عمدة القاري شرح صحيح البخاري

9 - (بابُ هَلْ يُدْهِلُ الجُنُبُ يَدَهُ فِي الإنَاءِ قَبْلَ أنْ يَغْسِلَهَا إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى يَدِهِ قَذَرُ غَيْرُ الجَنَابَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان هَل يدْخل الْجنب يَده؟ إِلَخ. قَوْله: (فِي الْإِنَاء) أَي الْإِنَاء الَّذِي فِيهِ المَاء. قَوْله: (قذر) أَي: شَيْء مستكره من نَجَاسَة وَغَيرهَا. قَوْله: (غير الْجَنَابَة) يشْعر بِأَن الْجَنَابَة نجس وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الْمُؤمن لَا ينجس كَمَا ثَبت ذَلِك فِي الصَّحِيح، وَقَالَ بَعضهم: غير الْجَنَابَة أَي: حكمهَا، لِأَن أَثَرهَا مُخْتَلف فِيهِ، فَدخل فِي قَوْله: (قذر) قلت: لم يدْخل الْجَنَابَة فِي القذر أصلا لِأَنَّهَا أَمر معنوي لَا يُوصف بالقذر حَقِيقَة، فَمَا مُرَاد هَذَا الْقَائِل من قَوْله: أَي حكمهَا؟ فَإِن كَانَ الِاغْتِسَال، فَلَا دخل لَهُ هَاهُنَا وَإِن كَانَ النَّجَاسَة فقد قُلْنَا إِن الْمُؤمن لَا ينجس، وَكَذَا إِن كَانَ مُرَاده من قَوْله: لِأَن أَثَرهَا أَي: الْمَنِيّ وَهُوَ طَاهِر فِي زَعمه.
وأدْخَلَ ابنُ عُمَرَ والبَرَاءُ ابنُ عازِبٍ يَدَهُ فِي الطِّهُورِ وَلَمْ يَغْسِلْهَا ثُمَّ تَوَضَّأَ

الْكَلَام فِيهِ على أَنْوَاع.
الأول: أَن الْوَاو فِي قَوْله: (وَأدْخل) مَا هِيَ؟ قلت: ذ (قد ذكرت غير مرّة أَن هَذِه الْوَاو، تسمى: وَاو، الاستفتاح يستفتح بهَا كَلَامه، وَهُوَ السماع من الْمَشَايِخ الْكِبَار.
الثَّانِي: أَن هَذَا الْأَثر غير مُطَابق للتَّرْجَمَة على الْكَمَال، لِأَن التَّرْجَمَة مُقَيّدَة والأثر مُطلق.
الثَّالِث: أَن هَذَا مُعَلّق أما أثر ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، فقد وَصله سعيد بن مَنْصُور بِمَعْنَاهُ، وَأما أثر الْبَراء فقد وَصله ابْن أبي شيبَة بِلَفْظ أَنه أَدخل يَده فِي المطهرة قبل أَن يغسلهَا. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) أخبرنَا مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن أبي سِنَان ضرار، عَن محَارب عَن ابْن عمر قَالَ: من مَاء وَهُوَ جنب فَمَا بَقِي نجس

(3/207)


وَهَذَا يُعَارض مَا ذكره من اعْترف. قلت: حملُوا هَذَا على مَا إِذا كَانَ بِيَدِهِ قدر، تَوْفِيقًا بَين الأثرين، وَقَالَ بَعضهم: لأ غسل للنَّدْب وَترك للْجُوَاز. قلت: كَيفَ يكون تَركه للْجُوَاز إِذا كَانَ بِيَدِهِ قذر؟ وَإِن لم يكن فَلَا يضر، فَلم يحصل التَّوْفِيق بَينهمَا بِمَا ذكره هَذَا الْقَائِل، وَهَذَا الْأَثر من أقوى الدَّلَائِل لمن ذهب من الْحَنَفِيَّة إِلَى نَجَاسَة المَاء الْمُسْتَعْمل فَافْهَم.
الرَّابِع: فِي مَعْنَاهُ، فَقَوله: (يَده) أَي أَدخل كل وَاحِد مِنْهُمَا يَده وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت (يديهما) بالتثنية على الأَصْل وَقَالَ الْكرْمَانِي وَفِي بعض النّسخ يديهما.
بَينهمَا وَلم يغسلاهما ثمَّ تَوَضَّأ بالتثنية فِي الْمَوَاضِع الثَّلَاث. قَوْله: (فِي الطّهُور) بِفَتْح الطَّاء، وَهُوَ المَاء الَّذِي يتَطَهَّر بِهِ فِي الْوضُوء والاغتسال.
الْخَامِس: فِي حكم هَذَا الْأَثر. وَهُوَ جَوَاز إِدْخَال الْجنب يَده فِي إِنَاء المَاء قبل أَن يغسلهما إِذا لم يكن عَلَيْهَا نَجَاسَة حَقِيقِيَّة. وَقَالَ الشّعبِيّ: كَانَ الصَّحَابَة يدْخلُونَ أَيْديهم المَاء قبل أَن يغسلوها وهم جنب، وَكَذَلِكَ النِّسَاء، وَلَا يفْسد ذَلِك بَعضهم على بعض، وَرُوِيَ نَحوه عَن ابْن سِيرِين وَعَطَاء وَسَالم وَسعد بن أبي وَقاص وَسَعِيد بن أبي جُبَير وَابْن الْمسيب.
وَلَمْ يَرَ ابنُ عُمَرَ وَابنُ عَبَّاسٍ بَأْساً بِما يَنْتَضِحُ مِنْ غُسْلِ الجَنَابَةِ

وجد مُطَابقَة هَذَا الْأَثر بالتعسف كَمَا يَأْتِي، وَهُوَ من حَيْثُ إِن المَاء الَّذِي يدْخل الْجنب يَده فِيهِ لَا ينجس إِذا كَانَت طَاهِرَة فَكَذَلِك انتشار المَاء الَّذِي يغْتَسل بِهِ الْجنب فِي إنائه لِأَن فِي تنجيسه مشقة أَلا ترى كَيفَ قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ: وَمن يملك انتشار المَاء؟ فَإنَّا لنَرْجُو من رَحْمَة الله مَا هُوَ أوسع من هَذَا إِمَّا أثر ابْن عمر فوصله عبد الرَّزَّاق بِمَعْنَاهُ، وَأما أثر ابْن عَبَّاس فَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن الْعَلَاء بن الْمسيب عَن حَمَّاد عَن إِبْرَاهِيم عَن ابْن عَبَّاس فِي الرجل يغْتَسل من الْجَنَابَة فينتضح فِي إناثه من غسله فَقَالَ: لَا بَأْس بِهِ، وَهُوَ مُنْقَطع فِيمَا بَين إِبْرَاهِيم وَابْن عَبَّاس وَرُوِيَ مثله عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن سِيرِين وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن فِيمَا حَكَاهُ ابْن بطال عَنْهُم، وَيقرب من ذَلِك مَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى، فِيمَن كَانَ يُصَلِّي فاناتضح عَلَيْهِ الْبَوْل أَكثر من قدر الدِّرْهَم، فَإِنَّهُ لَا يفْسد صلَاته بل يتَصَرَّف وَيغسل ذَلِك وَيَبْنِي على صلَاته.

261 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْلَمَة قَالَ أخبرنَا أَفْلَحُ عَن القاسِمِ عَن عائِشَةَ قالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنا وَالنَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ إنَاء وَاحدٍ تَخْتَلِفُ أَيْد ينَا فِيهِ..
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة من حَيْثُ جَوَاز إِدْخَال الْجنب فِي الْإِنَاء قبل أَن يغسلهَا إِذا لم يكن عَلَيْهَا قذر يدل عَلَيْهِ من قَوْله عَائِشَة: (تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ وتلتقي) وَاخْتِلَاف الْأَيْدِي فِي الْإِنَاء لَا يكون إلاَّ بعد الإدخال، فَدلَّ ذَلِك على أَنه لَا يفْسد المَاء فَإِن قلت: التَّرْجَمَة مُقَيّدَة، وَهَذَا الحَدِيث مُطلق. قلت: الْقَيْد الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة مراعى فِي الحَدِيث للقرينة الدَّالَّة على ذَلِك، شَأْن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشأن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أجل من أَن يدخلا أَيْدِيهِمَا فِي أناء المَاء، وعَلى أَيْدِيهِمَا مَا يفْسد المَاء، وَحَدِيث هِشَام الَّذِي يَأْتِي عَن قريب أقوى الْقَرَائِن على ذَلِك وَهَذَا هُوَ التَّحْقِيق فِي الْموضع، لَا مَا ذكره الْكرْمَانِي، إِن ذَلِك ندب وَهُوَ جَائِز. ثمَّ اعْلَم أَن البُخَارِيّ أخرج فِي هَذَا الْبَاب أَرْبَعَة أَحَادِيث. فمطابقة الحَدِيث الأول: للتَّرْجَمَة قد ذَكرنَاهَا. وَالثَّانِي: مُفَسّر للْأولِ على مَا نذكرهُ. وَالثَّالِث وَالرَّابِع: وَإِن لم يذكر فيهمَا غسل الْيَد، ولكنهما محمولان على معنى الحَدِيث الثَّانِي وَهَذَا الْمِقْدَار كافٍ للتطابق، وَلَا معنى لتطويل الْكَلَام بِدُونِ فَائِدَة نافعة، كَمَا ذكره غير مرّة، وَابْن الْمُنِير وَغَيرهمَا.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين. والقعنبي، وَقد تقدم ذكره غير مرّة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: حَدثنَا عبد الله بن مسملة بن قعنب. الثَّانِي: أَفْلح بن حميد بِضَم الْحَاء الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، وَقد وَقع فِي نسختنا الصَّحِيحَة هَكَذَا، أَفْلح بن حميد، بِذكر أَبِيه حميد، كَمَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَفِي أَكثر النّسخ: أَفْلح، غير مَنْسُوب، وَهُوَ ابْن حميد بِلَا خلاف، وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ غَيره، وَأخرج بِهِ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ أَيْضا وَفِي مُسلم: أَفْلح بن سعيد، وأفلح عَن مَوْلَاهُ، وَفِي النَّسَائِيّ: أَفْلح الْهَمدَانِي، وَالأَصَح أَبُو أَفْلح بن سعيد السَّابِق، وَلَيْسَ فِي هَذِه الْكتب سواهُم. الثَّالِث: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. الرَّابِع: عَائِشَة الصديقة.
بَيَان لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة فِي مَوضِع وَاحِد لِأَن فِي روايتهما حَدثنَا عبد الله بن مسلمة أخبرنَا أَفْلح. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كدنيون، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة وَابْن حبَان من

(3/208)


طَرِيق ابْن وهب عَن أَفْلح أَنه سمع الْقَاسِم يَقُول: سَمِعت عاشة فَذكره.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن عبد الله بن مسلمة نَحوه
بَيَان إعرابه وَمَعْنَاهُ قَوْله: (وَالنَّبِيّ) بِالرَّفْع عطف على الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي كنت، وأبرز الضَّمِير أَيْضا ليَصِح الْعَطف عَلَيْهِ، وَيجوز فِيهِ النصب على أَنه مفعول مَعَه، فَتكون الْوَاو للمصاحبة. قَوْله: (تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ) جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا حَال من قَوْله من إِنَاء وَاحِد، وَالْجُمْلَة بعد الْمعرفَة حَال، وَبعد النكرَة صفة، والإناء هُنَا مَوْصُوف، وَمعنى اخْتِلَاف الْأَيْدِي فِي الْإِنَاء يَعْنِي من الإدخال فِيهِ والإخراج مِنْهُ، وَفِي رِوَايَة مُسلم فِي آخِره (من الْجَنَابَة) أَي: لأجل الْجَنَابَة، وَفِي رِوَايَة أبي عوَانَة وَابْن حبَان بعد قَوْله: (تخْتَلف أَيْدِينَا فِيهِ) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق إِسْحَاق بن سُلَيْمَان عَن أَفْلح، تخْتَلف فِيهِ أَيْدِينَا حَتَّى تلتقي، وَفِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ من طَرِيقه، تخْتَلف أَيْدِينَا فيبادرني حَتَّى أَقُول: دع لي. وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ فِيهِ، يَعْنِي: وتلتقي وَفِيه إِشْعَار بِأَن قَوْله: تلتقي، مدرج وَفِي رِوَايَة أُخْرَى لمُسلم من طَرِيق معَاذ عَن عَائِشَة فيبادرني حَتَّى أَقُول: دع لي، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (وأبادره حَتَّى يَقُول دعِي لي) .
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ: جَوَاز اعْتِرَاف الْجنب من المَاء الَّذِي فِي الْإِنَاء وَيجوز التطهر بذلك المَاء وَمِمَّا يفصل مِنْهُ، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ دلَالَة على أَن النَّهْي عَن انغماس الْجنب فِي المَاء الدَّائِم إِنَّمَا هُوَ للتنزيه كَرَاهِيَة أَن يستقذر، لَا لكَونه يصير نجسا بانغماس الْجنب فِيهِ قلت: هَذَا الْكَلَام على إِطْلَاقه غير صَحِيح، لِأَن الْجنب إِذا انغمس فِي المَاء الدَّائِم لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون ذَلِك المَاء كثيرا أَو قَلِيلا، فَإِن كَانَ كثيرا نَحْو الغدير الْعَظِيم الَّذِي لَا يَتَحَرَّك أحد طَرفَيْهِ بتحريك الطّرف الآخر فَإِن الْجنب إِذا انغمس فِيهِ لَا يفْسد المَاء وَإِن كَانَ قَلِيلا لَا يبلغ الغدير الْعَظِيم فَإِن الْجنب إِذا انغمس فِيهِ فَإِنَّهُ يفْسد المَاء وَهل يطهر الْجنب أم لَا فِيهِ خلاف.

