عمدة القاري شرح
صحيح البخاري بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
6 - (كتاب الحيضِ)
أَي: هَذَا كتاب فِي بَيَان أَحْكَام الْحيض. وَلما فرغ
مِمَّا ورد فِي بَيَان أَحْكَام الطَّهَارَة من الإحداث
أصلا وخلفاً، شرع فِي بَيَان مَا ورد فِي بَيَان الْحيض
الَّذِي هُوَ من الأنجاس، وَقدم مَا ورد فِيهِ على مَا ورد
فِي النّفاس لِكَثْرَة وُقُوع الْحيض بِالنِّسْبَةِ إِلَى
وُقُوع النّفاس.
وَالْحيض فِي اللُّغَة السيلان، يُقَال حَاضَت السمرَة،
وَهِي شَجَرَة يسيل مِنْهَا شَيْء كَالدَّمِ، وَيُقَال:
الْحيض لُغَة الدَّم الْخَارِج يُقَال: حَاضَت الأرانب،
إِذا خرج مِنْهَا الدَّم وَفِي (الْعباب) التحييض التسييل،
يُقَال حَاضَت الْمَرْأَة تحيض حيضا ومحاضاً ومحيضاً.
وَعَن اللحياني: حاض وجاض وحاص، بالمهملتين، وحاد كلهَا
بِمَعْنى: وَالْمَرْأَة حَائِض، وَهِي اللُّغَة الفصيحة
الفاشية بِغَيْر تَاء، وَاخْتلف النُّحَاة فِي ذَلِك،
فَقَالَ الْخَلِيل: لما لم يكن جَارِيا على الْفِعْل كَانَ
بِمَنْزِلَة الْمَنْسُوب بِمَعْنى حائضي، أَي: ذَات حيض،
كدراع ونابل وتامر وَلابْن، وَكَذَا طَالِق وطامت وقاعد
للآيسة أَي: ذَات طَلَاق وَمذهب سِيبَوَيْهٍ أَن ذَلِك صفة
شَيْء مُذَكّر أَي شَيْء أَو أنسان أَو شخص حَائِض. وَمذهب
الْكُوفِيّين أَنه اسْتغنى عَن عَلامَة التَّأْنِيث
لِأَنَّهُ مَخْصُوص بالمؤنث، وَنقض: بجمل باذل، وناقة
بازل، وضامر فيهمَا.
وَإِمَّا مَعْنَاهُ فِي الشَّرْع فَهُوَ: دم ينفضه رحم
امْرَأَة سليمَة عَن دَاء وَصغر، وَقَالَ الْأَزْهَرِي:
الْحيض دم يرخيه رحم الْمَرْأَة بعد بُلُوغهَا فِي
أَوْقَات مُعْتَادَة من قَعْر الرَّحِم وَقَالَ
الْكَرْخِي: الْحيض دم تصير بِهِ الْمَرْأَة بَالِغَة
بابتداء خُرُوجه، وَقيل: هُوَ دم ممتد خَارج عَن مَوضِع
مَخْصُوص، وَهُوَ القيل، والاستحاضة، جَرَيَان الدَّم فِي
غير أَوَانه، وَقَالَ أَصْحَابنَا: الِاسْتِحَاضَة مَا
ترَاهُ الْمَرْأَة فِي أقل من ثَلَاثَة أَيَّام أَو على
أَكثر من عشرَة أَيَّام.
وقَوْلِ اللَّهِ تَعالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيضِ
قُلْ هُوَ أَذَى فَاعَتَزِلُوا النِّساءَ فِي المَحِيضِ
إِلَى} قَوْله: {وَيُحِبُ المُتَطَهِّرِينَ} (سُورَة
الْبَقَرَة: 222)
قَول الله بِالْجَرِّ، عطفا على قَوْله: الْحيض الْمُضَاف
إِلَيْهِ لفظ، كتاب، وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة مَا
رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
(أَن الْيَهُود كَانُوا إِذا حَاضَت الْمَرْأَة فيهم لم
يؤاكلوها وَلم يجامعوها فِي الْبيُوت فَسَأَلَ أَصْحَاب
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأنْزل الله
تَعَالَى: {ويسألونك عَن الْمَحِيض} (سُورَة الْبَقَرَة:
222) الْآيَة فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(افعلوا كل شَيْء إلاَّ النِّكَاح) وَقَالَ الواحدي:
السَّائِل هُوَ أَبُو الدحداح، وَفِي مُسلم أَن أسيد بن
حضير وَعباد بن بشر قَالَا بعد ذَلِك، أَفلا نجامعهن
فَتغير وَجه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
الحَدِيث، وَهَذَا بَيَان للأذى الْمَذْكُور فِي الْآيَة
وَقَالَ الطَّبَرِيّ: سمي الْحيض أَذَى لنتنه وقذره
ونجاسته وَقَالَ الْخطابِيّ: الْأَذَى الْمَكْرُوه الَّذِي
لَيْسَ بشديد كَمَا قَالَ تَعَالَى: {لن يضروكم إلاَّ
أذَىً} (سُورَة آل عمرَان: 111) فَالْمَعْنى أَن الْمَحِيض
أَذَى يعتزل من الْمَرْأَة بِوَضْعِهِ، وَلَكِن لَا
يتَعَدَّى ذَلِك إِلَى بَقِيَّة بدنهَا. قَالُوا:
وَالْمرَاد من الْمَحِيض الأول الدَّم، وَأما الثَّانِي
فقد اخْتلف فِيهِ أهوَ نفس الدَّم أَو زمن الْحيض،
(3/254)
أَو الْفرج؟ وَالْأول هُوَ الْأَصَح. فَإِن
قلت: أورد هَذِه الْآيَة هَاهُنَا وَلم يبين مِنْهَا
شَيْئا فَمَا كَانَت فَائِدَة ذكرهَا هَاهُنَا. قلت: أقل
فَائِدَة التَّنْبِيه إِلَى نَجَاسَة الْحيض،
وَالْإِشَارَة أَيْضا إِلَى وجوب الاعتزال عَنْهُن فِي
حَالَة الْحيض، وَغير ذَلِك.
1 - (بابُ كَيْفَ كانَ بَدْءَ الحَيْضِ)
أَي: هَذَا بَاب، فارتفاعه على أَنه خبر مُبْتَدأ
مَحْذُوف، وَيجوز فِيهِ التَّنْوِين بِالْقطعِ عَمَّا
بعده، وَتَركه للإضافة إِلَى مَا بعده وَالْبَاب أَصله:
البوب، قلبت الْوَاو ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا،
وَيجمع على أَبْوَاب وابوية، وَالْمرَاد من الْبَاب هُنَا
النَّوْع. كَمَا فِي قَوْلهم: من فتح بَابا من الْعلم أَي:
نوعا وَكلمَة، كَيفَ اسْم لدُخُول الْجَار عَلَيْهِ بِلَا
تَأْوِيل فِي قَوْلهم: على كَيفَ تبيع الأحمرين؟ فَإِن
قلت: مَا مَحل: كَيفَ، من الْإِعْرَاب؟ قلت: يجوز أَن تكون
حَالا، كَمَا فِي قَوْلك كَيفَ جَاءَ زيد، أَي: على أَي
حَالَة جَاءَ زيد؟ وَالتَّقْدِير هَاهُنَا على أَي حَالَة
كَانَ ابْتِدَاء الْحيض؟ وَلَفظ كَانَ من الْأَفْعَال
النَّاقِصَة تدل على الزَّمَان الْمَاضِي من غير تعرض
لزواله فِي الْحَال أَو لَا زَوَاله وَبِهَذَا يفْتَرق
عَن: صَار، فَإِن مَعْنَاهُ الِانْتِقَال من حَال إِلَى
حَال، وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يُقَال: صَار الله، وَلَا
يُقَال إِلَّا كَانَ كَانَ الله. قَوْله: (بَدْء الْحيض)
من بَدَأَ يبدؤ بدوأ أَي: ظهر، والبدأ بِالْهَمْزَةِ فِي
آخِره على فعل، بِسُكُون الْعين من بدأت الشَّيْء بدأت:
ابتدأت بِهِ.
وقَوْلُ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا شَيْءٌ
كتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ
هَذَا من تعليقات البُخَارِيّ، والآن يذكرهُ مَوْصُولا لَا
عقيب هَذَا، وسيذكره أَيْضا فِي الْبَاب السَّادِس فِي
جملَة حَدِيث، وَقَالَ بَعضهم: وَقَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا شَيْء، يُشِير إِلَى حَدِيث
عَائِشَة الْمَذْكُور عَقِيبه. قلت: هَذَا الْكَلَام غير
صَحِيح، بل قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذَا شَيْء،
يُشِير بِهِ إِلَى الْحيض فَكَذَلِك لفظ: شَيْء فِي
الحَدِيث الَّذِي سَيَأْتِي فِي الْبَاب السَّادِس، وَلكنه
بِلَفْظ: (فَإِن ذَلِك شَيْء كتبه الله على بَنَات آدم)
وَفِي الحَدِيث الَّذِي عَقِيبه: (إِن هَذَا أَمر كتبه
الله على بَنَات آدم) وعَلى كل تَقْدِير الْإِشَارَة إِلَى
الْحيض، وَقد استدركه هَذَا الْقَائِل فِي آخر كَلَامه
بقوله: وَالْإِشَارَة بقوله هَذَا إِلَى الْحيض.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ كانِ أَوَّلُ مَا أُرْسلَ الحَيْضُ
عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ
هَذَا قَول عبد الله بن معسود وَعَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا. أخرجه عبد الرَّزَّاق عَنْهُمَا
وَلَفظه (كَانَ الرِّجَال وَالنِّسَاء فِي بني إِسْرَائِيل
يصلونَ جَمِيعًا، وَكَانَت الْمَرْأَة تتشرف للرجل فَألْقى
الله عَلَيْهِنَّ الْحيض ومنعهن الْمَسَاجِد) فَإِن قلت:
الْحيض أرسل على بَنَات بني إِسْرَائِيل على هَذَا
القَوْل: وَلم يُرْسل على بنيه، فَكيف قَالَ: على بني
إِسْرَائِيل؟ قلت: قَالَ الْكرْمَانِي: يسْتَعْمل بَنو
إِسْرَائِيل، وَيُرَاد بِهِ أَوْلَاده، كَمَا يُرَاد من
بني آدم أَوْلَاده. أَو المُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة. قلت:
هَذَا من حَيْثُ اللُّغَة يمشي، وَمن حَيْثُ الْعرف لَا
يذكر الإبن وَيُرَاد بِهِ الْوَلَد، حَتَّى لَو أوصى بِثلث
مَاله لِابْنِ زيد، وَله ابْن وَبنت لَا تدخل الْبِنْت
فِيهِ، وَدخُول الْبَنَات فِي بني آدم بطرِيق التّبعِيَّة.
وَقَوله: أَو المُرَاد بِهِ الْقَبِيلَة، لَيْسَ لَهُ وَجه
أصلا لِأَن الْقَبِيلَة تجمع الْكل فَيدْخل فِيهِ
الرِّجَال أَيْضا. وَقد علم أَن طَبَقَات الْعَرَب سِتّ،
فالقبائل تجمع الْكل وَيُمكن أَن يُقَال إِن الْمُضَاف
فِيهِ مَحْذُوف تَقْدِيره، على بَنَات بني إِسْرَائِيل،
يشْهد بذلك قَوْله: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (كتبه
الله على بَنَات بني آدم) وَقد ذكر التَّوْفِيق بَينهمَا
عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فَإِن قلت: مَا مَحل
قَوْله: على بني إِسْرَائِيل من الْإِعْرَاب؟ قلت: النصب
لِأَنَّهَا جملَة وَقعت خَبرا لَكَانَ قَوْله أَو ل
مَرْفُوع لِأَنَّهُ اسْمه، وَكلمَة مَا، مَصْدَرِيَّة
تَقْدِيره، كَانَ أول إرْسَال الْحيض على بني إِسْرَائِيل.
قالَ أبُو عبْدِ اللَّهِ وَحَدِيثُ النَّبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أكْثَرُ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، وَكَأَنَّهُ
أَشَارَ بِهَذَا الْكَلَام إِلَى دَرَجَة التَّوْفِيق بَين
الْخَبَرَيْنِ، وَهُوَ أَن كَلَام الرَّسُول، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَكثر قُوَّة وقبولاً من كَلَام غَيره من
الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ
الْكرْمَانِي:، ويروي: (أكبر) بِالْبَاء الْمُوَحدَة،
وَمَعْنَاهُ: على هَذَا، وَحَدِيث النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وسلمأعظم وَأجل وآكد ثبوتاً وَفسّر الْكرْمَانِي
الْأَكْثَر، بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَأي: أشمل، لِأَنَّهُ
يتَنَاوَل بَنَات إِسْرَائِيل وغيرهن، وَقَالَ بَعضهم:
أَكثر أَي: أشمل لِأَنَّهُ عَام فِي جَمِيع بَنَات بني
آدم، فَيتَنَاوَل الْإسْرَائِيلِيات وَمن قبلهن. قلت: لم
لَا يجوز أَن يكون الشُّمُول فِي بَنَات إِسْرَائِيل وَمن
بعدهن؟ وَقَالَ الدَّاودِيّ لَيْسَ بَينهمَا مُخَالفَة،
فَإِن نسَاء
(3/255)
بني إِسْرَائِيل من بَنَات آدم، وَقَالَ
بَعضهم: فعلى هَذَا فَقَوله: بَنَات آدم أُرِيد بِهِ
الْخُصُوص. قلت: مَا أبعد كَلَام الدَّاودِيّ فِي
التَّوْفِيق بَينهمَا. نعم، نَحن مَا ننكر أَن نسَاء من
بني إِسْرَائِيل من بَنَات آدم، وَلَكِن الْكَلَام فِي لفظ
الأولية فيهمَا وَلَا تَنْتفِي الْمُخَالفَة إِلَّا
بالتوفيق بَين لَفْظِي الأولية، وَأبْعد من هَذَا قَول
هَذَا الْقَائِل: عَام أُرِيد بِهِ الْخُصُوص فَكيف يجوز
تَخْصِيص عُمُوم كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِكَلَام غَيره؟ ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَيُمكن أَن
يجمع بَينهمَا بِأَن الَّذِي أرسل على نسَاء بني
إِسْرَائِيل طول مكثه بِهن عُقُوبَة لَهُنَّ لَا ابْتِدَاء
وجوده. قلت: هَذَا كَلَام من لَا يَذُوق الْمَعْنى، وَكَيف
يَقُول: لَا ابْتِدَاء وجوده؟ وَالْخَبَر فِيهِ أول مَا
أرسل، وَبَينه وَبَين كَلَامه مُنَافَاة، وَأَيْضًا من
أَيْن ورد أَن الْحيض طَال مكثه فِي نسَاء بني
إِسْرَائِيل؟ وَمن نقل هَذَا؟ وَقد روى الْحَاكِم
بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عَبَّاس: رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا. أَن ابْتِدَاء الْحيض كَانَ على حَوَّاء،
عَلَيْهَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، بعد أَن أهبطت من
الْجنَّة وَكَذَا رَوَاهُ ابْن الْمُنْذر. وَقد روى
الطَّبَرِيّ وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس وَغَيره أَن قَوْله
تَعَالَى فِي قصَّة إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
{وَامْرَأَته قَائِمَة فَضَحكت} (سُورَة هود: 71) أَي:
حَاضَت، والقصة مُتَقَدّمَة على بني إِسْرَائِيل بِلَا
ريب، لِأَن إِسْرَائِيل هُوَ يَعْقُوب بن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت:
وَلَقَد حضر لي جَوَاب فِي التَّوْفِيق من الْأَنْوَار
الإلهية بعونه ولطفه، وَهُوَ أَنه، يُمكن أنالله تَعَالَى
قطع نِسَائِهِم، لِأَن من حكم الله تَعَالَى أَنه جعل
الْحيض مسبباً لوجو، النَّسْل، أَلا ترى أَن الْمَرْأَة
إِذا ارْتَفع حَيْضهَا لَا تحمل عَادَة؟ أَعَادَهُ
عَلَيْهِنَّ كَانَ ذَلِك أول الْحيض بِالنِّسْبَةِ إِلَى
مُدَّة الِانْقِطَاع، فَأطلق الأولية عَلَيْهِ بِهَذَا
الِاعْتِبَار، لِأَنَّهَا من الْأُمُور النسبية فَافْهَم.
294 - حدّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ المَدِينِي
حدّثنا سُفْيَانُ قالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنْنَ
القَاسِمِ قالَ سَمِعْتُ القَاسِمَ يَقُولُ سَمِعْتُ
عَائِشَةَ تَقُولُ خَرَجْنَا لَا نَرَى إلاَّ الحَجْ
فَلَمَّا كُنَّا بِسِرِفَ حِضْتُ فَدَخَلَ عَلَيَّ رسولُ
اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا أَبْكِي فَقَالَ
مالَكَ أنُفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ إنَّ هَذَا إِمْرٌ
كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتَ آدَمَ فَافْضِي مَا
يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ
قَالَتْ وضَحَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عَنْ نِسَائِهِ بالْبَقَر. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن هَذَا
أَمر كتبه الله على بَنَات آدم) . وعَلى رَأس هَذَا
الحَدِيث فِي رِوَايَة أبي ذَر وَأبي الْوَقْت بَاب
الْأَمر بالنفساء إِذا نفس، وَفِي أَكثر الرِّوَايَات
هَذِه التَّرْجَمَة سَاقِطَة، أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان
الْأَمر الْمُتَعَلّق بالنفساء قَالَ الْكرْمَانِي:
الْبَحْث فِي الْحيض، فَمَا وَجه تعلقه بِهِ. قلت:
المُرَاد بالنفساء الْحَائِض. قلت: النُّفَسَاء مُفْرد،
وَجمعه نِفَاس. وَقَالَ الْجَوْهَرِي لَيْسَ فِي الْكَلَام
من فعلاء يجمع على فعال غير نفسَاء وعشراء، وَهِي
الْحَامِل من الْبَهَائِم، ثمَّ قلت: وَيجمع أَيْضا على
نفساوات بِضَم النُّون، وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع)
بِالْفَتْح أَيْضا، وَيجمع أَيْضا على نفس، بِضَم النُّون
وَالْفَاء، قَالَ: وَيُقَال فِي الْوَاحِد نَفسِي مثل
كبرى، وبفتح النُّون أَيْضا، وَامْرَأَتَانِ نفساوان،
وَنسَاء نِفَاس، وَالنّفاس أَيْضا مصدر سمي بِهِ الدَّم
كَمَا يُسمى بِالْحيضِ مَأْخُوذ من تنفس الرَّحِم بِخُرُوج
النَّفس الَّذِي الدَّم وَفِي المعزب النفا مصدر نفست
الْمَرْأَة بِضَم النُّون وَفتحهَا إِذا ولدت فَهِيَ
نفسَاء قَوْله: إِذا نفس، بِضَم الْفَاء وَفتحهَا،
وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى النُّفَسَاء،
وتذكيره بِاعْتِبَار الشَّخْص أَو لعدم الإلتباس كَمَا
ذَكرْنَاهُ عَن قريب فَإِن قلت: الْبَاء فِي النُّفَسَاء
مَا هِيَ؟ قلت: زَائِدَة لِأَن النُّفَسَاء مأمورة لَا
مَأْمُور بهَا، أويكون التَّقْدِير الْأَمر الملتبس
بالنفساء.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله
الْمَدِينِيّ، بِفَتْح الْمِيم وَكسر الدَّال قَالَ ابْن
الْأَثِير: مَنْسُوب إِلَى مَدِينَة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهَذَا أحد مَا اسْتعْمل بِالنّسَبِ فِيهِ
خَارِجا عَن الْقيَاس، فَإِن قِيَاسه الْمدنِي، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: تَقول فِي النِّسْبَة إِلَى مَدِينَة رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. مدنِي وَإِلَى مَدِينَة
الْمَنْصُور: مديني، للْفرق. الثَّانِي: سُفْيَان بن
عُيَيْنَة. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم.
الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: عَائِشَة الصديقة،
رَضِي
(3/256)
الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين: وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: وَفِيه:
أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.
ذكر تعدده وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الْأَضَاحِي عَن قُتَيْبَة وَعَن مُسَدّد وَأخرجه مُسلم
فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد
وَزُهَيْر بن حَرْب عَن سُفْيَان وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الطَّهَارَة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَفِي الْحَج
عَن مُحَمَّد بن عبد الله والْحَارث بن مِسْكين، وَعَن
مُحَمَّد بن رَافع عَن يحيى بن آدم وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِي الْحَج عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (لَا نرى إلاَّ الْحَج)
جملَة فِي مَحل النصب على الْحَال، وَلَا نرى، بِضَم
النُّون، بِمَعْنى: لَا نظن وَقَوله: إلاَّ الْحَج،
يَعْنِي: إلاَّ قصد الْحَج، لأَنهم كَانُوا يظنون امْتنَاع
الْعمرَة فِي أشهر الْحَج، فَأخْبرت عَن اعتقادها، أَو عَن
الْغَالِب عَن حَال النَّاس، أَو عَن حَال الشَّارِع أما
هِيَ فقد قَالَت: إِنَّهَا لم تحرم إلاَّ بِالْعُمْرَةِ.
قَوْله: (فَلَمَّا كنت) وَفِي بعض النّسخ: (فَلَمَّا
كُنَّا) قَوْله: (بسرف) بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَكسر
الرَّاء فِي آخِره فَاء وَهُوَ اسْم مَوضِع قريب من مَكَّة
بَينهمَا نَحْو من عشرَة أَمْيَال، وَقيل: عشرَة، وَقيل:
تِسْعَة، وَقيل: سَبْعَة، وَقيل: سِتَّة، وَهُوَ غير منصرف
للعلمية والتأنيث. قَوْله: (حِضْت) بِكَسْر الْحَاء،
لِأَنَّهُ من حاض يحيض، كبعت من بَاعَ يَبِيع، بِأَصْلِهِ
حيضت، قلبت الْيَاء ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، ثمَّ
حذفت لالتقاء الساكنين فَصَارَ، حِضْت، بِالْفَتْح ثمَّ
أبدلت الفتحة كسرة لتدل على الْيَاء المحذوفة. قَوْله:
(وَأَنا أبْكِي) جملَة إسمية وَقعت حَالا بِالْوَاو.
قَوْله: (أنفست؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، ونفست، قَالَ
النَّوَوِيّ: بِضَم الْفَاء وَفتحهَا فِي الْحيض
وَالنّفاس، لَكِن الضَّم فِي الْولادَة وَالْفَتْح فِي
الْحيض أَكثر. وَحكى صَاحب (الْأَفْعَال) الْوَجْهَيْنِ
جَمِيعًا وَفِي (شرح مُسلم) الْمَشْهُور فِي اللُّغَة أَن
نفست، بِفَتْح النُّون وَكسر الْفَاء مَعْنَاهُ: حِضْت،
وَأما فِي الْولادَة فَيُقَال: نفست، بِضَم النُّون،
وَقَالَ الْهَرَوِيّ: نفست، بِضَم النُّون وَفتحهَا فِي
الْولادَة وَفِي الْحيض بِالْفَتْح لَا غير. قَوْله: (إِن
هَذَا أَمر) إِشَارَة إِلَى الْحيض، فَالْأَمْر بِمَعْنى
الشَّأْن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: أَمر، وَفِي
التَّرْجَمَة، شَيْء، فَهُوَ إِمَّا من بَاب نقل الحَدِيث
بِالْمَعْنَى، وَإِمَّا أَن اللَّفْظَيْنِ ثابتان. قلت:
لَا يحْتَاج إِلَى الترديد، إِذْ اللفظان ثابتان. قَوْله:
(فاقضى) خطاب لعَائِشَة، فَلذَلِك لم تسْقط الْيَاء،
وَمَعْنَاهُ، فأدي لِأَن الْقَضَاء يَأْتِي بِمَعْنى
الْأَدَاء كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت
الصَّلَاة فَانْتَشرُوا} (سُورَة الْجُمُعَة: 10) أَي:
إِذا أدّيت صَلَاة الْجُمُعَة. قَوْله: (مَا يقْضِي
الْحَاج) قَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد من الْحَاج الْحسن،
فَيشْمَل الْجمع، هُوَ كَقَوْلِه تَعَالَى: {سامر اتهجرون}
(سُورَة الْمُؤْمِنُونَ: 67) قلت: لَا ضَرُورَة إِلَى
هَذَا الْكَلَام، بل هُوَ اسْم فَاعل، وَأَصله، حاجج،
وَرُبمَا يَأْتِي فِي ضَرُورَة الشّعْر هَكَذَا قَالَ
الراجز:
بِكُل شيخ عَامر أَو حاجج
وَفِي (الصِّحَاح) تَقول: حججْت الْبَيْت أحجه حجا فَأَنا
حَاج، وَيجمع على: حجج مثل: بازل وبزل. قَوْله: (غير ألاَّ
تطوفي) بِنصب غير، وإلاَّ بِالتَّشْدِيدِ أَصله أَن لَا
يجوز، أَن تكون: أَن مُخَفّفَة، من المثقلة، وَفِيه ضمير
الشَّأْن، وَلَا تطوفي، مجزوم وَالْمعْنَى لَا تطوفي مَا
دمت حَائِضًا لفقدان شَرط صِحَة الطّواف، وَهُوَ
الطَّهَارَة. قَوْله: (بالبقر) ويروي: (بالبقر) وَالْفرق
بَينهمَا: كتمرة وتمر، وعَلى تَقْدِير عدم التَّاء يحْتَمل
التَّضْحِيَة بِأَكْثَرَ من بقرة وَاحِدَة.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: أَن الْمَرْأَة إِذا
حَاضَت بعد الْإِحْرَام يَنْبَغِي لَهَا أَن تَأتي
بِأَفْعَال الْحَج كلهَا غير أَنَّهَا لَا تَطوف
بِالْبَيْتِ، فَإِذا طافت قبل أَن تتطهر فعلَيْهَا بدلة،
وَكَذَلِكَ النُّفَسَاء وَالْجنب عَلَيْهِمَا بَدَنَة
بِالطّوافِ قبل التطهر عَن النّفاس والجنابة، وَأما
الْمُحدث فَإِن طَاف طواف الْقدوم فَعَلَيهِ صَدَقَة،
وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يعْتد بِهِ، وَالطَّهَارَة من
شَرطه عِنْده، وَكَذَا الحكم فِي كل طواف هُوَ تطوع، وَلَو
طَاف طواف الزِّيَارَة مُحدثا فَعَلَيهِ شَاة، وَإِن كَانَ
جنبا فَعَلَيهِ بَدَنَة، وَكَذَا الْحَائِض وَالنُّفَسَاء.
وَمِنْهَا: جَوَاز الْبكاء والحزن لأجل حُصُول مَانع
لِلْعِبَادَةِ وَمِنْهَا جَوَاز التَّضْحِيَة ببقرة
وَاحِدَة لجَمِيع نِسَائِهِ وَمِنْهَا جَوَاز تضحية الرجل
لامْرَأَته. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا مَحْمُول على
أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، استأذنهن فِي ذَلِك، فَإِن
تضحية الْإِنْسَان عَن غَيره لَا يجوز إلاَّ بِإِذْنِهِ
قلت: هَذَا فِي الْوَاجِب، وَأما فِي التَّطَوُّع فَلَا
يحْتَاج إِلَى الْإِذْن، فاستدل مَالك بِهِ على أَن
التَّضْحِيَة بالبقر أفضل من الْبَدنَة، وَلَا دلَالَة
فِيهِ وَالْأَكْثَرُونَ، مِنْهُم الشَّافِعِي ذَهَبُوا
إِلَى أَن التَّضْحِيَة بالبدنة أفضل من الْبَقَرَة لتقديم
الْبَدنَة على الْبَقَرَة فِي حَدِيث سَاعَة الْجُمُعَة.
وَهَذَا الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ هَاهُنَا
حَدِيث طَوِيل فِيهِ أَحْكَام كَثِيرَة وخلافات بَين
الْعلمَاء، وموضعها كتاب الْحَج.
(3/257)
2 - (بابُ غَسْلِ الحَائِضِ رَأْسَ
زَوْجِها وَتَرْجِيلِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان غسل الْحَائِض رَأس زَوجهَا،
وَحكم ترجيل رَأسه، والترجيل مجرور عطف على غسل، وَهُوَ
بِالْجِيم: تَسْرِيح شعر الرَّأْس. وَقَالَ ابْن السّكيت،
شعر رجل، بِفَتْح الْجِيم وَكسرهَا، إِذا لم يكن شَدِيد
الجعودة وَلَا سبطاً، تَقول مِنْهُ: رجل شعره ترجيلاً.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ
مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم مُتَعَلق بالحائض.
295 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قالَ حدّثنا
مالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ
عَائِشَةَ قالَتْ كُنْتُ أُرَجِّلُ رَأْسُ رسولِ اللَّهِ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنا حائِضٌ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي ترجيل رَأس رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَأما أَمر الْغسْل فَلَا مُطَابقَة لَهُ،
وَقَالَ بَعضهم: الْحق بِهِ الْغسْل قِيَاسا أَو إِشَارَة
إِلَى الطَّرِيق الْآتِيَة فِي بَاب مُبَاشرَة الْحَائِض،
فَإِنَّهُ صَرِيح فِي ذَلِك، والوجهان اللَّذَان ذكرهمَا
هَذَا الْقَائِل لَا وَجه لَهما أصلا. أما الأول: فَلِأَن
وضع التراجم من الْأَبْوَاب هَل هُوَ حكم من الْأَحْكَام
الشَّرْعِيَّة حَتَّى يُقَاس حكم مِنْهَا على حكم آخر.
وَأما الثَّانِي: فَهَل وَجه الْوَضع تَرْجَمَة فِي بَاب،
وَالْإِشَارَة إِلَى المترجم الَّذِي وضع لَهَا فِي
الْبَاب الثَّالِث.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة ذكرُوا فِي بَاب الْوَحْي على
هَذَا التَّرْتِيب.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: وَفِيه:
أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا عبد الله فَإِنَّهُ تنيسي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي اللبَاس عَن عبد الله بن يُوسُف، وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الشَّمَائِل عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن
معن وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الطَّهَارَة، وَفِي
الِاعْتِكَاف عَن قُتَيْبَة، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك.
قَوْله: (كنت أرجل رَأس رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) فِيهِ الْإِضْمَار تَقْدِيره: كنت أرجل شعر رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لِأَن الترجيل للشعر لَا
للرأس، وَيجوز أَن يكون من بَاب إِطْلَاق الْمحل
وَإِرَادَة الْحَال. قَوْله: (وَأَنا حَائِض) جملَة أسمية
وَقعت حَالا.
وَمِمَّا يستنبط مِنْهُ جَوَاز ترجيل الْحَائِض شعر رَأس
زَوجهَا، وَاعْلَم أَنه لم يخْتَلف أحد فِي غسل الْحَائِض
رَأس زَوجهَا وترجيله إلاَّ مَا نقل عَن ابْن عَبَّاس أَنه
دخل على مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
فَقَالَت: (أَي بني مَالِي أَرَاك شعث الرَّأْس، فَقَالَ:
إِن أم عمار ترجلني وَهِي الْآن حَائِض. فَقَالَت: أَي بني
لَيست الْحَيْضَة بِالْيَدِ، كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يضع رَأسه فِي حجر إحدانا وَهِي حَائِض)
ذكره ابْن أبي شيبَة. فَقَالَ: حدّثنا ابْن عُيَيْنَة،
قَالَ: حَدثنَا منبوذ عَن أَبِيه بِهِ. وَمِمَّا يُؤْخَذ
مِنْهُ جَوَاز اسْتِخْدَام الزَّوْجَة بِرِضَاهَا وَهُوَ
إِجْمَاع.
296 - حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قالَ أخْبَرَنَا
هِشَامُ بنُ يُوسِفَ أنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قالَ
أخْبَرَنِي هِشَامٌ عَنْ عُرْوَةَ أنَّهُ سُئِلَ
أَتَخْدُمُنِي الحَائِضُ أَوْ تَدْنُو مِنِّي المَرْأَةُ
وَهِيَ جُنُبٌ فَقالَ عُرْوَةُ كُلُّ ذِلِكَ عَلَى هَيْنٌ
وكُلُّ ذَلِكَ تَخْدُمُنِي وَلَيْسَ عَلَى أَحَدٍ فِي
ذِلِكَ بَأْسٌ أَخْبَرْتَنِي عائِشَةُ أنَّهَا كانَتْ
ترَجِّلُ تَعْني رَأَسَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وَهِيَ حائِضٌ ورسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حينَئِذٍ مُجَاوِرُ فِي المَسْجِدِ يُدْنَى لَهَا
رَأْسَهُ وَهِيَ فِي حُجْرَتِهَا فَتُرَجِّلُهُ وَهِيَ
حائِضٌ. .
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة كمطابقة الحَدِيث
السَّابِق.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن
يزِيد التَّمِيمِي الرَّازِيّ أَبُو إِسْحَاق الْفراء،
يعرف بالصغير، وَكَانَ أَحْمد يُنكر على من يَقُول لَهُ
الصَّغِير، وَقَالَ: هُوَ كَبِير فِي الْعلم وَالْجَلالَة.
الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف الصَّنْعَانِيّ أَبُو عبد
الرَّحْمَن قَاضِي صنعاء من أَبنَاء الْفرس، وَهُوَ أكبر
اليمانيين وأحفظهم وأتقنهم، مَاتَ سنة سبع وَتِسْعين
وَمِائَة. الثَّالِث: ابْن جريح، بِضَم الْجِيم وَفتح
الرَّاء واسْمه عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريح
الْمَكِّيّ القريشي الْمدنِي، أَصله رومي، وَهُوَ أحد
الْعلمَاء الْمَشْهُورين، وَهُوَ أول من صنف فِي
الْإِسْلَام فِي قَول: وَكَانَت لَهُ كنيتان أَبُو
الْوَلِيد وَأَبُو خَالِد، مَاتَ سنة خمسين وَمِائَة،
وَهُوَ جَاوز السّبْعين. الرَّابِع: هِشَام بن عُرْوَة بن
الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير بن
الْعَوام. السَّادِس: عَائِشَة الصديقة بنت الصّديق، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
(3/258)
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة
الْإِفْرَاد فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع غير أَن فِي قَوْله:
قَالَ أَخْبرنِي، رُوِيَ: الثَّالِث: أخبرنَا الأول أَكثر.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: لَطِيفَة حَسَنَة وَهِي أَن ابْن
جريح يروي عَن هِشَام، وَهِشَام يروي عَن ابْن جريج
فالأعلى ابْن عُرْوَة، والأدنى ابْن يُوسُف. وَفِيه: أَن
رُوَاته مَا بَين رازي وصنعاني ومكي ومدني.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (أَنه سُئِلَ) أَي:
عُرْوَة سُئِلَ، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله:
(أتخدمني الْحَائِض؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله:
(أَو تَدْنُو؟) أَي: أَو تقرب؟ قَوْله: (وَهِي جنب) جملَة
إسمية وَقعت حَالا. وَلَفظ جنب، يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذكر
والمؤنث وَالْوَاحد وَالْجمع، وَهِي اللُّغَة الفصيحة
قَوْله: (كل ذَلِك) إِشَارَة إِلَى الْخدمَة، والدنو
اللَّذَان يدلان عَلَيْهِمَا لفظ أتخدمني وتدنو؟ وَجَاءَت
الْإِشَارَة بِلَفْظ ذَلِك للمثنى قَالَ الله تَعَالَى:
{عوان بَين ذَلِك} (سُورَة الْبَقَرَة: 68) قَوْله: (هَين)
أَي: سهل، وَهُوَ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيف: كميت
وميت، وَأَصله: هيون إجتمعت الْيَاء وَالْوَاو وسبقت
إِحْدَاهمَا بِالسُّكُونِ، فقلبت الْوَاو يَاء، وأدغمت
الْيَاء فِي الْيَاء. قَوْله: (وكل ذَلِك) أَي: الْحَائِض
وَالْجنب، والتذكير بِاعْتِبَار الْمَذْكُور لفظا، وَوجه
التَّثْنِيَة قد ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (وَلَيْسَ على أحد
فِي ذَلِك بَأْس) أَي: حرج، وَكَانَ مُقْتَضى الظَّاهِر
أَن يَقُول: وَلَيْسَ عَليّ فِي ذَلِك بَأْس، لكنه قصد
بذلك التَّعْمِيم مُبَالغَة فِيهِ، وَدخل هُوَ فِيهِ
بِالْقَصْدِ الأول. قَوْله: (ترجل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) أَي: شعر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم. قَوْله: (وَهِي حَائِض) جملَة حَالية، وَإِنَّمَا
لم يقل: حائضة، لعدم الالتباس، وَأما قَوْلهم: جَاءَ
الحاملة والمرضعة، فِي الِاسْتِعْمَال، فلإرادة التباسهما
بِتِلْكَ الصّفة بِالْفِعْلِ، فَإِذا أُرِيد التباسهما
بِالْقُوَّةِ. يكون بِلَا تَاء، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ
فِي قَوْله تَعَالَى: {يَوْم ترونها تذهل كل مُرْضِعَة
عَمَّا أرضعت} (سُورَة الْحَج: 2) فَإِن قلت: لم قيل
مُرْضِعَة دون مرضع؟ قلت: الْمُرضعَة الَّتِي هِيَ فِي
حَال الْإِرْضَاع تلقم ثديها الصَّبِي، والمرضع الَّتِي من
شَأْنهَا أَن ترْضع وَإِن لم تباشر الْإِرْضَاع فِي حَال
وصفهَا بِهِ. قَوْله: (حِينَئِذٍ) أَي: حِين الترجيل.
