عمدة القاري شرح
صحيح البخاري (كتاب الغسْلِ)
بِسم الله الرحمن الرَّحِيم
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْغسْل، هُوَ بِضَم
الْغَيْن لِأَنَّهُ اسْم للاغتسال، وَهُوَ: إسالة المَاء
وإمراه على الْجِسْم، وبفتح الْغَيْن مصدر. وَفِي
(الْمُحكم) غسل الشَّيْء يغسلهُ غسلا وغسلاً، وَهَذَا لم
يفرق بَين الْفَتْح وَالضَّم وَجعل كِلَاهُمَا مصدرا
وَغَيره يَقُول بِالْفَتْح مصدر، وبالضم اسْم، وبالكسر
اسْم لما يَجْعَل مَعَ المَاء كالأسنان وَنَحْوه، وَوَقع
فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: بَاب الْغسْل وَهَذَا أوجه لِأَن
الْكتاب يجمع الْأَنْوَاع وَالْغسْل نوع وَاحِد من
أَنْوَاع الطَّهَارَة وَإِن كَانَ فِي نَفسه يَتَعَدَّد:
وَكَذَا حذفت الْبَسْمَلَة فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَفِي
رِوَايَة غَيره الْبَسْمَلَة. ثمَّ كتاب الْغسْل. ثمَّ
إِنَّه لما فرغ من بَيَان الطَّهَارَة الصُّغْرَى بأنواعها
شرع فِي بَيَان الطَّهَارَة الْكُبْرَى بأنواعها،
وَتَقْدِيم الصُّغْرَى ظَاهر لِكَثْرَة دوراتها بِخِلَاف
الْكُبْرَى.
وَقَول اللَّهِ تَعَالَى {وَأَنْ كُنْتُمْ جُنُباً
فاطَّهَّرُوا وَإِنْ تتُمْ مَرْضَى إِوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ
النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعيِداً
طَيِباً فامْسَحُوا بِوُوجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ
مَا يِرِيدُ اللَّهُ ليَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ
وَلَكِنْ يُرِيدْ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ
عَلَيْكُمْ لَلَلَّكُمْ تَشْكَرُونَ} . وقوْلِهِ جَلَّ
ذِكْرُهُ {يَا أَيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا
الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا
تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عَابِرِي سَبيلٍ حَتَّى
تَغْتَسِلُوا وإنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ علَى سَفَرٍ أَوْ
جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمْ
النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءَ فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً
طَيِباً فامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إنَّ
اللَّهَ كانَ عَفُواً غَفُوراً} (سُورَة النِّسَاء: 43) .
افْتتح كتاب الْغسْل بالآيتين الكريمتين إشعاراً بِأَن
وجوب الْغسْل على الْجنب بِنَصّ الْقُرْآن قَوْله
تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا فاطهروا} (سُورَة
الْمَائِدَة: 6) أَي: إغسلوا أبدانكم على وَجه
الْمُبَالغَة، وَالْجنب يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد
والإثنان وَالْجمع والمذكر والمؤنث لِأَنَّهُ اسْم جرى
مجْرى الْمصدر الَّذِي هُوَ الإجناب، يُقَال: أجنب يجنب
إجناباً، والجنابة الِاسْم، وَهُوَ فِي اللُّغَة الْبعد،
وَسمي الْإِنْسَان جنبا لِأَنَّهُ نهي أَن يقرب من
مَوَاضِع الصَّلَاة مَا لم يتَطَهَّر، وَيجمع على أجناب
وجنبين. وَقَوله: {فاطهروا} الْقَاعِدَة تَقْتَضِي أَن
يكون أَصله، تطهروا فَلَمَّا قصدُوا الْإِدْغَام قلبت
التَّاء طاء فأدغم فِي الطَّاء، واجتلبت همزَة الْوَصْل،
وَمَعْنَاهُ: طهروا أبدانكم. قلت: أَصله من بَاب التفعل
ليدل على التَّكَلُّف والاعتمال، وَكَذَلِكَ بَاب الافتعال
يدل عَلَيْهِ، نَحْو: اطهر أَصله من: طهر يطهر، فَنقل طهر،
إِلَى بَاب الافتعال، فَصَارَ: أطهر، على وزن افتعل فقلبت
التَّاء طاء وأدغمت الطَّاء فِي الطَّاء وَفِيه من
التَّكَلُّف مَا لَيْسَ فِي طهر، وَتَمام الْآيَة {وَإِن
كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو جَاءَ أحد مِنْكُم من
الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم تَجدوا مَاء
فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وَأَيْدِيكُمْ
مِنْهُ مَا يُرِيد الله ليجعل عَلَيْكُم من حرج وَلَكِن
يُرِيد ليطهركم وليتم نعْمَته عَلَيْكُم لَعَلَّكُمْ
تشكرون} (سُورَة النِّسَاء:) وفيهَا من الْأَحْكَام مَا
استنبط مِنْهَا الْفُقَهَاء على مَا عرف فِي مَوْضِعه.
وَالْآيَة الثَّانِيَة فِي سُورَة النِّسَاء. {يَا أَيهَا
الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى
حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ وَلَا جنبا إلاَّ عابري
سَبِيل حَتَّى تغتسلوا وَإِن كُنْتُم مرضى أَو على سفر أَو
جَاءَ أحد مِنْكُم من الْغَائِط أَو لامستم النِّسَاء فَلم
تَجدوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم
وَأَيْدِيكُمْ إِن الله كَانَ عفوا غَفُورًا} (سُورَة
النِّسَاء: 2) قَوْله: {وَلَا جنبا
(3/190)
إِلَّا عابري سَبِيل حَتَّى تغتسلوا}
(سُورَة النِّسَاء: 43) يدل على فَرضِيَّة الِاغْتِسَال من
الْجَنَابَة، فَقَالَ بَعضهم: قدم الْآيَة الَّتِي من سرة
الْمَائِدَة على الْآيَة الَّتِي من سُورَة النِّسَاء
لدقيقة. وَهِي أَن لَفظه. {فاطهروا} (سُورَة الْمَائِدَة:
6) الَّتِي فِي الْمَائِدَة فِيهَا إجنال وَلَفظه {}
حَتَّى تغتسلوا الَّتِي فِي النِّسَاء فِيهَا تَصْرِيح
بالاغتسال، وَبَيَان للتطهر الْمَذْكُور. قلت: لَا
إِجْمَال فِي {فاطهروا} لِأَن معنى {فاطهروا} أغسلوا
أبدانكم كَمَا ذكرنَا، وتطهر الْبدن هُوَ الِاغْتِسَال
فَلَا إِجْمَال لَا لُغَة وَلَا اصْطِلَاحا على مَا لَا
يخفى.
1 - (بابُ الوُضوءِ قَبْلَ الغُسْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْوضُوء قبل أَن يشرع فِي
الِاغْتِسَال، هَل هُوَ وَاجِب أَو مُسْتَحبّ أم سنة؟
وَقَالَ بَعضهم: بَاب الْوضُوء قبل الْغسْل، أَي:
اسْتِحْبَابه قَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) فرض الله
تَعَالَى الْغسْل مُطلقًا لم يذكر فِيهِ شَيْئا يبْدَأ
بِهِ قبل شَيْء فكيفما جَاءَ بِهِ المغتسل أَجزَأَهُ إِذا
أَتَى بِغسْل جَمِيع بدنه. انْتهى قلت: إِن كَانَ النَّص
مُطلقًا وَلم يذكر فِيهِ شَيْئا يبْدَأ بِهِ فعائشة رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، ذكرت عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ يتَوَضَّأ كَمَا يتَوَضَّأ
للصَّلَاة قبل غسله فَيكون سنة غير وَاجِب. أما كَونه سنة
فلفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما كَونه غير وَاجِب
فَلِأَنَّهُ يدْخل فِي الْغسْل، كالحائض إِذا اجنبت يكفيها
غسل وَاحِد، وَمِنْهُم من أوجبه إِذا كَانَ مُحدثا قبل
الْجَنَابَة. وَقَالَ دَاوُد: يجب الْوضُوء وَالْغسْل فِي
الْجَنَابَة الْمُجَرَّدَة بِأَن أَتَى الْغُلَام أَو
الْبَهِيمَة أَو لف ذكره بِخرقَة فَأنْزل، وَفِي أحد قولي
الشَّافِعِي: يلْزمه الْوضُوء فِي الْجَنَابَة مَعَ
الْحَدث، وَفِي قَوْله الآخر: يقْتَصر على الْغسْل لَكِن
يلْزم أَن يَنْوِي الْحَدث والجنابة، وَفِي قَول: يَكْفِي
نِيَّة الْغسْل، وَمِنْهُم من أوجب الْوضُوء بعد الْغسْل،
وَأنْكرهُ عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله عَنْهُمَا،
وَعَن عَائِشَة قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَوَضَّأ بعد الْغسْل) رَوَاهُ مُسلم
وَالْأَرْبَعَة.
248 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا
مالِكُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ زَوْج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا اغْتَسَل مِنَ الجَنَابَةِ
بَدَأَ فَغَسَلَ يَدَيْهِ ثُمَّ تَوَضَّأ كمَا يَتَوَضأُ
لِلصَّلاَةِ ثُمَّ يُدْخِلِ أَصَابَعَهُ فِي الماءِ
فَيُحَلِّلُ بِها أُصُولَ شَعْرِهِ ثُمَّ يَصُبُّ عَلَى
رَأْسِهِ ثَلاَث غُرَفٍ بِيَدَيْهِ ثُمَّ يُفِيضُ الماءَ
عَلَى جِلْدِهِ كُلِّهِ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة طَاهِرَة ذكر رِجَاله
ولطائف إِسْنَاده فرجا لَهُ خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا فِي
كتاب الْوَحْي، وَعبد الله هُوَ التنيسِي، وَأَبُو هِشَام
هُوَ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، وَفِيه التحديث صِيغَة الْجمع فِي مَوضِع
والإحبار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي
ثَلَاث مَوَاضِع. وَفِيه: التنيسِي والكوفي.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا مثله فِي
الطَّهَارَة، وَأخرجه مُسلم من حَدِيث أبي مُعَاوِيَة عَن
هِشَام فَذكره، وَفِي آخِره. (ثمَّ غسل رجلَيْهِ) قَالَ
وَرَوَاهُ جمَاعَة عَن هِشَام وَلَيْسَ فِي حَدِيثهمْ، غسل
الرجلَيْن وَعند مُسلم، (فيفرغ بِيَمِينِهِ على مَاله
شِمَاله فَيغسل فرجه) وَعند ابْن خُزَيْمَة وَيصب من
الْإِنَاء على يَده الْيُمْنَى فيفرغ عَلَيْهَا فيغسلها،
ثمَّ يصب على شِمَاله فَيغسل فرجه وَيتَوَضَّأ وضوءه
للصَّلَاة، وَنحن نحث على رأْسنا ثَلَاث حثيات أَو قَالَت:
ثَلَاثَة غرفات) وَفِي (الْمُوَطَّأ) سُئِلت عَن غسل
الْمَرْأَة فَقَالَت لتحفن على رَأسهَا ثَلَاث حفنات،
ولتضغث رَأسهَا بِيَدِهَا يَعْنِي تضمه وتجمعه وتعمه
بِيَدِهَا لتدخله المَاء وَعند الْبَزَّار (كَانَ يخلل
رَأسه مرَّتَيْنِ فِي غسل الْجَنَابَة) وَعند أبي دَاوُد
من حَدِيث رجل مِمَّن سَأَلَهُ عَنْهَا (أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغسل رَأسه الخطمي وَهُوَ جنب
يجتزىء بذلك وَلَا يصب عَلَيْهِ المَاء) . وَفِي لفظ:
(حَتَّى إِذا رأى أَنه قد أصَاب الْبشرَة) ، أَو أنقى
الْبشرَة، أفرغ على رَأسه ثَلَاثًا، وَإِذا فضلت فضلَة
صبها عَلَيْهِ) وَعند الطوسي مصححاً. (ثمَّ يشرب شعره
المَاء ثمَّ يحثي على رَأسه ثَلَاث حثيات) وَفِي لفظ:
(ثمَّ غسل مرافقه وأفاض عَلَيْهِ المَاء فَإِذا أنقاهما
أَهْوى إِلَى حَائِط ثمَّ يسْتَقْبل الْوضُوء ثمَّ يفِيض
المَاء على رَأسه) ، وَفِي لفظ: (إِن شِئْتُم لأريكم أثر
يَده فِي الْحَائِط حَيْثُ كَانَ يغْتَسل من الْجَنَابَة)
وَعند ابْن مَاجَه: (كَانَ يفِيض على كفيه ثَلَاث مَرَّات
ثمَّ يدخلهَا الْإِنَاء، ثمَّ يغسل رَأسه ثَلَاث مَرَّات،
وَأما نَحن فنغسل رؤوسنا خمس مرَارًا من أجل الضفر) .
ذكر لغاته وَإِعْرَابه
(3/191)
ومعانيه قَوْله: (كَانَ إِذا اغْتسل) أَي:
كَانَ إِذا الثَّانِي: راد أَن يغْتَسل، وَكلمَة من فِي
قَوْله: (من الْجَنَابَة) سبيبة يَعْنِي لأجل الْجَنَابَة
فَإِن قلت: لم ذكر فِي ثَلَاث مَوَاضِع وَاضع بِلَفْظ
الْمَاضِي وَهِي قَوْله: (بَدَأَ) و (فَغسل) و (ثمَّ
تَوَضَّأ) وَذكر الْبَوَاقِي بِلَفْظ الْمُضَارع وَهِي
قَوْله: (يدْخل) و (فيخال) و (يصب وَيفِيض) . قلت:
النُّكْتَة فِيهِ أَن إِذا كَانَت شَرْطِيَّة الْمَاضِي
بِمَعْنى الْمُسْتَقْبل، وَالْكل مُسْتَقْبل معنى، وَأما
الِاخْتِلَاف فِي اللَّفْظ فللإشعار بِالْفرقِ بِمَا هُوَ
خَارج من الْغسْل وَمَا لَيْسَ كذكل، وَإِن كَانَتَا ظرفية
فَمَا جَاءَ مَاضِيا فَهُوَ على أَصله، وَعدل عَن الأَصْل
إِلَى الْمُضَارع لاستحضار صورته للسامعين. قَوْله:
(بَدَأَ فَغسل يَدَيْهِ) هَذَا الْغسْل يحْتَمل وَجْهَيْن:
الأول: أَن يكون لأجل التَّنْظِيف مِمَّا بِهِ يكره.
الثَّانِي: أَن يكون هُوَ الْغسْل الْمَشْرُوع عِنْد
الْقيام من النّوم، وَيشْهد لَهُ مَا فِي رِوَايَة ابْن
عُيَيْنَة فِي هَذَا الحَدِيث عَن هِشَام. (قبل أَن
يدخلهما فِي الْإِنَاء) . قَوْله: (كَمَا يتَوَضَّأ
للصَّلَاة) احْتَرز بِهِ عَن الْوضُوء اللّغَوِيّ الَّذِي
هُوَ غسل الْيَدَيْنِ فَقَط. فَإِن قلت: روى الْحسن عَن
أبي حنيفَة أَنه لَا يمسح رَأسه فِي هَذَا الْوضُوء،
وَهُوَ خلاف مَا فِي الحَدِيث. قلت: الصَّحِيح فِي
الْمَذْهَب أَنه يمسحها، نَص عَلَيْهِ فِي (الْمَبْسُوط)
لِأَنَّهُ أتم للْغسْل. قَوْله: (فيخلل بهَا) أَي بأصابعه
الَّتِي أدخلها فِي المَاء قَوْله: (أصُول الشّعْر) وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: أصُول شعره، أَي شعر رَأسه، وتدل
عَلَيْهِ رِوَايَة حَمَّاد بن سَلمَة عَن هِشَام: (يحلل
بهَا شقّ رَأسه الْأَيْمن فَيتبع بهَا أصُول الشّعْر، ثمَّ
يفعل بشق رَأسه الْأَيْسَر) كَذَلِك رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ. قَوْله: (ثَلَاث غرف) بِضَم الْغَيْن
الْمُعْجَمَة، جمع غرفَة بِالضَّمِّ أَيْضا، وَهِي قدر مَا
يغْرف من المَاء بالكف، وَفِي بعض النّسخ: غرفات وَالْأول
رِوَايَة الْكشميهني، وَهَذَا هُوَ الْأَصَح لِأَن مُمَيّز
الثَّلَاثَة يَنْبَغِي أَن يكون من جموع الْقلَّة، وَلَكِن
وَجه ذكر: الغرف، أَن جمع الْكَثْرَة يقوم مقَام جمع
الْقلَّة وَبِالْعَكْسِ، وَعند الْكُوفِيّين. فعل: بِضَم
الْفَاء وَكسرهَا من بَاب جموع الْقلَّة: لقَوْله
تَعَالَى: {فَأتوا بِعشر سور} (سُورَة هود: 13) وَقَوله
تَعَالَى: {وَثَمَانِية حجج} (سُورَة الْقَصَص: 27)
قَوْله: (ثمَّ يفِيض) أَي: يسيل من الْإِفَاضَة وَهِي
الإسالة. قَوْله: (على جلده كُله) هَذَا التَّأْكِيد
بِلَفْظ، الْكل، يدل على أَنه عمم جَمِيع جسده بِالْغسْلِ.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن قَوْله (كَانَ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يدل على الْمُلَازمَة والتكرار
فَدلَّ ذَلِك على اسْتِحْبَاب غسل يَدَيْهِ قبل الشُّرُوع
فِي الْوضُوء، وَالْغسْل إِلَّا إِذا كَانَ عَلَيْهَا
شَيْء مِمَّا يجب إِزَالَته فَحِينَئِذٍ يكون وَاجِبا.
