عمدة القاري شرح صحيح البخاري

69 - (بابٌ إذَا أُلْقِيَ عَلى ظهْرِ المصَلِّى قَذَرٌ أَوْ جِيفَةٌ لَمْ تَفْسُدْ عَلَيْهِ صَلاتُهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من ألقِي على ظَهره نَجَاسَة وَهُوَ فِي الصَّلَاة. وَقَوله: (لم تفْسد عَلَيْهِ صلَاته) جَوَاب: إِذا، والقذر، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة ضد النَّظَافَة يُقَال: قذرت الشَّيْء، بِالْكَسْرِ، إِذا كرهته، (والجيفة:) جنَّة الْمَيِّت المريحة.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْبَاب الأول يشْتَمل على حكم وُصُول النَّجَاسَة إِلَى المَاء، وَهَذَا الْبَاب يشْتَمل على حكم وصولها إِلَى الْمُصَلِّي وَهُوَ فِي الصَّلَاة، وَهَذَا الْمِقْدَار يتلمح بِهِ فِي وَجه التَّرْتِيب، وَإِن كَانَ حكم مَا مُخْتَلفا، فَإِن فِي الْبَاب الأول وُصُول الْبَوْل إِلَى المَاء الراكد يُنجسهُ. كَمَا ذكر المَاء فِيهِ مستقضىً بِمَا قَالَت الْعلمَاء فِيهِ، وَفِي هَذَا الْبَاب وُصُول النَّجَاسَة إِلَى الْمُصَلِّي لَا تفْسد صلَاته على مَا زعم البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ وضع هَذَا الْبَاب لهَذَا الْمَعْنى، وَلِهَذَا صرح بقوله: (لم تفْسد عَلَيْهِ صلَاته) وَهَذَا يمشي على مَذْهَب من يرى عدم اشْتِرَاط إِزَالَة النَّجَاسَة لصِحَّة الصَّلَاة، أَو على مَذْهَب من يَقُول: إِن من حدث لَهُ فِي صَلَاة مَا يمْنَع انْعِقَادهَا ابْتِدَاء لَا تبطل صلَاته وَقَالَ بَعضهم: (لم تفْسد) مَحَله مَا إِذا لم يعلم بذلك وَتَمَادَى، وَيحْتَمل الصِّحَّة مُطلقًا على قَول من يذهب إِلَى أَن اجْتِنَاب النَّجَاسَة فِي الصَّلَاة لَيْسَ بِفَرْض، وعَلى قَول من ذهب إِلَى منع ذَلِك فِي الِابْتِدَاء دون مَا يطْرَأ وَإِلَيْهِ ميل المُصَنّف انْتهى قلت: من أَيْن علم ميل المُصَنّف إِلَى القَوْل الثَّانِي، وَقد وضع هَذَا الْبَاب وَترْجم بِعَدَمِ الْفساد مُطلقًا وَلم يُقيد بِشَيْء. مِمَّا ذكره هَذَا الْقَائِل؟ على أَنه قد أكد مَا ذهب، إِلَيْهِ من الْإِطْلَاق بِمَا رُوِيَ عَن عبد الله بن عمر وَسَعِيد بن الْمسيب وعامر الشّعبِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، على أَن فِيهِ نظرا على مَا تذكره عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا وَعَلِيهِ يخرج صَنِيع الصَّحَابِيّ الَّذِي اسْتمرّ فِي الصَّلَاة بعد أَن سَالَتْ مِنْهُ الدِّمَاء يَرْمِي من رَمَاه قلت: هَذَا الصَّحَابِيّ فِي حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه قَالَ: (خرجنَا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي فِي غَزْوَة ذَات الرّقاع الحَدِيث وَفِيه: (فَنزل النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، منزلا، وَقَالَ: من رجل يكلؤنا، فَانْتدبَ رجل من الْمُهَاجِرين وَرجل من الْأَنْصَار، وَقَالَ: كونا بِفَم الشّعب، قَالَ: فَلَمَّا خرج الرّجلَانِ إِلَى فَم الشّعب اضْطجع الْمُهَاجِرِي وَقَامَ الْأنْصَارِيّ يُصَلِّي، وأتى رجل، فَلَمَّا رأى شخصه عرفه أَنه ربيئة للْقَوْم، فَرَمَاهُ بِسَهْم فَوَضعه فِيهِ ونزعه حَتَّى قضى ثَلَاثَة أسْهم، ثمَّ ركع وَسجد) الحَدِيث وَتَخْرِيج هَذَا الْقَائِل صَنِيع هَذَا الصَّحَابِيّ على مَا ذكره غير صَحِيح، لِأَن هَذَا فعل وَاحِد من الصَّحَابَة، وَلَعَلَّه كَانَ ذهل عَنهُ، أَو كَانَ غير عَالم بِحكمِهِ، وَالتَّحْقِيق فِيهِ أَن الدَّم حِين خرج أصَاب بدنه وثوبه، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن يخرج من الصَّلَاة وَلم يخرج، فَلَمَّا بدل مضيه فِي الصَّلَاة على جَوَاز الصَّلَاة مَعَ النَّجَاسَة كَذَلِك، لَا بدل مضيه فِيهَا على أَن خُرُوج الدَّم لَا ينْقض الْوضُوء.
وكانَ ابنُ عُمَرَ إِذا رَأَى ثَوْبِهِ دَمًا يُصَلِّى وَضَعهُ وَمَضَى فِي صَلاتِهِ

هَذَا الْأَثر لَا يُطَابق التَّرْجَمَة لِأَن فِيهَا مَا إِذا أصَاب الْمُصَلِّي نَجَاسَة وَهُوَ فِي الصَّلَاة لَا تفْسد صلَاته، والأثر يدل على أَن ابْن عمر إِذا رأى فِي ثَوْبه دَمًا، وَهُوَ فِي الصَّلَاة وضع ثَوْبه يَعْنِي: أَلْقَاهُ، وَمضى فِي صلَاته، فَهَذَا صَرِيح على أَنه لَا يرى جَوَاز الصَّلَاة مَعَ إِصَابَة النَّجَاسَة فِي ثَوْبه وَالدَّلِيل على صِحَة مَا قُلْنَا مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة من طَرِيق برد بن سِنَان عَن نَافِع عَنهُ: أَنه كَانَ إِذا كَانَ فِي الصَّلَاة فَرَأى فِي ثَوْبه دَمًا فاستطاع أَن يَضَعهُ وَضعه، وَإِن لم يسْتَطع خرج فَغسله ثمَّ جَاءَ يَبْنِي على مَا كَانَ صلى. وَقَالَ بَعضهم: وَهُوَ يَقْتَضِي أَنه كَانَ يرى التَّفْرِقَة بَين الِابْتِدَاء والدوام قلت: لَا يَقْتَضِي هَذَا أصلا وَإِنَّمَا يدل على أَنه كَانَ لَا يرى جَوَاز الصَّلَاة مَعَ وجود النَّجَاسَة مَعَ الْمُصَلِّي مُطلقًا وَهَذَا حجَّة قَوِيَّة لأبي يُوسُف فِيمَا ذهب إِلَيْهِ من أَن الْمُصَلِّي إِذا كَانَ انتضح عَلَيْهِ الْبَوْل أَكثر.
من قدر الدِّرْهَم ينْصَرف وَيغسل وَيَبْنِي على صلَاته، وَكَذَلِكَ إِذا ضرب رَأسه أَو صدمه شَيْء فَسَالَ مِنْهُ الدَّم.

(3/170)


وَقَالَ ابنُ المُسَيِّبَ والشَّعْبِي إِذا صلَّى وَفِي ثَوْبِهِ دَمٌ أَوْ جَنَابَةٌ أَو لِغَيْرِ القِبْلَةِ أَوْ تَيَمَمَ وصلَّى ثُمَّ أَدْرَكَ الماءَ فِي وَقْتِهِ لَا يُعيدُ

وَقع للأكثرين: (وَقَالَ ابْن الْمسيب:) وَوَقع للمستملي والسرخسي: وَكَانَ ابْن الْمسيب، يدل، قَالَ: فَإِن قلت: فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن يثنى الضَّمِير، لِأَن الْمَذْكُور اثْنَان وهم: ابْن الْمسيب وَالشعْبِيّ. قلت: أَرَادَ كلَّ وَاحِد مِنْهُمَا فَإِن ابْن الْمسيب هُوَ سعيد، وَالشعْبِيّ هُوَ عَامر، وَهَذَا الْأَثر بِمَا يُطَابق التَّرْجَمَة إِذا عمل بِظَاهِرِهِ على الْإِطْلَاق أما إِذا قيل: المُرَاد من قَوْله: دم أقل من قدر الدِّرْهَم عِنْد من يرى ذَلِك، أَو شَيْء يسير عِنْد من ذهب إِلَى أَن الْيَسِير عَفْو فَلَا يُطَابق التَّرْجَمَة على مَا لَا يخفى، وَكَذَلِكَ الْجَنَابَة لَا تطابق عِنْد من يرَاهُ طَاهِرا وَالْمرَاد من الْجَنَابَة أَثَرهَا وَهُوَ الْمَنِيّ، أَو فِيهِ إِطْلَاق الْجَنَابَة على الْمَنِيّ من قبيل ذكر الْمسيب، وَإِرَادَة السَّبَب. قَوْله: (أَو لغير الْقبْلَة) أَي: أَو صلى لغير الْقبْلَة على اجْتِهَاده، ثمَّ تبين الْخَطَأ قَوْله: (أَو تيَمّم) أَي: عِنْد عدم المَاء، وكل هَذِه قيود لَا بُد مِنْهَا على مَا لَا يخفى. قَوْله: (وَلَا يُعِيد) أَي: الصَّلَاة، وَذكر ابْن بطال عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَسَالم وَعَطَاء وَالنَّخَعِيّ وَمُجاهد وَالزهْرِيّ وَطَاوُس: أَنه إِذا صلى فِي ثوب نجس، ثمَّ علم بِهِ بعد الصَّلَاة، لَا إِعَادَة عَلَيْهِ وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر، وَعَن ربيعَة وَمَالك: يُعِيد فِي الْوَقْت، وَعَن الشَّافِعِي: يُعِيد أبدا، وَبِه قَالَ أَحْمد، رَحمَه الله تَعَالَى.

240 - حدّثنا عَبْدانُ قَالَ أَخْبرنِي أبي عنْ شُعْبَةَ عَن أبي إسْحَاقَ عنْ عَمْرو بنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قالَ بَيْنا رسولُ الله عَلَيْهِ وَسلم سَاجِدٌ ح قالَ وحَدثني أحمَدُ بنُ عُثْمانَ قَالَ حَدثنَا شُرَيْحُ بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حَدثنَا إبْراهِيمُ بنُ يُوسُفَ عنْ أبِيهِ عنْ أبي إسْحَاقَ قَالَحدثني عَمْرُو بنُ مَيْمُونٍ أنَّ عَبْدَ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ حَدَّثَهُ أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يُصَلِّى عنْدَ البَيْتَ وأبُو جَهْلٍ وَأصْحَابٌ لَهُ جُلُوسٌ إِذْ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ أَيَّكُمْ يَجِىءُ بِسَلاً جَزُورِ بَنِي فُلانٍ فَيَضَعُهُ علَى ظهْرِ مُحَمَّدٍ إِذا سَجَدَ فَانْبَعَثَ أَشْقَى القوْمِ فَجَاءَ بِهِ فَنَظَر حَتَّى إذَا سَجَدَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَضَعَهُ علَى ظَهْرِهِ بَيْنَ كَتِفَيْهِ وأنَا أَنْظُرُ لَا أُغْنِي شَيْئَاً لَوْ كَانَ لِي مَتَعةٌ قَالَ فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ ويُحُيلُ بَعْضُهُمْ على بَعْضِ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساجدُ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ حَتَّى جاءَتْهُ فَاطِمَةُ فَطَرَحَتْ عنْ ظَهْرِهِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ عَلَيْكَ بِقُرَيْشً ثَلاثَ مَرَّاتٍ فَشَقَّ عَلَيْهِمْ إذْ دَعَا عَلَيْهِمْ قالَ وكَانُوا يَرْون أنَّ الدَّعْوَةَ فِي ذَلِكَ البَلَدِ مُسْتَجَابَة ثُمَّ سَمَّى اللَّهُمَّ عَلَيْك بِأبي جهل وَعَلَيْك بِعتبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة والوليدين عتبَة وَأُميَّة بن خلف وَعُقْبَةَ بنِ أبي مُعَيْطٍ وعَدَّ السابِعَ فَلَمْ تَحْفَظْهُ قالَ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ عَدَّ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَرْعَى فِي القَلِيبٍ قَلِيبِ بَدْرٍ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن ظَاهره يدل على مَا ذهب إِلَيْهِ، وَلَكِن عَنهُ أجوبة تَأتي فِيهِ، بعون الله وتوفيقه.
(بَيَان رِجَاله) وهم عشرَة أنفس: الأول: عَبْدَانِ بن عُثْمَان بن حبلة، وَقد تقدم عَن قريب فِي بَاب: غسل الْمَنِيّ وفركه. الثَّانِي: أَبُو عُثْمَان بن جبلة، بِفَتْح الْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة. الثَّالِثَة: شُعْبَة بن الْحجَّاج، وَقد تقدم مُرَاده الرَّابِع: أَبُو إِسْحَاق السبيعِي اسْمه: عَمْرو بن عبد الله الْكُوفِي التَّابِعِيّ، تقدم ذكره فِي بَاب: الصَّلَاة من الْإِيمَان، والسبيعي، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة. الْخَامِس: عَمْرو بن مَيْمُون أَبُو عبد الله الْكُوفِي الأودي، بِفَتْح الْهمزَة وبالدال الْمُهْملَة، أدْرك زمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يلقه، وَحج مائَة حجَّة وَعمرَة، وَادي صدقته إِلَى عُمَّال رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الَّذِي رأى قردة زنت فِي

(3/171)


الْجَاهِلِيَّة فاجتمعت القردة فرجموها، مَاتَ سنة خمس وَسبعين. السَّادِس: أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم، بِفَتْح الْخَاء وَكسر الْكَاف: الأودي الْكُوفِي، مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. السَّابِع: شُرَيْح، بِضَم الشين الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف فِي آخِره حاء مُهْملَة، ابْن مسلمة، بِفَتْح الْمِيم وَاللَّام وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة الْكُوفِي التنوحي بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق وبالنون الْمُشَدّدَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة وَيُقَال بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ كَذَا ضَبطه الْكرْمَانِي والتنوح بالنُّون الْمُشَدّدَة وَقَالَ الْجَوْهَرِي، فِي مَادَّة، نوخ: وتنوخ، وَهِي حَيّ من الْيمن، وَلَا تشدد النُّون، الثَّامِن: إِبْرَاهِيم بن يُوسُف بن إِسْحَاق ابْن أبي إِسْحَاق السبيعِي، مَاتَ سنة ثَمَان وَتِسْعين وَمِائَة التَّاسِع: أَبوهُ يُوسُف الْمَذْكُور الْعَاشِر: عبد الله بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. بَيَان لطائف إِسْنَاده وَهنا إسنادان فِي الأول: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخابر بِصِيغَة الْإِفْرَاد والعنعنة فِي أَرْبَعَة وَاضع. وَفِي الثَّانِي: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي موضِعين، وَفِيه: أَن رُوَاته كوفيون غير عَبْدَانِ وَأَبِيهِ فَإِنَّهُمَا مروزيان. وَمن لطائف إِسْنَاده، أَنه قرن رِوَايَة عَبْدَانِ بِرِوَايَة أَحْمد بن عُثْمَان، مَعَ أَن اللَّفْظ لرِوَايَة أَحْمد تَقْوِيَة لروايته بِرِوَايَة عَبْدَانِ، لِأَن فِي إِبْرَاهِيم بن يُوسُف مقَالا، فَقَالَ عَيَّاش عَن ابْن معِين: لَيْسَ بِشَيْء، وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَقَالَ الْجوزجَاني: ضَعِيف. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يكْتب حَدِيثه وَمن لطائفه: أَن رِوَايَة أَحْمد صرحت بِالتَّحْدِيثِ لأبي إِسْحَاق عَن عَمْرو بن مَيْمُون، ولعمرو بن مَيْمُون عَن عبد الله بن مَسْعُود. وَمِنْهَا: أَن رِوَايَته عينت ابْن عبد الله الْمَذْكُور فِي رِوَايَة عَبْدَانِ: وَهُوَ عبد الله بن مَسْعُود. وَمِنْهَا: أَن الْمَذْكُور فِي رِوَايَة عَبْدَانِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي روياة أَحْمد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هُنَا، وَفِي الْجِزْيَة عَن عَبْدَانِ عَن أَبِيه، وَفِي مبعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن مُحَمَّد بن بشار، وَهَاهُنَا أَيْضا عَن أَحْمد بن عُثْمَان، وَفِي الصَّلَاة عَن أَحْمد بن إِسْحَاق، وَفِي الْجِهَاد عَن عبد الله ابْن أبي شيبَة، وَفِي الْمَغَازِي عَن عَمْرو بن خَالِد مُخْتَصرا وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر عبد الله بن أبي شيبَة، وَعَن مُحَمَّد ابْن الْمثنى وَمُحَمّد بن بشار، وَعَن سَلمَة بن شبيب مُخْتَصرا، وَعَن عبد الله بن عمر بن آبان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن أَحْمد بن عُثْمَان بن حَكِيم عَن خَالِد بن مخلد، وَفِي السّير عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان، وَعَن إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود، وَهَذَا الحَدِيث لَا يرْوى إلاّ بِإِسْنَاد أبي إِسْحَاق الْمَذْكُور.
بَيَان لغاته قَوْله: (سلا جزور بني فلَان) سلا بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وبالقصر: هِيَ الْجلْدَة الَّتِي يكون فِيهَا الْوَلَد، وَالْجمع أسلا. وَخص الْأَصْمَعِي: السلا، بالماشية وَفِي النَّاس بالمشيمة. وَفِي (الْمُحكم) السلا بِكَوْن للنَّاس وَالْخَيْل وَالْإِبِل. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ جلدَة رقيقَة إِن نزعت عَن وَجه الفصيل سَالِمَة يُولد وإلاّ قتلته، وَكَذَلِكَ إِذا انْقَطع السلا فِي الْبَطن. وَالثَّالِث: لفُ سلا، منقلبة عَن يَاء، ويقويه مَا حَكَاهُ أَبُو عبيد من أَن بَعضهم قَالَ: سليت الشَّاة، إِذا نزعت سلاها. وَالْجَزُور، بِفَتْح الْجِيم وَضم الزاء من الْإِبِل، يَقع على الذّكر وَالْأُنْثَى، وَهِي تؤنث، وَالْجمع: الجزر. وَتقول جزرت الْجَزُور أجزرها بِالضَّمِّ، واجتزرتها إِذا تحرتها. وَقَالَ بَعضهم: الْجَزُور من الْإِبِل مَا يجزر، أَي: يقطع قلت: لَا يدْرِي من أَي مَوضِع نقلهقوله: (فانبعث) أَي أسْرع وَهُوَ مُطَاوع بعث فانبعث بِمَعْنى: أرْسلهُ فانبعث. قَوْله: (مَنْعَة) بِفَتْح النُّون، وَحكى، إسكانها قَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ شَاذ ضَعِيف قلت: يرد عَلَيْهِ مَا ذكره فِي كِتَابه (الْمُحكم) المنعة والمنعة والمنعة وَقَالَ يَعْقُوب فِي الْأَلْفَاظ مَنْعَة ومنعة، وَقَالَ القزار: فلَان فِي مَنْعَة من قومه وَمنعه أَي عز. وَفِي كتاب ابْن الْقُوطِيَّة وَابْن طريف: منع الْحصن مناعاً ومنعة. لم يرم، وَفِي (الغرييبين) فلَان فِي مَنْعَة، أَي: فِي تمنع على من رامه، وَفُلَان فِي مَنْعَة أَي: فِي قوم يمنعونه من الْأَعْدَاء. قَوْله: (صرعى) جمع صريع، كجرحى جمع جريح قَوْله: (فِي القليب) بِفَتْح الْقَاف وَكسر اللَّام، وَهُوَ: الْبِئْر قبل أَن يطوى، يذكر وَيُؤَنث. وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ الْبِئْر العادية الْقَدِيمَة وَجمع الْقلَّة: أقلبة، وَالْكَثْرَة: قُلُب.
بَيَان اخْتِلَاف أَلْفَاظه قَوْله: (بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ساجد) بَقِيَّته من رِوَايَة عَبْدَانِ الْمَذْكُورَة (وَحَوله نَاس من قُرَيْش من الْمُشْركين) ثمَّ سَاق الحَدِيث مُخْتَصرا قَوْله: (إِن عبد الله) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (عَن عبد الله) قَوْله: (فيضعه)

