيه:
أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومكي ويماني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
هَهُنَا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي مَوَاضِع أخر
ذَكرنَاهَا فِي بَاب: من الْكَبَائِر ان لَا يسْتَتر من
بَوْله. وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة أَيْضا، ذَكرنَاهَا
هُنَاكَ.
وَأما ذكر لغته وَإِعْرَابه واستنباط الْأَحْكَام مِنْهُ
فقد مرت مستوفاة.
وَقَوله: (فغرز) ، وَفِي رِوَايَة وَكِيع فِي الْأَدَب:
(فغرس) ، وهما بِمَعْنى وَاحِد، وَبَين الزَّاي وَالسِّين
تناوب؛ وَكَانَ غرزه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
عِنْد رَأس الْقَبْر، قَالَه سعد الدّين الْحَارِثِيّ،
وَقَالَ: إِنَّه ثَبت بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ بَعضهم:
كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي
رَوَاهُ ابْن حبَان فِي صَحِيحه، وَقد ذَكرْنَاهُ. قلت:
فِيهِ: (فَجعل إِحْدَاهمَا عِنْد رَأسه وَالْأُخْرَى عِنْد
رجلَيْهِ) . قَوْله: (لم فعلت هَذَا) ، وَلَيْسَ لَفظه:
هَذَا، فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والسرخسي.
قَالَ ابْن المُثَنَّى وحدّثنا وَكيعٌ قَالَ حَدثنَا
الاْعمشُ قَالَ سَمِعْتُ مُجاهِداً مِثْلَهُ
أَي: قَالَ مُحَمَّد بن الْمثنى وَحدثنَا وَكِيع بن
الْجراح، وَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله: (حَدثنَا مُحَمَّد
بن خازم) ، وَوَقع للأصيلي هَكَذَا: بواو الْعَطف،
وَلذَلِك ظن بَعضهم أَنه مُعَلّق، وَقد وَصله أَبُو نعيم
فِي (الْمُسْتَخْرج) من طَرِيق مُحَمَّد بن الْمثنى هَذَا
عَن وَكِيع وَمُحَمّد بن خازم عَن الْأَعْمَش، والنكتة فِي
هَذَا الْإِسْنَاد الَّذِي أفرده التقوية للإسناد الأول،
وَلِهَذَا صرح بِلَفْظ: سَمِعت لِأَن
(3/123)
الْأَعْمَش مُدَلّس، وعنعنة المدلس لَا
تعْتَبر إلاَّ إِذا علم سَمَاعه، فَأَرَادَ التَّصْرِيح
بِالسَّمَاعِ، إِذْ الْإِسْنَاد الأول مُعَنْعَن. فَإِن
قلت: قَالَ فِي الأول حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى،
وَقَالَ هَهُنَا: قَالَ ابْن الْمثنى، هَل بَينهمَا فرق؟
قلت: بلَى أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن قَالَ: أحط دَرَجَة من
حدث كَمَا يَقُول فِي بعض الْمَوَاضِع فِي إِسْنَاد
وَاحِد: حَدثنِي، بِالْإِفْرَادِ و: حَدثنَا، بِالْجمعِ.
فان قلت: مُجَاهِد فِي هَذِه الطَّرِيقَة يروي عَن طَاوُوس
أَو عَن ابْن عَبَّاس؟ قلت: الظَّاهِر أَنه يروي عَن
طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس، لِأَنَّهُ قَالَ مثله وَمثل
الشَّيْء غَيره.
57 - (بابُ تَرْكِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَالناس الاَعْرابيَّ حَتَّى فَرَغَ مِنْ بَوْلِه فِي
المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ترك النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَالنَّاس الْأَعرَابِي الَّذِي قدم
الْمَدِينَة وَدخل مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وبال فِيهِ، فَلم يتَعَرَّض إِلَيْهِ أحد بِإِشَارَة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى فرغ من بَوْله،
كَمَا يَأْتِي كل ذَلِك مُفَسرًا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
فَقَوله: (وَالنَّاس) ، بِالْجَرِّ عطف على لفظ: النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَنَّهُ مجرور بِالْإِضَافَة،
وَالتَّقْدِير: وتكر الناسِ، وَيجوز: النَّاس، بِالرَّفْع
عطفا على الْمحل، لِأَن لفظ التّرْك مصدر مُضَاف إِلَى
فَاعله، والأعرابي نِسْبَة إِلَى الْأَعْرَاب لِأَنَّهُ
لَا وَاحِد لَهُم، وهم سكان الْبَادِيَة، والعربي نِسْبَة
إِلَى الْعَرَب، وهم أهل الْأَمْصَار وَلَيْسَ الْأَعْرَاب
جمعا للْعَرَب، وَقد ذكرنَا الْكَلَام فِيهِ مستقصىً
فِيمَا تقدم، وَالْألف وَاللَّام فِي: الْأَعرَابِي،
وَفِي: الْمَسْجِد، للْعهد الذهْنِي، وَعَن قريب يَأْتِي
مَن الْأَعرَابِي مَعَ الْخلال فِيهِ.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب، وَالْبَاب الَّذِي
قبله هُوَ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على أَن حكم الْبَوْل
إِزَالَته، فَذكر فِي الْبَاب السَّابِق الْغسْل، وَفِي
هَذَا الْبَاب صب المَاء عَلَيْهِ، وَحكمه حكم الْغسْل.
219 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعيلَ قَالَ حَدثنَا هَمَّامٌ
قَالَ أخبرنَا إسْحاقُ عنْ أنَسِ بن مالِكٍ أنَّ النبيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَأى أعْرَابِيًّا يَبُولُ فِي
المَسْجِدِ فَقَالَ دَعُوهُ حَى إِذا فَرَغَ دَعا بِمَاءٍ
فَصَبَّهُ عَلَيْهِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل التَّبُوذَكِي الْبَصْرِيّ، مر فِي كتاب
الْوَحْي. الثَّانِي: همام بن يحيى بن دِينَار العوذي،
بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وبالذال
الْمُعْجَمَة: كَانَ ثِقَة ثبتاً فِي كل الْمَشَايِخ،
مَاتَ سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة. الثَّالِث:
إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة بن سهل
الْأنْصَارِيّ، تقدم فِي بَاب من قعد حَيْثُ يَنْتَهِي
بِهِ الْمجْلس. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاث مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
هَهُنَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الطَّهَارَة عَن
زُهَيْر بن حَرْب عَن عَمْرو بن يُونُس عَن عِكْرِمَة بن
عمار الْيَمَانِيّ عَن إِسْحَاق عَن أنس. وَأخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا عَن يحيى بن سعيد، قَالَ: سَمِعت أنسا
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَمَا سَيَأْتِي عَن قريب.
وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي مُوسَى عَن يحيى بن
الْقطَّان، وَعَن يحيى بن يحيى وقتيبة، وَكِلَاهُمَا عَن
عبد الْعَزِيز بن عمر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ أَيْضا عَن
سعيد ابْن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة، وَفَاتَ الْمزي هَذَا فِي الْأَطْرَاف. وَأخرجه
النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر وَعَن قُتَيْبَة. وَأخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا عَن ابي هُرَيْرَة فِي الطَّهَارَة
هَهُنَا، كَمَا يَأْتِي عَن قريب. وَأخرجه أَيْضا فِي
الْأَدَب عَن ابي الْيَمَان عَن شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ
عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن
دُحَيْم عَن عَمْرو بن عبد الْوَاحِد عَن الْأَوْزَاعِيّ
عَن الزُّهْرِيّ بِهِ نَحوه. وَأخرجه أَبُو دَاوُد من
حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن
أَعْرَابِيًا دخل الْمَسْجِد وَرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم جَالس، فصلى رَكْعَتَيْنِ ثمَّ قَالَ:
اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمداً، وَلَا ترحم مَعنا أحدا.
فَقَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لقد
تحجرت وَاسِعًا، ثمَّ لم يلبث أَن بَال فِي نَاحيَة
الْمَسْجِد، فأسرع النَّاس إِلَيْهِ فنهاهم النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَ: إِنَّمَا بعثتم ميسرين وَلم
تبعثوا معسرين، صبوا عَلَيْهِ سجلاً من مَاء، أَو قَالَ؛
ذنوباً من مَاء) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي آخر
الطَّهَارَة، وَالنَّسَائِيّ أَيْضا فِي الطَّهَارَة، وَلم
يذكر قصَّة الْبَوْل. وَأخرجه ابْن مَاجَه من حَدِيث ابي
سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن عَن أبي هُرَيْرَة، وَمن حَدِيث
عَليّ ابْن مسْهر عَن مُحَمَّد بن عَمْرو عَن أبي سَلمَة
عَن أبي هُرَيْرَة: (دخل أَعْرَابِي الْمَسْجِد وَرَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جَالس، فَقَالَ: اللَّهُمَّ
(3/124)
اغْفِر لي ولمحمد) الحَدِيث. وَأخرج أَبُو
دَاوُد هَذِه الْقِصَّة أَيْضا من حَدِيث عبد الله بن معقل
بن المقرن قَالَ: (صلى أَعْرَابِي مَعَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِيهِ: وَقَالَ، يَعْنِي النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خُذُوا مَا بَال عَلَيْهِ من
التُّرَاب فألقوه وأهريقوا على مَكَانَهُ مَاء) . ثمَّ
قَالَ ابو دَاوُد: وَهُوَ مُرْسل ابْن معقل لم يدْرك
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ الْخطابِيّ:
هَذَا الحَدِيث ذكره أَبُو دَاوُد وَضَعفه، وَقَالَ:
مُرْسل. قلت: لم يقل أَبُو دَاوُد: هَذَا ضَعِيف،
وَإِنَّمَا قَالَ: مُرْسل، وَهُوَ مُرْسل من طَرِيقين:
أَحدهمَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالْآخر مَا رَوَاهُ
عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) وَقد رُوِيَ هَذَا الحَدِيث
من طَرِيقين مسندين أَيْضا: أَحدهمَا: عَن سمْعَان بن
مَالك عَن أبي وَائِل عَن عبد الله، قَالَ: (جَاءَ
أَعْرَابِي فَبَال فِي الْمَسْجِد، فَأمر النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، بمكانه فاحتفر وصب عَلَيْهِ دلو من
مَاء) ، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) . .
وَالثَّانِي: أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا، عَن عبد
الْجَبَّار بن الْعَلَاء عَن ابْن عُيَيْنَة عَن يحيى بن
سعيد عَن أنس: (أَن أَعْرَابِيًا بَال فِي الْمَسْجِد،
فَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: احفروا
مَكَانَهُ ثمَّ صبوا عَلَيْهِ ذنوباً من مَاء) .
بَيَان لغته قَوْله: (فَصَبَّهُ) الصب: السكب، يُقَال:
صببت المَاء فانصب أَي سكبته فانسكب وَالْمَاء ينصب من
الْجَبَل أَي يتخذر وَيُقَال ماصب وَهُوَ كَقَوْلِك مَا
سكب ويروى فصب، بِدُونِ الضَّمِير الْمَفْعُول، وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ، على مَا يَأْتِي: (فَلَمَّا قضى
بَوْله أمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذنوب من
مَاء فأهريق عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَأمر
رجلا من الْقَوْم فجَاء بِدَلْو فسنه عَلَيْهِ) ،
بِالسِّين الْمُهْملَة، ويروى بِالْمُعْجَمَةِ وَهُوَ
رِوَايَة الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَالْفرق بَينهمَا أَن:
السِّين، بِالْمُهْمَلَةِ: الصب الْمُتَّصِل، وبالمعجمة:
الصب الْمُنْقَطع. قَالَه ابْن الاثير: والذنُوب، بِفَتْح
الذَّال الْمُعْجَمَة: الدَّلْو الْعَظِيمَة، وَقيل: لَا
يُسمى ذنوباً إلاَّ إِذا كَانَ فِيهَا مَاء. قَوْله:
(اهريقوا) أَصله: (أريقوا) من الإراقة، فالهاء زَائِدَة،
ويروى: (هريقوا) ، فَتكون الْهَاء بَدَلا من الْهمزَة.
بَيَان إعرابه قَوْله: (رأى) بِمَعْنى: أبْصر، و
(أَعْرَابِيًا) مَفْعُوله، وَقَوله: (يَبُول) جملَة فِي
مَحل النصب على أَنَّهَا صفة: لأعرابياً، وَالتَّقْدِير:
أبْصر أَعْرَابِيًا بائلاً. وَقَالَ الْكرْمَانِي؛ و:
يَبُول، إِمَّا صفة وَإِمَّا حَال. قلت: لَا يَقع الْحَال
عَن النكرَة إلاَّ إِذا كَانَ مقدما على ذِي الْحَال،
كَمَا عرف فِي مَوْضِعه.
بَيَان مَعْنَاهُ قَوْله: (دَعوه) اي: اتركوه، وَهُوَ أَمر
بِصِيغَة الْجمع من: يدع، تَقول: دع دَعَا دعوا بِضَم
الْعين، وَالْعرب أماتت ماضيه إلاَّ مَا جَاءَ فِي
قِرَاءَة شَاذَّة فِي قَوْله تَعَالَى {مَا وَدعك رَبك}
(الضُّحَى: 3) بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لَا
تزرموه وَدعوهُ) ، وَهُوَ بِتَقْدِيم الزَّاي على الرَّاء
الْمُهْملَة، يَعْنِي: لَا تقطعوا عَلَيْهِ بَوْله.
يُقَال: أزرم الدمع وَالدَّم: انقطعا، وأزرمته أَنا؛
وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الْأَعرَابِي،
وَعَن عبد الله بن نَافِع الْمدنِي أَن هَذَا الْأَعرَابِي
كَانَ: الْأَقْرَع بن حَابِس، حَكَاهُ أَبُو بكر التاريخي.
وَأخرج أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيّ هَذَا الحَدِيث فِي
الصَّحَابَة من طَرِيق مُحَمَّد بن عَمْرو بن عَطاء عَن
سُلَيْمَان بن يسَار، قَالَ: اطلع ذُو الْخوَيْصِرَة
الْيَمَانِيّ، وَكَانَ رجلا جَافيا، فَذكر الحَدِيث تَاما
بِمَعْنَاهُ وَزِيَادَة، وَلكنه مُرْسل، وَفِي إِسْنَاده
أَيْضا مُبْهَم، وَلَكِن فهم مِنْهُ أَن الْأَعرَابِي
الْمَذْكُور هُوَ: ذُو الْخوَيْصِرَة الْيَمَانِيّ، وَلَا
يبعد ذَلِك مِنْهُ بجلافته وَقلة أدبه. قَوْله: (حَتَّى
إِذا فرغ من كَلَام أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ) اي:
حَتَّى إِذا فرغ من بَوْله، وَكلمَة: حَتَّى، للغاية،
وَالْمعْنَى: فَتَرَكُوهُ إِلَى أَن فرغ من بَوْله.