وَمِنْهَا: أَن تَقْدِيم الْوضُوء قبل الْغسْل سنة، وَقد
ذكرنَا الْخلاف فِيهِ عَن قريب. وَمِنْهَا: أَن ظَاهر
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَمَا يتَوَضَّأ
للصَّلَاة) يدل على أَنه لَا يؤخلا غسل رجلَيْهِ وَهُوَ
الْأَصَح من قَول لشافعي. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَنه
يُؤَخر عملا بِظَاهِر حَدِيث ميمونه رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، كَمَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَله
قَول ثَالِث: إِن كَانَ الْموضع نظيفاً فَلَا يُؤَخر،
وَإِن كَانَ وسخاً أَو المَاء قَلِيلا أخر جمعا بَين
الْأَحَادِيث، وَعند أَصْحَابنَا إِن كَانَ فِي مستنقع
المَاء يُؤَخر وإلاَّ فَلَا وَهُوَ مَذْهَب مَالك أَيْضا.
وَمِنْهَا: التَّخْلِيل فِي شعر الرَّأْس واللحية لظَاهِر
قَوْله: (فيخلل أصُول الشّعْر) وَهُوَ وَاجِب عِنْد
أَصْحَابنَا، وَسنة فِي الْوضُوء، وَعند الشَّافِعِيَّة
وَاجِب فِي قَول: وَسنة فِي قَول. وَقيل: وَاجِب فِي
الرَّأْس وَفِي اللِّحْيَة قَولَانِ للماليكة، فروى ابْن
الْقَاسِم عدم الْوُجُوب، وروى أَشهب الْوُجُوب، وَنقل
ابْن بطال فِي بَاب: تَخْلِيل الشّعْر، الْإِجْمَاع على
تَخْلِيل شعر الرَّأْس، وقاسوا اللِّحْيَة عَلَيْهَا.
وَمِنْهَا: أَنه يصب على رَأسه ثَلَاث غرف بيدَيْهِ كَمَا
هُوَ فِي الحَدِيث، وَعَن الشَّافِعِيَّة اسْتِحْبَاب
ذَلِك فِي الرَّأْس، وَبَاقِي الْجَسَد مثله. وَقَالَ
الْمَاوَرْدِيّ والقرطبي من الماليكة: لَا يسْتَحبّ
التَّثْلِيث فِي الْغسْل، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا يفهم
من هَذِه الثَّلَاث أَنه غسل رَأسه ثَلَاث مَرَّات، لِأَن
التّكْرَار فِي الْغسْل غير مَشْرُوع لما فِي ذَلِك من
الْمَشَقَّة، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك الْعدَد لِأَنَّهُ
بَدَأَ بِجَانِب رَأسه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثمَّ على
وسط رَأسه، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة دَعَا بِشَيْء
نحوالحلاب، فَأخذ بكفه فَبَدَأَ بشق رَأسه الْأَيْمن ثمَّ
الْأَيْسَر ثمَّ أَخذ بكفيه، فَقَالَ بهما على رَأسه)
رَوَاهُ البُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُد على مَا يَجِيء.
وَمِنْهَا: أَن قَوْلهَا (ثمَّ يفِيض المَاء على جلده
كُله) لَا يفهم مِنْهُ الدَّلْك، وَهُوَ مُسْتَحبّ عندنَا
وَعند الشَّافِعِي وَعند أَحْمد وَبَعض الْمَالِكِيَّة
وَخَالف مَالك والمزني فذهبا إِلَى وُجُوبه بِالْقِيَاسِ
على الوضو، وَقَالَ ابْن بطال وَهَذَا لَازم. قلت: لَيْسَ
بِلَازِم، إِذْ لَا نسلم وجوب الدَّلْك فِي الْوضُوء
وَمِنْهَا جَوَاز إِدْخَال الْأَصَابِع فِي المَاء.
249 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدّثنا سُفْيانُ
عنْ الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ عَنْ
كُرَيْبٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ زَوْجِ
النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالَتْ تَوَضِّأَ رسولُ
اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وُضُوءَ بِلصَّلاةِ
غَيْرَ رَجْلَيهِ وَغَسَلَ فَرْجِهُ وَما أَصَابهُ مِنَ
الأَذَى ثُمَّ أَفَاضَ
(3/192)
عَلَيْهِ الماءَ ثُمَّ نَحَّى رِجْلَيْهِ
فَغسلَهُمَا هَذِهِ غُسْلَهُ مِنَ الجَنابَة..
هَذَا الثَّانِي من حَدِيثي التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: مُحَمَّد بن يُوسُف اليكندي،
وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَسليمَان الْأَعْمَش ابْن مهْرَان،
تقدمُوا مرَارًا، وَسَالم بن أبي الْجَعْد، بِفَتْح
الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة. مر فِي بَاب
التَّسْمِيَة. وَالْخَامِس: كريب، بِضَم الْكَاف، تقدم فِي
بَاب التَّخْفِيف فِي الْوضُوء. وَالسَّادِس: عبد الله بن
عَبَّاس. وَالسَّابِع: ميمونه بنت الْحَارِث زوج النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَخَالَة ابْن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وَفِيه العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع: وَفِيه:
سُفْيَان غير مَنْسُوب، قَالَت جمَاعَة من الشُّرَّاح
وَغَيرهم: إِنَّه سُفْيَان الثَّوْريّ، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. وَقَالَ الْحَافِظ
الْمزي فِي كِتَابه (الْأَطْرَاف) حَدِيث فِي غسل
النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، من الْجَنَابَة
مِنْهُم من طوله، وَمِنْهُم من اختسره، ثمَّ وضع صُورَة
(خَ) بالأحمر بِمَعْنى: أخرجه البُخَارِيّ فِي الطَّهَارَة
عَن مُحَمَّد بن يُوسُف، وَعَن عَبْدَانِ عَن عبد الله بن
الْمُبَارك، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَعَن
الْحميدِي عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، فَهَذَا دلّ على أَن
سُفْيَان فِي رِوَايَة مُحَمَّد بن يُوسُف الَّذِي
هَاهُنَا هُوَ الثَّوْريّ، وَأما ابْن عُيَيْنَة فروايته
عَن عَبْدَانِ عَن ابْن الْمُبَارك، وَلم يُمَيّز
الْكرْمَانِي ذَلِك فخلط. وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا
الحَدِيث أَيْضا عَن مُوسَى ابْن إِسْمَاعِيل وَمُحَمّد بن
مَحْبُوب، كِلَاهُمَا عَن عبد الْوَاحِد، وَعَن مُوسَى عَن
أبي عوَانَة، وَعَن عمر بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه،
وَعَن يُوسُف بن عِيسَى عَن الْفضل بن مُوسَى، وَعَن
عَبْدَانِ عَن أبي حَمْزَة، سبعتهم عَن الْأَعْمَش عَن
سَالم بن أبي الْجَعْد عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس بِهِ،
وَمن لطائف هَذَا الْإِسْنَاد أَن فِيهِ: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ على التَّابِعِيّ عَن
الْوَلَاء وَفِيه: صحابيان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره قد مر الْآن أَن
البُخَارِيّ أخرجه فِي مَوَاضِع عشرَة أَو نَحْوهَا.
وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن
الصَّباح وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأبي بكر بن أبي
شيبَة وَأبي كريب وَأبي سعيد الْأَشَج، خمستهم عَن وَكِيع،
وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي كريب كِلَاهُمَا عَن أبي
مُعَاوِيَة، وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن عبد الله بن
إِدْرِيس، وَعَن عَليّ بن حجر، وَعَن عِيسَى بن يُونُس،
وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن مُوسَى القارىء عَن
زَائِدَة، خمستهم عَن الْأَعْمَش بِهِ وَأخرجه أَبُو
دَاوُد عَن عبد الله بن دَاوُد عَن الْأَعْمَش بِهِ،
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن هناد عَن وَكِيع بِهِ وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَعَن يُوسُف
بن عِيسَى بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن الْعَلَاء عَن أبي
مُعَاوِيَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عَليّ بن مَيْمُون عَن
مُحَمَّد بن يُوسُف بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
عَن جرير، وَعَن قُتَيْبَة عَن عُبَيْدَة بن حميد،
كِلَاهُمَا عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن
عَليّ بن مُحَمَّد وَأبي بكر بن أبي شيبَة، كِلَاهُمَا عَن
وَكِيع بِقصَّة، نفض المَاء وَترك التنشيف.
ذكر بَيَان مَا فِيهِ لم يذكر فِي حَدِيث عَائِشَة رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: (غير رجلَيْهِ) فِيهِ
التَّصْرِيح بِتَأْخِير الرجلَيْن فِي وضوء الْغسْل، وَبِه
احْتج أَصْحَابنَا، على أَن المغتسل إِذا تَوَضَّأ أَو لَا
يُؤَخر رجلَيْهِ، وَلَكِن أَكثر أَصْحَابنَا حملوه على
أَنَّهُمَا إِن كَانَت فِي مُجْتَمع المَاء تَوَضَّأ
ويؤخرهما وَإِن لم تَكُونَا فِيهِ لَا يؤخرهما، وكل مَا
جَاءَ من الرِّوَايَات الَّتِي فِيهَا تَأْخِير الرجلَيْن
صَرِيحًا مَحْمُول على مَا قُلْنَا: وَهَذَا هُوَ
التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَات الَّتِي فِي بَعْضهَا
تَأْخِير الرجلَيْن صَرِيحًا لَا مثل مَا قَالَه بَعضهم،
وَيُمكن الْجمع بِأَن تحمل رِوَايَة عَائِشَة على الْمجَاز
وَأما على حَالَة أُخْرَى. قلت: هَذَا خطأ لِأَن الْمجَاز
إِلَيْهِ إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة وَمَا الدَّاعِي لَهَا
فِي رِوَايَة عَائِشَة حَتَّى يحمل كَلَامهَا على
الْمجَاز؟ وَمَا الصَّوَاب الَّذِي يرجع إِلَيْهِ إلاَّ
مَا قُلْنَا: وَقَالَ الْكرْمَانِي: غير رجلَيْهِ. فَإِن
قلت: بالتوفيق بَينه وَبَين رِوَايَة عَائِشَة؟ قلت:
زِيَادَة الثِّقَة مَقْبُول فَيحمل الْمُطلق على
الْمُقَيد، فرواية عَائِشَة مَحْمُولَة على أَن المُرَاد
بِوضُوء الصَّلَاة أَكْثَره، وَهُوَ مَا سوى الرجلَيْن.
قلت: قد ذكرنَا الْآن مَا يرد مَا ذكره، ثمَّ قَالَ
الْكرْمَانِي: وَيحْتَمل أَن يُقَال: إنَّهُمَا كَانَا فِي
وَقْتَيْنِ مُخْتَلفين فَلَا مُنَافَاة بَينهمَا. قلت:
هَذَا فِي الْحَقِيقَة حَاصِل مَا ذكرنَا عَن قريب عِنْد
قَوْلنَا: لَكِن أَكثر أَصْحَابنَا إِلَخ. قَوْله: (وَغسل
فرجه) أَي: ذكره فَدلَّ هَذَا على صِحَة إِطْلَاق الْفرج
على الذّكر. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: غسل الْفرج
مقدم على التوضىء فَلم آخِره؟ قلت: لَا يجب التَّقْدِيم
إِذْ الْوَاو، لَيْسَ للتَّرْتِيب، أَو أَنه للْحَال
انْتهى. قلت: كَيفَ يَقُول: لَا يجب التَّقْدِيم وَهَذَا
لَيْسَ بِشَيْء، وَقَوله إِذْ الْوَاو وَلَيْسَ
للتَّرْتِيب، حجَّة عَلَيْهِ لأَنهم يدعونَ أَن الْوَاو
فِي الأَصْل للتَّرْتِيب، وَلم يقل بِهِ أحد مِمَّن
يعْتَمد عَلَيْهِ؟ وَقَوله: أَو أَنه للْحَال، غير سديد
وَلَا موجه، ونه كَيفَ يتَوَضَّأ فِي حَالَة غسل فرجه؟
وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ تَقْدِيم وَتَأْخِير، لِأَن غسل
الْفرج كَانَ قبل الْوضُوء إِذْ الْوَاو لَا تَقْتَضِي
التَّرْتِيب انْتهى. قلت:
(3/193)
هَذَا تعسف وَهُوَ أَيْضا حجَّة عَلَيْهِ،
مَعَ أَن مَا ذكره خلاف الأَصْل، وَالصَّوَاب أَن الْوَاو
للْجمع فِي أصل الْوَضع، وَالْمعْنَى: أَنه جمع بَين
الْوضُوء وَغسل الْفرج، وَهُوَ، وَإِن كَانَ لَا يَقْتَضِي
تَقْدِيم أَحدهمَا على الآخر على التَّعْيِين، فقد بَين
ذَلِك فِيمَا رَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيق ابْن
الْمُبَارك عَن الثَّوْريّ، فَذكر أَولا غسل الْيَدَيْنِ
ثمَّ غسل الْفرج ثمَّ مسح يَده على الْحَائِط ثمَّ
الْوضُوء غير رجلَيْهِ وَذكره ب ثمَّ، الدَّالَّة على
التَّرْتِيب فِي جَمِيع ذَلِك، وَالْأَحَادِيث يُفَسر
بَعْضهَا بَعْضًا قَوْله: (وَمَا أَصَابَهُ من الْأَذَى)
أَي: المستقذر الطَّاهِر، وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: (وَمَا
أَصَابَهُ من الْأَذَى) لَيْسَ بِظَاهِر فِي النَّجَاسَة.
قلت: هَذَا مُكَابَرَة فِيمَا قَالَه. قَوْله: (هَذَا
غسله) هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني وَهِي على الأَصْل،
وَعند غَيره (هَذِه غسله) بالتأنيث، فَيكون إشار إِلَى
الْأَفْعَال الْمَذْكُورَة أَي: الْأَفْعَال الْمَذْكُور
صفة غسله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِضَم الْغَيْن.
وَمِمَّا لم يذكر فِي حَدِيث عَائِشَة، وَذكر فِي حَدِيث
مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، من الزِّيَادَة:
تَأْخِير الرجلَيْن إِلَى الْفَرَاغ من الِاغْتِسَال، وَقد
ذكرنَا عَن قريب. وَفِيه: التَّعَرُّض لغسل الْفرج.
وَفِيه: غسل مَا أَصَابَهُ من الْأَذَى وَمِمَّا ذكره
البُخَارِيّ من حَدِيث مَيْمُونَة على مَا يَأْتِي: (ثمَّ
ضرب بِشمَالِهِ الأَرْض فدلكها دلكا شَدِيدا، ثمَّ
تَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة، ثمَّ أفرغ على رَأسه ثَلَاث
حفنات ملْء كَفه) وَفِي آخِره: (ثمَّ أَتَى بالمنديل
فَرده) ، وَفِي رِوَايَة (وَجعل يَقُول بِالْمَاءِ هَكَذَا
ينْقضه) . وَفِي لفظ. (ثمَّ غسر فرجه ثمَّ مَال بِيَدِهِ
إِلَى الأَرْض فمسحها بِالتُّرَابِ ثمَّ غسلهَا) وَفِي لفظ
(وضعت لَهُ غسلا فَسترته بِثَوْب) وَفِي لفظ: (فأكفا
بِيَمِينِهِ على شِمَاله مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) وَفِي
لفظ: (ثمَّ أفرغ بِيَمِينِهِ على شِمَاله فَغسل مذاكيره)
وَفِيه (ثمَّ غسل رَأسه ثَلَاثًا) وَفِي لفظ: (فَلَمَّا
فرغ من غسل غسل رجلَيْهِ) ، وَفِي لفظ: (فَغسل كفيه
مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا) وَعند مُسلم: (فَغسل فرجه وَمَا
أَصَابَهُ ثمَّ مسخ يَده بِالْحَائِطِ أَو الأَرْض) ،
وَفِي (صَحِيح) الإسماعيل: (مسح يَده بالجدار، وَحين قضى
غسله غسل رجلَيْهِ) وَفِي لفظ: (فَلَمَّا أفرغ من غسل فرجه
ذَلِك يَده بِالْحَائِطِ ثمَّ غسلهَا، فَلَمَّا فرغ من
غسلهَا غسل قَدَمَيْهِ) قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: وَقد
بَين زَائِدَة أَن قَوْله: (من الْجَنَابَة) ، لَيْسَ من
قَول مَيْمُونَة وَلَا ابْن عَبَّاس، إِنَّمَا هُوَ عَن
سَالم، وَعند ابْن خُزَيْمَة (ثمَّ أفرغ على رَأسه ثَلَاث
حفنات ملْء كفيه، فَأتى بمنديل فَأبى أَن يقبله) وَعند أبي
عَليّ الطوسي فِي كتاب (الْأَحْكَام) مصححاً (فأنيته
بِثَوْب فَقَالَ بِيَدِهِ هَكَذَا) وَعند
الدَّارَقُطْنِيّ: (ثمَّ غسل سَائِر جسده قبل كفيه) وَعند
أبي مُحَمَّد الدَّارمِيّ: (فأعطيته ملحفة فَأبى) قَالَ
أَبُو مُحَمَّد: هَذَا أحب إِلَيّ من حَدِيث عَائِشَة.