(3/172)


زَاد فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل: (فيعمد إِلَى فرثها ودمها وسلاها ثمَّ يمهله حَتَّى يسْجد) قَوْله: (فانبعث أَشْقَى الْقَوْم) ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والسرخسي (أَشْقَى قوم) بالتنكير، وَلَا خلاف فِي أَن أفعل التَّفْضِيل، إِذا فَارق كلمة من أَنه يعرف بِاللَّامِ أَو بِالْإِضَافَة فَإِن قلت: أَي فرق فِي الْمَعْنى فِي إِضَافَته إِلَى الْمعرفَة والنكرة قلت: بالتعريف والتخصيص ظَاهر، وَأَيْضًا النكرَة لَهَا شيوع، مَعْنَاهُ: أَشْقَى قوم، أَي: قوم كَانَ من الأقوام، يَعْنِي: أَشْقَى كل قوم من أَقوام الدُّنْيَا فَفِيهِ مُبَالغَة لَيست فِي الْمعرفَة. وَقَالَ بَعضهم: وَالْمقَام يَقْتَضِي الأول، يَعْنِي: أَشْقَى الْقَوْم، بالتعريف لِأَن الشَّقَاء هَاهُنَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُولَئِكَ الأقوام فَقَط قلت: التنكير أولى لما قُلْنَا من الْمُبَالغَة، لِأَنَّهُ يدْخل هَاهُنَا دُخُولا ثَانِيًا بعد الأول، هَذَا الْقَائِل مَا أدْرك هَذِه النُّكْتَة، وَقد روى الطَّيَالِسِيّ فِي مُسْنده هَذَا الحَدِيث من طَرِيق شُعْبَة نَحْو رِوَايَة يُوسُف الْمَذْكُورَة وَقَالَ فِيهِ: (فجَاء عقبَة بن أبي معيط فقذفه على ظَهره) قَوْله: (لَا أغْنى) م: الإغناء كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والمستملى: (لَا أغير) قَوْله: (فَجعلُوا يَضْحَكُونَ) وَفِي رِوَايَة (حَتَّى مَال بعضم على بعض من الضحك) قَوْله: (فاطمةٌ بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) زَاد إِسْرَائِيل) (وَهِي جوَيْرِية، فاقبلت تسْعَى وَثَبت النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، سَاجِدا) قَوْله: (فَطَرَحته) بالضمير الْمَنْصُوب فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وي رِوَايَة الْكشميهني: (فطرحت) بِحَذْف الضَّمِير: وَزَاد إِسْرَائِيل (وَأَقْبَلت عَلَيْهِم تسبهم) وَزَاد الْبَزَّار (فَلم يردوا عَلَيْهَا شَيْئا) قَوْله: (فَرفع رَأسه) (زَاد الْبَزَّار من رِوَايَة زيد بن أبي أنيسَة عَن إِسْحَاق) فَحَمدَ الله واثنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ: (أما بعد: اللَّهُمَّ) قَالَ الْبَزَّار: تفرد بقوله: (أما بعد،) زيد قَوْله: (ثمَّ قَالَ) كَذَا بِكَلِمَة، ثمَّ، وَهُوَ يشْعر بمهلة بَين الرّفْع وَالدُّعَاء، وَفِي رِوَايَة الْأَجْلَح عِنْد الْبَزَّار (فَرفع رَأسه كَمَا كَانَ يرفعهُ عِنْد تَمام سُجُوده) . قَوْله: (فَلَمَّا قضى صلَاته قَالَ: اللَّهُمَّ) وَلمُسلم وَالنَّسَائِيّ نَحوه، وَالظَّاهِر من ذَلِك أَن دعاءه وَقع خَارج الصَّلَاة، لَكِن وَقع وَهُوَ مُسْتَقْبل الْقبْلَة كَمَا ثَبت من رِوَايَة زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق عِنْد البُخَارِيّ وَمُسلم قَوْله: (ثَلَاث مَرَّات) كَرَّرَه إِسْرَائِيل فِي رِوَايَة لفظا لَا عددا، وَزَاد مُسلم فِي رِوَايَة زَكَرِيَّا: (وَكَانَ إِذا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا وَإِذا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا) قَوْله: (فشق عَلَيْهِم) وَلمُسلم من رِوَايَة زَكَرِيَّا: (فَلَمَّا سمعُوا صَوته ذهب عَنْهُم الضحك وخافوا دَعوته) . قَوْله: (وَكَانُوا يرَوْنَ) بِفَتْح الْيَاء، ويروي بِالضَّمِّ قَوْله: (فِي ذَلِك الْبَلَد) وَهُوَ مَكَّة، وَوَقع فِي (مستخرج) أبي نعيم من الْوَجْه الَّذِي أخرجه البُخَارِيّ فِي الثَّانِيَة بدل قَوْله: (فِي ذَلِك الْبَلَد) . قَوْله: (بِأبي جهل)) وَفِي رِوَايَة إِسْرَائِيل: (بِعَمْرو بن هِشَام) ، وَهُوَ اسْم أبي جهل: قَوْله: (والوليد بن عتبَة) بِضَم الْعين وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق ثمَّ بياء مُوَحدَة، وَلم تخْتَلف الرِّوَايَات فِيهِ أَنه كَذَا، إلاّ أَنه وَقع فِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة زَكَرِيَّا: بِالْقَافِ، التَّاء، وَهُوَ وهم نبه عَلَيْهِ ابْن سُفْيَان الرَّاوِي عَن مُسلم، وَقد أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق شيخ مُسلم على الصَّوَاب قَوْله: (وَأُميَّة بن خلف) وَفِي رِوَايَة شُعْبَة: أَو أبي بن خلف، شكّ شُعْبَة، وَالصَّحِيح أُميَّة، لِأَن المقتلو ببدر هُوَ، أُميَّة إطباق أَصْحَاب الْمَغَازِي عَلَيْهِ، وَأَخُوهُ أبي بن خلف. قتل بِأحد. قَوْله: (فَلم تحفظه) بنُون الْمُتَكَلّم، ويروي. بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف. قَوْله: (قَالَ فوالذي نَفسِي بِيَدِهِ) أَي: قَالَ ابْن مَسْعُود ذَلِك، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (وَالَّذِي بعث مُحَمَّدًا بِالْحَقِّ) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (وَالَّذِي أنزل عَلَيْهِ الْكتاب) ، وَفِي بعض النّسخ. (وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ) . قَوْله: (صرعى فِي القليب) وَرِوَايَة إِسْرَائِيل من الزِّيَادَة. (لقد رَأَيْتهمْ صرعى يَوْم بدر ثمَّ سحبوا إِلَى القليب قليب بدر) .
بَيَان إعرابه قَوْله: (بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَصله: بَين، وَالْألف زيدت لإشباع الفتحة، وَهُوَ مُضَاف إِلَى الْجُمْلَة بعده، وَالْعَامِل فِيهِ إِذْ قَالَ بَعضهم الَّذِي يَجِيء فِي الحَدِيث بعد التَّحْوِيل إِلَى الْإِسْنَاد الثَّانِي. قَوْله: (رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) مُبْتَدأ وَخبر قَوْله: (ساجد) قَوْله: (وَأَبُو جهل) مُبْتَدأ (وَأَصْحَاب لَهُ) عطف عَلَيْهِ وَقَوله: (جُلُوس) خَبره، وَالْجُمْلَة نصب على الْحَال، ومتعلق، لَهُ مَحْذُوف أَي: أَصْحَاب كائنون لَهُ، أَي: لأبي جهل، وَيجوز أَن يكون، جُلُوس خبر أَصْحَاب، وَخبر أبي جهل مَحْذُوف كَقَوْل الشَّاعِر:
(نَحن بِمَا عندنَا وَأَنت بِمَا ... عنْدك راضٍ والرأي مُخْتَلف)

وَالتَّقْدِير: نَحن راضون بِمَا عندنَا قَوْله: (رَأَيْت الَّذين) عد مَفْعُوله مَحْذُوف أَي: عدهم، ويروي، الَّذِي مُفردا، وَيجوز ذَلِك كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وخضتم كَالَّذِين خَاضُوا} (سُورَة التَّوْبَة: 69) أَي: كَالَّذِين. قَوْله: (صرعى) مفعول ثانٍ لقَوْله: (رَأَيْت) قَوْله: (قليب بدر) بِالْجَرِّ بدل من قَوْله: (فِي القليب) وَيجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب من جِهَة الْعَرَبيَّة، أما الرّفْع فعلى أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: هُوَ

(3/173)


قليب بدر وَأما النصب فعلى تَقْدِير أَعنِي قليب بدر.
(بَيَان الْمعَانِي) (وَأَبُو جهل وَأَصْحَاب لَهُ) السَّبْعَة الْمَدْعُو عَلَيْهِم، بَينه الْبَزَّار من طَرِيق الْأَجْلَح عَن أبي إِسْحَاق. قَوْله: (إِذْ قَالَ بَعضهم) هُوَ أَبُو جهل، سَمَّاهُ مُسلم من رِوَايَة زَكَرِيَّا، وَزَاد فِيهِ. (وَقد نحرت جزور بالْأَمْس) وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى: (بَينا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِم يُصَلِّي فِي ظلّ الْكَعْبَة، وَجمع من قُرَيْش فِي مجَالِسهمْ، إِذا قَالَ قَائِل مِنْهُم: أَلا تنظروا إِلَى هَذَا الْمرَائِي) ؟ قَوْله: (أَشْقَى الْقَوْم) هُوَ: عقبَة بن أبي معيط، ومعيط، بِضَم الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ: إِنَّه أَبُو جهل فَقَوله: (وَإِنَّا أنظر) أَي: قَالَ عبد الله. وَأَنا شَاهد تِلْكَ الْحَالة. قَوْله: (لَا أغْنى) أَي: فِي كف شرهم، وَمعنى: لَا أغير، أَي: شَيْئا من فعلهم. قَوْله: (فَجعلُوا يَضْحَكُونَ) أَي: استهزاءً قَاتلهم الله. قَوْله: (ويحيل) بِالْحَاء الْمُهْملَة لَهُ يَعْنِي: ينْسب فعل ذَلِك بَعضهم إِلَى بعض، من قَوْلك: أحلّت الْغَرِيم إِذا جعلت لَهُ أَن يتقاضى المَال من غَيْرك، وَجَاء أحَال أَيْضا بِمَعْنى: وثب، وَفِي الحَدِيث: (أَن أهل خَيْبَر أحالوا إِلَى الْحصن) أَي: وَثبُوا، وَفِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة زَكَرِيَّا: (ويميل) بِالْمِيم، أَي؛ من كَثْرَة الضحك. وَفِي كتاب الصَّلَاة، فِي بَاب الْمَرْأَة تطرح على الْمُصَلِّي شَيْئا من الْأَذَى، وَلَفظه. (حَتَّى مَال بَعضهم على بعض) قَوْله: (فَاطِمَة) هِيَ: بنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أنْكحهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَليّ بن أبي طَالب بعد وقْعَة أحد وسنها يَوْمئِذٍ خمس عشرَة سنة وَخَمْسَة أشهر، رُوِيَ لَهَا عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة عشر حَدِيثا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ لَهَا حَدِيث وَاحِد. رَوَت عَنْهَا عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، توفيت بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِسِتَّة أشهر بِالْمَدِينَةِ، وَقيل: بِمِائَة يَوْم، وَقيل غير ذَلِك، وغسلها عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَصلى عَلَيْهَا ودفنت لَيْلًا، وفضائلها لَا تحصى، وَكفى لَهَا شرفاً كَونهَا بضعَة من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (بِقُرَيْش) أَي: بِهَلَاك قُرَيْش. فَإِن قلت: كَيفَ جَازَ الدُّعَاء على كل قُرَيْش وَبَعْضهمْ كَانُوا يَوْمئِذٍ مُسلمين كالصديق وَغَيره؟ قلت: لَا عُمُوم للفظ، وَلَئِن سلمنَا فَهُوَ مَخْصُوص بالكفار مِنْهُم، بل بِبَعْض الْكفَّار، وهم أَبُو جهل وَأَصْحَابه بِقَرِينَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (مستجابة) أَي: مجابة. يُقَال: اسْتَجَابَ وَأجَاب بِمَعْنى وَاحِد، وَمَا كَانَ اعْتِقَادهم إِجَابَة الدعْوَة من جِهَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بل هِيَ جِهَة الْمَكَان. قَوْله: (ثمَّ سمى) أَي: رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بتفصيل مَا أَرَادَ ذَلِك الْمُجْمل قَوْله (بِأبي جهل) واسْمه عمر بن هِشَام بن المغير كَانَت قُرَيْش تكنية أَبَا الْحَاكِم أَبَا جهل، وَلِهَذَا قَالَ الشَّاعِر:
(النَّاس كنُّوه أَبَا حكم ... واللَّه كنَّاه أَبَا جهل)

وَيُقَال: كَانَ يكنى أَبَا الْوَلِيد، وَكَانَ يعرف بِابْن الحنظلية، وَكَانَ أَحول. وَفِي (المحير) كَانَ مأبوناً، وَيُقَال: إِنَّه أَخذ من قَول عتبَة بن ربيعَة سَيعْلَمُ مصعراً سِتَّة من انتفخ سحره وَفِي (الوشاح) لِابْنِ دُرَيْد هُوَ أول من حز رَأسه وَلما رَآهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: هَذَا فِرْعَوْن هَذِه الْأمة. قَوْله: (وعد السَّابِع) فَاعل: عد، رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو عبد الله بن مَسْعُود، وفاعل: فَلم نَحْفَظهُ، عبد الله، أَو عَمْرو بن مَيْمُون، قَالَه الْكرْمَانِي: وَقَالَ بَعضهم: قلت
؛ فَلَا أَدْرِي من أَيْن تهَيَّأ لَهُ الْجَزْم بذلك مَعَ أَن فِي رِوَايَة النَّوَوِيّ عِنْد مُسلم مَا يدل على أَن فَاعل: عد، عَمْرو بن مَيْمُون انْتهى. قلت: الْكرْمَانِي لم يجْزم بذلك، بل ذكره بِالشَّكِّ، فَكيف يُنكر عَلَيْهِ بِلَا وَجه؟ وَأما السَّابِع الَّذِي لم يذكر هُنَا فَهُوَ مَذْكُور عِنْد البُخَارِيّ فِي مَوضِع آخر. وَهُوَ: عمَارَة بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، وَكَذَا ذكره البرقاني وَغَيره. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَهُوَ مُشكل، لِأَن عمَارَة هَذَا ذكر ابْن إِسْحَاق وَغَيره لَهُ قصَّة طَوِيلَة مَعَ النَّجَاشِيّ إِذْ تعرض لامْرَأَته، فامر النَّجَاشِيّ ساحراً فَنفخ فِي إحليل عمَارَة من سحره عُقُوبَة لَهُ، فتوحش وَصَارَ مَعَ الْبَهَائِم إِلَى أَن مَاتَ فِي خلَافَة عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَرض الْحَبَشَة. قَالَ بَعضهم: وَالْجَوَاب أَن كَلَام ابْن مَسْعُود فِي أَنه رَآهُمْ صرعى فِي القليب مَحْمُول على الْأَكْثَر انْتهى. قلت: الْجَواب أَخذه هَذَا الْقَائِل من الْكرْمَانِي، فَإِنَّهُ قَالَ: وَأجِيب بِأَن المُرَاد رأى أَكْثَرهم، بِدَلِيل أَن ابْن معيط لم يقتل ببدر بل حمل مِنْهَا أَسِيرًا فَقتله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد انْصِرَافه من بدر على ثَلَاثَة أَمْيَال مِمَّا يَلِي الْمَدِينَة قلت: بِموضع يُسمى عرف الظبية وَهُوَ من الروحاء على ثَلَاثَة أَمْيَال من الْمَدِينَة. وَقيل: إِنَّه قَالَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أتقتلني من بَين سَائِر قُرَيْش؟ قَالَ: نعم. ثمَّ قَالَ: بَينا أَنا بِفنَاء الْكَعْبَة وَأَنا ساجد خلف الْمقَام إِذْ أَخذ بمنكبي فلف ثَوْبه على عنقِي فخنقني خنقاً شَدِيدا، ثمَّ جَاءَ مرّة أُخْرَى بسلاً جزور بني فلَان، وَكَانَ عقبَة من الْمُسْتَهْزِئِينَ أَيْضا، وَذكر مُحَمَّد بن حبيب أَنه من زنادقة قُرَيْش، وَاسم أبي معيط: أبان بن أبي عَمْرو، وَالَّذِي دَعَا عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَبْعَة أنفس كَمَا ذكرُوا، وهم أَبُو جهل وَعتبَة بن ربيعَة وَشَيْبَة بن ربيعَة والوليد بن عتبَة وَأُميَّة