قَوْله: (دُعَاء بِمَاء) أَي: دَعَا النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَي: طلب مَاء. وَفِي رِوَايَة أُخْرَى
للْبُخَارِيّ، الْآتِيَة عَن قريب: (فَلَمَّا قضى بَوْله
أَمر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذنوب من مَاء
فهريق عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (فَأمر رجلا من
الْقَوْم فجَاء بِدَلْو فسنه عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ: (فَلَمَّا فرغ دَعَا بِدَلْو فصب عَلَيْهِ)
. وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (دَعَا بِدَلْو مَاء فصب
عَلَيْهِ) . وَفِي رِوَايَة لَهُ: (ثمَّ أَمر بسجل من مَاء
فأفرغ على بَوْله) . وَفِي رِوَايَة ابْن صاعد، عَن عبد
الْجَبَّار بن الْعَلَاء عَن ابْن عُيَيْنَة عَن يحيى بن
سعيد عَن أنس، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (أحفروا مَكَانَهُ ثمَّ صبوا عَلَيْهِ ذنوبا من
مَاء) . وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد عَن عبد الله بن معقل
بن مقرن: (خُذُوا مَا بَال عَلَيْهِ من التُّرَاب فالقوه
وأهريقوا على مَكَانَهُ مَاء) .
بَيَان استنباط الاحكام من هَذَا الحَدِيث، من جَمِيع
أَلْفَاظه وَالرِّوَايَات الْمُخْتَلفَة فِيهِ، وَهُوَ على
وُجُوه. الأول: استنبط الشَّافِعِي مِنْهُ على أَن الأَرْض
إِذا أصابتها نَجَاسَة وصب عَلَيْهَا المَاء تطهر. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَلَا يشْتَرط حفرهَا. وَقَالَ الرَّافِعِيّ:
إِذا أَصَابَت الأَرْض نَجَاسَة فصب عَلَيْهَا من المَاء
مَا يغمرها، وتستهلك فِيهَا النَّجَاسَة طهرت بعد نضوب
المَاء وَقَبله، فِيهِ وَجْهَان: إِن قُلْنَا: إِن الغسالة
طَاهِرَة وَالْعصر لَا يجب فَنعم، وَإِن قُلْنَا: إِنَّهَا
نَجِسَة وَالْعصر وَاجِب فَلَا، وعَلى هَذَا فَلَا
يتَوَقَّف
(3/125)
الحكم بِالطَّهَارَةِ على الْجَفَاف، بل
يَكْفِي أَن يفاض المَاء كَالثَّوْبِ المعصر فَلَا يشْتَرط
فِيهِ الْجَفَاف والتصوب كالعصر، وَفِيه وَجه: أَن يكون
المَاء المصبوب سَبْعَة أَضْعَاف الْبَوْل، وَوجه آخر: يجب
أَن يصب على بَوْل الْوَاحِد ذنُوب، وعَلى بَوْل
الْإِثْنَيْنِ ذنوبان، وعَلى هَذَا أبدا. انْتهى. وَقَالَ
أَصْحَابنَا: إِذا أَصَابَت الأَرْض نَجَاسَة رطبَة. فَإِن
كَانَت الأَرْض رخوة صب عَلَيْهَا المَاء حَتَّى يتسفل
فِيهَا، وَإِذا لم يبْق على وَجههَا شَيْء من النَّجَاسَة،
وتسفل المَاء، يحكم بطهارتها، وَلَا يعْتَبر فِيهِ
الْعدَد، وَإِنَّمَا هُوَ على اجْتِهَاده. وَمَا هُوَ فِي
غَالب ظَنّه أَنَّهَا طهرت، وَيقوم التسفل فِي الأَرْض
مقَام الْعَصْر فِيمَا لَا يحْتَمل الْعَصْر، وعَلى قِيَاس
ظَاهر الرِّوَايَة يصب عَلَيْهِ المَاء ثَلَاث مَرَّات،
ويتسفل فِي كل مرّة، وَإِن كَانَت الأَرْض صلبة، فَإِن
كَانَت صعُودًا يحْفر فِي أَسْفَلهَا حفيرة وَيصب المَاء
عَلَيْهَا ثَلَاث مَرَّات، ويتسفل إِلَى الحفيرة، ثمَّ
تكبس الحفيرة. وَإِن كَانَت مستوية بِحَيْثُ لَا يَزُول
عَنْهَا المَاء لَا يغسل لعدم الْفَائِدَة فِي الْغسْل، بل
تحفر، وَعَن أبي حنيفَة: لَا تطهر الأَرْض حَتَّى تحفر
إِلَى الْموضع الَّذِي وصلت إِلَيْهِ النداوة وينقل
التُّرَاب، وَدَلِيلنَا على الْحفر الحديثان اللذآن
أخرجهُمَا الدَّارَقُطْنِيّ: أَحدهمَا: عَن عبد الله،
وَالْآخر: عَن أنس. وَقد ذكرناهما عَن قريب. وَقد ذكرنَا
أَيْضا مَا قَالَه الْخطابِيّ، وَذكرنَا جَوَابه أَيْضا.
وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن ابْن عُيَيْنَة عَن
عَمْرو ابْن دِينَار عَن طَاوس قَالَ: (بَال أَعْرَابِي
فِي الْمَسْجِد، فأرادوا أَن يضربوه فَقَالَ النَّبِي، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: أحفروا مَكَانَهُ واطرحوا عَلَيْهِ
دلواً من مَاء، علِّموا ويسِّروا وَلَا تعسِّروا) .
وَالْقِيَاس أَيْضا يَقْتَضِي هَذَا الحكم، لِأَن الغسالة
نَجِسَة فَلَا يطهر الأَرْض مَا لم تحفر وينقل التُّرَاب.
فَإِن قلت: قد تركْتُم الحَدِيث الصَّحِيح، واستدللتم
بِالْحَدِيثِ الضَّعِيف وبالمرسل. قلت: قد عَملنَا
بِالصَّحِيحِ فِيمَا إِذا كَانَت الأَرْض صلبة، وعملنا
بالضعيف على زعمكم لَا على زَعمنَا فِيمَا إِذا كَانَت
الأَرْض رخوة، وَالْعَمَل بِالْكُلِّ أولى من الْعَمَل
بالبغض وإهمال الْبَعْض. وَأما الْمُرْسل فَهُوَ مَعْمُول
بِهِ عندنَا، وَالَّذِي يتْرك الْعَمَل بالمرسلات يتْرك
الْعَمَل باكثر الاحاديث وَفِي اصْطِلَاح الْمُحدثين ان
مرسلين صَحِيحَيْنِ اذا عارضا حَدِيثا صَحِيحا مُسْندًا
كَانَ الْعَمَل بِالْمُرْسَلين أولى، فَكيف مَعَ عدم
الْمُعَارضَة؟
الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ بعض الشَّافِعِيَّة على أَن
المَاء مُتَعَيّن فِي إِزَالَة النَّجَاسَة، وَمنعُوا
غَيره من الْمَائِعَات المزيلة، وَهَذَا اسْتِدْلَال
فَاسد، لِأَن ذكر المَاء هُنَا لَا يدل على نفي غَيره،
لِأَن الْوَاجِب هُوَ الْإِزَالَة، وَالْمَاء مزيل بطبعه،
فيقاس عَلَيْهِ كل مَا كَانَ مزيلاً لوُجُود الْجَامِع،
على أَن هَذَا الِاسْتِدْلَال يشبه مَفْهُوم مُخَالفَة
وَهُوَ لَيْسَ بِحجَّة.
الثَّالِث: استدلت بِهِ جمَاعَة من الشَّافِعِيَّة
وَغَيرهم أَن غسالة النَّجَاسَة الْوَاقِعَة على الأَرْض
طَاهِرَة، وَذَلِكَ لِأَن المَاء المصبوب لَا بُد أَن
يتدافع عِنْد وُقُوعه على الأَرْض ويصل إِلَى مَحل لم
يصبهُ الْبَوْل مِمَّا يجاوره، فلولا أَن الغسالة طَاهِرَة
لَكَانَ الصب ناشراً للنَّجَاسَة، وَذَلِكَ خلاف مَقْصُود
التَّطْهِير، وَسَوَاء كَانَت النَّجَاسَة على الأَرْض أَو
غَيرهَا، لَكِن الْحَنَابِلَة فرقوا بَين الأَرْض
وَغَيرهَا، وَيُقَال: إِنَّه رِوَايَة وَاحِدَة عِنْد
الشَّافِعِيَّة. إِن كَانَت على الأَرْض، وَإِن كَانَت
غَيرهَا فَوَجْهَانِ. قلت: رُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا
بعد صب المَاء عَلَيْهَا لَا تطهر حَتَّى تدلك وتنشف بصوف
أَو خرقَة، وَفعل ذَلِك ثَلَاث مَرَّات، وَإِن لم يفعل
ذَلِك لَكِن صب عَلَيْهَا مَاء كثيرا حَتَّى عرف أَنه
أَزَال النَّجَاسَة، وَلم يُوجد فِيهِ لون وَلَا ريح، ثمَّ
ترك حَتَّى نشفت كَانَت طَاهِرَة.
الرَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ بعض الشَّافِعِيَّة أَن الْعَصْر
فِي الثَّوْب المغسول من النَّجَاسَة لَا يجب، وَهَذَا
اسْتِدْلَال فَاسد وَقِيَاس بالفارق، لِأَن الثَّوْب ينعصر
بالعصر بِخِلَاف الأَرْض.
الْخَامِس: اسْتدلَّ بِهِ الْبَعْض أَن الأَرْض إِذا
اصابتها نَجَاسَة فجفت بالشمس أَو بالهواء لَا تطهر، وَهِي
محكي عَن أبي قلَابَة أَيْضا، وَهَذَا أَيْضا فَاسد، لِأَن
ذكر المَاء فِي الحَدِيث لوُجُوب الْمُبَادرَة إِلَى
تَطْهِير الْمَسْجِد وَتَركه إِلَى الْجَفَاف تَأْخِير
لهَذَا الْوَاجِب، وَإِذا تردد الْحَال بَين الْأَمريْنِ
لَا يكون دَلِيلا على أَحدهمَا بِعَيْنِه.
السَّادِس: فِيهِ دَلِيل على وجوب صِيَانة الْمَسَاجِد
وتنزيهها عَن الأقذار والنجاسات، أَلاَ ترى إِلَى تَمام
الحَدِيث فِي رِوَايَة مُسلم: (ثمَّ إِن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم دَعَاهُ) أَي: الْأَعرَابِي، (فَقَالَ
لَهُ: إِن هَذِه الْمَسَاجِد لَا تصلح لشَيْء من هَذَا
الْبَوْل، وَلَا القذر، وَإِنَّمَا هِيَ لذكر الله
وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن) ؟
السَّابِع: فِيهِ دَلِيل على أَن الْمَسَاجِد لَا يجوز
فِيهَا إلاَّ ذكر الله وَالصَّلَاة وَقِرَاءَة الْقُرْآن
بقوله: (وَإِنَّمَا هِيَ لذكر الله) ، من قصر الْمَوْصُوف
على الصّفة، وَلَفظ الذّكر عَام يتَنَاوَل قِرَاءَة
الْقُرْآن وَقِرَاءَة الْعلم، وَوعظ النَّاس وَالصَّلَاة
أَيْضا عَام، فَيتَنَاوَل الْمَكْتُوبَة والنافلة، وَلَكِن
النَّافِلَة فِي الْمنزل أفضل، ثمَّ غير هَذِه
الْأَشْيَاء: ككلام الدُّنْيَا والضحك واللبث فِيهِ
بِغَيْر نِيَّة الِاعْتِكَاف مشتغلاً بِأَمْر من أُمُور
الدُّنْيَا يَنْبَغِي أَن لَا يُبَاح، وَهُوَ قَول بعض
الشَّافِعِيَّة، وَالصَّحِيح أَن الْجُلُوس فِيهِ لعبادة
أَو قِرَاءَة علم أَو درس أَو سَماع موعظة أَو انْتِظَار
صَلَاة أَو نَحْو ذَلِك مُسْتَحبّ، ويثاب على ذَلِك، وَإِن
لم يكن
(3/126)
لشَيْء من ذَلِك كَانَ مُبَاحا، وَتَركه
أولى. واما النّوم فِيهِ فقد نَص الشَّافِعِي فِي (الْأُم)
أَنه يجوز، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: رخص فِي النّوم فِي
الْمَسْجِد ابْن المسيت وَالْحسن وَعَطَاء وَالشَّافِعِيّ،
وَقَالَ ابْن عَبَّاس: لَا تتخذوه مرقداً. وَرُوِيَ عَنهُ
أَنه قَالَ: إِن كَانَ ينَام فِيهِ لصَلَاة فَلَا بَأْس.
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: يكره النّوم فِي الْمَسْجِد.
وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس بذلك للغرباء، وَلَا أرى ذَلِك
للحاضر. وَقَالَ احْمَد: إِن كَانَ مُسَافِرًا أَو شبهه
فَلَا بَأْس، وَإِن اتَّخذهُ مقيلاً أَو مبيتاً فَلَا،
وَهُوَ قَول إِسْحَاق. وَقَالَ الْيَعْمرِي، وَحجَّة من
أجَاز نوم عَليّ بن أبي طَالب وَابْن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، وَأهل الصّفة، وَالْمَرْأَة صَاحِبَة
الوشاح، والعرنية، وثمامة بن أَثَال، وَصَفوَان بن
أُميَّة، وَهِي أَخْبَار صِحَاح مَشْهُورَة. واما الْوضُوء
فِيهِ فَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أَبَاحَ كل من يحفظ عَنهُ
الْعلم الْوضُوء فِي الْمَسْجِد إلاَّ أَن يتَوَضَّأ فِي
مَكَان يبله ويتأذى النَّاس بِهِ، فَإِنَّهُ مَكْرُوه.
وَقَالَ ابْن بطال: هَذَا مَنْقُول عَن ابْن عمر وَابْن
عَبَّاس وَعَطَاء وطاووس وَالنَّخَعِيّ وَابْن الْقَاسِم
صَاحب مَالك، وَذكر عَن ابْن سِيرِين وَسَحْنُون
أَنَّهُمَا كرهاه تَنْزِيها لِلْمَسْجِدِ، وَقَالَ بعض
أَصْحَابنَا: إِن كَانَ فِيهِ مَوضِع معد للْوُضُوء فَلَا
بَأْس، وإلاَّ فَلَا. وَفِي شرح التِّرْمِذِيّ لليعمري:
إِذا اقتصد فِي الْمَسْجِد، فان كَانَ فِي غير الْإِنَاء
فَحَرَام، وَإِن كَانَ فِي الْإِنَاء فمكروه، وَإِن بَال
فِي الْمَسْجِد فِي إِنَاء فَوَجْهَانِ أصَحهمَا أَنه
حرَام، وَالثَّانِي أَنه مَكْرُوه. وَيجوز الاستلقاء فِي
الْمَسْجِد، وَمد الرجل، وتشبيك الْأَصَابِع للأحاديث
الثَّابِتَة فِي ذَلِك.
الثَّامِن: فِيهِ الْمُبَادرَة لِلْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ
وَالنَّهْي عَن الْمُنكر.