وَعند ابْن مَاجَه: (فأكفا الْإِنَاء بِشمَالِهِ على
يَمِينه فَغسل كفيه ثَلَاثًا، ثمَّ أَفَاضَ على فرجه ثمَّ
دلك يَده بِالْأَرْضِ ثمَّ تمضمض واستنشق وَغسل وَجهه
ثَلَاثًا وذراعيه ثَلَاثًا، ثمَّ أَفَاضَ على سَائِر جسده،
ثمَّ انتحى فَغسل رجلَيْهِ) .
وَفِي هَذِه الرِّوَايَات. إستحباب الإفراغ بِالْيَمِينِ
على الشمَال للمغترف من المَاء. وفيهَا: مَشْرُوعِيَّة
الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي غسل الْجَنَابَة.
وَقَالَ بَعضهم: وَتمسك الْحَنَفِيَّة لِلْقَوْلِ:
بوجوبهما، وَتعقب بِأَن الْفِعْل الْمُجَرّد لَا يدل على
الْوُجُوب إلاَّ إِذا كَانَ بَيَانا لمجمل تعلق بِهِ
الْوُجُوب، وَلَيْسَ الْأَمر هُنَا كَذَلِك. قلت: لَيْسَ
الْأَمر هُنَا كَذَلِك لأَنهم أَنما أوجبوهما فِي الْغسْل
بِالنَّصِّ لقَوْله تَعَالَى: {وَإِن كُنْتُم جنبا
فاطهروا} (سُورَة الْمَائِدَة: 6) أَي: طهروا أبدانكم،
وَهَذَا يَشْمَل الْأنف والفم، وَقد حققناه فِيمَا مضى.
وفيهَا: اسْتِحْبَاب مسح الْيَد بِالتُّرَابِ فِي
الْحَائِط وَفِي الأَرْض، وَقَالَ بَعضهم: وَأبْعد من
اسْتدلَّ بِهِ على نجاس الْمَنِيّ أَو على نَجَاسَة
رُطُوبَة الْفرج. قلت: هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي
أبعده، لِأَن من اسْتدلَّ بِنَجَاسَة الْمَنِيّ أَو على
نَجَاسَة رُطُوبَة الْفرج مَا اكْتفى بِهَذَا فِي احتجاجه،
وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى مستقصى. وفيهَا: اسْتِحْبَاب
التستر فِي الْغسْل وَلَو كَانَ فِي الْبَيْت. وفيهَا:
جَوَاز الِاسْتِعَانَة بإحضار مَاء الْغسْل أَو الْوضُوء.
وفيهَا: خدمَة الزَّوْجَات للأزواج. وفيهَا: الصب
بِالْيَمِينِ على الشمَال. وفيهَا: كَرَاهَة التنشيف
بالمنديل وَنَحْوه.
وَقَالَ النَّوَوِيّ: اخْتلف أَصْحَابنَا فِيهِ على
خَمْسَة أوجه أشهرها: أَن الْمُسْتَحبّ تَركه، وَقيل:
مَكْرُوه وَقيل مُبَاح وَقيل مُسْتَحبّ وَقيل مَكْرُوه فِي
الصَّيف مُبَاح فِي الشتَاء، وَيُقَال لَا حجَّة فِي
الحَدِيث لكَرَاهَة التنشيف لاحْتِمَال أَن إباءه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم من أَخذ مَا يتنشف بِهِ لأمر آخر يتَعَلَّق
بالخرقة، أَو لكَونه كَانَ مستعجلاً أَو غير ذَلِك.
وَقَالَ الْمُهلب: يحْتَمل تَركه الثوبة لإبقاء تَركه بَلل
المَاء أَو للتواضع أَو لشَيْء رَآهُ فِي الثَّوْب من
حَرِير أَو وسخ وَقد وَقع عِنْد أَحْمد والإسماعيلي من
رِوَايَة أبي عوَانَة فِي هَذَا الحَدِيث عَن الْأَعْمَش،
قَالَ فَذكرت ذَلِك لإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، فَقَالَ: لَا
بَأْس بالمنديل وَإِنَّمَا رده مَخَافَة أَن يصير عَادَة
وَقَالَ التَّيْمِيّ فِي شَرحه لهَذَا الحَدِيث فِيهِ
دَلِيل على أَنه كَانَ يتنشف، وَلَوْلَا ذَلِك لم يَأْته
بالمنديل. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد، نفضه المَاء
بِيَدِهِ يدل على أَن لَا كَرَاهَة فِي التنشيف، لِأَن
كلاًّ مِنْهُمَا إِزَالَة قلت: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على
ذَلِك، لِأَن التنشيف من عَادَة المتكبرين ورده صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الثَّوْب لأجل التَّوَاضُع مُخَالفَة
لَهُم.
وَقد ورد أَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب.
(3/194)
مِنْهَا: حَدِيث أم هانىء عِنْد
الشَّيْخَيْنِ: (قَامَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِلَى غسله، فسترت عَلَيْهِ فَاطِمَة ثمَّ أَخذ
ثَوْبه فالتحف بِهِ) هَذَا ظَاهر فِي التنشيف. وَمِنْهَا:
حَدِيث قيس بن سعد رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: أَتَانَا
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوَضَعْنَا لَهُ مَاء
فاغتسل ثمَّ أتيناه بملحفة ورسية فَاشْتَمَلَ بهَا،
فَكَأَنِّي أنظر إِلَى أثر الورس عَلَيْهِ، وَصَححهُ ابْن
حزم. وَمِنْهَا: حَدِيث الْوَضِين بن عطار رَوَاهُ ابْن
مَاجَه عَن مَحْفُوظ بن عَلْقَمَة عَن سلمَان: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تَوَضَّأ فَقلب جُبَّة
صوف كَانَت عَلَيْهِ فَمسح بهَا وَجهه وَهَذَا ضَعِيف
عِنْد جمَاعَة. وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة: (كَانَت
للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرقَة يتنشف بهَا بعد
الْوضُوء) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ. وَضَعفه، وَصَححهُ
الْحَاكِم. وَمِنْهَا: حَدِيث معَاذ رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا
تَوَضَّأ مسح وَجهه بِطرف ثَوْبه) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ
وَضَعفه. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي بكر: (كَانَت للنَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم خرقَة يتنشف بهَا بعد الْوضُوء)
رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ. وَقَالَ: إِسْنَاده غير قوي.
وَمِنْهَا: حَدِيث أنس مثله وَأعله. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي
مَرْيَم، إِيَاس بن جَعْفَر، عَن فلَان رجل من
الصَّحَابَة: (إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ
لَهُ منديل أَو خرقَة يمسح بهَا وَجهه إِذا تَوَضَّأ)
رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (الكنى) بِسَنَد صَحِيح.
وَمِنْهَا: حَدِيث منيب ابْن مدرك الْمَكِّيّ الْأَزْدِيّ
قَالَ) (رَأَيْت جَارِيَة تحمل وضوأ ومنديلاً فَأخذ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم المَاء فَتَوَضَّأ وَمسح بالمنديل
وَجه) أسْندهُ الإِمَام مغلطاي فِي شَرحه، وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: أَخذ المنديل بعد الْوضُوء عُثْمَان وَالْحسن
بن عَليّ وَأَنِّي وَبشير بن أبي مَسْعُود، وَرخّص فِيهِ
الْحسن، وَابْن سِيرِين وعلقمة وَالْأسود ومسروق
وَالضَّحَّاك، وَكَانَ مَالك وَالثَّوْري وَأحمد
وَإِسْحَاق وَأَصْحَاب الرَّأْي لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا
وَكره عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى وَالنَّخَعِيّ وَابْن
الْمسيب وَمُجاهد وَأَبُو الْعَالِيَة. وَقَالَ بَعضهم:
اسْتدلَّ بِهِ على طَهَارَة المَاء المتقاطر من أَعْضَاء
المتطهر، خلافًا لمن غلا من الْحَنَفِيَّة، فَقَالَ
بنجاستة: قلت: هَذَا الْقَائِل هُوَ الَّذِي أَتَى بالغلو
حَيْثُ لم يدْرك حَقِيقَة مَذْهَب الْحَنَفِيَّة، لِأَن
الَّذِي عَلَيْهِ الْفَتْوَى فِي مَذْهَبهم: أَن المَاء
الْمُسْتَعْمل طَاهِر حَتَّى يجوز شربه واستعماله فِي
الطبيخ والعجين، وَالَّذِي ذهب إِلَى نَجَاسَته لم يقل
بِأَنَّهُ نجس فِي حَالَة التقاطر، وَإِنَّمَا يكون ذَلِك
إِذا سَالَ من أَعْضَاء المتطهر، وَاجْتمعَ فِي مَكَان.
2 - (بابُ غُسْلِ الرَّجُلِ مَعَ امْرأَتِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الرجل مَعَ امْرَأَته
من إِنَاء وَاحِد.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين أَبْوَاب هَذَا الْكتاب. أَعنِي:
كتاب الْغسْل، ظَاهر لِأَن كلهَا فِيمَا بتعلق بِالْغسْلِ
وَمَا يتَعَلَّق بالجنب.
250 - حدّثنا آدَمُ بنُ أبي إياسِ قالَ حدّثنا ابنُ أبي
ذِئْبٍ عَنِ الزُّهْرِي عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عائشَةَ قالَتْ
كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنا وَالنَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِنْ إناءٍ واحدٍ مِنْ قَدَحٍ يُقالُ لَهُ الفَرَقُ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله خَمْسَة: وَقد ذكرُوا وَابْن أبي ذِئْب، بِكَسْر
الذَّال الْمُعْجَمَة، هُوَ مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن
الْقرشِي، وَالزهْرِيّ هُوَ ابْن مُسلم، وَعُرْوَة بن
الزبير، بن الْعَوام. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
الحَدِيث أخرجه مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا قَالَ:
أخبرنَا عَمْرو بن عَليّ، قَالَ: حدّثنا يحيى، قَالَ:
حَدثنَا سُفْيَان. قَالَ: حَدثنِي مَنْصُور عَن
إِبْرَاهِيم عَن الْأسود عَن عَائِشَة، قَالَت: (كنت
أَغْتَسِل أَنا وَرَسُول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، من إِنَاء وَاحِد) .
بَيَان لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (من قدح) بِفتْحَتَيْنِ،
وَاحِد الْأَقْدَام الَّتِي للشُّرْب، والقدم: بِكَسْر
الْقَاف وَسُكُون الدَّال، السهْم قبل أَن يراش ويركب
نصله. قَوْله: (الْفرق) بِفَتْح الْقَاف وَفتح الرَّاء،
قَالَه القتني وَغَيره، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ
الْأَفْصَح وَقَالَ ابْن التِّين بتسكين الرَّاء، وَحكى
ذَلِك عَن أبي زيد وَابْن دُرَيْد وَغَيرهمَا من أهل
اللُّغَة، وَعَن ثَعْلَب الْفرق بِالْفَتْح، والمحدثون
يسكنونه، وَكَلَام الْعَرَب بِالْفَتْح، وَقَالَ ابْن
الْأَثِير: الْفرق بِالْفَتْح، سِتَّة عشرَة رطلا،
وبالإسكان مائ وَعِشْرُونَ رطلا وَفِي رِوَايَة مُسلم:
قَالَ سُفْيَان؟ يَعْنِي ابْن عُيَيْنَة: الْفرق ثَلَاثَة
آصَع، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَعَلِيهِ الجماهير. وَقيل:
صَاعَانِ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْفرق مكيال مَعْرُوف
بِالْمَدِينَةِ هُوَ سِتَّة عشر رطلا. وَقَالَ أَبُو زيد
الْأنْصَارِيّ إسكان الرَّاء جَائِز، وَهُوَ لُغَة فِيهِ،
وَهُوَ مِقْدَار ثَلَاثَة أصوع سِتَّة عشر رطلا عِنْد أهل
الْحجاز.
ثمَّ الْإِعْرَاب، فَقَالَ الطَّيِّبِيّ فِي (شرح
الْمشكاة) قَوْلهَا: (كنت أغتسب أَنا وَالنَّبِيّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) أبرز الضَّمِير ليعطف عَلَيْهِ الْمظهر.
فَإِن قلت: كَيفَ يَسْتَقِيم الْعَطف. إِذْ لَا يُقَال:
اغْتسل وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قلت: هُوَ
على
(3/195)
تقليب الْمُتَكَلّم على الْغَائِب كَمَا
غلب الْمُخَاطب على الْغَائِب فِي قَوْله تَعَالَى: {اسكن
أَنْت وزوجك الْجنَّة} (سُورَة الْبَقَرَة: 35) (سُورَة
الْأَعْرَاف: 19) عطف زَوجك، على: أَنْت فَإِن قلت:
الْفَائِدَة فِي تَغْلِيب: اسكن، هِيَ أَن تدم كَانَ أصلا
فِي سُكْنى الْجنَّة وحواء عَلَيْهَا السَّلَام، تَابِعَة
لَهُ، فَمَا الْفَائِدَة فِيمَا نَحن فِيهِ. قلت: الإيذان
بِأَن النِّسَاء مَحل الشَّهَوَات وحاملات للاغتسال فَكُن
أصلا فِي. فَإِن قلت: لم لَا يجوز أَن يكون التَّقْدِير:
اغْتسل أَنا وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من
إِنَاء مُشْتَرك بيني وَبَينه فيبادرني ويغتسل بِبَعْضِه
وَيتْرك مَا بَقِي فاغتسل أَنا مِنْهُ. قلت: يُخَالِفهُ
الحَدِيث الآخر، وَهُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى
أَن تَغْتَسِل الْمَرْأَة بِفضل الرجل. انْتهى. وَعَكسه
أَيْضا على مَا تقدم فِيمَا مضى. وَقد نقل الْكرْمَانِي
فِي شَرحه مَا قَالَه الطَّيِّبِيّ، وَنَقله بَعضهم أَيْضا
مُخْتَصرا من غير أيضاح قَوْله: (من إِنَاء وَاحِد من قدح)
كلمة من الأولى ابتدائية وَالثَّانيَِة بَيَانِيَّة. قَالَ
الْكرْمَانِي: الأولى: أَن يكون قدم بَدَلا من إِنَاء
بتكرار حرف الْجَرّ فِي الْبدن. انْتهى وَنَقله بَعضهم فِي
شَرحه، وَقَالَ: يحْتَمل أَن يكون. قدح. بَدَلا من إِنَاء.
قلت: لَا يُقَال فِي مثل ذَلِك يحْتَمل: لِأَن
الْوَجْهَيْنِ اللَّذين ذكرهمَا الْكرْمَانِي جائزان قطعا
غَايَة مَا فِي الْبَاب يرجح أَحدهمَا بالأولوية. كَمَا
نبه عَلَيْهِ، ثمَّ هَذَا الْإِنَاء الْمَذْكُور كَانَ من
شبه يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِم من طَرِيق حَمَّاد
بن سَلمَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، وَلَفظه.