(3/174)


بن خلف، وَعقبَة بن أبي معيط، وَعمارَة بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة، أما أَبُو جهل فَقتله معَاذ بن عَمْرو بن الجموح، ومعاذ بن عفراء ذكره فِي الصَّحِيح (وَمر عَلَيْهِ ابْن مَسْعُود وَهُوَ صريع، وَاحْترز رَأسه وأتى بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: هَذَا رَأس عَدو الله، وَنَقله رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَيْفه، وَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْحَمد لله الَّذِي أخزاك يَا عَدو الله، هَذَا كَانَ فِرْعَوْن هَذِه الْأمة وَرَأس أَئِمَّة الْكفْر) وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: (فخرَّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سَاجِدا) وَأما عتبَة بن ربيعَة فَقتله حَمْزَة رَضِي الله عَنهُ. وَقيل: اشْترك حَمْزَة وَعلي رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. فِي قَتله. وَأما شيبَة بن ربيعَة بن عبد شمس أَخُو عتبَة بن ربيعَة فَقتله حَمْزَة أَيْضا. وَأما الْوَلِيد بن عتبَة، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق فَقتله عُبَيْدَة بن الْحَارِث، وَقيل: عَليّ. وَقيل: خمزة، وَقيل: اشْتَركَا فِي قَتله. وَأما أُميَّة بن خلف بن صَفْوَان بن أُميَّة. فقد اخْتلف أهل السّير فِي قَتله فَذكر مُوسَى بن عقبَة قلته رجل من الْأَنْصَار من بني مَازِن، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق إِن معَاذ بن عفراء وخارج بن زيد وحبِيب بن أساف اشْتَركُوا فِي قَتله، وَادّعى ابْن الْجَوْزِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتله، وَفِي السّير، من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، أَن بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خرج إِلَيْهِ وَمَعَهُ نفر من الْأَنْصَار فَقَتَلُوهُ، وَكَانَ بَينا، فَلَمَّا قتل انتفخ فالقوا عَلَيْهِ التُّرَاب حَتَّى غيبه ثمَّ جر إِلَى القليب فتقطع قبل وُصُوله إِلَيْهِ، وَكَانَ من الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَفِيه نزل قَوْله تَعَالَى: {ويل لكل همزَة لُمزَة} (سُورَة الهُمَزة: 1) وَهُوَ الَّذِي كَانَ يعذب بِلَالًا فِي مَكَّة. وَأما عقبَة بن أبي معيط. فَقتله عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: عَاصِم بن ثَابت، وَالأَصَح أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَتله بعرق الظبية، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَأما عمَارَة بن الْوَلِيد فقد ذكرنَا أمره مَعَ النَّجَاشِيّ. وَمَات زمن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي أَرض الْحَبَشَة.
بَيَان استنباط الْفَوَائِد وَالْأَحْكَام مِنْهَا: تَعْظِيم الدُّعَاء بِمَكَّة عِنْد الْكفَّار وَمَا أزداد عِنْد الْمُسلمين إلاَّ تَعْظِيمًا عَظِيما وَمِنْهَا: معرفَة الْكفَّار بِصدق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لخوفهم من دُعَائِهِ. وَلَكِن لأجل شفائهم الأزلي حملهمْ الْحَسَد والعناد على ترك الانقياد لَهُ. وَمِنْهَا: حلمه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَمَّن آداه. فَفِي رِوَايَة الطَّيَالِسِيّ عَن شُعْبَة فِي هَذَا الحَدِيث: أَن ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: لم أره دَعَا عَلَيْهِم إلاَّ يَوْمئِذٍ وأنما استحقوا الدُّعَاء حِينَئِذٍ لما أقدموا عَلَيْهِ من التهكم بِهِ حَال عِبَادَته لرَبه تَعَالَى. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب الدُّعَاء ثَلَاثًا. وَمِنْهَا: جَوَاز الدُّعَاء على الظَّالِم. وَقَالَ بَعضهم: مَحَله مَا إِذا كَانَ كَافِرًا، فَأَما الْمُسلم فَيُسْتَحَب الاسْتِغْفَار لَهُ وَالدُّعَاء بِالتَّوْبَةِ. وَمِنْهَا: أَن الْمُبَاشرَة أقوى من السَّبَب وآكد، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي عقبَة: أَشْقَى الْقَوْم، مَعَ أَنه كَانَ فيهم أَبُو جهل، وَهُوَ أَشد مِنْهُ كفرا، وَلَكِن كَانَ عقبَة مباشراً على مَا مر بَيَانه. وَمِنْهَا: أَن البُخَارِيّ اسْتدلَّ بِهِ على أَن من حدث لَهُ فِي صلَاته مَا يمْنَع انْعِقَادهَا ابْتِدَاء لَا تبطل صلَاته وَلَو تَمَادى، وَأجَاب الْخطابِيّ عَن هَذَا بِأَن أَكثر الْعلمَاء ذَهَبُوا إِلَى أَن السلا نجس. وتأولوا معنى الحَدِيث على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن تعبد إِذْ ذَاك بِتَحْرِيمِهِ، كَالْخمرِ كَانُوا يلابسون الصَّلَاة وَهِي تصيب ثِيَابهمْ وأبدانهم، قبل نزُول التَّحْرِيم، فَلَمَّا حرمت لم تجز الصَّلَاة فِيهَا، وَاعْترض عَلَيْهِ ابْن بطال. بِأَنَّهُ لَا شكّ أَنَّهَا كَانَت بعد نزُول قَوْله تَعَالَى: {وثيابك فطهر} (سُورَة المدثر: 4) لِأَنَّهَا أول مَا نزل عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْقُرْآن قبل كل صَلَاة، ورد عَلَيْهِ بِأَن الفرت ورطوبة الْبدن طاهران، والسلا من ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا ضَعِيف لِأَن رَوْث مَا يُؤْكَل لَحْمه لَيْسَ بطاهر، ثمَّ إِنَّه يتَضَمَّن النَّجَاسَة من حَيْثُ إِنَّه لَا يَنْفَكّ من الدَّم فِي الْعَادة، وَلِأَنَّهُ ذَبِيحَة عَبدة الْأَوْثَان فَهُوَ نجس، وَالْجَوَاب: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يعلم مَا وضع على ظَهره فاستمر فِي سُجُوده استصحاباً للطَّهَارَة، وَمَا يدْرِي هَل كَانَت هَذِه الصَّلَاة فَرِيضَة فَتجب إِعَادَتهَا على الصَّحِيح، أَو غَيرهَا فَلَا يجب وَإِن وَجَبت الْإِعَادَة فالوقت موسع لَهَا فَلَعَلَّهُ أعَاد وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لَو أعَاد لنقل وَلم ينْقل. قلت: لَا يلْزم من عدم النَّقْل عدم الْإِعَادَة فِي نفس الْأَمر. فَإِن قلت: كَيفَ كَانَ لَا يعلم بِمَا وضع على ظَهره، فَإِن فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ذهبت بِهِ قبل أَن يرفع رَأسه قلت: لَا يلْزم من إِزَالَة فَاطِمَة إِيَّاه عَن ظَهره إحساسه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بذلك، لِأَنَّهُ كَانَ إِذا دخل فِي الصَّلَاة استغرق باشتغاله بِاللَّه تَعَالَى، وَلَئِن سلمنَا إحساسه بِهِ فقد يحْتَمل أَنه لم يتَحَقَّق نَجَاسَته، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن شَأْنه أعظم من أَن يمْضِي فِي صلَاته وَبِه نَجَاسَة، وَقد يُقَال: إِن الفرث وَالدَّم كَانَ دَاخل السلا، وجلدته الظَّاهِرَة طَاهِرَة، فَكَانَ كحمل القارورة المرصصة وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ كَانَ ذَبِيحَة وَثني، فَجمع أَجْزَائِهَا نَجِسَة لِأَنَّهَا ميتَة. وَأجِيب عَن ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَ قبل التَّعَبُّد بِتَحْرِيم ذَبَائِحهم، وَاعْترض عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى تَارِيخ، وَلَا يَكْفِي فِيهِ الِاحْتِمَال. قلت: الِاحْتِمَال الناشىء عَن دَلِيل كافٍ وَلَا شكّ أَن تماديه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذِه الْحَالة قرينَة تدل على أَنه كَانَ قبل تَحْرِيم ذَبَائِحهم لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يقر على أَمر غير مَشْرُوع وَلَا يُقرر غَيره عَلَيْهِ لِأَن

(3/175)


حَاله أجلّ من ذَلِك وَأعظم. وَمِنْهَا: أَن أَشهب الْمَالِكِي احْتج بِهِ على أَن إِزَالَة النَّجَاسَة لَيست بواجبة. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: والدلائل القطعية توجب إِزَالَتهَا عَن ثوب الْمصلى وبدنه، وَالْمَكَان الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ يرد عَلَيْهِ، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَمِنْهُم من فرق بَين ابْتِدَاء الصَّلَاة بِالنَّجَاسَةِ، فَقَالَ: لَا يجوز، وَبَين طرؤها على الْمُصَلِّي فِي نفس الصَّلَاة فيطرحها عَنهُ وَتَصِح صلَاته، وَالْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك قطع طرؤها للصَّلَاة إِذا لم يُمكن طرحها بِنَاء على أَن إِزَالَتهَا وَاجِبَة.
الأسئلة والأجوبة مِنْهَا مَا قيل: إِنَّه كم كَانَ عدد الَّذين ألقوا فِي القليب؟ وَأجِيب: بِأَن قَتَادَة رُوِيَ عَن أنس عَن أبي طَلْحَة قَالَ: لما كَانَ يَوْم بدر، وَظهر عَلَيْهِم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَمر ببضعة وَعشْرين رجلا. وَفِي رِوَايَة: بأَرْبعَة وَعشْرين رجلا من صَنَادِيد قُرَيْش، فَألْقوا فِي طوى من أطواء بدر. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن إلقاءهم فِي الْبِئْر دفن لَهُم، وَالْحَرْبِيّ وَيجب دَفنه بل يتْرك فِي الصَّحرَاء، وهم كَانُوا حَربًا؟ وَأجِيب: بِأَن إلقاءهم فِي الْبِئْر كَانَ تحقيراً لَهُم وَلِئَلَّا يتَأَذَّى النَّاس برائحتهم وَلم يكن ذَلِك دفناً فَإِن قلت: فِي (سنَن) الدَّارَقُطْنِيّ. أَن من سنَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مغازيه إِذا مر بجيفة إِنْسَان أَمر بدفنه، وَلَا يسْأَل عَنهُ مُؤمنا كَانَ أَو كَافِرًا. قلت: إِنَّمَا كَانَ لَا يسْأَل لِأَنَّهُ كَانَ يعلم بِالْوَحْي بِأَنَّهُ إِن كَانَ مُؤمنا كَانَ مُسْتَحقّ الدّفن لكرامته، وَإِن كَانَ كَافِرًا فلئلا يتَأَذَّى النَّاس برائحته، على أَن المُرَاد بدفنه لَيْسَ دفناً شَرْعِيًّا، بل صب التُّرَاب عَلَيْهِ للمواراة. وَمِنْهَا مَا قيل: إِن صب التُّرَاب عَلَيْهِم كَانَ يقطع رائحتهم؟ قلت: كَانَ إلقاؤهم فِي الْبِئْر أيسر عَلَيْهِم فِي ذَلِك الْوَقْت مَعَ زِيَادَة التحقير لَهُم لما ذكرنَا. وَمِنْهَا مَا قيل: كَيفَ كَانَ وَالنَّاس يَنْتَفِعُونَ بِمَائِهَا؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُ لم يكن فِيهِ مَاء، وَكَانَت عَادِية مهجورة، وَيُقَال: وَافق أَنه كَانَ حفرهَا رجل من بني النَّار اسْمه بدر من قُرَيْش بن مخلد بن النَّضر بن كنَانَة الَّذِي سميت قُرَيْش بِهِ على أحد الْأَقْوَال، فَكَانَ فالاً مقدما لَهُم، وَالله تَعَالَى أعلم.
70 - بابُ البُرَاقِ والمُخاطِ وَنَحوهِ فِي الثَّوْبِ
إِن قُلْنَا إِن بَاب البصاق مُبْتَدأ يحْتَاج إِلَى خبر فَيكون تَقْدِيره: بَاب البصاق فِي الثَّوْب لَا يضر الْمُصَلِّي، وَإِن قُلْنَا: هُوَ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف فَيكون تَقْدِيره: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم البصاق فِي الثَّوْب هَل يضر أم لَا، والبصاق، بِضَم الْبَاء على وزن: فعال: مَا يسيل من الْفَم، وَفِيه ثَلَاث لُغَات: بالصَّاد وَالزَّاي وَالسِّين، وأعلاها الزَّاي وأضعفها السِّين. قَوْله: (والمخاط) عطف على البصاق، وَهُوَ بِضَم الْمِيم، مَا يسيل من الْأنف. قَوْله: (وَنَحْوه) بِالْجَرِّ، عطف على مَا قبله. قَوْله: (فَأن قلت:) كَانَ يَنْبَغِي أَن يُقَال: وَنَحْوهمَا، لِأَن الْمَذْكُور شَيْئَانِ قلت: تَقْدِيره. وَنَحْو كل مِنْهُمَا، وَقَوله: (فِي الثَّوْب) يتَعَلَّق بِمَحْذُوف، أَي الْكَائِن، أَو كَائِنا. فَإِن قلت: مَا المُرَاد من قَوْله: وَنَحْوه؟ قلت: الْعرق، وعرق كل حَيَوَان يعْتَبر بسؤره الَّذِي يمتزج بلعابه، ويستثني مِنْهُ الْجمار على مَا عرف فِي الْفِقْه.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَبَين الْبَاب الَّذِي قبله؟ قلت: وَجههَا ظَاهر على وضع البُخَارِيّ لِأَنَّهُ وضع الْبَاب الَّذِي قبله فِيمَا إِذا ألْقى على ظهر الْمصلى قذر، وَرَأى بِهِ عدم بطلَان الصَّلَاة فِي مثل هَذِه الصُّورَة، وَحكم هَذَا الْبَاب كَذَلِك، وَلَا خلاف فِيهِ وَقَالَ بَعضهم: وَدخُول هَذَا فِي أَبْوَاب الطَّهَارَة من جِهَة أَنه لَا يفْسد المَاء. قلت: هَذَا حكم الْبَاب فِي البصاق الَّذِي يُصِيب الثَّوْب، وَذكره عقيب الْبَاب الَّذِي قبله من هَذِه الْجِهَة، وَلَا ذكر للْمَاء فِي الْبَابَيْنِ نعم، إِذا كَانَ حكم البصاق لَا يفْسد الثَّوْب يكون كَذَلِك لَا يفْسد المَاء.
وقَالَ عُرْوَةُ عَن المسْوَرِ وَمرْوانَ خَرَجَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَمَنَ حُدَيْبِيَةَ فَذَكَرَ الحَدِيثَ وَمَا تَنَخمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نُخامَةً إلاَّ وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ فَذَلِكَ بِها وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ
مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل سَاقه البُخَارِيّ بِطُولِهِ فِي صلح الْحُدَيْبِيَة، والشروط الْجِهَاد، عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة، وَقد علق مِنْهُ قِطْعَة فِي بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء

(3/176)