262 - حدّثنا مُسَدَّدُ قالحدّثنا حَمَّادُ عَنْ هِشَامٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قالَتُ كانِ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا اغْتَسَلَ مِنَ الجَنَابَةِ غَسَلَ يَدَهُ.
(انْظُر الحَدِيث 248 وطرفه) .
هَذَا الحَدِيث مُفَسّر للْحَدِيث السَّابِق، لِأَن فِي الحَدِيث السَّابِق اخْتِلَاف الْأَيْدِي فِي الْإِنَاء، بِظَاهِرِهِ بتناول اليدي الطاهرة وَالْيَد الَّتِي عَلَيْهَا مَا يفْسد المَاء، وَبَين هَذَا أَنه إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة غسل يَده يَعْنِي: إِذا أَرَادَ الِاغْتِسَال من الْجَنَابَة غسل يَده ثمَّ بعد ذَلِك لَا يضر إِدْخَاله فِي الْإِنَاء لَكِن هَذَا عِنْد خَشيته من أَن يكون بهَا أَذَى من أَذَى الْجَنَابَة أَو غَيرهَا وَأما عِنْد تيقنه ب (طَهَارَة) الْيَد فَلم يكن يغسلهَا فيهذا يَنْتَفِي التَّعَارُض بَينهمَا أَو يكون الحَدِيث السَّابِق مَحْمُولا على تيقنه بِعَدَمِ الْأَذَى، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يدل على أَنه يغسلهَا قبل إدخالها فِي الْإِنَاء لعدم تيقنه بطهارتها.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: مُسَدّد بن مسرهد، وَحَمَّاد هُوَ ابْن زيد، لِأَن البُخَارِيّ لم يرو عَن حَمَّاد بن سَلمَة، وَهِشَام وَهُوَ ابْن عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَالْبُخَارِيّ أخرج هَذَا مُخْتَصرا. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّهَارَة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب ومسدد، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه، عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا اغْتسل من الْجَنَابَة، قَالَ سُلَيْمَان: يبْدَأ فيفرغ بِيَمِينِهِ، وَقَالَ مُسَدّد: غسل يَده، يصب الْإِنَاء على يَده الْيُمْنَى، ثمَّ اتفقَا فَيغسل فرجه، قَالَ مُسَدّد: يفرغ على شِمَاله، وَرُبمَا كنت عَن الْفرج ثمَّ يتَوَضَّأ كوضوئه للصَّلَاة، ثمَّ يدْخل يَده فِي الْإِنَاء فيخلل شعره حَتَّى إِذا رأى أَنه قد أصَاب الْبشرَة أَو أنقى الْبشرَة أفرغ على رَأسه ثَلَاثًا وَإِذا فضل فضلَة صبها عَلَيْهِ.

263 - حدّثنا أبُو الوَليدِ قالَ حدّثنا شُعْبَةُ عَنْ أبِي بَكْرِ بنِ حَفْصِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ قالَتْ كُنت أغْتَسُلُ أنَا والنبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ إناءٍ وَاحِدٍ مِنْ جَنَابَةٍ.
(انْظُر الحَدِيث أَطْرَافه) .
أَبُو الْوَلِيد هُوَ الطَّيَالِسِيّ، تقدم فِي بَاب عَلامَة الْإِيمَان حب الْأَنْصَار وَشعْبَة بن الْحجَّاج وَأَبُو بكر ب ن حَفْص مرا فِي بَاب الْغسْل بالصاع،
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
قَوْله: (من جَنَابَة) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (من الْجَنَابَة) وَهَاهُنَا كلمة من فِي موضِعين: الأولى: مُتَعَلقَة بمقدر كَقَوْلِك أخذين المَاء من إِنَاء وَاحِد وَالْأولَى

(3/209)


ظرف مُسْتَقر. وَالثَّانيَِة: لقو، وَيجوز تعلق الجارين بِفعل وَاحِد إِذا كَانَا بمعنيين مُخْتَلفين، فَإِن الثَّانِيَة بِمَعْنى لأجل الْجَنَابَة وَالْأولَى لمحض الِابْتِدَاء.
وَعَنْ عَبْدِ الرَّحمنَ بنِ القاسِمِ عَنْ أبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ مِثْلَهُ

هَذَا مَعْطُوف على قَول شُعْبَة عَن أبي بكر بن حَفْص بِهَذَا أَن لشعبة باسنادين إِلَى عَائِشَة أَحدهمَا عَن عُرْوَة وَالْآخر عَن الْقَاسِم كِلَاهُمَا عَن عَائِشَة وَلَا يُقَال أَن رِوَايَة عبد الرحمان معلقَة وَبَين اتصالها أَبُو نعيم وَالْبَيْهَقِيّ من طَرِيق أبي الْوَلِيد بِإِسْنَادَيْنِ وَقَالَ أخرجه البُخَارِيّ عَن أبي الْوَلِيد بالاسنادين جَمِيعًا وَكَذَا قَالَ أَبُو سعيد وَغَيره فِي الاطراف وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة بهوزاد من الْجَنَابَة قَوْله (مثله) أَي مثل حَدِيث شُعْبَة عَن أبي بكر بن حَفْص وَيجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِمثلِهِ بِزِيَادَة الْبَاء الْمُوَحدَة.

263 - حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد قَالَ حَدثنَا شُعْبَة عَن عبد الله بن عبد الله بن جبر قَالَ سَمِعت أنس بن مَالك يَقُول كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْمَرْأَة من نِسَائِهِ يغتسلان من إِنَاء وَاحِد.
(انْظُر الحَدِيث أَطْرَافه) .
أَبُو الْوَلِيد هُوَ الطَّيَالِسِيّ الْمَذْكُور، وَعبد الله بن عبد الله، بالتكرير وَكِلَاهُمَا بِالتَّكْبِيرِ: ابْن جبر، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة، وَهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه ذكر فِي بَاب عَلامَة الْإِيمَان، لَكِن لمتن آخر، وَهُوَ ثَالِث الأسناد لشعبة فِي هَذَا الْمَتْن لَكِن من طَرِيق صَحَابِيّ آخر.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والعنعة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع وَالْقَوْل.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
زَادَ مُسْلِمٌ وَوَهْبٌ عنْ شُعْبَةَ مِنَ الجَنَابَةِ

مُسلم هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم الْأَزْدِيّ الْحَافِظ الثِّقَة الْمَأْمُون، وَهُوَ من شُيُوخ البُخَارِيّ، ووهب هُوَ: ابْن جرير بن حَازِم، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ وَأبي الْوَقْت، ابْن جرير أبي حَازِم، وَبِذَلِك جزم أَبُو نعيم وَغَيره، وَوَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر، وهيب، بِالتَّصْغِيرِ، وَالظَّاهِر أَنه من الْكَاتِب. وَقَالَ بَعضهم فِي ظَنِّي أَنه وهم، وَمن جملَة أثبات الْوَهم أَن وهب بن جرير من الروَاة عَن شُعْبَة ووهيباً من أقرانه، قلت: كَونه من أقرانه لَا يَقْتَضِي منع الرِّوَايَة عَنهُ، وَنبهَ البُخَارِيّ بِهَذَا على أَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم ووهب بن جرير رويا هَذَا الحَدِيث عَن شُعْبَة بِهَذَا الْإِسْنَاد الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ أَبُو الْوَلِيد، فَزَاد فِي آخِره من الْجَنَابَة، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ: أَخْبرنِي ابْن نَاجِية، حَدثنَا زيد بن أحزم حَدثنَا وهب بن جرير حَدثنَا شُعْبَة، وَقَالَ لم يذكر من الْجَنَابَة، وَذَلِكَ بعد أَن أخرجه بِغَيْر هَذِه الزِّيَادَة أَيْضا من طَرِيق ابْن مهْدي. قإن قلت: هَل يعد هَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ مُسلم ووهب مُتَّصِلا أَو مُعَلّقا؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَنه تَعْلِيق من البُخَارِيّ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ حِين وَفَاة وهب كَانَ ابْن ثِنْتَيْ عشرَة سنة، وَيحْتَمل أَنه كَانَ قد سمع مِنْهُ، وإدخاله فِي سلك مُسلم يرد ذَلِك، وَقَالَ أَيْضا: فَإِن قلت: لم يذكر شيخ شُعْبَة فعلام نحمله؟ قلت: على الشَّيْخ الْمَذْكُور فِي الْإِسْنَاد الْمُتَقَدّم، وَهُوَ عبدا لله فَكَأَنَّهُ عَن شُعْبَة عَن عبد الله، قَالَ: سَمِعت أنسا رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

10 - (بابُ تَفْرِيقِ الغُسْلِ والوُضُوءِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تَفْرِيق الْغسْل وَالْوُضُوء هَل هُوَ جَائِز أم لَا؟ وَذهب البُخَارِيّ إِلَى أَنه جَائِز، وأيده بِفعل ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على مَا نذكرهُ، ثمَّ إِن هَذَا الْبَاب وَقع فِي بعض النّسخ بعد الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ، وَفِي أَكْثَرهَا قبله كَمَا ترى هَاهُنَا.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ اشْتِمَال كل وَاحِد مِنْهُمَا على فعل جَائِز، أما فِي الْبَاب الَّذِي قبله فجواز إِدْخَال الْيَد فِي إِنَاء المَاء إِذا كَانَت طَاهِرَة، وَأما فِي هَذَا الْبَاب فجواز التَّفْرِيق فِي الْغسْل وَالْوُضُوء.
وَيُذْكَرُ عَن ابنِ عُمَرَ أنَّهُ غَسَلَ قَدَمَيْهِ بَعْدَ مَا جفَّ وَضُوؤُهُ
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة فِي الْوضُوء. وَقَوله: (وضوؤه) بِفَتْح الْوَاو، وَهَذَا تَعْلِيق بِصِيغَة التمريض، لِأَن قَوْله: (يذكر) على صِيغَة الْمَجْهُول، وَلَو قَالَ: وَذكر ابْن عمر، على صِيغَة الْمَعْلُوم لأجل التَّصْحِيح لَكَانَ أولى لِأَنَّهُ جزم بذلك، وَوَصله

(3/210)


الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) حدث أَبُو زَكَرِيَّا وَأَبُو بكر وَأَبُو سعيد قَالُوا: حَدثنَا أَبُو الْعَبَّاس أخبرنَا الرّبيع أخبرنَا الشَّافِعِي أخبرنَا مَالك عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله عَنْهُمَا. (أَنه تَوَضَّأ بِالسوقِ فَغسل وَجهه وَيَديه وَمسح رَأسه، ثمَّ دعِي لجنازة فَدخل الْمَسْجِد ليُصَلِّي عَلَيْهِمَا فَمسح على خفيه ثمَّ صلى عَلَيْهِمَا) قَالَ الشَّافِعِي: وَأحب أَن يُتَابع الْوضُوء وَلَا يفرق، فَإِن قطعه فَأحب إِلَيّ أَن يسْتَأْنف وضوءه، وَلَا يتَبَيَّن لي أَن يكون عَلَيْهِ اسْتِئْنَاف وضوء. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقد روينَا فِي حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جَوَاز التَّفْرِيق، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ فِي الْجَدِيد، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن الْمسيب وَعَطَاء وَطَاوُس وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن وسُفْيَان بن سعيد وَمُحَمّد بن عبد الله بن عبد الحكم، وَعند الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم لَا يجْزِيه نَاسِيا كَانَ أَو عَامِدًا، وَهُوَ قَول قَتَادَة وَرَبِيعَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَاللَّيْث وَابْن وهب، وَذَلِكَ إِذا فرقه حَتَّى جف، وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب مَالك، وَإِن فرقه يَسِيرا جَازَ، وَإِن كَانَ نَاسِيا، فَقَالَ ابْن الْقَاسِم: يجْزِيه وَعَن مَالك يجْزِيه فِي الْمَمْسُوح دون المغسول، وَعَن ابْن أبي زيد، يجْزِيه فِي الرَّأْس خَاصَّة. وَقَالَ ابْن مسلمة فِي (الْمَبْسُوط) يجْزِيه فِي الْمَمْسُوح رَأْسا كَانَ أَو خفاً وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: الْجَفَاف لَيْسَ بِحَدِيث فينقض كَمَا لَو جف جَمِيع أَعْضَاء الْوضُوء لم تبطل الطَّهَارَة.