(تورمن شبه) بِفَتْح الشين المعمة وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة، وَهُوَ نوع من النّحاس يُقَال: كوز شبه،
وَشبه بِمَعْنى.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام فِيهِ: جَوَاز اغتسال الرجل
وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد، وَكَذَلِكَ الْوضُوء،
وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. وَفِيه: تطهر الْمَرْأَة بِفضل
الرجل، وَأما الْعَكْس فَجَائِز عِنْد الْجُمْهُور، سَوَاء
خلت الْمَرْأَة بِالْمَاءِ أَو لم تخل. وَذهب الإِمَام
أَحْمد إِلَى إِنَّهَا إِذا خلت بِالْمَاءِ واستعملته لَا
يجوز للرجل اسْتِعْمَال فَضلهَا. فَإِن قلت: ذكر ابْن أبي
شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يُنْهِي أَن يغْتَسل
الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد. قلت: غَابَ عَنهُ
الحَدِيث الْمَذْكُور، وَالسّنة قاضية عَلَيْهِ. فَإِن
قلت: ورد نهي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن
يغْتَسل الرجل بِفضل الْمَرْأَة. قلت: قَالَ الْخطابِيّ:
أهل الْمعرفَة بِالْحَدِيثِ لم يرفع وأطرق أَسَانِيد هَذَا
الحَدِيث، وَلَو ثَبت فَهُوَ مَنْسُوخ، وَقد استقضينا
الْكَلَام فِي بَاب وضوء الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء
وَاحِد. وَفِيه: طَهَارَة فضل الْجنب وَالْحَائِض. قَالَ
الدَّرَاورْدِي: وَفِيه: جَوَاز نظر الرجل إِلَى عَورَة
امْرَأَته وَعَكسه، وَيُؤَيِّدهُ مَا رَوَاهُ ابْن حبَان
من طَرِيق سُلَيْمَان بن مُوسَى أَنه سُئِلَ عَن الرجل
ينظر إِلَى فرج امْرَأَته، فَقَالَ: سَأَلت عَطاء فَقَالَ:
سَأَلت عَائِشَة، فَذكرت هَذَا الحَدِيث.
3 - (بابُ الغُسْلِ بِالصَّاعِ وَنَحْوِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْغسْل بِالْمَاءِ قدر
ملْء الصَّاع، لِأَن الصَّاع اسْم للخشبة، فَلَا يتَصَوَّر
الْغسْل بِهِ. قَوْله: (وَنَحْوه) أَي: وَنَحْو الصَّاع من
الْأَوَانِي الَّتِي يسع فِيهَا مَا يسع فِي الصَّاع،
قَالَ الْجَوْهَرِي: الصَّاع الَّذِي يُكَال بِهِ وَهُوَ
أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْجمع أصوع، وَإِن شِئْت أبدلت من
الْوَاو المضمومة همزَة، والصواع لُغَة فِيهِ وَيُقَال:
هُوَ إِنَاء يشرب فِيهِ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الصَّاع
مكيال يسع أَرْبَعَة أَمْدَاد، وَالْمدّ مُخْتَلف فِيهِ،
فَقيل: هُوَ رَطْل وَثلث بالعراقي. وَبِه قَالَ
الشَّافِعِي وفقهاء الْحجاز. وفيل: هُوَ رطلان، وَبِه أَخذ
أَبُو حنيفَة وفقهاء الْعرَاق، فَيكون الصَّاع خَمْسَة
أَرْطَال وَثلثا، أَو ثَمَانِيَة أَرْطَال. وَقَالَ
عِيَاض: جمع الصَّاع أصوِع وآصع، لَكِن الْجَارِي على
الْعَرَبيَّة، أصوع، لَا غير. وَالْوَاحد: صَاع وصواع
وصوع، وَيُقَال: أصؤع، بِالْهَمْزَةِ وَهُوَ مكيال لأهل
الْمَدِينَة مَعْرُوف يسع أَرْبَعَة أَمْدَاد بِمد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ أَبُو عمر:
قَالَ الْخَلِيل: الصَّاع طاس يشرب فِيهِ. وَفِي
(الْمطَالع) يجمع على أصوع وصيعان. وَقَالَ بَعضهم: قَالَ
بعض الْفُقَهَاء من الْحَنَفِيَّة وَغَيرهمَا إِن الصَّاع
ثَمَانِيَة أَرْطَال، وتمسكوا بِمَا روى مُجَاهِد عَن
عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا: أَنه حرز المَاء ثَمَانِيَة
أَرْطَال، وَالصَّحِيح الأول فَإِن الْحِرْز لَا يُعَارض
بِهِ التَّحْدِيد. انْتهى. قلت: هَذ الْعبارَة تدل على أَن
هَذَا الْقَائِل لم يعرف أَنه مَذْهَب الإِمَام أبي
حنيفَة، إِذْ لَو عرف لم يَأْتِ بِهَذِهِ الْعبارَة وَلم
ينْفَرد بِهَذَا بل ذهب إِلَيْهِ أَيْضا إِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ وَالْحجاج بن أَرْطَأَة، وَالْحكم بن عتيبة
وَأحمد فِي رِوَايَة، وتمسكوا فِي هَذَا بِمَا أخرجه
الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح، قَالَ حَدثنَا ابْن أبي
عمرَان، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن شُجَاع وَسليمَان بن
بكار وَأحمد بن مَنْصُور الزيَادي، قَالُوا حَدثنَا يعلى
بن عبيد عَن مُوسَى الْجُهَنِيّ عَن مُجَاهِد. قَالَ:
(دَخَلنَا على عَائِشَة. رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا،
فَاسْتَسْقَى بَعْضنَا فَأتي بعد، قَالَت عَائِشَة كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يغْتَسل بملء هَذَا،
قَالَ مُجَاهِد، فحرزته فِيمَا أحرز ثَمَانِيَة أَرْطَال،
تِسْعَة أَرْطَال،
(3/196)
عشرَة أَرْطَال) وَابْن أبي عمرَان هُوَ:
أَحْمد بن مُوسَى بن عِيسَى الْفَقِيه الْبَغْدَادِيّ نزيل
مصر، وثقة ابْن يُونُس. وَمُحَمّد بن شُجَاع
الْبَغْدَادِيّ أبوعبد الله الثَّلْجِي، بِالتَّاءِ
الْمُثَلَّثَة، فلأجل التَّكَلُّم فِيهِ ذكر مَعَه شيخين
آخَرين. أَحدهمَا: سُلَيْمَان بن بكار أَبُو الرّبيع
الْمصْرِيّ. وَالْآخر: أَحْمد بن مَنْصُور الزِّيَادَة،
شيخ ابْن مَاجَه، وَأَبُو عوَانَة الأسفراثني قَالَ
الدَّارَقُطْنِيّ ثِقَة، ويعلى بن عبيد الإبادي روى لَهُ
الْجَمَاعَة، ومُوسَى بن عبد الله الْجُهَنِيّ الْكُوفِي
روى لَهُ مُسلم وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن
مَاجَه، والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا، قَالَ:
حَدثنَا مُحَمَّد بن عبيد، قَالَ: حَدثنَا يحيى بن
زَكَرِيَّا بن أبي زَائِدَة عَن مُوسَى الْجُهَنِيّ قَالَ:
(أَتَى مُجَاهِد بقدح فَقَالَ: حرزته ثَمَانِيَة أَرْطَال،
فَقَالَ حدثنتي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا:
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يغْتَسل
بِمثل هَذَا) ثمَّ قَالَ المتمسكون بِهِ مُجَاهِد لم يشك
فِي ثَمَانِيَة، وَإِنَّمَا شكّ فِيمَا فَوْقهَا، فَثَبت
الثَّمَانِية بِهَذَا الحَدِيث وانتفى مَا فَوْقهَا. قلت:
الدَّلِيل على عدم شكّ مُجَاهِد فِي الثَّمَانِية رِوَايَة
النَّسَائِيّ، ثمَّ قَول هَذَا الْقَائِل: وَالصَّحِيح
الأول، غير صَحِيح لِأَن الأول فِيهِ ذكر الْفرق، وَهُوَ
كَمَا ترى فِيهِ أَقْوَال، فَكيف يَقُول الْحِرْز لَا
يُعَارض بِهِ التَّحْدِيد؟ فَفِي أَي مَوضِع التحدي
الْمعِين وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، فالمذكور فِيهِ الْفرق، الَّذِي كَانَ يغْتَسل
مِنْهُ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَلم
يذكر مِقْدَار المَاء الَّذِي كَانَ يكون فِيهِ، هَل هُوَ
ملؤه أَو أقل من ذَلِك.
251 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدّثني
شُعْبَةُ قَالَ حدّثني أبِو بَكْرٍ بنُ حَفْصٍ قَالَ أَبَا
سَلَمَةَ يَقُولُ دَخَلْتِ أَنا وَأَخُو عائِشَةَ
فَسَأَلَها أَخُوها عَنْ غَسْلْ النَّبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَدَعَتُ بِإِناء نَحْوٍ منْ صاعٍ
فَاغْتَسَلَتْ وَأَفاضَتْ عَلَى رَأْسِها وَبَيْننَا
وَبَيْنَا حِجابٌ.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد
الْجعْفِيّ المسندي، بِضَم الْمِيم، تقدم فِي بَاب
الْإِيمَان. الثَّانِي: عبد الصَّمد بن عبد الْوَارِث
التنوري، مر فِي كتاب التَّعَلُّم فِي بَاب من أعَاد
الحَدِيث ثلاثاَ الثَّالِث: شُعْبَة بن الحجاح، تكَرر
ذكره. الرَّابِع: أَبُو بكر بن حَفْص بن عمر بن سعد بن أبي
وَقاص، وهومشهور وبالكنية، وَقيل: اسْمه عبد الله.
الْخَامِس: أَبُو سَلمَة عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن
عَوْف مر فِي بَاب الْوَحْي، وَهُوَ ابْن أُخْت عَائِشَة
من الرضَاعَة أَرْضَعَتْه أم كُلْثُوم بنت أبي بكر
الصّديق، رَضِي الله عَنهُ، فعائشة حَالَته. السَّادِس:
أَخُو عَائِشَة من الرضَاعَة، كَمَا جَاءَ مُصَرحًا بِهِ
فِي (صَحِيح مُسلم) واسْمه فِيمَا قيل: عبد الله بن يزِيد،
قَالَه النَّوَوِيّ: وَقَالَ مُسلم فِي (الطَّبَقَات) عبد
الله بن يزِيد رَضِيع عَائِشَة. وَقَالَ الدَّاودِيّ فِي
شَرحه: إِنَّه أَخُوهَا عبد الرَّحْمَن. قيل: إِنَّه وهم
مِنْهُ، وَقيل: هُوَ أَخُوهَا لأمها، وَهُوَ الطُّفَيْل بن
عبد الله. قيل: هُوَ غير صَحِيح، وَالدَّلِيل على فَسَاد
هذَيْن الْقَوْلَيْنِ مَا رَوَاهُ مُسلم من طَرِيق معَاذ
وَالنَّسَائِيّ من طريف خَالِد بن الْحَارِث، وَأَبُو
عوَانَة من طَرِيق يزِيد ابْن هَارُون، كلهم عَن شُعْبَة
فِي هَذَا الحَدِيث أَنه أَخُوهَا من الرضَاعَة، ثمَّ
الَّذِي ادّعى أَنه عبد الله بن يزِيد اسْتدلَّ بِمَا
رَوَاهُ مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن أبي قلَابَة عَن عبد
الله بن يزِيد، رَضِيع عَائِشَة، فَذكر حَدِيثا غير هَذَا.
قلت: لَا يلْزم من هَذَا أَن يكون هُوَ عبد الله بن يزِيد،
لِأَن لَهَا أَخا آخر من الرضَاعَة، وَهُوَ كثير بن عبيد،
رَضِيع عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، روى
عَنْهَا أَيْضا، وَالظَّاهِر أَنه لم يتَعَيَّن،
وَالْأَقْرَب أَنه عبد الرَّحْمَن وَلَا يلْزم من رِوَايَة
مُسلم وَغَيره أَن يتَعَيَّن عبد الله بن زيزيد، لِأَن
الَّذِي سَأَلَهَا عَن غسل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، لَا يتَعَيَّن أَن يكون هُوَ الَّذِي روى عَنهُ
أَبُو قلَابَة فِي الْجَنَائِز. السَّابِع: عَائِشَة
الصديقة بنت الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع وَالسُّؤَال.
وَفِيه: راويات كِلَاهُمَا بالكنية مشهوران ومشاركان فِي
الِاسْم على قَول من يَقُول أَن اسْم أبي بكر: عبد الله.
وَكِلَاهُمَا زهريان ومدنيان.
بَيَان الْمَعْنى واستنباط الْأَحْكَام قَوْله: (يَقُول)
جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال، هَذَا هُوَ الصَّحِيح
إِن: سَمِعت، لَا يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد، وعَلى
قَول من يَقُول: يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، مِنْهُم
الْفَارِسِي، تكون الْجُمْلَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا
مفعول ثانٍ قَوْله: (وأخو عَائِشَة) عطف على الضَّمِير
الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل بعد التوكيد بضمير مُنْفَصِل،
وَهُوَ قَوْله: (أَنا) وَهَذِه الْقَاعِدَة
(3/197)
أَنه لَا يحسن الْعَطف على الضَّمِير
الْمَرْفُوع الْمُتَّصِل بإزار كَانَ أَو مستتراً. إلاَّ
بعد توكيده بضمير مُنْفَصِل نَحْو: {لقد كُنْتُم أَنْتُم
وآباؤكم} (سُورَة الْأَنْبِيَاء: 54) قَوْله: (نَحْو من
صَاع) بِالْجَرِّ والتنوين فِي نَحْو لِأَنَّهُ صفة إِنَاء
وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة (نَحوا) بِالنّصب، فَيحْتَمل
وَجْهَيْن: أَحدهمَا: كَون موصوفه مَنْصُوب الْمحل
لِأَنَّهُ مفعول قَوْله: (فدعَتْ) وَالْآخر: بإضمار:
أَعنِي. وَنَحْوه. قَوْله: (وأفاضت) أَي: أسالت المَاء على
رَأسهَا، وَهَذِه الْجُمْلَة كالتفسير لقَوْله: (فاغتسلت)
قَوْله: (وبيننا وَبَينهَا حجاب) جملَة وَقعت حَالا.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنَّهُمَا
رَأيا عَملهَا فِي رَأسهَا وأعالي جَسدهَا مِمَّا يحل
للْمحرمِ نظره من ذَات الرَّحِم، وَلَوْلَا أَنَّهُمَا
شَاهدا ذَلِك لم يكن لاستدعائها المَاء وطهارتها بحضرتهما
معنى، إِذْ لَو فعلت ذَلِك لكنه فِي ستر عَنْهُمَا لرجع
الْحَال إِلَى وصفهَا لَهما وَإِنَّمَا فعلت السّتْر لستر
أسافل الْبدن وَمَا لَا يحل للْمحرمِ النّظر إِلَيْهَا،
وَفِي فعلهَا هَذَا دلَالَة على اسْتِحْبَاب الْعلم
بِالْفِعْلِ، فَإِنَّهُ أوقع فِي النَّفس من القَوْل، وأدل
عَلَيْهِ وَقَالَ بَعضهم: وَلما كَانَ السُّؤَال مُحْتملا
للكيفية والكمية فَأَتَت لَهما مَا يدل على الْأَمريْنِ
مَعًا أما الْكَيْفِيَّة فبالاقتصار على إفَاضَة المَاء،
وَأما الكمية فبالاكتفاء بالصاع. قلت: لَا نسلم أَن
السُّؤَال عَن الكمية أَيْضا، وَلَئِن سلمنَا فَلم تبين
إلاَّ الْكَيْفِيَّة وَلَا تعرض فِيهِ للكمية لِأَنَّهُ
قَالَ: (فدعَتْ بِإِنَاء نَحْو من صَاع) فَلَا يدل ذَلِك
على حَقِيقَة الكمية، لِأَنَّهَا طلبت إِنَاء مَاء مثل
صَاع، فَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك المَاء ملْء الْإِنَاء أَو
أقل مِنْهُ. وَفِيه: مَا يدل على أَن الْعدَد والتكرار فِي
إفَاضَة المَاء لَيْسَ بِشَرْط، وَالشّرط وُصُول المَاء
إِلَى جَمِيع الْبدن.
قالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ قالَ يَزِيدُ بنُ هَارُونَ
وَبَهْزٌ والجُدِّيُّ عَنْ شُعْبَةَ قَدْرِ صاعٍ.
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه حَاصِل كَلَامه أَن
هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة رووا عَن شُعْبَة بن الْحجَّاج
هَذَا الحَدِيث، وَلَفظه، (قدر صاعٍ) بدل: نَحْو من صَاع،
وَيزِيد بن هَارُون مر فِي بَاب التبرز فِي الْبيُوت،
ونهز، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْهَاء وَفِي
آخِره زَاي مُعْجمَة، ابْن أَسد أَبُو الْأسود الإِمَام
الْحجَّة الْبَصْرِيّ، مَاتَ بمر وَفِي بضع وَتِسْعين
وَمِائَة، والجدي، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد الدَّال.
نِسْبَة إِلَى جدة الَّتِي بساحل الْبَحْر من نَاحيَة
مَكَّة، وَهُوَ عبد الْملك بن إِبْرَاهِيم مَاتَ سنة خمس
وَمِائَتَيْنِ، وَأَصله من جدة لكنه سكن الْبَصْرَة، وروى
لَهُ أَبُو دَاوُد وَالْبُخَارِيّ مَقْرُونا بِغَيْرِهِ.