النَّاس بَيَان حَاله وهم ثَلَاثَة: الأول: عُرْوَة بن الزبير التَّابِعِيّ، فَقِيه الْمَدِينَة، تقدم فِي كتاب الْوَحْي. الثَّانِي: الْمسور، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو وبالراء، ابْن مخرمَة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الرَّاء، الصَّحَابِيّ، تقدم فِي بَاب اسْتِعْمَال وضوء النَّاس. الثَّالِث: مَرْوَان بن الحكم بِفَتْح الْخَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف، الْأمَوِي، ولد على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ خرج إِلَى الطَّائِف طفْلا لَا يعقل حِين نفى النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، أَبَاهُ الحكم إِلَيْهَا، وَكَانَ مَعَ أَبِيه بهَا حَتَّى اسْتخْلف عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فردهما إِلَى الْمَدِينَة، وَكَانَ إِسْلَام الحكم يَوْم فتح مَكَّة، وطرده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الطَّائِف لِأَنَّهُ كَانَ يفشي سره، مَاتَ فِي خلَافَة عُثْمَان، وَلما توفّي مُعَاوِيَة بن يزِيد بن مُعَاوِيَة بَايع بعض النَّاس بِالشَّام مَرْوَان بالخلافة، وَمَات بِدِمَشْق سنة خَمْسَة وَسِتِّينَ. فَإِن قلت: مَرْوَان لم يسمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا كَانَ بِالْحُدَيْبِية، وَكَيف روايتة. قلت: رِوَايَة الْمسور هِيَ الأَصْل لَكِن ضم إِلَيْهِ رِوَايَة مَرْوَان للتقوية والتأكيد.
ذكر لغاته قَوْله: (زمن حديبية) بِضَم الْخَاء الْمُهْملَة وَفتح الدَّال وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف الأولى وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْيَاء الثَّانِيَة كَذَا قَالَه الشَّافِعِي: وبتشديد الْيَاء عِنْد أَكثر الْمُحدثين، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ: أهل الْمَدِينَة يثقلونها، وَأهل العراف يخففونها قلت: هِيَ تَصْغِير: حدباء لِأَن حديبية قَرْيَة سميت بشجرة هُنَاكَ وَهِي حدباء وَكَانَت الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، بَايعُوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَحت هَذِه الشَّجَرَة، وَهِي تسمى: بيعَة الرضْوَان، وَقيل: هِيَ قَرْيَة، سميت ببئر هُنَاكَ، وعَلى كلاًّ التَّقْدِيرَيْنِ الصَّوَاب التَّخْفِيف، وَهِي على نَحْو مرحلة من مَكَّة. قَوْله: (وَمَا تنخم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نخامة) قَوْله: (تنخم) فعل مَاض من بَاب التفعل، يُقَال: تنخم الرجل إِذا دفع بِشَيْء من صَدره أوأنفه، قَالَ فِي (الْمُحكم) وَثَلَاثَة نخم نخماً وَفِي (الصِّحَاح) وَفِي (الْمُجْمل) : النخامة بالفم النخاعة، وَفِي (المغيث) و (الْمغرب) مَا يخرج من الخيشوم، وَزعم النَّوَوِيّ أَنَّهَا تخرج من الْفَم، بِخِلَاف النخاعة فَإِنَّهَا تخرج من الْحلق. وَقَالَ بعض الْفُقَهَاء النخامة هِيَ الْخَارِج من الصَّدْر، والبلغم هُوَ النَّازِل من الدِّمَاغ، وَبَعْضهمْ عكسوا. قَوْله: (إِلَّا وَقعت) أَي: مَا تنخم فِي حَال من الْأَحْوَال إلاَّ فِي حَال وُقُوعهَا فِي الْكَفّ، وَهُوَ إِمَّا عطف على: خرج، وَأما على الحَدِيث، ثمَّ إِمَّا أَن يُرَاد: أَنه مَا تنخم من الْحُدَيْبِيَة إلاَّ وَقعت فِي كف رجل، وَإِمَّا أَن يُرَاد إِنَّه مَا تنخم قطّ إلاَّ وَقعت فَلَا يخْتَص بِزَمن الْحُدَيْبِيَة. قَالَ الْكرْمَانِي، وَالْأول هُوَ الظَّاهِر. قلت: الثَّانِي هُوَ الْأَظْهر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه ذكر حَدِيث الْحُدَيْبِيَة هُنَا. قلت: إِمَّا لِأَن أَمر التنخم وَقع فِي الحَدِيث، وَإِمَّا لِأَن الرَّاوِي سَاق الْحَدِيثين سوقاً وَاحِدًا وذكرهما مَعًا وَكَثِيرًا مَا يَفْعَله المحدثون، كَمَا تقدم فِي حَدِيث نَحن الْآخرُونَ السَّابِقُونَ، قلت لم يقطع الْكرْمَانِي على الْموضع الَّذِي سَاق البُخَارِيّ فِيهِ الحَدِيث، فَلذَلِك ردد فِي جَوَاب السُّؤَال فَلَو كَانَ أطلع عَلَيْهِ لم يتَرَدَّد.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: الِاسْتِدْلَال على طَهَارَة البصاق والمخاط قَالَ ابْن بطال: وَهُوَ أَمر مجمع عَلَيْهِ لَا نعلم فِيهِ خلافًا إلاَّ مَا لاوي سلمَان: أَنه جعله غير طَاهِر، وَأَن الْحسن بن حَيّ كرهه فِي الثَّوْب، وَعَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه كره أَن يدْخل سواكه فِي وضوئِهِ، وَذكر ابْن أبي شيبَة أَيْضا فِي (مُصَنفه) عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، أَنه لَيْسَ بِطهُور. وَقَالَ ابْن حزم: صَحَّ عَن سلمَان الْفَارِسِي وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَن اللعاب نجس إِذا فَارق الْفَم، وَقَالَ بعض الشُّرَّاح. وَمَا ثَبت عَن الشَّارِع من خلافهم فَهُوَ المتبع، وَالْحجّة الْبَالِغَة، فَلَا معنى لقَوْل من خَالف وَقد أَمر الشَّارِع الْمُصَلِّي أَن يبزق عَن شِمَاله أَو تَحت قَدَمَيْهِ، وبزق الشَّارِع فِي طرف رِدَائه ثمَّ رد بعضه على بعض وَقَالَ: أَو تفعل هَكَذَا وَهَذَا ظَاهر فِي طَهَارَته، لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يقوم الْمُصَلِّي على نَجَاسَة، وَلَا أَن يُصَلِّي وَفِي ثَوْبه نَجَاسَة. قلت: أما بصاق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَهُوَ أطيب من كل طيب، وأطهر من كل طَاهِر وَأما بصاق غَيره فَيَنْبَغِي أَن يكون بالتفصيل، وَهُوَ أَن البزاق طَاهِر إِذا كَانَ من فَم طَاهِر، وَأما إِذا كَانَ من فَم يشرب الْخمر فَيَنْبَغِي أَن يكون نجسا فِي حَالَة شربه، لِأَنَّهُ سؤره فِي ذَلِك الْوَقْت نجس، فَكَذَلِك بصاقه، وَكَذَا إِذا كَانَ من فَم من فِي فَمه جِرَاحَة أَو دمل يخرج مِنْهُ دم أَو قيح. وَقَالَ أَصْحَابنَا الدَّم الْمسَاوِي للريق ينْقض الْوضُوء اسْتِحْسَانًا كالغالب النَّاقِص، وَلَو كَانَ لون الرِّيق أَحْمَر ينْقض، وَإِن كَانَ أصفر لَا ينْقض، ثمَّ إِذا حكم بِطَهَارَة البزاق على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ يعلم مِنْهُ أَنه إِذا وَقع شَيْء مِنْهُ فِي المَاء لَا يُنجسهُ، وَيجوز الْوضُوء مِنْهُ، وَكَذَا إِذا وَقع فِي الطَّعَام لَا يُفْسِدهُ، غير أَن بعض الطباع يستقذر ذَلِك فَلَا يَخْلُو عَن الْكَرَاهَة. وَمن الاستنباط من

(3/177)


هَذَا الحَدِيث التَّبَرُّك ببزاق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم توقيراً لَهُ وتعظيماً.

241 - حدّثنا مُحَمَدْ بنُ يُوسُفَ قَالَ حَدثنَا سُفْيانُ عنْ حُمَيْد عنْ أَنَسٍ قالَ بَزَقَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثَوْبِهِ قالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ طَوَّلَهُ ابنُ مَرْيَمَ قَالَ أخبرنَا يَحْيَى بنُ أَيُّوبَ قالَ حَدثنِي حُمَيْدُ قالَ سَمِعْتُ انَساً عَن النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ، بِكَسْر الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وبالياء آخر الْحُرُوف قبل الْألف وبالياء الْمُوَحدَة فِي آخِره، تقدم مرَارًا الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ، كَمَا صرح بِهِ الدَّارَقُطْنِيّ، فَإِنَّهُ لما ذكر رُوَاة هَذَا الحَدِيث قَالَ: رَوَاهُ سُفْيَان بن سعيد عَن حميد، وَلم يذكر سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَالْفِرْيَابِي كثير الْمُلَازمَة لِسُفْيَان الثَّوْريّ. وَلما ذكر الجياني وَغَيره مَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن يُوسُف البكندي عَن بن عبينة لم يذكرُوا هَذَا الحَدِيث مِنْهَا، وَابْن عُيَيْنَة مقل فِي حميد حَتَّى أَن البُخَارِيّ لم يخرج لَهُ إلاَّ حَدِيثا وَاحِدًا، وَهُوَ النواة فِي الصَدَاق وَكَذَا ذكره الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي (شَرحه) الثَّالِث: حميد بِضَم الْحَاء الْمَشْهُور بالطويل فَإِن قلت: لَا يُقَال: إِن حميدا هَذَا هُوَ حميد بن هِلَال لِأَنَّهُ فِي طبقَة حميد الطَّوِيل، قلت: لِأَن الفياني لم يرويا عَن حميد بن هِلَال شَيْئا. الرَّابِع: أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. الْخَامِس: سعيد بن الحكم بن مُحَمَّد بن أبي مَرْيَم الْمصْرِيّ، أحد شُيُوخ البُخَارِيّ، وَله (وطأ) رَوَاهُ عَن مَالك وَهُوَ ثِقَة، مَاتَ سنة أَربع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. السَّادِس: يحيى بن أَيُّوب الغافقي الْمصْرِيّ، مولى عمر بن الحكم بن مَرْوَان أَبُو الْعَبَّاس، مَاتَ سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَمِائَة، وَفِيه لين. وَقَالَ أَبُو حَاتِم لَا يحْتَج بِهِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ. السَّابِع: أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه الْأَخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: التَّصْرِيح بِسَمَاع حميد عَن أنس خلافًا لما روى يحيى الْقطَّان عَن حَمَّاد بن سَلمَة أَنه قَالَ: حَدِيث حميد عَن أنس فِي البزاق إِنَّمَا سَمعه عَن ثَابت عَن أبي نَضرة، فَظهر من تَصْرِيح سَمَاعه أَنه لم يُدَلس فِيهِ، وَقَالَ يحيى الْقطَّان، وَلم يقل شَيْئا لِأَن هَذَا قد رَوَاهُ قَتَادَة عَن أنس. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَالْقَوْل عندنَا قَول حَمَّاد بن سَلمَة لِأَن الَّذِي رَوَاهُ عَن قَتَادَة عَن أنس غير هَذَا، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: البزاق فِي الْمَسْجِد خَطِيئَة وكفارتها دَفنهَا. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مكي وبصري ومصري.
بَيَان مَعْنَاهُ قَوْله: (بزق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ثَوْبه) أَي: ثوب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ الظَّاهِر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل عود الضَّمِير إِلَى أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ بعيد. قلت: وَجه بعده، وَإِن كَانَ فِيهِ احْتِمَال، مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (مسخرجه) وَهُوَ هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الْفرْيَابِيّ، وَزَاد فِي آخِره، وَهُوَ فِي الصَّلَاة. قَوْله: (طوله) أَي: طول هَذِه الحَدِيث شَيْخه سعيد بن الحكم بن أبي مَرْيَم يَعْنِي، ذكره مطولا فِي بَاب: حك البزاق بِالْيَدِ من الْمَسْجِد، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَوْله: (سَمِعت أنسا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي: مثل الحَدِيث الْمَذْكُور وَهُوَ مفعولة الثَّانِي حذف للْعلم بِهِ.

71 - (بابٌ لَا يَجُوزُ الوُضُوءُ بالنَّبِيذِ ولاٍ بالمُسْكِرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِيهِ لَا يجوز الْوضُوء إِلَخ أَي: بَيَان عدم الْجَوَاز بالنيذ قَوْله: (وَلَا بالمسكر) أَي: وَلَا يجوز أَيْضا بالمسكر، قَالَ بَعضهم: هُوَ من عطف الْعَام على الْخَاص. قلت: إِنَّمَا يكون ذَلِك إِذا كَانَ المُرَاد بالنبيذ مَا لم يصل إِلَى حد الْإِسْكَار، وَأما إِذا وصل فَلَا يكون من هَذَا الْبَاب، وَتَخْصِيص النَّبِيذ بِالذكر من بَين المسكرات لِأَنَّهُ مَحل الْخلاف فِي جَوَاز التوضىء بِهِ، قَالَ ابْن سَيّده: النبذ، طرحك الشَّيْء، وكل طرح نبذ، والنبيذ الشَّيْء المنبوذ والنبيذ مَا نَبَذته من عصير وَنَحْوه، وَقد نبذ وانتبذ ونبذ، والانتبا: المعالجة وَفِي (الصِّحَاح) وَكتاب (الشَّرْح) لِابْنِ درسْتوَيْه الْعَامَّة تَقول: أنبذت انْتهى وَذكره اللحياني فِي (نوادره) وَمن حمض الحامض انبذت لُغَة وَلكنهَا قَليلَة، وَذكرهَا أَيْضا ثَعْلَب فِي كتاب (فعلت وأفعلت) وَفِي (الْجَامِع) للقزاز، أَكثر النَّاس يَقُولُونَ: نبذت النَّبِيذ، بِغَيْر الْألف، وَحكى الْفراء عَن الدوسي، قَالَ: وَكَانَ ثِقَة انبذت النَّبِيذ، وَلَا أسمعها أَنا من الْعَرَب. قلت: النَّبِيذ فعيل بِمَعْنى مفعول، وَهُوَ المَاء الَّذِي ينتبذ فِيهِ تمرات لتخرج حلاوتها إِلَى المَاء. وَفِي (النِّهَايَة) لِابْنِ الْأَثِير: النَّبِيذ مَا يعْمل من الْأَشْرِبَة

(3/178)


من التَّمْر وَالزَّبِيب وَالْعَسَل وَالْحِنْطَة وَالشعِير وَغير ذَلِك، يُقَال: نبذت الشّعير وَالْعِنَب إِذا أنزلت عَلَيْهِ المَاء ليصير نبيذاً، فصرف من مفعول إِلَى فعيل، وانتبذته، اتخذته نبيذاً سَوَاء كَانَ مُسكرا أَو غير مُسكر، وَهُوَ من بَاب فعل يفعل، بِالْفَتْح فِي الْمَاضِي وَالْكَسْر فِي الْمُضَارع. كضرب ذكره صَاحب (الدستور) فِي هَذَا الْبَاب وَفِي (الْعباب) انبذت النَّبِيذ لُغَة عامية ونبذت الشَّيْء تنبيذاً شدّد للْمُبَالَغَة.
فَإِن قلت: مَا وَجه لمناسبة بَين الْبَابَيْنِ؟ قلت: لَيست بَينهمَا مُنَاسبَة خَاصَّة لَكِن من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على حكم وَيرجع إِلَى حَال الْمُكَلف من الصِّحَّة والفسادة.
وَكَرُهَه الحَسَنُ وَأَبُوا العَالِيَةِ

الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ وَأَبُو الْعَالِيَة رفيع بن مهْرَان الرباحي بِكَسْر الرَّاء وبالياء آخر الْحُرُوف المخففة وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَقد تقدم فِي أول كتاب الْعلم ورفيع بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَأما الَّذِي علقه عَن الْحسن فَرَوَاهُ عَن الْحسن فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَمَّن سمع الْحسن يَقُول: (لَا يتَوَضَّأ بنبيذ وَلَا بِلَبن) وَرَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه حدّثنا الثَّوْريّ عَن إِسْمَاعِيل بن مُسلم الْمَكِّيّ عَن الْحسن قَالَ: (لَا يتَوَضَّأ بِلَبن وَلَا بنبيذ) وروى أَبُو عبيد من طَرِيق أُخْرَى عَن الْحسن أَنه لَا بَأْس بِهِ فعلى هَذَا كَرَاهَته عِنْده كَرَاهَة تَنْزِيه فَحِينَئِذٍ لَا يساعد التَّرْجَمَة وَأما الَّذِي علقه عَن أبي الْعَالِيَة فروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه بِسَنَد جيد عَن أبي خلدَة فَقَالَ: قلت لأبي الْعَالِيَة رجل لَيْسَ عِنْده مَاء وَعِنْده نَبِيذ أيغتسل بِهِ من الْجَنَابَة قَالَ: لَا وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا مَرْوَان ابْن مُعَاوِيَة عَن أبي خلدَة عَن أبي الْعَالِيَة أَنه كره أَن يغْتَسل بالنبيذ وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عبيد عَن أبي خلدَة وَفِي رِوَايَة فكرهه. قلت: الظَّاهِر أَن هَذَا أَيْضا كَرَاهَة تَنْزِيه.
وقالَ عَطَاء التيَمُّمُ أَحَب إلَيَّ مِنَ الوُضُوءِ بالنَّبِيذِ واللبَنِ

عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَهَذَا يدل على أَن عَطاء يُجِيز اسْتِعْمَال النَّبِيذ فِي الْوضُوء، وَلَكِن التَّيَمُّم أحب إِلَيْهِ مِنْهُ، فعلى هَذَا هُوَ أَيْضا لَا يساعد التَّرْجَمَة، وروى أَبُو دَاوُد من طَرِيق ابْن جريج عَن عَطاء إِنَّه كره الْوضُوء بالنبيذ وَاللَّبن وَقَالَ: إِن التَّيَمُّم أعجب إِلَيّ مِنْهُ. قلت: أما التَّوَضُّؤ بِاللَّبنِ، فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون بِنَفس اللَّبن، أَو بِمَاء خالطه لبن، فَالْأول لَا يجوز بِالْإِجْمَاع وَأما الثَّانِي فَيجوز عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ. وَأما الْوضُوء بالنبيذ فَهُوَ جَائِز عِنْد أبي حنيفَة، وَلَكِن بِشَرْط أَن يكون حلواً رَقِيقا يسيل على الْأَعْضَاء كَالْمَاءِ، وَمَا اشتده مِنْهَا صَار حَرَامًا لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ وَإِن غيرته النَّار، فَمَا دَامَ حلواً فَهُوَ على الْخلاف، وَلَا يجوز التَّوَضُّؤ بِمَا سواهُ من الأنبذة جَريا على قَضِيَّة الْقيَاس. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي الْوضُوء بالنبيذ، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يجوز الْوضُوء بنيِّه ومطبوخة مَعَ عدم المَاء وجوده، تَمرا كَانَ أَو غَيره، فآن كَانَ مَعَ ذَلِك مشتداً فَهُوَ نجس لَا يجوز شربه وَلَا الْوضُوء بِهِ وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا يجوز الْوضُوء بِهِ مَعَ وجود المَاء، فَإِذا عدم فَيجوز بمبطوح التَّمْر خَاصَّة. وَقَالَ الْحسن: جَازَ الْوضُوء بالنبيذ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: جَازَ بِسَائِر الأنبذة انْتهى. وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة وَرُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ إِنَّه كَانَ لَا يرى بَأْسا بِالْوضُوءِ بنبيذ التَّمْر، وَبِه قَالَ الْحسن والأزاعي. وَقَالَ عِكْرِمَة: النَّبِيذ وضوء من لم يجد المَاء، وَقَالَ إِسْحَاق: النَّبِيذ الحلو أحب إِلَيّ من التَّيَمُّم، وجمعهما أحب إليَّ وَعَن أبي حنيفَة كَقَوْل عِكْرِمَة، وَقيل عَنهُ: يجوز الْوضُوء بنبيذ التَّمْر إِذا طبخ وَاشْتَدَّ عِنْد عدم المَاء فِي السّفر، لحَدِيث ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِي (أَحْكَام الْقُرْآن) لأبي بكر الرَّازِيّ، عَن أبي حنيفَة فِي ذَلِك ثَلَاث رِوَايَات. إِحْدَاهَا: يتَوَضَّأ بِهِ وَيشْتَرط فِيهِ النِّيَّة، وَلَا يتَيَمَّم، وَهَذِه هِيَ الْمَشْهُورَة، وَقَالَ قاضيخان، وَهُوَ قَوْله الأول، وَبِه قَالَ زفر. وَالثَّانيَِة: يتَيَمَّم وَلَا يتَوَضَّأ، رَوَاهَا عَنهُ نوح ابْن أبي مَرْيَم، وَأسد بن عَمْرو، وَالْحسن بن زِيَاد قَالَ قاضيخان: وَهُوَ الصَّحِيح عَنهُ، وَالَّذِي رَجَعَ إِلَيْهَا وَبهَا قَالَ أَبُو يُوسُف وَأكْثر الْعلمَاء، وَاخْتَارَ الطَّحَاوِيّ هَذَا. وَالثَّالِثَة: رُوِيَ عَنهُ الْجمع بَينهمَا، وَهَذَا قَول مُحَمَّد وَقَالَ صَاحب (الْمُحِيط) صفة هَذَا النَّبِيذ أَن يلقى فِي المَاء تُمَيْرَات حَتَّى يَأْخُذ المَاء حلاوتها وَلَا يشْتَد وَلَا يسكر، فَإِن اشْتَدَّ حرم شربه، فَكيف الْوضُوء؟ وَإِن كَانَ مطبوخاً فَالصَّحِيح أَنه لَا يتَوَضَّأ بِهِ. وَقَالَ فِي (الْمُفِيد) إِذا ألْقى فِيهِ تمرات فحلا وَلم يزل عَنهُ اسْم المَاء وَهُوَ رَقِيق فَيجوز الْوضُوء بِهِ بِلَا خلاف بَين أَصْحَابنَا، وَلَا يجوز الِاغْتِسَال بِهِ وَهَذَا خلاف مَا قَالَه فِي (الْمَبْسُوط) أَنه يجوز الِاغْتِسَال بِهِ وَقَالَ الْكَرْخِي: الْمَطْبُوخ أدنى طبخة يجوز الْوضُوء بِهِ إلاَّ عِنْد مُحَمَّد، وَقَالَ الدباس: لَا يجوز، وَفِي

