عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 63 - (بابُ غَسْلِ الدَّمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الدَّم، بِفَتْح
الْغَيْن، وَأَرَادَ بِهِ دم الْحيض.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة لِأَن كلاًّ
مِنْهُمَا فِي بَيَان إِزَالَة النَّجَاسَة، فَفِي الأول
عَن الْبَوْل، وَفِي الثَّانِي عَن الدَّم، وَكِلَاهُمَا
فِي النَّجَاسَة سَوَاء.
227 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المثَنَّي قَالَ حَدثنَا
يَحْيىَ عنْ هِشامٍ قَالَ حدثَتْنِي فاطِمَةُ عنْ
أَسْمَاءَ قالَتْ جاءَتِ امْرأَةٌ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَقالَتْ أرأَيْتَ إحْدَانَا تَحِيضُ فِي
الثَوْبِ كَيْفَ تَصْنَعُ قَالَ تَحتهُ ثُمَّ تَقْرُصُهُ
بالمَاءِ وتنْضَحُهُ وَتُصَلِّي فِيهِ.
(الحَدِيث 227 طرفه فِي: 307) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِفَتْح
النُّون: وَهُوَ الْمَعْرُوف بالزَّمن، وَيحيى هُوَ: ابْن
سعيد الْقطَّان، وَهِشَام هُوَ: ابْن عُرْوَة بن الزبير،
وَقد تقدمُوا فِي بَاب: أحب الدّين إِلَى الله أَدْوَمه،
وَفَاطِمَة هِيَ: بنت الْمُنْذر بن الزبير زَوْجَة هِشَام
الْمَذْكُور، تروي عَن جدَّتهَا أَسمَاء بنت أبي بكر
الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمَعْرُوفَة:
بِذَات النطاقين، تقدمتا فِي بَاب: من أجَاب الْفتيا
بِإِشَارَة.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة
فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الْأُنْثَى؛ وَرُوَاته مَا
بَين شَامي ومصري.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
هُنَا، وَفِي الْبيُوع أَيْضا عَن عبد الله بن يُوسُف عَن
مَالك، وَفِي الصَّلَاة عَن أبي مُوسَى عَن يحيى. وَأخرجه
مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن
وَكِيع، وَعَن مُحَمَّد ابْن حَاتِم عَن يحيى، وَعَن أبي
كريب عَن عبد الله بن نمير، وَعَن أبي الطَّاهِر بن
السَّرْح، وَعَن ابْن وهب عَن يحيى بن عبد الله ابْن سَالم
وَمَالك وَعَمْرو بن الْحَارِث. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الطَّهَارَة عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَعَن مُسَدّد عَن
حَمَّاد بن زيد وَعِيسَى بن يُونُس، وَعَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد بن سَلمَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ
فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن سُفْيَان، عشرتهم عَن
هِشَام بن عُرْوَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
يحيى بن حبيب عَن حَمَّاد بن زيد بِهِ. وَأخرجه ابْن
مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد
الْأَحْمَر عَن هِشَام بن عُرْوَة بِهِ.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه قَوْله: (تَحْتَهُ) من: حت الشي
عَن الثَّوْب وَغَيره يحته حتاً: فركه وقشره فانحت، وتحات.
وَفِي (الْمُنْتَهى) : الحت: حتك الْوَرق من الشّجر،
والمني وَالدَّم وَنَحْوهمَا من الثَّوْب وَغَيره، وَهُوَ
دون النحت. وَعند ابْن طريف: حت الشَّيْء: نفضه. وَقيل:
مَعْنَاهُ تحكه، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن
خُزَيْمَة. قَوْله: (تقرصه) قَالَ فِي (الْمغرب) : الحت:
القرص بِالْيَدِ، والقرص بأطراف الْأَصَابِع. وَفِي
(الْمُحكم) القرص التخميش والغمز بالأصبع، والمقرص: المقطع
الْمَأْخُوذ من شَيْئَيْنِ، وَقد قرضه وقرصه. وَفِي
(الْجَامِع) كل مقطع مقرض. وَفِي (الصِّحَاح) : أقرصيه
بِمَاء أَي: اغسليه بأطراف أصابعك، ويروى: قرضيه،
بِالتَّشْدِيدِ. وَقَالَ ابو عبيد: أَي: قطعيه. وَقَالَ
فِي (مجمع الغرائب) : هُوَ أبلغ فِي إذهاب الْأَثر عَن
الثَّوْب. وَقَالَ عِيَاض: روينَاهُ بِفَتْح التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْقَاف وَضم الرَّاء وبضم
التَّاء وَفتح الْقَاف وَكسر الرَّاء الْمُشَدّدَة. قَالَ:
وَهُوَ الدَّلْك بأطراف الْأَصَابِع مَعَ صب المَاء
عَلَيْهِ حَتَّى يذهب أَثَره. قَوْله: (وتنضحه) أَي:
تغسله، قَالَه الْخطابِيّ: وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ:
المُرَاد بِهِ الرش، وَهُوَ من بَاب: فتح يفتح، بِفَتْح
عين الْفِعْل فيهمَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: تنضحه،
بِكَسْر الضَّاد: وَكَذَا قَالَ مغلطاي فِي شَرحه، وَهُوَ
غلط. قَوْله: (إحدانا) مُبْتَدأ وَقَوله: (تحيض) خَبره،
قَوْله: (كَيفَ تصنع) ؟ يتَعَلَّق بقوله: (أَرَأَيْت) .
(3/139)
بَيَان معانية قَوْله: (جَاءَت امْرَأَة)
وَقع رِوَايَة الشَّافِعِي، رَحمَه الله تَعَالَى، عَنهُ
عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن هِشَام فِي هَذَا الحَدِيث:
أَن أَسمَاء هِيَ السائلة، وَأنكر النَّوَوِيّ هَذَا،
وَضعف هَذِه الرِّوَايَة، وَلَا وَجه لإنكاره، لِأَنَّهُ
لَا يبعد أَن يبهم الرَّاوِي اسْم نَفسه، وَقد وَقع مثل
هَذَا فِي حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله عَنهُ، فِي قصَّة
الرّقية بِفَاتِحَة الْكتاب. قَوْله: (أَرَأَيْت) أَي:
أَخْبرنِي، قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ، وَفِيه تجوز لإِطْلَاق
الرُّؤْيَة، وَإِرَادَة الْإِخْبَار، لِأَن الرُّؤْيَة
سَبَب الْإِخْبَار، وَجعل الِاسْتِفْهَام بِمَعْنى الْأَمر
بِجَامِع الطّلب. قَوْله: (تحيض فِي الثَّوْب) أَي: يصل دم
الْحيض إِلَى الثَّوْب، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي. قلت:
الْمَعْنى: تحيض حَال كَونهَا فِي الثَّوْب، وَمن ضَرُورَة
ذَلِك وُصُول الدَّم إِلَى الثَّوْب. وللبخاري، من طَرِيق
مَالك عَن هِشَام: إِذا أصَاب ثوبها الدَّم من الْحيض،
وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن أَسمَاء: (سَمِعت امْرَأَة
تسْأَل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: كَيفَ
تصنع إحدانا بثوبها إِذا رَأَتْ الطُّهْر أتصلى فِيهِ؟
قَالَ: تنظر، فَإِن رَأَتْ فِيهِ دَمًا فلتقرصه بِشَيْء من
مَاء، ولتنضح مَا لم تَرَ ولتصل
فِيهِ) . وَعند مُسلم: (الْمَرْأَة تصيب ثوبها من دم
الْحَيْضَة) ، وَعند التِّرْمِذِيّ: (إقرصيه بِمَاء ثمَّ
رشيه) . وَعند ابْن خُزَيْمَة: (كَيفَ تصنع بثيابها
الَّتِي كَانَت تلبس؟ فَقَالَ إِن رَأَتْ فِيهَا شَيْئا
فلتحكه ثمَّ لتقرصه بِشَيْء من مَاء، وتنضح فِي سَائِر
الثَّوْب بِمَاء، ولتصل فِيهِ) . وَفِي لفظ: (إِن رَأَيْت
فِيهِ دَمًا فحكيه) . وَفِي لفظ: (رشيه وَصلي فِيهِ) .
وَفِي لفظ: (ثمَّ تنضحه وَتصلي فِيهِ) . وَعند أبي نعيم:
(لتحته ثمَّ لتقرصه ثمَّ لتنضحه ثمَّ لتصل فِيهِ) . وَفِي
حَدِيث مُجَاهِد عَن عَائِشَة البُخَارِيّ: (مَا كَانَ
لإحدانا إلاَّ ثوب وَاحِد تحيض فِيهِ، فَإِذا أَصَابَهُ
شَيْء من دم قَالَت بريقها، فمعنعته بظفرها) . أَي: عركته.
وَاخْتلف فِي سَماع مُجَاهِد عَن عَائِشَة، فَأنكرهُ ابْن
حبَان وَيحيى بن معِين وَيحيى بن سعيد وَشعْبَة
وَآخَرُونَ، وأثبته البُخَارِيّ وَعلي بن الْمَدِينِيّ
وَمُسلم وَآخَرُونَ، وَعند البُخَارِيّ من حَدِيث
الْقَاسِم عَنْهَا: (ثمَّ تقرص الدَّم من ثوبها عِنْد
طهرهَا فتغسله وتنضح على سائره ثمَّ تصلي فِيهِ) . وَفِي
حَدِيث أم قيس بنت مُحصن، عِنْد ابْن خُزَيْمَة، وَابْن
حبَان: (إغسليه بِالْمَاءِ والسدر وحكيه وَلَو بضلع) ،
زَاد ابْن حبَان قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اغسليه
بِالْمَاءِ) ، أَمر فرض، وَذكر السدر والحك بالضلع أَمر
ندب وإرشاد. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: هُوَ حَدِيث فِي
غَايَة الصِّحَّة، وَعَابَ على أبي أَحْمد قَوْله:
الْأَحَادِيث الصِّحَاح لَيْسَ فِيهَا ذكر الضلع والسدر،
وَعند أبي أَحْمد العسكري: (حكيه بضلع واتبعيه بِمَاء
وَسدر) . وَعند أَحْمد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: (إِن خَوْلَة بنت يسَار قَالَت: يَا
رَسُول الله لَيْسَ لي إلاَّ ثوب وَاحِد، وَأَنا أحيض
فِيهِ، قَالَ: فَإِذا طهرت فاغسلي مَوضِع حيضك ثمَّ صلي
فِيهِ، قَالَت: يَا رَسُول الله أرى لم يخرج اثره، قَالَ:
يَكْفِيك المَاء وَلَا يَضرك أَثَره) . وَلما ذكره ابْن
أبي خَيْثَمَة فِي (تَارِيخه الْكَبِير) جعله من مُسْند
خَوْلَة، وَكَذَلِكَ الطَّبَرَانِيّ، وَفِي (سنَن أبي
دَاوُد) عَن امْرَأَة من غفار: (أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لما رأى ثِيَابهَا من الدَّم، قَالَ: أصلحي
من نَفسك، ثمَّ خذي إِنَاء من مَاء واطرحي فِيهِ ملحاً،
ثمَّ اغسلي مَا أصَاب حقيبة الرجل من الدَّم، ثمَّ عودي
لمركبك) . وَعند الدَّارمِيّ، بِسَنَد فِيهِ ضعف عَن أم
سَلمَة، رَضِي الله عَنْهَا: (إِن إِحْدَاهُنَّ تسبقها
القطرة من الدَّم. فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِذا
أصَاب إحداكن بذلك فلتقصعه بريقها. وَعند ابْن خُزَيْمَة:
وَقيل لَهَا: كَيفَ كنتن تصنعن بثيابكن إِذا طمثن على عهد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَت: إِن كُنَّا
لنطمث فِي ثيابنا أَو فِي دروعنا، فَمَا نغسل مِنْهُ إلاَّ
أثر مَا أَصَابَهُ الدَّم. قَوْله: (تَحْتَهُ) الضَّمِير
الْمَنْصُوب فِيهِ، وَفِي قَوْله: (ثمَّ تقرصه) يرجع إِلَى
الثَّوْب. وَفِي قَوْله: و (تنضحه) يرجع إِلَى المَاء،
وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن الخاطبي قَالَ: تنضحه أَي:
تغسله. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: المُرَاد بِهِ الرش، لِأَن
غسل الدَّم اسْتُفِيدَ من قَوْله: (تقرصه بِالْمَاءِ) ،
وَأما النَّضْح فَهُوَ لما شكّ فِيهِ من الثَّوْب. وَقَالَ
بَعضهم: فعلى هَذَا الضَّمِير فِي قَوْله: (تنضحه) يعود
على الثَّوْب، بِخِلَاف: تَحْتَهُ، فَإِنَّهُ يعود على
الدَّم، فَيلْزم مِنْهُ إختلاف الضمائر، وَهُوَ على خلاف
الأَصْل. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن لفظ: الدَّم، غير
مَذْكُور صَرِيحًا، وَالْأَصْل فِي عود الضَّمِير أَن يكون
إِلَى شَيْء صَرِيح، وَالْمَذْكُور هُنَا صَرِيحًا:
الثَّوْب وَالْمَاء، فالضميران الْأَوَّلَانِ يرجعان إِلَى
الثَّوْب لِأَنَّهُ الْمَذْكُور قبلهمَا، وَالضَّمِير
الثَّالِث يرجع إِلَى: المَاء، لِأَنَّهُ الْمَذْكُور
قبله، وَهَذَا هُوَ الأَصْل. ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل
أَيْضا: ثمَّ إِن الرش على الْمَشْكُوك فِيهِ لَا يُفِيد
شَيْئا، لِأَنَّهُ إِن كَانَ طَاهِرا فَلَا حَاجَة
إِلَيْهِ، وَإِن كَانَ متنجساً لم يتَطَهَّر بذلك،
فَالْأَحْسَن مَا قَالَه الخاطبي. قلت: الَّذِي قَالَه
الْقُرْطُبِيّ هُوَ الْأَحْسَن لِأَنَّهُ يلْزم التّكْرَار
من قَول الخاطبي بِلَا فَائِدَة، لأَنا ذكرنَا أَن الحت
هُوَ الفرك، والقرص هُوَ الدَّلْك بأطراف الاصابع مَعَ صب
المَاء عَلَيْهِ حَتَّى يذهب أَثَره، لما نَقَلْنَاهُ عَن
القَاضِي عِيَاض،
(3/140)
ففهم الْغسْل من لَفْظَة القرص، فَإِذا
قُلْنَا: الرش بِمَعْنى الْغسْل يلْزم التّكْرَار، ثمَّ
قَوْله: ثمَّ إِن الرش ... إِلَى آخِره، كَلَام من غير
رُوِيَ، لِأَن الرش هَهُنَا لإِزَالَة الشَّك المتردد فِي
الخاطر، كَمَا جَاءَ فِي رش المتوضىء المَاء على سراويله
بعد فَرَاغه من الْوضُوء، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ على الْوَجْه
الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَافْهَم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: مَا قَالَه الخاطبي:
إِن فِيهِ دَلِيلا على أَن النَّجَاسَات إِنَّمَا تَزُول
بِالْمَاءِ دون غَيره من الْمَائِعَات، لَان جَمِيع
النَّجَاسَات بِمَثَابَة الدَّم، لَا فرق بَينه وَبَينهَا
إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ اسْتدلَّ بِهِ الْبَيْهَقِيّ فِي
(سنَنه) على أَصْحَابنَا فِي وجوب الطَّهَارَة بِالْمَاءِ
دون غَيره من الْمَائِعَات الطاهرة. قلت: هَذَا خرج مخرج
الْغَالِب لَا مخرج الشَّرْط، كَقَوْلِه تَعَالَى:
{وربائبكم اللَّاتِي فِي حجوركم} (النِّسَاء: 23)
وَالْمعْنَى فِي ذَلِك أَن المَاء أَكثر وجودا من غَيره،
أَو نقُول: تَخْصِيص الشَّيْء بِالذكر لَا يدل على نفي
الحكم عَمَّا عداهُ، أَو نقُول: إِنَّه مَفْهُوم لقب،
وَلَا يَقُول بِهِ إمامنا.
وَمِنْهَا: أَنه يدل على وجوب غسل النَّجَاسَات من
الثِّيَاب، وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث أَسمَاء أصل عِنْد
الْعلمَاء فِي غسل النَّجَاسَات من الثِّيَاب، ثمَّ قَالَ:
وَهَذَا الحَدِيث مَحْمُول عِنْدهم على الدَّم الْكثير،
لِأَن الله تَعَالَى شَرط فِي نَجَاسَته أَن يكون مسفوحاً،
وَهُوَ كِنَايَة عَن الْكثير الْجَارِي إلاَّ أَن
الْفُقَهَاء اخْتلفُوا فِي مِقْدَار مَا يتَجَاوَز عَنهُ
من الدَّم، فَاعْتبر الْكُوفِيُّونَ فِيهِ، وَفِي
النَّجَاسَات دون الدِّرْهَم فِي الْفرق بَين قَلِيله
وَكَثِيره. وَقَالَ مَالك: قَلِيل الدَّم مَعْفُو، وَيغسل
قَلِيل سَائِر النَّجَاسَات. وَرُوِيَ عَن ابْن وهب: إِن
قَلِيل دم الْحيض ككثيره وكسائر الأنجاس، بِخِلَاف سَائِر
الدِّمَاء، وَالْحجّة فِي أَن الْيَسِير من دم الْحيض
كالكثير قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأسماء: (حتيه
ثمَّ اقرصيه) ، حَيْثُ لم يفرق بَين قَلِيله وَكَثِيره،
وَلَا سَأَلَهَا عَن مِقْدَاره وَلم يحد فِيهِ مِقْدَار
الدِّرْهَم وَلَا دونه. قلت: حَدِيث عَائِشَة: (مَا كَانَ
لإحدانا إلاَّ ثَوَاب وَاحِد فِيهِ تحيض فَإِن أَصَابَهُ
شَيْء من دم بلته بريقها، ثمَّ قصعته بريقها) رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا، وَلَفظه:
(قَالَت بريقها فمصعته) ، يدل على الْفرق بَين الْقَلِيل
وَالْكثير، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: هَذَا فِي الدَّم
الْيَسِير الَّذِي يكون معفواً عَنهُ، وَأما الْكثير
مِنْهُ فصح عَنْهَا. أَي: عَن عَائِشَة. أَنَّهَا كَانَت
تغسله، فَهَذَا حجَّة عَلَيْهِم فِي عدم الْفرق بَين
الْقَلِيل وَالْكثير من النَّجَاسَة، وعَلى الشَّافِعِي
أَيْضا فِي قَوْله: (إِن يسير الدَّم يغسل كَسَائِر
الأنجاس إلاَّ دم الراغيث، فَإِنَّهُ لَا يُمكن
التَّحَرُّز عَنهُ) . وَقد رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة،
رَضِي الله عَنهُ، أَنه لَا يرى بالقطرة والقطرتين بَأْسا
فِي الصَّلَاة، وعصر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، بثرة فَخرج مِنْهَا دم فمسحه بِيَدِهِ وَصلى،
فالشافعية لَيْسُوا بإكثر إحتياطاً من أبي هُرَيْرَة
وَابْن عمر، وَلَا أَكثر رِوَايَة عَنْهُمَا حَتَّى
خالفوهما، حَيْثُ لم يفرقُوا بَين الْقَلِيل وَالْكثير،
على أَن قَلِيل الدَّم مَوضِع ضَرُورَة، لِأَن الْإِنْسَان
لَا يَخْلُو فِي غَالب حَاله من بثرة أَو دمل أَو برغوث،
فعفى عَنهُ، وَلِهَذَا حرم الله المسفوح مِنْهُ، فَدلَّ
أَن غَيره لَيْسَ بِمحرم، وَأما تَقْدِير أَصْحَابنَا
الْقَلِيل بِقدر الدِّرْهَم، فَلَمَّا ذكره صَاحب
(الاسرار) عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود أَنَّهُمَا قدرا
النَّجَاسَة بالدرهم، وكفي بهما حجَّة فِي الِاقْتِدَاء.
وَرُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَيْضا أَنه
قدره بظفره، وَفِي (الْمُحِيط) : وَكَانَ ظفره قَرِيبا من
كفنا، فَدلَّ على أَن مَا دون الدِّرْهَم لَا يمْنَع.
وَقَالَ فِي (الْمُحِيط) أَيْضا: الدِّرْهَم الْكَبِير مَا
يكون مثل عرض الْكَفّ، وَفِي صَلَاة الأَصْل: الدِّرْهَم
الْكَبِير المثقال يَعْنِي: يبلغ مِثْقَالا. وَعند
السَّرخسِيّ: يعْتَبر بدرهم زَمَانه، وَأما الحَدِيث
الَّذِي روايه الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) عَن روح بن
غطيف عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (تُعَاد
الصَّلَاة من قدر دِرْهَم من الدَّم) ، وَفِي لفظ: (إِذا
كَانَ فِي الثَّوْب قدر الدِّرْهَم من الدَّم غسل الثَّوْب
وأعيدت الصَّلَاة) . وَإِن اصحابنا لم يحتجوا بِهِ،
لِأَنَّهُ حَدِيث مُنكر، بل قَالَ البُخَارِيّ: إِنَّه
بَاطِل. فَإِن قلت: النَّص وَهُوَ قَوْله: {وثيابك فطهر}
(المدثر: 4) لم يفصل بَين الْقَلِيل وَالْكثير، فَلَا
يُعْفَى الْقَلِيل. قلت: الْقَلِيل غير مُرَاد مِنْهُ
بِالْإِجْمَاع بِدَلِيل عَفْو مَوضِع الِاسْتِنْجَاء
فَتعين الْكثير، وَقد قدر الْكثير بالآثار.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الدّلَالَة على أَن الدَّم نجس
بِالْإِجْمَاع.
وَمِنْهَا: أَن فِيهِ الدّلَالَة على أَن الْعدَد لَيْسَ
بِشَرْط فِي إِزَالَة النَّجَاسَة بل المُرَاد الإنقاء.
وَمِنْهَا: أَنَّهَا إِذا لم تَرَ فِي ثوبها شَيْئا من
الدَّم ترش عَلَيْهِ مَاء وَتصلي فِيهِ.
228 - حدّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ حَدثنَا أبُو مُعاويَةَ
قَالَ حَدثنَا هِشامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عَنْ
عائِشَةَ قالَتْ جاءَتْ فاطِمَةُ ابْنةُ أبي حُبَيْشٍ
إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَتْ يَا رسولَ
اللَّهِ إنِّي امْرَأةٌ
(3/141)
اُسْتَحَاضُ فَلاَ أَطْهُرُ أَفَأَدَعُ
الصَّلاةَ فَقالَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لَا إنَّما ذلِكِ عِرْقٌ ولَيْسَ بِحَيْضٍ فاذَا
أَقْبَلَتْ حَيْضَتُكِ فدَعِي الصَّلاةَ وَإِذا أَدْبَرتْ
فاغْسلِي عَنْكِ الدَّمَ ثُمَّ صَلِّي قَالَ وَقَالَ أبي
ثُمَّ تَوَضَّئِي لكُلِّ صَلاةٍ حتَّى يَجىءَ ذلكِ
الوَقْتُ..
هَذَا الحَدِيث أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن سَلام،
بتَخْفِيف: اللَّام، البيكندي، تقدم فِي بَاب قَول
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَنا أعلمكُم
بِاللَّه) ، وَقد وَقع فِي أَكثر النّسخ عِنْد
الْأَكْثَرين: حَدثنَا مُحَمَّد، غير مَنْسُوب، وللأصيلي:
حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام وَلأبي ذَر: حَدثنَا مُحَمَّد،
وَهُوَ ابْن سَلام.
الثَّانِي: أَبُو مُعَاوِيَة الضَّرِير: مُحَمَّد بن خازم،
بالمعجمتين، وَقد تقدم عَن قريب. الثَّالِث: هِشَام بن
عُرْوَة بن الزبير، وَقد مر أَيْضا غير مرّة. الرَّابِع:
أَبُو عُرْوَة، كَذَلِك. الْخَامِس: عَائِشَة الصديقة بنت
الصّديق. السَّادِس: فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش، بِضَم
الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: القرشية
الأَسدِية، وَاسم أبي حُبَيْش: قيس بن الْمطلب، وَقَالَ
بَعضهم: قيس بن عبد الْمطلب. قَالَ بعض الشَّارِحين: وَقع
فِي أَكثر نسخ مُسلم: عبد الْمطلب، وَهُوَ غلط. قلت: هَذَا
هُوَ الصَّوَاب، وَكَذَا قَالَ الذَّهَبِيّ فِي (تَجْرِيد
الصَّحَابَة) : قيس بن الْمطلب بن أَسد، وَهُوَ الْمطلب بن
أَسد، وَهِي غير: فَاطِمَة بنت قيس، الَّتِي طلقت
ثَلَاثًا.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: ذكر أبي مُعَاوِيَة
هُنَا بالكنية، وَفِي بَاب غسل الْبَوْل بِالِاسْمِ،
رِعَايَة للفظ الشُّيُوخ. وَفِيه: حِكَايَة الصحابية عَن
سُؤال الصحابية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَفِيه: أَن البُخَارِيّ روى هَهُنَا عَن مُحَمَّد غير
مَنْسُوب عِنْد الْأَكْثَرين كَمَا ذكرنَا، وَصرح بِهِ فِي
النِّكَاح بقوله: حَدثنَا مُحَمَّد بن سَلام حَدثنَا أَبُو
مُعَاوِيَة ... وَذكر الكلاباذي أَن البُخَارِيّ روى عَن
مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي مُعَاوِيَة، وَعَن مُحَمَّد
بن سَلام عَن أبي مُعَاوِيَة، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم
الْأَصْبَهَانِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن
أبي مُعَاوِيَة، وَذكر أَن البُخَارِيّ رَوَاهُ عَن
مُحَمَّد بن الْمثنى عَن أبي مُعَاوِيَة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي
الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى، وَالتِّرْمِذِيّ عَن هناد
بن السّري، وَالنَّسَائِيّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم،
ثَلَاثَتهمْ عَن أبي مُعَاوِيَة بِهِ. وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
عَن أَحْمد بن يُونُس، وَعبد الله بن مُحَمَّد
النُّفَيْلِي، قَالَا: حَدثنَا زُهَيْر، قَالَ: حَدثنَا
هِشَام بن عُرْوَة عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا. وَأخرجه أَيْضا من مُسْند فَاطِمَة
الْمَذْكُور.
بَيَان لغته قَوْله: (استحاض) ، بِضَم الْهمزَة وَسُكُون
السِّين وَفتح التَّاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: استحيضت
الْمَرْأَة أَي: اسْتمرّ بهَا الدَّم بعد أَيَّامهَا،
فَهِيَ مُسْتَحَاضَة. وَفِي الشَّرْع: الْحيض عبارَة عَن
الدَّم الْخَارِج من الرَّحِم، وَهُوَ مَوضِع الْجِمَاع
والولادة لَا تعقب ولادَة مُقَدرا فِي وَقت مَعْلُوم،
وَقَالَ الْكَرْخِي: الْحيض دم تصير الْمَرْأَة بَالِغَة
بابتداء خُرُوجه، والاستحاضة اسْم لما نقص من أقل الْحيض
أَو زَاد على أَكْثَره. فان قلت: مَا وَجه بِنَاء الْفِعْل
للْفَاعِل فِي الْحيض، وللمفعول فِي الِاسْتِحَاضَة؟
فَقيل: استحيضت؟ قلت: لما كَانَ الأول: مُعْتَادا
مَعْرُوفا نسب إِلَيْهَا، وَالثَّانِي: لما كَانَ نَادرا
غير مَعْرُوف الْوَقْت، وَكَانَ مَنْسُوبا إِلَى
الشَّيْطَان، كَمَا ورد أَنَّهَا ركضة من الشَّيْطَان، بني
لما لم يسم فَاعله. فَإِن قلت: يجوز أَن تكون للتحول،
كَمَا فِي: استحجر الطين، وَهنا أَيْضا تحول دم الْحيض
إِلَى غير دَمه، وَهُوَ دم الأستحاضة. فَافْهَم. قَوْله:
(عرق) ، بِكَسْر الْعين وَسُكُون الرَّاء: وَهُوَ
الْمُسَمّى بالعادل، بِالْعينِ الْمُهْملَة والذال
الْمُعْجَمَة، وَحكي إهمالها. قَوْله: (وَلَيْسَ بحيض)
لِأَن الْحيض يخرج من قَعْر الرَّحِم كَمَا ذكرنَا.
قَوْله: (حيضتك) ، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، وَهُوَ
بِالْفَتْح: الْمرة، وبالكسر: اسْم للدم، والخرقة الَّتِي
تستثفر بهَا الْمَرْأَة وَالْحَالة. وَقَالَ الْخطابِيّ:
المحدثون يَقُولُونَ بِالْفَتْح، وَهُوَ خطأ، وَالصَّوَاب
الْكسر، لِأَن المُرَاد بهَا الْحَالة، ورده القَاضِي
وَغَيره، وَقَالُوا: الْأَظْهر الْفَتْح، لِأَن المُرَاد
إِذا أقبل الْحيض. قَوْله: (وَإِذا أَدْبَرت) من: الإدبار
وَهُوَ انْقِطَاع الْحيض.
بَيَان إعرابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (إِنِّي امْرَأَة) ، قد
علم أَن كلمة: لَا تسْتَعْمل إلاَّ عِنْد إِنْكَار
الْمُخَاطب لِلْقَوْلِ أَو التَّرَدُّد فِيهِ، وَمَا كَانَ
لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنْكَار لاستحاضتها
وَلَا تردد فِيهَا، فَوجه إستعمالها هَهُنَا يكون لتحقيق
نفس الْقَضِيَّة، إِذْ كَانَت بعيدَة الْوُقُوع نادرة
الْوُجُود، فَلذَلِك أكدت قَوْلهَا بِكَلِمَة: إِن قَوْله:
(أفأدع) أَي: أفأترك. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت:
الْهمزَة
(3/142)
تَقْتَضِي عدم المسبوقية بِالْغَيْر،
وَالْفَاء تَقْتَضِي المسبوقية بِهِ، فيكف يَجْتَمِعَانِ؟
قلت: هُوَ عطف على مُقَدّر أَي: ايكون لي حكم الْحَائِض
فَادع الصَّلَاة، أَو الْهمزَة مقحمة، أَو توسطها جَائِز
بَين المعطوفين إِذا كَانَ عطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة
لعدم انسحاب ذكر الأول على الثَّانِي، أَو الْهمزَة
بَاقِيَة على صرافة الاستفهامية، لِأَنَّهَا للتقرير
هُنَا، فَلَا يَقْتَضِي الصدارة. انْتهى كَلَامه. قلت:
هَذَا سُؤال عَن اسْتِمْرَار حكم الْحَائِض فِي حَالَة
دوَام الدَّم وإزالته، وَهُوَ كَلَام من تقرر عِنْده أَن
الْحَائِض مَمْنُوعَة من الصَّلَاة. قَوْله: (لَا أَي: لَا
تَدعِي الصَّلَاة. قَوْله: (ذَلِك) بِكَسْر الْكَاف.
قَوْله: (عرق) أَي: دم عرق، لِأَن الْخَارِج لَيْسَ بعرق.