265 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ مَحْبُوبٍ قالَ حَدثنَا عَبُدُ الوَاحِدِ قالَ حَدثنَا الأعْمَشُ عَنْ سالِمِ بنِ أبي الجَعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْن عَبَّاسٍ عَن ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ قالَتْ مَيْمُونَةُ وَضَعْتُ لِرسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاء يَغْتَسِلُ بِهِ فَافْرَغَ عَلَى يَدَيْهِ فَغَسَلٍ هُمَا مَرَّتَيْنِ أوْ ثَلاثاً ثُمَّ أَفْرَغَ بِيَمِنِهِ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَل مَذَاكِيرَهُ ثُمَّ يَدَهُ بالأرْضِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ ثُمَّ غَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَغَسَلَ رَأْسَهُ ثَلاثاً ثُمَّ أفْرَغَ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى مِنْ مَقَامِهِ فَغْسَلَ قَدَمَيْهِ..
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي تَفْرِيق غسل أَعْضَائِهِ بإفراغ المَاء على جسده والتنحي من مقَامه. فَإِن قلت هَذَا فِي تَفْرِيق الْغسْل فَأَبِنْ مَا يدل على تَفْرِيق الْوضُوء؟ قلت: دلّ على تفريقه ذكر مَيْمُونَة صفة وضوئِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِكَلِمَة: ثمَّ الَّتِي تدل على التَّرَاخِي مُطلقًا.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: مُحَمَّد بن مَحْبُوب أَبُو عبد الله الْبَصْرِيّ، قيل: مَحْبُوب لقبه واسْمه الْحسن، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ، وَعبد الْوَاحِد هُوَ ابْن زِيَاد الْبَصْرِيّ، وَقد تقدم هَذَا الْمَتْن من رِوَايَة مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَنهُ فِي بَاب الْغسْل مرّة وَاحِدَة، غير أَن فِي بعض ألفاظهما اخْتِلَاف فَهُنَا قَوْلهَا: (مَاء يغْتَسل بِهِ) وَهُنَاكَ (مَاء فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ) وَهَاهُنَا (فأفرغ على يَدَيْهِ فغسلهما مرَّتَيْنِ) وَهُنَاكَ، (ثمَّ أفرغ على شِمَاله) وَهَاهُنَا (ثمَّ أفرغ بِيَمِينِهِ على شِمَاله) وَهُنَاكَ: (ثمَّ مسح يَده بِالْأَرْضِ) وَهَاهُنَا: (ثمَّ دلك يَده بِالْأَرْضِ) وَهُنَاكَ: (ثمَّ مضمض) وَهَاهُنَا: (ثمَّ تمضمض) وَهُنَاكَ: (ثمَّ أَفَاضَ على جسده) وَهَاهُنَا: (ثمَّ أفرغ على جسده) وَهُنَاكَ: (ثمَّ تحول من مَكَانَهُ) وَهَاهُنَا: (ثمَّ تنحى من مقَامه) أَي: بعد من مقَامه، بِفَتْح الْمِيم: اسْم مَكَان قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هُوَ مَكَان الْقيام، فَهَل يُسْتَفَاد مِنْهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم اغْتسل قَائِما؟ قلت: ذَلِك أَصله لكنه اشْتهر بعرف الِاسْتِعْمَال لمُطلق الْمَكَان قَائِما كَانَ أَو قَاعِدا فِيهِ.
وَبَقِيَّة الْكَلَام فِيهِ مَضَت هُنَاكَ.

11 - (بابُ مَنْ أَفْرَغَ بِيَمِنِهِ عَلَى شِمَالِهِ فِي الغُسْلِ)

أَي: هَذَا الْبَاب فِي بَيَان من أفرغ المَاء بيمنه على شِمَاله، وَهَذَا الْبَاب مقدم على الْبَاب الَّذِي قبله عِنْد ابْن عَسَاكِر والأصيلي، وعَلى كل تَقْدِير الْمُنَاسبَة بَينهمَا ظَاهر من حَيْثُ إِن كلاًّ مِنْهُمَا يتَعَلَّق بِالْوضُوءِ، وإفراغ المَاء بيمنه على شِمَاله فِي الِاسْتِنْجَاء فِي الْغسْل، وَهَذَا وَجه وَاحِد، وَلَا يجوز غَيره وَأما فِي غسل الْأَطْرَاف فَإِن كَانَ الْإِنَاء الَّذِي يتَوَضَّأ مِنْهُ إِنَّا وَاسِعًا يَضَعهُ عَن يَمِينه وَيَأْخُذ مِنْهُ المَاء بيمنه، وَإِن كَانَ ضيقا كالقماقم يَضَعهُ عَن يسَاره وَيصب المَاء مِنْهُ على يَمِينه، قَالَه الْخطابِيّ.

266 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعَيلَ قالَ حدّثنا أبُو عَوَانَةَ قالَ حدّثنا الأعْمَشُ عَنْ سَالِمَ بنِ أبي الجعْدِ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلِى ابنِ عَبَّاسٍ ابنِ عَبَّاسِ عَن ابنِ عَبَّاسٍ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتَ الحارِثِ قالَتْ وَضَعْتُ لِرَسولِ

(3/211)


اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غُسْلاً وَسَتَرْتَهُ فَصَبَّ عَلَى يَدِهِ فَغَسَلَهَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ قالَ سُلَيْمَانُ لَا أدْرِي أذْكَرَ الثَّالِثَةَ أَمْ لَا ثُمَّ أفْرَغَ عَلَى شِمَالِهِ فَغَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ دَلَكَ يَدَهُ بِالأرْضِ أوْ بِالحَائِطِ ثُمَّ تَمَضْمَضَ واسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَغَسَلَ رَأْسَهُ ثُمَّ صَبَّ عَلَى جَسَدِهِ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ قَدَمَيْهِ فَنَاوَلْتَهُ خِرْقَةً فَقالَ بِيَدِهِ هَكَذًّ وَلَمْ يُرْدْها..
مطابقته لترجمة الْبَاب ظَاهِرَة، وَهَذَا الحَدِيث تقدم من رِوَايَة مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمَذْكُور أَيْضا فِي بَاب الْغسْل مرّة لَكِن شَيْخه هُنَاكَ عبد الْوَاحِد بن زِيَادَة، وَهَاهُنَا أَبُو عوَانَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة، واسْمه الوضَّاح البشكري، وَفِي ألفاظهما اخْتِلَاف. وَهَاهُنَا قَوْلهَا: وضعت لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُنَاكَ: وضعت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهَاهُنَا غسلا، وَهُنَاكَ مَاء غسل، وَهَاهُنَا بعد ذَلِك وسترته فصب على يَدَيْهِ فغسلهما مرّة أَو مرَّتَيْنِ، وَهُنَاكَ فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَهَاهُنَا، وَبعده قَالَ سُلَيْمَان لَا أَدْرِي أذكر الثَّالِثَة أم لَا ثمَّ أفرغ بيمنيه على شِمَاله فَغسل فرجه، وَهُنَاكَ فَغسل مذاكيره ثمَّ مسح يَده بِالْأَرْضِ أَو بِالْحَائِطِ. وَهَاهُنَا: ثمَّ دلك يَده بِالْأَرْضِ أَو بِالْحَائِطِ وَهَاهُنَا هم تمضمض وَهُنَاكَ ثمَّ مضمض وَهَاهُنَا ثمَّ صب على جسده وَهُنَاكَ ثمَّ أَفَاضَ جسده ثمَّ تحول من مَكَانَهُ فَغسل قَدَمَيْهِ وَهَاهُنَا: ثمَّ تنحى إِلَى آخر مَا ذكر. قَوْلهَا: (غسلا) بِضَم الْغَيْن، وَهُوَ مَا يغْتَسل بِهِ، وبالفتح مصدرا، وبالكسر اسْم مَا يغسل بِهِ كالسدر وَنَحْوه. قَوْلهَا: (وسترته) زَاد ابْن فُضَيْل عَن الْأَعْمَش: يثوب، أَي: غطيت رَأسه وَقَالَ بَعضهم: الْوَاو فِيهِ حَالية. قلت: لَيْسَ كَذَلِك: بل هُوَ مَعْطُوف على قَوْله: وضعت قَوْلهَا (فصب) مَعْطُوف على مَحْذُوف أَي: فَأَرَادَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْغسْل فكشف رَأسه فَأَخذه فصب على يَده، وَالْمرَاد من الْيَد الْجِنْس فصح، إِرَادَة كلتيهما مِنْهُ. وَقَالَ بَعضهم: مَا حَاصله: أَن فصب، عطف علفى وضعت، وَالْمعْنَى: وضعت لَهُ مَاء فشرع فِي الْغسْل. قَوْله: (هَذَا تصرف من لَيْسَ لَهُ ذوق من مَعَاني التراكيب، وَكَيف يكون الصب معقباً بِالْوَضْعِ وَبَينهمَا إغسال آخر؟ وَلَا يجوز تَفْسِير: صب بِمَعْنى: شرع قَوْلهَا: (قَالَ سُلَيْمَان)) هُوَ ابْن مهْرَان الْأَعْمَش وَهَذَا مقول أبي عوَانَة، وفاعل قَوْله: (اذكر الثَّالِثَة) هُوَ سَالم بن أبي الْجَعْد، وَقد مر فِي رِوَايَة عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش، فَغسل يَدَيْهِ مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا، وَلابْن فُضَيْل عَن الْأَعْمَش: فصب على يَدَيْهِ ثَلَاثًا، وَلم يشك، أخرجه أَبُو عوَانَة فِي (مستخرجه) فَكَأَن الْأَعْمَش كَانَ يشك فِيهِ تذكر فَجزم، لِأَن سَماع ابْن فُضَيْل مِنْهُ مُتَأَخّر عَنهُ. قَوْلهَا: (فَغسل قَدَمَيْهِ) بِالْفَاءِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: بِالْوَاو، وَقَوْلها: (فَقَالَ بِيَدِهِ) أَي: أَشَارَ بِيَدِهِ هَكَذَا أَي: لَا أتناولها. وَقد ذكرنَا أَن القَوْل يُطلق على الْفِعْل قَوْلهَا: (وَلم يردهَا) بِضَم الْيَاء، من الْإِرَادَة لَا من الرَّد، وَحكي فِي (الْمطَالع) أَن لم يردهَا بِالتَّشْدِيدِ رِوَايَة ابْن السكن، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ وهم لِأَن الْمَعْنى يفْسد حِينَئِذٍ، وَقد رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد عَن عَفَّان عَن أبي عوَانَة بِهَذَا الْإِسْنَاد، وَقَالَ فِي آخِره: فَقَالَ هَكَذَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ أَن لَا أريدها وَفِي روياة أبي حَمْزَة عَن الْأَعْمَش: فناولته ثوبا فَلم يَأْخُذهُ.
وَالْأَحْكَام المستنبطة مِنْهُ قد ذَكرنَاهَا.