(3/179)


(الْبَدَائِع) وَاخْتلف الْمَشَايِخ فِي جَوَاز الِاغْتِسَال بنبيذ التَّمْر على أصل أبي حنيفَة، فَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز، لِأَن الْجَوَاز عرف بِالنَّصِّ، وَأَنه ورد بِالْوضُوءِ دون الِاغْتِسَال، فَيقْتَصر على مورد النَّص، وَقَالَ بَعضهم: يجوز لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْمَعْنى.
ثمَّ لَا بُد من تَفْسِير نَبِيذ التَّمْر الَّذِي فِيهِ الْخلاف وَهُوَ أَن يلقى فِي المَاء شَيْء من التَّمْر لتخرج حلاوتها إِلَى المَاء، وَهَكَذَا ذكر ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي تَفْسِير النَّبِيذ الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: تمرات ألقيتها فِي المَاء، لِأَن من عَادَة الْعَرَب أَنَّهَا تطرح التَّمْر فِي المَاء ليحلو فَمَا دَامَ رَقِيقا حلواً أَو قارصاً يتَوَضَّأ بِهِ عِنْد أبي حنيفَة وَإِن كَانَ غليظاً كالرب لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ، وَكَذَا إِذا كَانَ رَقِيقا لكنه غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد لِأَنَّهُ صَار مُسكرا، والمسكر حرَام، فَلَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ، لِأَن النَّبِيذ الَّذِي تَوَضَّأ بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ رَقِيقا حلواً، فَلَا يلْحق بِهِ الغليظ والنبيذ إِذا كَانَ نياً أَو كَانَ مطبوخاً أدنى طبخه، فَمَا دَامَ قارصاً أَو حلواً فَهُوَ على الْخلاف وَإِن غلا وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد فَلَا، وَذكر الْقَدُورِيّ فِي (شَرحه مُخْتَصر الْكَرْخِي) الِاخْتِلَاف فِيهِ بَين الْكَرْخِي وَأبي طَاهِر الدباس، على قَول الْكَرْخِي: يجوز، وعَلى قَول أبي طَاهِر: لَا يجوز، ثمَّ الَّذين جوزوا التَّوَضُّؤ بِهِ احْتَجُّوا بِحَدِيث ابْن مَسْعُود حَيْثُ قَالَ لَهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْجِنّ: (مَاذَا فِي إداوتك؟ قَالَ: نَبِيذ قَالَ: تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور) رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ، وز اد، (فَتَوَضَّأ بِهِ وَصلى الْفجْر) وَقَالَ بَعضهم: وَهَذَا الحَدِيث أطبق عُلَمَاء السّلف على تَضْعِيفه. قلت: إِنَّمَا ضَعَّفُوهُ لِأَن فِي رُوَاته أَبَا زيد وَهُوَ رجل مَجْهُول لَا يعرف لَهُ رِوَايَة غير هَذَا الحَدِيث، قَالَه التِّرْمِذِيّ. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) أَبُو زيد مولى عَمْرو بن حُرَيْث، روى عَنهُ رَاشد بن كيسَان وَأَبُو روق، وَهَذَا يُخرجهُ عَن حد الْجَهَالَة، وَأما اسْمه فَلم يعرف فَيجوز أَن يكون التِّرْمِذِيّ أَرَادَ أَنه مَجْهُول الِاسْم.
على أَنه روى هَذَا الحَدِيث أَرْبَعَة عشر رجلا عَن ابْن مَسْعُود كَمَا رَوَاهُ أَبُو زيد. الأول: أَبُو رَافع عِنْد الطَّحَاوِيّ وَالْحَاكِم. الثَّانِي: رَبَاح أَبُو عَليّ عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) . الثَّالِث: عبد الله بن عمر عِنْد أبي مُوسَى الْأَصْبَهَانِيّ فِي (كتاب الصَّحَابَة) . الرَّابِع: عَمْرو الْبكالِي عِنْد أبي أَحْمد فِي (الكنى) بِسَنَد صَحِيح. الْخَامِس: أَبُو عُبَيْدَة ابْن عبد الله. السَّادِس: أَبُو الْأَحْوَص، وحديثهما عِنْد مُحَمَّد بن عِيسَى الْمَدَائِنِي. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُحَمَّد بن عِيسَى الْمَدَائِنِي واهي الحَدِيث، والْحَدِيث بَاطِل. قلت: قَالَ البرقاني: فِيهِ ثِقَة لَا بَأْس بِهِ. وَقَالَ اللألكائي: صَالح لَيْسَ يدْفع عَن السماع. السَّابِع: عبد الله بن مسلمة عِنْد الْحَافِظ أبي الْحسن بن المظفر فِي كتاب (غرائب شُعْبَة) . الثَّامِن: قَابُوس بن ظبْيَان عَن أَبِيه عِنْد ابْن المظفر أَيْضا بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ. التَّاسِع: عبد الله بن عَمْرو بن غيلَان الثَّقَفِيّ عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي جمعه حَدِيث يحيى بن أبي كثير عَن يحيى عَنهُ. الْعَاشِر: عبد الله بن عَبَّاس عِنْد ابْن مَاجَه والطَّحَاوِي. الْحَادِي عشر: أَبُو وَائِل شَقِيق بن سَلمَة عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ. الثَّانِي عشر: ابْن عبد الله رَوَاهُ أَبُو عُبَيْدَة بن عبد الله عَن طَلْحَة بن عبد الله عَن أَبِيه أَن أَبَاهُ حَدثهُ. الثَّالِث عشر: أَبُو عُثْمَان ابْن سنه عِنْد أبي حَفْص بن شاهي فِي كتاب (النَّاسِخ والمنسوخ) من طَرِيق جَيِّدَة، وخرجها الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) الرَّابِع عشر: أَبُو عُثْمَان النَّهْدِيّ عِنْد الدَّوْرَقِي فِي (مُسْنده) بطرِيق لَا بَأْس بهَا. فَإِن قلت: صَحَّ عَن عبد الله إِنَّه قَالَ: لم أكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَيْلَة الْجِنّ قلت يجوز أَن يكون صَحبه فِي بعض اللَّيْل واستوقفه فِي الْبَاقِي ثمَّ عَاد إِلَيْهِ، فصح أَنه لم يكن مَعَه عِنْد الْجِنّ، لَا نفس الْخُرُوج.
وَقد قيل: إِن لَيْلَة الْجِنّ كَانَت مرَّتَيْنِ. فَفِي أول مرّة خرج إِلَيْهِم لم يكن مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ابْن مَسْعُود وَلَا غَيره، كَمَا هُوَ ظَاهر حَدِيث مُسلم، ثمَّ بعد ذَلِك خرج إِلَيْهِم وَهُوَ مَعَه لَيْلَة أُخْرَى، كَمَا روى أَبُو حَاتِم فِي (تَفْسِيره) فِي أول سُورَة الْجِنّ، من حَدِيث ابْن جريح قَالَ: قَالَ ابْن عبد الْعَزِيز بن عمر: أما الْجِنّ الَّذين لقوه بنخلة فجن نيتوى، وَأما الْجِنّ الَّذين لقوه بِمَكَّة فجن نَصِيبين. وَقَالَ بَعضهم: على تَقْدِير صِحَّته، أَي: صِحَة حَدِيث ابْن مَسْعُود: إِنَّه مَنْسُوخ، لِأَن ذَلِك كَانَ بِمَكَّة ونزول قَوْله تَعَالَى: {فَلم تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا} (سُورَة النِّسَاء: 43) إِنَّمَا كَانَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف. قلت: هَذَا الْقَائِل نقل هَذَا عَن ابْن الْقصار من الْمَالِكِيَّة، وَابْن حزم من كبار الظَّاهِرِيَّة، وَالْعجب مِنْهُ أَنه، مَعَ علمه أَن هَذَا مَرْدُود، نقل هَذَا وَسكت عَلَيْهِ. وَجه الرَّد مَا ذكره الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَالدَّارَقُطْنِيّ: أَن جبري عَلَيْهِ السَّلَام، نزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَعْلَى مَكَّة فهمز لَهُ بعقبه فأنبع المَاء وَعلمه الْوضُوء. وَقَالَ السُّهيْلي: الْوضُوء مكي، وَلكنه مدنِي التِّلَاوَة، وَإِنَّمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. آيَة التَّيَمُّم وَلم تقل: آيَة الْوضُوء، لِأَن الْوضُوء كَانَ مَفْرُوضًا قبل غير أَنه لم يكن قُرْآنًا يُتْلَى حَتَّى نزلت آيَة التَّيَمُّم، وَحكى عِيَاض عَن أبي الجهم: أَن الْوضُوء كَانَ سنة حَتَّى نزل فِيهِ الْقُرْآن بِالْمَدِينَةِ.

(3/180)


242 - حدّثنا عليُّ بنُ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ حدّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدّثنا الزُّهْرِي عَنْ أبي سلمَةَ عنْ عائِشَةَ عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ كعملُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة بِالْجَرِّ الثقيل، وَكَانَ مَوْضِعه كتاب الْأَشْرِبَة، وَجه ذَلِك أَن الشَّرَاب إِذا كَانَ مُسكرا يكون شربه حَرَامًا، فَكَذَلِك لَا يجوز التَّوَضُّؤ بِهِ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لِخُرُوجِهِ عَن اسْم المَاء فِي اللُّغَة والشريعة، وَكَذَلِكَ النَّبِيذ غير الْمُسكر أَيْضا، هُوَ فِي معنى السكر من جِهَة أَنه لَا يَقع عَلَيْهِ إسم المَاء وَلَو جَازَ أَن يشمى النَّبِيذ مَاء، لِأَن فِيهِ مَاء، جَازَ أَن يُسمى الْخلّ مَاء، لِأَن فِيهِ مَاء انْتهى. قلت: كَون النَّبِيذ الْغَيْر مُسكر فِي معنى الْمُسكر غير صَحِيح، لِأَن النَّبِيذ الَّذِي لَا يسكر إِذا كَانَ رَقِيقا وَقد ألقيت فِيهِ تُمَيْرَات لتخرج حلاوتها إِلَى المَاء لَيْسَ فِي معنى الْمُسكر أصلا وَلَا يلْزم أَن يكون النَّبِيذ الَّذِي كَانَ مَعَ ابْن مَسْعُود فِي معنى النَّبِيذ الْمُسكر، وَلم يقل بِهِ أحد، وَلَا يلْزم من عدم جَوَاز تَسْمِيَة الْخلّ مَاء عدم جَوَاز تَسْمِيَة النَّبِيذ الَّذِي ذكره ابْن مَسْعُود مَاء أَلا ترى أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَيفَ قَالَ: (تَمْرَة طيبَة وَمَاء طهُور) ، حِين سَأَلَ ابْن مَسْعُود: مَا فِي إدواتك؟ قَالَ: نَبِيذ، وَقد أطلق عَلَيْهِ المَاء وَوَصفه بالطهورية، فَكيف ذهل الْكرْمَانِي عَن هَذَا حَتَّى قَالَ مَا قَالَه ترويجاً لما ذهب إِلَيْهِ، وَالْحق أَحَق أَن يتبع.
الْإِدَاوَة، بِكَسْر الْهمزَة، إِنَاء صَغِير يتَّخذ من جلد للْمَاء كَمَا كَمَا السطيحة وَنَحْوهَا، وَجَمعهَا: أداوي. ثمَّ قَالَ الْكرْمَانِي: وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة إِمَام اللُّغَة، النَّبِيذ لَا يكون طَاهِرا، لِأَن الله تَعَالَى شَرط الطّهُور بِالْمَاءِ والصعيد وَلم يَجْعَل لَهما ثَالِثا والنبيذ لَيْسَ مِنْهُمَا. قلت: الْكَلَام مَعَ أبي عُبَيْدَة لِأَنَّهُ إِن أَرَادَ بِهِ مُطلق النَّبِيذ فَغير مُسلم لِأَن فِيهِ مصادمة الحَدِيث النَّبَوِيّ، وَإِن أَرَادَ بِهِ النَّبِيذ الْخَاص وَهُوَ الغليظ الْمُسكر فَنحْن أَيْضا نقُول بِمَا قَالَه.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة الأول: عَليّ بن عبد الله الْمدنِي، وَقد تقدم غير مرّة. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَقد تقدم غير مرّة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة. بِفَتْح اللَّام، عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَقد تقدم فِي كتاب الْوَحْي. الْخَامِس: عَائِشَة الصديفة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مديني ومكي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن عَليّ عَن سُفْيَان، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن عبد الله ابْن يُوسُف عَن مَالك، وَعَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَعمر والناقد وَزُهَيْر بن حَرْب وَسَعِيد بن مَنْصُور، خمستهم عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن حَرْمَلَة بن يحيى عَن أبي وهب عَن يُونُس وَعَن حسن الْحلْوانِي وَعبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن يَعْقُوب، وَعَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، ثَلَاثَتهمْ عَن الزُّهْرِيّ بِهِ وَفِي حَدِيث معمر: (كل شراب مُسكر حرَام) وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَفِيه عَن القعني عَن مَالك بِهِ، وَعَن يزِيد بن عبد ربه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ وَعَن يزِيد بن عبد ربه. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك، وَعَن قُتَيْبَة بن سعيد، كِلَاهُمَا عَن مَالك بِهِ، وَعَن ابْن قُتَيْبَة عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن عَليّ بن مَيْمُونَة عَن بشر بن السّري عَن عبد الرَّزَّاق، وَفِيه وَفِي الْوَلِيمَة عَن سُوَيْد بن نصر عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن سُفْيَان بِهِ.
بَيَان مَعْنَاهُ وَحكمه قَوْله: (كل شراب) أَي: كل وَاحِد من أَفْرَاد الشَّرَاب الْمُسكر حرَام وَذَلِكَ لِأَن كلمة، كل إِذا أضيفت إِلَى النكرَة تَقْتَضِي عُمُوم الْإِفْرَاد، وَإِذا أضيفت إِلَى الْمعرفَة تَقْتَضِي عُمُوم الْإِجْزَاء وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: (كل شراب أسكر) أَي: كَانَ من شَأْنه الْإِسْكَار سَوَاء حصل بشربه الْإِسْكَار أم لَا. قلت: لَيْسَ مَعْنَاهُ كَذَا، لِأَن الشَّارِع أخبر بِحرْمَة الشَّرَاب عِنْد اتصافه بالإسكار، وَلَا يدل ذَلِك على أَنه يحرم إِذا كَانَ يسكر فِي المستقل، ثمَّ نقل عَن الْخطابِيّ، فَقَالَ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن قَلِيل الْمُسكر وَكَثِيره حرَام من أَي نوع كَانَ لِأَنَّهَا صِيغَة عُمُوم أُشير بهَا ألى جنس الشَّرَاب الَّذِي يكون مِنْهُ السكر، فَهُوَ كَمَا قَالَ: كل طَعَام أشْبع فَهُوَ حَلَال، فَإِنَّهُ يكون دَالا على حل كل طَعَام من شَأْنه الإشباع، وَإِن لم يحصل الشِّبَع بِهِ لبَعض. قلت: قَوْله، قَلِيل الْمُسكر وَكَثِيره حرَام من أَي نوع كَانَ لَا يمشي فِي كل شراب، وَإِنَّمَا ذَلِك فِي الْخمر لما رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس،

(3/181)


رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا (إِنَّمَا حرمت الْخمْرَة بِعَينهَا والمسكر من كل شراب) فَهَذَا يدل على أَن الْخمر حرَام قليلها وكثيرها أسكرت أَو لَا، وعَلى أَن غَيرهَا من الْأَشْرِبَة إِنَّمَا يحرم عِنْد الْإِسْكَار وَهَذَا ظَاهر. قلت: ورد عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (كل مُسكر خمر وكل مُسكر حرَام) قلت: طعن فِيهِ يحيى بن معِين وَلَئِن سلم فَالْأَصَحّ أَنه مَوْقُوف على ابْن عمر، وَلِهَذَا رَوَاهُ مُسلم بِالظَّنِّ، فَقَالَ: لَا أعلمهُ إلاّ مَرْفُوعا وَلَئِن سلم فَمَعْنَاه كل مَا أسكر كَثِيره فَحكمه حكم الْخمر.