قَوْله: (عَن شُعْبَة) مُتَعَلق بهؤلاء الثَّلَاثَة،
وَهَذِه مُتَابعَة نَاقِصَة ذكرهَا البُخَارِيّ تَعْلِيقا
أما طريف يزِيد فرواها أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) عَن أبي
بكر بن خَلاد عَن الْحَارِث بن مُحَمَّد عَنهُ، وَكَذَلِكَ
رَوَاهُ أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) وَأما طَرِيق بهز
فرواها الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنَا المنيعي يَعْقُوب
وَأحمد حَدثنَا إِبْرَاهِيم قَالَا: حَدثنَا بهز بن أَسد
حَدثنَا شُعْبَة. وَأما طَرِيق الْجد فَلم أَقف عَلَيْهِ.
قَوْله: (قدر صَاع) تَقْدِيره: فدعَتْ بِإِنَاء قدر صَاع،
وَيجوز الْوَجْهَانِ الْمَذْكُورَان فِي: نَحْو من صَاع،
هَاهُنَا. وَقَالَ بَعضهم: وَالْمرَاد من الرِّوَايَتَيْنِ
أَن الِاغْتِسَال وَقع بملء الصَّاع من المَاء تَقْرِيبًا
لَا تحديداً. قلت: هَذَا الْقَائِل ذكر فِي الْبَاب
السَّابِق من حَدِيث مُجَاهِد عَن عَائِشَة أَنه حرز
الْإِنَاء ثَمَانِيَة أَرْطَال، إِن الحزر لَا يُعَارض
بِهِ التَّحْدِيد، وَنقض كَلَامه هَذَا بقوله: وَالْمرَاد
من الرِّوَايَتَيْنِ إِلَى آخِره.
5 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد قَالَ حَدثنَا يحيى بن
آدم قَالَ حَدثنَا زُهَيْر عَن أبي إِسْحَاق قَالَ حَدثنَا
أَبُو جَعْفَر أَنه كَانَ عِنْد جَابر بن عبد الله هُوَ
وَأَبوهُ وَعِنْده قوم فَسَأَلُوهُ عَن الْغسْل فَقَالَ
يَكْفِيك صَاع فَقَالَ رجل مَا يَكْفِينِي فَقَالَ جَابر
كَانَ يَكْفِي من هُوَ أوفى مِنْك شعرًا وَخير مِنْك ثمَّ
أمنا فِي ثوب) هَذَا أَيْضا مُطَابق للتَّرْجَمَة. (بَيَان
رِجَاله) وهم سَبْعَة الأول عبد الله بن مُحَمَّد
الْجعْفِيّ تقدم عَن قريب الثَّانِي يحيى بن آدم الْكُوفِي
مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَتَيْنِ الثَّالِث زُهَيْر بِضَم
الزَّاي بن مُعَاوِيَة الْكُوفِي ثمَّ الْجَزرِي الرَّابِع
أَبُو اسحق السبيعِي بِفَتْح السِّين عَمْرو بن عبد الله
الْكُوفِي الْخَامِس أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ بن
الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب الْمَعْرُوف بالباقر دفن
بِالبَقِيعِ فِي الْقبَّة الْمَشْهُورَة بِالْعَبَّاسِ
تقدم فِي بَاب من لم ير الْوضُوء إِلَّا من المخرجين.
السَّادِس أَبوهُ هُوَ زين العابدين. السَّابِع جَابر
الصَّحَابِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (بَيَان لطائف
إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة
مَوَاضِع
(3/198)
وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه
السُّؤَال وَالْجَوَاب وَفِيه أَن بَين عبد الله بن
مُحَمَّد وَبَين زُهَيْر يحيى بن آدم قَالَ الغساني قد سقط
ذكر يحيى فِي بعض النّسخ وَهُوَ خطأ إِذْ لَا يتَّصل
الْإِسْنَاد إِلَّا بِهِ وَفِيه أَن أَكثر الروَاة كوفيون
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ قَالَ أخبرنَا قُتَيْبَة
قَالَ أخبرنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن أبي إِسْحَاق عَن أبي
جَعْفَر قَالَ " تمار يُنَافِي الْغسْل عِنْد جَابر بن عبد
الله فَقَالَ جَابر يَكْفِي فِي الْغسْل من الْجَنَابَة
صَاع من مَاء قُلْنَا مَا يَكْفِي صَاع وَلَا صَاعَانِ
قَالَ جَابر قد كَانَ يَكْفِي من كَانَ خيرا مِنْك وَأكْثر
شعرًا ". (بَيَان مَعَانِيه وَإِعْرَابه) قَوْله " هُوَ
وَأَبوهُ " أَي مُحَمَّد بن عَليّ وَأَبوهُ عَليّ بن
الْحُسَيْن قَوْله " وَعِنْده قوم " هَكَذَا فِي أَكثر
النّسخ وَفِي بَعْضهَا " وَعِنْده قومه " وَكَذَا وَقع فِي
الْعُمْدَة قَوْله " فَسَأَلُوهُ عَن الْغسْل " أَي
مِقْدَار مَاء الْغسْل وَفِي مُسْند اسحق بن رَاهَوَيْه
أَن مُتَوَلِّي السُّؤَال هُوَ أَبُو جَعْفَر قَالَ
الْكرْمَانِي الْقَوْم هم السائلون فَلم أفرد الْكَاف
حَيْثُ قَالَ يَكْفِيك صَاع وَالظَّاهِر يَقْتَضِي أَن
يُقَال يَكْفِي كل وَاحِد مِنْكُم صَاع (قلت) السَّائِل
كَانَ شخصا وَاحِدًا من الْقَوْم وأضيف السُّؤَال
إِلَيْهِم لِأَنَّهُ مِنْهُم كَمَا يُقَال النُّبُوَّة فِي
قُرَيْش وَإِن كَانَ النَّبِي مِنْهُم وَاحِدًا أَو يُرَاد
بِالْخِطَابِ الْعُمُوم كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلَو
ترى إِذْ المجرمون ناكسوا رُؤْسهمْ} وَكَقَوْلِه - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بشر الْمَشَّائِينَ فِي
ظلم اللَّيَالِي إِلَى الْمَسَاجِد بِالنورِ التَّام " أَي
يَكْفِي لكل مَا يَصح الْخطاب لَهُ صَاع قَوْله " فَقَالَ
رجل " المُرَاد بِهِ الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أبي
طَالب الَّذِي يعرف أَبوهُ بِابْن الْحَنَفِيَّة مَاتَ فِي
سنة مائَة أَو نَحْوهَا وَاسم الْحَنَفِيَّة خَوْلَة بنت
جَعْفَر وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ " فَقَالَ رجل
مِنْهُم " أَي من الْقَوْم قَوْله " أوفى مِنْك شعرًا "
ارتفاعه بالخبرية وشعرا مَنْصُوب على التَّمْيِيز
وَأَرَادَ بِهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَوْله " وَخير مِنْك " روى بِالرَّفْع
وَالنّصب أما الرّفْع فبكونه عطفا على أوفى وَأما النصب
فبكونه عطفا على الْمَوْصُول أَعنِي قَوْله من فَاتَهُ
مَنْصُوب لِأَنَّهُ مفعول يَكْفِي وَفِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ " وخبرا " بِالنّصب قَوْله " ثمَّ أمنا " أَي
جَابر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَالضَّمِير الْمَرْفُوع
الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَيْهِ وَقَالَ الْكرْمَانِي قَوْله
" ثمَّ أمنا " أما مقول جَابر فَهُوَ مَعْطُوف على قَوْله
" كَانَ يَكْفِي " فالإمام رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَأما مقول أبي جَعْفَر فَهُوَ عطف
على " فَقَالَ رجل " فالإمام جَابر رَضِي الله عَنهُ
وَقَالَ بَعضهم فَاعل أمنا جَابر كَمَا سَيَأْتِي ذَلِك
وَاضحا فِي كتاب الصَّلَاة وَلَا الْتِفَات إِلَى من جعله
مقوله وَالْفَاعِل رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قلت أَرَادَ بِهَذَا الرَّد على الْكرْمَانِي
فِيمَا ذكرنَا عَنهُ وَجزم بقوله أَن الإِمَام جَابر
وَاحْتج عَلَيْهِ بِمَا جَاءَ فِي كتاب الصَّلَاة وَهُوَ
مَا روى عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر قَالَ " رَأَيْت
جَابِرا يُصَلِّي فِي ثوب وَاحِد وَقَالَ رَأَيْت النَّبِي
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُصَلِّي فِي ثوب
" فَإِن كَانَ استدلاله بِهَذَا الحَدِيث فِي رده على
الْكرْمَانِي فَلَا وَجه لَهُ وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى.
(بَيَان استنباط الْأَحْكَام) فِيهِ بَيَان مَا كَانَ
السّلف عَلَيْهِ من الِاحْتِجَاج بِفعل النَّبِي - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والانقياد إِلَى ذَلِك
وَفِيه جَوَاز الرَّد على من يُمَارِي بِغَيْر علم إِذْ
الْقَصْد من ذَلِك إِيضَاح الْحق والإرشاد إِلَى من لَا
يعلم وَفِيه كَرَاهِيَة الْإِسْرَاف فِي اسْتِعْمَال
المَاء وَفِيه اسْتِحْبَاب اسْتِعْمَال قدر الصَّاع فِي
الِاغْتِسَال وَفِيه جَوَاز الصَّلَاة فِي الثَّوْب
الْوَاحِد
253 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدّثنا ابنُ عُيَيْنَةَ
عَنْ عَمْرٍ وعَنْ جَابِرٍ بِنْ زَيْدٍ عَنِ ابنَ عَبَّاسٍ
أنَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَيْمُونةَ
كَانَا يَغْتَسِلاَنِ مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة.
وَجه الْكرْمَانِي فِي ذَلِك بِثَلَاثَة أوجه بالتعسف.
الأول: أَن يُرَاد بِالْإِنَاءِ الْفرق، الْمَذْكُور.
الثَّانِي: أَن الْإِنَاء كَانَ معهوداً عِنْدهم أَنه هُوَ
الَّذِي يسع الصَّاع وَالْأَكْثَر، فَترك تَعْرِيفه
اعْتِمَادًا على الْعرف وَالْعَادَة. الثَّالِث: أَنه من
بَاب اخْتِصَار الحَدِيث، وَفِي تَمَامه مَا يدل عَلَيْهِ،
كَمَا فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله عَنْهَا. وَوَجهه
بَعضهم بِأَن مناسبته للتَّرْجَمَة مستفادة من مُقَدّمَة
أُخْرَى، وَهُوَ أَن أوانيهم كَانَت صغَارًا، فَيدْخل
هَذَا الحَدِيث تَحت قَوْله: وَنَحْوه، وَنَحْو الصَّاع،
أَو يحمل الْمُطلق فِيهِ على الْمُقَيد فِي حَدِيث
عَائِشَة، وَهُوَ: الْفرق لكَون كل مِنْهُمَا زَوْجَة
لَهُ، وَاغْتَسَلت مَعَه، فَيكون حِصَّة كل مِنْهُمَا
أَزِيد من صَاع، فَيدْخل تَحت التَّرْجَمَة بالتقريب. قلت:
مقَال هَذَا الْقَائِل أَكثر تعسفاً وَأبْعد وَجها من
كَلَام الْكرْمَانِي، لِأَن المُرَاد من هَذَا الحَدِيث
جَوَاز اغتسال الرجل وَالْمَرْأَة من إِنَاء وَاحِد،
وَهَذَا هُوَ مورد الحَدِيث، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ
بَيَان مِقْدَار الْإِنَاء، وَالْبَاب فِي بَيَان
الْمِقْدَار فَمن أَيْن يلتثم وَجه التطابق بَينه وَبَين
الْبَاب؟ وَقَوله: لكَون كل مِنْهُمَا زَوْجَة لَهُ،
كَلَام من لم
(3/199)
يمس شَيْئا من الْأُصُول، وَيكون كل وَاحِد
مِنْهُمَا امْرَأَة لَهُ، كَيفَ يكون وَجها لحمل الْمُطلق
على الْمُقَيد؟ مَعَ أَن الأَصْل أَن يجْرِي الْمُطلق على
إِطْلَاقه والمقيد على تَقْيِيده، وَالْحمل لَهُ مَوَاضِع
عرفت فِي موَاضعهَا.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن
دُكَيْن تقدم فِي بَاب فضل من اسْتَبْرَأَ لدينِهِ.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة الثَّالِث: عَمْرو بن
دِينَار. الرَّابِع: جَابر بن زيد الْأَزْدِيّ، أَبُو
الشعْثَاء الْبَصْرِيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث وَمِائَة.
الْخَامِس: عبد الله بن عَبَّاس، وَفِي (مُسْند الْحميدِي)
هَكَذَا حَدثنَا سُفْيَان. أخبرنَا عَمْرو. قَالَ:
أَخْبرنِي أَبُو الشعْثَاء. وَهُوَ جَابر بن زيد
الْمَذْكُور.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع
فِي موضِعين وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مواضعوفيه: عَن
ابْن عَبَّاس أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِيه
اخْتِلَاف، وَمِنْهُم من يَقُول: لَا فرق بَينهمَا،
وَمِنْهُم من يَقُول: بَينهمَا فرق وَإِلَيْهِ ذهب
البُخَارِيّ وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومكي
وبصري.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن
قُتَيْبَة، وَأبي بكر بن أبي شيبَة، وَالتِّرْمِذِيّ فِيهِ
عَن ابْن أبي عمر، وَالنَّسَائِيّ فِيهِ عَن يحيى بن
مُوسَى، وَابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة
أربعتهم عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن أبي
الشعْثَاء عَن ابْن عَبَّاس بِهِ وَاللَّفْظ (كنت اغْتسل
أَنا وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من إِنَاء
وَاحِد من الْجَنَابَة) .
قَالَ أبُو عَبْدِ اللَّهِ كانَ ابْنُ عُيَيْنَةَ يَقُول
أخيراً عنِ ابنِ عبَّاسِ عنْ مَيْمُونَةَ والصَّحْيحُ مَا
رواهِ أبُو نَعَيمٍ
أبوعبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله: (كَانَ ابْن
عُيَيْنَة) أَي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَهَذَا تَعْلِيق
من البُخَارِيّ، وَلم يقل: وَقَالَ ابْن عُيَيْنَة، بل
قَالَ. كَانَ ليدل على أَنه فِي الْأَخير، أَي: فِي آخر
عمره كَانَ مُسْتَقرًّا على هَذِه الرِّوَايَة، فعلى هَذَا
التَّقْدِير الحَدِيث من مسانيد مَيْمُونَة، وعَلى الأول
من مسانيد ابْن عَبَّاس. قَوْله: (وَالصَّحِيح) أَي: فِي
الرِّوَايَتَيْنِ، (مَا رَوَاهُ أَبُو نعيم) الْمَذْكُور،
وَهُوَ أَنه من مسانيد ابْن عَبَّاس، وَهَذَا من كَلَام
البُخَارِيّ وَهُوَ الْمُصَحح لَهُ وَصَححهُ
الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا وَرجح الْإِسْمَاعِيلِيّ أَيْضا
مَا صَححهُ البُخَارِيّ بِاعْتِبَار أَن هَذَا الْأَمر لَا
يطلع عَلَيْهِ من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ
مَيْمُونَة، فَدلَّ على أَنه أَخذه عَن خَالَته
مَيْمُونَة، وَالْأَرْبَعَة المذكورون أَخْرجُوهُ عَن ابْن
عَبَّاس عَن مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والمستفاد من الحَدِيث جَوَاز اغتسال الرجل وَالْمَرْأَة
من إِنَاء وَاحِد.
4 - (بابُ مَنْ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلاثاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من أَفَاضَ المَاء على رَأسه
ثَلَاث مَرَّات.
والمناسبة بَين هَذِه الْأَبْوَاب ظَاهِرَة، لِأَن كلهَا
فِي أَحْكَام الْغسْل وهيئته.
254 - حدّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدّثنا زُهَيْر عَنْ أبي
إسْحَاقَ قَالَ حدّثني سُلَيْمانُ بنُ صُرْدِ قَالَ
حَدثنِي يَبْرِ بنُ مُطْعِمٍ قَالَ رسولُ اللَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أمَّا أنَا فَافِيضُ عَلَى رَأْسِي ثَلاثاً
وأشارَ بِيَدَيْهِ كِلْتَيْهِما.
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: أَبُو نعيم الْفضل بن
دُكَيْن، وَزُهَيْر بن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، وَأَبُو
إِسْحَاق السبيعِي عَمْرو بن عبد الله، وَسليمَان بن صرد،
بِضَم الصَّاد وَفتح الرَّاء بعدهمَا الدَّال المهملات من
أفاضل الصَّحَابَة روى لَهُ خَمْسَة عشر حَدِيثا وَأخرج
البُخَارِيّ مِنْهَا اثْنَيْنِ سكن الْكُوفَة أول مَا نزل
بهَا الْمُسلمُونَ، خرج أَمِيرا فِي أَرْبَعَة آلَاف
يطْلبُونَ دم الْحسن، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سموا
بالتوابين، وَهُوَ أَمِيرهمْ، فَقتله عَسْكَر عبيد الله بن
زِيَاد بالجزيرة سنة خَمْسَة وَسِتِّينَ، وَجبير، بِضَم
الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَالرَّاء ابْن مطعم، بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من
الْإِطْعَام، الْقرشِي النَّوْفَلِي، رُوِيَ لَهُ سِتُّونَ
حَدِيثا أخرج البُخَارِيّ مِنْهَا تِسْعَة كَانَ من
سَادَات قُرَيْش مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَخمسين.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين وَفِيه: العنعنة
فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن إِسْنَاده عَن أبي نعيم
أَعلَى من إِسْنَاد حَدِيث الْبَاب الأول عَن. وَفِيه:
رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ. وَفِيه: رِوَايَة
الأقران.