قَوْله: (فَإِذا أَقبلت) أَي: الْحَيْضَة، (فدعي
الصَّلَاة) اي: اتركيها، (وَإِذا أَدْبَرت) أَي: إِذا
انْقَطَعت. فَإِن قلت: مَا عَلامَة إدبار الْحيض وإنقطاعه،
والحصول فِي الطُّهْر. قلت: أما عِنْد أبي حنيفَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، وَأَصْحَابه: الزَّمَان وَالْعَادَة
هُوَ الفيصل بَينهمَا، فَإِذا أضلت عَادَتهَا تحرت، وَإِن
لم يكن لَهَا ظن أخذت بِالْأَقَلِّ، وَأما عِنْد
الشَّافِعِي وَأَصْحَابه اخْتِلَاف الألوان هُوَ الفيصل،
فالأسود أقوى من الْأَحْمَر، والأحمر أقوى من الْأَشْقَر،
والأشقر أقوى من الْأَصْفَر، والأصفر أقوى من الأكدر إِذا
جعلا حيضا، فَتكون حَائِضًا فِي أَيَّام القوى،
مُسْتَحَاضَة فِي أَيَّام الضعْف، والتمييز عِنْده
بِثَلَاثَة شُرُوط: أَحدهَا: أَن لَا يزِيد الْقوي على
خَمْسَة عشر يَوْمًا. وَالثَّانِي: أَن لَا ينقص عَن يَوْم
وَلَيْلَة ليمكن جعله حيضا. وَالثَّالِث: أَن لَا ينقص
الضَّعِيف عَن خَمْسَة عشر يَوْمًا، ليمكن جعله طهرا بَين
الحيضتين، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد، وَقَالَ الثَّوْريّ:
عَلامَة إنقطاع الْحيض والحصول فِي الطُّهْر أَن يَنْقَطِع
خُرُوج الدَّم والصفرة والكدرة، سَوَاء خرجت رُطُوبَة
بَيْضَاء أَو لم يخرج شَيْء أصلا. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ،
وَابْن الصّباغ: الترية رُطُوبَة خَفِيفَة لَا صفرَة
فِيهَا وَلَا كدرة، تكون على القطنة أثر لَا لون، وَهَذَا
يكون بعد انْقِطَاع الْحيض. قلت: الترية، بِفَتْح
الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الرَّاء وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف، قَالَ ابْن الْأَثِير: الترية، بِالتَّشْدِيدِ:
مَا ترَاهُ الْمَرْأَة بعد الْحيض والاغتسال مِنْهُ من
كدرة أَو صفرَة. وَقيل: هُوَ الْبيَاض ترَاهُ عِنْد
الطُّهْر. وَقيل: هِيَ الْخِرْقَة الَّتِي تعرف بهَا
الْمَرْأَة حَيْضهَا من طهرهَا. و: التَّاء، فِيهَا
زَائِدَة، لِأَنَّهُ من الرُّؤْيَة، وَالْأَصْل فِيهَا
الْهَمْز لكِنهمْ تَرَكُوهُ وشددوا الْيَاء، فَصَارَت
اللَّفْظَة كَأَنَّهَا فعلية، وَبَعْضهمْ يشدد الرَّاء.
قَوْله: (فاغسلي عَنْك الدَّم ثمَّ صلي) ظَاهره مُشكل
لِأَنَّهُ لم يذكر الْغسْل وَلَا بُد بعد انْقِضَاء الْحيض
من الْغسْل، وَأجِيب، عَنهُ: بِأَن الْغسْل، وَإِن لم يذكر
فِي هَذِه الرِّوَايَة، فقد ذكر فِي رِوَايَة أُخْرَى
صَحِيحَة، قَالَ فِيهَا: فاغتسلي ... ، والْحَدِيث يُفَسر
بعضه بَعْضًا، وَجَوَاب آخر هُوَ: بِأَن يحمل الإدبار على
انْقِضَاء أَيَّام الْحيض والاغتسال. وَقَوله: (واغسلي
عَنْك الدَّم) مَحْمُول على: دم، يَأْتِي بعد الْغسْل،
وَالْأول أوجه وَأَصَح، وَأما قَول بَعضهم: فاغسلي عَنْك
الدَّم وَصلي، أَي: فاغتسلي، فَغير موجه أصلا. قَوْله:
(قَالَ: وَقَالَ أبي) أَي: قَالَ هِشَام بن عُرْوَة: قَالَ
أبي، وَهُوَ عُرْوَة ابْن الزبير. قَوْله: (ثمَّ توضيء لكل
صَلَاة) جملَة مقول القَوْل، وَادّعى قوم أَن قَوْله:
(ثمَّ توضيء) من كَلَام عُرْوَة مَوْقُوفا عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: فان قلت: لفظ: (توضئي) الخ مَرْفُوع
إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو هُوَ
مَوْقُوف على الصَّحَابِيّ؟ قلت: السِّيَاق يَقْتَضِي
الرّفْع، وَقَالَ بَعضهم: لَو كَانَ هَذَا كَلَام عُرْوَة
لقَالَ: ثمَّ تتوضأ، بِصِيغَة الْإِخْبَار، فَلَمَّا أَتَى
بِهِ بِصِيغَة الْأَمر شاكل الْأَمر الَّذِي فِي
الْمَرْفُوع، وَهُوَ قَوْله: (فاغسلي) . قلت: كَلَام كل من
الْكرْمَانِي وَهَذَا الْقَائِل احْتِمَال، فَلَا يَقع
بِهِ الْقطع وَلَا يلْزم من مشاكلة الصيغتين الرّفْع.
بَيَان استنباط الاحكام الأول: فِيهِ جَوَاز استفتاء
الْمَرْأَة بِنَفسِهَا ومشافهتها الرِّجَال فِيمَا
يتَعَلَّق بِأَمْر من أُمُور الدّين.
الثَّانِي: فِيهِ جَوَاز اسْتِمَاع صَوت الْمَرْأَة عِنْد
الْحَاجة الشَّرْعِيَّة.
الثَّالِث: فِيهِ نهي للمستحاضة عَن الصَّلَاة فِي زمن
الْحيض، وَهُوَ نهي تَحْرِيم، وَيَقْتَضِي فَسَاد
الصَّلَاة هُنَا بِإِجْمَاع الْمُسلمين، وَيَسْتَوِي
فِيهَا الْفَرْض وَالنَّفْل لظَاهِر الحَدِيث، ويتبعها
الطّواف وَصَلَاة الْجِنَازَة وَسجْدَة التِّلَاوَة
وَسجْدَة الشُّكْر.
الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على نَجَاسَة الدَّم.
الْخَامِس: فِيهِ أَن الصَّلَاة تجب بِمُجَرَّد انْقِطَاع
دم الْحيض. وَأعلم أَنَّهَا إِذا مضى زمن حَيْضهَا وَجب
عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل فِي الْحَال لأوّل صَلَاة تدركها،
وَلَا يجوز لَهَا بعد ذَلِك أَن تتْرك صَلَاة أَو صوما،
وَيكون حكمهَا حكم الطاهرات، فَلَا تستظهر بِشَيْء أصلا،
وَبِه قَالَ الشَّافِعِي. وَعَن مَالك ثَلَاث رِوَايَات:
الأولى: تستظهر ثَلَاثَة أَيَّام وَمَا بعد ذَلِك
اسْتِحَاضَة. وَالثَّانيَِة: تتْرك الصَّلَاة إِلَى
انْتِهَاء خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَهِي أَكثر مُدَّة الْحيض
عِنْده. وَالثَّالِثَة: كمذهبنا.
السَّادِس: اسْتدلَّ بعض أَصْحَابنَا فِي إِيجَاب الْوضُوء
من خُرُوج الدَّم من غير السَّبِيلَيْنِ، لِأَنَّهُ
(3/143)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علل نقض
الطَّهَارَة بِخُرُوج الدَّم من الْعرق، وكل دم يبرز من
الْبدن فَإِنَّمَا يبرز من عرق، لِأَن الْعُرُوق هِيَ
مجاري الدَّم من الْجَسَد. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَلَيْسَ
معنى الحَدِيث مَا ذهب إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ، وَلَا مُرَاد
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من ذَلِك مَا توهموه،
وَإِنَّمَا أَرَادَ أَن هَذِه الْعلَّة إِنَّمَا حدثت بهَا
من تصدع الْعرق، وتصدع الْعرق عِلّة مَعْرُوفَة عِنْد
الْأَطِبَّاء يحدث ذَلِك عِنْد غَلَبَة الدَّم فتتصدع
الْعُرُوق إِذا امْتَلَأت تِلْكَ الأوعية. قلت: لَيْسَ
معنى الحَدِيث مَا ذهب إِلَيْهِ الْخطابِيّ، لِأَنَّهُ قيد
إِطْلَاق الحَدِيث وخصص عُمُومه من غير مُخَصص، وَهُوَ
تَرْجِيح بِلَا مُرَجّح وَهُوَ بَاطِل.
السَّابِع: قَوْله: (لكل صَلَاة) فِيهِ خلاف بَين
الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة، وَهُوَ أَن
الْمُسْتَحَاضَة وَمن بمعناها من أَصْحَاب الْأَعْذَار هَل
يتوضؤون لكل صَلَاة، أَو لكل وَقت صَلَاة، وَهُوَ مَذْكُور
فِي كتب الْفِقْه.
64 - (بابُ غسْلِ المَنِيِّ وفَرْكِهِ وغَسْل مَا يُصِيبُ
مِنَ المَرْأَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الْمَنِيّ عِنْد كَونه
رطبا، وَبَيَان حكم فركه عِنْد كَونه يَابسا، والفرك هُوَ
الدَّلْك حَتَّى يذهب أَثَره. والمني، بتَشْديد الْيَاء؛
مَاء خاثر أَبيض يتَوَلَّد مِنْهُ الْوَلَد، وينكسر بِهِ
الذّكر، ورائحته رَائِحَة الطّلع. قَوْله: (وَغسل مَا
يُصِيب) أَي: وَفِي بَيَان غسل مَا يُصِيب الثَّوْب أَو
الْجَسَد من الْمَرْأَة عِنْد مخالطته إِيَّاهَا. وَهَذِه
التَّرْجَمَة مُشْتَمِلَة على ثَلَاثَة أَحْكَام، وَلم
يذكر فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ حكم غسل الْمَنِيّ، وَذكر
الحكم الثَّالِث فِي أَوَاخِر كتاب الْغسْل من حَدِيث
عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقَالَ بَعضهم: لم
يخرج البُخَارِيّ حَدِيث الفرك، بل اكْتفى بِالْإِشَارَةِ
إِلَيْهِ فِي التَّرْجَمَة على عَادَته، لِأَنَّهُ ورد من
حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَيْضا.
قلت: هَذَا اعتذار بَارِد، لِأَن الطَّرِيقَة أَنه إِذا
ترْجم الْبَاب بِشَيْء يَنْبَغِي أَن يذكرهُ، وَقَوله: بل
أكتفي بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ كَلَام واهٍ، لِأَن
الْمَقْصُود من التَّرْجَمَة معرفَة حَدِيثهَا، وإلاَّ
فمجرد ذكر التَّرْجَمَة لَا يُفِيد شَيْئا، والْحَدِيث
الَّذِي فِي هَذَا الْبَاب لَا يدل على الفرك، وَلَا على
غسل مَا يُصِيب من الْمَرْأَة، وَاعْتذر الْكرْمَانِي
عَنهُ بقوله: وَاكْتفى بإيراد بعض الحَدِيث، وَكَثِيرًا
يَقُول مثل ذَلِك، أَو كَانَ فِي قَصده أَن يضيف إِلَيْهِ
مَا يتَعَلَّق بِهِ وَلم يتَّفق لَهُ، أَو لم يجد رُوَاته
بِشَرْطِهِ. قلت: كل هَذَا لَا يجدي، وَلَكِن حبك للشَّيْء
يعمي ويصم، ثمَّ إِن بَعضهم ذكر فِي أول هَذَا الْبَاب
كلَاما لَا يذكرهُ من لَهُ بَصِيرَة وروية، وَفِيه رد لما
ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة، وَمَعَ هَذَا أَخذ كَلَامه
هَذَا من كَلَام الْخطابِيّ مَعَ تَغْيِير، وَهُوَ أَنه
قَالَ: وَلَيْسَ بَين حَدِيث الْغسْل وَحَدِيث الفرك
تعَارض، لِأَن الْجمع بَينهمَا وَاضح على القَوْل
بِطَهَارَة الْمَنِيّ، بِأَن يحمل الْغسْل على
الِاسْتِحْبَاب للتنظيف لَا على الْوُجُوب، وَهَذِه
طَريقَة الشَّافِعِي وَأحمد وَأَصْحَاب الحَدِيث، وَكَذَا
الْجمع مُمكن على القَوْل بِنَجَاسَتِهِ بِأَن يحمل
الْغسْل على مَا كَانَ رطبا، والفرك على مَا كَانَ يَابسا،
وَهَذِه طَريقَة، والطريقة الأولى أرجح، لِأَن فِيهَا
الْعَمَل بالْخبر وَالْقِيَاس مَعًا، لِأَنَّهُ لَو كَانَ
نجسا لَكَانَ الْقيَاس وجوب غسله دون الِاكْتِفَاء بفركه
كَالدَّمِ وَغَيره، وهم لَا يكتفون فِيمَا لَا يُعْفَى
عَنهُ من الدَّم بالفرك. قلت: من هُوَ الَّذِي ادّعى
تَعَارضا بَين الْحَدِيثين الْمَذْكُورين حَتَّى يحْتَاج
إِلَى التَّوْفِيق، وَلَا نسلم التَّعَارُض بَينهمَا أصلا،
بل حَدِيث الْغسْل يدل على نَجَاسَة الْمَنِيّ بِدلَالَة
غسله، وَكَانَ هَذَا هُوَ الْقيَاس أَيْضا فِي يابسه،
وَلَكِن خص بِحَدِيث الفرك، وَقَوله بِأَن يحمل الْغسْل
على الِاسْتِحْبَاب للتنظيف لَا على الْوُجُوب كَلَام واه،
وَهُوَ كَلَام من لَا يدْرِي مَرَاتِب الْأَمر الْوَارِد
من الشَّرْع، فأعلى مَرَاتِب الْأَمر الْوُجُوب
وَأَدْنَاهَا الْإِبَاحَة، وَهنا لَا وَجه للثَّانِي،
لِأَنَّهُ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لم يتْركهُ
على ثَوْبه أبدا، وَكَذَلِكَ الصَّحَابَة من بعده،
ومواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على فعل شَيْء من غير
ترك فِي الْجُمْلَة يدل على الْوُجُوب بِلَا نزاع فِيهِ،
وَأَيْضًا الأَصْل فِي الْكَلَام الْكَمَال، فَإِذا أطلق
اللَّفْظ ينْصَرف إِلَى الْكَامِل، اللَّهُمَّ إلاَّ أَن
ينْصَرف ذَلِك بِقَرِينَة تقوم فتدل عَلَيْهِ حِينَئِذٍ،
وَهُوَ فحوى كَلَام أهل الْأُصُول إِن الْأَمر الْمُطلق
أَي: الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن، يدل على الْوُجُوب. ثمَّ
قَوْله: والطريقة الأولى أرجح ... الخ غير رَاجِح، فضلا
أَن يكون أرجح بل هُوَ غير صَحِيح، لِأَنَّهُ قَالَ
فِيهَا: الْعَمَل بالْخبر، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن من
يَقُول بطهرة الْمَنِيّ يكون غير عَامل بالْخبر، لِأَن
الْخَبَر يدل على نَجَاسَته، كَمَا قُلْنَا، وَكَذَلِكَ
قَوْله فِيهَا: الْعَمَل بِالْقِيَاسِ غير صَحِيح، لِأَن
الْقيَاس وجوب غسله مُطلقًا، وَلَكِن خص بِحَدِيث الفرك
لما ذكرنَا. فان قلت: مَا لَا يجب غسل يابسه لَا يجب غسل
رطبه كالمخاط. قلت: لَا نسلم أَن الْقيَاس صَحِيح، لِأَن
المخاط لَا يتَعَلَّق بِخُرُوجِهِ حدث مَا أصلا، والمنى
مُوجب لأكبر الحدثين، وَهُوَ الْجَنَابَة. فان قلت: سُقُوط
الْغسْل فِي يابسه يدل
(3/144)
على الطَّهَارَة. قلت: لَا نسلم ذَلِك
كَمَا فِي مَوضِع الِاسْتِنْجَاء.
قَوْله: كَالدَّمِ وَغَيره ... إِلَى آخِره، قِيَاس فَاسد،
لِأَنَّهُ لم يَأْتِ نَص بِجَوَاز الفرك فِي الدَّم
وَنَحْوه، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي يَابِس الْمَنِيّ على خلاف
الْقيَاس، فَيقْتَصر على مورد النَّص. فَإِن قلت: قَالَ
الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي خلق من المَاء بشرا}
(الْفرْقَان: 54) سَمَّاهُ: مَاء، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة
لَيْسَ بِمَاء، فَدلَّ على أَنه أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيه
فِي الحكم، وَمن حكم المَاء أَن يكون طَاهِرا. قلت: أَن
تَسْمِيَته: مَاء، لَا تدل على طَهَارَته، فَإِن الله
تَعَالَى سمى مني الدَّوَابّ: مَاء، بقوله: {وَالله خلق كل
دَابَّة من مَاء} (النُّور: 45) فَلَا يدل ذَلِك على
طَهَارَة مَاء الْحَيَوَان. فان قلت: إِنَّه أصل
الْأَنْبِيَاء والأولياء، فَيجب أَن يكون طَاهِرا. قلت:
هُوَ أصل الْأَعْدَاء أَيْضا: كنمرود وَفرْعَوْن وهامان
وَغَيرهم، على أَنا نقُول: الْعلقَة أقرب إِلَى
الْإِنْسَان الْمَنِيّ، وَهُوَ أَيْضا أصل الْأَنْبِيَاء،
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَمَعَ هَذَا لَا يُقَال:
إِنَّهَا طَاهِرَة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَترد
الطَّرِيقَة الثَّانِيَة أَيْضا مَا فِي رِوَايَة ابْن
خُزَيْمَة من طَرِيق أُخْرَى عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، كَانَ يَسْلت الْمَنِيّ من ثَوْبه بعرق
الْإِذْخر ثمَّ يُصَلِّي فِيهِ وَتَحْته من ثَوْبه يَابسا،
ثمَّ يُصَلِّي فِيهِ، فَإِنَّهُ يتَضَمَّن ترك الْغسْل فِي
الْحَالَتَيْنِ. قلت: رد الطَّرِيقَة الثَّانِيَة بِهَذَا
غير صَحِيح، وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على طَهَارَته، وَقد
يجوز أَن يكون كَانَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
يفعل بذلك فيطهر الثَّوْب، وَالْحَال أَن الْمَنِيّ فِي
نَفسه نجس، كَمَا قد رُوِيَ فِيمَا أصَاب النَّعْل من
الْأَذَى، وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابي
هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا وطىء الْأَذَى بخفيه فطهورهما
التُّرَاب) . وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ أَيْضا، وَلَفظه:
(إِذا وطىء أحدكُم الْأَذَى بخفيه أَو نَعله فطهورهما
التُّرَاب) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَكَانَ ذَلِك
التُّرَاب يجزىء من غسلهمَا، وَلَيْسَ فِي ذَلِك دَلِيل
على طَهَارَة الْأَذَى فِي نَفسه، فَكَذَلِك مَا رُوِيَ
فِي الْمَنِيّ. فان قلت: فِي سَنَده مُحَمَّد بن كثير
الصَّنْعَانِيّ، وَقد تكلمُوا فِيهِ. قلت: وَثَّقَهُ ابْن
حبَان وروى حَدِيثه فِي (صَحِيحه) . وَأخرجه الْحَاكِم فِي
(مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلم
يخرجَاهُ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فِي (الْخُلَاصَة) :
وَرَوَاهُ ابو دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَا يلْتَفت
إِلَى قَول ابْن الْقطَّان: وَهَذَا حَدِيث رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد من طَرِيق لَا يظنّ بهَا الصِّحَّة. وَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، بِمَعْنَاهُ، وَرُوِيَ أَيْضا نَحوه من
حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَأخرجه ابْن حبَان أَيْضا. وَالْمرَاد من الْأَذَى:
النَّجَاسَة. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَأما مَالك
فَلم يعرف الفرك، وَالْعَمَل عِنْدهم على وجوب الْغسْل
كَسَائِر النَّجَاسَات. قلت: لَا يلْزم من عدم معرفَة
الفرك أَن يكون الْمَنِيّ طَاهِرا عِنْده، فَإِن عِنْده
الْمَنِيّ نجس كَمَا هُوَ عندنَا، وَذكر فِي (الْجَوَاهِر)
للمالكية: الْمَنِيّ نجس وَأَصله دم، وَهُوَ يمر فِي ممر
الْبَوْل، فَاخْتلف فِي سَبَب التَّنْجِيس: هَل هُوَ رده
إِلَى أَصله، أَو مروره فِي مجْرى الْبَوْل؟ وَقَالَ هَذَا
الْقَائِل أَيْضا: وَقَالَ بَعضهم: الثَّوْب الَّذِي اكتفت
فِيهِ بالفرك ثوب النّوم، وَالثَّوْب الَّذِي غسلته ثوب
الصَّلَاة، وَهُوَ مَرْدُود أَيْضا بِمَا فِي إِحْدَى
رِوَايَات مُسلم من حَدِيثهَا أَيْضا: (لقد رَأَيْتنِي
أفركه من ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فركاً،
فَيصَلي فِيهِ) . وَهَذَا التعقيب: بِالْفَاءِ، يَنْفِي
احْتِمَال تخَلّل الْغسْل بَين الفرك وَالصَّلَاة؛ وأصرح
مِنْهُ. رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة أَنَّهَا كَانَت تحكه من
ثَوْبه وَهُوَ يُصَلِّي.
قلت: أَرَادَ بقوله: وَقَالَ بَعضهم، الْحَافِظ أَبَا
جَعْفَر الطَّحَاوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي (مَعَاني
الْآثَار) : حَدثنَا ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا بشر بن
عمر، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة عَن الحكم عَن همام بن
الْحَارِث أَنه كَانَ نازلاً على عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، فَاحْتَلَمَ، فرأته جَارِيَة لعَائِشَة
وَهُوَ يغسل أثر الْجَنَابَة من ثَوْبه، أَو يغسل ثَوْبه،
فاخبرت بذلك عَائِشَة، فَقَالَت عَائِشَة: لقد رَأَيْتنِي،
وَمَا أَزِيد على أَن أفركه من ثوب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا من أَرْبَعَة
عشر طَرِيقا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا، ثمَّ قَالَ: فَذهب
ذاهبون إِلَى أَن الْمَنِيّ طَاهِر، وَأَنه لَا يفْسد
المَاء، وَإِن وَقع فِيهِ وَإِن حكمه فِي ذَلِك حكم
النخامة، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِهَذِهِ الْآثَار.
وَأَرَادَ بهؤلاء الذاهبين: الشَّافِعِي وَأحمد وَإِسْحَاق
وَدَاوُد، ثمَّ قَالَ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ،
فَقَالُوا: بل هُوَ نجس. وَأَرَادَ بالآخرين:
الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأَبا حنيفَة وَأَصْحَابه
ومالكاً وَاللَّيْث بن سعد وَالْحسن بن حَيّ، وَهُوَ
رِوَايَة عَن أَحْمد، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقَالُوا
لاحجة لكم فِي هَذِه الْآثَار لِأَنَّهَا إِنَّمَا جَاءَت
فِي ذكر ثِيَاب ينَام فِيهَا، وَلم يَأْتِ فِي ثِيَاب
يُصَلِّي فِيهَا، وَقد رَأينَا أَن الثِّيَاب النَّجِسَة
بالغائط وَالْبَوْل وَالدَّم لَا بَأْس بِالنَّوْمِ
فِيهَا، وَلَا تجوز الصَّلَاة فِيهَا، فقد يجوز أَن يكون
الْمَنِيّ كَذَلِك، وَإِنَّمَا يكون هَذَا الحَدِيث حجَّة
علينا وَلَو كُنَّا نقُول: لَا يصلح النّوم فِي الثَّوْب
النَّجس، فَأَما إِذا كُنَّا نُبيح ذَلِك ونوافق مَا رويتم
عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك، ونقول من
بعد: لَا يصلح الصَّلَاة فِي ذَلِك، فَلم نخالف شَيْئا
مِمَّا رُوِيَ فِي ذَلِك عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَقد جَاءَت عَن عَائِشَة فِيمَا كَانَت تفعل
بِثَوْب رَسُول الله
(3/145)
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ
يُصَلِّي فِيهِ إِذا اصابه الْمَنِيّ: حَدثنَا يُونُس،
قَالَ: حَدثنَا يحيى بن حسان، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن
الْمُبَارك وَبشر بن الْمفضل عَن عَمْرو بن مَيْمُون عَن
سُلَيْمَان بن يسَار عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، قَالَت: (كنت أغسل الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيخرج إِلَى الصَّلَاة وَإِن بقع
المَاء لفي ثَوْبه) . وَإِسْنَاده صَحِيح على شَرط مُسلم.
وَأخرجه الْجَمَاعَة أَيْضا على مَا يأتى بَيَانه إِن
شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَكَذَا
كَانَت تفعل عَائِشَة بِثَوْب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم الَّذِي كَانَ يُصَلِّي فِيهِ، تغسل الْمَنِيّ
مِنْهُ وتفركه من وثبه الَّذِي كَانَ لَا يُصَلِّي فِيهِ،
ثمَّ إِن هَذَا الْقَائِل اسْتدلَّ فِي رده على
الطَّحَاوِيّ فِيمَا ذَكرْنَاهُ بِأَن قَالَ: وَهَذَا
التعقيب بِالْفَاءِ يَنْفِي ... الخ، وَهَذَا اسْتِدْلَال
فَاسد، لِأَن كَون الْفَاء للتعقيب لَا يَنْفِي احْتِمَال
تخَلّل الْغسْل بَين الفرك وَالصَّلَاة، لِأَن أهل
الْعَرَبيَّة قَالُوا: إِن التعقيب فِي كل شَيْء
بِحَسبِهِ، أَلا ترى أَنه يُقَال: تزوج فلَان فولد لَهُ
إِذا لم يكن بَينهمَا إلاَّ مُدَّة الْحمل، وَهُوَ مُدَّة
متطاولة، فَيجوز على هَذَا أَن يكون معنى قَول عَائِشَة:
لقد رَأَيْتنِي أفركه من ثوب رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَرَادَت بِهِ ثوب النّوم، ثمَّ تغسله
فَيصَلي فِيهِ، وَيجوز أَن تكون: الْفَاء، بِمَعْنى: ثمَّ،
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ خلقنَا النُّطْفَة علقَة
فخلقنا الْعلقَة مُضْغَة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا
الغظام لَحْمًا} (الْمُؤْمِنُونَ: 14) . فالفاآت، فِيهَا
بِمَعْنى: ثمَّ، لتراخى معطوفاتها، فَإِذا ثَبت جَوَاز
التَّرَاخِي فِي الْمَعْطُوف يجوز أَن يَتَخَلَّل بَين
الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ مُدَّة يجوز وُقُوع الْغسْل
فِي تِلْكَ الْمدَّة، وَيُؤَيّد مَا ذكرنَا مَا رَوَاهُ
الْبَزَّار فِي (مُسْنده) والطَّحَاوِي فِي (مَعَاني
الْآثَار) عَن عَائِشَة، قَالَت: كنت أفرك الْمَنِيّ من
ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ يُصَلِّي
فِيهِ. قَوْله: وأصرح مِنْهُ رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة ...
الخ لَا يساعده أَيْضا فِيمَا ادَّعَاهُ، لِأَن قَوْله:
وَهُوَ يُصَلِّي، جملَة إسمية وَقعت حَالا منتظرة، لَان
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مَا كَانَت تحك
الْمَنِيّ من ثوب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَال
كَونه فِي الصَّلَاة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك يحْتَمل تخَلّل
الْغسْل بَين الفرك وَالصَّلَاة.
229 - حدّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ اللَّهِ بنُ
المُبارَكِ قَالَ أخبرنَا عَمْرُو بنُ مَيْمُونٍ
الجَزَريُّ عنْ سلَيْمانَ بنِ يَسَارٍ عنْ عائِشَةَ قالَتْ
كنْتُ أَغْسِلُ الجنَابَةَ مِنْ ثَوْبِ النبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فيَخْرُجُ إِلَى الصَّلاةِ وإنَّ بُقَعَ
المَاءِ فِي ثوْبِهِ..
لم يُطَابق الحَدِيث التَّرْجَمَة إلاَّ فِي غسل الْمَنِيّ
فَقَط، وَقد ذَكرْنَاهُ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: عَبْدَانِ، بِفَتْح الْعين
وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم فِي بَاب الْوَحْي،
وَعبد الله بن الْمُبَارك كَذَلِك، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
وَعبد الله، أَي: ابْن الْمُبَارك فَكَأَنَّهُ وَقع فِي
نسخته الَّتِي ينْقل عَنْهَا: عبد الله، مَنْسُوبا إِلَى
الْأَب بالتفسير من البُخَارِيّ، فَلذَلِك قَالَ: اي ابْن
الْمُبَارك، ثمَّ قَالَ: وَقَالَهُ على سَبِيل التَّعْرِيف
إشعاراً بِأَنَّهُ لَفظه لالفظة نسخته، وَعَمْرو بن
مَيْمُون الْجَزرِي مَنْسُوب إِلَى الجزيرة، وَكَانَ
مَيْمُون بن مهْرَان وَالِد عَمْرو نزلها فنسب إِلَيْهَا
وَلَده، وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي رِوَايَة الْكشميهني
وَحده: الْجَوْزِيّ، بواو، سَاكِنة بعْدهَا: زَاي، وَهُوَ
غلط مِنْهُ. قلت: الظَّاهِر أَن الْغَلَط من النَّاقِل أَو
الْكَاتِب، فدور رَأس: الزَّاي، ونقط: الرَّاء، فَصَارَ:
الْجَوْزِيّ. وَقد يَقع من الناقلين وَالْكتاب الجهلة
أَكثر من هَذَا وأفحش. وَالرَّابِع: سُلَيْمَان بن يسَار،
ضد الْيَمين، مولى مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ، فَقِيه
الْمَدِينَة العابد الْحجَّة، توفّي عَام سَبْعَة
وَمِائَة. وَالْخَامِس: عَائِشَة الصديقة.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد، والإخبار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا
بَين مروزي ورقي ومدني، فعبدان وَابْن الْمُبَارك مروزيان،
وعبدان لقب واسْمه عبد الله بن عُثْمَان، وَقد ذَكرْنَاهُ
غير مرّة.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
هُنَا عَن عَبْدَانِ وَعَن قُتَيْبَة وَعَن مُسَدّد وَعَن
مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَعَن عَمْرو بن خَالِد، كَمَا
يَأْتِي ذكر الْجَمِيع هَهُنَا. وَأخرجه مُسلم فِي
الطَّهَارَة أَيْضا عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن أبي
كَامِل وَعَن أبي كريب وَيحيى بن أبي زَائِدَة، أربعتهم
عَن عَمْرو بن مَيْمُون بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن النُّفَيْلِي عَن زُهَيْر بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن
عبيد الْبَصْرِيّ عَن سليم بن أحصد عَن عَمْرو بن مَيْمُون
بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع عَن
أبي مُعَاوِيَة عَن عَمْرو بن مَيْمُون نَحوه، وَقَالَ:
حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُوَيْد بن
نصر عَن ابْن الْمُبَارك بِهِ.