12 - (بابٌ إذَا جامَعَ ثُمَّ عادَ وَمَنْ دَارَ علَى نِسَائِهِ فِي غُسْلٍ وَاحِدٍ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا جَامع امْرَأَته ثمَّ عَاد إِلَى جِمَاعهَا مرّة أُخْرَى، وَجَوَاب: إِذا، مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا جَامع ثمَّ عَاد مَا يكون حكم , وَفِي رِوَايَة الْكشميهني، عاود من المعاودة أَي: جَامع. قَوْله: (وَمن دَار) عطف على قَوْله: إِذا جَامع 7 أَي: بَاب أَيْضا يذكر فِيهِ من دَار على نِسَائِهِ فِي غسل وَاحِد، وَجَوَاب، من، محذوق أَيْضا، فَيقدر مثل ذَلِك وَقَالَ بَعضهم: قَوْله: عَاد أَعم من أَن يكون فِي لَيْلَة المجامعة أَو غَيرهَا. قلت: الْجِمَاع فِي غير لَيْلَة فِيهَا لَا يُسمى عوداً عرفا وَعَادَة، وَالْمرَاد هَاهُنَا أَن يكون الِابْتِدَاء وَالْعود فِي لَيْلَة وَاحِدَة، أَو فِي يَوْم وَاحِد، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ حَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن أبي رَافع: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف ذَات يَوْم على نِسَائِهِ يغْتَسل عِنْد هَذِه وَعند هَذِه، فَقلت: يَا رَسُول الله أَلا نجعله غسلا وَاحِدًا , قَالَ: (هَذَا أزكي وَأطيب) وَعنهُ قَالَ: فَإِن قلت: ظَاهر هَذَا يدل على أَن الِاغْتِسَال بَين الجماين وَاجِب. قلت: أجمع الْعلمَاء على أَنه لَا يجب بَينهمَا، وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَحبّ حَتَّى إِن بَعضهم اسْتدلَّ بِهَذَا الحَدِيث على اسْتِحْبَابه، على أَن أَبَا دَاوُد روى هَذَا الحَدِيث، قَالَ: حَدِيث أنس أصح من هَذَا، وَحَدِيث أنس، رَضِي الله عَنهُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا عَنهُ. قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يطوف على غسل وَاحِد) رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَقَالَ: حَدِيث

(3/212)


حسن صَحِيح. وَضعف ابْن الْقطَّان حَدِيث أبي رَافع، وَصَححهُ ابْن حزم، وَعبارَة أبي دَاوُد أَيْضا تدل على صِحَّته.
وَأما الْوضُوء بَين الجماعين فقد اخْتلفُوا فِيهِ فَعِنْدَ الْجُمْهُور لَيْسَ بِوَاجِب، قَوَّال ابْن حبيب الْمَالِكِي وَدَاوُد الظَّاهِرِيّ: إِنَّه وَاجِب وَقَالَ ابْن جزم، وَهُوَ قَول عَطاء وَإِبْرَاهِيم وَعِكْرِمَة وَالْحسن وَابْن سِيرِين، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث أبي سعيد قَالَ: (قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَتَى أحدكُم أَهله ثمَّ أَرَادَ أَن يعود، فَليَتَوَضَّأ بَينهمَا وضوأً) أخرجه مُسلم من طَرِيق حَفْص بن عَاصِم عَن أبي المتَوَكل عَنهُ، وَحمل الْجُمْهُور الْأَمر بِالْوضُوءِ على النّدب والاستحباب، لَا للْوُجُوب، مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة عَن أبي إِسْحَاق عَن الْأسود عَن عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُجَامع ثمَّ يعود وَلَا يتَوَضَّأ) قَالَ أَبُو عمر: مَا أعلم أحدا من أهل الْعلم أوجبه إلاَّ طَائِفَة من أهل الظَّاهِر. قلت: روى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) حَدثنَا وَكِيع عَن مسعر عَن محَارب بن دثار، سَمِعت ابْن عمر يَقُول: إِذا أَرَادَ أَن يعود تَوَضَّأ وَحدثنَا وَكِيع عَن عمر بن الْوَلِيد سَمِعت ابْن مُحَمَّد يَقُول إِذا أَرَادَ أَن يعود تَوَضَّأ، وَحدثنَا وَكِيع عَن الْفضل بن عبد الْملك عَن عَطاء مثله، وَمَا نسب ابْن حزم من إِيجَاب الْوضُوء إِلَى الْحسن وَابْن سِيرِين فَيردهُ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) فَقَالَ: حَدثنَا ابْن إِدْرِيس عَن هِشَام عَن الْحسن أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يُجَامع الرجل امْرَأَته أَنه ثمَّ يعود قبل أَن يتَوَضَّأ قَالَ: وَكَانَ ابْن سِيرِين يَقُول: لَا أعلم بذلك بَأْسا إِنَّمَا قبل ذَلِك لِأَنَّهُ أجْرى أَن يعود. وَنقل عَن إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه أَنه حمل الْوضُوء الْمَذْكُور على الْوضُوء اللّغَوِيّ، حَيْثُ نقل ابْن الْمُنْذر عَنهُ أَنه قَالَ: لَا بُد من غسل الْفرج إِذا أَرَادَ الْعود. قلت: يرد هَذَا مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة عَن عَاصِم فِي الحَدِيث الْمَذْكُور فَليَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة؟ وَفِي لفظ عِنْده: فَهُوَ أنشط للعود، وصحيح الْحَاكِم لفظ: وضوءه للصَّلَاة، ثمَّ قَالَ: هَذِه لَفْظَة تفرد بهَا شُعْبَة عَن عَاصِم، والتفرد من مثله مَقْبُول عِنْد الشَّيْخَيْنِ: فَإِن قلت: يُعَارض هَذِه الْأَخْبَار حَدِيث ابْن عَبَّاس (قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِنَّمَا أمرت بِالْوضُوءِ إِذا قُمْت إِلَى الصَّلَاة) قَالَه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) قلت قَيده أَبُو عوَانَة بقوله: إِن كَانَ صَحِيحا عِنْد أهل الحَدِيث. قلت: الحَدِيث صَحِيح، وَلَكِن قَالَ الطَّحَاوِيّ: الْعَمَل على حَدِيث الْأسود عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَقَالَ الضياء الْمَقْدِسِي والثقفي، من حَدِيث فِي نصْرَة الصِّحَاح، هَذَا كُله مَشْرُوع جَائِز، من شَاءَ أَخذ بِهَذَا، وَمن شَاءَ أَخذ بِالْآخرِ.

267 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قالَ حدّثنا ابنُ أبي عَدِىً وَيَحْيَى بنُ سَعِيدً عَنْ شُعَحبَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بنِ مُحَمَّدٍ بنِ المُنْتَشِرٍ عَنْ أبِيهِ قالَ ذَكَرْتَهُ لِعَائِشَةَ فقالَتْ يَرْحَمُ اللَّهُ أبَا عَبْدِ الرَّحْمنِ كُنْتُ أطيبُ رسولَ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَي عطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ ثُمَّ يُصْبِحُ مُحْرِماً يَنْضَحُ طيبا.
(الحَدِيث 267 طرفه فِي: 270) .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فيطوف على نِسَائِهِ) . فَإِن قلت: قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ الْجِمَاع، وَيحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ تَجْدِيد الْعَهْد بِهن. قلت: الِاحْتِمَال الثَّانِي يُعِيد، وَالْمرَاد بِهِ الْجِمَاع، يدل عَلَيْهِ الحَدِيث الثَّانِي الَّذِي يَلِيهِ فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ أَنه أعطي قُوَّة ثَلَاثِينَ، وَيَطوف هَاهُنَا مثل: يَدُور، فِي الحَدِيث الثَّانِي. ثمَّ اعْلَم أَن نسخ البُخَارِيّ مُخْتَلفَة فِي تَقْدِيم حَدِيث أنس على حَدِيث عَائِشَة وَعَكسه، وَمَشى الدَّاودِيّ على تَقْدِيم حَدِيث عَائِشَة، وَكَذَا ابْن بطال فِي شَرحه.
ذكر رِجَاله وهم سَبْعَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة والشين الْمُعْجَمَة، الْمَعْرُوف ببندار، وَقد تقدم. الثَّانِي: ابْن أبي عدي، هُوَ مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ سنة أَربع وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: يحيى بن سعيد الْقطَّان. تقدم. الرَّابِع: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الْخَامِس: إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن الْمُنْتَشِر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الشين الْمُعْجَمَة. السَّادِس: أَبوهُ مُحَمَّد الْمَذْكُور. السَّابِع: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الذّكر وَالْقَوْل وَفِيه: قَوْله: وَيحيى بن سعيد، وَبَين شُعْبَة لَفْظَة: كِلَاهُمَا مقدرَة، لِأَن كلاًّ من ابْن أبي عدي وَيحيى روى عَن شُعْبَة هَذَا الحَدِيث، وحذفت من الْكِتَابَة للاصطلاح، وَلَكِن عِنْد الْقِرَاءَة يَنْبَغِي أَن تثبت. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره رجه البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب وَفِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ كَمَا يَجِيء عَن قريب، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن سعيد بن مَنْصُور وَأبي كَامِل الجحدري، كلاهماعن أبي عوَانَة وَعَن يحيى بن حبيب وَعَن أبي كريب أخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة عَن هناد، وَعَن حميد بن مسْعدَة.

(3/213)