التَّاسِع: فِيهِ مبادرة الصَّحَابَة إِلَى الْإِنْكَار
بِحَضْرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير
مُرَاجعَة لَهُ. فَإِن قلت: أَلَيْسَ هَذَا من بَاب
التَّقَدُّم بَين يَدي الله تَعَالَى وَرَسُوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم؟ قلت: لَا، لِأَن ذَلِك مُقَرر عِنْدهم فِي
الشَّرْع من مُقْتَضى الْإِنْكَار، فَأمر الشَّارِع
مُتَقَدم على مَا وَقع مِنْهُم فِي ذَلِك، وَإِن لم يكن
فِي هَذِه الْوَاقِعَة الْخَاصَّة إِذن فَدلَّ على أَنه
لَا يشْتَرط الْإِذْن الْخَاص، ويكتفي بِالْإِذْنِ
الْعَام.
الْعَاشِر: فِيهِ دفع أعظم المفسدتين بِاحْتِمَال أيسرهما،
وَتَحْصِيل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما، فَإِن الْبَوْل
فِيهِ مفْسدَة، وقطعه على البائل مفْسدَة أعظم مِنْهَا،
فَدفع أعظمها بأيسر المفسدتين، وتنزيه الْمَسْجِد عَنهُ
مصلحَة وَترك البائل إِلَى الْفَرَاغ مصلحَة أعظم مِنْهَا،
فَحصل أعظم المصلحتين بترك أيسرهما.
الْحَادِي عشر: فِيهِ مُرَاعَاة التَّيْسِير على الْجَاهِل
والتألف للقلوب.
الثَّانِي عشر: فِيهِ الْمُبَادرَة إِلَى إِزَالَة
الْمَفَاسِد عِنْد زَوَال الْمَانِع، لَان الْأَعرَابِي
حِين فرغ أَمر بصب المَاء.
الثَّالِث عشر: فِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (أهريقوا
عَلَيْهِ سجلاً من مَاء، أَو دلواً من مَاء) اعْتِبَار
الْأَدَاء بِاللَّفْظِ، وَإِن كَانَ الْجُمْهُور على عدم
اشْتِرَاطه، وَأَن الْمَعْنى كافٍ، وَيحمل: أَو، هَهُنَا
على الشَّك، وَلَا معنى للتنويع وَلَا للتَّخْيِير وَلَا
للْعَطْف، فَلَو كَانَ الرَّاوِي يرى جَوَاز الرِّوَايَة
بِالْمَعْنَى لاقتصر على أَحدهمَا، فَلَمَّا تردد فِي
التَّفْرِقَة بَين الدَّلْو والسجل، وهما بِمَعْنى، علم
أَن ذَلِك التَّرَدُّد لموافقة اللَّفْظ، قَالَه الْحَافِظ
الْقشيرِي، وَلقَائِل أَن يَقُول: إِنَّمَا يتم هَذَا أَن
لَو اتَّحد الْمَعْنى فِي السّجل والدلو لُغَة، لكنه غير
مُتحد، فالسجل: الدَّلْو الضخمة المملوءة، وَلَا يُقَال
لَهَا فارغة: سجل.
58 - (بابُ صَبِّ المَاءِ عَلَى البَوْلِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صب المَاء على بَوْل
البائل فِي مَسْجِد من مَسَاجِد الله تَعَالَى، وَإِذا
جعلنَا: الْألف وَاللَّام، فِيهِ للْعهد يكون الْمَعْنى
فِي: مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَيكون
حِكَايَة عَن ذَلِك، وعَلى الأول الحكم عَام سَوَاء كَانَ
فِي مَسْجِد النَّبِي اَوْ غَيره.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لَا تخفى، وَلَيْسَ
لذكر الْبَاب زِيَادَة فَائِدَة، وبدونه يحصل الْمَقْصُود.
220 - حدّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخْبرنا شُعَيْبٌ عنِ
الزُّهْريِّ قَالَ أخْبرني عُبَيْدُ اللَّهِ بنُ عَبْدِ
اللَّهِ بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ أنَّ أبَا هُريْرَةَ
قَالَ قامَ أعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي المَسْجدِ
فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ فَقَالَ لَهُمُ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِه سَجْلاً
مِنْ ماءٍ أَو ذَنُوباً مِنْ ماءٍ فانَّمَا بُعِثْتُمْ
مُيَسِّرينَ ولمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرينَ.
(الحَدِيث 220 طرفه فِي: 6217) .
(3/127)
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان،
بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْمِيم: هُوَ
الحكم بن نَافِع، وَقد تقدم فِي كتاب الْوَحْي. الثَّانِي:
شُعَيْب بن أبي حَمْزَة الْحِمصِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن
مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عبيد الله إِلَى آخِره.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، وَالْكل تقدمُوا.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْمُفْرد.
وَفِيه: العنعنة. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني
وبصري. وَفِيه: أَخْبرنِي عبيد الله عِنْد أَكثر الروَاة
عَن الزُّهْرِيّ، وروى سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن سعيد بن
الْمسيب، بدل: عبيد الله، وَتَابعه سُفْيَان بن حُسَيْن،
قَالَ طَاهِر: إِن الرِّوَايَتَيْنِ صحيحتان.
وَأما بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره فقد
ذَكرْنَاهُ فِي الْبَاب السَّابِق، وَكَذَلِكَ بَيَان
لغاته وَإِعْرَابه.
بَيَان معانية قَوْله: (قَامَ أَعْرَابِي) ، زَاد ابْن
عُيَيْنَة عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَغَيره فِي أَوله: (أَنه،
صلى ثمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ومحمداً وَلَا ترحم
مَعنا أحدا، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، عله الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لقد تحجرت وَاسِعًا، فَلم يلبث أَن بقال فِي
الْمَسْجِد) . وَسَتَأْتِي هَذِه الزِّيَادَة عِنْد
المُصَنّف فِي الْأَدَب من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن أبي
سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة. وَأخرج هَذَا الحَدِيث
الْجَمَاعَة مَا خلا مُسلما، وَفِي لفظ ابْن مَاجَه:
(احتصرت وَاسِعًا) . وَأخرج ابْن مَاجَه حَدِيث وَاثِلَة
بن الْأَسْقَع أَيْضا، وَلَفظه: (لقد حصرت وَاسِعًا وَيلك
أوويحك) . قَوْله: (لقد تحجرت) أَي: ضيقت مَا وَسعه الله،
وخصصت بِهِ نَفسك دون غَيْرك، ويروى: احتجرت بِمَعْنَاهُ،
ومادته حاء مُهْملَة ثمَّ جِيم ثمَّ رَاء. وَقَوله:
(احتصرت) ، بالمهملتين من الْحصْر، وَهُوَ الْحَبْس
وَالْمَنْع. قَوْله: (فَبَال فِي الْمَسْجِد) أَي: مَسْجِد
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فتناوله
النَّاس) أَي: تناولوه بألسنتهم، وَفِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ، تَأتي: (فثار إِلَيْهِ النَّاس) وَله فِي
رِوَايَة عَن، أنس: (فَقَامُوا إِلَيْهِ) ، وَفِي رِوَايَة
أنس أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب: (فزجره النَّاس) . وَأخرجه
الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق عبد ان شيخ البُخَارِيّ، وَفِيه:
(فصاح النَّاس بِهِ) . وَكَذَا للنسائي من طَرِيق ابْن
الْمُبَارك، وَلمُسلم من طَرِيق إِسْحَاق عَن أنس:
(فَقَالَ الصَّحَابَة: مَه مَه) ، قَوْله: (مَه) ، كلمة
بنيت على السّكُون، وَهُوَ اسْم يُسمى بِهِ الْفِعْل،
وَمَعْنَاهُ: أكفف، لِأَنَّهُ زجر. فَإِن وصلت نونته،
فَقلت: مَه مَه. ومه الثَّانِي تَأْكِيد، كَمَا تَقول: صه
صه، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ: (فَمر عَلَيْهِ
النَّاس فأقاموه، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دَعوه،
عَسى أَن يكون من أهل الْجنَّة، فصبوا على بَوْله المَاء)
. قَوْله: (وهريقوا) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي
الْأَدَب: (واهريقوا) ، وَقد ذكرنَا أَن أصل: أهريقوا،
أريقوا. قَوْله: (أَو ذنوبا من مَاء) قَالَ الْكرْمَانِي:
لفظ: من، زَائِدَة، وزيدت تَأْكِيدًا، وَكلمَة: أَو،
يحْتَمل أَن تكون من كَلَام رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَتكون للتَّخْيِير، وَأَن تكون من الرواي فَتكون
للترديد. قلت: لَيْسَ الْأَمر كَذَلِك، وَقد قُلْنَا
الصَّوَاب فِيهِ عَن قريب. قَوْله: (ميسرين) حَال، فَإِن
قلت: الْمَبْعُوث هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فَكيف هَذَا؟ قلت: لما كَانَ المخاطبون مقتدين بِهِ
ومهتدين بهذاه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانُوا مبعوثين
أَيْضا، فَجمع اللَّفْظ بِاعْتِبَار ذَلِك، وَالْحَاصِل
أَنه على طَريقَة الْمجَاز، لأَنهم لما كَانُوا فِي مقَام
التَّبْلِيغ عَنهُ فِي حُضُوره وغيبته أطلق عَلَيْهِم
ذَلِك، أَو لأَنهم لما كَانُوا مأمورين من قبله بالتبليغ
فكأنهم مبعوثون من جِهَته. قَوْله: (وَلم تبعثوا معسرين) ،
مَا فَائِدَته وَقد حصل المُرَاد من قَوْله: (بعثتم) إِلَى
آخِره؟ قلت: هَذَا تَأْكِيد بعد تَأْكِيد، دلَالَة على أَن
الْأَمر مَبْنِيّ على الْيُسْر قطعا.
221 - حدّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ
أخبرنَا يحْيىَ بنُ سَعِيدٍ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ
مالِكٍ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذَا.
(انْظُر الحَدِيث: 219 وطرفه) .
عَبْدَانِ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْبَاء
الْمُوَحدَة: وَهُوَ لقب عبد الله الْعَتكِي، وَعبد الله
هُوَ ابْن الْمُبَارك الإِمَام، تقدما فِي كتاب الْوَحْي.
وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ تقدم أَيْضا. وَأخرج
الْبَيْهَقِيّ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق عَبْدَانِ هَذَا،
وَلَفظه: (جَاءَ أَعْرَابِي إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا قضى حَاجته قَامَ إِلَى نَاحيَة
الْمَسْجِد فَبَال، فصاح بِهِ النَّاس، فكفهم عَنهُ ثمَّ
قَالَ: صبوا عَلَيْهِ دلواً من مَاء) .
وحدّثنا خالِدٌ وَحدثنَا سُلَيْمانُ عنْ يَحْيَى بن
سَعِيدٍ قالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ قَالَ جاءَ
أعْرَابيٌّ فَبَالَ فِي طائِفَةِ الَمسْجِدِ فَزَجَرَهُ
النَّاسُ فَنَهاهُمُ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَلَمَّا قَضَى
(3/128)
بوْلَهُ أمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم بِذَنُوبٍ مِنْ ماءٍ فأُهْرِيقَ عَليْهِ.
قد تقدم أَن لَفظه: الْحَاء، عَلامَة التَّحْوِيل من
إِسْنَاد الى إِسْنَاد. وَقَوله: (وَحدثنَا) بواو الْعَطف
على قَوْله: (حَدثنَا عَبْدَانِ) وَرِوَايَة كَرِيمَة
بِلَا: وَاو. و: مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَفتح اللَّام، وَسليمَان بن بِلَال
وَكِلَاهُمَا تقدما فِي بَاب طرح الامام الْمَسْأَلَة.
قَوْله: (من طَائِفَة الْمَسْجِد) أَي: قِطْعَة من أَرض
الْمَسْجِد. قَوْله: (فهريق) ، بِضَم الْهَاء وَكسر
الرَّاء: على صِيغَة الْمَجْهُول، وَمَعْنَاهُ: أريق،
وَهَذِه رِوَايَة أبي ذَر. وَفِي رِوَايَة البَاقِينَ:
(فأهريق عَلَيْهِ) ، بِزِيَادَة الْهمزَة فِي أَوله.
وَقَالَ ابْن التِّين: هَذَا إِنَّمَا يَصح على مَا قَالَه
سِيبَوَيْهٍ لِأَنَّهُ فعل ماضٍ وهاؤه سَاكِنة، وَأما على
الأَصْل فَلَا تَجْتَمِع الْهمزَة وَالْهَاء فِي
الْمَاضِي. قَالَ: ورويناه بِفَتْح الْهَاء، وَلَا أعلم
لذَلِك وَجها.
وفوائد هَذَا الحَدِيث قد مرت. وَقَالَ بَعضهم: وَفِيه:
تعْيين المَاء لإِزَالَة النَّجَاسَة لِأَن الْجَفَاف
بِالرِّيحِ أَو الشَّمْس لَو كَانَ يَكْفِي لما حصل
التَّكْلِيف بِطَلَب الدَّلْو. قلت: هَذَا الِاسْتِدْلَال
فَاسد لِأَن ذكر المَاء لَا يَنْفِي غَيره، وَقد
اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب السَّابِق.
وَكَذَا قَوْله: وَفِيه أَن الأَرْض تطهر بصب المَاء
عَلَيْهَا وَلَا يشْتَرط حفرهَا، خلافًا للحنفية، فَاسد،
لأَنا ذكرنَا فِيمَا مضى عَن قريب أَنه ورد الْأَمر
بِالْحفرِ فِي حديثين مسندين وحديثين مرسلين، والمراسيل
حجَّة عِنْدهم.
59 - (بابُ بَوْلِ الصِّبْيَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بَوْل الصّبيان، وَهُوَ،
بِكَسْر الصَّاد: جمع صبي. قَالَ الْجَوْهَرِي: الصَّبِي:
الْغُلَام، وَالْجمع: صبية وصبيان، وَهُوَ من الواوي.
وَفِي (الْمُخَصّص) : ذكر بن سَيّده عَن ثَابت: يكون صبيان
مَا دَامَ رضيعاً، وَفِي (الْمُنْتَخب) للكراع: أول مَا
يُولد الْوَلَد يُقَال لَهُ: وليد، وطفل، وَصبي. وَقَالَ
ابْن دُرَيْد: صبي وصبيان وصبوان، وَهَذِه أضعفها. وَقَالَ
ابْن السّكيت: صبية وصبوة، وَفِي (الْمُحكم) صبية وصبية
وصبوان وصبوان. وَقَالَ بَعضهم: الصّبيان، بِكَسْر
الصَّاد، وَيجوز ضمهَا، جمع: صبي. قلت: فِي الضَّم لَا
يُقَال إلاَّ صبوان بِالْوَاو، وَقد وهم هَذَا الْقَائِل
حَيْثُ لم يعلم الْفرق بَين الْمَادَّة الواوية والمادة
اليائية، وأصل: صبيان، بِالْكَسْرِ: صبوان، لِأَن
الْمَادَّة واوية، فقلبت الْوَاو يَاء، لانكسار مَا
قبلهَا.
وَوجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهر لَا يخفى.