72 - (بابُ غَسْلِ المَرّأةِ أَبَاهَا الدَّمَ عنْ وَجْهِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان غسل الْمَرْأَة الدَّم عَن وَجهه فَقَوله: (أَبَاهَا) مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول الْمصدر أَعنِي: غسل المرإة، والمصدر مُضَاف إِلَى فَاعله. قَوْله: (الدَّم) مَنْصُوب بدل من أَبَاهَا الاشتمال، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بالاختصاص، تَقْدِيره: أَعنِي الدَّم، وَفِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: بَاب غسل الْمَرْأَة عَن وَجه أَبِيهَا، وَهَذَا هُوَ الأجو،. قَوْله: (عَن وَجهه) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من وَجهه) وَالْمعْنَى فِي رِوَايَة. عَن إِمَّا أَن يكون بِمَعْنى من وَإِمَّا أَن يتَضَمَّن الْغسْل معنى الْإِزَالَة ومحيء، عَن، بِمَعْنى من، وَقع فِي كَلَام الله تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يقبل التَّوْبَة عَن عباده وَيَعْفُو عَن السَّيِّئَات} (سُورَة الشورى: 25) وَهَاهُنَا سؤالان: الأول: فِي وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ؟ وَالثَّانِي: فِي وَجه إِدْخَال هَذَا الْبَاب فِي كتاب الْوضُوء. قلت: أما الأول فَيمكن أَن يُقَال إِن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على حكم شَرْعِي. أما الأول: فَفِيهِ أَن اسْتِعْمَال النَّبِيذ لَا يجوز. وأماالثاني: فَلِأَن ترك النَّجَاسَة على الْبدن لَا يجوز، فهما متساويات فِي عدم الْجَوَاز، وَهَذَا الْمِقْدَار كَاف وَأما الْجَواب عَن الثَّانِي فَهُوَ أَن النُّسْخَة إِن كَانَت كتاب الطَّهَارَة بدل كتاب الْوضُوء فَلَا خَفَاء فِيهِ، وَأَن كَانَ كتاب الْوضُوء فَالْمُرَاد مِنْهُ إِمَّا مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ، فَإِنَّهُ مَأْخُوذ من الْوَضَاءَة وَهِي: الْحسن والنظافة، فَيتَنَاوَل حِينَئِذٍ رفع الْخبث، أَيْضا. وَأما مَعْنَاهُ الاصطلاحي فَيكون ذكر الطَّهَارَة عَن الْخبث فِي هَذَا الْكتاب بالتبعية لطهارة الْحَدث والمناسبة بَينهمَا كَونهمَا من شَرَائِط الصَّلَاة، وَمن بَاب النَّظَافَة وَغير ذَلِك فَهَذَا حَاصِل مَا ذكره الْكرْمَانِي وَلَكِن أحسن فِيهِ، وَإِن كَانَ لَا يَخْلُو عَن بعض التعسف.
وَقَالَ أبُو العَالِيةِ امْسَحُوا عَلى رِجْلِي فَإِنَّها مَرِيضَةٌ
مطاقة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّهَا متضمنة جَوَاز الإستغاثة فِي الْوضُوء وَإِزَالَة النَّجَاسَة.
وَأَبُو الْعَالِيَة هُوَ رفيع بن مهْرَان الرباحي.
وَقد تقدم عَن قريب، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن عَاصِم بن سُلَيْمَان قَالَ: (دَخَلنَا على أبي الْعَالِيَة وَهُوَ وجع فوضؤه، فَلَمَّا بقيت غسل إِحْدَى رجلَيْهِ قَالَ: إمسحوا على هَذِه فَإِنَّهَا مَرِيضَة. وَكَانَت بهَا جَمْرَة) وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَقَالَ بَعضهم وَزَاد بن أبي شيبَة أَنَّهَا كَانَت معصوبة قلت: لَيْسَ رِوَايَة ابْن أبي شيبَة هَكَذَا وَإِنَّمَا الْمَذْكُور فِي مضنفه: حَدثنَا أَبُو مُعَاوِيَة عَن عَاصِم وَدَاوُد عَن أبي الْعَالِيَة أَنه اشْتَكَى رجله فعصبها وَتَوَضَّأ وَمسح عَلَيْهَا وَقَالَ: إِنَّهَا مَرِيضَة. وَهَذَا غير الَّذِي ذكره البُخَارِيّ، على مَا لَا يخفي، وَالله تَعَالَى أعلم.

243 - حدّثنا مُحَمَّدُ قَالَ أخْبَرنا سُفْيانُ بنُ عُيَيُنَةَ عَن أبي حازِمٍ سَمِعَ سَهْلَ بنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ وَسَأَلَهُ النَّاسُ مَا بَيْني وَبَيْنَهُ أَحَدٌ بِأَيَّ شَيْء دُووِىَ جُرْحُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَ مَا بَقِيَ أَحَدٌ أَعْلَمُ بِهِ مِنِّي كانَ عَليٌ يَجِىءُ بِتُرْسِهِ فِيهِ ماءٌ وفاطِمَةُ تَغْسِلُ عَنْ وَجْههِ الدَّمَ فَأُخِذَ حَصِيرٌ فَأَحْرَقَ فَحُسِيَ بِهِ جُرْحُهُ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: مُحَمَّد هُوَ ابْن سَلام البيكندي، وَكَذَا جَاءَ فِي بعض النّسخ، وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: لم ينْسبهُ أحد من الروَاة وَهُوَ عِنْدِي ابْن سَلام، وَبِذَلِك جزم أَبُو ت نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) وَوَقع فِي رِوَايَة ابْن عَسَاكِر: حَدثنَا مُحَمَّد، يَعْنِي ابْن سَلام، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَهِشَام بن عمار عَن سُفْيَان بِهِ، وَرَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الصَّباح عَن سُفْيَان بِهِ. الثَّانِي سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي الْمَكْسُورَة، سَلمَة بن دِينَار الْمَدِينِيّ الْأَعْرَج الزَّاهِد المَخْزُومِي، مَاتَ سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَمِائَة. الرَّابِع: سهل ابْن سعد

(3/182)


الساغدي الْأنْصَارِيّ أَبُو الْعَبَّاس، وَكَانَ يُسمى حزنا فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: سهلاً رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مائَة حَدِيث وثمان وَثَلَاثُونَ حَدِيثا ذكر البُخَارِيّ تِسْعَة وَثَلَاثِينَ، مَاتَ سنة إِحْدَى وَتِسْعين، وَهُوَ ابْن مائَة سنة، وَهُوَ آخر من مَاتَ من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع والإسناد رباعي، والرواة مَا بَين ومدني.
بَين تعدد وَضعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن مُحَمَّد، وَفِي الْجِهَاد عَن عَليّ ابْن عبد الله وَفِي النِّكَاح عَن قُتَيْبَة وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عمر. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الطِّبّ عَن ابْن أبي عمر، وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن مُحَمَّد بن الصَّباح وَهِشَام بن عمار، تسعتهم عَنهُ بِهِ، وَمعنى حَدِيثهمْ وَاحِد، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حسن صَحِيح.
ذكر لغته وَإِعْرَابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (السَّاعِدِيّ) بتَشْديد الْيَاء المنصوبة لِأَنَّهُ صفة سهل، وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول سمع. قَوْله: (وَسَأَلَهُ النَّاس) وَفِي بعض النسح. (وسألوه النَّاس) على لُغَة، أكلوني البراغيث، وَهَذِه جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل وَالْمَفْعُول، ومحلها النصب على الْحَال. قَوْله: (مَا بيني وَبَينه أحد) يَعْنِي: عِنْد السُّؤَال عَنهُ. قَالَ الْكرْمَانِي: هِيَ جملعة مُعْتَرضَة لَا مَحل لَهَا فِي الْإِعْرَاب. قلت: الْجُمْلَة المعترضة هِيَ الَّتِي تقع بَين الْكَلَامَيْنِ وَلَيْسَ لَهَا تعلق بِأَحَدِهِمَا. وَقد تقع فِي آخر الْكَلَام، وَيجوز أَن تكون جملَة حَالية أَيْضا، وَيكون محلهَا من الْإِعْرَاب النصب، وَلَكِن وَقعت بِلَا وَاو، وذز الْحَال، إِمَّا مفعول، سَأَلَ، فيكونان حَالين متداخلتين، وَأما مفعول سمع، فيكونان مترادفتين. قَوْله: (بِأَيّ شَيْء) الْيَاء فِيهِ تتَعَلَّق بقوله: (وَسَأَلَهُ) وَكلمَة أَي للاستفهام. قَوْله (دووى) بِضَم الدام وَكسر الْوَاو، وَصِيغَة الْمَجْهُول من المداواة، وَقَالَ بَعضهم: حذفت إِحْدَى الواوين فِي الْكِتَابَة. قلت: بالواوين فِي أَكثر النّسخ، وَفِي بَعْضهَا بواو وَاحِدَة، فحذفت مِنْهَا إِحْدَى الواوين كَمَا حذفت من دَاوُد وَطَاوُس فِي الْخط. قَوْله: (أعلم) مَرْفُوع لِأَنَّهُ صفة، أحد، وَيجوز أَن مَنْصُوبًا على الْحَال، وَعرضه من هَذَا التَّرْكِيب أَنه، أعلم النَّاس بِهَذِهِ الْقَضِيَّة، لِأَن مَوته بِأخر وَكَانَ آخر من بَقِي من الصَّحَابَة بِالْمَدِينَةِ، كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي النِّكَاح فِي رِوَايَته عَن تيبة عَن سُفْيَان، وَمثل هَذَا التَّرْكِيب لَا يسْتَعْمل بِحَسب الْعرف إِلَّا عِنْد انْتِفَاء الْمسَاوِي وَهَذَا ظَاهر، وَبِهَذَا يسْقط سُؤال من قَالَ: لَا يلْزم مِنْهُ مُنَافَاة مساوات غَيره لَهُ فِيهِ. قَوْله: (فَأخذ) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَكَذَلِكَ قَوْله: (فاحرق فحشي) وَفِي رِوَايَة البخاي فِي الطِّبّ. (فَلَمَّا رَأَتْ فَاطِمَة، رَضِي الله عَنْهَا، الدَّم تزيد على المَاء كَثْرَة، عُمْدَة إِلَى حصيرة فأحرقتها والصقتها على الخرج فرقي الدَّم) ، وَهَذِه الْوَاقِعَة كَانَت بِأحد، وَزعم ابْن سعد عَن عتبَة بن أبي وَقاص، (شج النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فِي وَجهه وَأصَاب رباعيته؛ فَكَانَ سَالم مولى أبي حُذَيْفَة يغسل عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الدَّم، والني، عَلَيْهِ السَّلَام، يَقُول: (كَيفَ يفلح قوم صَنَعُوا هَذَا بِنَبِيِّهِمْ؟ فَانْزِل الله تبَارك وَتَعَالَى: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء} (سُورَة آل عمرَان: 128) الْآيَة وَزعم السُّهيْلي: أَن عبد الله بن قمية هُوَ الَّذِي جرح وَجهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ قل ابْن بطال: فِيهِ: دَلِيل على جَوَاز مُبَاشرَة الْمَرْأَة أَبَاهَا وَذَوي محارمها ومداواة أمراضهم، وَكَذَلِكَ قَالَ أَبُو الْعَالِيَة: امسحوا على رجْلي فَإِنَّهَا مَرِيضَة، وَلم يخص بَعضهم دون بعض، بل عمهم جَمِيعًا. وَفِيه: إِبَاحَة التَّدَاوِي، لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم داوى جرحه. وَفِيه: جَوَاز المداواة بالحصير المحرق لِأَنَّهُ يقطع الدَّم، وَفِيه: إِبَاحَة الاستغاثة فِي المداواة.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَفِيه: وُقُوع الِابْتِلَاء والأنتقام بالأنبياء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، لينالوا جزيل الْأجر، ولتعرف أممهم وَغَيرهم مَا أَصَابَهُم ويأنسوا بِهِ، وليعلموا أَنهم من الْبشر يصيبهم محن الدُّنْيَا ويطرؤ على أَجْسَادهم مَا يطرؤ على أجسام الْبشر ليتيقنوا أَنهم مخلوقون مربوبون وَلَا يفتدون بِمَا ظهر على أَيْديهم من المعجزات كَمَا افْتتن النَّصَارَى. وَفِيه: أَن المداواة لَا تنَافِي التَّوَكُّل. وَفِيه: سُؤال من لَا يعلم عَمَّن يعلم عَن أَمر خَفِي عَلَيْهِ.

73 - (بابُ السِّواكِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَحْكَام السِّوَاك. قَالَ ابْن سَيّده: السِّوَاك، يذكر وَيُؤَنث، والسواك كالمسواك، الْجمع: سوك، وَقَالَ أَبُو حنيفَة رُبمَا همز فَقيل: سؤك، وَأنْشد الْخَلِيل لعبد الرَّحْمَن بن حسان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
أغر الثنايا أَحْمَر اللثات سؤك الأسحل.
بِالْهَمْز، يُقَال: ساك الشَّيْء سوكاً دلكه وساك فيمه بِالْعودِ وَاسْتَاك، مُشْتَقّ مِنْهُ، وَفِي الْجَامِع،
السِّوَاك والمسواك مَا يدلك

(3/183)


بِهِ الْأَسْنَان من الْعود والتذكير أَكثر، وَهُوَ نفس الْعود الَّذِي يستاك بِهِ، وَأَصله الْمَشْي الضَّعِيف يُقَال: جَاءَت الْغنم وَالْإِبِل تستاك هزالًا أَي: لَا تحرّك رؤسها وَفِي (الصِّحَاح) بِجمع على سوك مثل: كتاب وَكتب، وَيُقَال: ساك فَمه، وَإِذا لم يذكر الْفَم يُقَال: استاك وَهَاهُنَا سؤالان. الأول: مَا وَجه الْمُنَاسبَة بَين هَذَا الْبَاب وَالْبَاب الَّذِي قبله؟ . وَالثَّانِي: مَا وَجه مَا ذكره بَين الْأَبْوَاب الْمَذْكُورَة هَاهُنَا؟ . الْجَواب عَن الأول: أَن كلاًّ مِنْهُمَا يشْتَمل على الأزالة غير أَن الْبَاب الأول يشْتَمل على إِزَالَة الدَّم، وَهَذَا الْبَاب يشْتَمل على إِزَالَة رَائِحَة الْفَم، وَهَذَا الْقدر كَاف. وَعَن الثَّانِي: ظَاهر، وَهُوَ أَن الْأَبْوَاب كلهَا فِي أَحْكَام الْوضُوء، وَإِزَالَة النَّجَاسَات وَنَحْوهَا، وَبَاب السِّوَاك من أَحْكَام الْوضُوء عِنْد الْأَكْثَرين.
وقالَ ابنُ عَبَّاسِ بِتُّ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَاسْنَن

هَذَا التَّعْلِيق لَيْسَ فِي رِوَايَة المستعلي، وَهُوَ قِطْعَة من حَدِيث طَوِيل فِي قصَّة مبيت عبد الله بن عَبَّاس عِنْد خَالَته مَيْمُونَة، أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، ليشاهد صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّيْلِ وَصله البُخَارِيّ من طرق، وَتقدم بعضه وَيَأْتِي الْبَاقِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
قَوْله: (فاستن) من الاستنان، وَهُوَ الاستياك، وَهُوَ ذَلِك الْأَسْنَان وَحكمهَا بِمَا يجلوها، مَأْخُوذ من السن، وَهُوَ إمرار الشَّيْء الَّذِي فِيهِ خشونة على شَيْء آخر، وَمِنْه المسن الَّذِي يشحذ بِهِ الْحَدِيد، وَنَحْوه وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الاستنان: اسْتِعْمَال السِّوَاك، افتعال من الْأَسْنَان وَهُوَ الإمرار على شَيْء.

244 - حدّثنا أبُو النُّعْمانِ قَالَ حدّثنا حَمَّادْ بنْ زَيْدٍ عنْ غَيْلانَ بن جَرِيرٍ عنْ أبي بُرْدَةَ عنْ أبيهِ قَالَ أتَيْتُ النَّبيِّ لله فَوَجَدْتَهُ يَسْتَنُّ بِسِوَاكٍ بِيَدِهِ يَقُولُ اعْ أُعْ والسِّوَاكُ فِي فِيهِ كأَنَّهُ يَتَهَوَّعُ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان، بِضَم النُّون. مُحَمَّد بن الْفضل الْمَشْهُور بعارم، تقدم فِي آخر كتاب الْإِيمَان. الثَّانِي: حَمَّاد بن زيد، تقدم فِي بَاب الْمعاصِي من أَمر الْجَاهِلِيَّة. الثَّالِث: غيلَان، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة، وَسُكُون الْيَاء آخرالحروف. ابْن جرير، بِفَتْح الْجِيم وبالراء الْمَكْسُورَة المكررة، المعولي، بِسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْوَاو، وَأما الْمِيم فَقَالَ الغسائي: بِفَتْحِهَا مَنْسُوبا إِلَى بطن من الأزد، وَقَالَ ابْن الْأَثِير بِكَسْرِهَا، مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة. الرَّابِع: أَبُو بردة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة واسْمه عَامر. الْخَامِس: أَبوهُ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ ابْن عبد الله بن قيس، وَقد تقدم ذكرهمَا فِي بَاب: أَي الْإِسْلَام أفضل.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي، وَأَبُو بردة الْكُوفِي القَاضِي بكوفة، وَقيل: اسْمه الْحَارِث.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ هُنَا، وَقَوله: (أعْ أُعْ) من أَفْرَاد البُخَارِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن حبيب، وَأَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد وَأبي الرّبيع وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن عَبدة، خمستهم عَن حَمَّاد بن زيد.
بَيَان لغته وَإِعْرَابه وَتَفْسِير: الاستنان، قد مر قَوْله: (أَعْ أُعْ) ، بِضَم الْهمزَة وبالعين الْمُهْملَة، كَذَا فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَذكر ابْن التِّين أَن غَيره رَوَاهُ بِفَتْح الْهمزَة، وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة عَن أَحْمد بن عَبدة عَن حَمَّاد بِتَقْدِيم الْعين على الْهمزَة، وَكَذَا أخرجه الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق إِسْمَاعِيل القَاضِي عَن عَارِم شيخ البُخَارِيّ فِيهِ، وَعَن أبي دَاوُد (أَهْ أُهْ) ، بِضَم الْهمزَة وَقيل: بِفَتْحِهَا وَالْهَاء سَاكِنة وَعند ابْن خُزَيْمَة (عاعا) وَفِي (صَحِيح الجوزقي) (أَحْ أُحْ) بِكَسْر الْهمزَة وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة، وَفِي (مُسْند أَحْمد) (وَاضع طرف السِّوَاك على لِسَانه يستن إِلَى فَوق) فوصفه حَمَّاد (كَانَ يرفع لِسَانه) ووضفه غيلَان (كَانَ يستن طولا) وَكلهَا عبارَة عَن إبلاغ السِّوَاك إِلَى أقْصَى الْحلق، اع فِي الأَصْل حِكَايَة الصَّوْت، وَفِي بعض النّسخ: بالغين الْمُعْجَمَة، قَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (يتهواع) أَي: يتقيأ، وَهُوَ من بَاب التفعل الَّذِي للتكلف، يُقَال: هاع يهوع إِذا قاء من غير تكلّف، فَإِذا تكلّف يُقَال تهوع. وَفِي (الموعب) هاع الرجل يهوع هوعاً وهواعاً، جَاءَ القييء من غير تكلّف، وَأنْشد:
(مَا هاعَ عمروٌ حِين أَدخل حلقه ... يَا صَاح، ريش حمامة، بل قاءَ)