ذكر لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (ذكرته) أَي: ذكرت قَول ابْن عمر لعَائِشَة وَلَفظ فِي حَدِيث الآخر الَّذِي يَأْتِي: (سَأَلت عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَذكرت لَهَا قَول ابْن عمر: مَا أحب أَن أصبح محرما أنضخ طيبا، فَقَالَت عَائِشَة: أَنا طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الحَدِيث وَقد بَين مُسلم أَيْضا فِي رِوَايَته عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر، قَالَ: (سَأَلت ابْن عمر عَن الرجل يتطيب ثمَّ يصبح محرما) فَذكره وَزَاد، قَالَ ابْن عمر: (لِأَن اطلى بقطران أحب لي من أَن أفعل ذَلِك) وَكَذَا سَاقه الْإِسْمَاعِيلِيّ بِتَمَامِهِ عَن الْحسن بن سُفْيَان عَن مُحَمَّد بن بشار، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (ذكرته) أَي: قَول ابْن عمر: مَا أحب أَن أصبح محرما انضخ طيبا، وكنى بالضمي عَنهُ، لِأَنَّهُ مَعْلُوم عِنْد أهل الشَّأْن قلت: هَذَا كَلَام عَجِيب، فالوقوف على مثل هَذَا مُخْتَصّ بِأَهْل الشَّأْن، فَإِذا وقف أحد من غير أهل الشَّأْن على هَذَا الحَدِيث يتحير فَلَا يدْرِي أَي شَيْء يرجع إِلَيْهِ الضَّمِير فِي قَوْله (وذكرته) وَكَانَ يَنْبَغِي للْبُخَارِيّ، بل كَانَ الْمُتَعَيّن عَلَيْهِ أَن يقدم رِوَايَة أبي النُّعْمَان هَذَا الحَدِيث على رِوَايَة مُحَمَّد بن بشار، لِأَن رِوَايَة أبي النُّعْمَان ظَاهِرَة، وَالَّذِي يقف على رِوَايَة مُحَمَّد بن بشار بعد وُقُوفه على رِوَايَة أبي النُّعْمَان لَا يتَوَقَّف فِي مرجع الضَّمِير، وَيعلم أَنه يرجع إِلَى قَول ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقَالَ بَعضهم: فَكَأَن المُصَنّف اخْتَصَرَهُ لكَون الْمَحْذُوف مَعْلُوما عِنْد أهل الحَدِيث فِي هَذِه الْقِصَّة. قلت: هَذَا أعجب من ذَلِك، مَعَ أَنه أَخذ مَا قَالَه مِنْهُ وَقَالَ أَيْضا أَو حَدثهُ بِهِ مُحَمَّد بن بشار مُخْتَصرا قلت: فعلى هَذَا كَانَ يتَعَيَّن ذكره بعد ذكر رِوَايَة أبي النُّعْمَان كَمَا ذكرنَا قَوْله: (فيطوف على نِسَائِهِ) قَالَ بَعضهم: هُوَ كِنَايَة عَن الْجِمَاع. قلت: يحْتَمل أَن يُرَاد بِهِ تَجْدِيد الْعَهْد بِهن، ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَلَكِن الْقَرِينَة دلّت على أَن المُرَاد هُوَ الْجِمَاع، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ قَوْله فِي حَدِيث أنس الَّذِي يَأْتِي: (كَانَ النَّبِي الله يَدُور على نِسَاءَهُ فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة من اللَّيْل وَالنَّهَار) قَوْله: (ينضخ) بِفَتْح الْيَاء وَالضَّاد الْمُعْجَمَة بعْدهَا خاء مُعْجم، أَي: يفور، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فيهمَا عينان نضاختان} (سُورَة الرحمان: 66) وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَضَبطه بَعضهم بِالْحَاء الْمُهْملَة، قَالَه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَكَذَا ضَبطه عَامَّة من حَدثنَا وهما متقاربان فِي الْمَعْنى. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَقد اخْتلف فِي أَيهمَا أَكثر، وَالْأَكْثَر بِالْمُعْجَمَةِ أقل من الْمُهْملَة، وَقيل: بِالْمُعْجَمَةِ الْأَثر يبْقى فِي الثَّوْب والجسد، وبالمهملة الْفِعْل نَفسه، وَقيل: بِالْمُعْجَمَةِ مَا فعل مُتَعَمدا. وبالمهملة من غير تعمد وَذكر صَاحب (الْمطَالع) عَن ابْن كيسَان أَنه بِالْمُهْمَلَةِ لما رق كَالْمَاءِ، وبالمعجمة لما ثخن كالطيب. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هُوَ بِالْمُعْجَمَةِ أقل من المهلمة، عَكسه، وَقَالَ ابْن بطال: من رَوَاهُ بِالْحَاء فالنضخ، عِنْد الْعَرَب كاللطخ، يُقَال: نضح ثَوْبه بالطيب، هَذَا قَول الْخَلِيل، وَفِي كتاب (الْأَفْعَال) نضخت الْعين بِالْمَاءِ نضخاً إِذا فارت، وَاحْتج بقوله تَعَالَى: {فيهمَا عينان نضاختان} وَمن رَوَاهُ بِالْحَاء فَقَالَ صَاحب (الْعين) نضخت الْعين بِالْمَاءِ إِذا رَأَيْتهَا تَفُور وَكَذَلِكَ الْعين الناطرة إِذا رَأَيْتهَا مغروقة وَفِي الصِّحَاح قَالَ أَبُو زيد النضخ بِلَا عجام الرش مثل النَّضْح، بالإهمال، وهما بِمَعْنى. وَقَالَ الْأَصْمَعِي: يُقَال: أَصَابَهُ نضخ من كَذَا، وَهُوَ أَكثر من النضخ بِالْمُهْمَلَةِ. قَوْله: (طيبا) نصب على التميز.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهُ فِيهِ: دلَالَة على اسْتِحْبَاب الطّيب عِنْد الْإِحْرَام، وَإنَّهُ لَا بَأْس بِهِ إِذا استدام بعد الْإِحْرَام، وَإِنَّمَا يحرم ابتداؤه فِي الْإِحْرَام وَهَذَا مَذْهَب الثَّوْريّ وَالشَّافِعِيّ وَأبي يُوسُف وَأحمد بن حَنْبَل وَدَاوُد وَغَيرهم، وَبِه قَالَ جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وجماهير الْمُحدثين وَالْفُقَهَاء، فَمن الصَّحَابَة: سعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَمُعَاوِيَة وَعَائِشَة وَأم حَبِيبَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ آخَرُونَ بِمَنْعه مِنْهُم: الزُّهْرِيّ وَمَالك وَمُحَمّد بن الْحسن، وَحكي عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَادّعى بَعضهم أَن هَذَا التَّطَيُّب كَانَ للنِّسَاء لَا للْإِحْرَام، وَادّعى أَن فِي هَذِه الرِّوَايَة تَقْدِيمًا وتأخيراً، التَّقْدِير: فيطوف على نِسَائِهِ ينضخ طيبا ثمَّ يصبح محرما وَجَاء ذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات، وَالطّيب يَزُول بِالْغسْلِ لَا سِيمَا أَنه ورد أَنه كَانَ يغْتَسل عِنْد كل وَاحِدَة مِنْهُنَّ، وَكَانَ هَذَا الطّيب ذريرة كَمَا أخرجه البُخَارِيّ فِي اللبَاس وَهُوَ مِمَّا يذهبه الْغسْل، وتقويه رِوَايَة البُخَارِيّ الْآتِيَة قَرِيبا: (طيبت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ طَاف فِي نِسَائِهِ ثمَّ أصبح محرما) وَرِوَايَته الْآتِيَة أَيْضا: (كَأَنِّي انْظُر إِلَى وبيص الطّيب فِي مفرقه وَهُوَ محرم) . وَفِي بعض الرِّوَايَات، بعد ثَلَاث، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: هَذَا الطّيب كَانَ دهناً لَهُ أثر فِيهِ مسك فَزَالَ وَبقيت رَائِحَته، وَادّعى بَعضهم خُصُوصِيَّة ذَلِك بالشارع، فَإِنَّهُ أَمر صَاحب الْجُبَّة بِغسْلِهِ. قَالَ الْمُهلب، رَحمَه الله تَعَالَى السّنة اتِّحَاد الطّيب للنِّسَاء وَالرِّجَال عِنْد الْجِمَاع فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم املك لاربه من سَائِر أمته فَلذَلِك كَانَ لَا يتَجَنَّب الطّيب.
فِي الْإِحْرَام. ونهانا عَنهُ لضعفنا عَن ملك الشَّهَوَات، إِذْ الطّيب أَسبَاب الْجِمَاع. وَفِيه: الِاحْتِجَاج لمن لَا يُوجب الدَّلْك فِي الْغسْل، لِأَنَّهُ لَو كَانَ ذَلِك لم

(3/214)


يتضخ مِنْهُ الطّيب. قلت: يجوز أَن يكون دلكه لكنه بَقِي وبيصه، وَالطّيب إِذا كَانَ كثيرا رُبمَا غسله فَيذْهب وَيبقى وبيصه. وَفِيه: عدم كَرَاهَة كَثْرَة الْجِمَاع عِنْد الطَّاقَة. وَفِيه: عدم كَرَاهَة التَّزَوُّج بِأَكْثَرَ من وَاحِدَة إِلَى أَربع. وَفِيه: أَن غسل الْجَنَابَة لَيْسَ على الْفَوْر، وَإِنَّمَا يتضيق على الْإِنْسَان عِنْد الْقيام إِلَى الصَّلَاة، وَهَذَا بِالْإِجْمَاع. فَإِن قلت: مَا سَبَب وجوب الْغسْل قلت: الْجَنَابَة مَعَ إِرَادَة الْقيام إِلَى الصَّلَاة كَمَا أَن سَبَب الْوضُوء الْحَدث مَعَ إِرَادَة الْقيام إِلَى الصَّلَاة وَلَيْسَ الْجَنَابَة وَحدهَا، كَمَا هُوَ مَذْهَب بعض الشَّافِعِيَّة وإلاَّ يلْزم أَن يجب الْغسْل عقب الْجِمَاع، والْحَدِيث يُنَافِي هَذَا، وَلَا مُجَرّد إِرَادَة الصَّلَاة، وإلاَّ يلْزم أَن يجب الْغسْل بِدُونِ الْجَنَابَة.

268 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارَ قَالَ حدّثنا مُعَاذْ بنُ هِشَامٍ قالَحدّثني
أبي عَنْ قَتَادَةَ قالَ حدّثنا أنَسُ بنُ مالِكِ قالَ كانِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَدُورُ عَلَى نِسَائِهِ فِي السَّاعَةِ الوَاحِدَةِ مِنَ اللَّيْلَ والنَّهَارِ وَهُنَّ إحْدَى عَشْرَةَ قَالَ قُلْتُ لأَنَسٍ أوَ كانَ يُطِيقُهُ كُنَّا نَتَحَدَّثُ أنَّهُ أعْطِيَ قُوَّةَ ثَلاثِينَ..
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يَدُور على نِسَائِهِ) .
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن بشار، وَقد مر فِي الحَدِيث السَّابِق. الثَّانِي: معَاذ بن هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: أَبوهُ أَبُو عبد الله، تقدم فِي بَاب زِيَادَة الْإِيمَان ونقصانه. الرَّابِع: قَتَادَة الأكمه السدُوسِي، مر فِي بَاب من الْإِيمَان أَن يحب لِأَخِيهِ. الْخَامِس: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع واحده وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه النَّسَائِيّ فِي عشرَة النِّسَاء عَن إِسْحَاق بن الثَّالِث: براهيم عَن معَاذ بن هِشَام.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (يَدُور على نِسَائِهِ) دورانه، لله فِي ذَلِك يحْتَمل وُجُوهًا. الأول: أَن يكون ذَلِك عِنْد أقباله من السّفر، حَيْثُ لَا قسم يلْزم لِأَنَّهُ كَانَ إِذا سَافر أَقرع بَين نِسَائِهِ، فأيتهن خرج سهمها سَافر بهَا، فَإِذا انْصَرف اسْتَأْنف الْقسم بعد ذَلِك، وَلم تكن وَاحِدَة مِنْهُنَّ أولى من صاحبتها بالبداءة، فَلَمَّا اسْتَوَت حقوقهن جمعهن كُلهنَّ فِي وَقت ثمَّ اسْتَأْنف الْقسم بعد ذَلِك. الثَّانِي: أَن ذَلِك كَانَ بإذنهن ورضاهن أَو بِإِذن صَاحِبَة النّوبَة ورضاها كنحو اسْتِئْذَانه مِنْهُنَّ أَن يمرض فِي بَيت عَائِشَة. قَالَه أَبُو عبيد. الثَّالِث: قَالَ الْمُهلب: إِن ذَلِك كَانَ فِي يَوْم فَرَاغه من الْقسم بَينهُنَّ، فيقرع فِي هَذَا الْيَوْم لَهُنَّ أجمع، ويستأنف بعد ذَلِك. قلت: هَذَا التَّأْوِيل عِنْد من يَقُول بِوُجُوب الْقسم عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي الدَّوَام كَمَا يجب علينا وهم الْأَكْثَرُونَ، وَأما من لَا يُوجِبهُ فَلَا يحْتَاج إِلَى تَأْوِيل. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الثَّالِث: أَن الله خص نبيه. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بأَشْيَاء فِي النِّكَاح. وَمِنْهَا: أَنه اعطاه سَاعَة لَا يكون لأزواجه فِيهَا حق حَتَّى يدْخل فِيهَا جَمِيع أَزوَاجه، فيفعل مَا يُرِيد بِهن، ثمَّ يدْخل عِنْد الَّتِي يكون الدّور لَهَا. وَفِي كتاب مُسلم عَن ابْن عَبَّاس أَن تِلْكَ السَّاعَة كَانَت بعد الْعَصْر. قَوْله: (فِي السَّاعَة الْوَاحِدَة) المُرَاد بهَا: قدر من الزَّمَان، لَا السَّاعَة الزمانية الَّتِي هِيَ خمس عشرَة دَرَجَة. قَوْله: (وَالنَّهَار) الْوَاو فِيهِ بِمَعْنى: أَو، الْهمزَة فِي قَوْله: (أَو كَانَ) للاستفهام، وفاعل (قلت) : هُوَ قَتَادَة، ومميز (ثَلَاثِينَ) مَحْذُوف أَي: ثَلَاثِينَ رجلا وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق أبي مُوسَى عَن معَاذ بن هِشَام: أَرْبَعِينَ، بدل ثَلَاثِينَ، وَهِي شَاذَّة من هَذَا الْوَجْه، لَكِن فِي مَرَاسِيل طَاوُوس مثل ذَلِك وَزَاد فِي الْجِمَاع. قَوْله: (وَهن إِحْدَى عشرَة) قَالَ ابْن خُزَيْمَة، لم يقل أحد من أَصْحَاب قَتَادَة: إِحْدَى عشرَة إلاَّ معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه، وَقد روى البُخَارِيّ الرِّوَايَة الْأُخْرَى عَن أنس: تسع نسْوَة، وَجمع بَينهمَا بِأَن أَزوَاجه كن تسعا فِي هَذَا الْوَقْت كَمَا فِي رِوَايَة سعيد: وسريتاه مَارِيَة وَرَيْحَانَة، على رِوَايَة من روى أَن رَيْحَانَة كَانَت أمة، وروى بَعضهم أَنَّهَا كَانَت زَوْجَة، وروى أَبُو عبيد أَنه كَانَ مَعَ ريحانه فَاطِمَة بنت شُرَيْح. قَالَ ابْن حبَان: هَذَا الْفِعْل مِنْهُ فِي أول مُقَدّمَة الْمَدِينَة حَيْثُ كَانَ تَحْتَهُ تسع نسْوَة، وَلِأَن هَذَا الْفِعْل