قَوْله: (مجاور) أَي: معتكف. قَوْله: (بدني) بِضَم الْيَاء
أَي: يقرب لَهَا، أَي: لعَائِشَة رَأسه، وَالْحَال
أَنَّهَا فِي حُجْرَتهَا، وَكَانَت حُجْرَتهَا ملاصقة
لِلْمَسْجِدِ، والحجرة، بِضَم الْحَاء الْبَيْت. قَوْله:
(فترجله) أَي: ترجل عَائِشَة رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَي: ترجل شعر رَأسه، وَالْحَال أَنَّهَا
حَائِض.
والْحَدِيث دلّ على جَوَاز خدمَة الْحَائِض فَقَط، وَأما
دلَالَته على دنو الْجنب فبالقياس عَلَيْهَا، وَالْجَامِع
إشتراكهما فِي الْحَدث الْأَكْبَر، وَهُوَ من بَاب
الْقيَاس الْجَلِيّ، لِأَن الحكم بالفرع أولى، لِأَن
الاستقذار من الْحَائِض أَكثر.
وَمِمَّا يستنبط من الحَدِيث أَن الْمُعْتَكف إِذا خرج
رَأسه أَو يَده أَو رِجَاله من الْمَسْجِد لم يبطل
اعْتِكَافه، وَأَن من حلف لَا يدْخل دالااً أَو لَا يخرج
مِنْهَا فَأدْخل بعضه أَو أخرج بعضه لَا يخنث. وَفِيه:
جَوَاز اسْتِخْدَام الزَّوْجَة فِي الْغسْل وَنَحْوه
بِرِضَاهَا، وَأما بِغَيْر رِضَاهَا فَلَا يجوز، لِأَن
عَلَيْهَا تَمْكِين الزَّوْج من نَفسهَا وملازمة بَيته
فَقَط، وَقَالَ ابْن بطال: وَهُوَ حجَّة على طَهَارَة
الْحَائِض وَجَوَاز مباشرتها. وَفِيه: دَلِيل على أَن
الْمُبَاشرَة الَّتِي قَالَ الله تَعَالَى: {وَلَا
تباشروهن وَأَنْتُم عاكفون فِي الْمَسَاجِد} (سُورَة
الْبَقَرَة: 187) لم يرد بهَا كل مَا وَقع عَلَيْهِ اسْم
الْمس، وَإِنَّمَا أَرَادَ بهَا الْجِمَاع أَو مَا دونه من
الدَّوَاعِي للذة. وَفِيه: ترجيل الشّعْر للرِّجَال وَمَا
فِي مَعْنَاهُ من الزِّينَة. وَفِيه: أَن الْحَائِض لَا
تدخل الْمَسْجِد تَنْزِيها لَهُ وتعظيماً، وَهُوَ
الْمَشْهُور من مَذْهَب مَالك، وَحكى ابْن سَلمَة أَنَّهَا
تدخل هِيَ وَالْجنب، وَفِي رِوَايَة: يدْخل الْجنب وَلَا
تدخل الْحَائِض. وَقَالَ ابْن بطال: وَفِيه: حجَّة على
الشَّافِعِي فِي أَن الْمُبَاشرَة الْخَفِيفَة مثل مَا فِي
هَذَا الحَدِيث لَا تنقض الْوضُوء. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
لَيْسَ فِيهِ حجَّة على الشَّافِعِي، إِذْ هُوَ لَا يَقُول
بِأَن مس الشّعْر نَاقض للْوُضُوء، وَقَالَ بَعضهم: وَلَا
حجَّة فِيهِ، لِأَن الِاعْتِكَاف لَا يشْتَرط فِيهِ
الْوضُوء، وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَنه عقب ذَلِك الْفِعْل
بِالصَّلَاةِ، وعَلى تَقْدِير ذَاك فمس الشّعْر لَا ينْقض
الْوضُوء. قلت: وَلَيْسَ فِي الحَدِيث أَيْضا أَنه
تَوَضَّأ عقيب ذَلِك، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.
3 - (بابُ قِرَاءَةِ الرَّجُلِ فِي حِجْرِ امْرَأَتِهِ
وَهِيَ حائِضٌ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم قِرَاءَة الرجل فِي حجر
امْرَأَته، وَالْحَال أَنَّهَا حَائِض، وَالْحجر بِفَتْح
الْحَاء الْمُهْملَة وَكسرهَا، وَسُكُون الْجِيم وَالْجمع
حجور، وَمحل: فِي حجر امْرَأَته، نصب على الْحَال
تَقْدِيره قِرَاءَة الرجل حَال كَونه مُتكئا على حجر
امْرَأَته،
(3/259)
وَكلمَة: فِي، تَأتي بِمَعْنى على كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى: {ولأصلبنكم فِي جزوع النّخل} (سُورَة
طه: 71) أَي: عَلَيْهَا وَيجوز أَن يقدر، وَاضِعا رَأسه
على حجر امْرَأَته ومستنداً إِلَيْهِ.
ثمَّ وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ
اشْتِمَال كل مِنْهَا على حكم مُتَعَلق بالحائض، وَهُوَ
ظَاهر.
وكانَ أَبُو وَائِلٍ يُرْسِلُ خَادِمَهُ وهَيَ حائضٌ إلَى
أبي رَزِينٍ فَتَأْتِيهِ بالمُصْحَفٍ فَتُمُسِكُهُ
بَعِلاَقَتِهِ
الْكَلَام فِي هَذَا على أَنْوَاع.
الأول: فِي وَجه مُطَابقَة هَذَا للتَّرْجَمَة فَقَالَ:
صَاحب (التَّلْوِيح) وَتَبعهُ صَاحب (التَّوْضِيح) لما ذكر
البُخَارِيّ حمل الْحَائِض العلاقة الَّتِي فِيهَا
الْمُصحف، نطرها بِمن يحفظ الْقُرْآن فَهُوَ حامله،
لِأَنَّهُ فِي جَوْفه، كَمَا رُوِيَ عَن سعيد ابْن الْمسيب
وَسَعِيد بن جُبَير، هُوَ فِي جَوْفه ابْن عَبَّاس، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، ورقة وَهُوَ جنب قَالَ: فِي جوفي
أَكثر من هَذَا وَنزل ثِيَاب الْحَائِض بِمَنْزِلَة
العلاقة، وَقِرَاءَة الرجل بِمَنْزِلَة الْمُصحف، لكَونه
فِي جَوْفه. قلت: هَذَا فِي غَايَة الْبعد، لِأَن بَين
قِرَاءَة الرجل فِي حجر امْرَأَته، وَبَين حمل الْحَائِض
الْمُصحف بعلاقته بون عَظِيم من الْجِهَة الَّتِي ذكرت،
لِأَن قَوْله: نظرها، إِمَّا تَشْبِيه وَإِمَّا قِيَاس،
فَإِن أَرَادَ بِهِ التَّشْبِيه، وَهُوَ تَشْبِيه محسوس
بمعقول، فَلَا وَجه للتشبيه، وَإِن أَرَادَ بِهِ الْقيَاس
فشروطه غير مَوْجُودَة فِيهِ، وَيُمكن أَن يُقَال: وَجه
التطابق بَينهمَا هُوَ جَوَاز الحكم فِي كل مِنْهُمَا،
فَكَمَا تجوز قِرَاءَة الرجل فِي حجر الْحَائِض. فَكَذَلِك
يجوز حمل الْحَائِض الْمُصحف بعلاقته، وَفِي كل مِنْهُمَا
دخل للحائض، وَفِيه وَجه التطابق. ثمَّ لَو قيل: مَا قيل
فِي ذَلِك فَلَا يَخْلُو عَن تعسف.
النَّوْع الثَّانِي: أَن هَذَا الْأَثر أخرجه ابْن أبي
شيبَة فِي (مُصَنفه) بِسَنَد صَحِيح، فَقَالَ: حَدثنَا
جرير عَن مُغيرَة، كَانَ أَبُو وَائِل. فَذكره.
النَّوْع الثَّالِث: فِي مَعْنَاهُ: فَقَوله: (يُرْسل
خادمه) الْخَادِم اسْم لمن يخْدم غَيره، وَيُطلق على
الْغُلَام وَالْجَارِيَة، فَلذَلِك قَالَ: وَهِي حَائِض،
فأنث الضَّمِير. قَوْله: (بعلاقته) بِكَسْر الْعين: مَا
يتَعَلَّق بِهِ الْمُصحف، وَكَذَلِكَ علاقَة السَّيْف
وَنَحْو ذَلِك. وَأَبُو وَائِل: اسْمه شَقِيق بن سَلمَة
الْأَسدي أدْرك النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم
يره، روى عَن كثيرين من الصَّحَابَة، وَقَالَ يحيى بن
معِين ثِقَة لَا يسْأَل عَن مثله، قَالَ الْوَاقِدِيّ
مَاتَ فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله
عَنهُ، وَأَبُو رزين، بِفَتْح الرَّاء وَكسر الزَّاي
الْمُعْجَمَة اسْمه مَسْعُود بن مَالك الْأَسدي مولى أبي
وَائِل وَأَبُو الْكُوفِي التَّابِعِيّ، روى لَهُ مُسلم
وَالْأَرْبَعَة.
النَّوْع الرَّابِع فِي استنباط الحكم مِنْهُ. وَهُوَ
جَوَاز حمل الْحَائِض الْمُصحف بعلاقته، وَكَذَلِكَ
الْجنب، وَمِمَّنْ أجَاز ذَلِك عبد الله بن عمر بن الْخطاب
وَعَطَاء وَالْحسن الْبَصْرِيّ، وَمُجاهد وَطَاوُس وَأَبُو
وَائِل رزين وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو
ثَوْر وَالشعْبِيّ وَالقَاسِم بن مُحَمَّد وَقَالَ ابْن
بطال: رخص فِي حمله الحكم وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح
وَسَعِيد بن جُبَير وَحَمَّاد بن أبي سُلَيْمَان وَأهل
الظَّاهِر، وَمنع الحكم مَسّه بباطن الْكَفّ خَاصَّة،
وَقَالَ ابْن حزم، وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَالسُّجُود فِيهِ
وَمَسّ الْمُصحف وَذكر الله تَعَالَى جَائِز، كل ذَلِك
وضوء وَبلا وضوء وللجنب وَالْحَائِض، وَهُوَ قَول ربيعَة
وَسَعِيد بن الْمسيب وَابْن جُبَير وَابْن عَبَّاس
وَدَاوُد وَجَمِيع أَصْحَابنَا، وَأما مس الْمُصحف فَإِن
الْآثَار الَّتِي احْتج بهَا من لم يجز للْجنب مَسّه، فآنه
لَا يَصح مِنْهَا شَيْء لِأَنَّهَا إِمَّا مُرْسلَة
وَإِمَّا صحيفَة لَا يسْتَند بِهِ، وَأما عَن ضَعِيف،
وَالصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس عَن أبي سُفْيَان حَدِيث
هِرقل الَّذِي فِيهِ و {يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى
كلمة سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَن لَا نعْبد إِلَّا
الله وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا
بَعْضًا أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا:
{أشهدوا بِأَنا مُسلمُونَ} (سُورَة آل عمرَان: 64) فَهَذَا
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قد بعث كتابا فِيهِ
قُرْآن للنصاري، وَقد أَيقَن أَنهم يمسونه، فَإِن ذكرُوا
حَدِيث ابْن عمر، (نهى أَن يُسَافر بِالْقُرْآنِ إِلَى
أَرض الْعَدو مَخَافَة أَن يَنَالهُ الْعَدو) قُلْنَا:
هَذَا حق يلْزم اتِّبَاعه وَلَيْسَ فِيهِ لَا يمس الْمُصحف
جنب وَلَا كَافِر، وَإِنَّمَا فِيهِ أَن لَا ينَال أهل
الْحَرْب الْقُرْآن فَقَط، فَإِن قَالُوا: إِنَّمَا بعث
إِلَى هِرقل بِآيَة وَاحِدَة، قيل: لَهُم: وَلم يمْنَع من
غَيرهَا وَأَنْتُم أهل قِيَاس، فَإِن لم تقيسوا على
الْآيَة مَا هُوَ أَكثر مِنْهَا فَلَا تقيسوا على هَذِه
الْآيَة غَيرهَا فَإِن ذكرُوا قَوْله جلّ وَعلا: {لَا
يمسهُ إِلَّا الْمُطهرُونَ} (سُورَة الْوَاقِعَة: 79)
قُلْنَا: لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ أمرا
وَإِنَّمَا هُوَ خير، والرب تَعَالَى لَا يَقُول إلاَّ
حَقًا وَلَا يجوز أَن يصرف لفظ الْخَبَر إِلَى معنى
الْأَمر إلاَّ بِنَصّ جلي أَو إِجْمَاع مُتَيَقن، فَلَمَّا
رَأينَا الْمُصحف يمسهُ الطَّاهِر وَغير الطَّاهِر علمنَا
أَنه لم يعن الْمُصحف، وَإِنَّمَا عَنى كتابا آخر عِنْده
كَمَا جَاءَ عَن سعيد بن جُبَير فِي هَذِه الْآيَة هم
الْمَلَائِكَة الَّذين فِي السَّمَاء، وَكَانَ عَلْقَمَة
إِذا أَرَادَ أَن يتَّخذ مُصحفا أَمر نَصْرَانِيّا فينسخه
لَهُ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة لَا بَأْس أَن يحمل الْجنب
الْمُصحف بعلاقته، وَغير المتوضىء عِنْده كَذَلِك، وأبى
ذَلِك مَالك إلاَّ إِن كَانَ فِي خرج أَو تَابُوت فَلَا
بَأْس أَن يحملهُ
(3/260)
الْجنب واليهودي وَالنَّصْرَانِيّ، قَالَ
أَبُو مُحَمَّد: وَهَذِه تفاريق لَا دَلِيل على صِحَّتهَا.
انْتهى كَلَامه.
وَالْجَوَاب عَمَّا قَالَه. فَقَوله بِأَن الْآثَار
الَّتِي احْتج بهَا من لم يجز للْجنب مَسّه إِلَخ، لَيْسَ
كَذَلِك، فَإِن أَكثر الْآثَار فِي ذَلِك صِحَاح. مِنْهَا:
مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) بِسَنَد صَحِيح
مُتَّصِل عَن أنس: (خرج عمر بن الْخطاب مُتَقَلِّدًا
السَّيْف، فَدخل على أُخْته وَزوجهَا خباب وهم يقرؤون
سُورَة طه، فَقَالَ: أعطوني الْكتاب الَّذِي عنْدكُمْ
فاقرؤوه، فَقَالَت لَهُ أُخْته: إِنَّك رِجْس {وَلَا يمسهُ
إلاَّ الْمُطهرُونَ} (سُورَة الْوَاقِعَة: 79) فَقُمْ
فاغتسل أَو تَوَضَّأ، فَقَامَ وَتَوَضَّأ ثمَّ أَخذ
الْكتاب بِيَدِهِ) وَالْعجب من أبي عمر بن عبد الْبر إِذْ
ذكره فِي سيرا ابْن إِسْحَاق وَقَالَ: هُوَ معضل، وَتَبعهُ
على ذَلِك أَبُو الْفَتْح الْقشيرِي: وَهَذَا أعجب مِنْهُ،
وَقَالَ السُّهيْلي: هُوَ من أَحَادِيث السّير. وَمِنْهَا:
مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا بِسَنَد صَحِيح من
حَدِيث سَالم يحدث عَن أَبِيه قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يمس الْقُرْآن إلاَّ طَاهِر) وَلما
ذكره الجوزقاني فِي كِتَابه، قَالَ: هَذَا حَدِيث مَشْهُور
حسن. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ أَيْضا من
حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أبي بكر بن مُحَمَّد بن عَمْرو بن
حزم عَن أَبِيه عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كتب إِلَى أهل الْيمن كتابا فِيهِ، لَا يمس
الْقُرْآن إلاَّ طَاهِر) وَرَوَاهُ فِي (الغرائب) من
حَدِيث إِسْحَاق إلطباع عَن مَالك مُسْندًا وَمن الطَّرِيق
الأولى خرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) وَابْن عبد
الْبر وَالْبَيْهَقِيّ فِي (الشّعب) .
وَقد وَردت أَحَادِيث كَثِيرَة بِمَنْع قِرَاءَة الْقُرْآن
للْجنب وَالْحَائِض. مِنْهَا: حَدِيث عبد الله بن
رَوَاحَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. [حم (نهى رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن يقْرَأ أَحَدنَا
الْقُرْآن وَهُوَ جنب) [/ حم. قَالَ أَبُو عمر: روينَاهُ
من وُجُوه صِحَاح. وَمِنْهَا: حَدِيث عَمْرو بن مرّة عَن
عبد الله بن سَلمَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
يرفعهُ: (لَا يَحْجُبهُ عَن قِرَاءَة الْقُرْآن شَيْء
إلاَّ الْجَنَابَة) صَححهُ جمَاعَة مِنْهُمَا بن خُزَيْمَة
وَابْن حبَان وَأَبُو عَليّ الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ
وَالْحَاكِم وَالْبَغوِيّ فِي (شرح السّنة) وَفِي
(سُؤَالَات الْمَيْمُونِيّ) قَالَ شُعْبَة: لَيْسَ أحد
يحدث بِحَدِيث أَجود من ذَا، وَفِي (كَامِل) ابْن عدي
عَنهُ، لم يرو عَمْرو وَأحسن من هَذَا وَكَانَ شُعْبَة
يَقُول: هَذَا ثلث رَأس مَالِي، وخرجه ابْن الْجَارُود فِي
(الْمُنْتَقى) زَاد ابْن حبَان، قد يتَوَهَّم غير المتحر
فِي الحَدِيث أَن حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، كَانَ يذكر الله تَعَالَى على أحيائه، بِعَارِض
هَذَا، وليبس كَذَلِك، لِأَنَّهَا أَرَادَت الذّكر الَّذِي
هُوَ غير الْقُرْآن، إِذْ الْقُرْآن يجوز أَن يُسمى ذكرا
وَكَانَ لَا يقْرَأ وَهُوَ جنب، ويقرؤه فِي سَائِر
الْأَحْوَال. وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يقْرَأ الْحَائِض وَلَا
الْجنب وَلَا النُّفَسَاء الْقُرْآن شَيْئا) رَوَاهُ
الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ الْبَيْهَقِيّ وَقَالَ سَنَده
صَحِيح وَمِنْهَا حَدِيث أبي مُوسَى قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم (يَا عَليّ لَا تقْرَأ الْقُرْآن
وَأَنت جنب) ، وَعَن الْأسود أخرجه ابْن أبي شيبَة فِي
(مُصَنفه) بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ وَإِبْرَاهِيم لَا
يقْرَأ الْجنب، وَعَن الشّعبِيّ وَأبي وَائِل مثله
بِزِيَادَة، وَالْحَائِض.