222 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخْبرنا
مالِكٌ عنْ هِشامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ
أمِّ المُؤْمِنينَ أنَّها قالَتْ اُتِيَ رسولَ اللَّهِ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَبيٍّ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِه
فَدَعا بِماءٍ فَأتْبَعَهُ إيَّاهُ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، وَالْكل قد تقدمُوا، وَعبد
الله هُوَ التنيسِي، وَعُرْوَة هُوَ ابْن الزبير بن
الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
والإخبار بِصِيغَة الْجمع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاث
مَوَاضِع.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة
عَن قُتَيْبَة عَن مَالك.
بَيَان لغته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (بصبي) ، قد مر تَفْسِير
الصَّبِي الْآن وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث
الْحجَّاج بن أَرْطَاة: أَن هَذَا الصَّبِي هُوَ عبد الله
بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (وَأَنَّهَا
قَالَت: فَأَخَذته أخذا عنيفاً، فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِنَّه لم يَأْكُل الطَّعَام فَلَا يضر بَوْله) .
وَفِي لفظ: (فَإِنَّهُ لم يطعم الطَّعَام فَلم يقذر
بَوْله) . وَقد قيل: إِنَّه الْحسن، وَقيل: إِنَّه
الْحُسَيْن. وَقَالَ بَعضهم: يظْهر لي أَن المُرَاد بِهِ
ابْن ام قيس الْمَذْكُور بعده. قلت: هَذَا لَيْسَ بِظَاهِر
أصلا، وَالظَّاهِر أحد الْأَقْوَال الثَّلَاثَة، وأظهرها
مَا ذكره الدَّارَقُطْنِيّ. قَوْله: (فَاتبعهُ إِيَّاه)
أَي: فَاتبع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْبَوْل
الَّذِي على الثَّوْب المَاء، وَذَلِكَ بصبه عَلَيْهِ.
وَفِي رِوَايَة مُسلم زَاد: (وَلم يغسلهُ) ، وَلابْن
الْمُنْذر من طَرِيق الثَّوْريّ عَن هِشَام: (فصب عَلَيْهِ
المَاء) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ من طَرِيق زَائِدَة
الثَّقَفِيّ عَن هِشَام: (فنضحه عَلَيْهِ) .
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن الشَّافِعِيَّة
احْتَجُّوا بِهَذَا على أَن بَوْل الصَّبِي يُكتفى فِيهِ
بِاتِّبَاع المَاء إِيَّاه، وَلَا
(3/129)
يحْتَاج إِلَى الْغسْل لظَاهِر رِوَايَة
مُسلم. وَلم يغسلهُ، وَعَن هَذَا قَالَ بَعضهم بِطَهَارَة
بَوْله. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْخلاف فِي كَيْفيَّة
تَطْهِير الشَّيْء الَّذِي بَال عَلَيْهِ الصَّبِي، وَلَا
خلاف فِي نَجَاسَته، وَقد نقل بعض أَصْحَابنَا إِجْمَاع
الْعلمَاء على نَجَاسَة بَوْل الصَّبِي، وَأَنه لم يُخَالف
فِيهِ إلاَّ دَاوُد. وَأما مَا حَكَاهُ أَبُو الْحسن بن
بطال، ثمَّ القَاضِي عِيَاض عَن الشَّافِعِي وَغَيره أَنهم
قَالُوا: بَوْل الصَّبِي طَاهِر وينضح، فحكايته بَاطِلَة
قطعا. قلت: هَذَا إِنْكَار من غير برهَان، وَلم ينْقل
هَذَا عَن الشَّافِعِي وَحده، بل نقل عَن مَالك أَيْضا أَن
بَوْل الصَّغِير الَّذِي لَا يطعم طَاهِر، وَكَذَا نقل عَن
الْأَوْزَاعِيّ وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ، ثمَّ قَالَ
النَّوَوِيّ وَكَيْفِيَّة طَهَارَة بَوْل الصَّبِي
وَالْجَارِيَة على ثَلَاثَة مَذَاهِب: وفيهَا ثَلَاثَة
أوجه لِأَصْحَابِنَا: الصَّحِيح الْمَشْهُور الْمُخْتَار
أَنه يَكْفِي النَّضْح فِي بَوْل الصَّبِي وَلَا يَكْفِي
فِي بَوْل الْجَارِيَة، بل لَا بُد من غسله كَغَيْرِهِ من
النَّجَاسَات. وَالثَّانِي: أَنه يَكْفِي النَّضْح فيهمَا.
وَالثَّالِث: لَا يَكْفِي النَّضْح فيهمَا، وهما شَاذان
ضعيفان. وَمِمَّنْ قَالَ بِالْفرقِ: عَليّ بن أبي طَالب
وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَأحمد بن
حَنْبَل وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه وَابْن وهب من أَصْحَاب
مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ. وَرُوِيَ
عَن أبي حنيفَة، رَحمَه الله تَعَالَى، قلت: علم من ذَلِك
أَن الصَّحِيح من مَذْهَب الشَّافِعِي هُوَ التَّفْرِيق
بَين حكم بَوْل الصَّبِي وَبَوْل الصبية قبل أَن يَأْكُل
الطَّعَام، وَأَنه يدل على أَن بَوْل الصَّبِي طَاهِر،
وَبَوْل الصبية نجس، وَبِه قَالَ أَحْمد وَإِسْحَق وَأَبُو
ثَوْر.
وَاحْتَجُّوا على ذَلِك باحاديث مِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، الْمَذْكُور. لِأَن إتباع
المَاء الْبَوْل هُوَ النَّضْح دون الْغسْل، وَلِهَذَا صرح
فِي رِوَايَة مُسلم: (وَلم يغسلهُ) ، وَعدم الْغسْل دلّ
على طَهَارَة بَوْل الصَّبِي. وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ فِي الرَّضِيع: (يغسل بَوْل
الْجَارِيَة وينضح بَوْل الْغُلَام) ، أخرجه أَبُو دَاوُد
وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. وَمِنْهَا: حَدِيث لبَابَة
بنت الْحَارِث، أُخْت مَيْمُونَة بنت الْحَارِث زوج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَت: (كَانَ
الْحُسَيْن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي
حجر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَال عَلَيْهِ،
فَقلت: إلبس ثوبا وَأَعْطِنِي إزارك حَتَّى أغسله. قَالَ:
إِنَّمَا يغسل من بَوْل الْأُنْثَى وينضح من بَوْل الذّكر)
، أخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَابْن خُزَيْمَة فِي
(صَحِيحه) والكبحي فِي (سنَنه) وَالْبَيْهَقِيّ أَيْضا فِي
(سنَنه) من وُجُوه كَثِيرَة، والطَّحَاوِي أَيْضا من
وَجْهَيْن. وَمِنْهَا: حَدِيث أم قيس على مَا يَأْتِي عَن
قريب إِن شَاءَ الله. وَمِنْهَا: حَدِيث زَيْنَب بنت جحش،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) مطولا، وَفِيه: (أَنه يصب من الْغُلَام وَيغسل
من الْجَارِيَة) ، وَفِي إِسْنَاده: لَيْث بن أبي سليم
وَهُوَ ضَعِيف. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي السَّمْح، أخرجه
أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه قَالَ: (كنت
أخدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ... .) الحَدِيث،
وَفِيه: (يغسل من بَوْل الْجَارِيَة ويرش من بَوْل
الْغُلَام) ، وَأَبُو السَّمْح، بِفَتْح السِّين
الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره حاء مُهْملَة،
وَلَا يعرف لَهُ اسْم وَلَا يعرف لَهُ غير هَذَا الحَدِيث،
كَذَا قَالَه ابو زرْعَة الرَّازِيّ، وَقيل: اسْمه إياد.
وَمِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن عَمْرو، أخرجه
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بصبي فَبَال عَلَيْهِ، فنضحه
وَأتي بِجَارِيَة فبالت عَلَيْهِ فَغسله) . وَمِنْهَا:
حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ،
قَالَ: (أصَاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو،
جلده، بَوْل صبي وَهُوَ صَغِير، فصب عَلَيْهِ من المَاء
بِقدر الْبَوْل) . وَمِنْهَا: حَدِيث أنس بن مَالك أخرجه
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) مطولا، وَفِيه: (يصب على
بَوْل الْغُلَام وَيغسل بَوْل الْجَارِيَة) . وَفِي
إِسْنَاده نَافِع بن هُرْمُز، وَأَجْمعُوا على ضعفه.
وَمِنْهَا: حَدِيث أبي أُمَامَة، أخرجه أَيْضا فِي
(الْكَبِير) : (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَتَى بالحسين فَجعل يقبله، فَبَال عَلَيْهِ، فَذَهَبُوا
ليتناولوه فَقَالَ: ذرْوَة، فَتَركه حَتَّى فرغ من بَوْله)
. وَفِي إِسْنَاده عَمْرو بن معدان، وَأَجْمعُوا على ضعفه.
وَمِنْهَا: حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله عَنْهَا، عِنْده
أَيْضا فِي (الْأَوْسَط) أَن الْحسن، أَو الْحُسَيْن، بَال
على بطن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لَا تزرموا ابْني أَو،
لَا تستعجلوه، فَتَرَكُوهُ حَتَّى قضى بَوْله، فَدَعَا
بِمَاء فَصَبَّهُ عَلَيْهِ) . وَمِنْهَا: حَدِيث أم كرز،
أخرجه ابْن مَاجَه عَنْهَا أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (بَوْل الْغُلَام ينضح وَبَوْل
الْجَارِيَة يغسل) ، وَمذهب أبي حنيفَة وَأَصْحَابه
وَمَالك أَنه لَا يفرق بَين بَوْل الصَّغِير وَالصَّغِيرَة
فِي نَجَاسَته، وجعلوهما سَوَاء فِي وجوب غسله مِنْهُمَا،
وَهُوَ مَذْهَب إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَعِيد ابْن
الْمسيب وَالْحسن بن حَيّ وَالثَّوْري.
وَأَجَابُوا عَن ذَلِك بِأَن النَّضْح هُوَ صب المَاء
لِأَن الْعَرَب تسمي ذَلِك نضحاً، وَقد يذكر وَيُرَاد بِهِ
الْغسْل، وَكَذَلِكَ الرش يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل.
أما الأول: فَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد
وَغَيره: (عَن الْمِقْدَاد بن الْأسود أَن عَليّ بن ابي
طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أمره أَن يسْأَل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الرجل إِذا دنا من أَهله
فَخرج مِنْهُ الْمَذْي مَاذَا عَلَيْهِ؟ قَالَ: عَليّ:
فَأن
(3/130)
عِنْدِي ابْنَته وانا استحي أَن اسأله.
قَالَ الْمِقْدَاد: فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِذا وجد أحدكُم ذَلِك
فلينضح فرجه وليتوضأ وضوءه للصَّلَاة) ، ثمَّ الَّذِي يدل
على أَنه أُرِيد بالنضح هَهُنَا الْغسْل، مَا رَوَاهُ
مُسلم وَغَيره عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
قَالَ: (كنت رجلا مذاءً فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأَل رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَكَان ابْنَته، فامرت
الْمِقْدَاد بن الْأسود فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يغسل ذكره
وَيتَوَضَّأ) . والقصة وَاحِدَة، والراوي عَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاحِد، وَمِمَّا يدل على أَن
النَّضْح يذكر وَيُرَاد بِهِ الْغسْل مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ وَغَيره عَن سهل بن حنيف قَالَ: (كنت ألْقى
من الْمَذْي شدَّة، وَكنت أَكثر مِنْهُ الْغسْل، فَسَأَلت
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّمَا
يجْزِيك من ذَلِك الْوضُوء. قلت: يَا رَسُول الله فَكيف
بِمَا يُصِيب ثوبي مِنْهُ؟ فَقَالَ: يَكْفِيك أَن تَأْخُذ
كفا من مَاء فتنضح بِهِ من ثَوْبك حَيْثُ يرى أَنه
أَصَابَهُ) . وَأَنه أَرَادَ بالنضح هَهُنَا الْغسْل.
واما الثَّانِي: وَهُوَ أَن الرش يذكر وَيُرَاد بِهِ
الْغسْل، فقد صَحَّ عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، أَنه لما حكى وضوء رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَخذ غرفَة من مَاء فرش على رجله
الْيُمْنَى حَتَّى غسلهَا، وَأَرَادَ بالرش هَهُنَا صب
المَاء قَلِيلا قَلِيلا، وَهُوَ الْغسْل بِعَيْنِه.
وَمِمَّا يدل على أَن النَّضْح والرش يذكران وَيُرَاد بهما
الْغسْل قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي
حَدِيث أَسمَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (تَحْتَهُ
ثمَّ تقرصه بِالْمَاءِ ثمَّ تنضحه ثمَّ تصلي فِيهِ) .
مَعْنَاهُ: تغسله، هَذَا فِي رِوَايَة الصَّحِيحَيْنِ،
وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ: (حتيه ثمَّ اقرضيه ثمَّ
رشيه وَصلي فِيهِ) . أَرَادَ: اغسليه، قَالَه الْبَغَوِيّ،
فَلَمَّا ثَبت أَن النَّضْح والرش يذكران وَيُرَاد بهما
الْغسْل، وَجب حمل مَا جَاءَ فِي هَذَا الْبَاب من
النَّضْح والرش على الْغسْل بِمَعْنى إسالة المَاء
عَلَيْهِ من غير عَرك، لِأَنَّهُ مَتى صب المَاء عَلَيْهِ
قَلِيلا قَلِيلا حَتَّى تقاطر وسال حصل الْغسْل، لِأَن
الْغسْل هُوَ الإسالة. فَافْهَم.
فَإِن قلت: قد صرح فِي رِوَايَة مُسلم وَغَيره: (فَاتبعهُ
بَوْله وَلم يغسلهُ) ، فَكيف يحمل النَّضْح والرش على
الْغسْل؟ قلت: مَعْنَاهُ وَلم يغسلهُ بالعرك كَمَا يغسل
الثِّيَاب إِذا أصابتها النَّجَاسَة، وَنحن نقُول بِهِ.
قَالَ النَّوَوِيّ: وَأما حَقِيقَة النَّضْح هَهُنَا فقد
اخْتلف اصحابنا فِيهَا، فَذهب الشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد
الْجُوَيْنِيّ وَالْقَاضِي حُسَيْن وَالْبَغوِيّ إِلَى أَن
مَعْنَاهُ أَن الشَّيْء الَّذِي أَصَابَهُ الْبَوْل يغمر
بِالْمَاءِ كَسَائِر النَّجَاسَات، بِحَيْثُ لَو عصر
لانعصر، وَذهب إِمَام الْحَرَمَيْنِ والمحققون إِلَى أَن
النَّضْح أَن يغمر ويكاثر بِالْمَاءِ مكاثرة لَا يبلغ
جَرَيَان المَاء وتقاطره، بِخِلَاف المكاثرة فِي غَيره،
فَإِنَّهُ يشْتَرط فِيهَا أَن يكون بِحَيْثُ يجْرِي بعض
المَاء ويتقاطر من الْمحل، وَإِن لم يشْتَرط عصره، وَهَذَا
هُوَ الصَّحِيح الْمُخْتَار، ثمَّ إِن النَّضْح إِنَّمَا
يجزىء مَا دَامَ الصَّبِي يقْتَصر بِهِ على الرَّضَاع، أما
إِذا أكل الطَّعَام على جِهَة التغذية فَإِنَّهُ يجب
الْغسْل بِلَا خلاف، وسنقول معنى النَّضْح مِمَّا قَالَه
أهل اللُّغَة فِي الحَدِيث الْآتِي، وَلَا فرق بَين
النَّضْح وَالْغسْل فِيمَا قَالَه الْبَغَوِيّ والجويني.