(3/215)


مِنْهُ كَانَ مرَارًا لَا مرّة وَاحِدَة. وَلَا يعلم أَنه تزوج نسَاء كُلهنَّ فِي وَقت وَاحِد، وَلَا يَسْتَقِيم هَذَا إلاَّ فِي آخر أمره حَيْثُ اجْتمع عِنْده تسع نسْوَة وجاريتان، وَلم يعلم أَنه اجْتمع عِنْده إِحْدَى عشرَة امْرَأَة بِالتَّزْوِيجِ، فَإِنَّهُ تزوج بأحدى عشرَة أولهنَّ خَدِيجَة وَلم يتَزَوَّج عَلَيْهَا حَتَّى مَاتَت، وَوَقع فِي شرح ابْن بطال أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يحل لَهُ من الْحَرَائِر غير تسع، وَالأَصَح عندنَا أَنه يحل لَهُ مَا شَاءَ من غير حصر. قلت: قَول ابْن حبَان: هَذَا الْفِعْل مِنْهُ كَانَ فِي أول مقدمه الْمَدِينَة حَيْثُ كَانَ تَحْتَهُ تسع نسْوَة، فِيهِ نظر، لِأَنَّهُ لم يكن مَعَه حِين قدم الْمَدِينَة امْرَأَة سوى سَوْدَة، ثمَّ دخل على عَائِشَة بِالْمَدِينَةِ، ثمَّ تزوج أم سَلمَة وَحَفْصَة وَزَيْنَب بنت خُزَيْمَة فِي الثَّالِثَة أَو الرَّابِعَة، ثمَّ تزوج زَيْنَب بنت جحش فِي الْخَامِسَة، ثمَّ جوَيْرِية فِي السَّادِسَة ثمَّ حَفْصَة وَأم حَبِيبَة ومَيْمُونَة فِي السَّابِعَة، وَهَؤُلَاء جَمِيع من دخل بِهن من الزَّوْجَات بعد الْهِجْرَة على الْمَشْهُور.
وَاخْتلفُوا فِي عدَّة أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي ترتيبهن، وعدة من مَاتَ مِنْهُنَّ قبله، وَمن دخل بهَا وَمن لم يدْخل بهَا، وَمن خطبهَا وَلم ينْكِحهَا، وَمن عرضت نَفسهَا عَلَيْهِ فَقَالُوا: إِن أول امْرَأَة تزَوجهَا خَدِيجَة بنت خويلد، ثمَّ سَوْدَة بنت زَمعَة، ثمَّ عَائِشَة بنت أبي بكر، ثمَّ حَفْصَة بنت عمر بن الْخطاب، ثمَّ أم سَلمَة اسْمهَا، هِنْد بنت أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة، ثمَّ جوَيْرِية بنت الْحَارِث، سباها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي غَزْوَة المربسيع، ثمَّ زَيْنَب بنت جحش ثمَّ زَيْنَب بنت خزمية، ثمَّ رَيْحَانَة بنت زيد من بني قُرَيْظَة، وَقيل: من بني النصير، سباها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ أعْتقهَا وَتَزَوجهَا فِي سنة سِتّ، وَمَاتَتْ بعد عوده من حجَّة الْوَدَاع، ودفنت بِالبَقِيعِ، وَقيل: مَاتَت بعده فِي سنة سِتّ عشرَة، وَالْأول أصح، ثمَّ أم حَبِيبَة وَاسْمهَا رَملَة بنت أبي سُفْيَان أُخْت مُعَاوِيَة ابْن أبي سُفْيَان وَلَيْسَ فِي الصحابيات من اسْمهَا رَملَة غَيرهَا، ثمَّ صَفِيَّة بنت حيى بن أَخطب من سبط هَارُون، عَلَيْهِ السَّلَام، وَقعت فِي السَّبي يَوْم خَيْبَر سنة سبع فاصطفاها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ مَيْمُونَة بنت الْحَارِث تزَوجهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذِي الْقعدَة سنة سبع فِي عمْرَة الْقَضَاء بسرف على عشرَة أَمْيَال من مَكَّة، وَتزَوج أَيْضا فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك، وَأَسْمَاء بنت النُّعْمَان.
وَأما بَقِيَّة نِسَائِهِ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اللَّاتِي دخل بِهن أَو عقد وَلم يدْخل فهن ثَمَان وَعِشْرُونَ امْرَأَة. ريحانه بنت زيد، وَقد ذَكرنَاهَا. والكلابية، فَقيل اسْمهَا: عمْرَة بنت زيد، وَقيل: الْعَالِيَة بنت ظبْيَان، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: تزوج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْعَالِيَة بنت طبيان وَدخل بهَا وَطَلقهَا، وَقيل: لم يدْخل بهَا وَطَلقهَا، وَقيل: هِيَ فَاطِمَة بنت الضَّحَّاك، وَقَالَ الزُّهْرِيّ: تزَوجهَا فاستعاذت مِنْهُ فَطلقهَا، فَكَانَت تلقط البعر وَتقول: أَنا الشقية. وَأَسْمَاء بنت النُّعْمَان، تزَوجهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودعاها فَقَالَت: تَعَالَى أَنْت فَطلقهَا، وَقيل: هِيَ الَّتِي استعاذت مِنْهُ. وَقيل بنت قيس أُخْت الْأَشْعَث بن قيس، زوجه إِيَّاهَا أَخُوهَا ثمَّ انْصَرف إِلَى حَضرمَوْت فحملها إِلَيْهِ قبلغه وَفَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَردهَا إِلَى بِلَاده فَارْتَد عَن الْإِسْلَام وارتدت مَعَه. ومليكة بنت كَعْب اللَّيْثِيّ، قيل: هِيَ استعاذت مِنْهُ، وَقيل: دخل بهَا فَمَاتَتْ عِنْده، وَالْأول أصح. وَأَسْمَاء بنت الصَّلْت السلمِيَّة، قيل: اسْمهَا سبا، قَالَه ابْن مَنْدَه، وَقيل: سناقا لَهُ ابْن عَسَاكِر ابْن عَسَاكِر، تزَوجهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَاتَتْ قبل أَن يدْخل بهَا. وَأم شريك الْأَزْدِيَّة، وإسمها عزبة، طَلقهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن يدْخل بهَا، وَهِي الَّتِي وهبت نَفسهَا للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت امْرَأَة صَالِحَة. وَخَوْلَة بنت هُذَيْل تزَوجهَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَهَلَكت قبل أَن تصل إِلَيْهِ. وشراف بنت خَالِد أُخْت حَيَّة الْكَلْبِيّ تزَوجهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يدْخل بهَا وَفِي (عُيُون الْأَثر) فَمَاتَتْ قبله. وليلى بنت الخطيم. تزَوجهَا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَكَانَت غيوراً فاستقالته فأقالها. وَعمرَة بنت مُعَاوِيَة الكندية مَاتَ النَّبِي. صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قبل أَن تصل إِلَيْهِ. والجندعية بنت جُنْدُب، تزَوجهَا وَلم يدْخل عَلَيْهَا، وَقيل: لم يعْقد عَلَيْهَا. والغفارية. قيل: هِيَ السنإ تزَوجهَا النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، فَرَأى بكشحها بَيَاضًا فَقَالَ: إلحقي بأهلك. وَهِنْد بنت يزِيد، وَلم يدْخل نبها. وَصفِيَّة بنت بشامة أَصَابَهَا سبياً فَخَيرهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: (إِن شِئْت أَنا وَإِن شِئْت زَوجك) . فَقَالَت: زَوجي فأرسلها، فلعنتها بَنو تَمِيم. وَأم هانىء وَاسْمهَا: فَاخِتَة بنت أبي طَالب أُخْت عَليّ بن أبي طَالب، خطبهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَت إِنِّي امْرَأَة مُصِيبَة واعتذرت إِلَيْهِ فأعذرها وضباعة بنت عَامر، خطبهَا النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَبَلغهُ كبرها فَتَركهَا، وَحَمْزَة بنت عون الْمُزنِيّ خطبهَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ أَبوهَا إِن بهَا سوءا وَلم يكن بهَا شَيْء، فَرجع إِلَيْهَا أَبوهَا وَقد برصت، وَهِي أم شبيب بن البرصاء الشَّاعِر وَسَوْدَة القرشية، خطبهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت مُصِيبَة. وَقَالَت أَخَاف أَن تضعف صبيتي عِنْد رَأسك، فَدَعَا لَهَا وَتركهَا وأمامة بنت حَمْزَة بن عبد الْمطلب، عرضت على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هِيَ ابْنة أخي من الرضَاعَة، وَعزة بنت أبي سُفْيَان

(3/216)


ابْن حَرْب، عرضتها أُخْتهَا أم حَبِيبَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: إِنَّهَا لَا تحل لي لمَكَان أُخْتهَا أم حَبِيبَة تَحت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكلبية لم يذكر اسْمهَا، فَبعث إِلَيْهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَائِشَة فرأتها فَقَالَت: مَا رَأَيْت طائلاً فَتَركهَا. وَامْرَأَة من الْعَرَب لم يذكر لَهَا اسْم خطبهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ تَركهَا ودرة بنت أم سَلمَة، قيل لَهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِأَن يَأْخُذهَا قَالَ: إِنَّهَا بنت أخي من الرضَاعَة. وَأُمَيْمَة بنت شرَاحِيل، لَهَا ذكر فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) وحبيبة بنت سهل الْأَنْصَارِيَّة، أَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يَتَزَوَّجهَا ثمَّ تَركهَا وَفَاطِمَة بنت شُرَيْح ذكرهَا أَبُو عبيد فِي أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم والعالية بنت ظبْيَان، تزَوجهَا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَكَانَت عِنْده مَا شَاءَ الله ثمَّ طَلقهَا.
قَوْله: (كُنَّا نتحدث أَنه أعْطى قُوَّة ثَلَاثِينَ) كَذَا جَاءَ هَاهُنَا فِي (صَحِيح الْإِسْمَاعِيلِيّ) من حَدِيث أبي يعلى عَن أبي مُوسَى عَن معَاذ (قُوَّة أَرْبَعِينَ) وَفِي (الْحِلْية) لأبي نعيم عَن مُجَاهِد (أعطي قُوَّة أَرْبَعِينَ رجلا كل رجل من رجال أهل الْجنَّة) . وَفِي (جَامع التِّرْمِذِيّ) فِي صفة الْجنَّة من حَدِيث عمرَان لقطان عَن قَتَادَة عَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يُعْطي الْمُؤمن فِي الْجنَّة قُوَّة كَذَا وَكَذَا من الْجِمَاع، قيل: يَا رَسُول الله أَو يُطيق ذَلِك؟ فَقَالَ: يُعْطي قُوَّة مائَة رجل) ثمَّ قَالَ: حَدِيث غَرِيب صَحِيح، لَا نعرفه من حَدِيث قَتَادَة إلاَّ من حَدِيث عمرَان الْقطَّان، وصحيح ابْن حبَان حَدِيث أنس أَيْضا، فَإِذا ضربنا أَرْبَعِينَ فِي مائَة صَارَت أَرْبَعَة آلَاف، وَذكر ابْن الْعَرَبِيّ أَنه كَانَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْقُوَّة الظَّاهِرَة على الْخلق فِي الْوَطْء، كَمَا فِي هَذَا الحَدِيث، وَكَانَ لَهُ فِي الْأكل قناعة ليجمع الله لَهُ الفضيلتين فِي الْأُمُور الاعتبارية، كَمَا جمع لَهُ الفضيلتين فِي الْأُمُور الشَّرْعِيَّة، حَتَّى يكون حَاله كَامِلا فِي الدَّاريْنِ.
وَقالَ سَعيدُ عَنْ قَتَادَةَ أنَّ أنسَاً حَدَّثَهُمْ تِسْعُ نِسْوَةٍ
سعيد هُوَ ابْن عرُوبَة، كَذَا هُوَ عِنْد الْجَمِيع، وَقَالَ الْأصيلِيّ: إِنَّه وَقع فِي نُسْخَة شُعْبَة يدل سعيد قَالَ: وَفِي عرضنَا على أبي زيد بِمَكَّة سعيد قَالَ أَبُو عَليّ الجياني: هُوَ الصَّوَاب قَالَ الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَنه تَعْلِيق من البُخَارِيّ، وَيحْتَمل أَن يكون من كَلَام ابْن أبي عدي وَيحيى الْقطَّان لِأَنَّهُمَا يرويان عَن ابْن أبي عرُوبَة، وَأَن يكون من كَلَام معَاذ إِن صَحَّ سَمَاعه من سعيد. قلت: هُنَا تَعْلِيق بِلَا نزاع، وَلكنه وَصله فِي بَاب الْجنب يخرج وَيَمْشي فِي السُّوق، وَهُوَ الْبَاب الثَّانِي عشر من هَذَا الْبَاب، وَقَالَ: حَدثنَا عبد الْأَعْلَى بن حَمَّاد، قَالَ: حَدثنَا يزِيد بن زُرَيْع. قَالَ: حَدثنَا سعيد عَن قَتَادَة أَن أنس بن مَالك حَدثهمْ: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يطوف على نِسَائِهِ فِي اللَّيْلَة الْوَاحِدَة وَله يَوْمئِذٍ تسع نسْوَة) وَأما رِوَايَة شُعْبَة بِهَذَا الحَدِيث عَن قَتَادَة فقد وَصلهَا الإِمَام أحم،. قَوْله: (تسع نسْوَة) أَي: قَالَ بدل: إِحْدَى عشرَة نسْوَة تسع نسْوَة، وتسع مَرْفُوع لِأَنَّهُ خبر.
ذكر أَحْكَام لَيست فِيمَا مضى. مِنْهَا: مَا أعطي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْقُوَّة على الْجِمَاع، وَهُوَ دَلِيل على كَمَال البنية. وَمِنْهَا: مَا اسْتدلَّ بِهِ ابْن التِّين لقَوْل مَالك بِلُزُوم الظِّهَار من الْإِمَاء بِنَاء على أَن المُرَاد بالزائدتين على التسع، مَارِيَة وَرَيْحَانَة، وَقد أطلق على الْجَمِيع لفظ نِسَائِهِ، وَفِيه نظر، لِأَن الْإِطْلَاق الْمَذْكُور بطرِيق التغليب. وَمِنْهَا: مَا اسْتدلَّ بِهِ ابْن الْمُنِير على جَوَاز وَطْء الْحرَّة بعد الْأمة من غير غسل بَينهمَا، وَلَا غَيره للمنقول عَن مَالك إِنَّه يتَأَكَّد الِاسْتِحْبَاب فِي هَذِه الصُّورَة.