(3/200)
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي
ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي
بكر بن أبي شيبَة وَيحيى بن يحيى، وقتيبة، ثَلَاثَتهمْ عَن
أبي الْأَحْوَص. وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كِلَاهُمَا
عَن غنْدر عَن شُعْبَة. ثَلَاثَتهمْ عَن أبي إِسْحَاق
عَنهُ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن النَّوْفَلِي
عَن زُهَيْر بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
قُتَيْبَة، وَعَن عبيد الله بن سعيد عَن يحيى بن سعيد
وَعَن سُوَيْد بن نصر عَن ابْن الْمُبَارك، كِلَاهُمَا عَن
شُعْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (أما أَنا فأفيض) بِضَم
الْهمزَة من الْإِفَاضَة، وَهِي الإسالة. قَالَ
الْكرْمَانِي: أما للتفصيل فَإِنِّي قسيمه؟ قتل: اقْتِضَاء
القسيم غير وَاجِب، وَلَئِن سلمنَا فَهُوَ مَحْذُوف يدل
عَلَيْهِ السِّيَاق روى مُسلم فِي صَحِيحه (أَن
الصَّحَابَة تماروا فِي صفة الْغسْل عِنْد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: أما
أَنا فأفيض) أَي: وَأما غَيْرِي فَلَا يفِيض، أَو فَلَا
أعلم حَاله كَيفَ يعلم، وَنَحْوه. انْتهى قلت: التَّحْقِيق
وَفِي هَذَا الْموضع أَن كلمة أما بِالْفَتْح والتشدي حرف
شَرط وتفصيل وتوكيد، وَالدَّلِيل على الشَّرْط لُزُوم
الْفَاء بعْدهَا، نَحْو {فَأَما الَّذين آمنُوا فيعلمون
أَنه الْحق} (سُورَة الْبَقَرَة: 26) وَالتَّفْصِيل نَحْو
قَوْله تَعَالَى: {وأمَّا السَّفِينَة فَكَانَت لمساكين
وَأما الْغُلَام وَأما الْجِدَار} (سُورَة الْكَهْف: 79،
80) وَأما التوكيد فقد ذكره الزَّمَخْشَرِيّ، فَإِنَّهُ
قَالَ: فَائِدَة أمَّا فِي الْكَلَام أَن تعطيه فضل توكيد
تَقول: زيد ذَاهِب قصدت ذَلِك، وَإنَّهُ لَا محَالة ذَاهِب
وَإنَّهُ بصدد الذّهاب وَإنَّهُ مِنْهُ فَإِذا عَزِيمَة
قلت: أمَّا زيد فذاهب وَهنا أَيْضا للتَّأْكِيد فَلَا
حَاجَة إِلَى القسيم، وَلَا يحْتَاج إِلَى أَن يُقَال:
إِنَّه مَحْذُوف وأمَّا الَّذِي رَوَاهُ مُسلم فَهُوَ من
طَرِيق أبي الْأَحْوَص عَن إِسْحَاق (تماروا فِي الْغسْل
عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَقَالَ بعض
الْقَوْم: أمَّا أَنا فأغسل رَأْسِي بِكَذَا وَكَذَا)
فَذكر الحَدِيث. وَقَالَ بَعضهم: هَذَا هُوَ القسيم
الْمَحْذُوف. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا لِأَن
الْوَاجِب أَن يُعْطي حق كل كَلَام بِمَا يَقْتَضِيهِ،
الْحَال فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير شَيْء من حَدِيث
رُوِيَ من طَرِيق، لأجل حَدِيث آخر فِي بَابه من طَرِيق
آخر. قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث أكف، وَهَكَذَا فِي
رِوَايَة مُسلم، وَالْمعْنَى: ثَلَاث حفنات كل وَاحِدَة
مِنْهُنَّ بملء الْكَفَّيْنِ جَمِيعًا، وَيدل عَلَيْهِ
أَيْضا مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده: (فآخذ ملْء كفي
ثَلَاثًا فأصب على رَأْسِي) وَمَا رَوَاهُ أَيْضا عَن أبي
هرير: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصب
بِيَدِهِ على رَأسه ثَلَاثًا) وَفِي (مُعْجم)
الْإِسْمَاعِيلِيّ: (إِن وَفد ثَقِيف سَأَلُوا النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالُوا: إِن أَرْضنَا بَارِدَة
فَكيف نَفْعل فِي الْغسْل؟ فَقَالَ: فأفرغ على رَأْسِي
ثَلَاثًا) وَفِي (أَوسط) الطَّبَرَانِيّ مَرْفُوعا: (تفرغ
بيمينك على شمالك، ثمَّ تدخل يدك فِي الْإِنَاء فتغسل فرجك
وَمَا أَصَابَك ثمَّ تَوَضَّأ للصَّلَاة ثمَّ تفرغ على
رَأسك ثَلَاث مَرَّات، تدلك رَأسك كل مرّة) وَقَالَ
الدودي: الحفنة بِالْيَدِ الْوَاحِد. وَقَالَ غَيره:
باليدين جَمِيعًا والْحَدِيث الْمَذْكُور يدل عَلَيْهِ،
والحثية بِالْيَدِ الْوَاحِدَة، وَبِمَا ذكرنَا سقط قَول
بَعضهم: إِن لَفظه ثَلَاثًا، مُحْتَملَة للتكرار، ومحتملة
لِأَن يكون للتوزيع على جَمِيع الْبدن، قَوْله: (وَأَشَارَ
بيدَيْهِ) من كَلَام جُبَير بن مطعم، أَي: أَشَارَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيدَيْهِ الثِّنْتَيْنِ،
كَمَا قُلْنَا: إِن كل حفْنَة ملْء الْكَفَّيْنِ. قَوْله:
(كلتيهما) كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني كِلَاهُمَا. وَحكى ابْن التِّين فِي
بعض الرِّوَايَات (كلتاهما) . قلت: كَون كلا وكلتا عِنْد
إِضَافَته إِلَى الضَّمِير فِي الْأَحْوَال الثَّلَاثَة
بِالْألف لُغَة من يراهما تَثْنِيَة وَإِن التَّثْنِيَة
لَا تَتَغَيَّر كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(إِن أَبَاهَا وَأَبا أَبَاهَا ... قد بلغا فِي الْمجد
غابتاها)
وَأما وَجه رِوَايَة الْكشميهني كِلَاهُمَا بِدُونِ
التَّاء فبالنظر إِلَى اللَّفْظ دون الْمَعْنى.
ويستنبط مِنْهُ أَن الْمسنون فِي الْغسْل أَن يكون ثَلَاث
مَرَّات، وَعَلِيهِ إِجْمَاع الْعلمَاء. وَأما الْفَرْض
مِنْهُ فَغسل سَائِر الْبدن بِالْإِجْمَاع، وَفِي
الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق خلاف مَشْهُور. وَقَالَت
الشَّافِعِيَّة إستحباب صب المَاء على الرَّأْس ثَلَاثًا
مُتَّفق عَلَيْهِ، وَألْحق بِهِ أَصْحَابنَا سَائِر
الْجَسَد قِيَاسا على الرَّأْس، وعَلى أَعْضَاء الْوضُوء،
وَهُوَ أولى بِالثلَاثِ من الْوضُوء فَإِن الْوضُوء
مَبْنِيّ على التَّخْفِيف مَعَ تكراره، فَإِذا اسْتحبَّ
فِيهِ الثَّلَاث فالغسل أولى. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَلَا
نعلم فِيهِ خلافًا إلاَّ مَا تفرد بِهِ الْمَاوَرْدِيّ
حَيْثُ قَالَ: لَا يسْتَحبّ التّكْرَار فِي الْغسْل وَهُوَ
شَاذ مَتْرُوك، ورد عَلَيْهِ بِأَن الشَّيْخ أباعلي السنجي
قَالَه أَيْضا ذكره فِي (شرح الْفُرُوع) فَلم ينْفَرد
بِهِ، وَنقل ابْن التِّين عَن الْعلمَاء أَنه يحْتَمل أَن
يكون هَذَا على مَا شرع فِي الطَّهَارَة من التّكْرَار
وَأَن يكون التَّمام الطَّهَارَة، لِأَن الغسلة
الْوَاحِدَة لَا تجزىء فِي اسْتِيعَاب غسل الرَّأْس.
قَالَ: وَقيل: ذَلِك مُسْتَحبّ، وَمَا أسغ أَجْزَأَ،
وَكَذَا قَالَ ابْن بطال: الْعدَد فِي ذَلِك مُسْتَحبّ
عِنْد الْعلمَاء، وَمَا هم وأسبغ أَجْزَأَ.
(3/201)
255 - حدّثنا مُحَمَّدْ بنُ بَشِّارٍ قَالَ
حدّثنا غُنْدَرُ قَالَ حدّثنا شُعْبَةُ عَنْ مِحْوِلِ بِنِ
رَاشِدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَلَيّ عَنْ جَابِرِ بنِ
عَبْدَ اللَّهِ قَالَ كانِ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يُفْرِغُ عَلى رَأْسِهِ ثَلاثاً.
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن بشار،
بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد الشين الْمُعْجَمَة
والملقب ببندار. الثَّانِي: غنْدر، بِضَم الْغَيْن
الْمُعْجَمَة وَسُكُون النُّون وَفتح الدَّار الْمُهْملَة
على الْأَصَح، واسْمه: مُحَمَّد بن جَعْفَر الْبَصْرِيّ،
وَكَانَ إِمَامًا وَكَانَ شُعْبَة زوج أمه. الثَّالِث: من
الْحجَّاج. الرَّابِع: مخول، بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من
التخويل بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة ويروي بِكَسْر الْمِيم
وَسُكُون الْخَاء، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ عَن أبي
ذَر، وَرِوَايَة الأكيرين، بِكَسْر الْمِيم، وَرِوَايَة
ابْن عَسَاكِر بِضَم الْمِيم، ابْن رَاشد، بالشين
الْمُعْجَمَة: النَّهْدِيّ، بالنُّون: الْكُوفِي روى لَهُ
الْجَمَاعَة. الْخَامِس: مُحَمَّد بن عَليّ أَبُو جَعْفَر
المقلب بالباقر، تقدم ذكره. السَّادِس: جَابر بن عبدا لله.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: حَدثنِي مُحَمَّد بن بشار
بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَدثنَا بِصِيغَة الْجمع. وَفِيه:
التحديث أَيْضا بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه:
العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا
بَين بَصرِي وكوفي ومدني، وَلَيْسَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
مُحَمَّد بن بشار غَيره، وَلَيْسَ المخول بن رَاشد فِي
البُخَارِيّ غَيره، وَهُوَ عَزِيز، انْفَرد بِهِ
البُخَارِيّ.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن
مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن
شُعْبَة. قَوْله: (يفرغ) بِضَم الْيَاء من إلاّ فرَاغ.
قَوْله: (ثَلَاثًا) أَي: ثَلَاث غرفات، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ قَالَ: أَظُنهُ من غسل الْجَنَابَة.
9 - (حَدثنَا أَبُو نعيم قَالَ حَدثنَا معمر بن يحيى بن
سَام قَالَ حَدثنِي أَبُو جَعْفَر قَالَ قَالَ لي جَابر
وأتاني ابْن عمك يعرض بالْحسنِ بن مُحَمَّد بن
الْحَنَفِيَّة قَالَ كَيفَ الْغسْل من الْجَنَابَة فَقلت
كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَأْخُذ ثَلَاثَة أكف ويفيضها على رَأسه ثمَّ يفِيض على
سَائِر جسده فَقَالَ لي الْحسن إِنِّي رجل كثير الشّعْر
فَقلت كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم
َ - أَكثر مِنْك شعرًا) ظُهُور مُطَابقَة هَذَا أَيْضا
للتَّرْجَمَة وَاضح. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول
أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي معمر بِفَتْح
الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة فِي أَكثر
الرِّوَايَات وَبِه جزم الْحَافِظ الْمزي وَفِي رِوَايَة
الْقَابِسِيّ بِضَم الْمِيم الأولى وَتَشْديد الْمِيم
الثَّانِيَة على وزن مُحَمَّد وَبِه جزم الْحَاكِم
وَلَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إِلَّا هَذَا الحَدِيث وَقد
ينْسب إِلَى جده سَام فَيُقَال معمر ابْن سَام وَهُوَ
بِالسِّين الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْمِيم الثَّالِث أَبُو
جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر. الرَّابِع جَابر بن عبد
الله الصَّحَابِيّ. الْخَامِس الْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ
(ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه
القَوْل من اثْنَيْنِ فِي موضِعين وَفِيه أَن رُوَاته مَا
بَين بَصرِي وكوفي ومدني. (ذكر مَعَانِيه وَإِعْرَابه)
قَوْله " ابْن عمك " فِيهِ مُسَامَحَة إِذْ الْحسن هُوَ
ابْن عَم أَبِيه لَا ابْن عَمه قَوْله " يعرض بالْحسنِ "
جملَة وَقعت حَالا من جَابر والتعريض خلاف التَّصْرِيح من
حَيْثُ اللُّغَة وَمن حَيْثُ الِاصْطِلَاح هُوَ عبارَة عَن
كِنَايَة مسوقة لأجل مَوْصُوف غير مَذْكُور وَقَالَ
الزَّمَخْشَرِيّ التَّعْرِيض أَن تذكر شَيْئا تدل بِهِ على
شَيْء لم تذكره وَهَهُنَا سُؤال الْحسن بن مُحَمَّد عَن
جَابر بن عبد الله عَن كَيْفيَّة الْغسْل من الْجَنَابَة
وَفِي الحَدِيث الْمَذْكُور قبل هَذَا الْبَاب السُّؤَال
عَن الْغسْل وَقع عَن جمَاعَة بِغَيْر لَفْظَة كَيفَ
وَوَقع جَوَابه هُنَاكَ بقوله " يَكْفِيك صَاع " وَهَهُنَا
جَوَابه بقوله " كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يَأْخُذ ثَلَاثَة أكف " الخ وَالسُّؤَال فِي
موضِعين عَن الْكَيْفِيَّة غير أَنه لم يذكر لفظ كَيفَ
هُنَاكَ اختصارا وَالْجَوَاب فِي الْمَوْضِعَيْنِ بالكمية
لِأَن هُنَاكَ قَالَ " يَكْفِيك صَاع " وَهَهُنَا قَالَ "
ثَلَاثَة أكف " وكل مِنْهُمَا كم وَقَول بَعضهم السُّؤَال
فِي الأول عَن الكمية أشعر بذلك قَوْله فِي الْجَواب
يَكْفِيك صَاع لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ اغْترَّ بِظَاهِر
قَوْله هَهُنَا كَيفَ الْغسْل وَقد ذكرنَا أَن لفظ كَيفَ
هُنَاكَ مطوية لِأَن السُّؤَال فِي موضِعين عَن حَالَة
الْغسْل وَصفته بِلَفْظ كَيفَ
(3/202)
لِأَنَّهَا تدل على الْحَالة (فَإِن قلت)
كَيفَ تَقول السُّؤَال فِي موضِعين عَن حَالَة الْغسْل
وَالْجَوَاب بالكمية (قلت) الْحَالة هِيَ الْكَيْفِيَّة
وللغسل حَقِيقَة وَحَالَة فحقيقته إسالة المَاء على سَائِر
الْبدن وحالته اسْتِعْمَال مَاء نَحْو صَاع أَو ثَلَاث أكف
مِنْهُ وَلم يكن السُّؤَال عَن حَقِيقَة الْغسْل
وَإِنَّمَا كَانَ عَن حَاله فَوَقع الْجَواب بالكم فِي
الْمَوْضِعَيْنِ لِأَن كَيفَ وَكم من الْعَوَارِض المنحصرة
فِي المقولات التسع فطابق الْجَواب السُّؤَال وَالنَّبِيّ
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مَا بعث لبَيَان
الْحَقَائِق وَإِنَّمَا بعث لبَيَان الْأَحْكَام
وَالْأَحْكَام من عوارض الْحَقَائِق قَوْله " ثَلَاثَة أكف
" هِيَ رِوَايَة كَرِيمَة بِالتَّاءِ وَفِي رِوَايَة
غَيرهَا " ثَلَاث أكف " بِغَيْر التَّاء قَالَ
الْكرْمَانِي فَإِن قلت الْكَفّ مُؤَنّثَة فَلم دخل
التَّاء فِي الثَّلَاثَة (قلت) المُرَاد من الْكَفّ قدر
الْكَفّ وَمَا فِيهَا فباعتباره دخلت أَو بِاعْتِبَار
الْعُضْو (قلت) فِي الْجَواب الأول نظر وَالثَّانِي لَا
بَأْس بِهِ وَالْأَحْسَن أَن يَقُول الْكَفّ يذكر وَيُؤَنث
فَيجوز دُخُول التَّاء وَتَركه على الاعتبارين وَالْمرَاد
أَنه يَأْخُذ فِي كل مرّة كفين لِأَن الْكَفّ اسْم جنس
فَيجوز حمله على الِاثْنَيْنِ وَالدَّلِيل عَلَيْهِ
رِوَايَة اسحق ابْن رَاهَوَيْه من طَرِيق حسن بن صَالح عَن
جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ فِي آخر الحَدِيث
(وَبسط يَدَيْهِ) وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث جُبَير بن مطعم
الَّذِي فِي أول الْبَاب قَوْله " فيفيضها على رَأسه "
وَفِي بعض النّسخ بِدُونِ على قَوْله " ثمَّ يفِيض " أَي
المَاء (فَإِن قلت) لم لَا يكون مَفْعُوله الْمَحْذُوف
ثَلَاثَة أكف بِقَرِينَة عطفه عَلَيْهِ (قلت) لِأَن
الثَّلَاثَة الأكف لَا يَكْفِي لسَائِر جسده عَادَة قَوْله
" كثير الشّعْر " أَي لَا يَكْفِي هَذَا الْقدر من المَاء
فَقَالَ كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - أَكثر شعرًا مِنْك وَقد كَفاهُ. وَمِمَّا
يستنبط مِنْهُ جَوَاز الِاكْتِفَاء بِثَلَاث غرف على
الرَّأْس وَإِن كَانَ كثير الشّعْر وَفِيه تَقْدِيم ذَلِك
على إفَاضَة المَاء على جسده وَفِيه الْحَث على السُّؤَال
عَن أَمر الدّين من الْعلمَاء وَفِيه وجوب الْجَواب عِنْد
الْعلم بِهِ وَفِيه دلَالَة على مُلَازمَة النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على ثَلَاثَة أكف
فِي الْغسْل لِأَن لَفْظَة كَانَ تدل على الِاسْتِمْرَار
5 - (بابُ الغُسْل مَرَّةً وَاحِدَةً)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْغسْل مرّة وَاحِدَة.