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: اتبعُوا فِي ذَلِك الْقيَاس،
أَرَادَ أَن الْحَنَفِيَّة اتبعُوا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
الْقيَاس، يَعْنِي: تركُوا الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة
وذهبوا إِلَى الْقيَاس، وَقَالُوا: المُرَاد من قَوْلهمَا،
أَي: من قَول أم قيس، وَلم يغسلهُ، أَي: غسلا مبالغاً
فِيهِ، وَهُوَ خلاف الظَّاهِر.
ويبعده مَا ورد فِي الْأَحَادِيث الْأُخَر الَّتِي فِيهَا
التَّفْرِقَة بَينهمَا أوجه: مِنْهَا: مَا هُوَ رَكِيك،
وَأقوى ذَلِك مَا قيل إِن النُّفُوس أعلق بالذكور مِنْهَا
بالإناث، يَعْنِي: فحصت الرُّخْصَة فِي الذُّكُور
لِكَثْرَة الْمَشَقَّة. قلت: نقل عَن بَعضهم للغمز على
الْحَنَفِيَّة، وَلَكِن هَذَا لَا يشفي غلتهم، فَقَوله:
اتبعُوا فِي ذَلِك الْقيَاس، غير صَحِيح، لأَنهم مَا
اتبعُوا فِي ذَلِك إلاَّ الْأَحَادِيث الَّتِي احْتج خصمهم
بهَا، وَلَكِن على غير الْوَجْه الَّذِي ذكرُوا، وَقد
ذَكرْنَاهُ الْآن محرراً، على أَنه قد رُوِيَ عَن بعض
الْمُتَقَدِّمين من التَّابِعين مَا يدل على أَن الأبوال
كلهَا سَوَاء فِي النَّجَاسَة، وَأَنه لَا فرق بَين بَوْل
الذّكر والانثى، فَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ،
وَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا
حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن قَتَادَة عَن سعيد بن
الْمسيب أَنه قَالَ: الرش بالرش والصب بالصب من الأبوال
كلهَا. حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا
حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن حميد عَن الْحسن أَنه
قَالَ: بَوْل الْجَارِيَة يغسل غسلا وَبَوْل الْغُلَام
يتبع بِالْمَاءِ، أَفلا يرى أَن سعيداً قد سوى بَين حكم
الأبوال كلهَا، من الصّبيان وَغَيرهم، فَجعل مَا كَانَ
مِنْهُ رشاً يطهر بالرش، وَمَا كَانَ مِنْهُ صبا يطهر
بالصب، لَيْسَ لِأَن بَعْضهَا عِنْده طَاهِر وَبَعضهَا غير
طَاهِر، وَلكنهَا كلهَا عِنْده نَجِسَة، وَفرق بَين
التَّطْهِير من نجاستها عِنْده بِضيق مخرجها وسعته إنتهى
كَلَام الطَّحَاوِيّ وَمعنى قَوْله: وَفرق ... إِلَى
آخِره، أَن مخرج الْبَوْل من الصَّبِي ضيق فيرش الْبَوْل،
وَمن الْجَارِيَة وَاسع فَيصب الْبَوْل صبا، فيقابل الرش
بالرش والصب بالصب.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ النّدب إِلَى حسن المعاشرة واللين
والتواضع والرفق بالصغار وَغَيرهم.
وَمِنْهَا اسْتِحْبَاب حمل الاطفال إِلَى أهل الْفضل
للتبرك بهم، وَسَوَاء فِي هَذَا الِاسْتِحْبَاب
الْمَوْلُود حَال وِلَادَته أَو بعْدهَا.
(3/131)
223 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ
قالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شهابٍ عنْ عُبيْدٍ اللَّهِ
بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُتْبةَ عنْ أمِّ قَيْسٍ بنْتِ
مِحْصَنٍ أنَّها أتَتْ بِابن لَهَا صَغِيرٍ لَمْ يَأْكلِ
الطَّعَامَ إِلَى رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَأجْلَسَهُ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي
حِجْرِهِ فَبَالَ عَلَى ثَوْبِهِ فدَعا بِماءٍ فَنَضَحَهُ
وَلَمْ يَغْسِلْهُ.
(الحَدِيث 223 طرفه فِي: 5693) .
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة تقدمُوا كلهم، وَابْن شهَاب
مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَأم قيس، بِفَتْح الْقَاف
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف. ومحصن، بِكَسْر الْمِيم
وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة
وَفِي آخِره نون، وَهِي أُخْت عكاشة ابْن مُحصن، أسلمت
بِمَكَّة قَدِيما، وبايعت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَهَاجَرت إِلَى مَدِينَة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رُوِيَ لَهَا أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ
حَدِيثا، فِي الصَّحِيحَيْنِ. مِنْهَا إثنان، وَهِي من
المعمرات. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: اسْمهَا جذامفة،
بِالْجِيم والذال الْمُعْجَمَة، وَقَالَ السُّهيْلي:
اسْمهَا آمِنَة، وَذكرهَا الْحَافِظ الذَّهَبِيّ فِي
(تَجْرِيد الصَّحَابَة) فِي الكنى، وَلم يذكرهَا لَهَا
اسْما.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع، والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، والعنعنة
فِي ثَلَاث مَوَاضِع، وَرُوَاته مَا بَين تنيسي ومدني.
بَيَان من أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا فَقَط.
وَأخرجه بَقِيَّة الْجَمَاعَة: فَمُسلم فِي الطِّبّ عَن
ابْن أبي عمر، وَفِيه وَفِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى
وَأبي بكر بن ابي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَأبي
خَيْثَمَة زُهَيْر بن حَرْب، خمستهم عَن سُفْيَان بن
عُيَيْنَة، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد ابْن
رمح عَن اللَّيْث بن سعد وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن ابْن
وهب عَن يُونُس، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وخرجه
أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك
بِهِ، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة، وَأحمد بن
منيع، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ،
وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن مَالك، وَابْن
مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن الصَّباح،
كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: (بابنٍ لَهَا) الإبن: لَا
يُطلق إلاَّ على الذّكر بِخِلَاف: الْوَلَد. قَوْله:
(صَغِير) هُوَ ضد: الْكَبِير، وَلَكِن المُرَاد مِنْهُ:
الرَّضِيع، لِأَنَّهُ فسره بقوله: (لم يَأْكُل الطَّعَام)
، فَإِذا أكل يُسمى: فطيماً، وَغُلَامًا أَيْضا إِلَى سبع
سِنِين. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: الْغُلَام هُوَ
الصَّغِير إِلَى حد الالتحاء. وَقَالَ بَعضهم من أهل
اللُّغَة: مَا دَامَ الْوَلَد فِي بطن أمه فَهُوَ: جَنِين،
فاذا وَلدته يُسمى: صَبيا مَا دَامَ رضيعاً، فَإِذا فطم
يُسمى غُلَاما إِلَى سبع سِنِين، فَمن هَذَا عرفت أَن
الصَّغِير يُطلق إِلَى حد الالتحاء من حِين يُولد،
فَلذَلِك قيد فِي الْحَدث بقوله: (لم يَأْكُل الطَّعَام) ،
وَالطَّعَام فِي اللُّغَة مَا يُؤْكَل، وَرُبمَا خص
الطَّعَام بِالْبرِّ، وَفِي حَدِيث أبي سعيد: (كُنَّا نخرج
صَدَقَة الْفطر على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صَاعا من طَعَام أَو صَاعا من شعير) . والطعم،
بِالْفَتْح: مَا يُؤَدِّيه الذَّوْق، وَيُقَال: طعمه مر،
والطعم، بِالضَّمِّ: الطَّعَام: وَقد طعم يطعم طعماً
فَهُوَ طاعم إِذا أكل وذاق، مثل: غنم يغنم غنما فَهُوَ
غَانِم، الذَّوْق، يُقَال: طعمه مر، والطعم، بِالضَّمِّ:
الطَّعَام. وَقد طعم يطعم طعماً فَهُوَ طاعم إِذا أكل
وذاق، مثل: غنم يغنم غنما فَهُوَ غَانِم، قَالَ تَعَالَى:
{فاذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشرُوا} (الْأَحْزَاب: 53) وَقَالَ
تَعَالَى: {وَمن لم يطعمهُ فانه منى} (الْبَقَرَة: 249)
اي: من لم يذقه، قَالَه الْجَوْهَرِي. وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ أَيْضا: وَمن لم يطعمهُ وَمن لم يذقه، من
طعم الشَّيْء إِذا ذاقه. وَمِنْه: طعم الشَّيْء لمذاقه،
قَالَ:
(وان شِئْت لم اطعم نقاخا وَلَا بردا)
أَلاَ ترى كَيفَ عطف عَلَيْهِ الْبرد وَهُوَ النّوم؟ قلت:
أَو الْبَيْت.
(وان شِئْت حرمت النِّسَاء سواكم.)
والنقاخ، بِضَم النُّون وبالقاف وَالْخَاء الْمُعْجَمَة:
المَاء العذب، وَقَالَ بَعضهم: وَقد أَخذه من كَلَام
النَّوَوِيّ: المُرَاد من الطَّعَام مَا عدا اللَّبن
الَّذِي يرتضعه، وَالتَّمْر الَّذِي يحنك بِهِ، وَالْعَسَل
الَّذِي يلعقه للمداواة وَغَيرهَا. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى
هَذِه التقديرات، لِأَن المُرَاد من قَوْله: (لم يَأْكُل
الطَّعَام) لم يقدر على مضغ الطَّعَام وَلَا على دَفعه
إِلَى بَاطِنه، لِأَنَّهُ رَضِيع لَا يقدر على ذَلِك، أما
اللَّبن فَإِنَّهُ مشروب غير مَأْكُول فَلَا يحْتَاج إِلَى
استثنائه لِأَنَّهُ لم يدْخل فِي. قَوْله: (لم يَأْكُل
الطَّعَام) حَتَّى يسْتَثْنى مِنْهُ، وَأما التَّمْر
الَّذِي يحنك بِهِ، أَو الْعَسَل الَّذِي يلعقه، فَلَيْسَ
بِاخْتِيَارِهِ، بل بعنف من فَاعله قصدا للتبرك أَو
المداواة، فَلَا حَاجَة أَيْضا لاستثنائهما، فَعلم مِمَّا
ذكرنَا أَن المُرَاد من قَوْله: (لم يَأْكُل الطَّعَام)
أَي: قصدا أَو اسْتِقْلَالا أَو تقوياً فَهَذَا شَأْن
الصَّغِير الرَّضِيع، وَقد علمت من هَذَا أَن الَّذِي
نَقله الْقَائِل الْمَذْكُور من النَّوَوِيّ، وَمن نكت
التَّنْبِيه صادر من غير روية وَلَا تَحْقِيق، وَكَذَلِكَ
لَا يحْتَاج إِلَى سُؤال الْكرْمَانِي وَجَوَابه هَهُنَا،
بقوله: فان قلت: اللَّبن طَعَام، فَهَل يخص الطَّعَام
بِغَيْر اللَّبن أم لَا؟ قلت: الطَّعَام هُوَ مَا يُؤْكَل،
وَاللَّبن مشروب لَا مَأْكُول فَلَا يخصص، قَوْله: (فأجلسه
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، الضَّمِير
الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الابْن.
(3/132)
قَالَ بَعضهم: أَي وَضعه. إِن قُلْنَا:
إِنَّه كَانَ كَمَا ولد، وَيحْتَمل أَن يكون الْجُلُوس حصل
مِنْهُ على الْعَادة. إِن قُلْنَا: إِنَّه كَانَ فِي سنّ
من يحبو. قلت: لَيْسَ الْمَعْنى كَذَلِك لِأَن الْجُلُوس
يكون عَن نوم أَو اضطجاع، وَإِذا كَانَ قَائِما كَانَت
الْحَال الَّتِي يُخَالِفهَا الْقعُود، وَالْمعْنَى
هَهُنَا: أَقَامَهُ عَن مضجعه، لِأَن الظَّاهِر أَن أم قيس
أَتَت بِهِ وَهُوَ فِي قماطة مُضْطَجع، فأجلسه النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَي: أَقَامَ فِي حجره، وَإِن
كَانَت اتت بِهِ وَهُوَ فِي يَدهَا، بِأَن كَانَ عمره
مِقْدَار سنة أَو جاوزها قَلِيلا، وَالْحَال أَنه رَضِيع،
يكون الْمَعْنى: تنَاوله مِنْهَا وَأَجْلسهُ فِي حجره
وَهُوَ يمسِكهُ لعدم مسكته، لِأَن أصل تركيب هَذِه
الْمَادَّة يدل على ارْتِفَاع فِي الشَّيْء، و: الْحجر،
بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا وَسُكُون الْجِيم، لُغَتَانِ
مشهورتان. قَوْله: (فَبَال على ثَوْبه) الظَّاهِر أَن
الضَّمِير فِي ثَوْبه يرجع إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَقد قيل: إِنَّه يرجع إِلَى الابْن اي:
بَال الابْن على الثَّوْب نَفسه، وَهُوَ فِي حجره صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فنضح عَلَيْهِ المَاء خوفًا أَن يكون طَار
على ثَوْبه مِنْهُ شَيْء. قلت: هَذَا مِمَّا يُؤَيّد قَول
الْحَنَفِيَّة، وَقد نسب هَذَا القَوْل إِلَى ابْن
شعْبَان. قَوْله: (فنضحه) ، قد ذكرنَا أَن النَّضْح هُوَ
الرش، وَقَالَ ابْن سَيّده: نضح المَاء عَلَيْهِ ينضحه
نضحاً إِذا ضربه بِشَيْء فَأَصَابَهُ مِنْهُ رشاش، ونضح
عَلَيْهِ المَاء: رش. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: النَّضْح
مَا كَانَ على اعْتِمَاد، والنضح مَا كَانَ على غير
اعْتِمَاد. وَقيل: هما لُغَتَانِ بِمَعْنى، وَكله: رش.
قلت: الأول: بِالْحَاء الْمُهْملَة، وَالثَّانِي:
بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، وَفِي (الواعي) لأبي مُحَمَّد، و
(الصِّحَاح) لأبي نصر، و (الْمُجْمل) لِابْنِ فَارس، و
(الجمهرة) لِابْنِ دُرَيْد، وَابْن القطوية وَابْن القطاع
وَابْن طريف فِي (الافعال) والفارابي فِي (ديوَان الادب)
وكراع فِي (الْمُنْتَخب) وَغَيرهم: النَّضْح الرش، وَقد
استقصينا الْكَلَام بِهِ فِي الحَدِيث السَّابِق مستقصىً.