(3/146)
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة عَن عَبدة بن سُلَيْمَان عَن عَمْرو بن
مَيْمُون. قَالَ: سَأَلت سُلَيْمَان بن يسَار ... فَذكره.
بَيَان لغته وَمَا يستنبط مِنْهُ قَوْله: (أغسل
الْجَنَابَة) ، قَالَ الْكرْمَانِي: الْجَنَابَة معنى لَا
عين، فَكيف يغسل؟ قلت: الْمُضَاف مَحْذُوف أَي: أثر
الْجَنَابَة، أَو موجوبه أَو هِيَ مجَاز عَنهُ، وَيُقَال:
المُرَاد من الْجَنَابَة: الْمَنِيّ، من بَاب تَسْمِيَة
الشَّيْء باسم سَببه، وان وجوده سَبَب لبعده عَن الصَّلَاة
وَنَحْوهَا. قلت: يجوز أَن تكون عَائِشَة، رَضِي الله
عَنْهَا، أطلقت على: الْمَنِيّ، اسْم الْجَنَابَة،
فَحِينَئِذٍ لَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِير بالحذف أَو
بالمجاز. قَوْله: (وَإِن بقع المَاء) ، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة وَفتح الْقَاف وبالعين الْمُهْملَة: جمع
بقْعَة، كالنطف والنطفة، والبقعة فِي الأَصْل قِطْعَة من
الأَرْض يُخَالف لَوْنهَا لون مَا يَليهَا، وَفِي بعض
النّسخ، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْقَاف،
جمع بقْعَة: كتمرة وتمر، مِمَّا يفرق بَين الْجِنْس
الْوَاحِد مِنْهُ بِالتَّاءِ. وَقَالَ التَّيْمِيّ: بريد
بالبقعة الْأَثر. قَالَ أهل اللُّغَة: البقع اخْتِلَاف
اللونين، يُقَال: غراب أبقع. وَقَالَ ابْن بطال: البقع بقع
الْمَنِيّ وطبعه. قلت: هَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن فِي
الحَدِيث صرح: وَإِن بقع المَاء، وَوَقع عِنْد ابْن
مَاجَه: وَأَنا أرى أثر الْغسْل فِيهِ، يَعْنِي لم يجِف.
وَمن أَحْكَام هَذَا الحَدِيث: أَنه حجَّة للحنفية فِي
قَوْلهم: إِن الْمَنِيّ نجس، لقَوْل عَائِشَة: كنت أغسل
الْجَنَابَة من ثوب النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَقَوْلها: كنت، يدل على تكْرَار هَذَا الْفِعْل مِنْهَا،
فَهَذَا أدل دَلِيل على نَجَاسَة الْمَنِيّ. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَالْحَدِيث حجَّة لمن قَالَ بِنَجَاسَة
الْمَنِيّ. قلت: لَا حجَّة لَهُ لاحْتِمَال أَن يكون غسله
بِسَبَب أَن مَمَره كَانَ نجسا، أَو بِسَبَب اخْتِلَاطه
برطوبة فرجهَا، على مَذْهَب من قَالَ بِنَجَاسَة رُطُوبَة
فرجهَا. انْتهى. قلت بلَى: لَهُ حجَّة، وتعليله بِهَذَا
لدعواه لَا يُفِيد شَيْئا، لِأَن المشرحين من الْأَطِبَّاء
الأقدمين قَالُوا: إِن مُسْتَقر الْمَنِيّ فِي غير
مُسْتَقر الْبَوْل، وَكَذَلِكَ مخرجاهما، وَأما نَجَاسَة
رُطُوبَة فرج الْمَرْأَة فَفِيهَا خلاف عِنْدهم.
وَمن أَحْكَامه: خدمَة الْمَرْأَة لزَوجهَا فِي غسل
ثِيَابه وَنَحْو ذَلِك، خُصُوصا إِذا كَانَ من أَمر
يتَعَلَّق بهَا، وَهُوَ من حسن الْعشْرَة وَجَمِيل
الصُّحْبَة.
وَمِنْهَا: نقل أَحْوَال المقتدى بِهِ، وَإِن كَانَ يستحي
من ذكرهَا عَادَة.
وَمِنْهَا: خُرُوج الْمُصَلِّي إِلَى الْمَسْجِد
بِثَوْبِهِ الَّذِي غسل مِنْهُ الْمَنِيّ قبل جفافه.
230 - حدّثنا قتَيْبةُ قَالَ حَدثنَا يَزيدُ قَالَ حدّثنا
عَمْرٌ وعنْ سُلَيْمانَ بِنْ يَسارٍ قالَ سمِعْتُ عائِشَةَ
ح وحدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حَدثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ
حَدثنَا عَمروُ بنُ مَيْمُونٍ عنْ سْلَيْمانَ بنِ يسارٍ
قَالَ سَألْتُ عائِشةَ عَن المَنِيِّ يُصِيبُ الثِّوْبَ
فَقالَتْ كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رسولِ اللَّهِ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَخْرُجُ إِلَيّ الصَّلاةِ وأثَرُ
الغَسْلِ فِي ثَوْبِهِ بُقَعُ المَاءِ.
اخْرُج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث عَن خَمْسَة أنفس،
ثَلَاثَة مِنْهُم فِي هَذَا الْبَاب، وهم: عَبْدَانِ
وقتيبة ومسدد، وإثنان مِنْهُم فِي الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ، وهما: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَمْرو بن خَالِد،
وَقد ذكرُوا عَن قريب، وَذكرنَا أَيْضا من أخرجه غَيره.
وَرِجَاله هَهُنَا سَبْعَة: قُتَيْبَة بن سعيد، وَقد تقدم
فِي بَاب السَّلَام من الاسلام. وَالثَّانِي: يزِيد، من
الزِّيَادَة، وَذكره البُخَارِيّ غير مَنْسُوب مُجَردا،
وَاخْتلف فِيهِ، فَقيل: هُوَ يزِيد بن زُرَيْع، وَقيل:
يزِيد بن هَارُون، وَكِلَاهُمَا رويا عَن عَمْرو بن
مَيْمُون، وَوَقع فِي رِوَايَة الْفربرِي: ابْن حَمَّاد بن
شَاكر: هَكَذَا حَدثنَا يزِيد، غير مَنْسُوب، وَوَقع فِي
رِوَايَة ابْن السكن، أحد الروَاة عَن الْفربرِي: حَدثنَا
يزِيد، يَعْنِي ابْن زُرَيْع. وَكَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ
الكلاباذي، وَرجح الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي شَرحه
أَنه ابْن هَارُون، قَالَ: لِأَنَّهُ لم يُوجد من رِوَايَة
ابْن زُرَيْع، وَوجد من رِوَايَة ابْن هَارُون، وَقَالَ
بَعضهم: لَا يلْزم من عدم الوجدان عدم الْوُجُود، وَقد جزم
أَبُو مَسْعُود بِأَنَّهُ رَوَاهُ، فَدلَّ على وجدانه.
قلت: لَيْسَ كَذَلِك، فَإِن أَبَا مَسْعُود مَا جزم بِهِ،
وَإِنَّمَا قَالَ: يُقَال: هُوَ ابْن هَارُون: لَا إِبْنِ
زُرَيْع؛ وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق
الدَّوْرَقِي، وَأحمد بن منيع ويوسف بن مُوسَى قَالُوا:
حَدثنَا يزِيد بن هَارُون وَرَوَاهُ أَبُو نعيم من حَدِيث
الْحَارِث بن أبي أُسَامَة أخبرنَا يزِيد بن هَارُون
وَرَوَاهُ أَبُو نصر السجْزِي فِي (فَوَائده) من طَرِيق
إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد التَّيْمِيّ، حَدثنَا يزِيد بن
هَارُون قَالَ أَبُو نصر: أخرجه البُخَارِيّ عَن قُتَيْبَة
عَن يزِيد بن هَارُون. وَقَالَ الجياني: حَدثنَا أَبُو عمر
النمري حَدثنَا مُحَمَّد بن عبد الْملك حَدثنَا ابْن
الْأَعرَابِي أخبرنَا مُحَمَّد بن عبد الْملك حَدثنَا
يزِيد بن هَارُون أخبرنَا عَمْرو. انْتهى. وَرجح هَذَا
الْقَائِل كَلَامه فِي كَون يزِيد هَذَا ابْن زُرَيْع لَا
ابْن هَارُون بشيئين لَا ينْهض كَلَامه بهما. أَولهمَا:
بقوله: وَقد خرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ
(3/147)
وَغَيره من حَدِيث يزِيد بن هَارُون
بِلَفْظ مُخَالف للسياق الَّذِي أوردهُ البُخَارِيّ،
وَهَذَا من مرجحات كَونه ابْن زُرَيْع. قلت: هَذَا الَّذِي
قَالَه حجَّة عَلَيْهِ ورد لكَلَامه، لِأَن مُخَالفَة لفظ
من روى هَذَا الحَدِيث لسياق البُخَارِيّ لَيست مرجحة
لكَون يزِيد هَذَا هُوَ ابْن زُرَيْع مَعَ، صَرَاحَة ذكر
ابْن هَارُون فِي الرِّوَايَات الْمَذْكُورَة.
وَالثَّانِي: قَالَ: وقتيبة مَعْرُوف بالرواية عَن يزِيد
بن زُرَيْع دون ابْن هَارُون. قلت: هَذَا أَيْضا حجَّة
عَلَيْهِ ومردود عَلَيْهِ، لِأَن كَون قُتَيْبَة مَعْرُوفا
بالرواية عَن يزِيد بن زُرَيْع لَا يُنَافِي رِوَايَته عَن
يزِيد بن هَارُون، بعد أَن ثَبت أَن قُتَيْبَة روى
عَنْهُمَا جَمِيعًا. وَلَقَد غره فِي هَذَا مَا قَالَه
الْمزي: الصَّحِيح أَنه يزِيد بن زُرَيْع، فَإِن قُتَيْبَة
مَشْهُور بالرواية عَن ابْن زُرَيْع دون ابْن هَارُون.
انْتهى. قَالُوا: فِيهِ نظر، وَوَجهه مَا ذكرنَا، وَكَانَ
قصد هَذَا الْقَائِل توهية كَلَام الشَّيْخ قطب الدّين،
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ ذكره إِيَّاه بِمَا ذكره، وَلَا يخفى
ذَلِك على من لَهُ فطانة. قَوْله: (حَدثنَا عَمْرو عَن
سُلَيْمَان) ، كَذَا وَقع: عَمْرو، غير مَنْسُوب عِنْد
الْأَكْثَرين، وَوَقع عِنْد ابي ذَر يَعْنِي: ابْن
مَيْمُون، وَهُوَ: عَمْرو بن مَيْمُون بن مهْرَان، وَقد
تقدم. قَوْله: (حَدثنَا عبد الْوَاحِد) ، هُوَ: عبد
الْوَاحِد بن زِيَاد الْبَصْرِيّ، وَفِي طبقته عبد
الْوَاحِد بن زيد الْبَصْرِيّ، وَلم يخرج لَهُ البُخَارِيّ
شَيْئا.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
سِتَّة مَوَاضِع، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
فِي الْإِسْنَاد الأول: سَمِعت، وَفِي الثَّانِي: سَأَلت،
إِشَارَة إِلَى الرَّد على من زعم أَن سُلَيْمَان بن يسَار
لم يسمع عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، مِنْهُم:
أَحْمد بن حَنْبَل وَالْبَزَّار، وَقد صرح البُخَارِيّ
بِسَمَاعِهِ مِنْهَا، وَكَذَا هُوَ فِي (صيحح مُسلم) قلت:
فِي سَمِعت وَسَأَلت، لَطِيفَة أُخْرَى لم تأت صوبها
الشُّرَّاح، وَهِي: أَن كل وَاحِدَة من هَاتين اللفظتين
لَا تَسْتَلْزِم الاخرى لَان السماع لَا يسْتَلْزم
السُّؤَال وَلَا السُّؤَال يسْتَلْزم السماع فَلذَلِك
ذكرهمَا فِي الْإِسْنَاد ليدل على صِحَة السُّؤَال
وَصِحَّة السماع فَافْهَم. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين
بَصرِي وواسطي ومدني. وَفِيه: وَقعت صُورَة (ح) إِشَارَة
إِلَى التَّحْوِيل من إِسْنَاد قبل ذكر متن الحَدِيث إِلَى
اسناد آخر لَهُ، وَفِيه: فِي الْإِسْنَاد الثَّانِي وَقع:
قَالَ: حَدثنَا عَمْرو، يعْنى ابْن مَيْمُون، وَأَشَارَ
بِهِ إِلَى أَن شَيْخه لم ينْسبهُ، وَهَذَا تَفْسِير لَهُ
من تِلْقَاء نَفسه. فان قلت: الِاخْتِلَاف الْمَذْكُور
فِي: يزِيد، هَل هُوَ: يزِيد ابْن زُرَيْع، أَو: يزِيد
ابْن هَارُون التباس، وَهُوَ يقْدَح فِي الحَدِيث. قلت:
لَا، لِأَن أياً كَانَ فَهُوَ عدل ضَابِط بِشَرْط
البُخَارِيّ، وَإِنَّمَا كَانَ يقْدَح لَو كَانَ أَحدهمَا
على غير شَرطه.
بَيَان إعرابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (عَن الْمَنِيّ) أَي:
عَن حكم الْمَنِيّ، هَل يشرع غسله أم لَا؟ قَالَ بَعضهم:
فَحصل الْجَواب بِأَنَّهَا كَانَت تغسله وَلَيْسَ فِي
ذَلِك مَا يَقْتَضِي إِيجَابه. قلت: قد ذكرت فِيمَا مضى
أَن قَوْله: كنت، يدل على تكْرَار الْغسْل مِنْهَا، وَهُوَ
عَلامَة الْوُجُوب مَعَ وُرُود الامر فِيهِ بِالْغسْلِ،
وَالْأَمر الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن يدل على الْوُجُوب،
وَهَذَا الْقَائِل يُرِيد تمشية مذْهبه من غير دَلِيل نقلي
وَلَا عَقْلِي. قَوْله: (فَيخرج إِلَى الصَّلَاة) أَي:
يخرج من الْحُجْرَة إِلَى الْمَسْجِد للصَّلَاة. قَوْله:
(بقع المَاء) ، قد مر تَفْسِير البقع، وَهُوَ مَرْفُوع على
جَوَاب سُؤال مُقَدّر، تَقْدِيره، أَن يُقَال: مَا ذَلِك
الْأَثر؟ فَأجَاب: بقع المَاء. اي: هُوَ بقع المَاء، وَفِي
الْحَقِيقَة يكون خَبرا لمبتدأ مَحْذُوف؛ وَقَالَ بَعضهم:
هُوَ بدل وَلَيْسَ بِشَيْء، وَيجوز النصب فِيهِ على
الِاخْتِصَاص أَي: أَعنِي بقع المَاء.
65 - (بابُ إِذا غَسَلَ الجَنَابَةَ أَوْ غَيْرَها فَلمْ
يَذْهَبْ أَثَرُهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الْمَنِيّ أَو غَيره،
وَلم يذهب أَثَره، وَمرَاده أَن الْأَثر إِذا كَانَ
بَاقِيا لَا يضرّهُ، وَقَالَ بَعضهم: الْأَثر أثر الشَّيْء
المغسول، وَفِيه نظر، لِأَن على قَوْله يكون الْبَاقِي أثر
الْمَنِيّ وَنَحْوه، وَهَذَا يضرّهُ، بل المُرَاد الْأَثر
المرئي للْمَاء لَا للمني، وَلَفظ حَدِيث الْبَاب يدل على
هَذَا، وَهُوَ قَوْله: واثر الْغسْل فِي ثَوْبه بقع
المَاء. قَوْله: (اَوْ غَيرهَا) أَي غير الْجَنَابَة،
نَحْو: دم الْحيض، وَلم يذكر فِي الْبَاب حَدِيثا يدل على
هَذِه التَّرْجَمَة. وَقَالَ بَعضهم: وَذكر فِي الْبَاب
حَدِيث الْجَنَابَة وَألْحق غَيرهَا قِيَاسا، وَأَشَارَ
بذلك إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيره من حَدِيث
أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن خَوْلَة
بنت يسَار قَالَت: يَا رَسُول الله! لَيْسَ لي إلاَّ ثوب
وَاحِد وَأَنا أحيض، فَكيف أصنع؟ قَالَ: إِذا طهرت
فاغسليه. قَالَت: فان لم يخرج الدَّم؟ قَالَ: يَكْفِيك
المَاء وَلَا يَضرك أَثَره) انْتهى. قلت: البُخَارِيّ يذكر
مَسْأَلَة ثمَّ يقيس عَلَيْهَا غَيرهَا، أَو يسْرد حَدِيثا
فِي بَاب مترجم دَالا على التَّرْجَمَة، وَلَا فَائِدَة
فِي ذكر تَرْجَمَة بِدُونِ ذكر حَدِيث مُوَافق لَهَا
مُشْتَمل عَلَيْهَا، وَلم نَعْرِف مَا مُرَاده من هَذَا
الْقيَاس، هَل هُوَ لغَوِيّ أَو اصطلاحي شَرْعِي أَو
منطقي؟ وَمَا هَذَا إلاَّ قِيَاس
(3/148)
فَاسد. وَأَيْضًا من أَيْن عرفنَا أَنه
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد؟ وَمن
أَيْن عرفنَا أَنه وقف على هَذَا أَو لم يقف؟ وَلَكِن كل
ذَلِك تخمين بتخبيط. قَوْله: (فَلم يذهب اثره) : الْفَاء،
فِيهِ للْعَطْف لَا للجزاء. لقَوْله: (إِذا غسل) ، لِأَن
جزاءه مَحْذُوف تَقْدِيره: صَحَّ صلَاته، أَو نَحْو ذَلِك،
وَالضَّمِير فِي: أَثَره، يرجع إِلَى كل وَاحِد من غسل
الْجَنَابَة وَغَيرهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَلم يذهب
أَثَره: أَي أثر الْغسْل. وَقَالَ بَعضهم، وَأعَاد
الضَّمِير مذكراً على المعني أَي: فَلم يذهب أثر الشَّيْء
المغسول. قلت: كَلَام الْكرْمَانِي أوجه، لِأَن الْمَعْنى
على أَن بَقَاء أثر الْغسْل لَا يضر لإبقاء المغسول،
اللَّهُمَّ إلاَّ إِذا عسر إِزَالَة أثر المغسول، فَلَا
يضر حِينَئِذٍ للْحَرج، وَهُوَ مَدْفُوع شرعا. وَقَالَ
الْكرْمَانِي؛ فِي بعض النّسخ: أَثَرهَا، اي: أثر
الْجَنَابَة. قلت: إِن صحت هَذِه النُّسْخَة فَلَا حَاجَة
إِلَى التَّأْوِيل الْمَذْكُور، وَلَكِن تَفْسِيره بقوله:
أَي، أثر الْجَنَابَة يرجع إِلَى تَفْسِير الْقَائِل
الْمَذْكُور، وفساده ظَاهر.
231 - حدّثنا مُوسَى بِنْ إسْماعِيلَ الْمِنْقَرِيُّ قَالَ
حَدثنَا عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حَدثنَا عَمْرُو بنُ
مَيْمُونٍ قَالَ سَأَلْتُ سُلَيْمانَ بن يَسارٍ فِي
الثَّوْبِ تُصِيبُهُ الجَنَابَةُ قَالَ قالَتْ عائِشَةُ
كُنْتُ أَغْسِلُهُ مِنْ ثَوْبِ رسولِ اللَّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَيّ الصَّلاةِ وأَثَرُ
الغَسْلِ فِيهِ بُقَعُ المَاءِ.
مُطَابقَة الحَدِيث لإحدى الترجمتين، وَهِي أولاهما
ظَاهِرَة، والمنقري بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون النُّون
وَفتح الْقَاف: نِسْبَة إِلَى بني منقر، بطن من تَمِيم،
وَهُوَ أَبُو سَلمَة التَّبُوذَكِي. عبد الْوَاحِد هُوَ:
ابْن زِيَاد الْمَذْكُور عَن قريب. قَوْله: (سَمِعت
سُلَيْمَان بن يسَار) ، هَكَذَا هُوَ عِنْد الْأَكْثَرين،
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (سَأَلت سُلَيْمَان بن يسَار)
. قَوْله: (فِي الثَّوْب) مَعْنَاهُ على رِوَايَة: سَمِعت،
أَي: سَمِعت سُلَيْمَان يَقُول فِي حكم الثَّوْب الَّذِي
تصيبة الْجَنَابَة، وعَلى رِوَايَة: سَأَلت، الْمَعْنى:
قلت لِسُلَيْمَان: مَا تَقول فِي الثَّوْب الَّذِي تصيبة
الْجَنَابَة؟ وعَلى هَذِه الرِّوَايَة يجوز أَن تكون كلمة:
فِي بِمَعْنى: من، كَمَا فِي قَوْله.
(وَهل يعمن من كَانَ فِي الْعَصْر الْخَالِي)
قَوْله: (كنت أغسله) ، أَي: كنت أغسل أثر الْجَنَابَة،
قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَذَا، لِأَن
مَعْنَاهُ: كنت أغسل الْمَنِيّ من ثوب رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَيْسَ الْمَعْنى: أغسل أثر
الْمَنِيّ، فعلى هَذَا تذكير الضَّمِير يكون بِاعْتِبَار
معنى الْجَنَابَة، لِأَن مَعْنَاهَا: الْمَنِيّ هَهُنَا،
وَبَاقِي الْكَلَام فِيهِ قد مر فِيمَا قبله.
232 - حدّثنا عَمْرُو بنُ خالِدٍ قَالَ حَدثنَا زُهَيْرٌ
قَالَ حَدثنَا عمْرُو بنُ مَيْمُونِ بنِ مِهْرانَ عنْ
سُلَيْمانَ بنِ يسارٍ عنْ عائشَةَ أنَّهَا كانَتْ تَغْسِلُ
الَمنِيَّ مِنْ ثَوْبِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ثُمَّ أَرَاهُ فِيهِ بُقْعةً اوْ بُقَعاً.
عَمْرو بن خَالِد، بِفَتْح الْعين، وَلَيْسَ فِي شُيُوخ
البُخَارِيّ عمر بن خَالِد بِضَم الْعين. قَوْله:
(زُهَيْر) هُوَ ابْن مُعَاوِيَة. قَوْله: (عَمْرو بن
مَيْمُون بن مهْرَان) ، بِكَسْر الْمِيم غير منصرف، وَلم
يذكر جد عَمْرو فِي هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ عَن
عَائِشَة من خَمْسَة أوجه إلاَّ فِي هَذَا الْوَجْه، وَفِي
هَذَا الْوَجْه نُكْتَة أُخْرَى وَهِي أَن فِيهِ
الْإِخْبَار عَن سُلَيْمَان عَن عَائِشَة، رَضِي الله
عَنْهَا، أَنَّهَا كَانَت تغسل على سَبِيل الْغَيْبَة،
وَفِي الْأَوْجه الْأَرْبَعَة الْمُتَقَدّمَة الْإِخْبَار
عَنْهَا على سَبِيل التَّكَلُّم عَنْهَا. قَوْله: (من ثوب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي بعض النّسخ:
(من ثوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله:
(ثمَّ أرَاهُ) من رُؤْيَة الْعين أَي: أبصره، وَالضَّمِير
الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الثَّوْب، وَفِي بعض النّسخ:
(ثمَّ أرى) ، بِدُونِ الضَّمِير، فعلى هَذَا مفعول: أرى،
مَحْذُوف على مَا يَجِيء الْآن. فان قلت: كَيفَ التئام
هَذَا بِمَا قبله، لِأَن مَا قبله إِخْبَار عَن سُلَيْمَان
وَقَوله: ثمَّ أرَاهُ، نقل عَن عَائِشَة، رَضِي الله
عَنْهَا قلت فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره قَالَت ثمَّ أرَاهُ
وَهَذَا الْوَجْه من كَلَام الْكرْمَانِي أَن أول
الْكَلَام نقل بِالْمَعْنَى عَن لفظ عَائِشَة وَآخره نقل
للفظها بِعَيْنِه. قَوْله: (فِيهِ) أَي: فِي الثَّوْب،
هَذَا على تَقْدِير أَن يكون: أرى، بِدُونِ الضَّمِير
الْمَنْصُوب، وَالتَّقْدِير: ثمَّ أرى فِي الثَّوْب
بقْعَة، فَيكون انتصاب بقْعَة على المفعولية. وَأما على
تَقْدِير: أرَاهُ، بالضمير الْمَنْصُوب، فمرجعه يكون
الْأَثر الَّذِي يدل عَلَيْهِ وَقَوله: (تغسل الْمَنِيّ من
ثوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: أرى أثر
الْغسْل فِي الثَّوْب بقْعَة. قَوْله: (أَو بقعاً) ،
الظَّاهِر أَنه من كَلَام عَائِشَة، وَيحْتَمل أَن يكون
شكا من سُلَيْمَان أَو من أحد الروَاة. وَالله تَعَالَى
أعلم.
(3/149)
66 - (بابُ أَبْوَالِ الابِلِ والدَّوابِّ
والغَنَمِ ومَرَابِضهَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم أَبْوَال الْإِبِل ...
إِلَى آخِره، إِنَّمَا جمع الأبوال لِأَنَّهُ لَيْسَ
المُرَاد ذكر حكم بَوْل الْإِبِل فَقَط، بل المُرَاد
بَيَان حكم بَوْل الْإِبِل وَبَوْل الدَّوَابّ وَبَوْل
الْغنم، وَلَكِن لَيْسَ فِي البا إلاَّ ذكر بَوْل الْإِبِل
فَقَط، وَلَا وَاحِد لِلْإِبِلِ من لَفظهَا، وَهِي
مُؤَنّثَة لِأَن أَسمَاء الجموع الَّتِي وَاحِد لَهَا من
لَفظهَا، إِذا كَانَت لغير الْآدَمِيّين، فالتأنيث لَهَا
لَازم. وَقد تسكن الْبَاء فِيهِ للتَّخْفِيف، وَالْجمع
آبال. وَالدَّوَاب: جمع دبة، وَهِي فِي اللُّغَة: اسْم لما
يدب على وَجه الأَرْض، فَيتَنَاوَل سَائِر الْحَيَوَانَات.
وَفِي الْعرف: اسْم لذِي الْأَرْبَع خَاصَّة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: المُرَاد هَهُنَا مَعْنَاهُ الْعرفِيّ،
وَهُوَ ذَوَات الحوافر، يَعْنِي: الْخَيل وَالْبِغَال
وَالْحمير. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ الْعرفِيّ منحصراً فِي
هَذِه، بل يُطلق على كل ذِي أَربع، وَالْبُخَارِيّ لم يذكر
فِي هَذَا الْبَاب إلاَّ حديثين: أَحدهمَا يفهم مِنْهُ حكم
بَوْل الْإِبِل. وَالْآخر: يفهم مِنْهُ جَوَاز الصَّلَاة
فِي مرابض الْغنم، فعلى هَذَا ذكر لَفظه الدَّوَابّ لَا
فَائِدَة فِيهِ. وَقَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون من
عطف الْعَام على الْخَاص. قلت: هُوَ كَذَلِك، فَأَي شَيْء
ذكر الِاحْتِمَال فِيهِ، وَفِيه عطف الْخَاص على الْعَام
أَيْضا، وَهُوَ عطف الْغنم على الدَّوَابّ. قَوْله:
(ومرابضها) بِالْجَرِّ عطف على قَوْله: (وَالْغنم) وَهُوَ
جمع: مربض، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: من
ربض بِالْمَكَانِ يربض، من بَاب: ضرب يضْرب، إِذا ألصق
بِهِ، وَأقَام ملازماً لَهُ، والمربض: الْمَكَان الَّذِي
يربض فِيهِ، والمرابض للغنم كالمعاطن لِلْإِبِلِ، وربوض
الْغنم كبروك الْجمل. وَقَالَ بَعضهم: المربض، بِكَسْر
الْمِيم وَفتح الْمُوَحدَة؛ قلت: هُوَ غلط صَرِيح لَيْسَ
لقائله مس بالعلوم الادبية، وَالضَّمِير فِي: مرابضها،
يرجع إِلَى الْغنم. وَقَالَ بعضم: الضَّمِير يعود على أقرب
مَذْكُور. قلت: هَذَا قريب مِمَّا قُلْنَا.
فان قلت: مَا وَجه مُنَاسبَة هَذَا الْبَاب بِمَا قبله؟
قلت: يجوز أَن يكون من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل
على شَيْء، وَهُوَ نجس فِي نَفسه، على قَول من يَقُول
بِنَجَاسَة الْمَنِيّ ونجاسة بَوْل الْإِبِل، وعَلى قَول
من يَقُول بطهارتهما يكون وَجه الْمُنَاسبَة بَينهمَا فِي
كَونهمَا على السوَاء فِي الطَّهَارَة.
وصلَّى أبُو مُوسَي رَضِي الله عَنهُ فِي دَارِ البرهيده
والسِّرْقِيْنُ والبَرِّيةُ إِلَى جنْبه فَقَالَ هَهُنا
وثَمَّ سَوَاءٌ
هَذَا الاثر وَصله أَبُو نعيم، شيخ البُخَارِيّ فِي كتاب
(الصَّلَاة) لَهُ، قَالَ: حَدثنَا الْأَعْمَش عَن مَالك بن
الْحَارِث هُوَ السّلمِيّ الْكُوفِي، عَن أَبِيه، قَالَ:
صلى بِنَا أَبُو مُوسَى فِي دَار الْبَرِيد، وَهُنَاكَ
سرقين الدَّوَابّ والبرية على الْبَاب، فَقَالُوا: لَو
صليت على الْبَاب ... فَذكره. وَهَذَا تَفْسِير لما ذكره
البُخَارِيّ مُعَلّقا. وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا فِي
(مُصَنفه) فَقَالَ: ثَنَا وَكِيع الْأَعْمَش عَن مَالك بن
الْحَارِث عَن أَبِيه قَالَ، كُنَّا مَعَ أبي مُوسَى فِي
دَار الْبَرِيد، فَحَضَرت الصَّلَاة فصلى بِنَا على رَوْث
وتبن. فَقُلْنَا: لَا نصلي هَهُنَا والبرية إِلَى جَنْبك.
فَقَالَ: الْبَريَّة وَهَهُنَا سَوَاء. وَقَالَ ابْن حزم:
روينَا من طَرِيق شُعْبَة وسُفْيَان، كِلَاهُمَا عَن
الْأَعْمَش عَن مَالك بن الْحَارِث عَن أَبِيه قَالَ: صلى
بِنَا أَبُو مُوسَى على مَكَان فِيهِ سرقين، وَهَذَا لفظ
سُفْيَان، وَقَالَ شُعْبَة: رَوْث الدَّوَابّ. قَالَ:
ورويناه من طَرِيق غَيرهمَا: والصحراء أَمَامه. وَقَالَ:
هَهُنَا وَهُنَاكَ سَوَاء، وَأَبُو مُوسَى الاشعري اسْمه:
عبد الله بن قيس، تقدم فِي بَاب: أَي: الْإِسْلَام أفضل.