257 - حدّثنا مُوسَى قالَ حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ عَنِ
الأَعْمَشِ عَنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ
عَنِ ابنِ عَبَّاسِ قالَ قالتْ مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ
للنَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاء لِلْغَسْلِ
فَغَسَلَ يَدَيْهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثاً ثُمَّ
أَفْرَغَ عَلَى شِمالِهِ فَغَسَلَ مَذَاكِيرَهُ ثُمَّ
مَسَحَ يَدَهُ بِالأَرْضِ ثُمَّ مَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ
وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ علَى جَسَدِهِ
ثُمَّ تَحَوَّلَ مِنْ مَكَانِهِ فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ..
تكلّف ابْن بطال لتطبيق الحَدِيث على التَّرْجَمَة.
فَقَالَ: مَوضِع التَّرْجَمَة من الحَدِيث فِي لفظ: (ثمَّ
أَفَاضَ على جسده) وَلم يذكر: مرّة وَلَا مرَّتَيْنِ،
فَحمل على أقل مَا يُسمى غسلا، وَهُوَ: مرّة وَاحِدَة،
وَالْعُلَمَاء أَجمعُوا على أَنه لَيْسَ الشَّرْط فِي
الْغسْل إلاَّ الْعُمُوم والإسباغ لَا عددا من المرات قلت:
فِي هَذَا الحَدِيث عشرَة أَحْكَام على مَا ترى فَمَا وَجه
وضع التَّرْجَمَة على حكم وَاحِد مِنْهَا وَمَا ثمَّ
زِيَادَة فَائِدَة يعم لَو ذكر تراجم لبَقيَّة الْأَحْكَام
وَلم يبْق إلاَّ هَذَا لَكَانَ لَهُ وَجه وَهَذَا الحَدِيث
وَاحِد، وَإِنَّمَا قِطْعَة لوضع التراجم على أَن
قَوْلهَا: (ثمَّ أَفَاضَ) ، يتَنَاوَل الْقَلِيل
وَالْكثير، فَتكون مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سِتَّة: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
النبوذكي، وَعبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْبَصْرِيّ.
وَالْأَعْمَش سُلَيْمَان وَهُوَ وَسَالم بن أبي الْجَعْد
وكريب تقدمُوا فِي بَاب الْوضُوء قبل الْغسْل.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة
فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَالْقَوْل.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم وَالْأَرْبَعَة أَيْضا، وَقد
ذَكرْنَاهُ فِي بَاب: الْوضُوء قبل الْغسْل.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (فَغسل يَدَيْهِ) بالتثنية فِي
رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره (يَده)
بِالْإِفْرَادِ قَوْله: (أَو ثَلَاثًا) الشَّك من
مَيْمُونَة، قَالَه الْكرْمَانِي، وَقَالَ بَعضهم: الشَّك
من الْأَعْمَش، كَمَا سَيَأْتِي من رِوَايَة أبي عوَانَة
عَنهُ وعقل الْكرْمَانِي فَقَالَ: الشَّك من مَيْمُونَة.
قلت: هَذَا مر فِي بَاب من أفرغ بِيَمِينِهِ على شِمَاله
فِي الْغسْل، وَلَفظه: (فغسلهما مرّة أَو مرَّتَيْنِ) ،
قَالَ سُلَيْمَان: لَا أَدْرِي أذكر الثَّلَاثَة أم لَا،
وَسليمَان هُوَ الْأَعْمَش، وَلَكِن الشَّك هَاهُنَا بَين
مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَهُنَاكَ بَين مرّة أَو
مرَّتَيْنِ،
(3/203)
فعلى هَذَا تعين الشَّك من الْأَعْمَش،
لَكِن مَوْضِعه مُخْتَلف. قَوْله: (فَغسل مذاكيره) هُوَ
جمع ذكر على خلاف الْقيَاس كَأَنَّهُمْ فرقوا بَين الذّكر
الَّذِي هُوَ خلاف الْأُنْثَى، وَالذكر الَّذِي هُوَ
الْفرج فِي الْجمع، وَقَالَ الْأَخْفَش: هُوَ جمع لَا
وَاحِد لَهُ، كأبابيل. قلت قيل: إِن الأبابيل جمع أبول:
كعجاجيل جمع عجول. وَقيل: هُوَ جمع مذكار، وَلَكنهُمْ لم
يستعملوه وتركوه، والنكتة فِي ذكره بِلَفْظ الْجمع
الْإِشَارَة إِلَى تَعْمِيم غسل الخصيتين وحواليهما
كَأَنَّهُ جعل كل جُزْء من هَذَا الْمَجْمُوع كذكر فِي حكم
الْغسْل.
وَالْأَحْكَام الَّتِي تستنبط مِنْهَا قد مر ذكرهَا.
6 - (بابُ مَنْ بَدَأَ بالحِلابِ أَوْ الطِيّبِ عِنْدَ
الغُسْلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الَّذِي بَدَأَ بالحلاب
إِلَى آخِره؛ اسْتشْكل الْقَوْم فِي مُطَابقَة هَذِه
التَّرْجَمَة لحَدِيث الْبَاب، فافترقوا ثَلَاث فرق:
الْفرْقَة الأولى: قد نسبوا البُخَارِيّ إِلَى الْوَهم
والغلط، مِنْهُم الْإِسْمَاعِيلِيّ فَإِنَّهُ قَالَ فِي
(مستخرجه) رحم الله أَبَا عبد الله. يَعْنِي من ذَا
الَّذِي يسلم من الْغَلَط، سبق إِلَى قلبه أَن الحلاب طيب،
أَي: معنى للطيب عِنْد الِاغْتِسَال قبل الْغسْل،
وَإِنَّمَا الحلاب إِنَاء يحلب فِيهِ وَيُسمى محلباً
أَيْضا، وَهَذَا الحَدِيث لَهُ طَرِيق يتَأَمَّل المتأمل
بَيَان ذَلِك حَيْثُ جَاءَ فِيهِ، كَانَ يغْتَسل من حلاب،
رَوَاهُ هَكَذَا أَيْضا ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان وروى
أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن يزِيد بن سِنَان عَن أبي
عَاصِم بِلَفْظ: (كَانَ يغْتَسل من حلاب، فَيَأْخُذ غرفَة
بكفيه فيجعلها على شقَّه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر) كَذَا
الحَدِيث بقوله: (يغْتَسل) وَقَوله: (غرفَة) أَيْضا مِمَّا
يدل على أَن الحلاب إِنَاء المَاء وَفِي رِوَايَة لِابْنِ
حبَان وَالْبَيْهَقِيّ: (ثمَّ صب على شقّ رَأسه الْأَيْمن)
، وَالطّيب لَا يغبر عَنهُ بالصب وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ
من طَرِيق بنْدَار عَن أبي عَاصِم بِلَفْظ: (كَانَ إِذا
أَرَادَ أَن يغْتَسل من الْجَنَابَة دَعَا بِشَيْء دون
الحلاب، فَأخذ بكفه، فَبَدَأَ بالشق الْأَيْمن ثمَّ
الْأَيْسَر ثمَّ أَخذ بكفيه مَاء فأفرغ على رَأسه) فلولا
قَوْله: (مَاء) لأمكن حمله على الطّيب قبل الْغسْل،
وَرِوَايَة أبي عوَانَة أصرح من هَذِه وَمن هَؤُلَاءِ
الْفرْقَة ابْن الْجَوْزِيّ حَيْثُ قَالَ: غلط جمَاعَة فِي
تَفْسِير الحلاب، مِنْهُم البُخَارِيّ، فَإِنَّهُ ظن أَن
الحلاب شَيْء من الطّيب، الْفرْقَة الثَّانِيَة: مِنْهُم
الْأَزْهَرِي، قَالُوا هَذَا تَصْحِيف وَإِنَّمَا هُوَ:
جلاب، بِضَم الْجِيم وَتَشْديد اللَّام، وَهُوَ مَاء
الْورْد فَارسي مُعرب. الْفرْقَة الثَّالِثَة: مِنْهُم
الْمُحب الطَّبَرِيّ، قَالُوا لم يرد البُخَارِيّ بقوله:
أَو الطّيب، مَا لَهُ عرف طيب، وَإِنَّمَا أَرَادَ تطييب
الْبدن وَإِزَالَة مَا فِيهِ من وسخ، ودرن ونجاسة إِن
كَانَت، وَإِنَّمَا أَرَادَ بالحلاب الْإِنَاء الَّذِي
يغْتَسل مِنْهُ، يبْدَأ بِهِ فَيُوضَع مَاء الْغسْل. قَالَ
الْمُحب: وَكلمَة. أَو فِي قَوْله: أَو الطّيب بِمَعْنى
الْوَاو، كَذَا اثْبتْ فِي بعض الرِّوَايَات أَقُول،
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق، لَا يظنّ أحد أَن البُخَارِيّ
أَرَادَ بالحلاب ضربا من الطّيب لِأَن قَوْله: أَو الطّيب
بِرَفْع ذَلِك، وَلم يرد إلاَّ إِنَاء يوضع فِيهِ مَاء
قَالَ الْخطابِيّ: الحلاب إِنَاء يسع قدر حلبة نَاقَة،
وَالدَّلِيل على أَن الحلاب ظرف قَول الشَّاعِر:
(صَاح هَل رَأَيْت أَو سَمِعت يراع ... رد فِي الضَّرع مَا
بَقِي فِي الحلاب)
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: الحلاب والمحلب بِكَسْر الْمِيم،
وعَاء يملؤه قدر حلب النَّاقة، وَمن الدَّلِيل على أَن
المُرَاد من الحلاب غير الطّيب عطف الطّيب، عَلَيْهِ
بِكَلِمَة. أَو، وَجعله قسيماً لَهُ، وَبِهَذَا ينْدَفع
مَا قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ: إِن البُخَارِيّ سبق إِلَى
قلبه أَن الحلاب طيب، وَكَيف يسْبق إِلَى قلبه ذَلِك وَقد
عطف، الطّيب، عَلَيْهِ والمعطوف غير الْمَعْطُوف عَلَيْهِ؟
وَكَذَلِكَ دَعْوَى الْأَزْهَرِي التَّصْحِيف غير
صَحِيحَة، لِأَن الْمَعْرُوف من الرِّوَايَة الْمُهْملَة،
وَالتَّخْفِيف، وَكَذَلِكَ أنكر عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَة
الْهَرَوِيّ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الحلاب بكر
الْمُهْملَة لَا يَصح غَيرهَا وَقد وهم من طنه الطّيب
وَكَذَا من قَالَه بِضَم الْجِيم على أَنه قَوْله بتَشْديد
الللام غير صَحِيح.
لِأَن فِي اللُّغَة الفارسية، مَاء الْورْد، هُوَ جلاب
بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف اللَّام، أَصله: كلاب فَكل بِضَم
الْكَاف الصماء وَسُكُون اللَّام، إسم للورد عِنْدهم، وآب،
بِمد الْهمزَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة اسْم المَاء،
وَالْقَاعِدَة عِنْدهم إِن الْمُضَاف إِلَيْهِ يتَقَدَّم
على الْمُضَاف وَكَذَلِكَ الصّفة تقدم على الْمَوْصُوف،
وَإِنَّمَا الْجلاب بتَشْديد اللَّام فاسم للمشروب. فَإِن
قلت: إِذا ثَبت أَن الحلاب اسْم للإناء، يكون الْمَذْكُور
فِي التَّرْجَمَة شَيْئَيْنِ: إحدهما: الْإِنَاء،
وَالْآخر: الطّيب، وَلَيْسَ فِي الْبَاب ذكر الطّيب، فَلَا
يُطَابق الحَدِيث الَّذِي فِيهِ إلاَّ بعض التَّرْجَمَة
قلت: قد عقد الْبَاب لأحد الْأَمريْنِ حَيْثُ جَاءَ: أَو
الفاصلة دون، الْوَاو الْوَاصِلَة فَوقِي بِذكر أَحدهمَا
على أَنه كثيرا أما يذكر فِي التَّرْجَمَة شَيْئا وَلَا
يذكر فِي الْبَاب حَدِيثا مُتَعَلقا بِهِ لأمر يَقْتَضِي
ذَلِك.
فَإِن قلت: مَا الْمُنَاسبَة بَين ظرف المَاء وَالطّيب؟
قلت: من حَيْثُ إِن كلاًّ
(3/204)
مِنْهُمَا يَقع فِي مُبْتَدأ الْغسْل،
وَيحْتَمل أَيْضا أَنه بالحلاب الْإِنَاء الَّذِي فِيهِ
الطّيب، يَعْنِي بِهِ تَارَة وَيطْلب ظرف الطّيب، وَتارَة
يطْلب نفس الطّيب، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي، وَلَكِن
يردهُ مَا رَوَاهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق مكي بن
إِبْرَاهِيم عَن حَنْظَلَة فِي هَذَا الحَدِيث كَانَ
يغْتَسل بقدح، بدل قَوْله: بحلاب، وَزَاد فِيهِ. كَانَ
يغسل يَدَيْهِ ثمَّ يغسل وَجهه ثمَّ يَقُول بِيَدِهِ
ثَلَاث غرف.
258 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قالَ حدّثنا أبُو
عَاصِمٍ عَنْ حَنْظَلَةَ عنِ القَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ
قالتْ كانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا
اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ دَاَا بِشَيءٍ نَحْوَ الحِلاب
فَأَخَذَ بِكَفَهِ فَبدأَ بِشِقِّ رَأسِهِ الأَيْمَنِ
ثُمَّ الأَيْسَرِ فَقَالَ بِهِما عَلَى وَسطِ رَأْسِهِ.
رِجَاله خَمْسَة: مُحَمَّد بن الْمثنى وَقد مر، وَأَبُو
عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون
الْخَاء الْمُعْجَمَة الْبَصْرِيّ الْمُتَّفق عَلَيْهِ
علما وَعَملا، ولقب بالنبيل لِأَن شُعْبَة حلف أَنه لَا
يحدث شهرا فَبلغ ذَلِك، أَبَا عَاصِم فقصده فَدخل
مَجْلِسه، فَقَالَ: حدث وَغُلَام الْعَطَّار عَن كَفَّارَة
يَمِينك، فأعجبه ذَلِك، وَقَالَ: أَبُو عَاصِم النَّبِيل،
فلقب بِهِ وَقيل لغير ذَلِك، وحَنْظَلَة ابْن أبي سُفْيَان
الْقرشِي تقدم فِي بَاب دعاؤكم وإيمانكم، وَالقَاسِم بن
مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق التَّيْمِيّ، أفضل أهل
زَمَانه، كَانَ ثِقَة عَالما فَقِيها من الْفُقَهَاء
السَّبْعَة بِالْمَدِينَةِ، إِمَامًا ورعاً من خِيَار
التَّابِعين مَاتَ سنة بضع وَمِائَة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة
الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه:
العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن أَبَا عَاصِم
من كبار شُيُوخ البُخَارِيّ: وَقد أَكثر عَنهُ فِي هَذَا
الْكتاب، لكنه نزل فِي هَذَا الْإِسْنَاد فَأدْخل بَينه
وَبَينه مُحَمَّد بن الْمثنى. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا
بَين بَصرِي ومكي ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد
وَالنَّسَائِيّ جَمِيعًا فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن
الْمثنى عَن أبي عَاصِم عَن حَنْظَلَة بن أبي سُفْيَان عَن
الْقَاسِم عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (كَانَ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا اغْتسل) أَي: إِذا أَرَادَ أَن يغْتَسل.