(3/184)


وَالَّذِي يخرج من الْحلق يُسمى هواعةٍ، وهوعت مَا أَكلته إِذا استخرجته من حلقك. وَعَن إِسْمَاعِيل: الهوعاء، مثل. عشراء، من التهوع. وَعَن قطرب: الهيعوعة من الهواع وَقَالَ ابْن سَيّده: الهيعوعة من بَنَات، الْوَاو، وَلَا يتَوَجَّه اللَّهُمَّ إلاَّ أَن يكون محذوفاً قَوْله: (يستن) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا مفعول ثَان، لوحدته، ووحد من أَفعَال الْقُلُوب، لِأَن مَعْنَاهُ قَائِم بِالْقَلْبِ، وَيَأْتِي: وجد بِمَعْنى أصَاب أَيْضا، فَإِن جعل وجدته من هَذَا الْمَعْنى تكون الْجُمْلَة مَنْصُوبَة على الْحَال من الضَّمِير الْمَنْصُوب الَّذِي فِي وجدته، قَوْله: (بِيَدِهِ) الْيَاء فِيهِ تتَعَلَّق بِمَحْذُوف تَقْدِيره، بسواك كَائِن بِيَدِهِ، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله: (يَقُول) جملَة من الْفِعْل وَالْفَاعِل فِي مَحل النصب على الْحَال. وَقَوله: (أَعْ أُعْ) فِي مَحل النصب على مقول القَوْل. وَقَوله: (والسواك فِي فِيهِ) أَي: فِي فَمه، وَمحل هَذِه الْجُمْلَة النصب على الْحَال.
بَيَان استنباط الحكم وَهُوَ: أَنه يدل على أَن السِّوَاك سنة مؤكذة لمواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ لَيْلًا نَهَارا أَو قَامَ الْإِجْمَاع كَونه مَنْدُوبًا حَتَّى قَالَ الْأَوْزَاعِيّ: هُوَ شطر الْوضُوء، وَقد جَاءَ أَحَادِيث كَثِيرَة تدل على مواظبته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَيْهِ، وَلَكِن أَكْثَرهَا فِيهِ كَلَام، وَأقوى مَا يدل على الْمُوَاظبَة وأصحه محافظته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ حَتَّى عِنْد وَفَاته، كَمَا جَاءَ فِي البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَت: (دخل عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله عَنْهُمَا، على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا مسندته إِلَى صَدْرِي، وَمَعَ عبد الرَّحْمَن سواك رطب يستن بِهِ فأمده رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ببصره، فَأخذت السِّوَاك فقضمته وطيبته ثمَّ دَفعته إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فاستن) . الحَدِيث وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِيهِ فَقَالَ بَعضهم: إِنَّه من سنة الْوضُوء وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّه من سنة الصَّلَاة، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّه من سنة الدّين، وَهُوَ الْأَقْوَى، نقل ذَلِك عَن أبي حنيفَة. وَفِي (الْهِدَايَة) أَن الصَّحِيح اسْتِحْبَابه، وَكَذَا هُوَ عِنْد الشَّافِعِي، وَقَالَ ابْن حزم: هُوَ سنة وَلَو أمكن لكل صَلَاة لَكَانَ أفضل، وَهُوَ يَوْم الْجُمُعَة فرض لَازم وَحكى أَبُو حَامِد الإسفرائيني وَالْمَاوَرْدِيّ عَن أهل الظَّاهِر وُجُوبه، وَعَن إِسْحَاق أَنه وَاجِب إِنَّه تَركه عمدا بطلت صلَاته، وَزعم النَّوَوِيّ أَن هَذَا لم يَصح عَن إِسْحَاق وكيفيته عندنَا أَن يستاك عرضا لَا طولا عِنْد مضمضة الْوضُوء وَأخرج أَبُو نعيم من حَدِيث عَائِشَة قَالَت: (كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستاك عرضا لَا طولا) وَفِي (الْمُغنِي) ويستاك على أَسْنَانه وَلسَانه، وَلَا تَقْدِير فِيهِ، يستاك إِلَى أَن يطمئن قلبه بِزَوَال النكهة واصفرار السن، وَيَأْخُذ السِّوَاك باليمنى، وَالْمُسْتَحب فِيهِ ثَلَاث مياه، وَيكون فِي غلط الْخِنْصر وَطول الشبر وَالْمُسْتَحب أَن شَاك بِعُود من أَرَاك وبيابس قد ندى بِالْمَاءِ وَيكون لينًا محرما وَفِي (الْمُحِيط) العلك للْمَرْأَة يقوم مقَام السِّوَاك، وَإِذا لم يجد السِّوَاك يعالج بإصبعه فِي حَدِيث أنس، رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: يجزىء من السِّوَاك الْأَصَابِع، وَضَعفه وفضائلة كَثِيرَة، وَقد ذكرنَا فِي (شرحنا لمعاني الْآثَار) للطحاوي مَا ورد فِيهِ عَن أَكثر من خمسين صحابياً.

245 - حدّثنا عُثْمَانُ بْنُ أبي شَيْبَةَ قَالَ جَرِيرٌ عنْ مَنْصُورِ عنْ أبي وَائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ قَالَ كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قامِ مِنَ اللَّيْلِ يَشُوصُ فاهُ بالِسِّوَاكِ..
هَذَا أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: عُثْمَان: بن أبي شيبَة أَخُو أبي بكر بن أبي شيبَة، وَجَرِير بن عبد الحميد، وَمَنْصُور بن الْمُعْتَمِر، وَأَبُو وَائِل شَقِيق الْحَضْرَمِيّ، تقدمُوا فِي بَاب: من جعل لأهل الْعلم أَيَّامًا، وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان صَاحب سر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين: وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن عُثْمَان، وَفِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن كثير، وَفِي صَلَاة اللَّيْل عَن حَفْص بن عمر. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن ابْن نمير عَن أَبِيه وَأبي مُعَاوِيَة كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش وَعَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي عَن سُفْيَان. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم وقتيبة، كِلَاهُمَا عَن جرير بِهِ وَفِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عَليّ وَمُحَمّد بن الْمثنى، كِلَاهُمَا عَن ابْن مهْدي بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن مُحَمَّد بن سعيد وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير بِهِ، وَعَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع.
بَيَان لغته قَوْله: (يشوص) بالشين الْمُعْجَمَة وَالصَّاد الْمُهْملَة: قَالَ ابْن سَيّده: شاص الشَّيْء مشوصاً غسله، وشاص فَاه

(3/185)


بِالسِّوَاكِ شوصاً غسله وَقيل: امْرَهْ على أَسْنَانه من سفل إِلَى علو. وَقيل: هُوَ أَن يطعن بِهِ فِيهَا وَقد شاصه شوصاً وشوصاناً وشاص الشَّيْء شوصاً دلكه وشاص الشَّيْء زعزعه وَفِي (الْجَامِع) كل شَيْء غسلته فقدت شصته. وَقَالَ أَبُو عبيد: شصته نقيته وَفِي (الغريبين) كل شَيْء غسلته فقد شصته ومصته. وَقَالَ ابْن عبد الْبر هُوَ الحك. وَقَالَ الْخطابِيّ: الشوص ذَلِك الْأَسْنَان عرضا وَقيل: الشوص غسل الشَّيْء فِي لين ورفق.
وَمِمَّا يستنبط من هَذَا مَا قَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: فِيهِ: اسْتِحْبَاب السِّوَاك عِنْد الْقيام من النّوم، لِأَن النّوم مُقْتَض لتغير الْفَم لما يتصاعد إِلَيْهِ من أبخرة الْمعدة، والسواك آلَة تنظيفه فَيُسْتَحَب عِنْد مُقْتَضَاهُ، وَقَالَ: ظَاهر قَوْله: (من اللَّيْل) عَام فِي كل حَالَة، وَيحْتَمل أَن يخص بِمَا إِذا قَامَ إِلَى الصَّلَاة انْتهى وَيدل على هَذَا الِاحْتِمَال رِوَايَة البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة بِلَفْظ (إِذا قَامَ للتهجد) وَلمُسلم نَحوه وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، يشْهد لَهُ.

74 - (بابُ دَفْعُ السَّوَاكِ إِلَى الأكْبَرَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان دفع السِّوَاك إِلَى الْأَكْبَر. والمناسبة بِي الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة.

246 - وقالَ عَفَّانُ حدّثنا صَخْرُ بنُ جُرَيْرِيَةَ عنْ نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمْرَ أَنَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَ أَرَاني أَتَسَوَّكُ بِسِوَاكِ فَجَاءَنِي رَجُلاَنِ أَحَدَهُمًّ أَكْبَرِ مِنَ الآخَرِ مِنَ الآخَرِ فَناوَلَتُ السِّوَاكَ الأصْغَرَ مِنْهُمَا فَقِيلَ لِيَ كَبِّرْ فَدَفَعْتْهُ إِلَيّ الأكْبَرَ مِنْهُمَا قَالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ اخْتَصَرَهُ نُعَيْمٌ عنِ ابنِ المُبَارَكِ عنْ أُسَامَةِ عنْ نَافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالَى عَنْهُمَا.
أخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث بِلَا رِوَايَة، وَلَكِن وَصله غَيره مِنْهُم: أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصفاني، وَغَيره عَن عَفَّان وَأخرجه أَيْضا أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ عَن أبي أَحْمد، حَدثنَا مُوسَى بن الْعَبَّاس الْجُوَيْنِيّ حَدثنَا مُحَمَّد بن يحيى حَدثنَا عَفَّان، وَحدثنَا أَبُو إِسْحَاق حَدثنَا عبد الله بن فحطية حَدثنَا نصر بن عَليّ حَدثنَا أبي، قَالَا: حَدثنَا صَخْر بن جوَيْرِية وَقَالَ مُسلم فِي (صَحِيحه) حَدثنَا نصر بن عَليّ عَن أَبِيه عَن صَخْر والإسماعيلي من طَرِيق وهب بن جرير وَسَعِيد بن حَرْب، قَالَا: حَدثنَا صَخْر بن جوَيْرِية فَذكره.
بَيَان رِجَاله وهم ثَمَانِيَة: الأول: عَفَّان بن مُسلم الصفار الْبَصْرِيّ الْأنْصَارِيّ، أَبُو عُثْمَان، سُئِلَ عَن الْقُرْآن زمن المحنة فَأبى أَن يَقُول: الْقُرْآن مَخْلُوق، وَكَانَ من حكام الْجرْح وَالتَّعْدِيل، جعل لَهُ عشرَة آلَاف دِينَار على أَن يقف عَن تَعْدِيل رجل، وَلَا يَقُول: عدل أَو غير عدل، قَالُوا: قف فِيهِ وَلَا تقل شَيْئا، فَقَالَ: لَا أبطل حَقًا من الْحُقُوق، وَلم يَأْخُذهَا. مَاتَ بِبَغْدَاد سنة عشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: صَخْر بن جوَيْرِية، تَصْغِير الْجَارِيَة بِالْجِيم، الْبَصْرِيّ أَبُو نَافِع التَّمِيمِي الثِّقَة. الثَّالِث: نَافِع مولى ابْن عمر الْقرشِي الْعَدوي، تقدم فِي آخر كتاب الْعلم. الرَّابِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب الْخَامِس: أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. السَّادِس: نعيم، بِضَم النُّون بن حَمَّاد الْمروزِي الْخُزَاعِيّ الْأَعْوَر، سكن مصر. قَالَ أَحْمد: كُنَّا نُسَمِّيه الفارض، كَانَ من أعلم النَّاس بالفرائض، وَسُئِلَ عَن الْقُرْآن فَلم يجب بِمَا أرادوه مِنْهُ، فحبس بسامرا حَتَّى مَاتَ فِي السجْن سنة ثَمَان وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ زمن خلَافَة أبي إِسْحَاق بن هَارُون الرشيد. السَّابِع: عبد الله بن الْمُبَارك. تقدم فِي كتاب الْوَحْي. الثَّامِن: أُسَامَة بن زيد اللَّيْثِيّ، بِالْمُثَلثَةِ الْمدنِي. وَقد تكلم فِيهِ، وَلِهَذَا ذكره البُخَارِيّ، رَحمَه الله اسْتِشْهَادًا، مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ.
بَيَان لطائف الإسنادين وَفِي الْإِسْنَاد الأول: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِي الثَّانِي: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري ومدني.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَرَانِي) بِفَتْح الْهمزَة أَي: أرى نفس فالفاعل وَالْمَفْعُول عبارتان عَن معبر وَاحِد، وَهَذَا من خَصَائِص أَفعَال الْقُلُوب. قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ بِضَم الْهمزَة، فَمَعْنَاه أَظن نَفسِي. وَقَالَ بَعضهم: وَوهم من ضمهَا. قلت: لَيْسَ بوهم، والعبارتان تستعملان وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (رَآنِي) بِتَقْدِيم الرَّاء، وَالْأول أشهر، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق عَليّ ابْن نصر الْجَهْضَمِي عَن صَخْر: (أَرَانِي فِي الْمَنَام) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (رَأَيْت فِي الْمَنَام) ، فعلى هَذَا فَهُوَ من الرُّؤْيَا

(3/186)


قَوْله: (فَقيل لي) الْقَائِل لَهُ. جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام قَوْله: (كبر) أَي؛ قدم الْأَكْبَر فِي السن قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد الله) أَي: البُخَارِيّ قَوْله: (اخْتَصَرَهُ نعيم) أَي: اختصر الْمَتْن نعيم، وَمعنى الِاخْتِصَار هَاهُنَا أَنه ذكر مُحَصل الحَدِيث وَحذف بعض مقدماته، وَرِوَايَة نعيم هَذِه وَصلهَا الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) عَن بكر بن سهل عَنهُ بِلَفْظ (أَمرنِي جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أَن أكبر) وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن الْقَاسِم بن زَكَرِيَّا حَدثنَا الْحسن بن عِيسَى حَدثنَا ابْن الْمُبَارك أَنبأَنَا أُسَامَة، وَحدثنَا الْحسن حَدثنَا حبَان أَنبأَنَا ابْن الْمُبَارك فَذكره وَفِيه قَالَ: (إِن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أَمرنِي أَن أدفَع إِلَى أكبرهم) وَأخرجه أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ بِلَفْظ: (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستن فَأعْطَاهُ أكبر الْقَوْم، ثمَّ قَالَ: إِن جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، أَمرنِي أَن أكبره) فَإِن قلت هَذَا: يَقْتَضِي أَن تكون الْقَضِيَّة وَقعت فِي الْيَقَظَة، وَتلك الرِّوَايَة صَرِيحَة أَنَّهَا كَانَت فِي الْمَنَام فَكيف التَّوْفِيق؟ قلت: التَّوْفِيق بَينهمَا أَن رِوَايَة الْيَقَظَة لما وَقعت أخْبرهُم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا رَآهُ فِي النمد فحفط بعض الروَاة مَا لم يحفظ آخَرُونَ، وَمِمَّا يشْهد لَهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا مُحَمَّد بن عِيسَى حَدثنَا عَنْبَسَة بن عبد الْوَاحِد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يستن وَعِنْده رجلَانِ أَحدهمَا أكبر من الآخر فَأوحى إِلَيْهِ فِي فضل السِّوَاك أَن كبر، أعْط السِّوَاك أكبرهما) وَإِسْنَاده صَحِيح.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام فِيهِ: تَقْدِيم حق الأكابر من جمَاعَة الْحُضُور وتبديته على من هُوَ أَصْغَر مِنْهُ، وَهُوَ السّنة أَيْضا فِي السَّلَام والتحية وَالشرَاب وَالطّيب وَنَحْو ذَلِك من الْأُمُور، وَفِي هَذَا الْمَعْنى تَقْدِيم ذِي السن بالركوب وَشبهه من الأرقاق. وَفِيه: أَن اسْتِعْمَال سواك الْغَيْر مَكْرُوه إلاَّ أَن السّنة فِيهِ أَن يغسلهُ ثمَّ يَسْتَعْمِلهُ. وَفِيه: مَا يدل على فَضِيلَة السِّوَاك. وَقَالَ الْمُهلب: تَقْدِيم ذِي السن أولى فِي كل شَيْء مَا لم يَتَرَتَّب الْقَوْم فِي الْجُلُوس، فَإِذا ترتبوا فَالسنة تَقْدِيم ذِي الْأَيْمن فالأيمن.

75 - (بابِ فَضْلِ مَنْ بَاتَ علَى الوُضوُءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من بَات على الْوضُوء وَبَات من البيتوتة يُقَال: بَات يبيت، وَبَات، بيات بيتوتة، وَبَات يفعل كَذَا إِذا فعله لَيْلًا كَمَا يُقَال: ظلّ يفعل كَذَا إِذا فعله بِالنَّهَارِ.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل مِنْهُمَا على بَيَان اكْتِسَاب فَضِيلَة وَأجر، وَأما إِدْخَاله هَذَا الْبَاب فِي الْأَبْوَاب الْمُتَقَدّمَة فَظَاهر، لِأَنَّهُ من تعلقات الْوضُوء قَوْله: (على الْوضُوء) بِالْألف وَاللَّام فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره (على وضوء) ، بِدُونِ الْألف وَاللَّام.