قَوْله: (وَلم يغسلهُ) ، وَلمُسلم من طَرِيق اللَّيْث عَن
ابْن شهَاب: (فَلم يزدْ على أَن نضح بِالْمَاءِ) ، وَله من
طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب: فرشَّه. وَقَالَ
بَعضهم: وَلَا تخَالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ بَين نضح ورش،
لِأَن المُرَاد بِهِ أَن الِابْتِدَاء كَانَ بالرش وَهُوَ
بتنقيط المَاء. فَانْتهى إِلَى النَّضْح، وَهُوَ صب
المَاء، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسلم فِي حَدِيث عَائِشَة
من طَرِيق جرير عَن هِشَام: (فَدَعَا بِمَاء فَصَبَّهُ
عَلَيْهِ) ، وَلأبي عوَانَة: (فَصَبَّهُ على الْبَوْل
يتبعهُ إِيَّاه) . قلت: عدم التخالف بَين الرِّوَايَتَيْنِ
لَيْسَ من الْوَجْه الَّذِي ذكره، بل بِاعْتِبَار أَن
النَّضْح والرش بِمَعْنى، كَمَا ذكرنَا عَن الْكتب
الْمَذْكُورَة، وَالْوَجْه الَّذِي ذكره لَيْسَ بِوَجْه
على مَا لَا يخفى، وَأما رِوَايَة مُسلم فَإِنَّهَا تثبت
أَن النَّضْح بِمَعْنى: الصب، لِأَن الْأَحَادِيث
الْمَذْكُورَة فِي هَذَا الْبَاب، باخْتلَاف ألفاظها،
تَنْتَهِي إِلَى معنى وَاحِد، دفعا للتضاد. أَلا ترى أَن
أم الْفضل، لبَابَة بنت الْحَارِث، قد رُوِيَ عَنْهَا
حديثان: أَحدهمَا فِيهِ النَّضْح، وَالثَّانِي: فِيهِ
الصب، فَحمل النَّضْح على الصب دفعا للتضاد، وَعَملا
بِالْحَدِيثين على أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي حكم
وَاحِد باخْتلَاف ألفاظها يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَمن
الدَّلِيل على أَن النَّضْح هُوَ صب المَاء وَالْغسْل من
غير عَرك قَول الْعَرَب: غسلني السَّمَاء، وَإِنَّمَا
يَقُولُونَ ذَلِك عِنْد انصباب الْمَطَر عَلَيْهِم،
وَكَذَلِكَ يُقَال غسلني التُّرَاب: إِذا انصب عَلَيْهِ.
فَإِن قلت: يُعَكر على هَذَا قَوْله: (فنضحه وَلم يغسلهُ)
قلت: قد مر جَوَابه فِي تَفْسِير الحَدِيث السَّابِق، على
أَن الْأصيلِيّ ادّعى أَن قَوْله: (وَلم يغسلهُ) من كَلَام
ابْن شهَاب رَاوِي الحَدِيث، وَأَن الْمَرْفُوع انْتهى
عِنْد قَوْله: (فنضحه) . قَالَ: وَكَذَلِكَ رَوَاهُ معمر
عَن ابْن شهَاب، وَكَذَا أخرجه ابْن أبي شيبَة، قَالَ:
فرشه، وَلم يزدْ على ذَلِك.
وَأما الْإِعْرَاب فَقَوله: (لَهَا) : جملَة فِي مَحل
الْجَرّ لِأَنَّهَا صفة لِابْنِ، وَكَذَلِكَ، قَوْله:
(صَغِير) بِالْجَرِّ صفة ابْن، وَكَذَلِكَ قَوْله: (لم
يَأْكُل الطَّعَام) ، وَقَوله: (إِلَى رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) كلمة: إِلَى، تتَعَلَّق بقوله: (اتت)
، و: الْفَا آتٍ، الْأَرْبَعَة للْعَطْف بَين الْكَلَام،
بِمَعْنى التعقيب.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: حكم بَوْل الْغُلَام
الرَّضِيع وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصى. وَمِنْهَا:
الرِّفْق بالصغار والشفقة عَلَيْهِم، أَلا ترى أَن سيد
الْأَوَّلين والآخرين كَيفَ كَانَ يَأْخُذهُمْ فِي حجره
ويتلطف بهم؟ حَتَّى إِن مِنْهُم من يَبُول على ثَوْبه
فَلَا يُؤثر فِيهِ ذَلِك، وَلَا يتَغَيَّر، وَلِهَذَا
كَانَ يُخَفف الصَّلَاة عِنْد سَمَاعه بكاء الصَّبِي وَأمه
وَرَاءه، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: من لم يرحم صَغِيرنَا
فَلَيْسَ منا. وَمِنْهَا: حمل الْأَطْفَال إِلَى أهل
الْفضل وَالصَّلَاح ليدعوا لَهُم، سَوَاء كَانَ عقيب
الْولادَة أَو بعْدهَا، وَقَالَ بَعضهم: حمل الاطفال حَال
الْولادَة. قلت: حملهمْ حَال الْولادَة غير مُتَصَوّر،
فَهَذَا كَلَام صادر عَن غير ترو، وَأَيْضًا قَالَ هَذَا
الْقَائِل: فِي هَذَا الحَدِيث من الْفَوَائِد كَذَا
وَكَذَا، وعدَّ مِنْهَا: تحنيك الْمَوْلُود، وَلَيْسَ فِي
الحَدِيث مَا يدل على ذَلِك صَرِيحًا، وَإِن كَانَ جَاءَ
هَذَا فِي أَحَادِيث أخر لِأَن ظَاهر الحَدِيث يدل على أَن
أم قيس إِنَّمَا أَتَت بِهِ إِلَى النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لأجل التَّبَرُّك، ولدعائه لَهُ، لِأَن من
(3/133)
دَعَا لَهُ هَذَا النَّبِي الْكَرِيم يسْعد
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِن كَانَ فِيهِ احْتِمَال
التحنيك.
60 - (بابُ البَوْلِ قائِماً وقاعِداً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْبَوْل حَال كَونه
قَائِما وَحَال كَونه قَاعِدا. قيل: دلَالَة الحَدِيث على
الْقعُود بطرِيق الأولى لِأَنَّهُ إِذا جَازَ قَائِما
فقاعداً أجوز. وَأجَاب بَعضهم بقوله: وَيحْتَمل أَن يكون
أَشَارَ بذلك إِلَى حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن حَسَنَة
الَّذِي أخرجه النَّسَائِيّ، وَابْن مَاجَه وَغَيرهمَا،
فَإِن فِيهِ: (بَال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
جَالِسا، فَقُلْنَا: انْظُرُوا، اليه يَبُول كَمَا تبول
الْمَرْأَة) . قلت: قَوْله: دلَالَة الحَدِيث ... إِلَى
آخِره، غير مُسلم، لِأَن أَحَادِيث الْبَاب كلهَا فِي
الْبَوْل قَائِما، وَجَوَاز الْبَوْل قَائِما حكم من
الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، فَكيف يُقَاس عَلَيْهِ جَوَاز
الْبَوْل قَاعِدا بطرِيق الْعقل؟ وَالْأَحْسَن أَن يُقَال:
لما ورد فِي هَذَا الْبَاب جوز الْبَوْل قَائِما وجوازه
قَاعِدا بِأَحَادِيث كَثِيرَة، أورد البُخَارِيّ أَحَادِيث
الْفَصْل الأول فَقَط؛ وَفِي التَّرْجَمَة أَشَارَ إِلَى
الْفَصْلَيْنِ إِمَّا اكْتِفَاء لشهرة الْفَصْل الثَّانِي،
وَعمل أَكثر النَّاس عَلَيْهِ، وَإِمَّا إِشَارَة إِلَى
أَنه وقف عل أَحَادِيث الْفَصْلَيْنِ، وَلكنه اقْتصر على
أَحَادِيث الْفَصْل الأول لكَونهَا على شَرطه.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لِأَن كلا
مِنْهُمَا فِي أَحْكَام الْبَوْل، وَكَذَلِكَ بَينه وَبَين
الْبَاب الَّذِي يَأْتِي، وَالَّذِي يَأْتِي بعده أَيْضا،
وَالْحَاصِل أَن هُنَا تِسْعَة أَبْوَاب كلهَا فِي
أَحْكَام الْبَوْل، والمناسبة بَينهَا ظَاهِرَة لَا تخفى.
224 - حدّثنا آدَمُ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنِ الاَعْمَشِ
عنْ أبي وائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ قالَ أتَى النَّبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم سُباطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ قائِماً
ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ فَجِئْتُهُ بِمَاءٍ فَتَوَضَّأَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لَا يُقَال:
التَّرْجَمَة أَعم، لأَنا ذكرنَا فِيمَا مضى مَا يَكْفِي
فِي رده.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة تقدمُوا كلهم، وآدَم: هُوَ
ابْن أبي إِيَاس، وَالْأَعْمَش: هُوَ سُلَيْمَان بن
مهْرَان، وَأَبُو وَائِل: هُوَ شَقِيق الْكُوفِي،
وَحُذَيْفَة: هُوَ ابْن الْيَمَان.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع،
وَرُوَاته مَا بَين خراساني وكوفي. وَفِيه: عَن أبي
وَائِل، وَلأبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده عَن
شُعْبَة عَن الْأَعْمَش أَنه: سمع أَبَا وَائِل،
وَلأَحْمَد عَن يحيى الْقطَّان عَن الْأَعْمَش: حَدثنِي
أَبُو وَائِل.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
هَهُنَا عَن آدم عَن شُعْبَة، وَأخرجه أَيْضا فِي
الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان ابْن حَرْب مُخْتَصرا كَمَا
هَهُنَا، وَفِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن
عرْعرة، كِلَاهُمَا عَن شُعْبَة وَعَن عُثْمَان بن أبي
شيبَة عَن جرير، وَأول حَدِيث مُحَمَّد بن عرْعرة: كَانَ
أَبُو مُوسَى يشدد على الْبَوْل، وعَلى مَا سَيَأْتِي عَن
قريب. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى عَن
أبي خَيْثَمَة زُهَيْر بن مُعَاوِيَة عَن الْأَعْمَش بِهِ
وَفِيه ذكر الْمسْح، وَعَن يحيى بن يحيى عَن جرير نَحْو
حَدِيث مُحَمَّد بن عرْعرة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن حَفْص بن عمر وَمُسلم ابْن إِبْرَاهِيم، كِلَاهُمَا
عَن شُعْبَة، وَعَن مُسَدّد عَن أبي عوَانَة. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع عَن الْأَعْمَش
بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم عَن يحيى بن يُونُس، وَعَن المؤمل بن هِشَام
عَن ابْن علية عَن شُعْبَة، كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش
بِهِ، وَعَن ابْن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة عَن مَنْصُور
بِهِ، وَعَن سُلَيْمَان بن عبد الله الغيلاني عَن بهز عَن
شُعْبَة عَن الْأَعْمَش وَمَنْصُور بِهِ، وَلَيْسَ فِيهِ
ذكر الْمسْح إلاَّ فِي حَدِيث عِيسَى بن يُونُس، وَفِي
حَدِيث بهز. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي بكر بن أبي شيبَة
عَن شريك وهشيم ووكيع، ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش بِهِ من
غير ذكر الْمسْح.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: (سباطة قوم) السباطة: على
وزن فعالة بِالضَّمِّ، وَهُوَ: الْموضع الَّذِي يرْمى
فِيهِ التُّرَاب بالأفينة مرفعاً. وَقيل: السباطة: الكناسة
نَفسهَا، وَكَانَت بِالْمَدِينَةِ، ذكره مُحَمَّد بن
طَلْحَة بن مصرف عَن الْأَعْمَش. قَوْله: (قَائِما) نصب
على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: (فَبَال) .
بَيَان الْمَعْنى إِضَافَة السباطة إِلَى الْقَوْم
إِضَافَة اخْتِصَاص لَا ملك، لِأَنَّهَا كَانَت بِفنَاء
دُورهمْ للنَّاس كلهم، فاضيف إِلَيْهِم لقربها مِنْهُم،
وَلِهَذَا بَال، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم،
عَلَيْهَا، وَبِهَذَا ينْدَفع إِشْكَال من قَالَ: إِن
الْبَوْل يوهن الْجِدَار وَفِيه ضَرَر، فَكيف هَذَا من
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام؟ وَقد يُقَال:
إِنَّمَا بَال فَوق
(3/134)
السباطة لَا فِي أصل الْجِدَار، وَقد صرح
بِهِ فِي رِوَايَة أبي عوَانَة فِي (صَحِيحه) ، وَقيل:
يحْتَمل أَن يكون علم أذنهم فِي الْجِدَار بالتصريح أَو
غَيره، أَو لكَونه مِمَّا يتَسَامَح النَّاس بِهِ، أَو
لعلمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بإيثارهم إِيَّاه بذلك،
يجوز لَهُ التَّصَرُّف فِي مَالك أمته دون غَيره،
وَلِأَنَّهُ أولى بِالْمُؤْمِنِينَ من أنفسهم
وَأَمْوَالهمْ. قلت: هَذَا كُله على تَقْدِير أَن تكون
السباطة ملكا لأحد أَو لجَماعَة مُعينين، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَأظْهر الْوُجُوه أَنهم كَانُوا يؤثرون
ذَلِك وَلَا يكرهونه بل يفرحون بِهِ، وَمن كَانَ هَذَا
حَاله جَازَ الْبَوْل فِي أرضه وَالْأكل من طَعَامه. قلت:
هَذَا أَيْضا على تَقْدِير أَن تكون السباطة ملكا لقوم.
فَإِن قلت: كَانَ من عَادَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
التباعد فِي الْمَذْهَب، وَقد روى أَبُو دَاوُد عَن
الْمُغيرَة بن شُعْبَة: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَ إِذا ذهب الْمَذْهَب أبعد) . وَالْمذهب،
بِالْفَتْح: الْموضع الَّذِي يتغوط فِيهِ. وَأخرجه
بَقِيَّة الْأَرْبَعَة أَيْضا. قلت: يحْتَمل أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مَشْغُولًا فِي ذَلِك الْوَقْت
بِأُمُور الْمُسلمين وَالنَّظَر فِي مصالحهم، فَلَعَلَّهُ
طَال عَلَيْهِ الْأَمر، فَأتى السباطة حِين لم يُمكنهُ
التباعد، وَأَنه لَو أبعد لَكَانَ تضرر. فان قلت: روى ابو
دَاوُد من حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ أَنه قَالَ:
(كنت مَعَ رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم ذَات يَوْم،
فَأَرَادَ ان يَبُول فَأتى دمثا فِي أصل جِدَار فَبَال)
الحَدِيث، فَهَذَا يُخَالف مَا ذكرت فِيمَا مضى عَن قريب.
قلت: يجوز أَن يكون الْجِدَار هَهُنَا عادياً غير مَمْلُوك
لأحد، أَو يكون قعوده متراخيا عَن جرمه فَلَا يُصِيبهُ
الْبَوْل. قَوْله: (ثمَّ دَعَا بِمَاء) زَاد مُسلم وَغَيره
من طرق الْأَعْمَش: (فتنحيت فَقَالَ: ادنه، فدنوت حَتَّى
قُمْت عِنْد عقبه) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد عَن يحيى
الْقطَّان: (أَتَى سباطة قوم فتباعدت مِنْهُ، فأدناني
حَتَّى صرت قَرِيبا من عقبه، فَبَال قَائِما، ودعا بِمَاء
فَتَوَضَّأ بِهِ وَمسح على خفيه) .