قَوْله: (دَعَا) أَي: طلب. قَوْله: (نَحْو الحلاب) أَي:
إِنَاء مثل الْإِنَاء الَّذِي يُسمى الحلاب، وَقد وَصفه
أَبُو عَاصِم بِأَنَّهُ أقل من شبر فِي شبر، أخرجه أَبُو
عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَنهُ، وَفِي رِوَايَة لِابْنِ
حبَان: وَأَشَارَ أَبُو عَاصِم بكفيه، حِكَايَة حلق شبريه،
يصف بِهِ دوره الْأَعْلَى وَفِي رِوَايَة للبيهقي (كَقدْر
كوز يسع ثَمَانِيَة أَرْطَال) وَفِي حَدِيث مكي عَن
الْقَاسِم: (إِنَّه سُئِلَ كم يَكْفِي من غسل الْجَنَابَة،
فَأَشَارَ إِلَى الْقدح والحلاب) ، فَفِيهِ بَيَان
مِقْدَار مَا يحْتَمل من المَاء لَا الطّيب والتطيب، وَمن
لَهُ ذوق من الْمعَانِي وَتصرف فِي التراكيب يعلم أَن
الحلاب الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة إِنَّمَا هُوَ
الْإِنَاء وَلم يقْصد البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا غير أَن
الْقَوْم أَكْثرُوا الْكَلَام فِيهِ من غير زِيَادَة
فَائِدَة، وَلَفظ الحَدِيث أكبر شَاهد على مَا ذَكرْنَاهُ
لِأَنَّهُ قَالَ: دَعَا بِشَيْء نَحْو الحلاب: فَلفظ:
نَحْو: هَاهُنَا بِمَعْنى: الْمثل، وَمثل الشَّيْء غَيره،
فَلَو كَانَ دَعَا بالحلاب كَانَ رُبمَا يشكل على أَن فِي
بعض الْأَلْفَاظ دَعَا بِإِنَاء مثل الحلاب قَوْله: (فَأخذ
بكفه) بِالْإِفْرَادِ، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: بكفيه،
بالتثنية، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم بعد قَوْله:
(الْأَيْسَر) وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد
قَوْله: (فَقَالَ بهما) أَي: بكفيه، وَهَذَا يدل على أَن
الرِّوَايَة الصَّحِيحَة، فَأخذ بكفيه، بالتثنية حَيْثُ
أعَاد الضَّمِير بالتثنية. وَأما على رِوَايَة مُسلم
فَظَاهر، لِأَنَّهُ زَاد فِي رِوَايَته بعد قَوْله:
(الْأَيْسَر) (فَأخذ بكفيه) وَمعنى: قَالَ بهما. قلب بكفيه
على وسط رَأسه وَالْعرب تجْعَل القَوْل عبارَة عَن جَمِيع
الْأَفْعَال، وتطلقه أَيْضا على غير الْكَلَام فَتَقول:
قَالَ بِيَدِهِ، أَي: أَخذ، وَقَالَ بِرجلِهِ، أَي: مَشى
قَالَ الشَّاعِر:
(وَقَالَت لَهُ العينان سمعا وَطَاعَة)
أَي: أَوْمَأت وَجَاء فِي حَدِيث آخر: (فَقَالَ
بِثَوْبِهِ) أَي: دَفعه، وكل ذَلِك على الْمجَاز والاتساع،
وَيُقَال: إِن قَالَ: يَجِيء لمعان كَثِيرَة بِمَعْنى:
أقبل وَمَال واستراح وَذهب وَغلب وَأحب وَحكم وَغير ذَلِك،
وَسمعت أهل مصر يستعملون هَذَا فِي كثير من ألفاظهم،
وَيَقُولُونَ: أَخذ الْعَصَا وَقَالَ بِهِ كَذَا أَي ضرب
بِهِ، وَأخذ ثَوْبه وَقَالَ بِهِ عَلَيْهِ، أَي: لبسه
وَغير ذَلِك، يقف على هَذَا من تتبع كَلَامهم قَوْله: (وسط
رَأسه) بِفَتْح السِّين، وَقَالَ الْجَوْهَرِي
بِالسُّكُونِ ظرف، وبالحركة اسْم، وكل مَوضِع صلح فِيهِ
بَين فَهُوَ بِالسُّكُونِ، وَإِن لم يصلح فِيهِ فَهُوَ
بِالتَّحْرِيكِ، وَقَالَ المطرزي: سَمِعت ثعلباً يَقُول:
استنبطنا من هَذَا الْبَاب أَن كل مَا كَانَ أَجزَاء
ينْفَصل. قلت: فِيهِ وسط بالتسكين، وَمَا كَانَ لَا
ينْفَصل وَلَا يتفرق، قلت: بِالتَّحْرِيكِ. تَقول من
الأول: أجعَل هَذِه الحرزة وسط السبحة، وانظم هَذِه
الياقوتة وسط القلادة، وَتقول أَيْضا مِنْهُ، لَا تقعد وسط
الْحلقَة، ووسط الْقَوْم، هَذَا كُله
(3/205)
يتَجَزَّأ ويتفرق وينفصل، فَيَقُول فِيهِ
بالتسكين، وَتقول فِي الْقسم الثَّانِي، احْتجم وسط رَأسه،
وَقعد وسط الدَّار، فقس على هَذَا وَفِي (الواعي) لأبي
مُحَمَّد، قَالَ الْفراء: سَمِعت يُونُس يَقُول: وسط ووسط
بِمَعْنى، وَفِي (الْمُخَصّص) عَن الْفَارِسِي: سوى بعض
الْكُوفِيّين بَين وسط ووسط فَقَالَ: هما ظرفان وإسمان.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ أَن المغتسل يسْتَحبّ لَهُ أَن
يُجهز الْإِنَاء الَّذِي فِيهِ المَاء ليغتسل مِنْهُ،
وَيسْتَحب لَهُ أَن يبْدَأ بشقه الْأَيْمن ثمَّ بالشق
الْأَيْسَر، ثمَّ على وسط رَأسه، ويستنبط من قَوْلهَا
كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مداومته على
ذَلِك لِأَن هَذِه اللَّفْظَة تدل على الِاسْتِمْرَار
والدوام، وَالله أعلم.
7 - (بابُ المَضْمَضَةِ والإِسْتِنْشَاقِ فِي الجَنَابَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم المضمة وَالِاسْتِنْشَاق
فِي غسل الْجَنَابَة هَل هما واجبان أم سنتَانِ؟ وَقَالَ
بَعضهم: أَشَارَ ابْن بطال وَغَيره إِلَى أنالبخاري استنبط
عدم وجوبهما من هَذَا الحَدِيث، لِأَن فِي رِوَايَة
الْبَاب الَّذِي بعده فِي هَذَا الحَدِيث، (ثمَّ تَوَضَّأ
وضوءه للصَّلَاة) فَدلَّ على أَنَّهُمَا للْوُضُوء وَقَامَ
الْإِجْمَاع على أَن الْوضُوء فِي غسل الْجَنَابَة غير
وَاجِب. والمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق من تَوَابِع الْوضُوء،
فَإِذا اسقط الْوضُوء سقط توابعه، وَيحمل مَا روى من صفة
غسله، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على الْكَمَال
وَالْفضل، قلت: هَذَا الِاسْتِدْلَال غير صَحِيح لِأَن
هَذَا الحَدِيث لَيْسَ لَهُ تعلق بِالْحَدِيثِ الَّذِي
يَأْتِي وَفِيه التَّصْرِيح بالمضمضة وَالِاسْتِنْشَاق
وَلَا شكّ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم
يتركهما، فَدلَّ على الْمُوَاظبَة وَهِي تدل على
الْوُجُوب. فَإِن قلت: مَا الدَّلِيل على الْمُوَاظبَة؟
قلت: عدم النَّقْل عَنهُ بِتَرْكِهِ إيَّاهُمَا، وَسُقُوط
الْوضُوء القصدي لَا يسْتَلْزم سُقُوط الْوضُوء الضمني،
وعَلى كل حَال لم ينْقل تَركهمَا، وَأَيْضًا النَّص يدل
على وجوبهما، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى.
259 - حدّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصٍ بنِ غياثٍ قالَ حدّثنا أبي
قَالَ الأَعْمَشُ قَالَ حدّثني سالِمُ عنْ كُرَيْبٍ عنِ
ابنَ عَبَّاسِ قالَ حدَّثَنا مَيْمُونَةُ قالَتْ صَبَبْتُ
للنِّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُسْلاً فَأَفْرَغَ
بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ فَغَسَلهُما ثُمَّ غَسَلَ
فَرْجَهُ ثُمَّ قالَ بِيَدِهِ الأَرْضَ فَسَحَهَا
بالترَابِ ثُمَّ غسَلَهَا ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ
ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَأَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ
تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ ثُمَّ أَتِيَ بِمَنْدِيلٍ
فَلَم يَنْقُضُ بِها..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
بَيَان رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: عمر بن حَفْص بن غياث؟
بِكَسْر الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره ثاء مُثَلّثَة،
مَاتَ سنة سِتّ وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: أَبوهُ
حَفْص بن غياث بن طلق النَّخعِيّ الْكُوفِي. ولي الْقَضَاء
بِبَغْدَاد أوثق أَصْحَاب الْأَعْمَش ثِقَة فَفِيهِ عفيف
حَافظ، مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث:
سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: سَالم ابْن أبي
الْجَعْد التَّابِعِيّ. الْخَامِس: كريب. السَّادِس: عبد
الله بن عَبَّاس. السَّابِع: مَيْمُونَة بنت الْحَارِث أم
الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائفه إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَفِيه: رِوَايَة
الصَّحَابِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين
كُوفِي ومدني. وَفِيه: حَدثنَا عمر بن حَفْص بن غياث فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ:
حَدثنَا عمر بن حَفْص أَي: ابْن غياث.
ذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (غسلا) بِالضَّمِّ أَي: مَاء
للاغتسال. قَوْله: (ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ الأَرْض) أَي: ضرب
بِيَدِهِ الأَرْض، وَقد ذكرنَا عَن قريب أَن الْعَرَب
تجْعَل القَوْل عبارَة عَن جَمِيع الْأَفْعَال، وتطلقه على
غير الْكَلَام، سيجىء فِي رِوَايَة فِي هَذَا الْموضع:
(فَضرب بِيَدِهِ الأَرْض) قَوْله: (ثمَّ تنحى) أَي: بعد
عَن مَكَانَهُ. قَوْله: (بمنديل) بِكَسْر الْمِيم،
واشتقافه من الندل وَهُوَ الْوَسخ لِأَنَّهُ يندل بِهِ،
وَيُقَال: تندلت بالمنديل. قَالَ الْجَوْهَرِي: وَيُقَال
أَيْضا تمندلت بِهِ وأنكرها الْكسَائي. وَيُقَال تمدلت:
وَهُوَ لُغَة فِيهِ قَوْله: (فَلم ينفض بهَا) زَاد فِي
رِوَايَة كَرِيمَة، قَالَ أَبُو عبد الله يَعْنِي لم
يتمسح، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: النفض التنشف، وَإِنَّمَا
أنث الضَّمِير لِأَن المنديل فِي معنى الْخِرْقَة، وَعَن
عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا (أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَت لَهُ خرقَة يتنشف بهَا) .
وَالْأَحْكَام المستنبطة مِنْهَا قد ذكرت عَن قريب.
(3/206)
8 - (بابُ مَسْحِ اليَدِ بالتُّرَابِ لِيَكُونَ أَنْقَى)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مسح المغتسل يَده بِالتُّرَابِ
لتَكون أنقى أَي: أطهر، وَكلمَة. من محذوفة. أَي: (أنقى)
من غير الممسوحة، وَذَلِكَ لِأَن أفعل التَّفْضِيل لَا
يسْتَعْمل إِلَّا بِالْإِضَافَة أَو بِاللَّامِ أَو بِمن،
وَالضَّمِير فِي: لتَكون، اسْم. كَانَ، وَخَبره قَوْله:
أنقى، وَلَا مُطَابقَة بَينهمَا، مَعَ شَرط بَين اسْم
كَانَ وَخَبره، وَجه ذَلِك أَن أفعل التَّفْضِيل إِذا
كَانَ بِمن فَهُوَ مُفْرد مُذَكّر لَا غير.
260 - حدّثنا الحُمَيْدِي قالَ حدّثنا سُفْيانُ قَالَ
حدّثنا الأَعْمَشُ عَنْ سَالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ عَنْ
كُرَيْبٍ عَنِ ابنِ عَبَّاسِ عَنْ مَيْمُونَةَ أنَّ
النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتَسَل مِنَ
الجَنَابَةِ فَغَسَل فَرْجَهُ بِيَدِهِ ثُمَّ دّلَكَ بِهَا
الحَائِطِ ثُمَّ غَسَلْهَا ثُمَّ تَوَضأَ وُضُوءَه
لِلصَّلاَةِ فَلَمَا فَرَغَ مِنْ غُسْلِهِ غَسَلَ
رِجْلَيْهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: ثمَّ دلك
الْحَائِط بهَا.
فَإِن قلت: هَذِه التَّرْجَمَة قد علمت من حَدِيث الْبَاب
الْمُتَقَدّم فِي قَوْله: (ثمَّ قَالَ بِيَدِهِ الأَرْض
فمسها بِالتُّرَابِ) فَمَا فَائِدَة التّكْرَار؟ قلت:
قَالَ الْكرْمَانِي: عرض البُخَارِيّ من أمتا لَهُ
الشُّعُور باخْتلَاف استخراجات الشُّيُوخ وتفاوت سياقاتهم،
مثلا عمر بن حَفْص روى هَذَا الحَدِيث فِي معرض بَيَان
الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق فِي غسل الْجَنَابَة،
والْحميدِي رَوَاهُ فِي بَيَان معرض مسح الْيَد
بِالتُّرَابِ فحافظ على السِّيَاق وَمَا أستخرجه الشُّيُوخ
فِيهِ مَعَ مَا فِيهِ من التقوية والتأكيد. قلت: هَاهُنَا
فَائِدَة أُخْرَى. وَهِي: أَن فِي الْبَاب الأول دلك
الْيَد على التُّرَاب، وَهَاهُنَا دلك الْيَد على
الْحَائِط، وَبَينهمَا فرق.
ذكر رِجَاله وَمَا فِي السَّنَد من اللطائف أما رِجَاله
فهم سَبْعَة مثل رجال الحَدِيث الْمَذْكُور فِي الْبَاب
السَّابِق، فير أَن شَيْخه هَاهُنَا الْحميدِي عَن
سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وَبَقِيَّة الرِّجَال متحدة.
وَأما لطائفه فَفِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة
مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة الْأَكْثَرين: حَدثنَا
الْحميدِي، وَفِي بَعْضهَا: حَدثنَا عبد الله بن الزبير
الْحميدِي، وَفِي بَعْضهَا حَدثنَا الْحميدِي، عبد الله بن
الزبير. قَوْله: (فَغسل فرجه) قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: الْفَاء للتعقيب، وَغسل الْفرج لَيْسَ متعقباً على
الِاغْتِسَال بل مقدم عَلَيْهِ، وَكَذَا الدَّلْك
وَالْوُضُوء. قلت: الْفَاء تفصيلية، لِأَن هَذَا كُله
تَفْصِيل للاختصار الْمُجْمل، وَالتَّفْصِيل يعقب
الْمُجْمل، وَأخذ مِنْهُ عبضهم وَقَالَ: هَذِه الْفَاء
تفسيرية وَلَيْسَ بتعقيبية، لِأَن غسل الْفرج لم يكن بعد
الْفَرَاغ انْتهى قلت: من دقق النّظر وَعرف أسرار
الْعَرَبيَّة يَقُول: الْفَاء، هَاهُنَا عاطفة وَلكنهَا
للتَّرْتِيب، وَمعنى الحَدِيث أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل فرتب غسله، فَغسل فرجه ثمَّ
تَوَضَّأ، وَكَون الْفَاء للتعقيب لَا يُخرجهَا عَن
كَونهَا عاطفة.
بَيَان الْأَحْكَام قد مر مستقصىً. |