247 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ اللَّهِ قَالَ أخبرنَا سُفْيَان عنْ مَنْصُورِ عنْ سَعْدٍ ابنِ عُبَيْدَةَ عنِ البَرَاءِ بنِ عازِبٍ قَالَ قَالَ لِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَيْتُ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلاَةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ علَى شِقَكَ الأَيْمَنِ ثُمَّ قلِ اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ وَجْهِي إلَيْكَ وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ وَأَلَجَأْتُ ظَهْرِي إلَيْكَ رَغْبَةً وَرَهْبَةً إلَيْكَ لَا مَلْجَأَ وَلاَ مَنْجَا مِنْكَ إلاَّ إلَيْكَ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ فإنْ مُتِّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ علَى الفِطْرَةِ وَاجْعَلْنِي آخِرَ مَا تَكَلَّمُ بِهِ قَالَ فرددتها على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا بلغت الْفَهم آمَنت بكتابك الَّذِي أنزلت قلت وَرَسُولك قَالَ لَا بنبيك الَّذِي أرْسلت..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة طَاهِرَة.
بَين رجالهوهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن مقَاتل، بِضَم الْمِيم، أَبُو الْحسن الْمروزِي، تقدم فِي بَاب مَا يذكر فِي المناولة. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ. وَقيل: يحْتَمل سُفْيَان بن عُيَيْنَة أَيْضا، لِأَن عبد الله يروي عَنْهُمَا، وهما يرويات عَن مَنْصُور، لَكِن الظَّاهِر أَنه الثَّوْريّ لأَنهم قَالُوا: أثبت النَّاس فِي مَنْصُور هُوَ سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع: مَنْصُور بن الْمُعْتَمِر. الْخَامِس: سعيد بن عُبَيْدَة، بِضَم الْعين، مصغر عَبدة بن حَمْزَة، بالزاي، الْكُوفِي كَانَ يرى رأى الْخَوَارِج ثمَّ تَركه وَهُوَ ختن أبي عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ، مَاتَ فِي ولَايَة ابْن هُبَيْرَة على الْكُوفَة، وَلَيْسَ فِي الْكتب السِّتَّة، سعد بن عُبَيْدَة، سواهُ. السَّادِس: الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مر فِي بَاب الصَّلَاة من الْإِيمَان.

(3/187)


بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِخْبَار بِصُورَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وكوفي، وَخَالف إِبْرَاهِيم بن طهْمَان أَصْحَاب مَنْصُور، فَأدْخل بَين مَنْصُور وَسعد الحكم بن عتيبة وَانْفَرَدَ الْفرْيَابِيّ بِإِدْخَال الْأَعْمَش بَين الثَّوْريّ وَمَنْصُور.
بَيَان تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن مُحَمَّد بن مقَاتل، وَأخرجه فِي الدَّعْوَات عَن مُسَدّد. وَأخرجه مُسلم فِي الدُّعَاء عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن ابْن الْمثنى وَعَن بنْدَار، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن مُسَدّد، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْملك. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الدَّعْوَات عَن سُفْيَان بن وَكِيع وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن بنْدَار، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع، وَعَن عَمْرو بن عَليّ، وَعَن قُتَيْبَة، وَعَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الصغاني.
بَيَان لغاته قَوْله: (إِذا أثبت مضجعك) ، بِفَتْح الْجِيم من، ضجع من بَاب: منع يمْنَع ويروي: مضجعك أَصله مضتجعك، من بَاب الافتعال، لَكِن قتل التَّاء طاء وَالْمعْنَى: إِذا أردْت أَن يَأْتِي مضجعك فَتَوَضَّأ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} (سُورَة النَّحْل: 98 أَي إِذا أردْت الْقِرَاءَة قَوْله: (وجهت وَجْهي أليك) أَي: استسلمت، كَذَا فسره، وَلَيْسَ بِوَجْه. وَالْأَوْجه أَن يُفَسر: أسلمت ذاتي إِلَيْك منقادة لَك، طالعة لحكمك، لِأَن المُرَاد من الْوَجْه الذَّات. قَوْله: (وفوضت) من التَّفْوِيض وَهُوَ التَّسْلِيم: قَوْله: (والجأت ظَهْري إِلَيْك) أَي: أسندت. يُقَال: لجأت إِلَيْهِ لَجأ بِالتَّحْرِيكِ، وملجأ والتجأت إِلَيْهِ بِمَعْنى: والموضع أَيْضا، لَجأ وملجأ وألجأته إِلَى الشَّيْء اضطررته إِلَيْهِ، وَالْمعْنَى هُنَا، توكلت عَلَيْك واعتمدتك فِي أَمْرِي كَمَا يعْتَمد الْإِنْسَان بظهره إِلَى مَا يسْندهُ. قَوْله: (رَغْبَة) أَي: طَمَعا فِي ثوابك. قَوْله: (وَرَهْبَة) أَي: خوفًا من عقابك. قَوْله: (لَا ملْجأ) بِالْهَمْزَةِ وَيجوز التَّخْفِيف. قَوْله: (وَلَا منجأ) مَقْصُور من: نجى ينجو، والمنجأ مفعل مِنْهُ، وَيجوز همزَة للإزدواج قَوْله: (على الْفطْرَة) أَي: على دين الْإِسْلَام، وَقد تكون الْفطْرَة بِمَعْنى الْخلقَة، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فطْرَة الله الَّتِي فطر النَّاس عَلَيْهَا} (سُورَة الرّوم: 30) وَبِمَعْنى السّنة كَقَوْلِه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خمس من الْفطْرَة) وقا الطيني: أَي: مت على الدّين القويم مِلَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام، فَإِن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام أسلم واستسلم، وَقَالَ: {} أسلمت لرب الْعَالمين (سُورَة الْبَقَرَة: 131) {وجار ربه بقلب سليم} (سُورَة الصافات: 84) .
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (فَتَوَضَّأ) وَقد روى الشَّيْخَانِ هَذَا الحَدِيث من طرق عَن الْبَراء بن عَازِب، وَلَيْسَ لَهَا ذكر الْوضُوء، إلاَّ فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَكَذَا قَالَ التِّرْمِذِيّ قَوْله: (أسلمت وَجْهي إِلَيْك) وَجَاء فِي رِوَايَة أُخْرَى: (أسلمت نَفسِي إِلَيْك) وَالْوَجْه وَالنَّفس هَاهُنَا بِمَعْنى الذَّات، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْوَجْه حَقِيقَة، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْقَصْد، فَكَأَنَّهُ يَقُول: قصدتك فِي طلب سلامتي، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قيل: معنى الْوَجْه الْقَصْد وَالْعَمَل الصَّالح، وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي رِوَايَة: (اسلمت نَفسِي إِلَيْك ووجهت وَجْهي إِلَيْك) . فَجمع بَينهمَا، فَدلَّ على تغايرهما، وَمعنى: أسلمت: سلمت واستسلمت أَي: سلمتها لَك، إِذْ لَا قدرَة لي وَلَا تَدْبِير بجلب نفع وَلَا دفع ضرّ فَأمرهَا مفوض إِلَيْك تفعل بهَا مَا تُرِيدُ واستسلمت لما تفعل فَلَا اعْتِرَاض عَلَيْك فِيهِ. قَوْله: (وفوضت أَمْرِي إِلَيْك) أَي: رددت أَمْرِي إِلَيْك، وبرئت من الْحول وَالْقُوَّة إلاَّ بك فَاكْفِنِي همه، وتولني سلاحه. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ رَحمَه الله فِي هَذَا النّظم غرائب وعجائب لَا يعرفهَا إلاَّ النقاد من أهل الْبَيَان: قَوْله: (أسلمت نَفسِي) إِشَارَة إِلَى أَن جوارحه منقادة لله تَعَالَى فِي أوامره ونواهيه. وَقَوله: (وجهت وَجْهي) أَي: إِن ذَاته وَحَقِيقَته لَهُ مخلصة بريئة من النِّفَاق وَقَوله: (وفوضت أَمْرِي إِلَيْك) إِشَارَة إِلَى أَن أُمُوره الْخَارِجَة والداخلة مفوضة إِلَيْهِ لَا مُدبر لَهَا غَيره، وَقَوله: (ألجأت أليك) بعد قَوْله: (وفوضت أَمْرِي) إِشَارَة إِلَى أَن تفويضة أُمُوره الَّتِي يفْتَقر إِلَيْهَا وَبهَا معاشه وَعَلَيْهَا مدَار أمره يلتجأ إِلَيْهِ، مِمَّا يضرّهُ ويؤذيه من الْأَسْبَاب الدَّاخِلَة وَالْخَارِج، قَوْله: (آخر مَا تكلم) بِحَذْف إِحْدَى التائين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من آخر مَا تكلم) قَوْله: (فَردَّتهَا) أَي: رددت هَذِه الْكَلِمَات لأحفظن قَوْله: (قَالَ: لَا) أَي: لَا تقبل: وَرَسُولك، بل قل: وَنَبِيك الَّذِي أرْسلت، وَذكروا فِي هَذَا أوجها مِنْهَا: أَنه أمره أَن يجمع بَين صفتيه وهما: الرَّسُول وَالنَّبِيّ، صَرِيحًا وَإِن كَانَ وصف الرسَالَة يسْتَلْزم وصف النُّبُوَّة. وَمِنْهَا: أَن أَلْفَاظ الْأَذْكَار توقيفية فِي تعْيين اللَّفْظ وَتَقْدِير الثَّوَاب، فَرُبمَا كَانَ فِي اللَّفْظ زِيَادَة تَبْيِين لَيْسَ فِي

(3/188)


الآخر، أَن كَانَ يرادفه فِي الظَّاهِر. وَمِنْهَا: أَنه لَعَلَّه أوحى إِلَيْهِ بِهَذَا اللَّفْظ. فَرَأى أَن يقف عِنْده. وَمِنْهَا: أَن ذكره احْتِرَازًا عَمَّن أرسل من غَيره نبوة، كجبريل وَغَيره من الْمَلَائِكَة، عَلَيْهِم السَّلَام، لأَنهم رسل الْأَنْبِيَاء. وَمِنْهَا: أَنه يحْتَمل أَن يكون رده دفعا للتكرار، لِأَنَّهُ قَالَ فِي الأول: (وَنَبِيك الَّذِي أرْسلت) ، وَمِنْهَا: أَن النَّبِي. فعيل، بِمَعْنى فَاعل من النبأ، وَهُوَ الْخَبَر لِأَنَّهُ أنبأ عَن الله تَعَالَى، أَي: أخبر. وَقيل: إِنَّه مُشْتَقّ من النُّبُوَّة. وَهُوَ الشَّيْء الْمُرْتَفع ورد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْبَراء حِين قَالَ: (وَنَبِيك الَّذِي أرْسلت) بِمَا رد عَلَيْهِ ليختلف اللفظان، وَيجمع البنائين معنى الِارْتفَاع والإرسال، وَيكون تعديداً للنعمة فِي الْحَالَتَيْنِ، وتعظيماً للمنة على الْوَجْهَيْنِ وَقَالَ بَعضهم: وَلِأَن لفظ النَّبِي، أمدح من لفظ: الرَّسُول. قلت: هَذَا غير موجه. لِأَن لفظ النَّبِي، كَيفَ يكون أمدح وَهُوَ لَا يسْتَلْزم الرسَالَة بل لفظ الرَّسُول أمدح لِأَنَّهُ يسْتَلْزم النُّبُوَّة.
بَيَان إعرابه قَوْله: (فَتَوَضَّأ) الْفَاء فِيهِ جَوَاب قَوْله: (رَغْبَة وَرَهْبَة) منصوبان على الْمَفْعُول لَهُ على طَريقَة اللف والنشر، أَي فوضت أموري إِلَيْك رَغْبَة، وألجأت ظَهْري عَن المكاره والشدائد إِلَيْك رهبة مِنْك، لِأَنَّهُ لَا ملْجأ وَلَا منجأ مِنْك إِلَّا إِلَيْك وَيجوز أَن يكون انتصابهما على الْحَال بِمَعْنى: رَاغِبًا وراهباً. قلت: كَيفَ يتَصَوَّر أَن يكون رَاغِبًا وراهباً فِي حَالَة وَاحِدَة لِأَنَّهُمَا شَيْئَانِ متنافيان؟ قلت: فِيهِ حذل تَقْدِيره رَاغِبًا إِلَيْك، وراهباً مِنْك. فَإِن قلت: إِذا كَانَ التَّقْدِير: رَاهِبًا مِنْك، كَيفَ اسْتعْمل بِكَلِمَة إِلَى، والرهبة لَا تسْتَعْمل إلاَّ بِكَلِمَة. من؟ قلت: إِلَيْك مُتَعَلق برغبة، وَأعْطِي للرهبة حكمهَا، وَالْعرب تفعل ذَلِك كثيرا، كَقَوْل بَعضهم.
(وَرَأَيْت بعلك فِي الوغى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفا ورمحاً)

وَالرمْح لَا يتقلد، وكقول الآخر.
علفتها تبناً وَمَاء بَارِدًا
وَالْمَاء لَا يعلف. قَوْله: (لَا ملْجأ وَلَا منجأ) إعرابهما مثل إِعْرَاب عصى، وَفِي التَّرْكِيب خَمْسَة أوجه لِأَنَّهُ مثل: لَا حول وَلَا قُوَّة إلاَّ بِاللَّه، وَالْفرق بَين نَصبه وفتحه بِالتَّنْوِينِ، وَعند التَّنْوِين تسْقط الْألف، ثمَّ إنَّهُمَا كَانَا مصدري يتنازعان فِي مِنْك، وَإِن كَانَا مكانين فَلَا إِذْ اسْم الْمَكَان لَا يعْمل، وَتَقْدِيره، لَا ملْجأ مِنْك إِلَى أحد إلاَّ إِلَيْك، وَلَا منجأ إلاَّ إِلَيْك. قَوْله: (آمَنت بكتابك) أَي: صدقت أَنه كتابك. وَقَوله: (الَّذِي أنزلت) صفته، وَضمير الْمَفْعُول مَحْذُوف، وَالْمرَاد بِالْكتاب الْقُرْآن، وَإِنَّمَا خصص الْكتاب بِالصّفةِ لتنَاوله جَمِيع الْكتب المنزّلة فَإِن قيل أَيْن الْعُمُوم هَهُنَا حَتَّى يَجِيء التخصص قلت الْمُفْرد الْمُضَاف يقيدد الْعُمُوم لِأَن الْمعرفَة. بِالْإِضَافَة كالمعرف بِاللَّامِ يحْتَمل الْجِنْس والاستغراق والعهد، فَلفظ الْكتاب الْمُضَاف هَاهُنَا يحْتَمل لجَمِيع الْكتب ولجنس الْكتب ولبعضها كالقرآن، وَقَالُوا: جَمِيع المعارف كَذَلِك وَقد قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: رَحمَه الله تَعَالَى فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الَّذين كفرُوا سَوَاء عَلَيْهِم} (سُورَة الْبَقَرَة: 6) فِي أول الْبَقَرَة: يجوز أَن يكون للْعهد، وَأَن يُرَاد بهم نَاس بأعيانهم، كَأبي جهل وَأبي لَهب والوليد بن الْمُغيرَة وأضرابهم، وَأَن يكون للْجِنْس متناولاً مِنْهُم كل من صمم على كفره انْتهى. قلت: التَّحْقِيق أَن الْجمع الْمُعَرّف تَعْرِيف الْجِنْس مَعْنَاهُ جمَاعَة الأحاد، وَهِي أَعم من أَن يكون جَمِيع الْآحَاد أَو بَعْضهَا، فَهُوَ إِذا أطلق احْتمل الْعُمُوم والاستغراق، وَاحْتمل الْخُصُوص، وَالْحمل على وَاحِد مِنْهُمَا يتَوَقَّف على الْقَرِينَة كَمَا فِي الْمُشْتَرك، هَذَا مَا ذهب إِلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيّ، وَصَاحب (الْمِفْتَاح) وَمن تبعهما وَهُوَ خلاف مَا ذهب إِلَيْهِ أَئِمَّة الْأُصُول.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام. مِنْهَا مَا قَالَه الْخطابِيّ: فِيهِ: حجَّة لمن منع رِوَايَة الحَدِيث بِالْمَعْنَى، وَهُوَ قَول ابْن سِيرِين وَغَيره، وَكَانَ يذهب هَذَا الْمَذْهَب: أَبُو الْعَبَّاس النَّحْوِيّ، وَيَقُول: مَا من لَفظه من الْأَلْفَاظ المتناظرة فِي كَلَامهم إلاَّ وَبَينهَا وَبَين صاحبتها فرق، وَإِن دق ولطف كَقَوْلِه: بلَى وَنعم قلت: هَذَا الْبَاب فِيهِ خلاف بَين الْمُحدثين، وَقد عرف فِي مَوْضِعه، وَلَكِن لَا حجَّة فِي هَذَا للمانعين لِأَنَّهُ يحْتَمل الْأَوْجه الَّتِي ذَكرنَاهَا بِخِلَاف غَيره. وَمِنْهَا مَا قَالَه ابْن بطال: فِيهِ أَن الْوضُوء عِنْد النّوم مَنْدُوب إِلَيْهِ مَرْغُوب فِيهِ، وَكَذَلِكَ الدُّعَاء، لِأَنَّهُ قد تقبض روحه فِي نَومه فَيكون قد ختم عمله بِالْوضُوءِ وَالدُّعَاء الَّذِي هُوَ أفضل الْأَعْمَال، ثمَّ إِن هَذَا الْوضُوء مُسْتَحبّ وَإِن كَانَ متوضئاً كَفاهُ ذَلِك الْوضُوء، لِأَن الْمَقْصُود النّوم على طَهَارَة مَخَافَة أَن يَمُوت فِي ليلته، وَيكون أصدق لرؤياه وَأبْعد من تلعب الشَّيْطَان بِهِ فِي مَنَامه.

(3/189)


وَمِنْهَا: النّوم على الشق الْأَيْمن لِأَن النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، كَانَ يحب التَّيَامُن، وَلِأَنَّهُ أسْرع إِلَى الانتباه. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَأَقُول: وَإِلَى انحدار الطَّعَام كَمَا هُوَ مَذْكُور فِي الْكتب الطّيبَة. قلت: الَّذِي ذكره الْأَطِبَّاء خلاف هَذَا فَإِنَّهُم قَالُوا النّوم على الْأَيْسَر روح للبدن وَأقرب إِلَى انهضام الطَّعَام، وَلَكِن اتِّبَاع السّنة أَحَق وَأولى. وَمِنْهَا: ذكر الله تَعَالَى لتَكون خَاتِمَة عمله ذَلِك اللَّهُمَّ اختم لنا بِالْخَيرِ.