وَالْجَوَاب: عَن الْكتاب إِلَى هِرقل فَنحْن نقُول بِهِ
لمصْلحَة الإبلاغ والإنذار، وَأَنه لم يقْصد بِهِ
التِّلَاوَة.
وَأما الْجَواب عَن الْآيَة بِأَن المُرَاد بالمطهرين
الْمَلَائِكَة، كَمَا قَالَه قَتَادَة وَالربيع بِهِ أنس
وَأنس بن مَالك وَمُجاهد بن جُبَير وَغَيرهم وَنَقله
السُّهيْلي عَن مَالك وأكدوا هَذَا بقوله: (المطهرين) وَلم
يقل: المتطهرين إِن تَخْصِيص الْمَلَائِكَة من بَين سَائِر
المتطهرين على خلاف الأَصْل، وَكلهمْ مطهرون، والمس
والإطلاع عَلَيْهِ إِنَّمَا هُوَ لبَعْضهِم دون الجمبع.
4 - (حَدثنَا أَبُو نعيم الْفضل بن دُكَيْن سمع زهيرا عَن
مَنْصُور بن صَفِيَّة أَن أمه حدثته أَن عَائِشَة حدثتها
أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
كَانَ يتكيء فِي حجري وَأَنا حَائِض ثمَّ يقْرَأ
الْقُرْآن) قَالَ صَاحب التَّوْضِيح وَجه مُنَاسبَة
إِدْخَال حَدِيث عَائِشَة فِيهِ أَن ثِيَابهَا بِمَنْزِلَة
العلاقة والشارع بِمَنْزِلَة الْمُصحف لِأَنَّهُ فِي
جَوْفه وحامله إِذْ غَرَض البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب
الدّلَالَة على جَوَاز حمل الْحَائِض الْمُصحف وقراءتها
الْقُرْآن فالمؤمن الْحَافِظ لَهُ أكبر أوعيته قلت لَيْسَ
فِي الحَدِيث إِشَارَة إِلَى الْحمل وَفِيه الاتكاء
والاتكاء غير الْحمل وَكَون الرجل فِي حجر الْحَائِض لَا
يدل على جَوَاز الْحمل وغرض البُخَارِيّ الدّلَالَة على
جَوَاز الْقِرَاءَة بِقرب مَوضِع النَّجَاسَة لَا على
جَوَاز حمل الْحَائِض للمصحف وَبِهَذَا رد الْكرْمَانِي
على ابْن بطال فِي قَوْله وغرض البُخَارِيّ فِي هَذَا
الْبَاب أَن يدل على جَوَاز حمل الْحَائِض للمصحف وقراءتها
الْقُرْآن قلت رده عَلَيْهِ إِنَّمَا يَسْتَقِيم فِي
قَوْله وقراءتها الْقُرْآن لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الحَدِيث
مَا يدل على جَوَاز قِرَاءَة الْحَائِض الْقُرْآن
وَالَّذِي فِيهِ يدل على جَوَاز قِرَاءَة الْقُرْآن فِي
حجر الْحَائِض وعَلى جَوَاز حمل الْمُصحف لَهَا بعلاقته
فأورد حَدِيثا وأثرا
(3/261)
فَالْحَدِيث يدل على الأول والأثر يدل على
الثَّانِي وَلكنه غير مُطَابق للتَّرْجَمَة وكل مَا كَانَ
من هَذَا الْقَبِيل فِيهِ تعسف وَلَا يقرب من الْمُوَافقَة
إِلَّا بِالْجَرِّ الثقيل (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة.
الأول أَبُو نعيم. الثَّانِي زُهَيْر بن مُعَاوِيَة بن
خديج الْجعْفِيّ. الثَّالِث مَنْصُور بن صَفِيَّة بنت
شيبَة وَأَبُو مَنْصُور عبد الرَّحْمَن الحَجبي
الْعَبدَرِي الْمَكِّيّ كَانَ يحجب الْبَيْت وَهُوَ شيخ
كَبِير وَإِنَّمَا نسب مَنْصُور إِلَى أمه لِأَنَّهُ
اشْتهر بهَا وَلِأَنَّهُ روى عَنْهَا. الرَّابِع صَفِيَّة
بنت شيبَة. الْخَامِس عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا. (بَيَان لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة
الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين
وَفِيه السماع فِي مَوضِع وَاحِد والعنعنة كَذَلِك وَفِيه
أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومكي. (ذكر تعدد مَوْضِعه
وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
التَّوْحِيد عَن قبيصَة عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَأخرجه
مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى عَن دَاوُد بن عبد
الرَّحْمَن الْمَكِّيّ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعلي بن
حجر كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة وَأخرجه ابْن
ماجة عَن مُحَمَّد بن يحيى عَن عبد الرَّزَّاق عَن
سُفْيَان الثَّوْريّ أربعتهم عَن مَنْصُور بن عبد
الرَّحْمَن بِهِ (ذكر مَعْنَاهُ وَغَيره) قَوْله " يتكيء
فِي حجري " قَالَ الْقُرْطُبِيّ كَذَا صَوَابه وَوَقع فِي
رِوَايَة العذري " حُجْرَتي " بتاء مثناة من فَوق وَهُوَ
وهم " قَوْله " يتكيء " بِالْهَمْزَةِ من بَاب الافتعال
أَصله يوتكيء قلبت الْوَاو تَاء وأدغمت التَّاء فِي
التَّاء وثلاثيه وكأ وَهِي جملَة فِي مَحل النصب
لِأَنَّهَا خبر كَانَ قَوْله " وَأَنا حَائِض " جملَة
اسمية وَقعت حَالا قَالَ الْكرْمَانِي أما من فَاعل يتكيء
وَأما من الْمُضَاف إِلَيْهِ وَهُوَ يَاء الْمُتَكَلّم قلت
من فَاعل يتكيء لَا وَجه لَهُ على مَا لَا يخفى وَمَا هِيَ
إِلَّا من يَاء الْمُتَكَلّم فِي حجري وَلَا يمْنَع وُقُوع
الْحَال من الْمُضَاف إِلَيْهِ إِذا كَانَ بَين الْمُضَاف
والمضاف إِلَيْهِ شدَّة الِاتِّصَال كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى {وَاتبع مِلَّة إِبْرَاهِيم حَنِيفا} وَكلمَة فِي
فِي قَوْله " فِي حجري " بِمَعْنى على كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى {لأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} أَي على جُذُوع
النّخل فَإِن قلت مَا فَائِدَة الْعُدُول عَنهُ قلت
لبَيَان التَّمَكُّن فِيهِ كتمكن المظروف فِي الظّرْف
قَوْله " فَيقْرَأ الْقُرْآن " وَفِي رِوَايَة البُخَارِيّ
فِي التَّوْحِيد " كَانَ يقْرَأ الْقُرْآن وَرَأسه فِي
حجري وَأَنا حَائِض " فعلى هَذَا المُرَاد بالاتكاء مَوضِع
رَأسه فِي حجرها. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد فِي هَذَا
القَوْل إِشَارَة إِلَى أَن الْحَائِض لَا يقْرَأ
الْقُرْآن لِأَن قرَاءَتهَا لَو كَانَت جَائِزَة لما توهم
امْتنَاع الْقِرَاءَة فِي حجرها حَتَّى احْتِيجَ إِلَى
التَّنْصِيص عَلَيْهَا. وَفِيه جَوَاز ملامسة الْحَائِض
لِأَنَّهَا طَاهِرَة. وَفِيه جَوَاز الْقِرَاءَة بِقرب
مَحل النَّجَاسَة قَالَه النَّوَوِيّ قلت فِيهِ نظر لِأَن
الْحَائِض طَاهِرَة والنجاسة هُوَ الدَّم وَهُوَ غير
طَاهِر فِي كل وَقت من أَوْقَات الْحيض فعلى هَذَا لَا
يكره قِرَاءَة الْقُرْآن بحذاء بَيت الْخَلَاء وَمَعَ
هَذَا يَنْبَغِي أَن يكره تَعْظِيمًا لِلْقُرْآنِ لِأَن
مَا قرب إِلَى الشَّيْء يَأْخُذ حكمه. وَفِيه جَوَاز
استناد الْمَرِيض فِي صلَاته إِلَى الْحَائِض إِذا كَانَت
ثِيَابهَا طَاهِرَة قَالَه الْقُرْطُبِيّ وَفِيه نظر.
4 - (بابُ مَنْ سَمَّى النِّفَاسَ حَيْضاً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من سمى النّفاس حيضا، وَكَانَ
يَنْبَغِي أَن يَقُول: بَاب من سمى الْحيض للنفاساً، لِأَن
فِي حَدِيث الْبَاب (فَقَالَ: أنفست , أَي: أحضت؟) أطلق
على الْحيض النّفاس، وَقَالَ ابْن بطال: لم يجد
البُخَارِيّ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نصا فِي
النّفاس، وَحكم دَمهَا فِي الْمدَّة الْمُخْتَلفَة، وسمى
الْحيض نفاساً فِي هَذَا الحَدِيث، فهم مِنْهُ أَن حكم دم
النُّفَسَاء حكم دم الْحيض فِي ترك الصَّلَاة، لِأَنَّهُ
إِذا كَانَ الْحيض نفاساً وَجب أَن يكون النّفاس حيضا
لاشْتِرَاكهمَا فِي التَّسْمِيَة من جِهَة اللُّغَة لِأَن
الدَّم هُوَ النَّفس، وَلزِمَ الحكم لما لم ينص عَلَيْهِ
مِمَّا نَص، وَحكم النّفاس ترك الصَّلَاة مَا دَامَ
مَوْجُودا وَقَالَ الْخطابِيّ: ترْجم أَبُو عبد الله
بقوله: (من سمى النّفاس حيضا) وَالَّذِي ظَنّه من ذَلِك
وهم، وأصل هَذِه الْكَلِمَة مَأْخُوذ من النَّفس وَهُوَ
الدَّم إلاَّ أَنهم فرقوا فَقَالُوا: نفست، بِفَتْح
النُّون، إِذا حَاضَت، وبضم النُّون إِذا ولدت، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: لَيْسَ الَّذِي ظَنّه وهما لِأَنَّهُ إِذا
ثَبت هَذَا الْفرق، وَالرِّوَايَة الَّتِي هِيَ بِالضَّمِّ
صَحِيحَة، صَحَّ أَن يُقَال حِينَئِذٍ سمي النّفاس حيضا
وَأَيْضًا يحْتَمل أَن الْفرق لم يثبت عِنْده لُغَة، بل
وضعت نفست، مَفْتُوح النُّون ومضمومها عندن للنفاس،
بِمَعْنى الْولادَة، كَمَا قَالَ بَعضهم بِعَدَمِ الْفرق
أَيْضا بِأَن اللَّفْظَيْنِ للْحيض والولادة كليهمَا.
وَقَالَ ابْن الْمُنِير: حَاصله كَيفَ يُطَابق
التَّرْجَمَة الحَدِيث وَفِيه تَسْمِيَة الْحيض نفاساً لَا
تَسْمِيَة النّفاس حيضا؟ قلت: للتّنْبِيه على أَن حكم
النّفاس وَالْحيض فِي مُنَافَاة الصَّلَاة وَنَحْوهَا
(3/262)
وَاحِد، وألجأه إِلَى ذَلِك أَنه لم يجد
حَدِيثا على شَرطه فِي حكم النّفاس، فاستنبط من هَذَا
الحَدِيث أَن حكمهَا وَاحِد. قلت: هَذَا الْكَلَام فِي
الْحَقِيقَة مَضْمُون كَلَام ابْن بطال، وَكَلَامه يشْعر
بالمساواة بَين مفهومي الْحيض وَالنّفاس، وَلَيْسَ
كَذَلِك، لجَوَاز أَن يكون بَينهمَا عُمُوم وخصوص من وَجه
كالإنسان وَالْحَيَوَان، وَقَول الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن
الْفرق لم يثبت عِنْده لُغَة، إِلَى آخِره، غير سديد،
لِأَن هَذَا لَا يُقَال عَن أحد إلاَّ مِمَّن يكون من
أَئِمَّة اللُّغَة وَالْبُخَارِيّ من أَئِمَّة الحَدِيث،
وَالصَّوَاب الَّذِي يُقَال هَاهُنَا على وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن هَذِه التَّرْجَمَة لَا فَائِدَة فِي ذكرهَا
لِأَنَّهُ لَا ينبي عَلَيْهَا مزِيد فَائِدَة.
وَالثَّانِي: لَو سلمنَا أَن لَهَا فَائِدَة فوجهها أَن
يُقَال: لما لم يثبت الْفرق عِنْده بَين مفهومي الْحيض
وَالنّفاس، يجوز ذكر أَحدهمَا وَإِرَادَة الآخر، فَفِي
الحَدِيث ذكر النّفاس وَأُرِيد الْحيض، فَكَذَلِك ذكر
المُصَنّف النّفاس وَأَرَادَ الْحيض، وعَلى هَذَا معنى
قَوْله: بَاب من سمي، بَاب من ذكر النّفاس حيضا يَعْنِي:
ذكر النّفاس وَأَرَادَ بِهِ الْحيض، فَكَذَلِك الْمَذْكُور
فِي الحَدِيث نِفَاس، وَالْمرَاد حيض وَذَلِكَ أَنه لما
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا: أنفست، أجابت بنعم،
وَكَانَت حَائِضًا، فقد جعلت النّفاس حيضا، فطابق الحَدِيث
مَا ترْجم بِهِ.
298 - حدّثنا الْمَكِي بْنُ إبْرَاهِيمَ قالَ حدّثنا عَنْ
هِشَامٌ عَنْ يَحْيَى ابْنِ أبي كَثِيرٍ عَنْ أبِي
سَلَمَةَ أنَّ زَيْنَبَ ابْنَة أُمْ سَلْمَةَ حَدَّثَتْهُ
أنَّ أُمَّ سَلَمَةَ حَدَّثَتْها قالتْ بَيْنَا أَنا مَعَ
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُضْطَجِعَةً فِي
خَمِيصَةٍ إذْ حِضْتُ فَانْسَلَلْتُ فأخَذْتُ ثِيَابَ
حَيْضَتِي قَالَ أنُفِسْتِ قُلْتُ نَعَمْ فَدَعانِي
فاضْطَجَعْتُ مَعَهُ فِي الخَمِيلَةِ..
وَجه الْمُطَابقَة قد ذكرنَا مستقصى.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: مكي بن إِبْرَاهِيم بن
إِبْرَاهِيم بن بشير التَّمِيمِي، أَبُو السكن الْبَلْخِي،
رَضِي الله عَنهُ. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي، رَضِي
الله عَنهُ. الثَّالِث: يحيى بن كثير، بالثاء
الْمُثَلَّثَة، رَضِي الله عَنهُ. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة
بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الْخَامِس: زَيْنَب بنت أم سَلمَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، السَّادِس: أم سَلمَة أم
الْمُؤمنِينَ، وَاسْمهَا هِنْد بنت أبي أُميَّة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، وبصيغة الْمُفْرد فِي موضِعين: وَفِيه: العنعنة
فِي موضِعين وَفِيه: أَبُو سَلمَة وَأم سَلمَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، وَلَيْسَت كنيتان بِاعْتِبَار شخص
وَاحِد، بل سَلمَة الأول هُوَ ولد ابْن عبد ان الرَّحْمَن،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَسَلَمَة الثَّانِي ولد ابْن
عبد الْأسد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَالْغَرَض أَن
أَبَا سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَيْسَ أَبَا
زنيب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: أَن يحيى
روى عَن أبي سَلمَة، رَضِي الله عَنهُ بالعنعنة، وَفِي
رِوَايَة مُسلم روى عَنهُ بِالتَّحْدِيثِ قَالَ: حَدثنِي
أَبُو سَلمَة، أخرجهَا من طَرِيق معَاذ بن هِشَام عَن
أَبِيه. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن صحابية.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي وبصري ويماني ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّوْم عَن مُسَدّد، رَضِي الله عَنهُ، وَفِي
الطَّهَارَة أَيْضا عَن سعد بن حَفْص عَنهُ، وَأخرجه مُسلم
فِي الطَّهَارَة عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى،
وَأخرجه النَّسَائِيّ، رَضِي الله عَنهُ، فِيهِ عَن عبيد
الله بن سعيد وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن إِسْمَاعِيل
بن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لغاته وَإِعْرَابه قَوْله: (بَينا) أَصله بَين أشعبت
فَتْحة النُّون بِالْألف، وَبينا وبينما ظرفان زمَان
بِمَعْنى المفاجأة، ومضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل
ومبتدأ وَخبر ويحتاجان إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى،
والأفصح فِي جوابها، أَن لَا يكون فِيهِ، إِذْ وَإِذا،
وَهَا هُنَا جَاءَ الْجَواب، باذ، وَهُوَ قَوْله: (إِذْ
حِضْت) وَهُوَ الْعَامِل فِيهِ. قَوْله: (مُضْطَجِعَة)
أَصله: مضجعة، لِأَنَّهُ من بَاب الافتعال، فقلبت التَّاء
طاء، وَيجوز فِيهِ الرّفْع وَالنّصب أما الرّفْع فعلى
الخبرية وَأما النصب فعلى الْحَال قبُوله: (فِي خميصة)
بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الْمِيم وَهِي كسَاء،
مربع لَهُ علمَان، وَقيل: الخمائض ثِيَاب من خزثخان سود
وحمر، وَلها أَعْلَام ثخان أَيْضا، قَالَه ابْن سَيّده،
وَفِي (الصِّحَاح) كسَاء أسود مربع وَإِن لم يكن معلما
فَلَيْسَ بخمصيه، وَفِي (الغربيين) قَالَ الْأَصْمَعِي:
الخمائص ثِيَاب خَز أَو صوف، معلمة، وَهِي سود، كَانَت من
لِبَاس النَّاس، وَقَالَ ابْن سَيّده: والخميلة والخملة،
القطيفة، وَقَالَ السكرِي: الخميل القطيفة ذَات الخمل،
والخمل هدب القطيفة وَنَحْوهَا مِمَّا ينسج، ويفضل لَهُ
فضول، وَفِي (الصِّحَاح) هِيَ الطنفسة، وَزعم النَّوَوِيّ،
رَحمَه الله أَن أهل اللُّغَة قَالُوا:
(3/263)
هُوَ كل ثوب لَهُ خمل من أَي لون كَانَ،
وَقيل: هُوَ الْأسود من الثِّيَاب. قَوْلهَا: (فانسللت)
أَي: ذهبت فِي خُفْيَة لاحْتِمَال وُصُول شَيْء من الدَّم
إِلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو لِأَنَّهَا تقذرت
نَفسهَا وَلم ترتضها لمضاجعة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وخافت أَن ينزل الْوَحْي على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فانسلت لِئَلَّا تشغله حركتها عَمَّا هُوَ فِيهِ من
الْوَحْي أَو غَيره. قَوْله: (أنفست) بِفَتْح النُّون
وَكسر الْفَاء، قَالَ النَّوَوِيّ: رَحمَه الله، هَذَا
هُوَ الصَّحِيح فِي اللُّغَة بِمَعْنى: حِضْت، فَأَما فِي
الْولادَة، فنفست، بِضَم النُّون وَكسر الْفَاء، وَقيل:
بِضَم النُّون وَفتحهَا، وَفِي الْحيض بِالْفَتْح لَا غير،
وَفِي (الواعي) نفست: بِضَم النُّون، حَاضَت وَفِي
(نَوَادِر اللحياني) وَمن خطّ أبي مُوسَى الْحَافِظ: نفست
الْمَرْأَة تنفس، بِالْكَسْرِ فِي الْمَاضِي والمستقبل،
أذا حَاضَت وَفِي (أدب الْكتاب) عَن ثَعْلَب، النُّفَسَاء
الوالدة وَالْحَامِل وَالْحَائِض، وَقَالَ ابْن سَيّده:
وَالْجمع من كل ذَلِك، نفساوات ونفاس ونفاس وَنَفس وَنَفس
وَنَفس وَنَفس ونفاس قَوْله: (ثِيَاب حيضتي) بِكَسْر
الْحَاء، وَهِي حَال الْحيض هَذَا هُوَ الصَّحِيح
الْمَشْهُور، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقيل يَحْتَلِم، فتح
الْحَاء هُنَا أَيْضا، فَإِن الْحَيْضَة، بِالْفَتْح، هِيَ
الْحيض. قلت: لَا يُقَال هُنَا بِالِاحْتِمَالِ، فَإِن
كلاًّ مِنْهُمَا لُغَة ثَبت عَن الْعَرَب، وَهِي أَن
الْحَيْضَة: بِالْكَسْرِ، الِاسْم من الْحيض، وَالْحَال
الَّتِي تلزمها الْحَائِض من التجنب والتحيض، كالجلسة
والقعدة من الْجُلُوس وَالْقعُود، فَأَما الْحَيْضَة
بِالْفَتْح، فالمرة الْوَاحِدَة من دفع الْحيض أَو ثَوْبه
وَأَنت تفرق بَينهمَا بِمَا تَقْتَضِيه قرينَة الْحَال من
مساق الحَدِيث، وَجَاء فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا: لَيْتَني كنت حَيْضَة ملقاة، هِيَ
بِالْكَسْرِ خرقَة الْحيض، وَجزم الْخطابِيّ هُنَا
بِرِوَايَة الْكسر، ورجحها النَّوَوِيّ، وَرجح
الْقُرْطُبِيّ رِوَايَة الْفَتْح لوروده فِي بعض طرقه
بِلَفْظ: حيض بِغَيْر تَاء.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز النّوم مَعَ
الْحَائِض فِي ثِيَابهَا والاضطجاع مَعهَا فِي لِحَاف
وَاحِد. وَمِنْهَا: اسْتِحْبَاب اتِّخَاذ الْمَرْأَة
ثيابًا للْحيض غير ثِيَابهَا الْمُعْتَادَة. وَمِنْهَا:
أَن عرقها طَاهِر. فَإِن قلت: قَالَ الله تَعَالَى:
{فاعتزلوا النِّسَاء فِي الْمَحِيض} (سُورَة الْبَقَرَة:
222) قلت: مَعْنَاهُ فاعتزلوا وطئهن. وَمِنْهَا:
التَّنْبِيه على أَن حكم الْحيض وَالنّفاس وَاحِد فِي منع
وجوب الصَّلَاة وَعدم جَوَاز الصَّوْم وَدخُول الْمَسْجِد
وَالطّواف وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَمَسّ الْمُصحف وَنَحْو
ذَلِك. فَإِن قلت: لِمَ لَمْ ينص البُخَارِيّ على حكم
النّفاس وَحده؟ قلت: الْمُهلب: لِأَنَّهُ لم يجد حَدِيثا
على شَرطه فِي حكم النّفاس.