13 - (بابُ غَسْلِ المَذْىٍ وَالوُضُوءِ مِنْهُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم غسل الْمَذْي وَحكم الْوضُوء مِنْهُ، والمذي، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وبكسر الذل وَتَشْديد الْيَاء، حُكيَ ذَلِك عَن ابْن الْأَعرَابِي: وَهُوَ مَا يخرج من الذّكر عِنْد الملاعبة والتقبيل، يُقَال مذي الرجل، بِالْفَتْح، وأمذى بِالْألف مثله، وَيُقَال: كل ذكر يمذي وكل أُنْثَى تقذي من قذت الشَّاة، إِذا أَلْقَت من رَحمهَا بَيَاضًا، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْمَذْي البلل اللزح الَّذِي يخرج من الذّكر عِنْد ملاعبة النِّسَاء، وَرجل مذاه، فعال بِالتَّشْدِيدِ، للْمُبَالَغَة فِي كَثْرَة الْمَذْي وَفِي (الْمطَالع) هُوَ مَاء رَقِيق يخرج عِنْد التَّذَكُّر أَو الملاعبة يُقَال: مذى وأمذى ومذى، وَقد لَا يحس بِخُرُوجِهِ.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن فِي الْبَاب الأول بَيَان حكم الْمَنِيّ، وَفِي هَذَا الْبَاب بَيَان حكم الْمَذْي، وَهُوَ من تَوَابِع الْمَنِيّ، وَمثله فِي النجاسية غير أَن فِي الْمَنِيّ الْغسْل، وَفِي الْمَذْي الْوضُوء.

269 - حدّثنا أبُو الوَلِيدِ قالَ حدّثنا زَائِدَةُ عَنْ أبي حَصِينٍ عَنْ أبي عَبْدِ الرَّحْمنِ عَنْ عَليّ

(3/217)


قالَ كُنْتُ رَجخلاً مَدَّاءً فَأَمَرْتُ رَجُلاً أنْ يَسْأَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِمَكانٍ ابْنَتِهِ فَسَأَلَ فقالَ تَوَضَّأْ وَاغْسِلْ ذَكَرَكَ.
(انْظُر الحَدِيث 132 وطرفه) .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي هُنَا مَا محصله أَن الحَدِيث الَّذِي فِي هَذَا الْبَاب يدل على وجوب غسل الذّكر بِتَمَامِهِ. والترجمة تدل على غسل الْمَذْي، ومحصل الْجَواب أَنه رُوِيَ أَيْضا؛ (تَوَضَّأ وغسله) وَالضَّمِير يرجع إِلَى الْمَذْي، فَيظْهر من هَذَا أَن المُرَاد مِمَّا ورد وجوب غسل مَا ظهر من الْمَذْي لَا غير، على مَا يَجِيء تَحْقِيقه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْوَلِيد هِشَام الطَّيَالِسِيّ، تكَرر ذكره. الثَّانِي: زَائِدَة بن قحدامة، بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الدَّال الْمُهْملَة الثَّقَفِيّ أَبُو الصَّلْت الْكُوفِي، صَاحب سنة ورعاً صَدُوقًا مَاتَ سنة سِتِّينَ وَمِائَة غازياً فِي الرّوم. الثَّالِث: أَبُو حُصَيْن، بِفَتْح الْحَاء وَكسر الصَّاد الْمُهْمَلَتَيْنِ واسْمه عُثْمَان بن عَاصِم الْكُوفِي التَّابِعِيّ، ثِقَة تقدم فِي آخر بَاب، ثمَّ من كذب على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. الرَّابِع: أَبُو عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن حبيب السّلمِيّ، بِضَم السِّين المهلمة وَفتح اللَّام مقرىء، الْكُوفَة أحد أَعْلَام التَّابِعين. صَامَ ثَمَانِينَ رمضاناً مَاتَ سنة خمس وَمِائَة. الْخَامِس: عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي، فَأَبُو الْوَلِيد بَصرِي والبقية كوفيون.
بَيَان ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ هَاهُنَا عَن أبي الْوَلِيد وَأخرجه مُسلم فِي الْعلم من مُسَدّد عَن عبد الله بن دَاوُد، وَفِي الطَّهَارَة عَن قُتَيْبَة عَن جرير، قَالَ: وَرَوَاهُ شُعْبَة، ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش عَن مُنْذر الثَّوْريّ عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن وَكِيع وَأبي مُعَاوِيَة وهشيم ثَلَاثَتهمْ عَن الْأَعْمَش بِهِ، وَعَن يحيى بن حبيب عَن خَالِد بن الْحَارِث عَن شُعْبَة بِهِ، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة وَفِي الْعلم عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن خَالِد بن الْحَارِث بِهِ.
ذكر الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ هَذَا الحَدِيث وطرقه والسائل الَّذِي فِيهِ. أما أَولا: فَهَذَا الحَدِيث أخرجه الْجَمَاعَة فَلفظ البُخَارِيّ، مر الْآن بالسند الْمَذْكُور. وَأخرجه النَّسَائِيّ، وَقَالَ: أخبرنَا هناد بن السّري عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن أبي حُصَيْن عَن أبي عبد الرَّحْمَن. قَالَ: قَالَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (كنت رجلا مذاء وَكَانَت ابْنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحتي، فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأله، فَقلت لرجل جَالس إِلَى جَنْبي: سَله فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) . وَأخرجه الطَّحَاوِيّ، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا عبد الله بن رَجَاء، قَالَ: حَدثنَا زاشئة بن قدامَة عَن أبي حُصَيْن عَن أبي عبد الرَّحْمَن عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كنت رجلا مذاءً وَكَانَت عِنْدِي ابْنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأرْسلت إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. فَقَالَ: تَوَضَّأ واغسله) . وَفِي رِوَايَة للطحاوي عَن عَليّ، قَالَ: (سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي قَالَ: فِيهِ الْوضُوء، وَفِي الْمَنِيّ الْغسْل) وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن هانىء بن هانىء عَن عَليّ. قَالَ: (كنت رجلا مذاء وَكنت إِذا أمذيت اغْتَسَلت، فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وَبِنَحْوِ إِسْنَاده رَوَاهُ أَحْمد وَلَفظه (كنت رجلا مذاءً فَإِذا أمذيت اغْتَسَلت، فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَضَحِك، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وروى التِّرْمِذِيّ من طَرِيق زاشدة عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن عَليّ، قَالَ: (سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي، فَقَالَ: من الْمَذْي الْوضُوء، وَمن الْمَنِيّ الْغسْل) قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، وروى الطَّحَاوِيّ من حَدِيث مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن أَبِيه، قَالَ: كنت أجد مذياً فَأمرت الْمِقْدَاد أَن يسْأَل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك، فَاسْتَحْيَيْت أَن أسأله لِأَن ابْنَته عِنْدِي، فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك، فَقَالَ: إِن كل فَحل يمذي، فَإِذا كَانَ الْمَنِيّ فَفِيهِ الْغسْل، وَإِذا كَانَ الْمَذْي فَفِيهِ الْوضُوء) . وَأخرجه مُسلم أَيْضا نَحوه عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة، وَلَفظه: (فَكنت أستحي أَن أسأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لمَكَان ابْنَته، فَأمرت الْمِقْدَاد فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ) وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث رَافع بن خديج. (أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَمر عماراً أَن يسْأَل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي قَالَ: يغسل مذاكيره وَيتَوَضَّأ) وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا نَحوه، وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث ابْن عَبَّاس. قَالَ: عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (قد كنت رجلا مذاءٍ فَأمرت رجلا فَسَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وَأخرجه مُسلم من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَفظه: (أرْسلت

(3/218)