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الاول: فِيهِ جَوَاز الْبَوْل
قَائِما فقاعداً أجوز لِأَنَّهُ أمكن، وَقد اخْتلف
الْعلمَاء فِي هَذَا فأباحه قوم، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر:
ثَبت أَن عمر وَابْنه وَزيد بن ثَابت وَسَهل بن سعد أَنهم
بالوا قيَاما، وأباحه سعيد بن الْمسيب وَعُرْوَة ومحمدابن
سِيرِين وَزيد بن الْأَصَم وَعبيدَة السَّلمَانِي
وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَالشعْبِيّ وَأحمد وَآخَرُونَ،
وَقَالَ مَالك: إِن كَانَ فِي مَكَان لَا يتطاير عَلَيْهِ
مِنْهُ شَيْء فَلَا بَأْس بِهِ، وإلاَّ فمكروه. وَقَالَت
عَامَّة الْعلمَاء: الْبَوْل قَائِما مَكْرُوه إلاَّ لعذر،
وَهِي كَرَاهَة تَنْزِيه لَا تَحْرِيم، وَكَذَلِكَ رُوِيَ
وَالْبَوْل قَائِما عَن أنس وَعلي بن أبي طَالب وابي
هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُم وَكَرِهَهُ ابْن مَسْعُود
وَإِبْرَاهِيم بن سعد، وَكَانَ إِبْرَاهِيم لَا يُجِيز
شَهَادَة من بَال قَائِما، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر:
الْبَوْل جَالِسا أحب إِلَيّ، وَقَائِمًا مُبَاح، وكل
ذَلِك ثَابت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
فَإِن قلت: رويت أَحَادِيث ظَاهرهَا يُعَارض حَدِيث
الْبَاب. مِنْهَا: حَدِيث الْمِقْدَاد عَن أَبِيه عَن
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: (من حَدثَك أَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَال قَائِما فَلَا
تصدقه، أَنا رَأَيْته يَبُول قَاعِدا) ، أخرجه البستي فِي
(صَحِيحه) وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، وَقَالَ: حَدِيث
عَائِشَة أحسن شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وَأَصَح. وَأخرج
أَبُو عوَانَة الإسفرائيني فِي (صَحِيحه) بِلَفْظ: (مَا
بَال قَائِما مُنْذُ أنزل عَلَيْهِ الْقُرْآن) .
وَمِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة، رَوَاهُ الْبَزَّار بِسَنَد
صَحِيح: حَدثنَا نصر بن عَليّ حَدثنَا عبد الله بن دَاوُد
حَدثنَا سعيد بن عبيد الله حَدثنَا عبد الله بن بُرَيْدَة
عَن أَبِيه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (ثَلَاث من الْجفَاء: أَن يَبُول الرجل قَائِما)
الحَدِيث، وَقَالَ: لَا أعلم رَوَاهُ عَن ابْن بُرَيْدَة
إلاَّ سعيد بن عبد الله، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَحَدِيث
بُرَيْدَة فِي هَذَا غير مَحْفُوظ، وَقَول التِّرْمِذِيّ
يرد بِهِ. وَمِنْهَا: حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث ابْن جريج:
أخبرنَا عبد الْكَرِيم بن أبي الْمخَارِق عَن نَافِع عَن
ابْن عمر قَالَ: قَالَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
(رَآنِي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أبول
قَائِما، فَقَالَ: يَا عمر! لَا تبل قَائِما. قَالَ: فَمَا
بلت قَائِما بعد) . وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أخرجه الْبَيْهَقِيّ أَيْضا من حَدِيث عدي
بن الْفضل عَن عَليّ بن الحكم عَن أبي نَضرة عَن جَابر:
(نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَبُول
الرجل قَائِما) .
قلت: أما الْجَواب عَن حَدِيث عَائِشَة إِنَّه مُسْتَند
إِلَى علمهَا فَيحمل على مَا وَقع مِنْهُ فِي الْبيُوت،
وَأما فِي غير الْبيُوت فَلَا تطلع هِيَ عَلَيْهِ، وَقد
حفظه حُذَيْفَة، رَضِي الله عَنهُ، وَهُوَ من كبار
الصَّحَابَة، وَأَيْضًا يُمكن أَن يكون قَول عَائِشَة:
(مَا بَال قَائِما) ، يَعْنِي فِي منزله، وَلَا اطلَاع
لَهَا مَا فِي الْخَارِج. فان قلت: قَالَ أَبُو عوَانَة
فِي (صَحِيحه) وَابْن شاهين: إِن حَدِيث حُذَيْفَة
مَنْسُوخ بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا، قلت:
الصَّوَاب أَنه لَا يُقَال إِنَّه مَنْسُوخ، لِأَن كلاًّ
من عَائِشَة وَحُذَيْفَة أخبر بِمَا شاهدة، فَدلَّ على أَن
الْبَوْل قَائِما وَقَاعِدا يجوز، وَلَكِن كرهه الْعلمَاء
قَائِما لوُجُود أَحَادِيث النَّهْي، وَإِن كَانَ
أَكْثَرهَا غير ثَابت. وَأما حَدِيث بُرَيْدَة فِي هَذَا
غير مَحْفُوظ، وَلَكِن فِيهِ نظر، لِأَن الْبَزَّار أخرجه
بِسَنَد صَحِيح كَمَا ذكرنَا. وَأما
(3/135)
حَدِيث عمر فَقَالَ التِّرْمِذِيّ:
فَحَدِيث ضَعِيف، لِأَن ابْن جريج رَوَاهُ عَن عبد
الْكَرِيم بن الْمخَارِق أَبُو امية وَهُوَ ضَعِيف،
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: إِنَّمَا رَفعه عبد الْكَرِيم،
وَقد ضعفه أَيُّوب، وَتكلم فِيهِ، وروى عبيد الله عَن
نَافِع عَن ابْن عمر: قَالَ: عمر: مَا بلت قَائِما مُنْذُ
أسلمت، هَذَا أصح من حَدِيث عبد الْكَرِيم. وَأما حَدِيث
جَابر، فَفِي رُوَاته: عدي بن الْفضل وَهُوَ ضَعِيف. فان
قلت: قَالَ أَبُو الْقَاسِم عبد الله بن أَحْمد بن
مَحْمُود الْبَلْخِي فِي كِتَابه الْمُسَمّى (بِقبُول
الْأَخْبَار وَمَعْرِفَة الرِّجَال) : حَدِيث حُذَيْفَة
يَعْنِي هَذَا حَدِيث فَاحش مُنكر لَا نراهه إلاَّ من قبل
بعض الزَّنَادِقَة. قلت: هَذَا كَلَام سوء لَا يُسَاوِي
سَمَاعه، وَهُوَ فِي غَايَة الصِّحَّة. فَإِن قلت: رُوِيَ
عَن ابْن مَاجَه من طَرِيق شُعْبَة أَن عَاصِمًا روى لَهُ
عَن أبي وَائِل عَن الْمُغيرَة: (أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اتى سباطة قوم فَبَال قَائِما) . قَالَ
عَاصِم: وَهَذَا الاعمش يرويهِ عَن أبي وَائِل عَن
حُذَيْفَة. قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث أبي وَائِل
عَن حديفة أصح، يَعْنِي من حَدِيثه عَن الْمُغيرَة،
وَأَيْضًا لَا يبعد أَن يكون أَبُو وَائِل رَوَاهُ عَن
رجلَيْنِ، وَالرجلَانِ شَاهدا ذَلِك من فعله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَأَن أَبَا وَائِل أدّى الْحَدِيثين
عَنْهُمَا، فَسَمعهُ مِنْهُ جمَاعَة فَأدى كلٌّ مَا سمع،
وَدَلِيله أَن غَيرهمَا حكى ذَلِك عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَيْضا، مِنْهُم: سهل بن سعد، رَضِي الله عَنهُ.
وَفِي حَدِيثه فِي (صَحِيح ابْن خزيمه) وَأَبُو هُرَيْرَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأخرج حَدِيثه الْحَاكِم ثمَّ
الْبَيْهَقِيّ عَن حَمَّاد بن غَسَّان الْجعْفِيّ: حَدثنَا
معن عَن مَالك عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن ابي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بَال قَائِما من جرح كَانَ بمآبضه) ،
وَقَالَ الذَّهَبِيّ: هَذَا مُنكر، وَضَعفه
الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَابْن عَسَاكِر فِي
كِتَابه (مَجْمُوع الرغائب فِي ذكر أَحَادِيث مَالك
الغرائب) .
ثمَّ إِن الْعلمَاء تكلمُوا فِي سَبَب بَوْله، صلى الله
تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم قَائِما فَقَالَ الشَّافِعِي، لما
سَأَلَهُ حَفْص الْفَرد عَن الْفَائِدَة فِي بَوْله
قَائِما: الْعَرَب تستشفي لوجع الصلب بالبول قَائِما، فنرى
أَنه كَانَ بِهِ ذَاك. قلت: يُوضح ذَلِك حَدِيث أبي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْمَذْكُور آنِفا.
والمآبض جمع: مأبض، بِسُكُون الْهمزَة بعْدهَا بَاء
مُوَحدَة ثمَّ ضاد مُعْجمَة، وَهُوَ: بَاطِن الرّكْبَة،
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: إِنَّمَا فعله لشغله بِأُمُور
الْمُسلمين، فَلَعَلَّهُ طَال عَلَيْهِ الْمجْلس حَتَّى
حصرة الْبَوْل وَلم يُمكن التباعد كعادته، وَأَرَادَ
السباطة لدمثها، وَأقَام حُذَيْفَة يستره عَن النَّاس.
وَقَالَ الْمَازرِيّ فِي (الْعلم) : فعل ذَلِك لِأَنَّهَا
حَالَة يُؤمن فِيهَا خُرُوج الْحَدث من السَّبِيل الآخر،
بِخِلَاف الْقعُود، وَمِنْه قَول عمر بن الْخطاب، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: الْبَوْل قَائِما أحصن للدبر.
وَقَالَ بَعضهم: لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجد
مَكَانا للقعود فاضطر إِلَى الْقيام لكَون الطّرف الَّذِي
يَلِيهِ السباطة عَلَيْهَا مرتفعاً. وَقَالَ
الْمُنْذِرِيّ: لَعَلَّه كَانَت فِي السباطة نجاسات رطبَة،
وَهِي رخوة، فخشي أَن يتطاير عَلَيْهِ. قيل: فِيهِ نظر،
لِأَن الْقَائِم أَجْدَر بِهَذِهِ الخشية من الْقَاعِد.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لكَون ذَلِك سهلاً ينحدر فِيهِ
الْبَوْل فَلَا يرْتَد على البائل، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك بَيَان للْجُوَاز فِي
هَذِه الْمرة، وَكَانَت عَادَته المستمرة الْبَوْل
قَاعِدا.
الحكم الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز الْبَوْل بِالْقربِ من
الديار.
الثَّالِث: فِيهِ دَلِيل على أَن مدافعة الْبَوْل ومصابرته
مَكْرُوهَة لما فِيهِ من الضَّرَر.
الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز طلب البائل من صَاحبه المَاء
للْوُضُوء.
الْخَامِس: فِيهِ خدمَة الْمَفْضُول للفاضل، وَالله
سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أعلم.
61 - (بابُ البَوْلِ عنْدَ صاحبِهِ والتَّسَتُّرِ
بالحَائِطِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم بَوْل الرجل عِنْد صَاحبه،
وَبَيَان حكم تستره بِالْحَائِطِ، فالألف وَاللَّام فِي:
الْبَوْل، بدل من الْمُضَاف إِلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا
قَدرنَا، فَالضَّمِير فِي صَاحبه يرجع إِلَى الْمُضَاف
إِلَيْهِ الْمُقدر، وَهُوَ: الرجل البائل.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.
225 - حدّثنا عُثْمانُ بنُ أبي شَيْبَةَ قَالَ حَدثنَا
جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورٍ عَن أبي وَائِلٍ عَنْ حذَيْفَةَ
قَالَ رَأَيْتُنِي أنَا والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
نتَمَاشَى فَاتَى سبُاطَةَ قَوْمٍ خَلْفَ حائِطٍ فَقَامَ
كَمَا يَقُومُ أَحَدُكُمْ فَبَالَ فَانْتَبَذْتُ مِنْهُ
فَاشَارَ إليَّ فَجِئْتُهُ فَقمْتُ عِنْدَ عَقِبِهِ حَتَّى
فَرَغَ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي فِي
الْمَوْضِعَيْنِ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة، وَقد تقدمُوا بِهَذَا
التَّرْتِيب فِي بَاب: من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا،
وَجَرِير: هُوَ ابْن عبد الحميد، وَمَنْصُور: هُوَ ابْن
الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل: شَقِيق، وَحُذَيْفَة: ابْن
الْيَمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
الْمَوْضِعَيْنِ، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع،
وَرُوَاته مَا بَين كُوفِي ورازي.
(3/136)
وتعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد مر
بَيَانهَا فِي الْبَاب السَّابِق.
بَيَان لغته قَوْله: (حَائِط) أَي: جِدَار، ويجيىء
بِمَعْنى: الْبُسْتَان فِي غير هَذَا الْموضع، وَأَصله
واوي، من: الحوط. قَوْله: (فانتبذت) ، أَي: تنحيت، ومادته:
نون وباء مُوَحدَة وذال مُعْجمَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي:
جلس فلَان نبذة، بِفَتْح النُّون وَضمّهَا، أَي: نَاحيَة،
وانتبذ فلَان أَي: ذهب ناحيته، وَقَالَ الخاطبي: فانتبذت
مِنْهُ، اي تنحيت عَنهُ حَتَّى كنت مِنْهُ على نبذه.
قَوْله: (عقبه) ، بِفَتْح الْعين وَكسر الْقَاف: وَهُوَ
مُؤخر الْقدَم، وَهِي مُؤَنّثَة، وعقب الرجل أَيْضا وَلَده
وَولد وَلَده، وفيهَا لُغَتَانِ: كسر الْقَاف وسكونها،
وَهِي أَيْضا مُؤَنّثَة.
بَيَان إعرابه قَوْله: (رَأَيْتنِي) ، بِضَم التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، وَمَعْنَاهُ: رَأَيْت نَفسِي،
وَبِهَذَا التَّقْدِير ينْدَفع سُؤال من يَقُول: كَيفَ
جَازَ أَن يكون الْفَاعِل وَالْمَفْعُول عبارَة عَن شَيْء
وَاحِد، وَهَذَا التَّرْكِيب جَائِز فِي أَفعَال
الْقُلُوب، لِأَنَّهُ من خصائصها، وَلَا يجوز فِي غَيرهَا.