واستنبط من الحَدِيث أَن حكمهمَا وَاحِد. قلت: النُّصُوص
فِيهَا كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا: (كَانَت النُّفَسَاء تجْلِس على عهد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرْبَعِينَ يَوْمًا)
وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح الْإِسْنَاد وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث سُهَيْل عَن
مسَّة الإزدية عَن أم سَلمَة، وَحسنه الْبَيْهَقِيّ
والخطابي، وَقَالَ الْأَزْدِيّ: حَدِيث مَسّه أحْسنهَا.
وَعند الدَّارَقُطْنِيّ: (أَن أم سَلمَة سَأَلت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كم تجْلِس الْمَرْأَة، إِذا
ولدت؟ قَالَ: أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلاَّ أَن ترى الطُّهْر
قبل ذَلِك) وَعند ابْن مَاجَه، من حَدِيث سَلام بن سليم
عَن حميد عَن أنس، رَضِي الله عَنهُ: (وَقت النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم للنفساء أَرْبَعِينَ يَوْمًا)
وَحَدِيث عُثْمَان عَن أبي الْعَاصِ مثله، وَضَعفه ابْن
عدي. وَقَالَ الْحَاكِم: إِن سلم هَذَا الْإِسْنَاد من أبي
بِلَال فَإِنَّهُ مُرْسل صَحِيح، فَإِن الْحسن لم يسمع من
عُثْمَان، وَحَدِيث معَاذ بن جبل رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، أخرجه الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) وَحَدِيث
عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه أَحْمد بن
حَنْبَل فِي كتاب الْحيض، وَحَدِيث عبد الله بن عَمْرو بن
الْعَاصِ ضعفه ابْن عدي، وَحَدِيث عَائِذ بن عَمْرو ضعفه
الدَّارَقُطْنِيّ، وَحَدِيث جَابر رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط)
وَحَدِيث عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ضعفه
ابْن حزم، وَحَدِيث الْعَلَاء بن كثير عَن أبي الدَّرْدَاء
وَأبي هُرَيْرَة، رَضِي الله عَنْهُمَا، رَوَاهُ ابْن عدي
بِالْإِرْسَال فِيمَا بَين مَكْحُول وَبَينهمَا. وَأما
مَوْقُوف ابْن عَبَّاس فسنده صَحِيح فِي مُسْند
الدَّارمِيّ، وخرجه أَيْضا ابْن الْجَارُود فِي (المنتفى)
وَفِي (كتاب الْأَحْكَام) لأبي عَليّ الطوسي، أجمع أهل
الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ فَمن بعدهمْ على
أَن النُّفَسَاء تدع الصَّلَاة أَرْبَعِينَ يَوْمًا إلاَّ
أَن ترى الطُّهْر قبل ذَلِك، فَإِنَّهَا تَغْتَسِل وَتصلي،
فَإِذا رَأَتْ الدَّم بعد الْأَرْبَعين فَإِن أَكثر أهل
الْعلم قَالُوا: لَا تدع الصَّلَاة بعد الْأَرْبَعين،
وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم من الْفُقَهَاء، ويروى عَن
الْحسن، تدع الصَّلَاة خمسين يَوْمًا، وَعَن عَطاء
سِتِّينَ يَوْمًا.
(3/264)
5 - (بابُ مُبَاشَرَةِ الحَائِضِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمُبَاشرَة مَعَ زَوجته
الْحَائِض وَأَرَادَ بِالْمُبَاشرَةِ هُنَا مماسة الخلدين
لَا الْجِمَاع، فَإِن جماع الْحَائِض حرَام على مَا نذكرهُ
مفصلا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة جدا، وَهُوَ وجود
الْمُبَاشرَة فِي كل مِنْهُمَا.
299 - حدّثنا قَبِيصَةُ قالَ حدّثنا سُفْيَانُ عَنْ
مَنْصُورٍ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَنِ الأَسْوَدِ عَنْ عائِشَةَ
قَالَتْ كُنْتُ أَغْتَسِلُ أَنَا والنَّبيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ كَلانَا جُنُبٌ.
حدّثنا وَكانَ يَأْمُرُنِي فَاتزِرُ فَيُبَاشِرُنِي وَأَنا
حائِضُ. حدّثنا وَكانَ يُخْرُجُ رَأْسَهُ إلَيَّ وَهُوَ
مُعْتَكِفٌ فَأْغْتَسِلُهُ وَأَنَا حائِضٌ. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْلهَا: (فيباشرني)
.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: قبيصَة، بِفَتْح الْقَاف وَكسر
الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح
الصَّاد الْمُهْملَة وَفِي آخِره تَاء ابْن عقبَة أَبُو
عَامر الْكُوفِي، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَمَنْصُور بن
الْمُعْتَمِر، وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وخَالِد الْأسود
بن يزِيد كلهم تقدمُوا فِي بَاب عَلامَة الْمُنَافِق.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه:
أَن رُوَاته كلهم إِلَى عَائِشَة كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة
التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. فَإِن قلت: إِبْرَاهِيم،
هَل أدْرك أحدا من الصَّحَابَة، أَو سمع من أحد مِنْهُم؟
قلت: ذكر الْعجلِيّ: إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ لم يحدث عَن
أحد من الصَّحَابَة، وَقد أدْرك مِنْهُم جمَاعَة، وَقد رأى
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، وَيُقَال: رأى
أَبَا جُحَيْفَة وَزيد بن أَرقم وَابْن أبي أوفى وَلم يسمع
مِنْهُم، وَعَن ابْن حبَان بِأَنَّهُ سمع الْمُغيرَة
وَالله تَعَالَى أعلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي آخر الصَّوْم عَن مُحَمَّد بن يُوسُف
الْفرْيَابِيّ، وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي بكر
بن أبي شيبَة وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم ثَلَاثَتهمْ عَن جرير عَن مَنْصُور بِهِ أخرجه
أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسلم بن إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار عَن ابْن مهْدي
عَن سُفْيَان بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بِهِ، وَفِي عشرَة النِّسَاء عَن
مَحْمُود بن غيلَان عَن وَكِيع عَن سُفْيَان بِهِ وَعَن
إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي
الطَّهَارَة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْلهَا: (أَنا وَالنَّبِيّ)
النَّبِي بِالرَّفْع وَالنّصب وَأما الرّفْع فبالعطف على
الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي: كنت، وَأما النصب فعلى أَن:
الْوَاو، بِمَعْنى المصاحبة. وَقَوْلها: (أَنا) ذكر لِأَن
فِي عطف الظَّاهِر على الضَّمِير الْمَرْفُوع المستكن
بِدُونِ التَّأْكِيد خلافًا، كَمَا ذكر فِي مَوْضِعه.
قَوْلهَا: (كِلَانَا جنب) وَقع حَالا، وَإِنَّمَا لم تقل:
كِلَانَا جنبان، لِأَنَّهَا اخْتَارَتْ اللُّغَة الفصيحة
وَقد ذكرنَا أَن الْجنب يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِد والمثنى
وَالْجمع فِي اللُّغَة الفصحى، وَإِن كَانَ يُقَال: جنبان
وجنبون. قَوْلهَا: (وَكَانَ يَأْمُرنِي) أَي: وَكَانَ
النَّبِي ت يَأْمُرنِي بالاتزال قَوْلهَا: (فاتزر) بِفَتْح
الْهمزَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَأَصله
ائتزر، بالهمزتين أولاهما مَفْتُوحَة، وَالثَّانيَِة
سَاكِنة، لِأَن أَصله من أزر، فَنقل إِلَى بَاب، افتعل،
فَصَارَ، اتزر يتزر، وَكَذَا اسْتعْمل من غير إدغام فِي
حَدِيث آخر، وَهُوَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يُبَاشر بعض نِسَائِهِ وَهِي مؤتزرة فِي حَالَة
الْحيض) . وَقَالَ ابْن الْأَثِير: وَقد جَاءَ فِي بعض
الرِّوَايَات: وَهِي متزرة، وَهُوَ خطأ، لِأَن الْهمزَة
لَا تُدْغَم فِي التَّاء. قلت: فعلى هَذَا يَنْبَغِي أَن
يقْرَأ: فآتزر بِالْمدِّ، لِأَن الهمزتين إِذا اجتمعتا
وَكَانَت الأولى متحركة وَالثَّانيَِة سَاكِنة أبدلت
الثَّانِيَة حرف عِلّة من جنس حَرَكَة الأولى، فتبدل ألفا
بعد الفتحة، فَكَذَلِك هَاهُنَا، لِأَن أَصله أتزر،
بهمزتين الأولى متحركة وَالثَّانيَِة سَاكِنة، فأبدلت
الثَّانِيَة ألفا فَصَارَت: آتزر بِالْمدِّ. وَقَالَ ابْن
هِشَام: وعوام الْمُحدثين يحرفونه فيقرؤونه بِأَلف وتاء
مُشَدّدَة، وَلَا وَجه لَهُ لِأَنَّهُ افتعل من الْإِزَار،
ففاؤه همزَة فساكنة بعد همزَة المضارعة الْمَفْتُوحَة،
وَكَذَا الزَّمَخْشَرِيّ أنكر الْإِدْغَام. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لَا يجوز الْإِدْغَام فِيهِ
عِنْد التصريف، قَالَ صَاحب (الْمفصل) قَول من قَالَ: اتزر
خطأ. قلت: قَول عَائِشَة، وَهِي من فصحاء الْعَرَب، حجَّة
فِي جَوَازه، فالمخطىء، قلت: إِنَّمَا يَصح مَا ادَّعَاهُ
إِذا ثَبت عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت بِالْإِدْغَامِ،
فَلم لَا يجوز أَن يكون
(3/265)
هَذَا خطأ مثل مَا قَالَ مُعظم أَئِمَّة
هَذَا الشَّأْن، وَيكون الْخَطَأ من بعض الروَاة أَو من
عوام الْمُحدثين لَا من عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا. قَوْلهَا: (وَأَنا حَائِض) فِي الْمَوْضِعَيْنِ
جملَة حَالية، وَكَذَلِكَ قَوْلهَا: (وَهُوَ معتكف)
الِاعْتِكَاف فِي اللُّغَة مُجَرّد اللّّبْث، وَفِي
الشَّرِيعَة: لبث فِي الْمَسْجِد مَعَ الصَّوْم،
وَالِاعْتِكَاف من بَاب الافتعال من: عكف يعكف عكوفاً إِذا
أَقَامَ، وعكفه عكفاً إِذا حبس.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز اغتسال الرجل
مَعَ امْرَأَته من إِنَاء وَاحِد، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوفى. وَمِنْهَا: جَوَاز مُبَاشرَة الْحَائِض وَهِي:
الْمُلَامسَة، من لمس بشرة الرجل بشرة الْمَرْأَة، وَقد
ترد الْمُبَاشرَة بِمَعْنى الْجِمَاع، وَالْمرَاد هَهُنَا
الْمَعْنى الأول بِالْإِجْمَاع.
ثمَّ اعْلَم أَن مُبَاشرَة الْحَائِض على أَقسَام:
أَحدهَا: حرَام بِالْإِجْمَاع، وَلَو اعْتقد حلّه يكفر،
وَهُوَ أَن يُبَاشِرهَا فِي الْفرج عَامِدًا، فَإِن فعله
غير مستحل يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَلَا يعود إِلَيْهِ،
وَهل يجب عَلَيْهِ الْكَفَّارَة أَو لَا؟ فِيهِ خلاف،
فَذهب جمَاعَة إِلَى وجوب الْكَفَّارَة، مِنْهُم: قَتَادَة
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَالشَّافِعِيّ فِي
الْقَدِيم، وَقَالَ فِي الْجَدِيد: لَا شَيْء عَلَيْهِ،
وَلَا يُنكر أَن يكون فِيهِ كَفَّارَة لِأَنَّهُ وَطْء
مَحْظُور كَالْوَطْءِ فِي رَمَضَان. وَقَالَ أَكثر
الْعلمَاء، لَا شَيْء عَلَيْهِ سوى الاسْتِغْفَار، وَهُوَ
قَول أَصْحَابنَا أَيْضا. وَقَالَ الثَّوْريّ: وَلَو فعله
غير مُعْتَقد حلّه، فَإِن كَانَ نَاسِيا أَو جَاهِلا
بِوُجُود الْحيض أَو جَاهِلا تَحْرِيمه أَو مكْرها فَلَا
إِثْم عَلَيْهِ وَلَا كَفَّارَة، وَإِن كَانَ عَالما
بِالْحيضِ وبالتحريم مُخْتَارًا عَامِدًا فقد ارْتكب
مَعْصِيّة نَص الشَّافِعِي على أَنَّهَا كَبِيرَة، وَيجب
عَلَيْهِ التَّوْبَة وَفِي وجوب الْكَفَّارَة قَولَانِ:
أصَحهمَا، وَهُوَ قَول الْأَئِمَّة الثَّلَاثَة: لَا
كَفَّارَة عَلَيْهِ. ثمَّ اخْتلفُوا فِي الْكَفَّارَة،
فَقيل: عتق رَقَبَة، وَقيل: دِينَار وَنصف دِينَار على
اخْتِلَاف بَينهم، هَل الدِّينَار فِي أول الدَّم وَنصفه
فِي آخِره؟ أَو الدِّينَار فِي زمن الدَّم وَنصفه بعد
انْقِطَاعه؟ فَإِن قلت: روى أَبُو دَاوُد عَن ابْن
عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الَّذِي يَأْتِي امْرَأَته وَهِي
حَائِض، قَالَ: (يتَصَدَّق بِدِينَار أَو بِنصْف دِينَار)
وَرَوَاهُ بَقِيَّة الْأَرْبَعَة: قلت: رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ وَأعله بأَشْيَاء: مِنْهَا: أَن جمَاعَة
رَوَوْهُ عَن شُعْبَة، مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس، وَأَن
شُعْبَة رَجَعَ عَن رَفعه، وَمِنْهَا: أَنه رُوِيَ
مُرْسلا. وَمِنْهَا: أَنه رُوِيَ معضلاً، وَهُوَ رِوَايَة
الْأَوْزَاعِيّ عَن يزِيد بن أبي مَالك عَن عبد الحميد بن
عبد الرَّحْمَن عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (أمرت أَن يتَصَدَّق بخمسي دِينَار) ، والمعضل نوع
خَاص من الْمُنْقَطع، فَكل معضل مُنْقَطع، وَلَيْسَ كل
مُنْقَطع معضلاً، وَقوم يسمونه مُرْسلا، وَمِنْهَا: أَن
فِي مَتنه اضطراباً، لِأَنَّهُ رُوِيَ: بِدِينَار، أَو نصف
دِينَار على الشَّك، وَرُوِيَ: يتَصَدَّق بدينارد فَإِن لم
يجد فبنصف دِينَار، وَرُوِيَ: يتَصَدَّق بِنصْف دِينَار،
وَرُوِيَ: إِن كَانَ دَمًا أَحْمَر فدينار، وَإِن كَانَ
أصفر فَنصف دِينَار، وَرُوِيَ: إِن كَانَ الدَّم عبيطاً
فليتصدق بِدِينَار، وَإِن كَانَ صفرَة فَنصف دِينَار. قلت:
هَذَا الحَدِيث صَححهُ الْحَاكِم وَابْن الْقطَّان، وَذكر
الْحَلَال عَن أبي دَاوُد أَن أَحْمد قَالَ: مَا أحسن
حَدِيث عبد الحميد، وَهُوَ أحد رُوَاة هَذَا الحَدِيث،
وَهُوَ من رجال الصَّحِيحَيْنِ، وَهُوَ عبد الحميد بن عبد
الرَّحْمَن بن زيد بن الْخطاب بن نفَيْل الْقرشِي
الْهَاشِمِي الْعَدوي، عَامل عمر بن عبد الْعَزِيز على
الْكُوفَة، رأى عبد الله بن عَبَّاس وَسَأَلَهُ، وروى عَن
حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقيل
لِأَحْمَد: تذْهب إِلَيْهِ؟ قَالَ: نعم، إِنَّمَا هُوَ
كَفَّارَة، ثمَّ إِن شُعْبَة إِن كَانَ رَجَعَ عَن رَفعه
فَإِن غَيره رَوَاهُ مَرْفُوعا، وَهُوَ عَمْرو بن قيس
الْملَائي وَهُوَ ثِقَة، وَمن طَرِيقه أخرجه النَّسَائِيّ،
وَكَذَا رَوَاهُ قَتَادَة مَرْفُوعا وأسقطا فِي روايتهما
عبد الحميد، وَمُقْتَضى الْقَوَاعِد أَن رِوَايَة الرّفْع
أشبه بِالصَّوَابِ لِأَنَّهُ زِيَادَة ثِقَة، وَأما مَا
لاوي فِيهِ من خمسي دِينَارا، أَو عتق نسمَة، وَغير ذَلِك،
فَمَا مِنْهَا شَيْء يعول عَلَيْهِ، ثمَّ إِن الَّذين
ذَهَبُوا إِلَى عدم وجوب الصَّدَقَة، أجابوا أَن قَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يتَصَدَّق) ، مَحْمُول على
الِاسْتِحْبَاب، إِن شَاءَ تصدق وإلاَّ لَا وَعَن الْحسن
أَنه قَالَ: عَلَيْهِ مَا على من وَاقع أَهله فِي
رَمَضَان.