قَوْله: (فِي دَار الْبَرِيد) وَهِي دَار ينزلها من
يَأْتِي برسالة السُّلْطَان، وَالْمرَاد من: دَار
الْبَرِيد، هَهُنَا مَوضِع بِالْكُوفَةِ كَانَت الرُّسُل
تنزل فِيهِ إِذا حَضَرُوا من الْخُلَفَاء إِلَى
الْأُمَرَاء، وَكَانَ أَبُو مُوسَى، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أَمِيرا على الْكُوفَة فِي زمن عمر، وَفِي زمن
عُثْمَان، رَضِي الله عَنْهُمَا، وَكَانَ الدَّار فِي طرف
الْبَلَد، وَلِهَذَا كَانَت الْبَريَّة إِلَى جنبها، و:
الْبَرِيد، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة: الْمُرَتّب،
وَالرَّسُول، وإثنا عشر ميلًا، قَالَه الْجَوْهَرِي.
قَوْله: (والسرقين) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة
وَسُكُون الرَّاء هُوَ: الزبل، وَحكى فِيهِ ابْن سَيّده
فتح أَوله، وَهُوَ فَارسي مُعرب، وَيُقَال لَهُ، السرجين،
بِالْجِيم، وَهُوَ فِي الأَصْل حرف بَين الْقَاف وَالْجِيم
يقرب من الْكَاف. قَوْله: (والبرية) بتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف: الصَّحرَاء. قَالَ صَاحب (الْمُحكم) : هِيَ
منسوبة إِلَى الْبر، وَالْجمع: البراري. قَوْله: (جنبه)
الْجنب والجانب والجنبة: النَّاحِيَة. وَيُقَال: قعدت
إِلَى جنب فلَان، وَإِلَى جَانب فلَان بِمَعْنى. قَوْله:
(وَثمّ) بِفَتْح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَشْديد الْمِيم،
وَهُوَ اسْم يشار بِهِ إِلَى الْمَكَان الْبعيد، نَحْو:
{وأزلفنا ثمَّ الآخرين} (الشُّعَرَاء: 64) وَهُوَ ظرف لَا
يتَصَرَّف، فَلذَلِك غلط من أعربه مَفْعُولا: لرأيت فِي
قَوْله: تَعَالَى {واذا رَأَيْت ثمَّ رَأَيْت}
(الْإِنْسَان: 20) قَوْله: (سَوَاء) ، يَعْنِي فِي صِحَة
الصَّلَاة، ثمَّ اعْلَم أَن قَوْله: (والسرقين) يجوز أَن
يكون مَعْطُوفًا على: الدَّار، وعَلى: الْبَرِيد، قَالَ
الْكرْمَانِي: ويروى بِالرَّفْع، وَلم يذكر وَجهه. قلت:
وَجه أَن يكون مُبْتَدأ. وَقَوله: والبرية، بِالرَّفْع عطف
عَلَيْهِ،
(3/150)
وَقَوله: الى جنبه، خَبره وَيكون مَحل
الْجُمْلَة النصب على الْحَال، وعَلى تَقْدِير جر:
السرقين، يكون ارْتِفَاع: الْبَريَّة، على الِابْتِدَاء.
وَمَا بعده خَبره، وَالْجُمْلَة حَال أَيْضا وفاعل: قَالَ،
أَبُو مُوسَى، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله:
(هَهُنَا) اسْم مَوضِع، وَمحله رفع على الِابْتِدَاء، و:
ثمَّ، عطف عَلَيْهِ، وَخَبره قَوْله: سَوَاء، يَعْنِي:
أَنَّهُمَا متساويان فِي صِحَة الصَّلَاة. قَالَ ابْن
بطال: قَوْله: أَبْوَال الْإِبِل وَالدَّوَاب، وَافق
البُخَارِيّ فِيهِ أهل الظَّاهِر، وقاس بَوْل مَا يكون
مَأْكُولا لَحْمه على بَوْل الْإِبِل، وَلذَلِك قَالَ:
وَصلى أَبُو مُوسَى فِي دَار الْبَرِيد والسرقين، ليدل على
طَهَارَة أرواث الدَّوَابّ وَأَبْوَالهَا، وَلَا حجَّة
لَهُ فِيهَا، لِأَنَّهُ يُمكن أَن يكون صلى على ثوب بَسطه
فِيهِ أَو فِي مَكَان يَابِس لَا تعلق بِهِ نَجَاسَة. وَقد
قَالَ عَامَّة الْفُقَهَاء: إِن من بسط على مَوضِع نجس
بساطاً وَصلى فِيهِ إِن صلَاته جَائِزَة، وَلَو صلى على
السرقين بِغَيْر بِسَاط لَكَانَ مذهبا لَهُ، وَلم تجز
مُخَالفَة الْجَمَاعَة بِهِ. وَقَالَ بَعضهم نصْرَة
للْبُخَارِيّ وردا على ابْن بطال: وَأجِيب بِأَن الأَصْل
عَدمه، وَقد رَوَاهُ سُفْيَان الثَّوْريّ فِي (جَامعه) عَن
الْأَعْمَش بِسَنَدِهِ، وَلَفظه: صلى بِنَا أَبُو مُوسَى
على مَكَان فِيهِ سرقين، وَهَذَا ظَاهر فِي أَنه بِغَيْر
حَائِل. قلت: الظَّاهِر أَنه كَانَ بِحَائِل، لِأَن شَأْنه
يَقْتَضِي أَن يحْتَرز عَن الصَّلَاة على عين السرقين،
ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَقد روى سعيد بن مَنْصُور
عَن سعيد بن الْمسيب وَغَيره: أَن الصَّلَاة على الطنفسة
مُحدث، إِسْنَاده صَحِيح. قلت: أَرَادَ بِهَذَا تأييد مَا
قَالَه، وَلكنه لَا يجديه، لِأَن كَون الصَّلَاة على
الطنفسة محدثة لَا يسْتَلْزم أَن يكون على الْحَصِير
وَنَحْوه كَذَلِك، فَيحْتَمل أَن يكون أَبُو مُوسَى قد صلى
فِي دَار الْبَرِيد والسرقين على حَصِيرا وَنَحْوه، وَهُوَ
الظَّاهِر، على أَن الطنفسة، بِكَسْر الطَّاء وَفتحهَا:
بِسَاط لَهُ خمل رَقِيق، وَلم يَكُونُوا يستعملونها فِي
حَالَة الصَّلَاة كاستعمال المترفين إِيَّاهَا، فكرهوا
ذَلِك فِي الصَّدْر الأول، واكتفوا بالدون من السجاجيد
تواضعاً، بل كَانَ أَكْثَرهم يُصَلِّي على الْحَصِير، بل
كَانَ الْأَفْضَل عِنْدهم الصَّلَاة على التُّرَاب تواضعاً
ومسكنة.
233 - حدّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدّثنا حَمَّادُ
بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ أبي قِلاَبَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي
الله عَنهُ قالَ قدِمَ انَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أوْ عُرَيْنَةَ
فَاجْتَوَوُا المَدِينَةَ فَأمَرَهُمُ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بلِقاحٍ وأنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوالِها
وأَلْبَانِها فانْطَلَقُوا فَلَمَّا صَحُّوا قتَلُوا
رَاعِيَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم واسْتَاقُوا
النَّعَمَ فَجَاءَ الخَبَرُ فِي أوَّلِ النَّهارِ فَبَعَثَ
فِي آثارِهِمْ فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهارُ جِىءَ بهِمْ
فَأَمَرَ فَقَطَع أيْدِيْهُمْ وأرْجُلَهُمْ وسُمِر تْ
أَعْيُنُهُمْ وَالْقُوافي الحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلاَ
يُسْقَونَ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي بَوْل الْإِبِل
فَقَط، وَالْمَذْكُور فِيهَا أَرْبَعَة أَشْيَاء.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا، فسليمان بن
حَرْب فِي بَاب من كره أَن يعود فِي الْكفْر، وَحَمَّاد
فِي بَاب الْمعاصِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة، وَأَيوب
السّخْتِيَانِيّ التَّابِعِيّ فِي بَاب حلاوة الْإِيمَان،
وَأَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله، كَذَلِك.
وَكلهمْ أَعْلَام ائمة بصريون. (بَيَان لطائف اسناده)
فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد
وَالْبَاقِي عنعنة فِي أبعة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَفِيه: أَن الروَاة
بصريون.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
فِي ثَمَانِيَة مَوَاضِع: هُنَا عَن سلمَان بن حَرْب،
وَفِي الْمُحَاربين عَن قُتَيْبَة، وَفِي الْجِهَاد عَن
مُعلى بن اسد، وَفِي الْمُحَاربين عَن مُوسَى بن اسماعيل،
وَعَن عَليّ بن عبد الله، وَمُحَمّد بن الصَّلْت، وَفِي
التَّفْسِير عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي الْمَغَازِي عَن
مُحَمَّد بن عبد الرَّحِيم، وَفِي الدِّيات عَن قُتَيْبَة.
وَأخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن هَارُون بن عبد الله بن
سُلَيْمَان بن حَرْب، وَعَن الْحسن بن أَحْمد، وَعَن عبد
الله بن عبد الرَّحْمَن، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة
وَمُحَمّد بن الصَّباح، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن
أَحْمد بن عُثْمَان النَّوْفَلِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد
فِي الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَعَن مُوسَى بن
إِسْمَاعِيل، وَعَن مُحَمَّد بن الصَّباح، وَعَن عَمْرو بن
عُثْمَان، وَعَن مُحَمَّد بن قدامَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الْمُحَاربَة عَن احْمَد بن سُلَيْمَان، وَعَن عَمْرو
بن عُثْمَان، وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَعَن
إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، وَأعَاد حَدِيث عَمْرو بن
عُثْمَان فِي التَّفْسِير، وَفِي رِوَايَة مُسلم أَدخل
بَين أَيُّوب وَأبي قلَابَة أَبَا رَجَاء، مولى أبي
قلَابَة، وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَن رِوَايَة حَمَّاد بن
زيد إِنَّمَا هِيَ عَن أَيُّوب عَن أبي رَجَاء عَن أبي
قلَابَة. وَقَالَ: سُقُوط أبي رَجَاء وثبوته صَوَاب،
وَيُشبه أَن يكون أَيُّوب سمع من
(3/151)
ابي قلَابَة عَن أنس قصَّة العرنيين
مُجَرّدَة، وَسمع من ابي رَجَاء عَن ابي قلَابَة حَدِيثه
مَعَ عمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْقسَامَة، وَفِي آخرهَا
قصَّة العرنيين، فحفظ عَنهُ حَمَّاد بن زيد الْقصَّتَيْنِ
عَن أبي رَجَاء عَن ابي قلَابَة، وَحفظ الْآخرُونَ عَن ابي
قلَابَة عَن أنس قصَّة العرنيين حسب.
بَيَان لغاته قَوْله: (من عكل) بِضَم الْعين الْمُهْملَة
وَسُكُون الْكَاف، وَفِي آخِره لَام: وعكل خمس قبائل،
وَذَلِكَ أَن عَوْف بن عبد منَاف ولد قيسا، فولد قيس
وائلاً وعوانة، فولد وَائِل عوفاً وثعلبة، فولد عَوْف بن
وَائِل الْحَارِث وجشماً وسعداً وعلياً وقيساً، وأمهم بنت
ذِي اللِّحْيَة، لِأَنَّهُ كَانَ مطائلاً لحيته، فحضنتهم
أمة سَوْدَاء يُقَال لَهَا: عكل، كَذَا قَالَه الْكَلْبِيّ
وَغَيره، وَيُقَال: عكل امْرَأَة حضنت ولد عَوْف بن إِيَاس
بن قيس بن عَوْف بن عبد مَنَاة ابْن اد بن طابخة. وَزعم
السَّمْعَانِيّ: أَنهم بطن من غنم، ورد ذَلِك عَلَيْهِ
أَبُو الْحسن الْجَزرِي بِأَن عكل امْرَأَة من حمير يُقَال
لَهَا: بنت ذِي اللِّحْيَة، تزَوجهَا عَوْف بن قيس بن
وَائِل بن عَوْف بن عبد مَنَاة بن اد، فَولدت لَهُ سَعْدا
وجشماً وعلياً، ثمَّ هَلَكت الحميرية، فحضنت عكل وَلَدهَا
وهم من جملَة الربَاب، تحالفوا على بني تَمِيم. قَوْله:
(اَوْ عرينة) ، بِضَم الْعين وَفتح الرَّاء وَسُكُون
الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون، وعرينة بن نَذِير بن
قيس بن عبقر بن أَنْمَار بن الْغَوْث بن طي بن أدد، وَزعم
الْيَشْكُرِي أَن عرينة بن عَزِيز بن نَذِير. قَوْله:
(فاجتووا الْمَدِينَة) أَي: أَصَابَهُم الجوى، بِالْجِيم:
وَهُوَ دَاء الْجوف إِذا تطاول، وَيُقَال الاجتواء
كَرَاهِيَة الْمقَام. يُقَال: اجتويت الْبَلَد: إِذا
كرهتها وَإِن كَانَت مُوَافقَة لَك فِي بدنك، واستوبلتها
إِذا لم توافقك فِي بدنك وَإِن أحببتها. قَوْله: (بلقاح)
بِكَسْر اللَّام، وَهِي: الْإِبِل، الْوَاحِدَة: لقوح،
وَهِي الحلوب مثل: قلُوص وقلاص، قَالَ ابو عَمْرو: إِذا
انتجت فَهِيَ لقوح شَهْرَيْن أَو ثَلَاثَة، ثمَّ هِيَ لبون
بعد ذَلِك. قَوْله: (فَاسْتَاقُوا النعم) : استاقوا، من
الاستياق، وَهُوَ السُّوق. و: النعم، بِفتْحَتَيْنِ:
وَاحِد الْأَنْعَام، وَهِي المَال الراعية، وَأكْثر مَا
يَقع هَذَا الِاسْم على الْإِبِل. قَوْله: (فِي آثَارهم)
الْآثَار جمع: اثر، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء
الْمُثَلَّثَة، يُقَال: خرجت فِي أَثَره إِذا خرجت
وَرَاءه. قَوْله: (وسمرت) ، بِضَم السِّين وَتَخْفِيف
الْمِيم وتشديدها، وَمعنى سمرت أَعينهم: كحلت بمسامير
محماة. وَفِي رِوَايَة: سملت، بِاللَّامِ مَوضِع الرَّاء،
يُقَال: سلمت عينه، بِصِيغَة الْمَجْهُول ثلاثياً، إِذا
فقئت بحديدة محماة. وَقيل: هما بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله:
(فِي الْحرَّة) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد
الرَّاء: وَهِي الأَرْض ذَات الْحِجَارَة السود، وَيجمع
على: حر وحرار وحرات وحرين وأحرين، وَهُوَ من الجموع
النادرة: كثبين وقلين، فِي جمع: ثبة وَقلة. وَالْمرَاد من
الْحرَّة هَذِه: حرَّة بِظَاهِر مَدِينَة الرَّسُول صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، بهَا حِجَارَة سود كَثِيرَة،
وَكَانَت بهَا الْوَقْعَة الْمَشْهُورَة أَيَّام يزِيد بن
مُعَاوِيَة. قَوْله: (يستسقون) من الاسْتِسْقَاء، وَهِي
طلب السَّقْي وَطلب السقياء أَيْضا، وَهُوَ الْمَطَر.
بَيَان إعرابه قَوْله: (فاجتووا الْمَدِينَة) : الْفَاء،
فِيهِ للْعَطْف. قَوْله: (وان يشْربُوا) عطف على: لقاح،
وَكلمَة: ان، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: فَأَمرهمْ
بالشرب من أَلْبَانهَا. قَوْله: (قتلوا) جَوَاب: لما،
قَوْله: (فَبعث) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، ومفعوله مَحْذُوف أَي: الطّلب، كَمَا جَاءَ فِي
رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ. قَوْله: (فَقطع أَيْديهم
إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مجَاز، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا جَاءَ فِي رِوَايَة
أُخْرَى: (فَأمر بِقطع أَيْديهم) . وَالْأَيْدِي جمع: يَد،
فإمَّا أَن يُرَاد بهَا أقل الْجمع الَّذِي هُوَ إثنان
عِنْد بعض الْعلمَاء، لِأَن لكل مِنْهُم يدين، وَإِمَّا
أَن يُرَاد التَّوْزِيع. قَوْله: (وألقوا) ، بِصِيغَة
الْمَجْهُول من: الْإِلْقَاء. قَوْله: (يستسقون) جملَة
وَقعت حَالا.
بَيَان الْمعَانِي قَوْله: (قدم أنَاس) أَي: على رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَمرهمْ بلقاح أَي:
فَأَمرهمْ أَن يلْحقُوا بهَا. قَوْله: (فَلَمَّا صحوا)
فِيهِ حذف تَقْدِيره: فَشَرِبُوا من أَلْبَانهَا
وَأَبْوَالهَا، فَلَمَّا صحوا، قَوْله: (فَلَمَّا ارْتَفع
النَّهَار) فِيهِ حذف أَيْضا تَقْدِيره: فأدركوا فِي ذَلِك
الْيَوْم فَأخذُوا، فَلَمَّا ارْتَفع جِيءَ بهم، أَي:
إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم أُسَارَى.
قَوْله: (وَلَا يسقون) ، بِضَم الْيَاء وَفتح الْقَاف.
بَيَان اخْتِلَاف أَلْفَاظه قَوْله: (عَن أنس) زَاد
الْأصيلِيّ: ابْن مَالك قَوْله: (قدم أنَاس) بِالْهَمْزَةِ
المضمومة عِنْد الْأَكْثَرين، وَعند الْأصيلِيّ والكشميهني
والسرخسي: (نَاس) ، بِلَا همزَة، وَفِي رِوَايَة
البُخَارِيّ فِي الدِّيات من طَرِيق أبي رَجَاء عَن أبي
قلَابَة: (قدم أنَاس على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) . وَقَوله: (من عكل أَو عرينة) الشَّك فِيهِ من
حَمَّاد، قَالَه بَعضهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَفظ:
أَو، ترديد من أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: هُوَ شكّ من الرَّاوِي، وَالَّذِي قَالَ:
إِنَّه حَمَّاد لَا يدْرِي أَي شَيْء وَجه تعيينة بذلك،
وللبخاري فِي الْمُحَاربين: عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد:
(أَن رهطا من عكل، أَو قَالَ: من عرينة) . وَله فِي
الْجِهَاد: عَن وهيب
(3/152)
عَن أَيُّوب: (أَن رهطا من عكل) ، وَلم
يشك، وَكَذَا فِي الْمُحَاربين: عَن يحيى بن أبي كثير،
وَفِي الدِّيات: عَن أبي رَجَاء، كِلَاهُمَا عَن أبي
قلَابَة، وَله فِي الزَّكَاة عَن شُعْبَة عَن قَتَادَة عَن
أنس: أَن نَاسا من عرينة، وَلم يشك أَيْضا، وَكَذَا لمُسلم
من رِوَايَة أبي عوَانَة مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أنس،
وَفِي الْمَغَازِي: عَن سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة:
(أَن نَاسا من عكل وعرينة) ، بِالْوَاو العاطفية. قيل:
هُوَ الصَّوَاب، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا وَقع فِي
رِوَايَة أبي عوَانَة، وَالطَّبَرَانِيّ من حَدِيث
قَتَادَة عَن أنس قَالَ: (كَانُوا أَرْبَعَة من عرينة
وَثَلَاثَة من عكل) . قلت: هَذَا يُخَالف مَا عِنْد
البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد من طَرِيق وهيب عَن أَيُّوب،
وَفِي الدِّيات من طَرِيق حجاج الصَّواف عَن أبي رَجَاء،
كِلَاهُمَا عَن أبي قلَابَة عَن أنس: (أَن رهطا من عكل
ثَمَانِيَة) ، وَجه ذَلِك أَنه صرح بِأَن الثَّمَانِية من
عكل، وَلم يذكر عرينة قلت: يُمكن التَّوْفِيق بِأَن احداً
من الروَاة طوى ذكر عرينة لِأَنَّهُ روى عَن أنس تَارَة من
عكل أَو عرينة، وَتارَة من عرينة بِدُونِ ذكر عكل، وَتارَة
من عكل وعرينة، كَمَا بَينا. فَإِن قلت: فِي رِوَايَة أبي
عوَانَة والطبري: (كَانُوا سَبْعَة) ، وَفِي رِوَايَة
البُخَارِيّ: ثَمَانِيَة، فَهَذَا مُخَالف. قلت: لَا
مُخَالفَة أصلا لاحْتِمَال أَن يكون الثَّامِن من غير
القبيلتين، وَكَانَ من أتباعهم. قَوْله: (فاجتووا
الْمَدِينَة) وَفِي رِوَايَة: (استوخموها) ، وللبخاري من
رِوَايَة سعيد عَن قَتَادَة فِي هَذِه الْقِصَّة:
(فَقَالُوا: يَا نَبِي الله إِنَّا كُنَّا أهل ضرع وَلم
نَكُنْ أهل ريف) ، وَله فِي الطِّبّ من رِوَايَة ثَابت عَن
أنس: (أَن نَاسا كَانَ بهم سقم قَالُوا: يَا رَسُول الله
أرونا وأطعمنا، فَلَمَّا صحوا قَالُوا: إِن الْمَدِينَة
وخمة) . وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة من رِوَايَة غيلَان
عَن أنس: (كَانَ بهم هزال شَدِيد) . وَعِنْده من رِوَايَة
ابْن سعد عَنهُ: (مصفر ألوانهم) بعد أَن صحت أَجْسَادهم،
فَهُوَ من حمى الْمَدِينَة كَمَا عِنْد أَحْمد من رِوَايَة
حميد عَن أنس. قَوْله: (فامرهم بلقاح) وللبخاري فِي
رِوَايَة همام عَن قَتَادَة: (فَأَمرهمْ أَن يلْحقُوا
براعية) ، وَله عَن قُتَيْبَة عَن حَمَّاد: (فَأمر لَهُم
بلقاح) بِزِيَادَة الَّلام، وَوَجهه أَن تكون الَّلام
زَائِدَة أَو للاختصاص، وَلَيْسَت للتَّمْلِيك. وَعند أبي
عوَانَة من رِوَايَة مُعَاوِيَة بن قُرَّة الَّتِي أخرج
مُسلم إسنادها: أَنهم بدؤوا بِطَلَب الْخُرُوج إِلَى
اللقَاح، (فَقَالُوا: يَا رَسُول الله، قد وَقع هَذَا
الوجع، فَلَو أَذِنت لنا فخرجنا إِلَى الْإِبِل) ،
وللبخاري من رِوَايَة وهيب عَن أَيُّوب: (أَنهم قَالُوا:
يَا رَسُول الله إبغنار سلاً، أَي: أطلب لَبَنًا. قَالَ:
مَا أجد لكم إلاَّ أَن تلحقوا بالذود) ، وَفِي رِوَايَة
ابي رَجَاء: (هَذِه نعم لنا نخرج فاخرجوا فِيهَا) . وَله
فِي الْمُحَاربين: عَن مُوسَى عَن وهيب بِسَنَدِهِ
فَقَالَ: (إلاَّ أَن تلحقوا بِإِبِل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) . وَله فِيهِ من رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ:
عَن يحيى بن أبي كثير بِسَنَدِهِ: (فَأَمرهمْ أَن يَأْتُوا
إبل الصَّدَقَة) ، وَكَذَا فِي الزَّكَاة من طَرِيق
شُعْبَة عَن قَتَادَة. فان قلت: كَيفَ التَّوْفِيق بَين
هَذِه الْأَحَادِيث؟ قلت: طَريقَة أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كَانَت لَهُ إبل من نصِيبه من الْمغنم، وَكَانَ يشرب
لَبنهَا، وَكَانَت ترعى مَعَ إبل الصَّدَقَة. فَأخْبرهُ
مرّة عَن إبِله، وَمرَّة عَن إبل الصَّدَقَة
لِاجْتِمَاعِهِمْ فِي مَوضِع وَاحِد. وَقَالَ بَعضهم:
وَالْجمع بَينهَا أَن إبل الصَّدَقَة كَانَت ترعى خَارج
الْمَدِينَة، وصادف بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بلقاحه إِلَى المرعى طلب هَؤُلَاءِ النَّفر الْخُرُوج
إِلَى الصَّحرَاء لشرب ألبان الْإِبِل، فَأَمرهمْ أَن
يخرجُوا مَعَه فَخَرجُوا مَعَه إِلَى الْإِبِل، فَفَعَلُوا
مَا فعلوا. قَوْله: (وَأَن يشْربُوا) وَفِي رِوَايَة
للْبُخَارِيّ عَن أبي رَجَاء: (فأخرجوا فَاشْرَبُوا من
أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا) ، بِصِيغَة الْأَمر. وَفِي
رِوَايَة شُعْبَة عَن قَتَادَة: (فَرخص لَهُم أَن يَأْتُوا
الصَّدَقَة فيشربوا) . قَوْله: (فَلَمَّا صحوا) ، وَفِي
رِوَايَة أبي رَجَاء: (فَانْطَلقُوا فَشَرِبُوا من
أَلْبَانهَا وَأَبْوَالهَا فَلَمَّا صحوا) ، وَفِي
رِوَايَة وهيب: (وسمنوا) ، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة ثَابت: (وَرجعت إِلَيْهِم
ألوانهم) . قَوْله: (فجَاء الْخَبَر) ، وَفِي رِوَايَة
وهيب عَن أَيُّوب: الصَّرِيخ، بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة،
وَهُوَ على وزن: فعيل، بِمَعْنى: فَاعل، أَي صرخَ بالإعلام
بِمَا وَقع مِنْهُم، وَهَذَا الصَّارِخ هُوَ أحد الراعيين،
كَمَا ثَبت فِي (صَحِيح أبي عوَانَة) من رِوَايَة
مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أنس. وَقد أخرج مُسلم إِسْنَاده
وَلَفظه: (فَقتلُوا أحد الراعيين وَجَاء الآخر وَقد حزع،
فَقَالَ: قد قتلوا صَاحِبي وذهبوا بِالْإِبِلِ) . قَوْله:
(فَذهب فِي آثَارهم) زَاد فِي رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ:
الطّلب، وَفِي حَدِيث سَلمَة بن الْأَكْوَع: (خيلاً من
الْمُسلمين أَمِيرهمْ كرز بن جَابر الفِهري) . وَكَذَا
ذكره ابْن إِسْحَاق وَالْأَكْثَرُونَ، وكرز، بِضَم الْكَاف
وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخِره زَاي مُعْجمَة، وللنسائي من
رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ: (فَبعث فِي طَلَبهمْ قافة) ،
وَهُوَ جمع: قائف، وَلمُسلم من رِوَايَة مُعَاوِيَة بن
قُرَّة عَن أنس: (أَنهم شباب من الْأَنْصَار قريب من
عشْرين رجلا، وَبعث مَعَهم قائفاً يقتفي آثَارهم) .
قَوْله: (قطع أَيْديهم) ، كَذَا هُوَ للأكثرين، وَفِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ وَالْمُسْتَمْلِي والسرخسي: (فَأمر
بِقطع أَيْديهم) ، وَقَالَ: الدَّاودِيّ: يَعْنِي قطع يَدي
كل وَاحِد وَرجلَيْهِ، وهذ يردهُ رِوَايَة التِّرْمِذِيّ
من خلاف، وَكَذَا ذكر الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْفرْيَابِيّ
عَن الْأَوْزَاعِيّ بِسَنَدِهِ، وللبخاري من رِوَايَة
الْأَوْزَاعِيّ أَيْضا. قَوْله:
(3/153)
(وسمرت) ، لم تخْتَلف رِوَايَات
البُخَارِيّ كلهَا بالراء، وَوَقع لمُسلم من رِوَايَة عبد
الْعَزِيز: (وسلمت) ، بِالتَّخْفِيفِ وَاللَّام، وللبخاري
من رِوَايَة وهيب عَن أَيُّوب، وَمن رِوَايَة
الْأَوْزَاعِيّ عَن يحيى، كِلَاهُمَا عَن أبي قلَابَة:
(ثمَّ أَمر بمسامير فأحميت فكحلهم بهَا) . وَلَا يُخَالف
ذَلِك رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي، لِأَنَّهُ فَقَأَ الْعين
بِأَيّ شَيْء كَانَ. قَوْله: (يستسقون فَلَا يسقون) زَاد
وهيب وَالْأَوْزَاعِيّ: حَتَّى مَاتُوا، وَفِي رِوَايَة
سعيد: (يعضون الْحِجَارَة) ، وَفِي رِوَايَة أبي رَجَاء:
(ثمَّ نبذهم فِي الشَّمْس حَتَّى مَاتُوا) وَفِي الطِّبّ
فِي رِوَايَة ثَابت، قَالَ أنس: (فَرَأَيْت رجلا مِنْهُم
يكدم الأَرْض بِلِسَانِهِ حَتَّى يَمُوت) ، وَلأبي عوَانَة
من هَذَا الْوَجْه: (يعَض الأَرْض ليجد بردهَا مِمَّا يجد
من الْحر والشدة) ، وَزعم الْوَاقِدِيّ أَنهم صلبوا، وَلم
يثبت ذَلِك فِي الرِّوَايَات الصَّحِيحَة.