الْمِقْدَاد بن الْأسود إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلَهُ عَن الْمَذْي يخرج من الْإِنْسَان، كَيفَ يفعل: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: تَوَضَّأ وانضح فرجك) وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث حُصَيْن بن قبيصَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَالَ: (كنت رجلا مذاءً فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: إِذا رَأَيْت الْمَذْي فَتَوَضَّأ واغسل ذكرك، وَإِذا رَأَيْت الْمَنِيّ فاغتسل) وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا من حَدِيث حُصَيْن بن قبيصَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (كنت رجلا مذاءً، فَجعلت اغْتسل حَتَّى تشقق ظَهْري قَالَ: فَذكرت ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو ذكر لَهُ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا تفعل إِذا رَأَيْت الْمَذْي فاغسل ذكرك وَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة فَإِذا فضخت المَاء فاغتسل) الفضخ، بِالْفَاءِ وبالمعجمتين، الدفق، وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا وَفِي رِوَايَة أَحْمد (فليغسل ذكره وأنثييه) وَأخرجه النَّسَائِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه من حَدِيث عبد الرَّحْمَن ابْن أبي ليلى عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَهَذَا كَمَا رَأَيْت هَذَا الِاخْتِلَاف فِيهِ، وَلَكِن لَا خلاف فِي وجوب الْوضُوء، وَلَا خلاف فِي عدم وجوب الْغسْل.
وَأما الِاخْتِلَاف فِي السَّائِل فقد ذكر فِيمَا سقنا من الْأَحَادِيث أَن فِي بَعْضهَا السَّائِل هُوَ عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِنَفسِهِ وَفِي بَعْضهَا السَّائِل غَيره، وَلكنه حَاضر، وَفِي بَعْضهَا هُوَ الْمِقْدَاد، وَفِي بَعْضهَا هُوَ عمارد وَجمع ابْن حبَان بَين هَذَا الِاخْتِلَاف أَن عليا سَأَلَ عماراً أَن يسْأَل، ثمَّ أَمر الْمِقْدَاد بذلك. ثمَّ سَأَلَ بِنَفسِهِ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن عائش بن أنس قَالَ تَذَاكر عَليّ والمقداد وعمار الْمَذْي، فَقَالَ عَليّ: إِنَّنِي رجل مذاء فاسألا عَن ذَلِك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَسَأَلَهُ أحد الرجلَيْن: وَقَالَ ابْن شكوال: إِن الَّذِي تولى السُّؤَال عَن ذَلِك هُوَ الْمِقْدَاد، وَصَححهُ وَقَالَ بَعضهم: وعَلى هَذَا فنسبه عمار إِلَى أَنه سَأَلَ عَن ذَلِك مَحْمُولَة على الْمجَاز لكَونه قَصده، لَكِن تولى الْمِقْدَاد الْخطاب. قلت: كِلَاهُمَا كَانَا مشتركين فِي هَذَا السُّؤَال غير أَن أَحدهمَا قد سبق بِهِ، فَيحْتَمل أَن يكون هَذَا الْمِقْدَاد، وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ عماراً، وَتَصْحِيح ابْن شكوال على أَنه هُوَ الْمِقْدَاد يحْتَاج إِلَى برهَان، وَدلّ مَا ذكر فِي الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة أَن كلاًّ مِنْهُمَا قد سَأَلَ، وَأَن عليا سَأَلَ، فَلَا يحْتَاج بعد هَذَا إِلَى زِيَادَة حَشْو فِي الْكَلَام فَافْهَم.
ذكر مَعَانِيه قَوْله: (مذاء) صِيغَة مُبَالغَة. يَعْنِي: كثير الْمَذْي. قَوْله: (فَأمرت رجلا) قَالَ الشُّرَّاح المُرَاد بِهِ الْمِقْدَاد قلت: يجوز أَن يكون عماراً وَيجوز أَن يكون غَيرهمَا قَوْله: (لمَكَان ابْنَته) أَي بِسَبَب أَن ابْنَته فَاطِمَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، كَانَت تَحت نِكَاحه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق ابْن الْحَنَفِيَّة، عَن عَليّ من أجل فَاطِمَة عَلَيْهَا السَّلَام. قَوْله: (تَوَضَّأ) أَمر مجزوم، خطاب للرجل الَّذِي فِي قَوْله: (فَأمرت رجلا) على الِاخْتِلَاف فِي تَفْسِير الرجل. قَوْله: (واغسل ذكرك) هَكَذَا وَقع هَاهُنَا بِتَقْدِيم الْأَمر بِالْوضُوءِ على غسله، وَوَقع فِي الْعُمْدَة عَكسه مَنْسُوبا ألى البُخَارِيّ، وَاعْترض عَلَيْهِ، وَلَا يرد لِأَن، الْوَاو لَا تدل على التَّرْتِيب على أَنه قد وَقع فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ تَقْدِيم الْغسْل على الْوضُوء فِي رِوَايَة رَافع بن خديج عَن عَليّ، وَقد ذَكرنَاهَا.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز الاستتابة فِي الاستفتاء، وَيُؤْخَذ مِنْهُ جَوَاز دَعْوَى الْوَكِيل بِحَضْرَة مُوكله. وَمِنْهَا: قبُول خبر الْوَاحِد، والاعتماد على الْخَبَر المظنون مَعَ الْقُدْرَة على الْمَقْطُوع بِهِ، فَإِن عليا اقْتصر على قَول الْمِقْدَاد مَعَ تمكنه من سُؤال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب حسن الْعشْرَة مَعَ الأصهار، وَأَن الزَّوْج يسْتَحبّ لَهُ أَن لَا يذكر شَيْئا يتَعَلَّق بجماع النِّسَاء والاستمتاع بِهن بِحَضْرَة أَبِيهَا وأخيها وَابْنهَا وَغَيرهم من أقاربها، وَلِهَذَا قَالَ عَليّ: رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَإِن عِنْدِي ابْنَته وَأَنا استحي. وَمِنْهَا: أَن الْمَذْي يُوجب الْوضُوء وَلَا يُوجب الْغسْل، والبا وضوع لَهُ. وَمِنْهَا: كَانَ الصَّحَابَة عَلَيْهِ من حفظ حُرْمَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتوقيره. وَمِنْهَا: اسْتِعْمَال الْأَدَب فِي ترك المواجهة بِمَا يستحي مِنْهُ عرفا. وَمِنْهَا: أَن قَوْله: (أغسل ذكرك) هَل يَقْتَضِي غسل جَمِيع الذّكر أَو مخرج الْمَذْي , فَهَذَا اخْتلفُوا فِيهِ، فَذهب بَعضهم، مِنْهُم الزُّهْرِيّ، إِلَى أَنه يجب غسل جَمِيع الذّكر كُله لظَاهِر الْخَبَر، وَمِنْهُم من أوجب غسل مخرج الْمَذْي وَحده.
وَفِي (الْمَعْنى) لِابْنِ قدامَة. اخْتلفت الرِّوَايَة فِي حكمه، فَروِيَ أَنه لَا يُوجب الِاسْتِنْجَاء وَالْوُضُوء، وَالرِّوَايَة الثَّانِيَة يجب غسل الذّكر والأنثيين مَعَ الْوضُوء، وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: اخْتلف أَصْحَابنَا فِي الْمَذْي: هَل يجزىء مِنْهُ الِاسْتِجْمَار كالبول أَو لَا بُد من المَاء؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل يجب غسل جَمِيع الذّكر؟ وَاخْتلفُوا أَيْضا هَل يفْتَقر إِلَى النِّيَّة فِي غسل ذكره أم لَا؟ وَقَالَ أَبُو عرم: الْمَذْي عِنْد جَمِيعهم يُوجب الْوضُوء مَا لم يكن خَارِجا عَن عِلّة أَو بردة أَو زمانة، فَإِن كَانَ كَذَلِك فَهُوَ أَيْضا كالبول عِنْد جَمِيعهم، فَإِن كَانَ سلساً لَا يَنْقَطِع فَحكمه حكم سَلس

(3/219)


الْبَوْل عِنْد جَمِيعهم أَيْضا إلاَّ أَن طَائِفَة توجب الْوضُوء على من كَانَت هَذِه حَاله لكل صَلَاة، قِيَاسا على الْمُسْتَحَاضَة عِنْدهم، وَطَائِفَة تستحبه وَلَا توجبه. وَأما الْمَذْي الْمَعْهُود الْمُتَعَارف، وَهُوَ الْخَارِج عِنْد ملاعبة الرجل أَهله لما يجْرِي من اللَّذَّة، أَو لطول عزبة، فعلى هَذَا الْمَعْنى خرج السُّؤَال فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَعَلِيهِ يَقع الْجَواب، وَهُوَ مَوضِع إِجْمَاع لَا خلاف بَين الْمُسلمين فِي إِيجَاب الْوضُوء مِنْهُ، وَإِيجَاب غسله لنجاسته انْتهى.
وَقَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلي) الْمَذْي تَطْهِيره بِالْمَاءِ يغسل مخرجه من الذّكر وينضح بِالْمَاءِ مَا مَسّه من الثَّوْب انْتهى قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: لم يكن أمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِغسْل ذكره لإِيجَاب غسله كُله، وَلكنه ليتقلص، أَي: لينزوي وينضم، وَلَا يخرج، كَمَا إِذا كَانَ لَهُ هدى وَله لين فَإِنَّهُ ينضح ضرعه بِالْمَاءِ ليتقلص ذَلِك فِيهِ فَلَا يخرج. قلت: من خاصية المَاء الْبَارِد أَن يقطع اللين وَيَردهُ إِلَى دَاخل الضَّرع، وَكَذَلِكَ إِذا أصَاب الْأُنْثَيَيْنِ رد الْمَذْي وكسره. ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقد جَاءَت الْآثَار متواترة فِي ذَلِك، فروى مِنْهَا حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، وَقد ذَكرْنَاهُ، وَعَن غير ابْن عَبَّاس عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، ثمَّ قَالَ: فَلَا ترى أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لما ذكر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أوجب عَلَيْهِ فِي ذَلِك ذكر وضوء الصَّلَاة فَثَبت بذلك أَن مَا كَانَ سوى وضوء الصَّلَاة مِمَّا أمره بِهِ فَإِنَّمَا كَانَ لغير الْمَعْنى الَّذِي أوجب وضوء الصَّلَاة، ثمَّ قَالَ: وَقد روى سهل بن حنيف عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا قد دلّ على هَذَا أَيْضا حَدثنَا نصر بن مَرْزُوق وَسليمَان بن شُعَيْب قَالَا: حَدثنَا يحيى بن حسان. قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن سعيد بن عبيد السباق عَن أَبِيه عَن سهل بن حنيف (أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الْمَذْي، فَقَالَ: فِيهِ الْوضُوء) وَقَالَ أَبُو جَعْفَر: فَأخْبر أَن مَا يجب فِيهِ هُوَ الْوضُوء، وَذَلِكَ يَنْفِي أَن يكون عَلَيْهِ مَعَ الْوضُوء غَيره وَأخرج التِّرْمِذِيّ أَيْضا هَذَا الحَدِيث من طَرِيق مُحَمَّد بن إِسْحَاق إِلَخ وَلَفظه (كنت ألْقى من الْمَذْي شدَّة وعناء، فَكنت أَكثر مِنْهُ الْغسْل فَذكرت ذَلِك للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَأَلته عَنهُ، فَقَالَ: إِنَّمَا يجْزِيك من ذَلِك الْوضُوء قلت: يَا رَسُول الله! كَيفَ بِمَا يُصِيب ثوبي مِنْهُ؟ قَالَ: يَكْفِيك أَن تَأْخُذ كفا من مَاء فتنضح بِهِ ثَوْبك حَيْثُ ترى أَنه أصَاب مِنْهُ) ثمَّ قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. (وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا بِنَحْوِهِ) فَإِن قلت: رُوِيَ عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه قَالَ: (إِذا وجدت المَاء فاغسل فرجك وانثييك وَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة، قَالَه لِسُلَيْمَان بن ربيعَة الْبَاهِلِيّ، وَكَانَ قد تزوج امْرَأَة من بني عقيل، فَكَانَ يَأْتِيهَا فيلاعبها فيمذي، فَسَأَلَ ذَلِك عَنهُ) قلت: يحْتَمل جَوَاب ذَلِك مَا ذَكرْنَاهُ من حَدِيث رَافع بن خديج، ثمَّ شيد الطَّحَاوِيّ مَا ذهب إِلَيْهِ أَصْحَابنَا بِمَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: هُوَ الْمَنِيّ والمذي والودي فَأَما الْمَذْي والودي فَإِنَّهُ يغسل ذكره وَيتَوَضَّأ وَأما الْمَنِيّ فَفِيهِ الْغسْل. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من طَرِيقين حسنين جَيِّدين وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا نَحوه وَرُوِيَ أَيْضا عَن الْحسن أَنه، يغسل فرجه وَيتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة رُوِيَ عَن سعيد بن جُبَير قَالَ: إِذا أمذى الرجل غسل الْحَشَفَة وَتَوَضَّأ وضوءه للصَّلَاة وَأخرجه ابْن أبي شيبَة أَيْضا نَحوه ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، ثمَّ اعْلَم أَن ابْن دَقِيق الْعِيد اسْتدلَّ بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور على تعين المَاء فِيهِ دون الْأَحْجَار وَنَحْوهَا، أخذا بِالظَّاهِرِ، وَوَافَقَهُ النَّوَوِيّ على ذَلِك فِي (شرح مُسلم) وَخَالفهُ فِي بَاقِي كتبه، وَحمل الْأَمر بِالْغسْلِ على الِاسْتِحْبَاب.
وَمن أَحْكَام هَذَا الحَدِيث دلَالَته على نَجَاسَة الْمَذْي وَهُوَ ظَاهر، وَنقل عَن ابْن عقيل الْحَنْبَلِيّ أَنه خرج من قَول بَعضهم: أَن الْمَذْي من أَجزَاء الْمَنِيّ رِوَايَة بِطَهَارَتِهِ ورد عَلَيْهِ أَنه لَو كَانَ كَذَلِك لوَجَبَ الْغسْل مِنْهُ.