النَّوْع الثَّانِي من الْمُبَاشرَة: فِيمَا فَوق
السُّرَّة وَتَحْت الرّكْبَة بالذكرة أَو بالقبلة أَو
المعانقة أَو اللَّمْس أَو غَيره ذَلِك، فَهَذَا حَلَال
بِالْإِجْمَاع، إلاَّ مَا حُكيَ عَن عُبَيْدَة
السَّلمَانِي وَغَيره من أَنه لَا يُبَاشر شَيْئا مِنْهَا،
فَهُوَ شَاذ مُنكر مَرْدُود بالأحاديث الصَّحِيحَة
الْمَذْكُورَة فِي (الصَّحِيحَيْنِ) وَغَيرهمَا فِي
مُبَاشرَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوق
الْإِزَار.
النَّوْع الثَّالِث: الْمُبَاشرَة فِيمَا بَين السُّرَّة
وَالركبَة فِي غير الْقبل والدبر، فَعِنْدَ أبي حنيفَة
حرَام، وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف، وَهُوَ الْوَجْه
الصَّحِيح للشَّافِعِيَّة، وَهُوَ قَول مَالك: وَقَول
أَكثر الْعلمَاء مِنْهُم: سعيد بن الْمسيب وَشُرَيْح
وَطَاوُس وَعَطَاء وَسليمَان بن يسَار وَقَتَادَة. وَعند
مُحَمَّد بن الْحسن وَأبي يُوسُف فِي رِوَايَة يتَجَنَّب
شعار الدَّم
(3/266)
فَقَط، وَمِمَّنْ ذهب إِلَيْهِ عِكْرِمَة
وَمُجاهد وَالشعْبِيّ وَالنَّخَعِيّ وَالْحكم وَالثَّوْري
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَأصبغ وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه
وَأَبُو ثورة وَابْن الْمُنْذر وَدَاوُد، وَهَذَا أقوى
دَلِيلا لحَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (اصنعوا
كل شَيْء إلاَّ النِّكَاح) اقْتِصَار النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فِي مُبَاشَرَته على مَا فَوق الْإِزَار
مَحْمُول على الِاسْتِحْبَاب، وَقَول مُحَمَّد هُوَ
الْمَنْقُول عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأبي طَلْحَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَذكر الْقُرْطُبِيّ عَن
مُجَاهِد: كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يتجنبون النِّسَاء
فِي الْحيض، ويأتونهن فِي أدبارهن فِي مدَّته.
وَالنَّصَارَى كَانُوا بجامعونهن فِي فروجهن، وَالْيَهُود
وَالْمَجُوس كَانُوا يبالغون فِي هجرانهن وتجنبهن
فيعتزلونهن بعد انْقِطَاع الدَّم وارتفاعه سَبْعَة
أَيَّام، ويزعمون أَن ذَلِك فِي كِتَابهمْ.
وَمِنْهَا: جَوَاز اسْتِخْدَام الزَّوْجَات. وَمِنْهَا:
فِيهِ طَهَارَة عرق الْحَائِض. وَمِنْهَا: أَن إِخْرَاج
الرَّأْس من الْمَسْجِد لَا يبطل الِاعْتِكَاف.
302 - حدّثنا إسْمَاعِيلُ بْنُ خَلِيلٍ قالَ أَخْبَرنا
عَليُّ بْنُ مُسْهِرٍ قالَ أَخْبَرَنا أبُو إسْحاقَ هُوَ
الشُيْبَانِي عَنُ عَبْدِ الرِّحْمنَ بْنِ الأسْوَدِ عَنْ
أبِيهِ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ كانتْ إحْدَانَا إذَا كانَتْ
حائِضاً فأرَادَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أنْ يُبَاشِرَهَا أَمَرَها أنْ تَتَّزِرَ فِي فَوْرُ
حَيْضَتِها ثُمَّ يُبَاشِرُها قالَتْ وَأَيُّكُمْ يَمْلِكُ
إرْبَهُ كَما كَانَ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَمْلِكُ إرْبَهُ. (انْظُر الحَدِيث 300 وطرفه) .
مطابقتة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: إِسْمَاعِيل بن خَلِيل
أَبُو عبد الله الْكُوفِي فِي الخزاز، بِالْخَاءِ
الْمُعْجَمَة والزايين المعجمتين أولاهما مُشَدّدَة، قَالَ
البُخَارِيّ: جَاءَنَا نعيه سنة خمس وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عَليّ بن مسْهر، بِضَم الْمِيم
وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالراء أَبُو
الْحسن الْقرشِي الْكُوفِي، مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ
وَمِائَة. الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ
سُلَيْمَان بن فَيْرُوز، من مشاهير التَّابِعين، مَاتَ سنة
إِحْدَى وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: عبد الرَّحْمَن
بن الْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ، من خِيَار التَّابِعين
وَالْعُلَمَاء العاملين، مَاتَ سنة تسع وَتِسْعين.
الْخَامِس: أَبوهُ الْأسود بن يزِيد، وَقد مر غير مرّة.
السَّادِس: عاشة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: خَلِيل، بِدُونِ الْألف
وَاللَّام فِي رِوَايَة أبي ذكر وكريمة، وَفِي رِوَايَة
غَيرهمَا: الْخَلِيل، بِالْألف وَاللَّام. فَإِن قلت: هُوَ
علم فَلَا تدخله أَدَاة التَّعْرِيف. قلت: إِذا قصد بِهِ
لمح الصّفة يجوز كَمَا فِي: الْعَبَّاس والْحَارث
وَنَحْوهمَا وَفِيه: التحديث، أَشَارَ إِلَى أَنه تَعْرِيف
لَهُ من تِلْقَاء نَفسه، وَلَيْسَ من كَلَام شَيْخه.
وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم إِلَى عَائِشَة كوفيون. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابَة.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الطهاة عَن أبي بكر بن
أبي شيبَة وَعلي بن حجر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
عُثْمَان بن أبي شيبَة عَن جرير، وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة بِهِ، وَعَن أبي سَلمَة
يحيى بن خلف.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْلهَا: (كَانَت إحدانا) أَرَادَت:
إِحْدَى زَوْجَات النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَفِي
رِوَايَة مُسلم: (كَانَ إحدانا) بِدُونِ التَّاء، وَحكى
سِيبَوَيْهٍ فِي كِتَابه أَنه قَالَ بعض الْعَرَب، قَالَ
امْرَأَة قَوْله: (أَن يُبَاشِرهَا) من الْمُبَاشرَة
الَّتِي هِيَ أَن يمس الْجلد الْجلد، وَلَيْسَ المُرَاد
بِهِ الْجِمَاع، كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى. قَوْله: (أَن
تتزر) قد ذكرنَا أَن اللُّغَة الفصحى بأتزر بِالْهَمْزَةِ
بِلَا إدغام. قَوْله: (فِي فَور حَيْضَتهَا) بِفَتْح
الْفَاء وَسُكُون الْوَاو، وَفِي آخِره رَاء، وأرادت بِهِ
مُعظم حَيْضَتهَا وَوقت كثرتها، وَقَالَ الْجَوْهَرِي:
فورة الْحر شدته، وفار الْقدر فَوْرًا إِذا حاشت، وحيضتها
بِفَتْح الْحَاء لَا غير. قَوْله: (إربه) بِكَسْر الْهمزَة
وَسُكُون الرَّاء وبالباء الْمُوَحدَة، وَقيل: المُرَاد
عضوه الَّذِي يستمنع بِهِ، وَقيل: حَاجته، وَفِي كتاب
(الْمُنْتَهى) فِيهِ لُغَات إرب وإربة وأراب ومأربة ومأربة
ومأربة، عَن أبي سَلمَة، وَفِي الحَدِيث: وَلكنه (أملككم
لإربه) قَالَ الْأَصْمَعِي: هِيَ الْحَاجة، أَي: أضبطكم
لشهوته، وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: أَي: لجزمه، وَضبط
نَفسه وَقد أرب يأرب إرباً إِذا احْتَاجَ. يُقَال آإن
فلَانا لأرب بفلانة إِذا كَانَ ذاهم بهَا، وَيشْهد لقَوْل
ابْن الْأَعرَابِي مَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات:
(أملككم لنَفسِهِ) وَفِي (الْمُحكم) و (الْجَامِع)
والمأرب، وَهِي الإراب والأرب، وَقَالَ الْخطابِيّ:
وَأكْثر الروَاة يَقُولُونَ: لإربه، والإرب الْعُضْو،
وَإِنَّمَا هُوَ الأرب
(3/267)
مَفْتُوحَة الرَّاء، وَهِي الْوَطْء وحاجة
النَّفس، وَقد يكون الإرب، الْحَاجة أَيْضا، وَالْأول
أميز، وَكَذَا حَكَاهُ صَاحب (الواعي) وَأما ابْن سَيّده
وَابْن عديس فِي كتاب (الباهر) فَقَالَا الإرب بِكَسْر
الْهَمْز جمع إربه، وَهِي الْحَاجة، وَقَالَ أَبُو جَعْفَر
النّحاس: أَخطَأ من رَوَاهُ بِكَسْر الْهمزَة. قَالَ:
وَإِنَّمَا هِيَ بِفَتْحِهَا. وَفِي (مجمع الغرائب) لعبد
الغافر هُوَ فِي الْكَلَام مَعْرُوف الإرب والإربة
بِمَعْنى الْحَاجة، فَإِن كَانَ الأول مَحْفُوظًا، يَعْنِي
فِي حَدِيث عَائِشَة فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات، الإرب والأرب
والإربة، والإرب يكون بِمَعْنى الْعُضْو فَيحْتَمل
أَنَّهَا أَرَادَ كَانَ، أملككم لعضوه، لِأَنَّهَا ذكرت
التَّقْبِيل فِي الصَّوْم وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: أرب
فِي الشَّيْء رغب فِيهِ، وَالْحَاصِل أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ أملك النَّاس لأَمره، فَلَا
يخْشَى عَلَيْهِ مَا يخْشَى على غيرهممن يحوم حول الْحمى،
وَكَانَ يُبَاشر فَوق الْإِزَار تشريعاً لغيره.
ذكر استنباط الْأَحْكَام مِنْهَا: جَوَاز مُبَاشرَة
الْحَائِض فِيمَا فَوق الْإِزَار، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ
مُسْتَوْفِي وَمِنْهَا: أَن الْحَائِض لَا بُد لَهَا من
الاتزار فِي أَيَّام حَيْضهَا، إِلَّا أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر عَائِشَة بذلك، وَذَلِكَ لتمتنع
الْمَرْأَة بِهِ عَن الْجِمَاع، وروى أَبُو دَاوُد عَن
مَيْمُونَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَانَ يُبَاشر الْمَرْأَة من
نِسَائِهِ وَهِي حَائِض إِذا كَانَ عَلَيْهَا إِزَار إِلَى
اتصاف الْفَخْذ أَو الرُّكْبَتَيْنِ تحتجز بِهِ) أَي:
بالإزار عَن الْجِمَاع فِي رِوَايَة محتجزه بِهِ، أَي:
حَال كَون الْمَرْأَة ممتنعة بِهِ عَن الْجِمَاع، وَأَصله
من حجزه يحجزه حجزاً أَي: مَنعه من بَاب: نصر ينصر،
وَمِنْه الحاجز بَين الشَّيْئَيْنِ، وَهُوَ الْحَائِل
بَينهمَا. وَمِنْهَا: أَن هَذِه الْمُبَاشرَة إِنَّمَا
تجوز لَهُ إِذا كَانَ يضْبط نَفسه ويمنعها من الْوُقُوع
فِي الْجِمَاع، وَإِن كَانَ لَا يملك ذَلِك فَلَا يجوز
لَهُ ذَلِك، لِأَن من رعى حول الْحمى يُوشك أَن يَقع
فِيهِ، وَعَلِيهِ بعض الشَّافِعِيَّة، وَاسْتَحْسنهُ
النَّوَوِيّ. وَمِنْهَا: أَن التَّقْيِيد بقولِهَا: فِي
فَور حَيْضَتهَا، يدل على الْفرق بَين ابْتِدَاء الْحيض
وَمَا بعده، وَيشْهد لذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه فِي
(سنَنه) بِإِسْنَاد حسن عَن أم سَلمَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كَانَ
يتفي سُورَة الدَّم ثَلَاثًا ثمَّ يُبَاشِرهَا بعد ذَلِك)
وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين الْأَحَادِيث الدَّالَّة على
الْمُبَاشرَة مُطلقًا، لِأَنَّهَا تجمع بَينهَا على
اخْتِلَاف الْحَالَتَيْنِ، وَالله تَعَالَى أعلم.
تابعَهُ خَالِدٌ وَجَرِيرٌ عَنِ الشيْبَانِيِّ
أَي تَابع عَليّ بن مسْهر خَالِد بن عبد الله الوَاسِطِيّ
فِي رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن أبي إِسْحَاق
الشَّيْبَانِيّ، وَقد وَصلهَا أَبُو الْقَاسِم التنوخي من
طَرِيق وهب بن بَقِيَّة عَنهُ. قَوْله: (وَجَرِير) عطف
على: خَالِد، أَي: وَتَابعه أَيْضا جرير بن عبد الحميد فِي
رِوَايَة هَذَا الحَدِيث عَن الشَّيْبَانِيّ عَن عبد
الرَّحْمَن، وَقد وصل هَذِه الْمُتَابَعَة أَبُو دَاوُد،
وَقَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة، وَقَالَ: حَدثنَا
جرير عَن الشَّيْبَانِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود
عَن أَبِيه عَن عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَأْمُرنَا فِي فوح حيضتنا أَن نتزر
ثمَّ يباشرنا، وَأَيكُمْ كَانَ يملك إربه؟ كَانَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يملك إربه) رَوَاهُ
الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) أَيْضا
قَوْله: (فِي فوح حيضتنا) فوح الْحيض، بِالْفَاءِ والحاء
الْمُهْملَة، معظمة وأوله، مثله، فوعة الدَّم، يُقَال: فاع
وفاح بِمَعْنى وَاحِد، وفوعة الطّيب أول مَا يفوح مِنْهُ،
ويروي بالغين الْمُعْجَمَة وَهُوَ لُغَة فِيهِ، وَفِي
رِوَايَة البُخَارِيّ وَمُسلم: (فِي فَور حيضتنا) كَمَا
ذَكرْنَاهُ.
303 - حدّثنا أبُو النُّعْمانِ قالَ حدّثنا عَبْدُ
الْوَاحِدِ قالَ حدّثنا الشَّيْبَانِيُّ قالَ حدّثنا
عَبْدُ اللَّهِ ابنْ شَدَّادٍ قالَ سَمِعْتُ مَيْمُونَةَ
تقولُ كانَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا
أَرَادَ أَنْ يُبَاشِرَ امْرَأَةً مِنْ نِسَائِهِ أَمَرَها
فَاتَّزَرَتْ وَهِيَ حائِضٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو النُّعْمَان
مُحَمَّد بن الْفضل السدُوسِي الْمَعْرُوف بعارم.
الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد الْبَصْرِيّ.
الثَّالِث: أَبُو إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ. الرَّابِع: عبد
الله بن شَدَّاد، بتَشْديد الدَّال ابْن الْهَاد
اللَّيْثِيّ. الْخَامِس: مَيْمُونَة، أم الْمُؤمنِينَ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع وَاحِد
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن
الصحابية. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي، وكوفي
ومدني.