بَيَان مَا فِيهِ من تَفْسِير الْمُبْهم وَغير ذَلِك
قَوْله: (قدم أنَاس من كل أَو عرينة) وَفِي رِوَايَة ابي
عوَانَة والطبري بإسنادهما إِلَى انس، قَالَ: (كَانُوا
أَرْبَعَة عَن عرينة وَثَمَانِية عَن عكل) . وَفِي
(طَبَقَات) ابْن سعد: أرسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي إثرهم كرز بن جَابر الفِهري وَمَعَهُ عشرُون
فَارِسًا، وَكَانَ العرنيون ثَمَانِيَة، وَكَانَت اللقَاح
ترعى بِذِي الحدر، نَاحيَة بقيا قَرِيبا من نمير، على
سِتَّة أَمْيَال من الْمَدِينَة، فَلَمَّا غدوا على
اللقَاح أدركهم يسَار مولى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَمَعَهُ نفر فَقَاتلهُمْ فَقطعُوا يَده وَرجله وغرز
والشوك فِي لِسَانه وَعَيْنَيْهِ حَتَّى مَاتَ فَفعل بهم
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَذَلِك، وَأنزل
عَلَيْهِ {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله
وَرَسُوله ويسعون فِي الارض فَسَادًا ... } (الْمَائِدَة:
33) الْآيَة. فَلم يسمل بعد ذَلِك عينا. انْتهى. وَكَانَ
يسَار نوبياً أَصَابَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي غَزْوَة محَارب، فَلَمَّا رَآهُ يحسن الصَّلَاة
أعْتقهُ، وَقَالَ ابْن عقبَة كَانَ أَمِير السّريَّة سعيد
بن زيد بن عَمْرو بن نفَيْل وخمل يسَار مَيتا فَدفن بقباء
وَزعم الرشاطي أَنهم من غير عرينة الَّتِي فِي قضاعة،
وَفِي (مُصَنف عبد الرَّزَّاق) : كَانُوا من بني فَزَارَة،
وَفِي كتاب ابْن الطلاع: أَنهم كَانُوا من بني سليم،
وَفِيه نظر، لِأَن هَاتين القبيلتين لَا يَجْتَمِعَانِ
مَعَ العرنيين. وَفِي (مُسْند الشاميين) للطبراني عَن أنس:
كَانُوا سَبْعَة: أربة من عرينة وَثَلَاثَة من عكل، فَقيل
العرنيين لِأَن أَكْثَرهم كَانَ من عرينة، وَذكرنَا عَن
الطَّبَرِيّ نَحوه، ثمَّ إِن قدومه كَانَ فِيمَا ذكره ابْن
إِسْحَاق من الْمَغَازِي فِي جمادي الْآخِرَة سنة سِتّ،
وَذكره البُخَارِيّ بعد الْحُدَيْبِيَة، وَكَانَت فِي ذِي
الْقعدَة مِنْهَا، وَذكر الْوَاقِدِيّ أَنَّهَا كَانَت فِي
شَوَّال مِنْهَا، وَتَبعهُ ابْن سعد وَابْن حبَان
وَغَيرهمَا، وَذكر الْوَاقِدِيّ أَن السّريَّة كَانَت
عشْرين، وَلم يقل من الْأَنْصَار، وسمى مِنْهُم جمَاعَة من
الْمُهَاجِرين، مِنْهُم: بريد بن الْحصيب وَسَلَمَة بن
الْأَكْوَع الأسلميان وجندب وَرَافِع ابْنا مكيث الجهنيان
وَأَبُو زر وَأَبُو رهم الغفاريان وبلال بن الْحَارِث
وَعبد الله بن عَمْرو بن عَوْف المزنيان، وَقَالَ بَعضهم:
الْوَاقِدِيّ لَا يحْتَج بِهِ إِذا انْفَرد، فَكيف إِذا
خَالف؟ قلت: مَا لِلْوَاقِدِي وَهُوَ إِمَام وَثَّقَهُ
جمَاعَة مِنْهُم أَحْمد؟ وَالْعجب من هَذَا الْقَائِل،
إِنَّه يَقع فِيهِ وَهُوَ أحد مَشَايِخ إِمَامه. وَقَالَ
الطَّبَرِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى جرير بن عبد الله
البَجلِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قدم قوم من
عرينة حُفَاة، فَلَمَّا صحوا واشتدوا قتلوا رُعَاة
اللقَاح، ثمَّ خَرجُوا القاح، فَبَعَثَنِي رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَلَمَّا أدركناهم بعد مَا أشرفوا
على بِلَادهمْ ... فَذكره إِلَى أَن قَالَ: فَجعلُوا
يَقُولُونَ: المَاء المَاء، وَرَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: النَّار النَّار. انْتهى. قلت:
هَذَا مُشكل، لِأَن قصَّة العرنيين كَانَت فِي شَوَّال سنة
سِتّ كَمَا ذكرنَا، وَإِسْلَام جرير كَانَ فِي السّنة
الْعَاشِرَة، وَهَذَا قَول الْأَكْثَرين إلاَّ أَن
الطَّبَرَانِيّ وَابْن قَانِع قَالَا: أسلم قَدِيما. فان
صَحَّ مَا قَالَاه فَلَا إِشْكَال، وَذكر ابْن سعد أَن عدد
اللقَاح كَانَ خمس عشرَة، وَأَنَّهُمْ نحرُوا مِنْهُم
وَاحِدَة يُقَال لَهَا: الحنا.
بييان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن مَالِكًا اسْتدلَّ
بِهَذَا الحَدِيث على طَهَارَة بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه،
وَبِه قَالَ أَحْمد وَمُحَمّد بن الْحسن والإصطخري
وَالرُّويَانِيّ الشافعيان، وَهُوَ قَول الشّعبِيّ
وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَالزهْرِيّ وَابْن سِيرِين
وَالْحكم الثَّوْريّ، وَقَالَ ابو دَاوُد بن علية: بَوْل
كل حَيَوَان وَنَحْوه، وَإِن كَانَ لَا يُؤْكَل لَحْمه،
طَاهِر غير بَوْل الْآدَمِيّ. وَقَالَ أَبُو حنيفَة
وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَأَبُو ثَوْر وَآخَرُونَ
كَثِيرُونَ: الأبوال كلهَا نَجِسَة إلاَّ مَا عُفيَ عَنهُ،
وَأَجَابُوا عَنهُ بِأَن مَا فِي حَدِيث العرنيين قد كَانَ
للضَّرُورَة، فَلَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَنه يُبَاح فِي
غير حَال الضَّرُورَة، لِأَن ثمَّة أَشْيَاء أبيحت فِي
الضرورات وَلم تبح فِي غَيرهَا، كَمَا فِي لبس الْحَرِير
فَإِنَّهُ حرَام على الرِّجَال وَقد ابيح لبسه فِي
الْحَرْب أَو للحكة أَو لشدَّة الْبرد إِذا لم يجد غَيره،
وَله أَمْثَال كَثِيرَة فِي الشَّرْع، وَالْجَوَاب الْمقنع
فِي ذَلِك أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، عرف
بطرِيق الْوَحْي شفاهم، والاستشفاء بالحرام جَائِز عِنْد
التيقن
(3/154)
بِحُصُول الشِّفَاء، كتناول الْميتَة فِي
المخصمة، وَالْخمر عِنْد الْعَطش، وإساغة اللُّقْمَة،
وَإِنَّمَا لَا يُبَاح مَا لَا يستيقن حُصُول الشِّفَاء
بِهِ. وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ يَقِينا أَن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أَمرهم بذلك على سَبِيل
التَّدَاوِي من السقم الَّذِي كَانَ أَصَابَهُ،
وَأَنَّهُمْ صحت أجسامهم بذلك، والتداوي منزلَة ضَرُورَة.
وَقد قَالَ عز وَجل: {إلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ}
(الْأَنْعَام: 119) فَمَا اضْطر الْمَرْء إِلَيْهِ فَهُوَ
غير محرم عَلَيْهِ من المآكل والمشارب. وَقَالَ شمس
الائمة: حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قد
رَوَاهُ قَتَادَة عَنهُ أَنه رخص لَهُم فِي شرب ألبان
الْإِبِل. وَلم يذكر الأبوال، وَإِنَّمَا ذكره فِي
رِوَايَة حميد الطَّوِيل عَنهُ، والْحَدِيث حِكَايَة حَال،
فَإِذا دَار بَين أَن يكون حجَّة أَو لَا يكون حجَّة سقط
الِاحْتِجَاج بِهِ، ثمَّ نقُول: خصهم رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بذلك لِأَنَّهُ عرف من طَرِيق الْوَحْي أَن
شفاءهم فِيهِ وَلَا يُوجد مثله فِي زَمَاننَا، وَهُوَ
كَمَا خص الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِلبْس
الْحَرِير لحكة كَانَت بِهِ، أَو للقمل، فَإِنَّهُ كَانَ
كثير الْقمل، أَو لأَنهم كَانُوا كفَّارًا فِي علم الله
تَعَالَى وَرَسُوله، عَلَيْهِ السَّلَام، علم من طَرِيق
الْوَحْي أَنهم يموتون على الرِّدَّة، ولايبعد أَن يكون
شِفَاء الْكَافِر بِالنَّجسِ. انْتهى. فَإِن قلت: هَل
لأبوال الْإِبِل تَأْثِير فِي الِاسْتِشْفَاء حَتَّى
أَمرهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك؟ قلت: قد كَانَت
إبِله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ترعى الشيح والقيصوم،
وأبوال الْإِبِل الَّتِي ترعى ذَلِك وَأَلْبَانهَا تدخل
فِي علاج نوع من أَنْوَاع الِاسْتِشْفَاء، فَإِذا كَانَ
كَذَلِك كَانَ الْأَمر فِي هَذَا أَنه، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، عرف من طَرِيق الْوَحْي كَون هَذِه للشفاء،
وَعرف أَيْضا مرضهم الَّذِي تزيله هَذِه الأبوال،
فَأَمرهمْ لذَلِك، وَلَا يُوجد هَذَا فِي زَمَاننَا،
حَتَّى إِذا فَرضنَا أَن أحدا عرف مرض شخص بِقُوَّة
الْعلم، وَعرف أَنه لَا يُزِيلهُ إلاَّ بتناول الْمحرم،
يُبَاح لَهُ حِينَئِذٍ أَن يتَنَاوَلهُ، كَمَا يُبَاح شرب
الْخمر عِنْد الْعَطش الشَّديد، وَتَنَاول الْميتَة عِنْد
المخمصة، وَأَيْضًا التَّمَسُّك بِعُمُوم قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (استنزهوا من الْبَوْل فَإِن عَامَّة
عَذَاب الْقَبْر مِنْهُ) . أولى لِأَنَّهُ ظَاهر فِي
تنَاول جَمِيع الأبوال، فَيجب اجتنابها لهَذَا الْوَعيد،
والْحَدِيث رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَة وَصَححهُ ابْن
خُزَيْمَة وَغَيره مَرْفُوعا.
وَمن الاحكام نظر الإِمَام فِي مصَالح قدوم الْقَبَائِل
والغرباء إِلَيْهِ، وَأمره لَهُم بِمَا يُنَاسب حَالهم
وَإِصْلَاح أبدانهم.
وَمِنْهَا: جَوَاز التطبب وطب كل جَسَد بِمَا اعتاده،
وَلِهَذَا أفرد البُخَارِيّ بَابا لهَذَا الحَدِيث وَترْجم
عَلَيْهِ: الدَّوَاء بأبوال الْإِبِل وَأَلْبَانهَا.
وَمِنْهَا: ثُبُوت أَحْكَام الْمُحَاربَة فِي الصَّحرَاء،
فَإِنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث فِي طَلَبهمْ لما
بلغه فعلهم بالرعاء، وَاخْتلف الْعلمَاء فِي ثُبُوت
أَحْكَامهَا فِي الْأَمْصَار، فنفاه أَبُو حنيفَة، وأثبته
مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَمِنْهَا: شَرْعِيَّة الْمُمَاثلَة
فِي الْقصاص. وَمِنْهَا: جَوَاز عُقُوبَة الْمُحَاربين،
وَهُوَ مُوَافق لقَوْله تَعَالَى: {انما جَزَاء الَّذين
يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله ... } (الْمَائِدَة: 33)
الْآيَة، وَهل كلمة: أَو، فِيهَا للتَّخْيِير أَو للتنويع
قَولَانِ. وَمِنْهَا: قتل الْمُرْتَد من غير اسْتِتَابَة،
وَفِي كَونهَا وَاجِبَة أَو مُسْتَحبَّة خلاف مَشْهُور،
وَقيل: هَؤُلَاءِ حَاربُوا، وَالْمُرْتَدّ إِذا حَارب لَا
يستناب لِأَنَّهُ يجب قَتله، فَلَا معنى للاستتابة.
الاسئلة والاجوبة الأول: لَو كَانَت أَبْوَال الْإِبِل
مُحرمَة الشّرْب لما جَازَ التَّدَاوِي بهَا لما روى أَبُو
دَاوُد من حَدِيث أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا:
(إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل شِفَاء امتي فِيمَا حرم
عَلَيْهَا) . وَأجِيب: بِأَنَّهُ مَحْمُول على حَالَة
الِاخْتِيَار، وَأما حَالَة الِاضْطِرَار فَلَا يكون
حَرَامًا: كالميتة للْمُضْطَر، كَمَا ذكرنَا. وَقَالَ ابْن
حزم: هَذَا حَدِيث بَاطِل، لِأَن فِي مُسْنده سُلَيْمَان
الشَّيْبَانِيّ وَهُوَ مَجْهُول. قلت: أخرجه ابْن حبَان
فِي (صَحِيحه) وَصَححهُ، قَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن
الْمثنى، قَالَ: أخبرنَا أَبُو خَيْثَمَة، قَالَ: حَدثنَا
جرير عَن الشَّيْبَانِيّ عَن حسان بن الْمخَارِق قَالَ:
(قَالَت أم سَلمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: اشتكت
ابْنة لي، فنبذت لَهَا فِي كوز، فَدخل النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ يغلي فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقلت:
اشتكت ابْنَتي فنبذنا لَهَا هَذَا: فَقَالَ، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام: إِن الله لم يَجْعَل شفاءكم فِي
حرَام) . وَقَول ابْن حزم: أَن فِي سَنَده سلمَان وهم،
وَإِنَّمَا هُوَ: سُلَيْمَان، بِزِيَادَة الْيَاء آخر
الْحُرُوف، وَهُوَ أحد الثِّقَات، أخرج عَنهُ البُخَارِيّ
وَمُسلم فِي (صَحِيحَيْهِمَا) فَإِن قلت: يرد عَلَيْهِ
قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي الْخمر:
إِنَّهَا لَيست بدواء وَإِنَّهَا دَاء، فِي جَوَاب من
سَأَلَ عَن التَّدَاوِي بهَا. قلت: هَذَا رُوِيَ عَن
سُوَيْد بن طَارق: (أَنه سَأَلَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن الْخمر فَنَهَاهُ، ثمَّ سَأَلَهُ
فَنَهَاهُ، فَقَالَ يَا نَبِي الله: إِنَّهَا دَوَاء!
فَقَالَ: لَا، وَلكنهَا دَاء) . وَأجَاب ابْن حزم عَن
ذَلِك فَقَالَ: لَا حجَّة فِيهِ، لِأَن فِي سَنَده: سماك
بن حَرْب، وَهُوَ يقبل التَّلْقِين، شهد عَلَيْهِ بذلك
شُعْبَة وَغَيره، وَلَو صَحَّ لم يكن فِيهِ حجَّة، لِأَن
فِيهِ: أَن الْخمر لَيْسَ بدواء، وَلَا خلاف بَيْننَا فِي
أَنَّهَا لَيْسَ بداوء فَلَا يحل تنَاوله، وَقد أجَاب
بَعضهم بِأَن ذَلِك خَاص بِالْخمرِ، ويلتحق بهَا غَيرهَا
من المسكرات. قلت: فِيهِ نظر، لِأَن دَعْوَى
(3/155)
الخصوصية بِلَا دَلِيل لَا تسمع،
وَالْجَوَاب الْقَاطِع أَن هَذَا مَحْمُول على حَالَة
الِاخْتِيَار كَمَا ذكرنَا. فان قلت: رُوِيَ عَن ابْن عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (كَانَت الْكلاب تبول
وَتقبل وتدبر فِي الْمَسْجِد فَلم يَكُونُوا يرشون شَيْئا)
، وَرُوِيَ عَن جَابر والبراء، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، مَرْفُوعا: (مَا أكل لَحْمه فَلَا بَأْس ببوله)
. وَحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
الْآتِي ذكره فِي بَاب: إِذا القى على ظهر الْمُصَلِّي قذر
أَو جيفة لم تفْسد عَلَيْهِ صلَاته، والْحَدِيث الصَّحِيح
الَّذِي ورد فِي غَزْوَة تَبُوك: (فَكَانَ الرجل ينْحَر
بعيره فيعصر فرثه فيشربه وَيجْعَل مَا بَقِي على كبده) .
قلت: أما حَدِيث ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
فَغير مُسْند، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ أَنه، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، علم بذلك. وَأما حَدِيث جَابر
والبراء فَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَضَعفه. وَأما حَدِيث
ابْن مَسْعُود فَلِأَنَّهُ كَانَ بِمَكَّة قيل وُرُود
الحكم بِتَحْرِيم النجو وَالدَّم، وَقَالَ ابْن حزم: هُوَ
مَنْسُوخ بِلَا شكّ. وَأما حَدِيث غَزْوَة تَبُوك فقد قيل:
إِنَّه كَانَ للتداوي، وَقَالَ ابْن خُزَيْمَة: لَو كَانَ
الفرث إِذا عصره نجسا لم يجز للمرء أَن يَجعله على كبده.
السُّؤَال الثَّانِي: مَا وَجه تعذيبهم بالنَّار وَهُوَ
تسمير أَعينهم بمسامير محمية، كَمَا ذكرنَا، وَقد نهى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن التعذيب بالنَّار؟
الْجَواب: أَنه كَانَ قبل نزُول الْحُدُود، وَآيَة
الْمُحَاربَة وَالنَّهْي عَن الْمثلَة، فَهُوَ مَنْسُوخ.
وَقيل: لَيْسَ بمنسوخ، وَإِنَّمَا فعل النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِمَا فعل قصاصا لأَنهم فعلوا بالرعاة مثل
ذَلِك. وَقد رَوَاهُ مُسلم فِي بعض طرقه، وَلم يذكرهُ
البُخَارِيّ. قَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا لم يذكرهُ
لِأَنَّهُ لَيْسَ من شَرطه. وَيُقَال: فَلذَلِك بوب
البُخَارِيّ فِي كِتَابه، وَقَالَ: بَاب إِذا حرق الْمُشرك
هَل يحرق؟ وَوَجهه أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما سمل
أَعينهم، وَهُوَ تحريق بالنَّار، اسْتدلَّ بِهِ أَنه لما
جَازَ تحريق أَعينهم بالنَّار، وَلَو كَانُوا لم يحرقوا
أعين الرعاء، أَنه أولى بِالْجَوَازِ بتحريق الْمُشرك إِذا
أحرق الْمُسلم. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: وَكَانَ
البُخَارِيّ جمع بَين حَدِيث: (لَا تعذبوا بِعَذَاب الله)
، وَبَين هَذَا، بِحمْل الأول على غير سَبَب، وَالثَّانِي
على مُقَابلَة السَّيئَة بِمِثْلِهَا من الْجِهَة
الْعَامَّة، وَإِن لم يكن من نوعها الْخَاص، وإلاَّ فَمَا
فِي هَذَا الحَدِيث أَن العرنيين فعلوا ذَلِك بالرعاة.
وَقيل: النَّهْي عَن الْمثلَة نهي تَنْزِيه لَا نهي
تَحْرِيم.
السُّؤَال الثَّالِث: إِن الْإِجْمَاع قَامَ على أَن من
وَجب عَلَيْهِ الْقَتْل فَاسْتَسْقَى المَاء إِنَّه لَا
يمْنَع مِنْهُ لِئَلَّا يجْتَمع عَلَيْهِ عذابان؟
الْجَواب: أَنه إِنَّمَا لم يسقوا هُنَاكَ معاقبة
لجنايتهم، لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، دَعَا
عَلَيْهِم، فَقَالَ: عطَّش الله من عطَّش آل مُحَمَّد
اللَّيْلَة. أخرجه النَّسَائِيّ: فَأجَاب الله دعاءه،
وَكَانَ ذَلِك بِسَبَب أَنهم منعُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَة
إرْسَال مَا جرت بِهِ الْعَادة من اللَّبن الَّذِي كَانَ
يراح بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من لقاحه فِي
كل لَيْلَة، كَمَا ذكره ابْن سعد، وَلِأَنَّهُم ارْتَدُّوا
فَلَا حُرْمَة لَهُم. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: لم يَقع
نهي من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن سقيهم وَفِيه
نظر لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، اطلع على ذَلِك،
وسكوته كافٍ فِي ثُبُوت الحكم. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
الْمُحَارب لَا حُرْمَة لَهُ فِي سقِِي المَاء وَلَا فِي
غَيره، وَيدل عَلَيْهِ أَن من لَيْسَ مَعَه مَاء إلاَّ
لطهارته لَيْسَ لَهُ أَن يسْقِيه الْمُرْتَد وَيتَيَمَّم،
بل يَسْتَعْمِلهُ وَلَو مَاتَ الْمُرْتَد عطشاً. وَقَالَ
الْخطابِيّ: إِنَّمَا فعل بهم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم ذَلِك لِأَنَّهُ أَرَادَ بهم الْمَوْت بذلك، وَفِيه
نظر لَا يخفى، وَقيل: إِن الْحِكْمَة فِي تعطيشهم لكَوْنهم
كفرُوا بِنِعْمَة سقِِي ألبان الْإِبِل الَّتِي حصل لَهُم
بهَا الشِّفَاء من الْجزع والوخم، وَفِيه ضعف.
قالَ أبُو قِلاَبَةَ فَهَؤُلاءِ سَرَقُوا وقتَلُوا
وَكَفَرُوا بَعد إيمانِهِمْ وَحارَبُوا الله وَرَسُولَهُ.
ابو قلَابَة: عبد الله، وَقَوله هَذَا إِن كَانَ دَاخِلا
فِي قَول أَيُّوب بِأَن يكون مقولاً لَهُ يكون دَاخِلا
تَحت الْإِسْنَاد، وَإِن كَانَ مقول البُخَارِيّ يكون
تَعْلِيقا مِنْهُ. وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا قَالَه أَبُو
قلَابَة استنباطاً، ثمَّ قَالَ: وَلَيْسَ مَوْقُوفا على
أبي قلَابَة كَمَا توهمه بَعضهم. قلت: كَلَامه متناقض لَا
يخفى. قَوْله: (سرقوا) إِنَّمَا أطلق عَلَيْهِم سراقاً
لِأَن أَخذهم اللقَاح سَرقَة لكَونه من حرز بِالْحَافِظِ.
قَوْله: (وحاربوا الله وَرَسُوله) وَأطلق عَلَيْهِم
محاربين لما ثَبت عِنْد أَحْمد من رِوَايَة حميد عَن أنس،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أصل الحَدِيث، وهربوا
محاربين.
234 - حدّثنا آدَمُ قالَ حدّثنا شُعْبَةُ قَالَ أخبرنَا
أبُو النَّيَّاحِ يَزِيدُ بنُ حُمَيْدٍ أَنَسٍ قالَ كانَ
النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي قَبْلَ أنْ
يُبْنَى المَسْجِدُ فِي مَرَابِض الغَنَمِ..
هَذَا أحد حَدِيثي الْبَاب، وَهُوَ مُطَابق لآخر
التَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة: آدم بن أبي اياس، وَشعْبَة
بن
(3/156)
الْحجَّاج، تقدما فِي كتاب الْإِيمَان،
وابو التياح؛ بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء
مُهْملَة، واسْمه يزِيد، تقدم فِي بَاب: مَا كَانَ
النَّبِي، صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، يتخولهم.
بَيَان لطائف اسناده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين
خراساني وكوفي وبصري.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
هُنَا عَن آدم، وَفِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة مُخْتَصرا، كَمَا هَهُنَا عَن
عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه وَعَن يحيى بن حبيب.
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن بشار عَن
يحيى الْقطَّان، وَعَن آدم فِي الْمَغَازِي عَن عبيد الله
بن معَاذ عَن أَبِيه، وَعَن أبي بكر عَن عبيد بن سعيد،
وَعَن مُحَمَّد ابْن الْوَلِيد عَن غنْدر، خمستهم عَن
شُعْبَة عَنهُ بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْعلم عَن
بنداربه.
بَيَان لغته قد مر فِي أول الْبَاب، وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: أجمع كل من يحفظ عَنهُ الْعلم على إِبَاحَة
الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم إلاَّ الشَّافِعِي، فَإِنَّهُ
قَالَ: لَا إِكْرَاه الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم إِذا
كَانَ سليما من أبعارها وَأَبْوَالهَا، وَمِمَّنْ روى
عَنهُ إجَازَة ذَلِك، وَفعله ابْن عمر وَجَابِر وَأَبُو
ذَر وَالزُّبَيْر وَالْحسن وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ
وَعَطَاء. وَقَالَ ابْن بطال: حَدِيث الْبَاب حجَّة على
الشَّافِعِي، رَضِي الله عَنهُ، لِأَن الحَدِيث لَيْسَ
فِيهِ تَخْصِيص مَوضِع من آخر، وَمَعْلُوم أَن مرابضها لَا
تسلم من البعر وَالْبَوْل، فَدلَّ على الْإِبَاحَة وعَلى
طَهَارَة الْبَوْل والبعر. قلت: قد اسْتدلَّ بِهِ من
يَقُول بِطَهَارَة بَوْل الْمَأْكُول لَحْمه وروثه،
وَقَالُوا: لِأَن المرابض لَا تَخْلُو عَن ذَلِك، فَدلَّ
على أَنهم كَانُوا يباشرونها فِي صلواتهم فَلَا تكون
نَجِسَة. وَأجَاب مخالفوهم بِاحْتِمَال وجود الْحَائِل،
ورد عَلَيْهِم بِأَنَّهُم لم يَكُونُوا يصلونَ على حَائِل
دون الأَرْض، ورد عَلَيْهِم بِأَنَّهُ شَهَادَة على
النَّفْي وَأَيْضًا فقد ثَبت فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن أنس
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على حَصِير فِي
دَارهم، وَصَحَّ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، كَانَ يُصَلِّي على الْخمْرَة.
وَقَالَ ابْن حزم: هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث الْبَاب
مَنْسُوخ لِأَن فِيهِ أَن ذَلِك كَانَ قبل أَن يَبْنِي
الْمَسْجِد، فَاقْتضى أَنه فِي أول الْهِجْرَة، ورد
عَلَيْهِ بِمَا صَحَّ عَن عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا،
أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (امرهم بِبِنَاء
الْمَسَاجِد فِي الدّور، وَأَن تطيب وتنظف) . رَوَاهُ
أَبُو دَاوُد وَأحمد وَغَيرهمَا، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة
وَغَيره، وَلأبي دَاوُد نَحوه من حَدِيث سَمُرَة، وَزَاد:
وَإِن تطهرها، قَالَ: وَهَذَا بعد بِنَاء الْمَسْجِد،
وَمَا ادَّعَاهُ من النّسخ يَقْتَضِي الْجَوَاز ثمَّ
الْمَنْع، وَيرد هَذَا أُذُنه، عَلَيْهِ السَّلَام، وَفِي
الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم. وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان)
عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِن لم تَجدوا إلاَّ مرابض الْغنم وأعطان الْإِبِل
فصلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل.
قَالَ الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح. وَفِي (تَارِيخ
نيسابور) من حَدِيث أبي حبَان عَن ابي زرْعَة عَنهُ
مَرْفُوعا: (الْغنم من دَوَاب الْجنَّة فامسحوا رغامها
وصلوا فِي مرابضها) . وَعند الْبَزَّار فِي (مُسْنده) :
(أَحْسنُوا إِلَيْهَا وأميطوا عَنْهَا الْأَذَى) . وَفِي
حَدِيث عبد الله بن الْمُغَفَّل: (صلوا فِي مرابض الْغنم
وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل فَإِنَّهَا خلقت من
الشَّيَاطِين) . قَالَ الْبَيْهَقِيّ) كَذَا رَوَاهُ
جمَاعَة. وَقَالَ بضعهم: كُنَّا نؤمر، وَلم يذكر النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِي لفظ: (إِذا أدركتكم
الصَّلَاة وَأَنْتُم فِي مراح الْغنم فصلوا فِيهَا،
فَإِنَّهَا سكينَة وبركة، وَإِذا أدركتكم الصَّلَاة
وَأَنْتُم فِي أعطان الْإِبِل فاخرجوا مِنْهَا فَإِنَّهَا
جن خلقت من الْجِنّ. أَلا ترى أَنَّهَا إِذا نفرت كَيفَ
تشمخ بأنفها) . وَفِي مُسْند عبد الله بن وهب الْبَصْرِيّ
عَن سعيد بن أبي أَيُّوب عَن رجل حَدثهُ عَن ابْن
الْمُغَفَّل: (نهى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، أَن يُصَلِّي فِي معاطن الْإِبِل، وَأمر أَن
يُصَلِّي فِي مراح الْبَقر وَالْغنم) . وَعند ابْن مَاجَه
بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث عبد الْملك بن الرّبيع بن
سُبْرَة عَن أَبِيه عَن جده، مَرْفُوعا: (لَا يُصَلِّي فِي
أعطان الْإِبِل، وَيُصلي فِي مراح الْغنم) . وَعند ابي
الْقَاسِم بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن عقبَة بت عَامر:
(صلوا فِي مرابض الْغنم) . وَكَذَا رَوَاهُ ابْن عمر
وَأسيد بن حضير، وَعند ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث الرَّاء:
(سُئِلَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن الصَّلَاة فِي
مرابض الْغنم؟ فَقَالَ: صلوا فِيهَا فَإِنَّهَا بركَة) .
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: يجوز الصَّلَاة أَيْضا فِي مراح
الْبَقر لعُمُوم قَوْله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام:
(أَيْنَمَا أَدْرَكتك الصَّلَاة فصلِّ) . وَهُوَ قَول
عَطاء وَمَالك. قلت: ذهل ابْن الْمُنْذر عَن حَدِيث عبد
الله بن وهب الَّذِي ذَكرْنَاهُ آنِفا حَتَّى اسْتدلَّ
بذلك، فَلَو وقف عَلَيْهِ لاستدل بِهِ. وَالله تَعَالَى
أعلم.
(3/157)
67 - (بابُ مَا يَقَعُ مِنَ النَّجَاسات
فِي السِّمْنِ والمَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم وُقُوع النَّجَاسَة فِي
السّمن وَالْمَاء، فكلمة: مَا، مَصْدَرِيَّة وَكلمَة: من
بَيَانِيَّة. وَقَالَ بَعضهم: بَاب مَا يَقع ... الخ. أَي:
هَل ينجسهما أم لَا؟ أَو: لَا ينجس المَاء إلاَّ إِذا تغير
دون غَيره. قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّفْسِير،
فَكَأَنَّهُ لما خَفِي عَلَيْهِ الْمَعْنى الَّذِي
ذَكرْنَاهُ قدر مَا قدره.
فان قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب
وَالْبَاب الَّذِي قبله؟ قلت: من حَيْثُ إِن فِي هَذَا
الْبَاب السَّابِق ذكر بَوْل مَا يُؤْكَل لَحْمه،
وَالْبَوْل فِي نَفسه نجس، وَكَذَلِكَ فِي هَذَا الْبَاب
ذكر الْفَأْرَة الَّتِي هِيَ نجس، وَذكر الدَّم كَذَلِك
وَالْإِشَارَة إِلَى أحكامهما على مَا جَاءَ من السّلف
وَمن الحَدِيث.
وَقَالَ الزُّهْري لاَ بأْسَ بالمَاءِ مَا لَمْ
يُغَيِّرْهُ طَعْمٌ أوْ رِيحٌ أوْلَوْنٌ
الزُّهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الْفَقِيه
الْمدنِي، نزيل الشَّام، ثمَّ الْكَلَام فِيهِ على
أَنْوَاع. الأول: أَن هَذَا تَعْلِيق من البُخَارِيّ،
وَلكنه مَوْصُول عَن عبد الله بن وهب فِي مُسْند: حَدثنَا
يُونُس عَن ابْن شهار أَنه قَالَ: كل مَا فضل مِمَّا
يُصِيبهُ من الْأَذَى حَتَّى لَا يُغير ذَلِك طعمه وَلَا
لَونه وَلَا رِيحه، فَلَا بَأْس أَن يتَوَضَّأ بِهِ. وَورد
فِي هَذَا الْمَعْنى حَدِيث عَن أبي أُمَامَة الْبَاهِلِيّ
قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن
المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء إلاَّ مَا غلب على رِيحه وطعمه
ولونه) . روايه ابْن مَاجَه: حَدثنَا مَحْمُود ابْن خَالِد
وَالْعَبَّاس بن الْوَلِيد الدمشقيان قَالَ: حَدثنَا
مَرْوَان بن مُحَمَّد حَدثنَا رشدين، أخبرنَا مُعَاوِيَة
بن صَالح عَن رَاشد ابْن سعد عَن أبي أُمَامَة، رَضِي الله
عَنهُ، وَقَالَ الدراقطني: إِنَّمَا يَصح هَذَا من قَول
رَاشد بن سعد وَلم يرفعهُ غير رشدين. قلت: وَفِيه نظر،
لِأَن أَبَا أَحْمد بن عدي رَوَاهُ فِي (الْكَامِل) من
طَرِيق أَحْمد بن عمر عَن حَفْص بن عمر حَدثنَا ثَوْر بن
يزِيد عَن رَاشد بن سعد عَن أبي أُمَامَة فرفعه. وَقَالَ:
لم يروه عَن ثَوْر إلاَّ حَفْص. قلت: وَفِيه نظر أَيْضا،
لِأَن الْبَيْهَقِيّ رَوَاهُ من حَدِيث ابي الْوَلِيد عَن
الساماني عَن عَطِيَّة بن بَقِيَّة بن الْوَلِيد عَن
أَبِيه عَن ثَوْر، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: والْحَدِيث غير
قوي إلاَّ أَنا لَا نعلم فِي نَجَاسَة المَاء إِذا تغير
بِالنَّجَاسَةِ خلافًا.