قَوْله: (أَنا) للتَّأْكِيد لصِحَّة عطف لفظ النَّبِي على
الضَّمِير الْمَنْصُوب على المفعولية، وَالتَّقْدِير:
رَأَيْت نَفسِي وَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. وَقَالَ الْكرْمَانِي بِنصب: النَّبِي، لِأَنَّهُ
عطف على الْمَفْعُول لَا على الْفَاعِل، وَعَلِيهِ
الرِّوَايَة. قلت: وَيجوز رفع: النَّبِي، أَيْضا لصِحَّة
الْمَعْنى عَلَيْهِ، وَلَكِن إِن صحت رِوَايَة النصب
يقْتَصر عَلَيْهَا. قَوْله: (نتماشى) جملَة فِي مَحل لنصب
على الْحَال، تَقْدِيره: وَرَأَيْت نَفسِي وَالنَّبِيّ
حَال كوننا متماشين. قَوْله: (فَأَشَارَ) أَي: أَشَارَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إليّ بعد أَن بَعدت
مِنْهُ، وَلَكِن لم أبعد مِنْهُ بِحَيْثُ لَا يرَاهُ.
وَفِي رِوَايَة مُسلم: ادنه، وَقَالَ بَعضهم: رِوَايَة
البُخَارِيّ هَذِه بيّنت أَن رِوَايَة مُسلم: أدنه، كَانَ
بِالْإِشَارَةِ لَا بِاللَّفْظِ. قلت: يرد عَلَيْهِ
رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عصمَة بن مَالك، قَالَ:
(خرج علينا رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وسلمفي بعض سِكَك
الْمَدِينَة، فَانْتهى إِلَى سباطة قوم فَقَالَ: يَا
حُذَيْفَة استرني) الحَدِيث، فَهَذَا صَرِيح بِأَن
إِعْلَامه كَانَ بِاللَّفْظِ، وَيُمكن أَن يجمع بَين
الروايتني بِأَن يكون، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
أَشَارَ أَولا بِيَدِهِ أَو بِرَأْسِهِ، ثمَّ قَالَ:
استرني. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَلَيْسَت فِيهِ
دلَالَة على جَوَاز الْكَلَام فِي حَال الْبَوْل. قلت:
هَذَا الْكَلَام من غير رِوَايَة إِذْ إِشَارَته، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى حُذَيْفَة أَو قَوْله:
(استرني) ، لم يكن إلاَّ قبل شُرُوعه فِي الْبَوْل، فَكيف
يظنّ من ذَلِك مَا قَالَه حَتَّى يَنْفِي ذَلِك؟ .
ويستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام مَا استنبط من الحَدِيث
السَّابِق. وَفِيه أَيْضا: جَوَاز طلب البائل من صَاحبه
الْقرب مِنْهُ ليستره. وَفِيه: أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، كَانَ إِذا أَرَادَ قَضَاء حَاجَة
الْإِنْسَان توارى عَن أعين النَّاس بِمَا يستره من حَائِط
أَو نَحوه، وَقَالَ ابْن بطال: من السّنة أَن يقرب من
البائل إِذا كَانَ قَائِما، هَذَا إِذا أَمن أَن يرى
مِنْهُ عَورَة، وَأما إِذا كَانَ قَاعِدا فَالسنة الْبعد
مِنْهُ، وَإِنَّمَا انتبذ حُذَيْفَة مِنْهُ لِئَلَّا يسمع
شَيْئا مِمَّا جرى فِي الحَدِيث، فَلَمَّا بَال، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، قَائِما، وَأمن، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، مَا خشيه حُذَيْفَة أمره بِالْقربِ
مِنْهُ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَإِنَّمَا بعد مِنْهُ
وعينه ترَاهُ لِأَنَّهُ كَانَ يَحْرُسهُ، اي: يحرس
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: هَذَا
إِنَّمَا يَتَأَتَّى قبل نزُول قَوْله تَعَالَى: {وَالله
يَعْصِمك من النَّاس} (الْمَائِدَة: 67) لِأَنَّهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَحْرُسهُ جمَاعَة من
الصَّحَابَة قبل نزُول هَذِه الْآيَة، فَلَمَّا نزلت ترك
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحرس.
62 - (بابُ البَوْلِ عِنْدَ سُباطَةِ قوْمٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْبَوْل عِنْد جمَاعَة من
النَّاس، وَهَذَا الْبَاب، والبابان اللَّذَان قبله،
حَدِيث حُذَيْفَة رَضِي الله عَنهُ، غير أَن كلاًّ مِنْهَا
عَن شيخ، وَترْجم لكل وَاحِد مِنْهَا تَرْجَمَة تناسب معنى
من مَعَاني الحَدِيث الْمَذْكُور.
والمناسبة بَينهَا ظَاهِرَة لَا تطلب.
226 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ عَرْعَرَةَ قَالَ حَدثنَا
شُعْبَةُ عنْ منْصُورٍ عنْ أبي وَائِلٍ قَالَ كانَ أبُو
مُوسَى الاشْعَرِيُّ يُشَدِّدُ فِي البَوْلِ ويَقُولُ إنَّ
بَني إسْرَائِيلَ كانَ إِذا أَصابَ ثَوْبَ أَحَدِهِمْ
فَرَضَهُ فقالَ حُذَيْفَةُ لَيْتَهُ اَمْسَكَ أَتَى رسولُ
اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُباطَةَ قَوْمٍ فَبَالَ
قائِماً.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. قيل: إتْيَان حَدِيث
وَاحِد من شخص وَاحِد فِي ثَلَاثَة أَبْوَاب لَيْسَ لَهُ
زِيَادَة فَائِدَة. قلت: فَائِدَته تنادي بِأَعْلَى صَوته،
وَلَكِن قَاصِر الْفَهم بمعزل من هَذِه الْفَائِدَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة، كلهم قد تقدمُوا، وَتقدم ذكر
أبي
(3/137)
مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي بَاب: أَي:
الْإِسْلَام أفضل، واسْمه عبد الله بن قيس، وَأَبُو وَائِل
شَقِيق.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضعي، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين، وَرُوَاته مَا بَين
شَامي ومصري وكوفي.
وتعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: تقدم فِي بَاب الْبَوْل
قَائِما.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: (يشدد) ، جملَة فِي مَحل
النصب على أَنه خبر: كَانَ، وَمَعْنَاهُ: كَانَ يحْتَاط
عَظِيما فِي الِاحْتِرَاز عَن رشاشاته، حَتَّى كَانَ
يَبُول فِي القارورة خوفًا أَن يُصِيبهُ من رشاشاته شَيْء.
وَأخرج ابْن الْمُنْذر من طَرِيق عبد الرَّحْمَن بن
الْأسود عَن أَبِيه أَنه سمع أَبَا مُوسَى، وَرَأى رجلا
يَبُول قَائِما، قَالَ: وَيحك أَفلا قَاعِدا، ثمَّ ذكر
قصَّة بني اسرائيل، وَبَنُو اسرائيل بَنو يَعْقُوب،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، واسرائيل لقبه. قَوْله:
(كَانَ إِذا أصَاب ثوب احدهم) الضَّمِير فِي: كَانَ، ضمير
الشَّأْن، وَالْجُمْلَة الشّرطِيَّة خَبره، وَبِهَذَا لَا
يرد سُؤال الْكرْمَانِي بقوله: فان قلت: بَنو، جمع فَلم
أفرد ضمير: كَانَ، الرَّاجِع إِلَيْهِ؟ وَبَنُو
إِسْرَائِيل أَصله بنُون لإسرائيل، فَلَمَّا أضيف إِلَى
إِسْرَائِيل سَقَطت نون الْجمع.
فان قلت: مَا وَجه تلقيب يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم الْخَلِيل، عَلَيْهِم السَّلَام، بإسرائيل؟
قلت: كَانَ يَعْقُوب وعيصو أَخَوَيْنِ، كَانَا فِي بطن
أمهما مَعًا. فَلَمَّا جَاءَ وَقت وضعهما اقتتلا فِي
بَطنهَا لأجل الْخُرُوج أَولا، فَقَالَ عيصو: وَالله لَئِن
خرجت قبلي الاعترض فِي بطن أُمِّي لأقتلها، فَتَأَخر
يَعْقُوب وَخرج عيصو قبله، فَسمى: عيصو، لِأَنَّهُ عصى،
وسمى: يَعْقُوب، لِأَنَّهُ خرج آخِذا بعقب عيصو. وَكَانَ
يَعْقُوب أكبرهما فِي الْبَطن، وَكَانَ أحبهما إِلَى أمه،
وَكَانَ: عيصو، أحبهما إِلَى أَبِيه، وَكَانَ صَاحب صيد،
فَلَمَّا كبر أَبوهُمَا إِسْحَاق وَعمي قَالَ لعيصو: يَا
بني أَطْعمنِي لحم صيد أدعُ لَك بِدُعَاء كَانَ ابي دَعَا
لي بِهِ، وَكَانَ أشعر، وَكَانَ يَعْقُوب أجرد، فَخرج عيصو
إِلَى الصَّيْد، وَقَالَت أمه ليعقوب: خُذ شَاة واشوها
والبس جلدهَا، وقدمها إِلَى أَبِيك، وَقل لَهُ: أَنا ابْنك
عيصو، فَفعل، فمسه إِسْحَاق فَقَالَ: المسّ مسّ عيصو،
وَالرِّيح ريح يَعْقُوب، فَقَالَت أمه: ابْنك عيصو فَادع
لَهُ، فَأكل مِنْهَا ودعا لَهُ بِأَن الله يَجْعَل فِي
ذُريَّته الْأَنْبِيَاء والملوك، ثمَّ جَاءَ عيصو بالصيد
فَقَالَ إِسْحَاق: يَا بني قد سَبَقَك أَخُوك، فَغَضب
وَقَالَ: وَالله لاقتلنه. فَقَالَ اسحاق: يَا بني قد بقيت
دَعْوَة، فَدَعَا لَهُ: بِأَن تكون ذُريَّته عدد التُّرَاب
وَلَا يملكهم أحد. وَقَالَت أم يَعْقُوب: إلحق بخالك فَكُن
عِنْده، خشيَة أَن يقْتله عيصو، فَانْطَلق يَعْقُوب إِلَى
خَاله لابان، وَكَانَ بِبَابِل، وَقيل: بحرَّان، فَكَانَ
يسير بِاللَّيْلِ ويكمن بِالنَّهَارِ، فَلذَلِك سمي
إِسْرَائِيل، فَأخذ من: السرى وَاللَّيْل، قَالَه السّديّ.
وَقَالَ غَيره: مَعْنَاهُ عبد الله، لِأَن: ايل، اسْم من
أَسمَاء الله تَعَالَى بالسُّرْيَانيَّة، كَمَا يُقَال:
جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل.
قَوْله: (اذا اصاب) اي: الْبَوْل (و: ثوب أحدهم) ،
بِالنّصب مَفْعُوله، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم: (إِذا
أصَاب جلد أحدهم) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مُرَاده
بِالْجلدِ: وَاحِد الْجُلُود الَّتِي كَانُوا يلبسونها،
وَحمله بَعضهم على ظَاهره، وَزعم أَنه من الإصر الَّذِي
حملوه، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة ابي دَاوُد، حَيْثُ قَالَ:
حَدثنَا مُسَدّد، قَالَ: حَدثنَا عبد الْوَاحِد بن زِيَاد،
قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش عَن زيد بن وهب عَن عبد
الرَّحْمَن بن حَسَنَة، قَالَ: انْطَلَقت أَنا وَعَمْرو بن
العَاصِي إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَخرج
وَمَعَهُ دورقة ثمَّ استتر بهَا ثمَّ بَال، فَقُلْنَا:
انْظُرُوا إِلَيْهِ يَبُول كَمَا تبول الْمَرْأَة، فَسمع
ذَلِك، فَقَالَ: ألم تعلمُوا مَا لَقِي صَاحب بني اسرائيل؟
كَانُوا إِذا أَصَابَهُم الْبَوْل قطعُوا مَا أَصَابَهُ
الْبَوْل مِنْهُم، فنهاهم، فعذب فِي قَبره. قَالَ مَنْصُور
عَن ابي وَائِل عَن ابي مُوسَى: جلد أحدهم، وَقَالَ عَاصِم
عَن ابي وَائِل عَن ابي مُوسَى: جَسَد أحدهم. قَوْله:
(انْظُرُوا اليه يَبُول كَمَا تبول الْمَرْأَة) ، وَهَذَا
القَوْل مِنْهُمَا من غير قصد، أَو وَقع بطرِيق
التَّعَجُّب، أَو بطرِيق الاستفسار عَن هَذَا الْفِعْل،
فَلذَلِك قَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بقوله:
(الم تعلمُوا) الخ، ولِمَ يَقُولُونَ هَذَا القَوْل بطرِيق
الِاسْتِهْزَاء وَالِاسْتِخْفَاف، لِأَن الصَّحَابَة برَاء
من هَذَا الْكَلَام: وَأَرَادَ بِصَاحِب بني اسرائيل:
مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. فان قلت: كَيفَ
يَتَرَتَّب قَوْله: (فعذب) على قَوْله: (فنهاهم) ؟ قلت:
فِيهِ حذف تَقْدِيره: فنهاهم عَن إِصَابَة الْبَوْل وَلم
ينْتَهوا، فعذب الله تَعَالَى. و: الْفَاء، فِي: فعذب،
فَاء السَّبَبِيَّة نَحْو قَوْله تَعَالَى: {فوكزه مُوسَى
فَقضى عَلَيْهِ} (الْقَصَص: 15) قَوْله: (قرضه) بِالْقَافِ
أَي: قطعه، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: (قرضه بالمقراض) ،
وَهَذِه الرِّوَايَة ترد قَول من يَقُول: المُرَاد بالقرض:
الْغسْل بِالْمَاءِ. قَوْله: (ليته أمسك) ، قَول حُذَيْفَة
أَي: لَيْت أَبَا مُوسَى أمسك نَفسه عَن هَذَا
التَّشْدِيد، أَو لِسَانه عَن هَذَا القَوْل، أَو كليهمَا
عَن كليهمَا، ومقصوده: أَن هَذَا التَّشْدِيد خلاف السّنة،
فَإِن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بَال
قَائِما، وَلَا شكّ فِي كَون الْقَائِم معرضًا للرشاش،
وَلم يلْتَفت، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، إِلَى
هَذَا الِاحْتِمَال، وَلم يتَكَلَّف الْبَوْل فِي
القارورة؛ وَقَالَ ابْن بطال: وَهُوَ حجَّة لمن رخص فِي
يسير الْبَوْل، لِأَن الْمَعْهُود مِمَّن بَال قَائِما أَن
(3/138)
يتطاير إِلَيْهِ مثل رُؤُوس الأبر، وَفِيه يسر وسماحة على
هَذِه الْأمة حَيْثُ لم يُوجب الْقَرْض كَمَا أوجب على بني
إِسْرَائِيل، وَاخْتلفُوا فِي مِقْدَار رُؤُوس الأبر من
الْبَوْل فَقَالَ مَالك: يغسلهَا اسْتِحْبَابا وتنزهاً،
وَالشَّافِعِيّ: يغسلهَا وجوبا وَأَبُو حنيفَة سهل فيهمَا
كَمَا فِي يسير كل النَّجَاسَات، وَقَالَ الثَّوْريّ:
كَانُوا يرخصون فِي الْقَلِيل من الْبَوْل. |