(3/268)
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي
الطَّهَارَة عَن يحيى بن يحيى عَن خَالِد بن عبد الله عَن
الشَّيْبَانِيّ بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي النِّكَاح
عَن مُسَدّد، وَمُحَمّد بن الْعَلَاء، كِلَاهُمَا عَن
حَفْص بن غياث عَن الشَّيْبَانِيّ، وَأخرجه ابْن مَاجَه
بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث أم حَبِيبَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا: [حم (كَانَت إحدانا فِي فورها أول مَا
تحيض تشد عَلَيْهَا إزاراً إِلَى أَنْصَاف فخذيها ثمَّ
تضطجع مَعَه، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) [/ حم
وَأخرج أَبُو يعلى الْموصِلِي، من حَدِيث عَمْرو رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ: (لَهُ مَا فَوق الْإِزَار وَلَيْسَ
لَهُ مَا تَحْتَهُ) وَفِي لفظ: [حم (لَا يطلعن إِلَى مَا
تَحْتَهُ حَتَّى يطهرن) [/ حم وَأخرج أَبُو دَاوُد بِسَنَد
صَحِيح عَن بعض أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
[حم (أَنه كَانَ إِذا أَرَادَ من الْحَائِض شَيْئا ألْقى
على فرجهَا ثوبا) [/ حم وَأخرج ابْن أبي دَاوُد بِسَنَد
جيد عَن أم سَلمَة: [حم (أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُبَاشِرهَا وعَلى قبلهَا ثوب) [/ حم
تَعْنِي: وَهِي حَائِض، وَأخرج أَبُو دَاوُد من حَدِيث
معَاذ وَعبد الله بن سعد: (مَا يحل للرجل من امْرَأَته
وَهِي حَائِض؟ قَالَ: مَا فَوق الْإِزَار) وَفِي حَدِيث
معَاذ: (وَالتَّعَفُّف عَن ذَلِك أجمل) ، وَأخرج عبد الله
بن وهب بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث كريب، قَالَ: سَمِعت أم
الْمُؤمنِينَ تَقول: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم يضطجع معي وَأَنا حَائِض، وبيني وَبَينه ثوب) وَأخرج
الدَّارمِيّ فِي (مُسْنده) من حَدِيث أبي ميسرَة عَمْرو بن
شُرَحْبِيل، قَالَ: (قَالَت أم الْمُؤمنِينَ: كنت أتزر
وَأَنا حَائِض وَأدْخل مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي لِحَافه) وَإِسْنَاده صَحِيح، وَفِي
(الْمُوَطَّأ) عَن زيد بن أسلم: (سَأَلَ رجل النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مَا يحل لي من امْرَأَتي وَهِي
حَائِض؟ قَالَ لِتشد عَلَيْهَا إزَارهَا ثمَّ شَأْنك
بِأَعْلَاهَا) قَالَ أَبُو عمر: لَا أعلم أحدا روى هَذَا
الحَدِيث مُسْندًا بِهَذَا اللَّفْظ.
ورَوَاهُ سُفْيَانُ عَنِ الشَّيْبَانِي
يَعْنِي: روى هَذَا الحَدِيث سُفْيَان الثَّوْريّ عَن أبي
إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ، كَذَا قَالَ بَعضهم، سُفْيَان
هُوَ: الثَّوْريّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي سَوَاء كَانَ هُوَ
الثَّوْريّ أَو ابْن عُيَيْنَة فَهُوَ على شَرط
البُخَارِيّ فَلَا بَأْس فِي إبهامه وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) وَكَانَ البُخَارِيّ يُرِيد بمتابعة
سُفْيَان هُنَا الْمَعْنى لَا اللَّفْظ، وَذَلِكَ أَن
أَبَا دَاوُد قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الصَّباح عَن
سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أبي إِسْحَاق الشَّيْبَانِيّ
سمع عبد الله بن شَدَّاد عَن مَيْمُونَة: (أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مرط على بعض أَزوَاجه مِنْهُ
وَهِي حَائِض) وَقد رَوَاهُ عَن الشَّيْبَانِيّ أَيْضا
بِهَذَا الْإِسْنَاد خَالِد بن عبد الله عِنْد مُسلم
وَجَرِير بن عبد الحميد عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ،
وَرَوَاهُ عَنهُ أَيْضا بِإِسْنَاد مَيْمُونَة حَفْص بن
غياث عِنْد أبي دَاوُد، رَحمَه الله، وَأَبُو مُعَاوِيَة
عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وأسباط بن مُحَمَّد عَن أبي
عوَانَة فِي (صَحِيحه) وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت:
قَالَ رَوَاهُ، وَلم يقل تَابعه؟ قلت: الرِّوَايَة أَعم
مِنْهَا، فَلَعَلَّهُ لم يروها مُتَابعَة.
6 - (بابُ تَرْكِ الحَائِضِ الصَّوْمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان ترك الْحَائِض الصَّوْم فِي
أَيَّام حَيْضَتهَا.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن كلاًّ
مِنْهُمَا مُشْتَمل على حكم من أَحْكَام الْحيض. فَإِن
قلت: الْحَائِض تتْرك الصَّلَاة أَيْضا فَمَا وَجه ذكر
الصَّوْم فِي تَركهَا دون الصَّلَاة، مَعَ أَنَّهُمَا
مذكوران فِي حَدِيث الْبَاب؟ قلت: تَركهَا الصَّلَاة لعدم
وجود شَرطهَا وَهِي الطَّهَارَة، فَكَانَت ملجأة إِلَى
ذَلِك بِخِلَاف الصَّوْم فَإِن الطَّهَارَة لَيست بِشَرْط
فَكَانَ تَركهَا إِيَّاه من بَاب التَّعَبُّد وَأَيْضًا
فَإِن تَركهَا للصَّلَاة لَا إِلَى خلف بِخِلَاف الصَّوْم،
فخصص الصَّوْم بِالذكر دون الصَّلَاة إشعاراً لما ذكرنَا.
304 - حدّثنا سَعِيدُ بْنُ أبي مَرْيَمَ قالَ أخبرنَا
مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ قالَ أخبَرَنِي زَيْدٌ هُوَ ابنُ
أسْلَمَ عَنْ عِياضٍ بنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أبي سَعِيدٍ
الخُدْرِي قالَ خَرَجَ رسولُ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي أَضْحَى أَوْ فِطْرٍ إِلَى المُصَلَّى عَلَى
النِّساء تَصَدَّقْنَ فَانِّى أُرِيتُكُنَّ أَكْثَر أَهْلِ
النَّارِ فَقُلْنَ وَيِمَ يَا رسولَ اللَّهِ قالَ
تُكْبِرْنَ اللَّعْنَ وَتكْفُرْنَ العَشِيرَ مَا رَأَيْتُ
مِنْ ناقِصاتِ عَقْلٍ وَدينٍ أذْهَبَ لِلُبِ الرَّجْلِ
الحَازِمِ مِنْ إِحْداكُنَّ قُلْنَ وَمَا نُقْصانُ
دِينِنَا وَعَقْلِنَا يَا رسولَ اللَّهِ قالَ أَلَيْسَ
شَهَادَةُ المَرْأَةِ مِثْلَ نِصْفِ شَهَادَةِ الرَّجُلِ
قُلْنَ بَلَى قالَ فَذَلِكَ مِنْ نُقْصَانِ عَقْلِها
أَلَيْسَ إِذا
(3/269)
حاضَتْ لَمْ تصَلِّ وَلَمْ تَصُمَّ قُلَّنَ
بَلَى قالَ فَذَلِكِ مِنْ نُقْصَانِ دِينِها. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلم تصم) .
بَيَان رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: سعيد بن أبي مَرْيَم
وَهُوَ سعيد بن الحكم ابْن مُحَمَّد بن سَالم الْمَعْرُوف
بِابْن أبي مَرْيَم الجُمَحِي، أَبُو مُحَمَّد الْمصْرِيّ،
مر ذكره فِي بَاب من سمع شَيْئا فِي كتاب الْعلم.
الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَعْفَر وَهُوَ ابْن أبي كثير،
بِفَتْح الْكَاف وبالتاء الْمُثَلَّثَة الْأنْصَارِيّ.
الثَّالِث: زيد بن أسلم، بِلَفْظ الْمَاضِي، أَبُو
أُسَامَة الْمدنِي، مر فِي بَاب كفران العشير. الرَّابِع:
عِيَاض، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة بن عبد الله وَهُوَ
ابْن أبي سرح العامري، لِأَبِيهِ صُحْبَة. الْخَامِس:
أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ: واسْمه سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين: وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
مَوضِع وَاحِد: وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تَابِعِيّ عَن صَحَابِيّ. وَفِيه:
أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا ابْن أبي مَرْيَم فَإِنَّهُ
مصري.
ذكر تعدده وَضعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
مقطعاً فِي الصَّوْم وَالطَّهَارَة وَفِي الزَّكَاة،
وَأخرجه فِي الْعِيدَيْنِ بِطُولِهِ وَأخرجه مُسلم فِي
الْإِيمَان عَن حسن الْحلْوانِي وَمُحَمّد بن إِسْحَاق
الصَّاغَانِي، كِلَاهُمَا عَن ابْن أبي مَرْيَم عَن يحيى
بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر، ثَلَاثَتهمْ عَن
إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن دَاوُد بن قيس عَنهُ بِهِ،
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن عبد
الْعَزِيز بن مُحَمَّد وَعَن عَمْرو بن عَليّ عَن يحيى بن
سعيد. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة،
ثَلَاثَتهمْ عَن دَاوُد بن قيس نَحوه.
بَيَان لغاته وَمَعْنَاهُ قَوْله: (خرج رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي: خرج إِمَّا من بَيته أَو من
مَسْجده. قَوْله: (فِي أضحى) أَي: فِي يَوْم أضحى، قَالَ
الْخطابِيّ: الْأُضْحِية شَاة تذبح يَوْم الْأَضْحَى،
وفيهَا أَربع لُغَات: أضْحِية، بِضَم الْهمزَة وبكسرها،
وضحية وأضحاة، وَالْجمع: أضحى، وَبهَا سمي يَوْم
الْأَضْحَى، والأضحى يذكر وَيُؤَنث، وَقيل: سميت بذلك
لِأَنَّهَا تفعل فِي الْأَضْحَى وَهُوَ ارْتِفَاع
النَّهَار. قَوْله: (أَو فطر) أَي: أَو يَوْم فطر، وَهُوَ
يَوْم عيد الْفطر، وَالشَّكّ من الرَّاوِي. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: الشَّك من أبي سعيد. قلت: لَا يتَعَيَّن
ذَلِك. قَوْله: (إِلَى الْمصلى) هُوَ مَوضِع صَلَاة
الْعِيد فِي الْجَبانَة. قَوْله: (فَقَالَ: يَا معشر
النِّسَاء) ، المعشر: الْجَمَاعَة متخالطين كَانُوا أَو
غير ذَلِك، قَالَ الْأَزْهَرِي: أَخْبرنِي الْمُنْذر عَن
أَحْمد بن يحيى، قَالَ: المعشر والنفر وَالْقَوْم والرهط،
هَؤُلَاءِ معناهم: الْجمع لَا وَاحِد لَهُم من لَفظهمْ
للرِّجَال دون النِّسَاء، وَعَن اللَّيْث: المعشر كل
جمَاعَة أَمرهم وَاحِد، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر، وَقَول
أَحْمد بن يحيى مَرْدُود بِالْحَدِيثِ، وَيجمع على معاشر.
قَوْله: (اللَّعْن) فِي اللُّغَة الطَّرْد والإيعاد من
الْخَيْر، واللعنة وَالِاسْم، وَمَعْنَاهُ: أَنَّهُنَّ
يتلفظن باللعنة كثيرا. قَوْله: (ويكفرن) من الْكفْر وَهُوَ
السّتْر، وكفران النِّعْمَة وكفرها سترهَا بترك أَدَاء
شكرها، وَالْمرَاد يجحدن نعْمَة الزَّوْج ويستقللن مَا
كَانَ مِنْهُ. قَوْله: (العشير) هُوَ: الزَّوْج سمي بذلك
لمعاشرته إِيَّاهَا. وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني:
عشيرك الَّذِي يعاشرك أَيْدِيكُم وأمركما وَاحِد، لَا
يكادون يَقُولُونَ فِي جمعه عشراء وَلَكنهُمْ، معاشروك
وعشيرون. وَقَالَ بَعضهم: هم عشراؤك. وَقَالَ الْفراء:
يجمع العشير على عشراء، مثل: جليس وجلساء، وَإِن الْعَرَب
لتكرهه كَرَاهَة أَن يشاكل قَوْلهم، نَاقَة عشراء،
والعشير: الخليط، والعشير: الصّديق وَالزَّوْج وَابْن
الْعم. قَوْله: (عقل) الْعقل فِي اللُّغَة ضد، الْحمق،
وَعَن الْأَصْمَعِي: هُوَ مصدر: عقل الْإِنْسَان يعقل،
وَعَن ابْن دُرَيْد، اشتق من عقال النَّاقة، لِأَنَّهُ
يعقل صَاحبه عَن الْجَهْل، أَي: يحْبسهُ وَلِهَذَا قيل:
عقل الدَّوَاء بَطْنه، أَي أمْسكهُ، وَفِي (الْعين) عقلت
بعد الصِّبَا، أَي: عرفت بعد الْخَطَأ الَّذِي كنت فِيهِ،
واللغة الْغَالِبَة، عقل، وَقَالُوا: عقل يعقل مثل حكم
يحكم الَّذِي يحبس نَفسه ويردها عَن هَواهَا، أخذا من
قَوْلهم: أعتقل لِسَانه إِذا حبس، وَمنع من الْكَلَام.
وَفِي (الْمُخَصّص) قَالَ سِيبَوَيْهٍ، قَالُوا: الْعقل،
كَمَا قَالُوا: الظّرْف، أدخلوه فِي بَاب عجز، لِأَنَّهُ
مثله، وَالْعقل من المصادر الْمَجْمُوعَة من غير أَن
تخْتَلف أَنْوَاعهَا. وَقَالَ أَبُو عَليّ: الْعقل والحجى،
وَالنَّهْي، كلهَا مُتَقَارِبَة الْمعَانِي، وَعَن
الْأَصْمَعِي: هُوَ الْإِمْسَاك عَن الْقَبِيح وَقصر
النَّفس وحبسها على الْحسن، وَقَالُوا: عَاقل وعقلاء
وَهُوَ: الْحلم واللب وَالْحجر والعظم والمحت والمرجح
والجول وَالْخَوْف والذهن والهرمان والحصاة، وَفِي
(الْمُحكم) وَجمعه عقول. وَقَالَ الْقَزاز: مَسْكَنه عِنْد
قوم فِي الدِّمَاغ، وَعند آخَرين فِي الْقلب الأول قَول
أبي
(3/270)
حنيفَة، وَالثَّانِي قَول الشَّافِعِي.
وَقيل: مَسْكَنه الدِّمَاغ وتدبيره فِي الْقلب. قلت: وَعَن
هَذَا قَالُوا: الْعقل جَوْهَر خلقه الله فِي الدِّمَاغ
وَجعل نوره فِي الْقلب، تدْرك بِهِ المغيبات بالوسائط
والمحسوسات بِالْمُشَاهَدَةِ، وَعند الْمُتَكَلِّمين،
الْعقل الْعلم، وَقيل: بعض الْعُلُوم هِيَ الضرورية،
وَقيل: قُوَّة يُمَيّز بهَا حقائق المعلومات، وَفِي كتاب
(الْحُدُود) لأبي عَليّ بن سينا، هُوَ اسْم مُشْتَرك لمعان
عدَّة: عقل لصِحَّة الْفطْرَة الأولى فِي الناى، وَهُوَ
قُوَّة يُمَيّز بهَا بَين الْأُمُور القبيحة والحسنة، وعقل
لما يكتسبه بالتجارب بَين الْأَحْكَام تكون مُقَدّمَة يحصل
بهَا الْأَغْرَاض والمصالح، وعقل لِمَعْنى آخر، وَهَذِه
هَيْئَة محمودة للْإنْسَان فِي حركاته وَكَلَامه، وَأما
الْحُكَمَاء فقد فرقوا بَينه وَبَين الْعلم، وَقَالُوا:
الْعقل النظري، وبالفعل والفعال، وتحقيقه فِي كتبهمْ،
وَإِنَّمَا سمي: الْعقل، عقلا من قَوْلهم: ظَبْي عَاقل،
إِذا امْتنع فِي أَعلَى الْجَبَل، يُسمى هَذَا بِهِ
لِأَنَّهُ فِي أَعلَى الْجَسَد بِمَنْزِلَة الَّذِي فِي
أَعلَى الْجَبَل. وَقيل: الْعَاقِل: الْجَامِع لأموره
بِرَأْيهِ، مَأْخُوذ من قَوْلهم: عقلت الْفرس إِذا جمعت
قوائمه وَحكى ابْن التِّين عَن بَعضهم: أَن المُرَاد من
الْعقل الدِّيَة، لِأَن دِيَتهَا على النّصْف من دِيَة
الرجل. قلت: ظَاهر الحَدِيث يأباه.
بَيَان إعرابه قَوْله: (إِلَى الْمصلى) يتَعَلَّق بقوله:
(خرج) . قَوْله: (يتصدقن) مقول القَوْل، وَالْفَاء، فِي:
فَانِي، للتَّعْلِيل قَوْله: (أريتكن) بِضَم الْهمزَة
وَكسر الرَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، وَالْمعْنَى
أَرَانِي الله إياكن أَكثر أهل النَّار، وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) أَكثر، بِنصب الرَّاء على أَن أريت،
يتَعَدَّى إِلَى مفعولين. أَو على الْحَال إِذا قُلْنَا
أَن أفعل لَا يتعرف بِالْإِضَافَة، كَمَا صَار إِلَيْهِ
الْفَارِسِي وَغَيره وَقيل: إِنَّه بدل من الْكَاف فِي:
أريتكن. انْتهى قلت: نقل هَذَا من صَاحب (التَّلْوِيح)
وَلَيْسَ كَذَلِك، بل قَوْله: أريتكن مُتَعَدٍّ إِلَى
ثَلَاثَة مفاعيل: الأول التَّاء الَّتِي هِيَ مفعول نَاب
عَن الْفَاعِل. وَالثَّانِي:. قَوْله: (كنَّ) .
وَالثَّالِث:. قَوْله: (أَكثر أهل النَّار) فَإِن قلت: فِي
أَيْن أريهن أَكثر أهل النَّار؟ قلت: فِي لَيْلَة
الْإِسْرَاء، وَعَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، بِلَفْظ (أريت النَّار فَرَأَيْت أَكثر أَهلهَا
النِّسَاء) فَإِن قلت: ورد فِي الحَدِيث، قَالَ: لكل رجل
زوجتان من الْآدَمِيّين. قلت: لَعَلَّ هَذَا قبل وُقُوع
الشَّفَاعَة. قَوْله: (ويم يَا رَسُول الله) قَالَ بَعضهم:
الْوَاو، استئنافية. قلت: للْعَطْف على مُقَدّر تَقْدِيره،
مَا دنبنا، وَبِمَ، الْبَاء للسبيبة، وَكلمَة استفهامية.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: حذفت الفها تَخْفِيفًا. قلت: يجب
حذف ألف، مَا الاستفهامية إِذا جرت، وإبقاء الفتحة دَلِيل
عَلَيْهَا وَنَحْوهَا، إلاَّمَ، وَعَلاَمَ، وَعلة حذف
الْألف، الْفرق بَين الِاسْتِفْهَام وَالْخَبَر، فَلهَذَا
حذفت فِي نَحْو: {فيمَ أَنْت من ذكرَاهَا} (سُورَة
النَّحْل: 35) {فناظرة بِمَ يرجع المُرْسَلُونَ} (سُورَة
النازعات: 43) وَأما قِرَاءَة عِكْرِمَة وَعِيسَى: {عَمَّا
يتساءلون} (سُورَة النبإ: 1) فنادر. قَوْله: (تكثرن
اللَّعْن) فِي مقَام التَّعْلِيل، وَكَانَ الْمَعْنى:
لأنكن تكثرن اللَّعْن، الْإِكْثَار، قَالَ الطَّيِّبِيّ:
الْجَواب من الأسلوب الْحَكِيم لِأَن قَوْله: (مَا
رَأَيْت) إِلَخ زِيَادَة، فَإِن قَوْله: (تكثرن اللَّعْن
وتكفرن العشير) جَوَاب تَامّ، فَكَأَنَّهُ من بَاب
الاتتباع، إِذا الذَّم بِالنُّقْصَانِ استتبع للذم بِأَمْر
آخر غَرِيب، وَهُوَ كَون الرجل الْكَامِل الحازم منقاداً
للنِّسَاء الناقصات عقلاء دينا. قَوْله: (من ناقصات عقل)
صفة مَوْصُوف مَحْذُوف أَي: مَا رَأَيْت أحدا من ناقصات.