النَّوْع الثَّانِي فِي مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا بَأْس)
أَي: لَا حرج فِي اسْتِعْمَال مَاء مُطلقًا مَا لم
يُغَيِّرهُ طعم أَو ريح أَو لون. وَقَوله: (لم يُغَيِّرهُ)
، جملَة من الْفِعْل وَالْمَفْعُول. وَقَوله: (طعم)
بِالرَّفْع فَاعله، وَحَاصِل الْمَعْنى: كل مَاء طَاهِر
فِي نَفسه وَلَا يَتَنَجَّس بِإِصَابَة الْأَذَى، أَي:
النَّجَاسَة إلاَّ إِذا تغير أحد الْأَشْيَاء الثَّلَاثَة
مِنْهُ، وَهِي: الطّعْم وَالرِّيح واللون. فان قلت:
الطّعْم أَو الرّيح أَو اللَّوْن هُوَ المغير، بِفَتْح
الْيَاء آخر الْحُرُوف الْمُشَدّدَة، لَا المغير على
صِيغَة الْفَاعِل، والمغير، بِالْكَسْرِ هُوَ الشَّيْء
النَّجس الَّذِي يخالطه، فَكيف يَجْعَل الطّعْم أَو الرّيح
أَو اللَّوْن مغيراً على صِيغَة الْفَاعِل على مَا وَقع
فِي رِوَايَة البُخَارِيّ، وَأما الَّذِي فِي عبارَة عبد
الله بن وهب فَهُوَ على الأَصْل. قلت: المغير فِي
الْحَقِيقَة هُوَ المَاء، وَلَكِن تَغْيِيره لما كَانَ لم
يعلم إلاَّ من جِهَة الطّعْم أَو الرّيح أَو اللَّوْن
فَكَأَنَّهُ صَار هُوَ المغير، وَهُوَ من قبيل ذكر
السَّبَب، وَإِرَادَة الْمُسَبّب. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
لَا بَأْس، أَي لَا يَتَنَجَّس المَاء بوصول النَّجس
إِلَيْهِ قَلِيلا أَو كثيرا، بل لَا بُد من تغير أحد
الْأَوْصَاف الثَّلَاثَة فِي تنجسه، وَالْمرَاد من لفظ:
مَا لم يُغَيِّرهُ طعمه، مَا لم يتَغَيَّر طعمه. فَنَقُول:
لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرَاد بالطعم، الْمَذْكُور فِي
لفظ الزُّهْرِيّ، طعم المَاء أَو طعم الشَّيْء المنجس،
فعلى الأول مَعْنَاهُ: مَا لم يُغير المَاء عَن حَاله
الَّتِي خلق عَلَيْهَا طعمه، وتغيره طعمه لَا بُد أَن يكون
بِشَيْء نجس، إِذا الْبَحْث فِيهِ. وعَلى الثَّانِي
مَعْنَاهُ: مَا لم يُغير المَاء طعم النَّجس، وَيلْزم
مِنْهُ تغير طعم المَاء، إِذْ لَا شكّ أَن الطّعْم هُوَ
المغير للطعم، واللون للون، وَالرِّيح للريح، إِذْ
الْغَالِب أَن الشَّيْء يُؤثر فِي الملاقي بِالنِّسْبَةِ،
وَجعل الشَّيْء متصفاً بِوَصْف نَفسه، وَلِهَذَا يُقَال:
لَا يسخن إلاَّ الْحَار، وَلَا يبرد إلاَّ الْبَارِد،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا لم يُغير طعم المَاء طعم الملاقي
النَّجس، أَو لَا بَأْس، مَعْنَاهُ: لَا يَزُول طهوريته
مَا لم يُغَيِّرهُ طعم من الطعوم الطاهرة اَوْ النَّجِسَة.
نعم، إِن كَانَ المغير طعماً نجسا يُنجسهُ، وَإِن كَانَ
طَاهِرا يزِيل طهوريته لَا طَهَارَته، فَفِي الْجُمْلَة
فِي اللَّفْظ تعقيد. انْتهى. قلت: تَفْسِيره هَكَذَا هُوَ
عين التعقيد لِأَنَّهُ فسر قَوْله: (لَا بَأْس) بمعنيين:
أَحدهمَا بقوله: (أَي لَا يَتَنَجَّس) إِلَى آخِره،
وَالْآخر بقوله: (لَا يَزُول طهوريته) . وكلا المغنيين لَا
يساعدهما اللَّفْظ، بل هُوَ خَارج عَنهُ. وَقَوله: (المغير
للطعم هُوَ الطّعْم) غير سديد،
(3/158)
لَان المغير للطعم، وَهُوَ الشَّيْء
الملاقي لَهُ، وَكَذَلِكَ اللَّوْن وَالرِّيح، وَكَذَلِكَ
قَوْله: (المُرَاد من لفظ مَا لم يُغَيِّرهُ طعمه مَا لم
يتَغَيَّر طعمه) غير موجه، لِأَنَّهُ تَفْسِير للْفِعْل
الْمُتَعَدِّي بِالْفِعْلِ اللَّازِم، من غير وَجه،
وَكَذَلِكَ ترديده بقوله: لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يُرَاد
بالطعم الْمَذْكُور ... إِلَى آخِره، غير موجه لِأَن
الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: لم يُغَيِّرهُ، يرجع إِلَى
المَاء، فَيكون الْمَعْنى على هَذَا: لَا بَأْس بِالْمَاءِ
مَا لم يُغَيِّرهُ طعم المَاء، وَطعم المَاء ذاتي، فَكيف
يُغير ذَات المَاء؟ وَإِنَّمَا بِغَيْرِهِ طعم الشَّيْء
الملاقي، وَالْفرق بَين الطعمين ظَاهر.
النَّوْع الثَّالِث فِي استنباط الحكم مِنْهُ استنبط
مِنْهُ: أَن مَذْهَب الزُّهْرِيّ فِي المَاء الَّذِي
يخالطه شَيْء نجس الِاعْتِبَار بتغيره بذلك من غير فرق
بَين الْقَلِيل وَالْكثير، وَهُوَ مَذْهَب جمَاعَة من
الْعلمَاء، وشنع أَبُو عبيد فِي (كتاب الطّهُور) على من
ذهب إِلَى هَذَا بِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن: من بَال فِي
إبريق وَلم يُغير للْمَاء وَصفا إِنَّه يجوز لَهُ التطهر
بِهِ، هُوَ مستشنع. قَالَ بَعضهم: وَلِهَذَا نصر قَول
التَّفْرِيق بالقلتين. قلت: كَيفَ ينصر هَذَا بِحَدِيث
الْقلَّتَيْنِ، وَقد قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ مَدَاره على
علته، أَو مُضْطَرب فِي الرِّوَايَة، أَو مَوْقُوف، وحسبك
أَن الشَّافِعِي رِوَايَة عَن الْوَلِيد بن كثير وَهُوَ
إباضي. وَاخْتلفت رِوَايَته فَقيل: قُلَّتَيْنِ، وَقيل:
قُلَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا. وَرُوِيَ أَرْبَعُونَ قلَّة،
وَرُوِيَ أَرْبَعُونَ فرقا، ووقف على أبي هُرَيْرَة وَعبيد
الله بن عمر، وَقَالَ الْيَعْمرِي: حكم ابْن مَنْدَه
بِصِحَّتِهِ على شَرط مُسلم من جِهَة الروَاة، وَلكنه أعرض
عَن جِهَة الرِّوَايَة بِكَثْرَة الِاخْتِلَاف فِيهَا
وَالِاضْطِرَاب، وَلَعَلَّ مُسلما تَركه لذَلِك. قلت:
وَكَذَلِكَ لم يُخرجهُ البُخَارِيّ لاخْتِلَاف وَقع فِي
إِسْنَاده. وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : مَا ذهب
إِلَى الشَّافِعِي من حَدِيث الْقلَّتَيْنِ مَذْهَب ضَعِيف
من جِهَة النّظر، غير ثَابت فِي الْأَثر، لِأَنَّهُ قد
تكلم فِيهِ جمَاعَة من أهل الْعلم بِالنَّقْلِ. وَقَالَ
الدبوسي فِي كتاب (الْأَسْرَار) : هُوَ خبر ضَعِيف،
وَمِنْهُم من لم يقبله، لِأَن الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ
لم يعملوا بِهِ. وَقَالَ ابْن بطال: وَمذهب الزُّهْرِيّ
هُوَ قَول الْحسن وَالنَّخَعِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ، وَمذهب
أهل الْمَدِينَة، وَهِي رِوَايَة أبي مُصعب عَن مَالك،
وروى عَنهُ ابْن الْقَاسِم أَن قَلِيل المَاء ينجس
بِقَلِيل النَّجَاسَة، وَإِن لم يظْهر فِيهِ. وَهُوَ قَول
الشَّافِعِي، وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنى عَن عبد الله بن
عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَسَعِيد بن الْمسيب على
اخْتِلَاف عَنهُ، وَسَعِيد بن جُبَير، وَهُوَ قَول
اللَّيْث وَابْن صَالح بن حَيّ وَدَاوُد بن عَليّ وَمن
تبعه، وَهُوَ مَذْهَب أهل الْبَصْرَة. وَقد قَالَ بعض
أَصْحَابنَا: هُوَ الصَّحِيح فِي النّظر، وثابت بالأثر من
ذَلِك صب المَاء على بَوْل الْأَعرَابِي.
وَحَدِيث بِئْر بضَاعَة، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا؛ المَاء لَا يُنجسهُ شَيْء،
وَمذهب أَصْحَابنَا المَاء إِمَّا جارٍ أَو راكد، قَلِيل
أَو كثير؛ فالجاري إِذا وَقعت فِيهِ النَّجَاسَة وَكَانَت
غير مرئية كالبول وَالْخمر وَنَحْوهمَا فَإِنَّهُ لَا ينجس
مَا لم يتَغَيَّر لَونه أَو طعمه أَو رِيحه، وَإِن كَانَت
مرئية كالجيفة وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ لَا ينجس. فَإِن كَانَ
يجْرِي عَلَيْهَا جَمِيع المَاء لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ
من أَسْفَلهَا، وان كَانَ يجْرِي أَكْثَرهَا عَلَيْهَا
فَكَذَلِك اعْتِبَارا للْغَالِب، وَإِن كَانَ أَقَله
يجْرِي عَلَيْهَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ من اسفلها، وَإِن
كَانَ يجْرِي عَلَيْهَا النّصْف دون النّصْف فَالْقِيَاس
جَوَاز التَّوَضُّؤ. وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا يجوز
احْتِيَاطًا. والراكد اخْتلفُوا فِيهِ: فَقَالَت
الظَّاهِرِيَّة: لَا ينجس أصلا. وَقَالَت عَامَّة
الْعلمَاء: إِن كَانَ المَاء قَلِيلا ينجس، وَإِن كثيرا
لَا ينجس، لكِنهمْ اخْتلفُوا فِي الْحَد الْفَاصِل
بَينهمَا؛ فعندنا بالخلوص، فَإِن كَانَ يخلص بعضه إِلَى
بعض فَهُوَ قَلِيل، وَإِلَّا فَهُوَ كثير. وَاخْتلف
اصحابنا فِي تَفْسِير الخلوص بعد أَن اتَّفقُوا أَنه
يعْتَبر الخلوص، بِالتَّحْرِيكِ، وَهُوَ: أَن يكون بِحَال
لَو حرك طرف مِنْهُ يَتَحَرَّك الطّرف الآخر، فَهُوَ
مِمَّا يخلص، وإلاَّ فَهُوَ مِمَّا لَا يخلص. وَاخْتلفُوا
فِي جِهَة التحريك، فَعَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة: أَنه
يعْتَبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وَعَن مُحَمَّد
أَنه يعْتَبر بِالْوضُوءِ، وَرُوِيَ أَنه بِالْيَدِ من غير
اغتسال وَلَا وضوء، وَأما اعتبارهم فِي تَفْسِير الخلوص:
فَعَن أبي حَفْص الْكَبِير أَنه أعتبره بالصبغ، وَعَن أبي
نصر مُحَمَّد بن سَلام أَنه اعْتَبرهُ بالتكدير، وَعَن أبي
سُلَيْمَان الْجوزجَاني أَنه اعْتَبرهُ بالمساحة. فَقَالَ:
إِن كَانَ عشرا فِي عشر فَهُوَ مِمَّا لَا يخلص، وَإِن
كَانَ دونه فَهُوَ مِمَّا يخلص. وَعَن ابْن الْمُبَارك
أَنه اعْتَبرهُ بِالْعشرَةِ أَولا، ثمَّ بِخَمْسَة عشر،
وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو مُطِيع الْبَلْخِي، فَقَالَ: إِن
كَانَ خَمْسَة عشر فِي خَمْسَة عشر أَرْجُو أَن يجوز،
وَإِن كَانَ عشْرين فِي عشْرين لَا أجد فِي قلبِي شَيْئا.
وَعَن مُحَمَّد أَنه قدره بمسجده، وَكَانَ ثمانياً فِي
ثمانٍ، وَبِه أَخذ مُحَمَّد بن سَلمَة. وَقيل: كَانَ
مَسْجده عشرا فِي عشرٍ. وَقيل: كَانَ، دَاخله ثمانياً فِي
ثمانٍ، وخارجه عشرا فِي عشرٍ. وَعَن الْكَرْخِي: لَا
عِبْرَة للتقدير، وَإِنَّمَا الْمُعْتَبر هُوَ
التَّحَرِّي، فَلَو كَانَ أَكثر رَأْيه أَن النَّجَاسَة
خلصت إِلَى الْموضع
(3/159)
الَّذِي يتَوَضَّأ مِنْهُ لَا يجوز، وَإِن
كَانَ أَكثر رَأْيه أَنَّهَا لم تصل إِلَيْهِ يجوز. وَقد
استقصينا الْكَلَام فِيهِ فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار)
للطحاوي، رَحمَه الله تَعَالَى.
وقالَ حَمَّادٌ: لاَ بَأْسَ بِرِيشِ المَيْتَةِ
حَمَّاد: على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ، هُوَ الإِمَام ابْن
أبي سُلَيْمَان، شيخ الإِمَام ابي حنيفَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، تقدم فِي بَاب قِرَاءَة الْقُرْآن بعد
الْحَدث. قَوْله: (لَا بَأْس) أَي: لَا حرج (بريش
الْميتَة) يَعْنِي: لَيْسَ بِنَجس، وَلَا ينجس المَاء
الَّذِي وَقع فِيهِ، سَوَاء كَانَ ريش الْمَأْكُول لَحْمه
أَو غَيره؛ وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق فِي
مُصَنفه: حَدثنَا معمر عَن حَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان أَنه
قَالَ: لَا بَأْس بصوف الْميتَة، وَلَكِن يغسل، وَلَا
بَأْس بريش الْميتَة، وَهَذَا مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا
وَأَصْحَابه.
وقالَ الزُّهْرِيُّ فِي عظامِ المَوْتَى نَحْوِ الفِيلِ
وغَيْرِهِ أَدْرَكْتُ نَاسا مِنْ سَلَفِ العُلمَاءِ
يَمْتَشِطونَ بهَا ويَدَّهِنونَ فِيها لَا يَرَوْنَ بِهِ
بَاساً
الزُّهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم. قَوْله: (وَغَيره)
أَي: غير الْفِيل مِمَّا لَا يُؤْكَل. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَوْله: (غَيره) يحْتَمل أَن يُرِيد بِهِ
مَا هُوَ من جنسه من الَّذِي لَا تُؤثر الذَّكَاة فِيهِ،
أَي: مَا لَا يُؤْكَل لَحْمه، وَأَن يُرِيد أَعم من ذَلِك.
قلت: هَذَا الَّذِي ذكره يمشي على مَذْهَب الشَّافِعِي،
وَعِنْدنَا جَمِيع أَجزَاء الْميتَة الَّتِي لَا دم
فِيهَا: كالقرن وَالسّن والظلف والحافر والخف والوبر
وَالصُّوف طَاهِر، وَفِي العصب رِوَايَتَانِ، وَذهب عمر بن
عبد الْعَزِيز وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمَالك وَأحمد
وَإِسْحَاق والمزني وَابْن الْمُنْذر: إِلَى أَن الشّعْر
وَالصُّوف والوبر والريش طَاهِرَة لَا تنجس بِالْمَوْتِ،
كمذهبنا، والعظم والقرن والظلف وَالسّن نَجِسَة. وَقَالَ
الشَّافِعِي: الْكل نجس إلاَّ الشّعْر، فَإِن فِيهِ خلافًا
ضَعِيفا. وَفِي الْعظم أَضْعَف مِنْهُ. وَأما الْفِيل
فَفِيهِ خلاف بَين أَصْحَابنَا، فَعِنْدَ مُحَمَّد هُوَ
نجس الْعين حَتَّى لَا يجوز بيع عظمه وَلَا يطهر جلده
بالدباغ وَلَا بالذكاة، وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
هُوَ كَسَائِر السباغ، فَيجوز الِانْتِفَاع بعظمه وَجلده
بالدباغ. قَوْله: (أدْركْت نَاسا) التَّنْوِين فِيهِ
للتكثير أَي نَاسا كثيرين. قَوْله: (يمتشطون بهَا) أَي:
بعظام الْمَوْتَى، يَعْنِي يجْعَلُونَ مِنْهَا مشطاً
ويستعملونه، فَهَذَا يدل على طَهَارَته، وَهُوَ مَذْهَب
أبي حنيفَة أَيْضا. قَوْله: (ويدَّهنون فِيهَا) اي: فِي
عِظَام الْمَوْتَى، يَعْنِي: يجْعَلُونَ مِنْهَا مَا يحط
فِيهِ الدّهن وَنَحْوه، وأصل: يدهنون: يتدهنون، لِأَنَّهُ
من بَاب الافتعال، فقلبت التَّاء دَالا وادغمت الدَّال فِي
الدَّال؛ وَقَالَ بَعضهم: يجوز ضم أَوله وَإِسْكَان
الدَّال. قلت: فعلى هَذَا يكون من بَاب الادهان، فَلَا
يُنَاسب مَا قبله إلاَّ إِذا جَاءَت فِيهِ رِوَايَة بذلك،
وَذَلِكَ لِأَن مَعْنَاهُ بِالتَّشْدِيدِ هم يدهنون
أنفسهم، وَإِذا كَانَ من بَاب الإفعال يكون الْمَعْنى: هم
يدهنون غَيرهم، فَلَا منع من ذَلِك إلاَّ أَنه مَوْقُوف
على الرِّوَايَة. وَنقل بعض الشُّرَّاح عَن السفاقسي فِيهِ
ثَلَاثَة أوجه: إثنان مِنْهَا مَا ذكرناهما الْآن،
وَالْوَجْه الثَّالِث: هُوَ بتَشْديد الدَّال وَتَشْديد
الْهَاء، أَيْضا. قلت: لَا منع من ذَلِك من حَيْثُ
قَاعِدَة التصريف، وَلَكِن رِعَايَة السماع أولى مَعَ
رِعَايَة الْمُنَاسبَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف
عَلَيْهِ. قَوْله: (لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا) أَي حرجاً،
فَلَو كَانَ نجسا لما استعملوه امتشاطاً وادهاناً، وَعلم
مِنْهُ أَنه إِذا وَقع مِنْهُ شَيْء فِي المَاء لَا
يُفْسِدهُ. وَقَالَ ابْن بطال: ريش الْميتَة وَعظم الفيلة
وَنَحْوهَا طَاهِر عِنْد ابي حنيفَة، كَأَنَّهُ تعلق
بِحَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَوْقُوف: إِنَّمَا حرم من
الْميتَة مَا يُؤْكَل مِنْهَا وَهُوَ اللَّحْم، فَأَما
الْجلد وَالسّن والعظم وَالشعر وَالصُّوف فَهُوَ حَلَال.
قَالَ يحيى بن معِين: تفرد بِهِ أَبُو بكر الْهُذلِيّ عَن
الزُّهْرِيّ، وَهُوَ لَيْسَ بِشَيْء. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ: وَقد روى عبد الْجَبَّار بن مُسلم وَهُوَ
ضَعِيف عَن الزُّهْرِيّ شَيْئا فِي مَعْنَاهُ، وَحَدِيث أم
سَلمَة مَرْفُوعا: (لَا بَأْس بمسك الْميتَة إِذا دبغ،
وَلَا بشعرها إِذا غسل بِالْمَاءِ) . إِنَّمَا رَوَاهُ
يُوسُف بن أبي السّفر، وَهُوَ مَتْرُوك. وَقَالَ ابْن
بطال: عظم الفيلة وَنَحْوه نجس عِنْد مَالك
وَالشَّافِعِيّ، كِلَاهُمَا احتجا بِمَا روى الشَّافِعِي
عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن عبد الله بن دِينَار عَن
ابْن عمر أَنه كَانَ يكره أَن يدهن فِي مدهن من عِظَام
الْفِيل، وَفِي (المُصَنّف) : وَكَرِهَهُ عمر ابْن عبد
الْعَزِيز وَعَطَاء وطاووس، وَقَالَ ابْن الْمَوَّاز: نهىَ
مَالك عَن الِانْتِفَاع بِعظم الْميتَة والفيل، وَلم يُطلق
تَحْرِيمهَا لِأَن عُرْوَة وَابْن شهَاب وَرَبِيعَة
أَجَازُوا الامتساط بهَا. وَقَالَ ابْن حبيب: أجَاز
اللَّيْث وَابْن الْمَاجشون وَابْن وهب ومطرف.
(3/160)
وَأصبغ الامتشاط بهَا والادهان فِيهَا.
وَقَالَ مَالك إِذا زكى الْفِيل فَعَظمهُ طَاهِر
وَالشَّافِعِيّ يَقُول الذَّكَاة لَا تعْمل فِي السبَاع
وَقَالَ اللَّيْث وَابْن وهب أَن غلى الْعظم فِي مَاء سخن
وطبخ جَازَ الإدهان مِنْهُ والامتشاط قلت حَدِيث ابْن
عَبَّاس الَّذِي تعلق بِهِ أَبُو حنيفَة أخرجه
الدَّارَقُطْنِيّ وَقَالَ أَبُو بكر الْهُذلِيّ ضَعِيف
وَذكر فِي الإِمَام أَن غير الْهُذلِيّ أَيْضا رَوَاهُ
وَحَدِيث أم سَلمَة أَيْضا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ
وَقَالَ يُوسُف بن أبي السّفر مَتْرُوك قُلْنَا لَا يُؤثر
فِيهِ مَا قَالَ إِلَّا بعد بَيَان جِهَته وَالْجرْح
الْمُبْهم غير مَقْبُول عِنْد الحذاق من الْأُصُولِيِّينَ
وَهُوَ كَانَ كَاتب الْأَوْزَاعِيّ.
وقالَ ابْنُ سِيِرِينَ وإبْرَاهيمُ لَا بَأْسَ بِتِجارَةِ
العَاجِ
ابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد، تقدم فِي بَاب اتِّبَاع
الْجَنَائِز من الْإِيمَان، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ
تقدم فِي بَاب ظلم دون ظلم فِي كتاب الْإِيمَان.
أما التَّعْلِيق عَن ابْن سِيرِين فَذكره عبد الرَّزَّاق
فِي مُصَنفه عَن الثَّوْريّ عَن همامَ عَن ابْن سِيرِين
أَنه كَانَ لَا يرى التِّجَارَة بالعاج بَأْسا وَأما
التَّعْلِيق عَن إِبْرَاهِيم فَلم يذكرهُ السَّرخسِيّ فِي
رِوَايَته، وَلَا أَكثر الروَاة عَن الفريري، فالعاج،
بتَخْفِيف الْجِيم، جمع عاجة. قَالَ الْجَوْهَرِي: العاج
عظم الْفِيل وَكَذَا قَالَ فِي الْكتاب. ثمَّ قَالَ:
والعاج أَيْضا الذبل وَهُوَ ظهر السلحفاة والبحرية يتَّخذ
مِنْهُ السوار والخاتم وَغَيرهمَا قَالَ جرير:
(ترى العيس الحولى جَريا بكرعها ... لَهَا مسكا من غير عاج
وَلَا ذبل)
فَهَذَا يدل على أَن العاج غيرالذبل وَفِي (الْمُحكم)
والعاج أَنْيَاب الفيلة، وَلَا يُسمى غير الناب عاجاً وَقد
أنكر الْخَلِيل أَن يُسمى عاجاً سوى أَنْيَاب الفيلة،
وَذكر غَيره أَن الذبل يُسمى عاجاً وَكَذَا قَالَه
الْخطابِيّ، وأنكروا عَلَيْهِ والذبل، بِفَتْح الذَّال
الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة قَالَ
الْأَزْهَرِي الذبل، الْقُرُون، فَإِذا كَانَ من عاج
فَهُوَ مسك وعاج ووقف، إِذا كَانَ من ذبل فَهُوَ مسك لَا
غير وَفِي (الْعباب) الذبل ظهر السلحفاة البحرية، كَمَا
ذكرنَا الْآن وَقَالَ: بَعضهم، قَالَ القالي: الْعَرَب
تسمي كل عظم عاجاً، فَإِن ثَبت هَذَا فَلَا حجَّة فِي
الْأَثر الْمَذْكُور على طَهَارَة عظم الْفِيل. قلت مَعَ
وجود النَّقْل عَن الْخَلِيل لَا يعْتَبر بِنَقْل القالي
مَعَ مَا ذكرنَا من الدَّلِيل على طَهَارَة عظم الْميتَة
مُطلقًا.
235 - حدّثناإسْمَاعِيلُ قَالَ حَدثنِي مَالِكٌ عنِ ابنِ
شِهاب عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عَن ابْن
عَبَّاسَ عنْ مَيْمُونَةَ أَنَّ رَسولَ اللَّهِ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سَلَ عنْ قَارَةٍ سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ
فَقالَ أَلْقُوهًّ وَمَا حَوْلَهَا فَاطْرَحُوهُ وَكُلُوا
سَمْنَكُمْ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة بَيَان رِجَاله
وهم سِتَّة إِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أويس تقدم فِي بَاب
تفاضل أهل الْإِيمَان، وَعبيد الله هُوَ سبط عتبَة بن
مَسْعُود وَهُوَ فِي قصَّة هِرقل، وَمَالك هُوَ ابْن أنس،
وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ،
ومَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ بنت الْحَارِث، خَالَة ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، تقدّمت فِي بَاب
السمر بِالْعلمِ بَيَان لطائف إِسْنَاده مِنْهَا أَن فِيهِ
التحديث بِصِيغَة الْجمع وبصيغة الْإِفْرَاد، وَفِيه
العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته
مدنيون وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:
رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية.
بَيَان ذكر تعدده مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي الذَّبَائِح عَن عبد الْعَزِيز بن
عبد الله عَن مَالك بِهِ، وَعَن الْحميدِي عَن سُفْيَان
عَن الزُّهْرِيّ بِهِ، وَهُوَ من أَفْرَاده عَن مُسلم،
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَطْعِمَة عَن مُسَدّد عَن
سُفْيَان بِهِ، وَعَن أَحْمد بن صَالح وَالْحسن بن عَليّ،
كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن عبد الرَّحْمَن بن
بزدويه عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن
أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِمَعْنَاهُ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن سعيد بن عبد
الرَّحْمَن وَأبي عُثْمَان
(3/161)
وَهُوَ الْحُسَيْن بن حَدِيث، كِلَاهُمَا
عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الذَّبَائِح عَن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان
بِهِ وَعَن يَعْقُوب ين إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى بن
عبد لله النيسايوري، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّحْمَن بن
مهْدي عَن مَالك بِهِ، وَعَن خشيش بن أَصْرَم عَن عبد
الرَّزَّاق عَن عبد الرَّحْمَن بن بزدويه أَن معمراً ذكر
عَن الزُّهْرِيّ بِهِ.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (فَأْرَة) بِهَمْزَة
سَاكِنة وَجَمعهَا فأر بِالْهَمْز أَيْضا قَوْله: (سَقَطت
فِي سمن) وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الذَّبَائِح من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن ابْن شهَاب
(فَمَاتَتْ) ، وَزَاد النَّسَائِيّ من رِوَايَة عبد
الرَّحْمَن بن مهْدي عَن مَالك، (فِي سمن جامد) قَوْله:
(وألقوها) أَي. الْفَأْرَة أَي: أرموها وَمَا حولهَا أَي:
وَمَا حول الْفَأْرَة من السّمن، وَيعلم من هَذِه
الرِّوَايَة أَن السّمن كَانَ جَامِدا كَمَا صرح بِهِ فِي
الرِّوَايَة الْأُخْرَى، لِأَن الْمَائِع لَا حوله لَهُ
إِذْ الْكل حوله.
بَيَان ذكر استنباط الحكم يستنبط مِنْهُ أَن السّمن الجامد
أذا وَقعت فِيهِ فَأْرَة أَو نَحْوهَا تطرح الْفَأْرَة
وَيُؤْخَذ مَا حولهَا من السّمن ويرمى بِهِ، وَلَكِن إِذا
تحقق أَن شَيْئا مِنْهَا لم يصل إِلَى شَيْء خَارج عَمَّا
حولهَا وَالْبَاقِي يُؤْكَل، وَيُقَاس على هَذَا نَحْو
الْعَسَل والدبس إِذا كَانَ جَامِدا، وَأما الْمَائِع فقد
اخْتلفُوا فِيهِ، فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَنه ينجس كُله،
قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا. وَقد شَذَّ قوم فَجعلُوا
الْمَائِع كُله كَالْمَاءِ، وَلَا يعْتَبر ذَلِك، وسلك
دواد بن عَليّ فِي ذَلِك مسلكهم إلاَّ فِي السّمن الجامد
والذائب. فَإِنَّهُ تبع ظَاهر هَذَا الحَدِيث، وَخَالف
مَعْنَاهُ فِي الْعَسَل والخل وَسَائِر الْمَائِعَات،
فَجَعلهَا كلهَا فِي لُحُوق النَّجَاسَة إِيَّاهَا بِمَا
ظهر فِيهَا، فشذ أَيْضا ويزمه أَن لَا يتَعَدَّى
الْفَأْرَة كَمَا لَا يتَعَدَّى السّمن. قَالَ أَبُو
عَمْرو: وَاخْتلف الْعلمَاء فِي الاستصباح بِهِ بعد
إِجْمَاعهم على نَجَاسَته، فَقَالَت طَائِفَة من الْعلمَاء
لَا يستصبح بِهِ وَلَا ينْتَفع بِشَيْء مِنْهُ، وَمِمَّنْ
قَالَ ذَلِك، الْحسن بن صَالح وَأحمد بن حَنْبَل محتجين
بالرواية الْمَذْكُورَة، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا
تقربوه، وبعموم النَّهْي عَن الْميتَة فِي الْكتاب
الْعَزِيز. وَقَالَ الْآخرُونَ: يجوز الاستصباح بِهِ
وَالِانْتِفَاع فِي كل شَيْء الْأكل وَالْبيع وَهُوَ قَول
مَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهما وَالثَّوْري، وَأما الْأكل
فمجمع على تَحْرِيمه إلاَّ الشذوذ الَّذِي ذَكرْنَاهُ،
وَأما الاستصباح فَروِيَ عَن عَليّ وَابْن عمر أَنَّهُمَا
أجازا ذَلِك، وَمن حجتهم فِي تَحْرِيم بَيْعه قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (لعن الله الْيَهُود. حرمت عَلَيْهِم
الشحوم فَبَاعُوهَا وأكلوا ثمنهَا أَن الله إِذا حرم أكل
شَيْء حرم ثمنه) وَقَالَ آخَرُونَ: ينْتَفع بِهِ وَيجوز
بَيْعه وَلَا يُؤْكَل، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك: أَبُو
حنيفَة وَأَصْحَابه وَاللَّيْث بن سعد، وَقد رُوِيَ عَن
أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَالقَاسِم وَسَالم محتجين
بالرواية الْأُخْرَى، وَإِن كَانَ مَائِعا فاستصبحوا بِهِ
وانتفعوا وَالْبيع من بَاب الِانْتِفَاع وَأما قَوْله فِي
حَدِيث عبد الرَّزَّاق وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه،
فَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْأكل، وَقد أجْرى صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم التَّحْرِيم فِي شحوم الْميتَة من كل وَجه
وَمنع الِانْتِفَاع بهَا، وَقد أَبَاحَ فِي السّمن يَقع
فِيهِ الْميتَة، الِانْتِفَاع بِهِ، فَدلَّ على جَوَاز
وُجُوه الِانْتِفَاع بِشَيْء مِنْهَا غير الْأكل، وَمن
جِهَة النّظر أَن شحوم الْميتَة مُحرمَة الْعين والذات،
وَأما الزَّيْت، وَنَحْوه يَقع فِيهِ الْميتَة فَإِنَّمَا
ينجس بالمحاورة وَمَا ينجس بالمحاورة فبيعه جَائِز،
كَالثَّوْبِ تصيبه النَّجَاسَة من الدَّم وَغَيره، وَأما
قَوْله: إِن الله تَعَالَى (إِذا حرم أكل شَيْء حرم ثمنه)
، فَإِنَّمَا خرج على لُحُوم الْميتَة الَّتِي حرم أكلهَا
وَلم يبح الِانْتِفَاع بِشَيْء مِنْهَا، وَكَذَلِكَ
الْخمر، وَأَجَازَ عبد الله بن نَافِع غسل الزَّيْت وَشبهه
تقع فِيهِ الْميتَة، وَرُوِيَ عَن مَالك أَيْضا وَصفته،
أَن يعمد إِلَى ثَلَاث أواني أَو أَكثر فَيجْعَل الزَّيْت
النَّجس فِي وَاحِدَة مِنْهَا حَتَّى يكون نصفهَا أَو
نَحوه، ثمَّ يصب عَلَيْهِ المَاء حَتَّى يمتلىء، ثمَّ
يُؤْخَذ الزَّيْت من عَلَاء المَاء، ثمَّ يَجْعَل فِي آخر
وَيعْمل بِهِ كَذَلِك، ثمَّ فِي آخر، وَهُوَ قَول لَيْسَ
لقائله سلف، وَلَا تسكن إِلَيْهِ النَّفس قلت: هَذَا
مِمَّا لَا ينعصر بالعصر، وَفِيه خلاف بَين أبي يُوسُف
وَمُحَمّد، فَقَالَ أَبُو يُوسُف: يطهر مَا لَا ينعصر
بالعصر بِغسْلِهِ ثَلَاثًا وتجفيفه فِي كل مرّة، وَذَلِكَ
كالحنطة والخزفة الجديدة والحصير والسكين المموه
بِالْمَاءِ النَّجس وَاللَّحم المغلي بِالْمَاءِ النَّجس
فالطريق فِيهِ أَن تغسل الْحِنْطَة ثَلَاثًا وتجفف فِي كل
مرّة، وَكَذَلِكَ الْحَصِير، وَيغسل الخزف حَتَّى لَا
يبْقى لَهُ بعد ذَلِك طعم وَلَا لون وَلَا رَائِحَة، ويموه
السكين بِالْمَاءِ الطَّاهِر ثَلَاث مَرَّات، ويطبخ
اللَّحْم ثَلَاث مَرَّات، ويجفف فِي كل مرّة ويبرد من
الطَّبْخ، وَأما الْعَسَل وَاللَّبن وَنَحْوهمَا إِذا
مَاتَ فِيهَا الْفَأْرَة أَو نَحْوهَا يَجْعَل فِي
الْإِنَاء وَيصب فِيهِ المَاء ويطبخ حَتَّى يعود إِلَى مَا
كَانَ، وَهَكَذَا يفعل ثَلَاثًا وَقَالَ مُحَمَّد مَا لَا
ينعصر بالعصر إِذا تنجس لَا يطهر أبدا، وَقد رُوِيَ عَن
عَطاء قَوْله: تفرد بِهِ روى عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريح
عَنهُ، قَالَ: ذكرُوا أَنه يدهن بِهِ
(3/162)
السفن وَلَا يمس ذَلِك وَلَكِن يُؤْخَذ
بعوده فَقلت: يدهن بِهِ غير السفن؟ قَالَ لَا أعلم قلت
وَابْن يدهن بِهِ من السفن قَالَ: ظُهُورهَا وَلَا يدهن
بطونها. قلت: فَلَا بُد أَن يمس! قَالَ: يغسل يَدَيْهِ من
مَسّه. وَقد رُوِيَ عَن جَابر الْمَنْع من الدّهن بِهِ
وَعَن سَحْنُون. أَن مَوتهَا فِي الزَّيْت الْكثير غير
ضار، وَلَيْسَ الزَّيْت كَالْمَاءِ وَعَن عبد الْملك. إِذا
وَقعت فَأْرَة أَو دجَاجَة فِي زَيْت أَو بِئْر فَإِن لم
يتَغَيَّر طعمه وَلَا رِيحه أزيل ذَلِك مِنْهُ وَلم
يَتَنَجَّس، وَإِن مَاتَت فِيهِ تنجس وَإِن كثر وَوَقع فِي
كَلَام ابْن الْعَرَبِيّ: أَن الْفَأْرَة عِنْد مَالك
طَاهِرَة خلافًا لأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَلَا نعلم
عندنَا حخلافاً فِي طَهَارَتهَا فِي حَال حَيَاتهَا.
236 - حدّثنا عَلِي بنُ عَبْدَ اللَّهِ قالحدثنا مالِكُ
عَن ابنِ شِهابِ عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ عَتْبَةَ بنِ
مَسْعُودِ عَن ابنِ عَبَّاسِ عنْ مَيْمُونَةَ أنَّ
النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عنْ فَأْرَةٍ
سَقَطَتْ فِي سَمْنٍ فَقَالَ خُذُوها وَمَا حَوْلَها
فَاطْرَحُوهُ
(انْظُر الحَدِيث رقم: 235) .
هَذَا هُوَ الطَّرِيق الثَّانِي لحَدِيث مَيْمُونَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوْفِي، وَعلي هُوَ ابْن عبد الله الْمَدِينِيّ، تقدم
فِي بَاب الْفَهم فِي الْعلم، ومعن، بِفَتْح الْمِيم
وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفِي آخِره نون بن عِيسَى
أَبُو يحيى القزار، بِالْقَافِ والزايين المنقوطتين
أولاهما مُشَدّدَة، الْمدنِي كَانَ لَهُ علمَان حاكة
وَهُوَ يَشْتَرِي القز ويلقي إِلَيْهِم، كَانَ يتوسد عتبَة
مَالك، قَرَأَ الْمُوَطَّأ على مَالك للرشيد وبنيه،
وَكَانَ مَالك لَا يُجيب الْعِرَاقِيّين حَتَّى يكون هُوَ
سائله، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة.
وفيهالتحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع،
والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع.
وَفِي الطَّرِيق الأولى أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم سُئِلَ وَفِي هَذِه الطَّرِيق أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سُئِلَ عَن فَأْرَة، وَقَالَ بعضم
السَّائِل عَن ذَلِك هِيَ مَيْمُونَة، وَوَقع فِي رِوَايَة
يحيى الْقطَّان وَجُوَيْرِية عَن مَالك فِي هَذَا الحَدِيث
أَن مَيْمُونَة استفتت رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ وَغَيره
قلت فِي رِوَايَة البُخَارِيّ من طَرِيقين تَصْرِيح بِأَن
السَّائِل غير مَيْمُونَة، مَعَ أَنه يحْتَمل أَن لَا يكون
غَيرهَا، وَلَكِن لَا يُمكن الْجَزْم بِأَنَّهَا هِيَ
السائلة كَمَا جزم بِهِ هَذَا الْقَائِل.
قَوْله: (خذوها) أَي الْفَأْرَة وَمَا حولهَا أَي: وَمَا
حول الْفَأْرَة وَقد قُلْنَا إِنَّه يدل على أَن السّمن
كَانَ جَامِدا قَوْله: (فاطرحوه) الضَّمِير الْمَنْصُوب
فِيهِ يرجع إِلَى الْمَأْخُوذ الَّذِي دلّ عَلَيْهِ
قَوْله: (خذوها) والمأخوذ هُوَ الْفَأْرَة وَمَا حولهَا
ويرمى الْمَأْخُوذ ويؤكل الْبَاقِي كَمَا دلّت عَلَيْهِ
الرِّوَايَة الأولى فَإِن قلت: من أَيْن يعلم من هَذِه
الرِّوَايَة جَوَاز أكل الْبَاقِي؟ قلت: لِأَن الطرح لأجل
عدم جَوَاز مأكوليته، وَيفهم مِنْهُ جَوَاز مأكولية
الْبَاقِي بِدَلِيل الرِّوَايَة الْأُخْرَى.
قَالَ مَعْنٌ حَدثنَا مَالِكٌ مَا لَا أحْصِيهِ يَقُولُ
عنِ ابنِ عَبَّاسٍ عنْ مَيْمُونَةَ رِضِيَ الله تَعَالَى
عَنْهُم
أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى أَن
الصَّحِيح فِي هَذَا عَن ابْن عَبَّاس عَن ميمونةٍ وَإِن
كَانَت هَذِه الطَّرِيقَة أنزل من الطَّرِيقَة الأولى
وَذَلِكَ لِأَن فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث اخْتِلَافا
كثيرا بيَّنه الدَّارَقُطْنِيّ حَيْثُ رُوِيَ تَارَة
بِإِسْقَاط مَيْمُونَة من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عبيد
الله عَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَهَذِه رِوَايَة الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ،
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك من غير ذكر
مَيْمُونَة وَكَذَا فِي رِوَايَة القعْنبِي عَن مَالك،
وَتارَة بِإِسْقَاط ابْن عَبَّاس، كَمَا لم يذكر فِي
رِوَايَة ابْن وهب عَن ابْن عَبَّاس، وَمِنْهُم من لم يذكر
ابْن عَبَّاس وَلَا مَيْمُونَة كيحيى ابْن بكير وَأبي
مُصعب وَرَوَاهُ عبد الْملك بن الْمَاجشون عَن مَالك عَن
الزُّهْرِيّ عَن عبد الله عَن ابْن مَسْعُود، وَقَالَ: عبد
الحبار عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه، وَوهم عبد
الْملك وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد من حَدِيث عبد الرَّزَّاق
عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة
وَلَفظه: (سُئِلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
الْفَأْرَة تقع فِي السّمن، قَالَ: إِذا كَانَ جَامِدا
فالقوها، وَإِن كَانَ مَائِعا فَلَا تقربوه) وَقَالَ أَبُو
عمر: هَذَا اضْطِرَاب شَدِيد من مَالك فِي سَنَد هَذَا
الحَدِيث. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث
مَعْلُول، وَفِي رِوَايَة: سُئِلَ الزُّهْرِيّ عَن الداربة
تَمُوت فِي الزَّيْت وَالسمن وَهُوَ جامد أَو غير جامد:
فَقَالَ: بلغنَا إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَمر بفأرة مَاتَت فِي سمن فَأمر بِمَا قرب مِنْهَا فَطرح،
ثمَّ أكل. وَلما كَانَ الْأَمر كَذَلِك بَين البُخَارِيّ
أَن الرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا ابْن عَبَّاس عَن
مَيْمُونَة هِيَ الْأَصَح أَلا ترى أَن معن بن عِيسَى
يَقُول: (حَدثنَا مَالك) يَعْنِي بِهَذَا الحَدِيث (مَا
لَا أحصيه) يَعْنِي: أمراراً كَثِيرَة لَا يضبطها لكثرتها:
يَقُول عَن ابْن عَبَّاس عَن مَيْمُونَة: وَقَالَ
الْكرْمَانِي: قَالَ معن: هُوَ كَلَام
(3/163)
ابْن الْمَدِينِيّ، فَهُوَ دَاخل تَحت
الْإِسْنَاد، وَيحْتَمل، وَإِن كَانَ احْتِمَالا بَعيدا،
أَن يكون تَعْلِيقا من البُخَارِيّ قَالَ بَعضهم: هُوَ
مُتَّصِل، وَأبْعد من قَالَ إِنَّه مُعَلّق قلت أحتمال
التَّعْلِيق غير بعيد وَلَا يخفى ذَلِك.
237 - حدّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَّمَدٍ قَالَ أَخْبَرْنَا
عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبَارَكِ قَالَ أخبرنَا مَعْمَرُ
عَن هَمَّامِ بنِ مُنَبِهٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ عَن
النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ كُلُّ كَلْمٍ
يُكْلَمُهُ المُسْلِمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَكُونُ يَوْمَ
القِيَامَةِ كَهَيْئَتِا إذْ طُعِنَتْ تَفَجَّرُ دَماً
اللَّوْنُ لونُ الدَّمِ والعَرْفُ عَرْفُ لَمِسْكِ
ذكرُوا فِي مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة أوجهاً
كلهَا بعيدَة مِنْهَا مَا قَالَه الْكرْمَانِي: وَجه
مُنَاسبَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من جِهَة الْمسك:
فَإِن أَصله دم انْعَقَد وفضلة نَجِسَة من الغزال،
فَيَقْتَضِي أَن يكون نجسا كَسَائِر الدِّمَاء، وكسائر
الفضلات، فَأَرَادَ البُخَارِيّ أَن يبين طَهَارَته بمدح
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، كَمَا بَين
طَهَارَة عظم الْفِيل بالأثر، فظهرت الْمُنَاسبَة غَايَة
الظُّهُور، وَإِن استشكله الْقَوْم غَايَة الاستشكال
انْتهى. قلت: لم تظهر الْمُنَاسبَة بِهَذَا الْوَجْه أصلا
وظهورها غَايَة الظُّهُور بعيد جدا واستشكال الْقَوْم
باقٍ، وَلِهَذَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِيرَاد
المُصَنّف لهَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب لَا وَجه
لَهُ، لِأَنَّهُ لَا مدْخل لَهُ فِي طَهَارَة الدَّم وَلَا
نَجَاسَته، وَإِنَّمَا ورد فِي فضل المطعون فِي سَبِيل
الله تَعَالَى، قَالَ بَعضهم: وَأجِيب: بِأَن مَقْصُود
المُصَنّف إِيرَاده تَأْكِيدًا لمذهبه فِي أَن المَاء لَا
يَتَنَجَّس بِمُجَرَّد الملاقاة مَا لم يتَغَيَّر،
وَذَلِكَ لِأَن تبدل الصّفة يُؤثر فِي الْمَوْصُوف،
فَكَمَا أَن تغير صفة الدَّم بالرائحة إِلَى طيب الْمسك
أخرجه من النَّجَاسَة إِلَى الطَّهَارَة، فَكَذَلِك تغير
صفة المَاء إِذا تغير بِالنَّجَاسَةِ، يُخرجهُ عَن صفة
الطَّهَارَة إِلَى صفة النَّجَاسَة، فَإِذا لم يُوجد
التَّغَيُّر لم تُوجد النَّجَاسَة. قلت: هَذَا الْقَائِل
أَخذ هَذَا من كَلَام الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ نَقله فِي
شَرحه عَن بَعضهم، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل وَتعقب،
بِأَن الْغَرَض إِثْبَات انحصار التنجس بالتغير، وَمَا ذكر
يدل على أَن التنجس يحصل بالتغير وَهُوَ باقٍ إِلَّا أَنه
لَا يحصل إلاَّ بِهِ، وَهُوَ مَوضِع النزاع أنْتَهى قلت:
هَذَا أَيْضا كَلَام الْكرْمَانِي، وَلكنه سبكه فِي صُورَة
غير ظَاهِرَة، وَقَول الْكرْمَانِي هَكَذَا، فَنَقُول
للْبُخَارِيّ: لَا يلْزم من وجود الشَّيْء عِنْد الشَّيْء
أَن لَا يُوجد عِنْد عَدمه لجَوَاز مُقْتَض آخر، وَلَا
يلْزم من كَونه خرج بالتغير إِلَى النَّجَاسَة أَن لَا
يخرج إلاَّ بِهِ لاحْتِمَال وصف آخر يخرج بِهِ عَن
الطَّهَارَة بِمُجَرَّد الملاقاة، إنتهى حَاصِل هَذَا أَنه
وَارِد على قَوْلهم: إِن مَقْصُود البُخَارِيّ من إِيرَاد
هَذَا الحَدِيث تَأْكِيد مذْهبه فِي أَن المَاء لَا
يَتَنَجَّس بِمُجَرَّد الملاقاة.
وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن بطالإنما ذكر البُخَارِيّ هَذَا
الحَدِيث فِي بَاب نَجَاسَة المَاء لِأَنَّهُ لم يجد
حَدِيثا صَحِيح السَّنَد فِي المَاء، فاستدل على حكم
الْمَائِع بِحكم الدَّم الْمَائِع، وَهُوَ الْمَعْنى
الْجَامِع بَينهمَا انْتهى. قلت: هَذَا أَيْضا وَجه غير
حسن لَا يخفى.
وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن رشد وَهُوَ أَن مُرَاده أَن
انْتِقَال الدَّم إِلَى الرَّائِحَة الطّيبَة هُوَ الَّذِي
نَقله من حَالَة الدَّم إِلَى حَالَة الْمَدْح، فَحصل من
هَذَا تَغْلِيب وصف وَاحِد، وَهُوَ، الرَّائِحَة، على
وصفين، وهما: الطّعْم واللون، فيستنبط مِنْهُ أَنه مَتى
تغير أحد اللأوصاف الثَّلَاثَة بصلاح أَو فَسَاد تبعه
الأصفان الباقيان انْتهى قلت هَذَا ظَاهر الْفساد
لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ إِنَّه إِذا وصف وَاحِد
بِالنَّجَاسَةِ أَن لَا يُؤثر حَتَّى يُوجد الوصفان
الْآخرَانِ، وَلَيْسَ بِصَحِيح. وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن
الْمُنِير: لما تَغَيَّرت صفته إِلَى صفة طَاهِرَة بَطل
حكم النَّجَاسَة فِيهِ.
وَمِنْهَا مَا قَالَه الْقشيرِي: المراعاة فِي المَاء
بِتَغَيُّر لَونه دون رَائِحَته، لِأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم سمى الْخَارِج من جرح الشَّهِيد دَمًا
وَإِن كَانَ رِيحه ريح الْمسك، وَلم يقل مسكاً، وَغلب اسْم
الْمسك لكَونه على رَائِحَته، فَكَذَلِك المَاء مَا لم
يتَغَيَّر طعمه.
وكل هَؤُلَاءِ خارجون عَن الدائرة، وَلم يذكر أحد مِنْهُم
وَجها صَحِيحا ظَاهرا لإيراد هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا
الْبَاب، لِأَن هَذَا الحَدِيث فِي بَيَان فضل الشَّهِيد:
على أَن الحكم الْمَذْكُور فِيهِ من أُمُور الْآخِرَة،
وَالْحكم فِي المَاء بِالطَّهَارَةِ والنجاسة من أُمُور
الدُّنْيَا، وَكَيف يلتثم هَذَا بِذَاكَ؟
ورعاية الْمُنَاسبَة فِي مثل هَذِه الْأَشْيَاء بِأَدْنَى
وَجه يلمح فِيهِ كَافِيَة، والتكلفات بالوجوه الْبَعِيدَة
غير مستملحة، وَيُمكن أَن يُقَال: وَجه الْمُنَاسبَة فِي
هَذَا أَنه لما كَانَ مبْنى الْأَمر فِي المَاء بالتغير
بِوُقُوع النَّجَاسَة، وَأَنه يخرج عَن كَونه صَالحا
للاستعمال لتغير صفته الَّتِي خلق عَلَيْهَا أَو أورد لَهُ
نظيراً بِتَغَيُّر دم الشَّهِيد. فَإِن مُطلق الدَّم نجس،
وَلكنه تغير بِوَاسِطَة الشَّهَادَة فِي سَبِيل الله،
وَلِهَذَا لَا يغسل عَنهُ دَمه ليظْهر شرفه يَوْم
الْقِيَامَة لأهل الْموقف بانتقال صفته المذمومة
(3/164)
إِلَى الصّفة المحمودة حَيْثُ صَار انتشاره
كرائحة الْمسك، فَافْهَم فَإِن هَذَا الْمِقْدَار كافٍ.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: اخْتلفُوا فِيهِ أَنه
أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي مُوسَى الْمروزِي الْمَعْرُوف
بمردويه، هَكَذَا قَالَه الْحَاكِم: أَبُو عبد الله،
والكلاباذي وَالْإِمَام أَبُو نصر حَامِد بن مَحْمُود بن
عَليّ الْفَزارِيّ فِي كِتَابه (مُخْتَصر البُخَارِيّ)
وَذكر الدَّارَقُطْنِيّ أَنه، أَحْمد بن مُحَمَّد بن عدي
عرف بشبويه، وَقَالَ: أَبُو أَحْمد بن عدي بن أَحْمد بن
مُحَمَّد عَن عبد الله بن معمر، لَا يعرف، ومردويه مَاتَ
سنة خمس وَثَلَاثِينَ ومئتين وَأخرج التِّرْمِذِيّ
وَالنَّسَائِيّ، وَقَالَ لَا بَأْس وشبويه مَاتَ سنة تسع
وَعشْرين أَو ثَلَاثِينَ وَمِائَة، وَرُوِيَ عَنهُ أَبُو
دَاوُد الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الثَّالِث:
معمر، بِفَتْح الميمين وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة
بالراء، ابْن رَاشد تقدم فِي كتاب الْوَحْي هُوَ وَابْن
الْمُبَارك. الرَّابِع: همام، على وزن فعال بِالتَّشْدِيدِ
ابْن المنبه، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة بعد النُّون
الْمَفْتُوحَة، تقدم فِي بَاب حسن إِسْلَام الْمَرْء.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَالْأَخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين والعنعنة فِي
موضِعين. وَفِيه: رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري ومدني.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْجِهَاد وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي الْجِهَاد
وَأخرجه ابْن عَسَاكِر مضعفاً عَن أبي أَمَامه يرفعهُ،
(وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَا يكلّم أحد فِي سَبِيل الله
وَالله تَعَالَى أعلم بِمن يكلم) فَذكره وَفِي لفظ (مَا
وَقعت قَطْرَة أحب إِلَى الله من قَطْرَة دم فِي سَبِيل
الله، أَو قَطْرَة دمع فِي سَواد اللَّيْل لَا يَرَاهَا
إلاَّ الله تَعَالَى) .
بَيَان لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (كلم) بِفَتْح الْكَاف
وَسُكُون اللَّام قَالَ الْكرْمَانِي: أَي جِرَاحَة،
وَلَيْسَ كَذَلِك، بل الْكَلم الْجرْح من كَلمه يكلمهُ،
كلما إِذا جرحه، من بَاب: ضرب يضْرب، وَالْجمع: كلوم
وَكَلَام، وَرجل كليم ومكلوم أَي: مَجْرُوح، وَمِنْه
اشتقاق الْكَلَام من الِاسْم وَالْفِعْل والحرف. قَوْله:
(يكلمهُ الْمُسلم) بِضَم الْيَاء وَسُكُون الْكَاف وَفتح
اللَّام أَي يكلم بِهِ فَحذف الْجَار وأوصل الْمَجْرُور
إِلَى الْفِعْل، وَالْمُسلم، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مفعول مَا
لم يسم فالعه. قَوْله: (فِي سَبِيل الله) قيد يخرج بِهِ
مَا إِذا كلم الرجل فِي غير سَبِيل الله وَفِي رِوَايَة
البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد من طَرِيق الْأَعْرَج عَن أبي
هُرَيْرَة: (وَالله تَعَالَى أعلم بِمن يكلم فِي سَبيله) .
قَوْله: (كهيئتها) أَي: كَهَيئَةِ الْكَلِمَة وأنث
الضَّمِير بِاعْتِبَار الْكَلِمَة وَقَالَ الْكرْمَانِي:
وَتَبعهُ بَعضهم تَأْنِيث الضَّمِير بِاعْتِبَار إِرَادَة
الْجراحَة. قلت: لَيْسَ، كَذَلِك بل بِاعْتِبَار
الْكَلِمَة لِأَن الْكَلم والكلمة مصدران، والجراحة اسْم
لَا يعبر بِهِ عَن الْمصدر، مَعَ أَن بَعضهم قَالَ:
ويوضحه، رِوَايَة القايسي عَن أبي زيد الْمروزِي عَن
الفريري كل كلمة يكلمها وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة ابْن
عَسَاكِر. قلت: هَذَا يُوضح مَا قلت لَا مَا قَالَه.
فَافْهَم قَوْله: (إِذْ طعنت) أَي: حِين طعنت، وَفِي بعض
النّسخ وَجَمِيع نسخ مُسلم: إِذا طعنت) بِلَفْظ: إِذا مَعَ
الْألف، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: إِذْ للاستقبال
وَلَا يَصح الْمَعْنى عَلَيْهِ قلت: هُوَ هَاهُنَا لمجر،
الظَّرْفِيَّة، إِذْ هُوَ بِمَعْنى إِذْ وَقد يتعاقبان أَو
هُوَ لاستحضار صُورَة الطعْن، إِذْ الاستحضار كَمَا يكون
بِصَرِيح لفظ الْمُضَارع، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{وَالله الَّذِي أرسل الرِّيَاح فتثير سحاباً} (الرّوم:
248) يكون أَيْضا بِمَا فِي معنى الْمُضَارع، كَمَا نَحن
فِيهِ وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَيْضا مَا وَجه التَّأْنِيث
فِي طعنت المطعون هُوَ الْمُسلم قلت أَصله طعن بهَا وَقد
حذف الْجَار لم أصل الضَّمِير المجرود إِلَى الْفِعْل
وَصَارَ الْمُنْفَصِل مُتَّصِلا قلت: هَذَا تعسف؟ بل
التَّأْنِيث فِيهَا بِاعْتِبَار الْكَلِمَة، لما فِي
هيئتها لِأَنَّهَا المطعونة فِي الْحَقِيقَة وَالَّذِي
إِنَّمَا يُسمى مطعوناً بِاعْتِبَار الْكَلِمَة والطعنة.
قَوْله: (تفجر) بتَشْديد الْجِيم لِأَن أَصله تنفجر، فحذفت
إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَمَا فِي قَوْله: {نَار تلظى}
(فاطر: 9) فعله تتلظى، وَقَالَ الْكرْمَانِي، تفجر، بِضَم
الْجِيم من الثلاثي، وبفتح الْجِيم الْمُشَدّدَة، وحذفت
التَّاء الأولى مِنْهُ من التفعل قلت: أَشَارَ بِهَذَا
إِلَى جوباز الْوَجْهَيْنِ فِيهِ، وَلكنه مَبْنِيّ على
مَجِيء الرِّوَايَة بهما قَوْله: (واللون) وَفِي بعض
النّسخ (اللَّوْن) بِدُونِ الْوَاو، واللون من المبصرات
وَهُوَ أظهر المحسومات حَقِيقَة ووجوداً، فَذَلِك اسْتغنى
عَن تَعْرِيفه وإثباته بِالدَّلِيلِ، وَمن القدماء من زعم
أَنه لَا حَقِيقَة للألوان أصلا وَمِنْهُم من ظن أَن
اللَّوْن الْحَقِيقِيّ لَيْسَ إلاَّ السوَاد وَالْبَيَاض،
وَمَا عداهما إِنَّمَا حصل من تركيبهما وَمِنْهُم من زعم
أَن الألوان الْحَقِيقِيَّة خَمْسَة: السوَاد،
وَالْبَيَاض، والحمرة، والخضرة، والصفرة. وَجعل فِي
البوافي مركبة مِنْهَا. (وَالدَّم) أَصله: دم وبالتحريك،
وَإِنَّمَا قَالُوا: دمي بدمي لأجل الكسرة الَّتِي قيل
الْيَاء كَمَا لَو إرضى يرضى من الرضْوَان. وَقَالَ
سِيبَوَيْهٍ: أَصله: دمى، بِالتَّحْرِيكِ وَإِن جَاءَ جمعه
مُخَالفا لنظائره، والذاهب مِنْهُ الْيَاء، وَالدَّلِيل
عَلَيْهَا قَوْلهم فِي تَثْنِيَة دميان، وَبَعض الْعَرَب
يَقُول فِي تثنيته دموان.
(3/165)
قَوْله: (وَعرف المسلك) ، بِكَسْر الْمِيم،
وَهُوَ مُعرب، مشك، بالشين الْمُعْجَمَة وَضم الْمِيم،
ويروى: عرف مسك، مُنْكرا وَكَذَلِكَ. الدَّم، يرْوى
مُنْكرا قَوْله: (وَالْعرْف) ينْتج بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفِي آخه فَاء وَهِي
الرَّائِحَة الطّيبَة والمنتنة أَيْضا.
بَيَان استنباط الْفَوَائِد وَمِنْهَا: أَن الْحِكْمَة فِي
كَون دم الشَّهِيد يَأْتِي يَوْم الْقِيَامَة على هَيْئَة
إِنَّه يشْهد لصَاحبه بفضله، وعَلى ظالمه بِفِعْلِهِ
وَمِنْهَا: كَونه على رَائِحَة الْمسك إِظْهَارًا لفضيلته
لأهل الْمَحْشَر، وَلِهَذَا لَا يغسل دَمه وَلَا هُوَ يغسل
خلافًا لسَعِيد بن الْمسيب وَالْحسن وَمِنْهَا: الدّلَالَة
على فضل الْجراحَة فِي سَبِيل الله. وَمِنْهَا: أَن
قَوْله: (عرف الْمسك) لَا يسْتَلْزم أَن يكون مسكاً
حَقِيقَة بل يَجعله الله شَيْئا يشبه هَذَا وَلَا كَونه
دَمًا يسْتَلْزم أَن يكون دَمًا نجسا حَقِيقَة، وَيجوز أَن
يحوله الله إِلَى مسك حَقِيقَة لقدرته على كل شَيْء كَمَا
أَنه يحول أَعمال بني آدم من الْحَسَنَات والسيئات إِلَى
جَسَد ليوزن فِي الْمِيزَان الَّذِي ينصبه يَوْم
الْقِيَامَة وَالله أعلم.
68 - (بَاب البَولِ فِي الماءِ الدَّائِمِ)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْبَوْل فِي المَاء
الراكد، وَهُوَ الَّذِي لَا يجْرِي فِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ، بَاب لَا تبولوا فِي المَاء الراكد وَفِي بعض
النّسخ: بَاب المَاء الدَّائِم، وَفِي بَعْضهَا، بَاب
الْبَوْل فِي المَاء الدَّائِم ثمَّ الَّذِي لَا يجْرِي،
وَتَفْسِير الدَّائِم هُوَ: الَّذِي لَا يجْرِي وَذكر
قَوْله: بعد ذَلِك الَّذِي لَا يجْرِي يكون تَأْكِيدًا
لمعناه وَصفَة مُوضحَة لَهُ، وَقيل: للِاحْتِرَاز عَن راكد
لَا يجْرِي بعضه كالبرك وَنَحْوهَا. قلت: فِيهَا تعسف،
وَالْألف وَاللَّام فِي المَاء، إِمَّا لبَيَان حَقِيقَة
الْجِنْس أَو للْعهد الذهْنِي، وَهُوَ: المَاء الَّذِي
يُرِيد الملكف التوضأ بِهِ والاغتسال مِنْهُ.
فَإِن قلت مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت:
ظَاهر لِأَن الْبَاب السَّابِق فِي بَيَان السّمن
وَالْمَاء الَّذِي يَقع فِيهِ النَّجَاسَة، وَهَذَا أَيْضا
فِي بَيَان المَاء الراكد الَّذِي يَبُول فِيهِ الرجل
فيتقاربان فِي الحكم وَلم أجد مِمَّن اعتنى بشرح هَذَا
الْكتاب أَن يذكر وُجُوه المناسبات بَين الْأَبْوَاب
والكتب إلاَّ نَادرا.
238 - حدّثنا أَبُو الْيَمَان قالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ قَالَ
إأخبرنا أبُو الزِّنادِ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ
هُرْمُزَ الأَعْرَجَ حَدَّثَهُ أنَّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ رَضِي الله عَنْهُ تَعَالَى أنَّهُ سَمِعَ
رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول نحْنُ
الآخَرُونَ السَّابِقُونَ
باسْنَادِهِ قَالَ لاَ يَبُولَنَّ احَدُكُمْ فِي الماءِ
الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي ثُمَّ يَغْتَسَلُ فِيهِ.
هَذَانِ حديثان مستقلان، ومطابقة الحَدِيث الثَّانِي
للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأما الْحِكْمَة فِي تَقْدِيم
الحَدِيث الأول فقد اخْتلفُوا فِيهَا فَقَالَ ابْن بطال:
يحْتَمل أَن يكون أَبُو هُرَيْرَة سمع ذَلِك من النَّبِي ت
وَمَا بعده فِي نسق وَاحِد،. فَحدث بهما جَمِيعًا
وَيحْتَمل أَن يكون همام فعل ذَلِك لِأَنَّهُ سَمعهَا من
أبي هُرَيْرَة وإلاَّ فَلَيْسَ فِي الحَدِيث مُنَاسبَة
للتَّرْجَمَة. قيل: فِي الِاحْتِمَال الأول نظر لتعذره.
وَلِأَنَّهُ مَا بلغنَا أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حفظ عَنهُ أحد فِي مجْلِس وَاحِد مِقْدَار هَذِه
النُّسْخَة صَحِيحا إِلَّا أَن يكون من الْوَصَايَا
الْغَيْر الصَّحِيحَة، وَلَا يقرب من الصَّحِيح. وَقَالَ
ابْن الْمُنِير: مَا حَاصله أَن هما مَا رَاوِيه، روى
جملَة أَحَادِيث عَن أبي هُرَيْرَة استفتحها لَهُ أَبُو
هُرَيْرَة بِحَدِيث نَحن الْآخرُونَ فَصَارَ همام كلما حدث
عَن أبي هُرَيْرَة ذكر الْجُمْلَة من أَولهَا، وَتَبعهُ
البُخَارِيّ فِي ذَلِك، وَكَذَلِكَ فِي مَوَاضِع أُخْرَى
من كِتَابه فِي كتاب: الْجِهَاد والمغازي وَالْإِيمَان
وَالنُّذُور وقصص الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة
وَالسَّلَام، والاعتصام ذكر فِي أوائلها كلهَا نَحن
الْآخرُونَ السَّابِقُونَ وَقَالَ ابْن الْمُنِير: هُوَ
حَدِيث وَاحِد، فَإِذا كَانَ وَاحِدًا تكون الْمُطَابقَة
فِي آخر الحَدِيث. وَفِيه نظر لِأَنَّهُ لَو كَانَ
وَاحِدًا لما فَصله البُخَارِيّ بقوله: (وبأسناده)
وَأَيْضًا فَقَوله: نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ طرف من
حَدِيث مَشْهُور فِي ذكر يَوْم الْجُمُعَة لَو رَاعى
البُخَارِيّ مَا ادَّعَاهُ لساق الْمَتْن بِتَمَامِهِ،
وَيُقَال: الْحِكْمَة فِي هَذَا أَن حَدِيث نَحن
الْآخرُونَ السَّابِقُونَ، أول الحَدِيث فِي صحيفَة همام
عَن أبي هُرَيْرَة، وَكَانَ همام إِذا رُؤِيَ الصَّحِيفَة
استفتج بِذكر، ثمَّ سرد الْأَحَادِيث، فواقه البُخَارِيّ
هَاهُنَا وَيُقَال: الْحِكْمَة فِيهِ أَن من عَادَة
الْمُحدثين ذكر الحَدِيث جملَة لتَضَمّنه مَوضِع
الدّلَالَة الْمَطْلُوبَة، وَلَا يكون مَا فِيهِ مَقْصُودا
بالاستدلال، وَإِنَّمَا جَاءَ تبعا لموْضِع الدَّلِيل
وَفِيه نظر، وَلَا يخفى.
وَقَالَ الْكرْمَانِي
(3/166)
قَالَ بعض عُلَمَاء الْعَصْر: إِن قيل: مَا
مُنَاسبَة صدر الحَدِيث لآخرة؟ قُلْنَا: وَجهه أَن هَذِه
الْأمة آخر من يدْفن من الْأُمَم، وَأول من يخرج مِنْهَا
لِأَن الأَرْض لَهُم وعَاء والوعاء آخر مَا يوضع فِيهِ،
وَأول مَا يخرج مِنْهُ فَكَذَلِك المَاء الراكد. آخر مَا
يَقع فِيهِ من الْبَوْل أول مَا يُصَادف أَعْضَاء المتطهر
مِنْهُ، فَيَنْبَغِي أَن يجْتَنب ذَلِك وَلَا يَفْعَله قلت
فِيهِ: جر الثقيل وَلَا يشفي العليل.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان،
بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَتَخْفِيف الْمِيم: هُوَ
الحكم بن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب ابْن أبي حَمْزَة،
وَكِلَاهُمَا تقدما فِي قصَّة هِرقل. الثَّالِث: والزناد،
بِكَسْر الزَّاي وَتَخْفِيف النُّون: عبد لله بن ذكْوَان.
الرَّابِع: الْأَعْرَج، وَهُوَ عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز،
والأعرج صفته تقدما فِي بَاب: حب الرَّسُول من الْإِيمَان.
الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موصع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه:
الْأَخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: السماع
فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني.
وَفِيه: فِي بعض النّسخ أخبرنَا أَبُو الزِّنَاد أَن
الْأَعْرَج وَفِي بَعْضهَا: حَدثنَا أَبُو الزِّنَاد أَن
عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج وَفِيه: كَمَا ترى
أَن شعيباً روى عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج
وَوَافَقَهُ سُفْيَان بن عُيَيْنَة فِيمَا رَوَاهُ
الشَّافِعِي عَن أبي الزِّنَاد. وَكَذَا أخرجه
الْإِسْمَاعِيلِيّ. وَرَوَاهُ أَكثر أَصْحَاب ابْن
عُيَيْنَة عَنهُ عَن أبي الزِّنَاد عَن مُوسَى بن أبي
عُثْمَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَمن هَذَا
الْوَجْه أخرجه النَّسَائِيّ، وَكَذَا أخرجه من طَرِيق
النَّوَوِيّ عَن أبي الزِّنَاد، والطَّحَاوِي من طَرِيق
عبد الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد عَن أَبِيه، والطريقان
صَحِيحَانِ وَلأبي الزِّنَاد فِيهِ شَيْخَانِ وَلَفْظهمَا
فِي سِيَاق الْمَتْن مُخْتَلف فِيهِ.
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من عشر طرق: الأول: حَدثنَا صَالح
عبد الرحمان بن عَمْرو الْحَارِث الْأنْصَارِيّ، وَعلي بن
شيبَة بن الصلات الْبَغْدَادِيّ قَالَا حَدثنَا عبد الله
بن يزِيد المقرىء، قَالَ: سَمِعت ابْن عون يحدث عَن
مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة. قَالَ: نهى أَو
نهيّ أَن يَبُول الرجل فِي المَاء الدَّائِم، أَو الراكد
ثمَّ يتَوَضَّأ مِنْهُ أَو يغْتَسل فِيهِ. الطَّرِيق
الثَّانِي: حَدثنَا عَليّ بن سعيد بن نوح الْبَغْدَادِيّ،
قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن بكر السَّهْمِي، قَالَ:
حَدثنَا هِشَام بن حسان عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن أبي
هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (لَا يَبُول أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي
لَا يجْرِي ثمَّ يغْتَسل فِيهِ) وَأخرجه مُسلم بِنَحْوِهِ.
الطَّرِيق الثَّالِث: حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى،
قَالَ: أَخْبرنِي أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ عَن الْحَارِث
بن أبي ذياب، وَهُوَ رجل من الأزد، عَن عَطاء بن مينا عَن
أبي هُرَيْرَة أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم ثمَّ
يتَوَضَّأ مِنْهُ أَو يشرب) وَأخرجه الْبَيْهَقِيّ
بِنَحْوِهِ إِسْنَادًا ومتناً. الطَّرِيق الرَّابِع:
حَدثنَا يُونُس، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الله بن وهب، قَالَ:
أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث أَن بكير بن عبد الله بن
الْأَشَج حَدثهُ أَن أَبَا السَّائِب، مولى هِشَام بن
زهرَة؟ حَدثهُ أَنه سمع أَبَا هُرَيْرَة يَقُول: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يغْتَسل أحدكُم
فِي المَاء، الدَّائِم وَهُوَ جنب فَقَالَ: كَيفَ تفعل يَا
أَبَا هُرَيْرَة؟ فَقَالَ: يتَنَاوَلهُ تناولاً) وَأخرجه
ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) نَحوه عَن عبد الله بن مُسلم عَن
جرملة بن يحيى عَن عبد الله بن وهب إِلَى آخِره. الطَّرِيق
الْخَامِس: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد، قَالَ: حَدثنَا سعيد
بن الحكم ابْن أبي مَرْيَم، قَالَ: أَخْبرنِي عبد
الرَّحْمَن بن أبي الزِّنَاد، قَالَ: حَدثنِي أبي عَن
مُوسَى بن أبي عُثْمَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة عَن
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يبولن
أحدكُم فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا يجْرِي ثمَّ
يغْتَسل مِنْهُ) وَلم يعرف قَاسم اسْم: أبي مُوسَى،
الْمَذْكُور وَتَركه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ.
الطَّرِيق السَّادِس وَالسَّابِع: حَدثنَا حسن بن نَص
الْبَغْدَادِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن يُوسُف
الْفرْيَابِيّ، قَالَ: حَدثنَا سُفْيَان (ح) وَحدثنَا فهر،
قَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم، قَالَ: سُفْيَان عَن أبي
الزِّنَاد، الطَّرِيق الثَّامِن: حَدثنَا الرّبيع بن
سُلَيْمَان الْمرَادِي الْمُؤَذّن قَالَ: حَدثنَا أَسد بن
مُوسَى قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن لهيفة قَالَ: فَذكر
بِإِسْنَادِهِ مثله، حَدثنَا عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج،
قَالَ: سَمِعت أَبَا هُرَيْرَة يَقُول عَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء
الدَّائِم الَّذِي لَا يَتَحَرَّك ثمَّ يغْتَسل مِنْهُ) .
الطَّرِيق التَّاسِع: حَدثنَا الرّبيع بن سُلَيْمَان
الجيزي، قَالَ: حَدثنَا أَبُو زرْعَة وَهبة الله بن رَاشد،
قَالَ: أخبرنَا حَيْوَة بن شُرَيْح، قَالَ: سَمِعت ابْن
عجلَان يحدث عَن أبي الزِّنَاد عَن الْأَعْرَج عَن أبي
هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
قَالَ: (لَا يبولن أحدكُم فِي المَاء الراكد وَلَا يغْتَسل
فِيهِ) . الطَّرِيق الْعَاشِر: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن
منقذ الْعُصْفُرِي؟ قَالَ: حَدثنِي إِدْرِيس بن يحيى،
قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن عَبَّاس عَن الْأَعْرَج عَن
أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مثله،
غير أَنه قَالَ: (وَلَا يغْتَسل فِيهِ جنب) .
(3/167)
بَيَان تعدد مَوْضِعه من أخرجه غَيره أخرجه
البُخَارِيّ كَمَا ترى عَن الْأَعْرَج عَن أبي هُرَيْرَة.
وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد
بن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن
همام بن مُنَبّه عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه ابْن مَاجَه
عَن ابْن عجلَان عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة وَأخرجه
مُسلم أَيْضا من حَدِيث جَابر عَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه: (نهى أَن يبال فِي المَاء الراكد) .
وَأخرجه الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَابْن مَاجَه
وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) وَأخرجه ابْن مَاجَه
أَيْضا من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يبولن أحدكُم
فِي المَاء الناقع) .
بَيَان لغته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (وَنحن الْآخرُونَ)
بِكَسْر الْحَاء جمع الآخر، بِمَعْنى الْمُتَأَخر، يذكر
فِي مُقَابلَة الأول، وَبِفَتْحِهَا جمع الآخر، أفعل
التَّفْصِيل، وَهَذَا الْمَعْنى أَعم من الأول،
وَالرِّوَايَة بِالْكَسْرِ فَقَط، وَمَعْنَاهُ نَحن
الْمُتَأَخّرُونَ فِي الدُّنْيَا المتقدمون فِي يَوْم
الْقِيَامَة. قَوْله: (وبإسناده) الضَّمِير يرجع إِلَى
الحَدِيث أَي: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان بِالْإِسْنَادِ
الْمَذْكُور قَوْله: (لَا يبولن) ، بِفَتْح اللَّام وبنون
التَّأْكِيد الثَّقِيلَة. وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه:
(لَا يَبُول) ، بِغَيْر نون التَّأْكِيد. قَوْله: (فِي
المَاء الدَّائِم) من دَامَ الشَّيْء يَدُوم ويدام، قَالَ
الشَّاعِر:
(يَا مي لَا غرو وَلَا ملاماً ... فِي الْحبّ أَن الْحبّ
لن يداما)
وديماً ودواماً وديمومة قَالَه ابْن سَيّده وَأَصله
الاستدارة، وَذَلِكَ أَن أَصْحَاب الهندسة يَقُولُونَ إِن
المَاء إِذا كَانَ بمَكَان فَإِنَّهُ يكون مستديراً فِي
الشكل، وَيُقَال الدَّائِم الثَّابِت الْوَاقِف الَّذِي
لَا يجْرِي. وَقَوله: (لَا يجْرِي) إِيضَاح لمعناه وتأكيد
لَهُ وَيُقَال: الدَّائِم الراكد، جَاءَ فِي بعض
الرِّوَايَات: وَفِي (تَارِيخ نيسابور) المَاء الراكد
الدَّائِم. وَيُقَال: احْتَرز بقوله: (الَّذِي لَا يجْرِي)
عَن راكد يجْرِي بعضه، كالبرك وَقيل: احْتَرز بِهِ عَن
المَاء الدائر لِأَنَّهُ جَار من حَيْثُ الصُّورَة، سَاكن
من حَيْثُ الْمَعْنى. قَوْله: (ثمَّ يغْتَسل) يجوز فِيهِ
الْأَوْجه الثَّلَاثَة الْجَزْم عطفا على: (لَا يبولن)
لِأَنَّهُ مجزوم الْموضع بِلَا الَّتِي للنَّهْي، وَلكنه
بني على الْفَتْح لتوكيده بالنُّون. وَالرَّفْع: تَقْدِير
ثمَّ هُوَ يغْتَسل فِيهِ. وَالنّصب: على إِضْمَار أَن
وَإِعْطَاء، ثمَّ حكم وَاو الْجمع وَنَظِيره فِي الْأَوْجه
الثَّلَاثَة قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ يُدْرِكهُ الْمَوْت}
(النِّسَاء: 100) إغاثة قرىء بِالْجَزْمِ، وَهُوَ الَّذِي
قرأنه السَّبْعَة، وبالرفع وَالنّصب على الشذوذ وَقَالَ
النَّوَوِيّ لَا يجوز النصب لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَن
الْمنْهِي عَنهُ الْجمع بَينهمَا دون إِفْرَاد أَحدهمَا.
وَهَذَا لم يقلهُ أحد، بل الْبَوْل فِيهِ مَنْهِيّ عَنهُ
سَوَاء أَرَادَ الِاغْتِسَال فِيهِ أَو مِنْهُ أم لَا،
وَلَا يَقْتَضِي الْجمع إِذْ لَا يُرِيد بتشبيه، ثمَّ
بِالْوَاو المشابهة من جَمِيع الْوُجُوه بل جَوَاز النصب
بعده فَقَط سلمنَا لَكِن لَا يضر إِذْ كَون الْجمع يعلم من
حَقنا وَكَون الْأَفْرَاد مَنْهِيّا من دَلِيل آخر كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تلبسوا الْحق بِالْبَاطِلِ
وتكتموا الْحق} (الْبَقَرَة: 42) على تَقْدِير النصب.
قَوْله: (فِيهِ) أَي: فِي المَاء الدَّائِم الَّذِي لَا
يجْرِي، وَتفرد البُخَارِيّ بِلَفْظ فِيهِ، أَو فِي
رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن أبي الزِّنَاد (ثمَّ يغْتَسل
مِنْهُ) كَمَا فِي رِوَايَة غَيره مِنْهُ بِكَلِمَة من
وَلَك وَاحِد من اللَّفْظَيْنِ يُفِيد حكما بِالنَّصِّ،
وَحكما بالاستنباط.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام الأول: احْتج بِهِ
أَصْحَابنَا. أَن المَاء الَّذِي لَا يبلغ الغدير
الْعَظِيم إِذا وَقعت فِيهِ نَجَاسَة لم يجز الْوضُوء
بِهِ، قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا، وعَلى أَن الْقلَّتَيْنِ
تحمل النَّجَاسَة لِأَن الحَدِيث مُطلق فبإطلاقه يتَنَاوَل
الْقَلِيل وَالْكثير، والقلتين وَالْأَكْثَر مِنْهُمَا.
وَلَو قُلْنَا: إِن الْقلَّتَيْنِ لَا تحمل النَّجَاسَة لم
يكن للنَّهْي فَائِدَة على أَن هَذَا أصح من حَدِيث
الْقلَّتَيْنِ وَقَالَ ابْن قدامَة وَدَلِيلنَا حَدِيث
الْقلَّتَيْنِ، وَحَدِيث بِئْر بضَاعَة، وَهَذَانِ نَص فِي
خلاف مَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة وَقَالَ أَيْضا بِئْر
بضَاعَة لَا تبلغ إِلَى الْحَد الَّذِي يمْنَع التنجس
عِنْدهم قلت: لَا نسلم أَن هذَيْن الْحَدِيثين نصر فِي
خلاف مَذْهَبنَا، أما حَدِيث الْقلَّتَيْنِ فَلِأَنَّهُ
وَإِن كَانَ بَعضهم صَححهُ فَإِنَّهُ مُضْطَرب سنداً
ومتناً والقلة فِي نَفسهَا مَجْهُولَة وَالْعَمَل
بِالصَّحِيحِ الْمُتَّفق عَلَيْهِ أقوى وَأقرب وَأما
حَدِيث بِئْر بضَاعَة فَإنَّا نعمل بِهِ فَإِن ماءها كَانَ
جَارِيا وَقَوله: وبئر بضَاعَة لَا تبلغ إِلَى آخِره غير
صَحِيح لِأَن الْبَيْهَقِيّ رُوِيَ عَن الشَّافِعِي أَن
بِئْر بضَاعَة كَانَت كَثِيرَة المَاء وَاسِعَة، وَكَانَ
يطْرَح فِيهَا من الأنجاس مَا لَا يُغير لَهَا لوناً وَلَا
ريحًا وَلَا طعماً فَإِن قَالُوا: حديثكم عَام فِي كل
مَاء، وحديثنا خَاص فِيمَا يبلغ الْقلَّتَيْنِ، وَتَقْدِيم
الْخَاص على الْعَام مُتَعَيّن، كَيفَ وحديثكم لَا بُد من
تَخْصِيصه، فَإِنَّكُم وافقتمونا على تَخْصِيص المَاء
الْكثير الَّذِي يزِيد على عشرَة
(3/168)
أَذْرع وَإِذا لم يكن بُد من التَّخْصِيص
فالتخصيص بِالْحَدِيثِ أولى من التَّخْصِيص بِالرَّأْيِ من
غير أصل يرجع إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيل يعْتَمد عَلَيْهِ.
قُلْنَا: لَا تسلمك أَن تَقْدِيم الْخَاص على الْعَام
مُتَعَيّن، بل الظَّاهِر من مهب أبي حنيفَة، رَضِي الله
عَنهُ تَرْجِيح الْعَام على الْخَاص فِي الْعَمَل بِهِ،
كَمَا فِي حديثكم حَرِيم لئر الناضح فَإِنَّهُ رجح قَوْله:
عَلَيْهِ السَّلَام: من حفر بِئْرا فَلهُ مِمَّا حولهَا
أَرْبَعُونَ ذِرَاعا على الْخَاص الْوَارِد فِي بِئْر
الناضح أَنه سِتُّونَ ذِرَاعا وَرجح قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (مَا أخرجت الأَرْض فَفِيهِ الْعشْر) على
الْخَاص الْوَارِد بقوله: (لَيْسَ فِيمَا دون خَمْسَة أوسق
صدقه) وَنسخ الْخَاص بِالْعَام، قَوْلهم: التَّخْصِيص
بِالْحَدِيثِ أولى من التَّخْصِيص بِالرَّأْيِ قُلْنَا:
هَذَا إِنَّمَا يكون إِذا كَانَ الحَدِيث الْمُخَصّص غير
مُخَالف للْإِجْمَاع، وَحَدِيث الْقلَّتَيْنِ خير آحَاد
ورد مُخَالفا لإِجْمَاع الصَّحَابَة فَيرد بَيَانه أَن
ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير رَضِي الله عَنْهُم فتيا فِي
زنجي وَقع فِي بِئْر زَمْزَم، بنزج المَاء كُله، وَلم
يظْهر أَثَره فِي المَاء، وَكَانَ المَاء أَكثر من
قُلَّتَيْنِ، وَذَلِكَ بِمحضر من الصَّحَابَة رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، وَلم يُنكر عَلَيْهِمَا أحد مِنْهُم،
فَكَانَ إِجْمَاعًا وَخبر الْوَاحِد إِذا ورد مُخَالفا
للْإِجْمَاع يرد، يدل عَلَيْهِ أَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ
قَالَ: لَا يثبت هَذَا الحَدِيث عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَكفى بِهِ قدوة فِي هَذَا الْبَاب
وَقَالَ أَبُو دَاوُد، لَا يكَاد يَصح لوَاحِد من
الْفَرِيقَيْنِ حَدِيث عَن النَّبِي صلى الله تَعَالَى
عَلَيْهِ وَسلم، فِي تَقْدِير المَاء. وَقَالَ صَاحب
(الْبَدَائِع) وَلِهَذَا رَجَعَ أَصْحَابنَا فِي
التَّقْدِير إِلَى الدَّلَائِل الحسية دون الدَّلَائِل
السمعية.
الثَّانِي: اسْتدلَّ بِهِ أَبُو يُوسُف على نَجَاسَة
المَاء الْمُسْتَعْمل، فَإِنَّهُ قرن بَين الْغسْل فِيهِ
وَالْبَوْل فِيهِ، وَأما الْبَوْل فِيهِ فينجسه، فَكَذَلِك
الْغسْل فِيهِ وَفِي دلَالَة الْقرَان بَين الشَّيْئَيْنِ
على استوائهما فِي الحكم خلاف بَين الْعلمَاء فالمذكور عَن
أبي يُوسُف والمزني ذَلِك، وَخَالَفَهُمَا غَيرهمَا
وَقَالَ بَعضهم: وَاسْتدلَّ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة على
تنجس المَاء الْمُسْتَعْمل، لِأَن الْبَوْل ينجس المَاء،
فَكَذَلِك الِاغْتِسَال، وَقد نهى عَنْهُمَا مَعًا، وَهُوَ
التَّحْرِيم، فَدلَّ على أَن النَّجَاسَة فيهمَا ثَابِتَة،
ورد بِأَنَّهَا دلَالَة قرَان وَهِي ضَعِيفَة قلت: هَذَا
عجب مِنْهُ، فَإِنَّهُ إِذا كَانَت دلَالَة الاقتران
صَحِيحَة عِنْده، فبقوله: وَهِي ضَعِيفَة، يرد على
قَائِله: على أَن مَذْهَب أَكثر أَصْحَاب إِمَامه مثل
مَذْهَب بعض الْحَنَفِيَّة، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل:
وعَلى تَقْدِير تَسْلِيمهَا قد يلْزم التَّسْوِيَة، فَيكون
النَّهْي عَن الْبَوْل لِئَلَّا يُنجسهُ، وَعَن
الِاغْتِسَال فِيهِ لِئَلَّا يسلبه الطّهُورِيَّة قلت:
هَذَا أعجب من الأول، لِأَنَّهُ تحكم حَيْثُ لَا يفهم
هَذِه التَّسْوِيَة من نظم الْكَلَام، وَالَّذِي احْتج
بِهِ فِي نَجَاسَة المَاء الْمُسْتَعْمل يَقُول بالتسوية
من نظم الْكَلَام.
الثَّالِث: النَّوَوِيّ زعم أَن النَّهْي الْمَذْكُور
فِيهِ للتَّحْرِيم فِي بعض الْمِيَاه، وَالْكَرَاهَة فِي
بَعْضهَا، فَإِن كَانَ المَاء كثيرا جَارِيا لم يحرم
الْبَوْل فِيهِ لمَفْهُوم الحَدِيث، وَلَكِن الأولى
اجتنابه، وَإِن كَانَ قَلِيلا جَارِيا فقد قَالَ جمَاعَة
من أَصْحَابنَا: يكره، وَالْمُخْتَار أَنه يحرم، لِأَنَّهُ
يقذره وينجسه على الْمَشْهُور من مَذْهَب الشَّافِعِي،
وَإِن كَانَ كثيرا راكداً فَقَالَ أَصْحَابنَا يكره وَلَا
يحرم وَلَو قيل يحرم لم يكن بَعيدا وَأما الراكد الْقَلِيل
فقد أطلق جمَاعَة من أَصْحَابنَا أَنه مَكْرُوه،
وَالصَّوَاب الْمُخْتَار: أَنه حرَام، والتغوط فِيهِ
كالبول فِيهِ، وأقبح، وَكَذَا أذا بَال فِي إِنَاء ثمَّ
صبه فِي المَاء قلت: زعم النَّوَوِيّ أَنه من بَاب
اسْتِعْمَال اللَّفْظ اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْوَاحِد فِي
مَعْنيين مُخْتَلفين، وَفِيه من الْخلاف مَا هُوَ مَعْرُوف
عِنْد أهل الْأُصُول.
الرَّابِع: أَن هَذَا الحَدِيث عَام فَلَا بُد من
تَخْصِيصه اتِّفَاقًا بِالْمَاءِ المتبحر الَّذِي لَا
يَتَحَرَّك أحد طَرفَيْهِ بتحريك الطّرف الآخر، أَو
بِحَدِيث الْقلَّتَيْنِ كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي،
وبالعمومات الدَّالَّة على طهورية المَاء مَا لم
تَتَغَيَّر أحد أَوْصَافه الثَّلَاثَة كَمَا ذهب إِلَيْهِ
مَالك رَحمَه الله. وَقَالَ بَعضهم: الْفَصْل بالقلتين
أقوى لصِحَّة الحَدِيث فِيهِ، وَقد اعْترف الطَّحَاوِيّ من
الْحَنَفِيَّة بذلك، لكنه أعْتَذر عَن القَوْل بِهِ بِأَن
الْقلَّة فِي الْعرف تطلق على الْكَبِيرَة وَالصَّغِيرَة،
كالجرة وَلم يثبت فِي الحَدِيث تقديرهما، فَيكون مُجملا
فَلَا يعْمل بِهِ، وَقواهُ ابْن دَقِيق الْعِيد. قلت:
هَذَا الْقَائِل أدعى ثمَّ أبطل دَعْوَاهُ بِمَا ذكره
فَلَا يحْتَاج إِلَى ود كَلَامه بِشَيْء آخر.
الْخَامِس: فِيهِ ذليل على تَحْرِيم الْغسْل وَالْوُضُوء
بِالْمَاءِ النَّجس.
السَّادِس: فِيهِ التَّأْدِيب بالتنزه ومختص ببول نسفه،
لغير البائل أَن يتَوَضَّأ بِمَا بَال فِيهِ غَيره، أَيْضا
للبائل إِذا بَال فِي إِنَاء ثمَّ صبه فِي المَاء أَو بَال
بِقرب المَاء ثمَّ جرى إِلَيْهِ، وَهَذَا من أقبح مَا نقل
عَنهُ.
السَّابِع: أَن الْمَذْكُور فِيهِ الْغسْل من الْجَنَابَة،
فَيلْحق بِهِ الِاغْتِسَال من الْحَائِض وَالنُّفَسَاء،
وَكَذَلِكَ يحلق بِهِ اغتسال الْجُمُعَة، والاغتسال من غسل
الْمَيِّت عِنْد من يُوجِبهَا. قلت: هَل يلْحق بِهِ
الْغسْل الْمسنون أم لَا؟ قلت: من اقْتصر على اللَّفْظ
فَلَا إِلْحَاق عِنْده كَأَهل الظَّاهِر، وَأما من يعْمل
بِالْقِيَاسِ فَمن زعم أَن الْعلَّة
(3/169)
الِاسْتِعْمَال فالإلحاق صَحِيح، وَمن زعم أَن الْعلَّة
رفع الْحَدث فَلَا إِلْحَاق عِنْده، فَاعْتبر بِالْخِلَافِ
الَّذِي بَين أبي يُوسُف وَمُحَمّد فِي كَون المَاء
مُسْتَعْملا.
الثَّامِن: فِيهِ دَلِيل على نَجَاسَة الْبَوْل. |