قَوْله: (أذهب) أفعل التَّفْضِيل من الإذهاب، هَذَا على
مَذْهَب سِيبَوَيْهٍ حَيْثُ جوز بِنَاء أفعل التَّفْضِيل
من الثلاثي الْمَزِيد فِيهِ، وَكَانَ الْقيَاس فِيهِ أَشد
إذهاباً.
بَقِيَّة مَا فِيهِ من الْمعَانِي والأسئلة والأجوبة
قَوْله: (قُلْنَ وَمَا نُقْصَان ديننَا) ويروي: (فَقُلْنَ)
بِالْفَاءِ، وَهَذَا استفسار مِنْهُنَّ عَن وَجه نُقْصَان
دينهن وعقلهن، وَفك لِأَنَّهُ خفى عَلَيْهِنَّ ذَلِك
حَتَّى استفسرن. وَقَالَ بَعضهم: وَنَفس هَذَا السُّؤَال
دَال على النُّقْصَان لِأَنَّهُنَّ سلمن مَا نسب
إلَيْهِنَّ من الْأُمُور الثَّلَاثَة: الْإِكْثَار
والكفران والإذهاب، ثمَّ استشكلن كونهن ناقصات. قلت: هَذَا
استفسار وَلَيْسَ باستشكال، لِأَنَّهُنَّ بعد أَن سلمن
هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة، لَا يكون عَلَيْهِنَّ
إِشْكَال، وَلَكِن لما خَفِي سَبَب نُقْصَان دينهن وعقلهن
سَأَلَهُنَّ عَن ذَلِك بقولهن: مَا نُقْصَان ديننَا
وعقلنا، وَالتَّسْلِيم بِهَذِهِ الْأُمُور كَيفَ يدل على
النُّقْصَان، وبَيْنَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،
مَا خَفِي عَلَيْهِنَّ من ذَلِك بقوله: (أَلَيْسَ شَهَادَة
الْمَرْأَة) إِلَى آخِره؟ وَهَذَا جَوَاب مِنْهُ، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، بلطف وإرشاد من غير تعفيف وَلَا
لوم، بِحَيْثُ خاطبهن على قدر فهمهن، لِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يُخَاطب النَّاس على قدر
عُقُولهمْ، قَوَّال النَّوَوِيّ: وَأما وَصفه النِّسَاء
بِنُقْصَان الدّين لتركهن الصَّلَاة وَالصَّوْم فقد
يسْتَشْكل مَعْنَاهُ وَلَيْسَ بمشكل، فَإِن الدّين
وَالْإِيمَان وَالْإِسْلَام مُشْتَرك فِي معنى وَاحِد،
فَإِن من كثرت عِبَادَته زَاد إيمَانه وَدينه، وَمن نقصت
عِبَادَته نقص دينه. قلت: دَعْوَاهُ الِاشْتِرَاك فِي
هَذِه الثَّلَاثَة غير مسلمة، لِأَن بَينهَا فرقا لُغَة
وَشرعا، وَقَوله: زَاد إيمَانه أَو نقص، لَيْسَ براجع
إِلَى الذَّات، بل هُوَ رَاجع إِلَى الصّفة
(3/271)
كَمَا تقرر هَذَا فِي مَوْضِعه. قَوْله:
(أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مثل نصف شَهَادَة الرجل)
إِشَارَة إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فَرجل وَامْرَأَتَانِ
مِمَّن ترْضونَ من الشُّهَدَاء} (سُورَة الْبَقَرَة: 282)
فَإِن قلت: النُّكْتَة فِي تَعْبِيره بِهَذِهِ الْعبارَة
وَلم يقل: أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَتَيْنِ مثل شَهَادَة
الرجل؟ قلت: لِأَن فِي عِبَارَته تِلْكَ تنصيصاً على
النَّقْص صَرِيحًا. بِخِلَاف مَا ذكرت، فَإِنَّهُ يدل
عَلَيْهِ ضمنا فَافْهَم، فَإِنَّهُ دَقِيق فَإِن قلت:
أَلَيْسَ ذَلِك ذماً لَهُنَّ؟ قلت: لَا وَإِنَّمَا هُوَ
على معنى التَّعَجُّب بأنهن مَعَ اتصافهن بِهَذِهِ
الْحَالة يفعلن بِالرجلِ الحازم كَذَا وَكَذَا فَإِن قلت:
هَذَا الْعُمُوم فِيهِنَّ يُعَارضهُ قَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (كمل من الرِّجَال كثير، وَلم يكمل من
النِّسَاء إلاَّ مَرْيَم بنت عمرَان وآسية بنت مُزَاحم)
وَفِي رِوَايَة أَربع، وَهُوَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ،
وَأحمد من حَدِيث أنس: رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ:
(قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَسبك من نسَاء
الْعَالمين بِأَرْبَع: مَرْيَم بنت عمرَان، وآسية امْرَأَة
فِرْعَوْن، وَخَدِيجَة بنت خويلد، وَفَاطِمَة بنت مُحَمَّد
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قلت: أجَاب بَعضهم بِأَن
الْإِفْرَاد خرج عَن ذَلِك لِأَنَّهُ نَادِر قَلِيل،
وَالْجَوَاب السديد فِي ذَلِك هُوَ أَن الحكم على الْكل
بِشَيْء لَا يسْتَلْزم الحكم على كل فَرد من أَفْرَاده
بذلك الشَّيْء وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَنقص الدّين قد يكون
على وَجه يَأْثَم بِهِ، كمن ترك الصَّلَاة بِلَا عذر، وَقد
يكون على وَجه لَا يَأْثَم لَهُ، كمن ترك الْجُمُعَة
بِعُذْر، وَقد يكون على وَجه هُوَ مُكَلّف بِهِ كَتَرْكِ
الْحَائِض الصَّلَاة وَالصَّوْم. فَإِن قيل: فَإِذا كَانَت
معذورة، فَهَل تثاب على ترك الصَّلَاة فِي زمن الْحيض؟
وَإِن كَانَت لَا تقضيها كَمَا يُثَاب الْمَرِيض، وَيكْتب
لَهُ فِي مَرضه مثل نوافل الصَّلَوَات الَّتِي كَانَ
يَفْعَلهَا فِي صِحَّته. وَالْجَوَاب أَن ظَاهر هَذَا
الحَدِيث أَنَّهَا لَا تثاب، وَالْفرق أَن الْمَرِيض كَانَ
يَفْعَلهَا بنية الدَّوَام عَلَيْهَا مَعَ أَهْلِيَّته
لَهَا، وَالْحَائِض لَيست كَذَلِك، بل نِيَّتهَا ترك
الصَّلَاة فِي زمن الْحيض، وَكَيف لَا وَهِي حرَام
عَلَيْهَا؟ قلت: يَنْبَغِي أَن يُثَاب على ترك الْحَرَام.
قَوْله: (فَذَلِك) إِشَارَة إِلَى مَا ذكر من. قَوْله:
(أَلَيْسَ شَهَادَة الْمَرْأَة مثل نصف شَهَادَة الرجل) .
قَوْله: (فَذَلِك) بِكَسْر الْكَاف، خطابا للواحدة الَّتِي
تولت الْخطاب، وَيجوز فتح الْكَاف على أَنه للخطاب
الْعَام.
بَيَان استنباط الْأَحْكَام وهوعلى وُجُوه: الأول: فِيهِ
اسْتِحْبَاب خُرُوج الإِمَام مَعَ الْقَوْم إِلَى مصلى
الْعِيد فِي الْجَبانَة لأجل صَلَاة الْعِيد، وَلم يزل
الصَّدْر الأول كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك، ثمَّ تَركه
أَكْثَرهم لِكَثْرَة الْجَوَامِع، وَمَعَ هَذَا فَإِن أهل
بِلَاد شَتَّى لم يتْركُوا ذَلِك. الثَّانِي: فِيهِ الْحَث
على الصَّدَقَة لِأَنَّهَا من أَفعَال الْخيرَات
وَالْمِيرَاث فَإِن الْحَسَنَات يذْهبن السَّيِّئَات،
وَلَا سِيمَا فِي مثل يَوْم الْعِيدَيْنِ لِاجْتِمَاع
الْأَغْنِيَاء والفقراء، وتحسر الْفُقَرَاء عِنْد
رُؤْيَتهمْ الْأَغْنِيَاء وَعَلَيْهِم الثِّيَاب الفاخرة،
وَلَا سِيمَا الْأَيْتَام الْفُقَرَاء والأرامل الفقيرات،
فَإِن الصَّدَقَة عَلَيْهِم فِي مثل هَذَا الْيَوْم مِمَّا
يقل تحسرهم وهمهم، وَإِمَّا تَخْصِيصه، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم النِّسَاء فِي ذَلِك الْيَوْم، حَيْثُ أمرهن
بِالصَّدَقَةِ فلغلبة الْبُخْل عَلَيْهِنَّ، وَقلة معرفتهن
بِثَوَاب الصَّدَقَة وَمَا يَتَرَتَّب عَلَيْهَا من الْحسن
وَالْفضل فِي الدُّنْيَا قبل يَوْم الْآخِرَة. الثَّالِث:
فِيهِ جَوَاز خُرُوج النِّسَاء أَيَّام الْعِيد إِلَى
الْمصلى للصَّلَاة مَعَ النَّاس. وَقَالَت الْعلمَاء:
كَانَ هَذَا فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما
الْيَوْم فَلَا تخرج الشَّابَّة ذَات الْهَيْئَة،
وَلِهَذَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا
لَو رأى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا أحدث
النِّسَاء بعده لمنعهن الْمَسَاجِد، كَمَا منعت نسَاء بني
إِسْرَائِيل. قلت: هَذَا الْكَلَام من عَائِشَة بِعُذْر من
يسير جدا بعد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما
الْيَوْم فنعوذ بِاللَّه من ذَلِك، فَلَا يرخص فِي خروجهن
مُطلقًا للعيد وَغَيره، وَلَا سِيمَا نسَاء مصر، على مَا
لَا يخفى. وَفِي (التَّوْضِيح) رأى جمَاعَة ذَلِك حَقًا
عَلَيْهِنَّ، يَعْنِي: فِي خروجهن للعيد مِنْهُم: أَبُو
بكر وَعلي وَابْن عمر وَغَيرهم، وَمِنْهُم من منعن ذَلِك،
مِنْهُم: عُرْوَة وَالقَاسِم وَيحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ
وَمَالك وَأَبُو يُوسُف، وَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة مرّة
وَمنعه أُخْرَى، وَمنع بَعضهم فِي الشَّابَّة دون غَيرهَا،
وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَأبي يُوسُف، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ:
كَانَ الْأَمر بخروجهن أول الْإِسْلَام لتكثير الْمُسلمين
فِي أعين الْعَدو. قلت: كَانَ ذَلِك لوُجُود الْأَمْن
أَيْضا، وَالْيَوْم قلَّ الأمنُ، والمسلمون كثير، وَمذهب
أَصْحَابنَا فِي هَذَا الْبَاب مَا ذكره صَاحب
(الْبَدَائِع) أَجمعُوا على أَنه لَا يرخص للشابة
الْخُرُوج فِي الْعِيدَيْنِ وَالْجُمُعَة وَشَيْء من
الصَّلَوَات، لقَوْله تَعَالَى: {وقرون فِي بُيُوتكُمْ}
(سُورَة الْأَحْزَاب: 33) وَلِأَن خروجهن سَبَب للفتنة
وَأما الْعَجَائِز فيرخص لَهُنَّ الْخُرُوج فِي
الْعِيدَيْنِ، وَلَا خلاف أَن الْأَفْضَل أَن لَا يخْرجن
فِي صَلَاة مَا، فَإِذا خرجن يصلين صَلَاة الْعِيد، فِي
رِوَايَة الْحسن عَن أبي حنيفَة، وَفِي رِوَايَة أبي
يُوسُف عَنهُ، لَا يصلين، بل يكثرن سَواد الْمُسلمين
وينتفعن بدعائهم، وَفِي حَدِيث أم عَطِيَّة، قَالَت: [حم
(كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخرج
الْعَوَاتِق ذَوَات الْخُدُور وَالْحيض
(3/272)
فِي الْعِيد، وَأما الْحيض فيعتزلن الْمصلى
ويشهدن الْخَيْر ودعوة الْمُسلمين) [/ حم أخرجه
البُخَارِيّ وَمُسلم وَقَالَ، عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام: [حم (لَا تمنعوا إِمَاء الله مَسَاجِد الله)
[/ حم أَخْرجَاهُ وَفِي رِوَايَة أبي دواد: (وليخرجن ثقلات
غير عطرات) ، الْعَوَاتِق، جمع عاتق، وَهِي الْبِنْت
الَّتِي بلغت وَقيل: الَّتِي لم تتَزَوَّج، والخدور جمع:
خدر، وَهُوَ السّتْر، وَفِي (شرح الْمُهَذّب) للنووي: يكره
للشابة وَمن تشْتَهي الْحُضُور ولخوف الْفِتْنَة
عَلَيْهِنَّ وبهن. الرَّابِع: فِيهِ جَوَاز عظة النِّسَاء
على حِدة، وَهَذِه للْإِمَام، فَإِن لم يكن فلنائبه.
الْخَامِس: فِيهِ إِشَارَة إِلَى الإغلاظ فِي النصح بِمَا
يكون سَببا لإِزَالَة الصّفة الَّتِي تعاب أَو الذَّنب
الَّذِي ينصف بِهِ الْإِنْسَان، السَّادِس: فِيهِ أَن لَا
يواجه بذلك الشَّخْص الْمعِين، فَإِن فِي الشُّمُول
تَسْلِيَة وتسهيلاً. السَّابِع: فِيهِ أَن الصَّدَقَة تدفع
الْعَذَاب وَأَنَّهَا تكفر الذُّنُوب. الثَّامِن: فِيهِ
أَن جحد النعم حرَام، وكفران النِّعْمَة مَذْمُوم.
التَّاسِع: فِيهِ أَن اسْتِعْمَال الْكَلَام الْقَبِيح:
كاللعن والشتم حرَام، وَأَنه من الْمعاصِي: فَإِن داوم
عَلَيْهِ صَار كَبِيرَة، وَاسْتدلَّ النَّوَوِيّ على أَن
اللَّعْن والشتم من الْكَبَائِر بالتوعد عَلَيْهِمَا
بالنَّار. الْعَاشِر: فِيهِ ذمّ الدُّعَاء باللعن
لِأَنَّهُ دُعَاء بالإبعاد من رَحْمَة الله تَعَالَى.
قَالُوا: إِنَّه مَحْمُول على مَا إِذا كَانَ على معِين.
الْحَادِي عشر: فِيهِ إِطْلَاق الْكفْر على الذُّنُوب
الَّتِي لَا تخرج عَن الْملَّة تَغْلِيظًا على فاعلها.
الثَّانِي عشرَة: فِيهِ إِطْلَاق الْكفْر على غير الْكفْر
بِاللَّه. الثَّالِث عشر: فِيهِ مُرَاجعَة المتعلم
وَالتَّابِع الْمَتْبُوع والمعلم فِيمَا قَالَه إِذا لم
يظْهر لَهُ مَعْنَاهُ. الرَّابِع عشر: فِيهِ تَنْبِيه على
أَن شَهَادَة امْرَأتَيْنِ تعدل شَهَادَة رجل. الْخَامِس
عشر: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَن النَّقْص من
الطَّاعَات نقص من الدّين. قلت: لَا ينقص من نفس الدّين
شَيْء وَإِنَّمَا النَّقْص أَو الزِّيَادَة يرجعان إِلَى
الْكَمَال. السَّادِس عشر: فِيهِ دلَالَة على أَن ملاك
الشَّهَادَة الْعقل. السَّابِعَة عشر: فِيهِ نَص على أَن
الْحَائِض يسْقط عَنْهَا فرض الصَّوْم وَالصَّلَاة.
الثَّامِن عشر: فِيهِ الشَّفَاعَة للْمَسَاكِين وَغَيرهم
أَن يسْأَل لَهُم. التَّاسِع عشر: فِيهِ حجَّة لمن كره
السُّؤَال لغيره. الْعشْرُونَ: فِيهِ مَا دلّ على مَا
كَانَ عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من
الْخلق الْعَظِيم والصفح الْجَمِيل والرأفة وَالرَّحْمَة
أمته، عَلَيْهِ أفضل الصَّلَوَات وأشرف التَّحِيَّات.
7 - (بابُ تَقْضِي الحَائِضُ المَنَاسِكَ كُلَّها إلاَّ
الطَّوافَ بالبَيْتِ)
بَاب منون لِأَنَّهُ مَقْطُوع عَمَّا بعده أَي: هَذَا بَاب
فِيهِ بَيَان أَن الْمَرْأَة إِذا حَاضَت بعد الإحرامتقضي
أَي: تُؤدِّي جَمِيع الْمَنَاسِك كلهَا إلاَّ أَنَّهَا لَا
تَطوف بِالْبَيْتِ والمناسك: جمع منسك، بِفَتْح السِّين
وَكسرهَا، وَهُوَ التَّعَبُّد وَيَقَع على الْمصدر
وَالزَّمَان وَالْمَكَان وَسميت أُمُور الْحَج كلهَا
مَنَاسِك الْحَج، وَسُئِلَ ثَعْلَب عَن الْمَنَاسِك، مَا
هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ مَأْخُوذ من النسيكة وَهُوَ سبيكة
الْفضة المصفاة كَأَنَّهُ صفى نَفسه لله تَعَالَى. وَفِي
(الْمطَالع) الْمَنَاسِك مَوَاضِع متعبدات الْحَج، والمنسك
المذبح أَيْضا، وَقد نسك ينْسك نسكا إِذا ذبح، والنسيكة
الذَّبِيحَة، وَجَمعهَا: نسك والنسك أَيْضا الطَّاعَة
وَالْعِبَادَة، وكل مَا تقرب بِهِ إِلَى الله تَعَالَى:
والنسك: مَا أمرت بِهِ الشَّرِيعَة والورع، وَمَا نهت
عَنهُ. والناسك العابد، وَجمعه النساك.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لِأَن فِي الأول
ترك الْحَائِض الصَّوْم، وَهُوَ فرض، وَفِي هَذَا تَركهَا
الطّواف الَّذِي هُوَ ركن، وَهُوَ أَيْضا فرض، وَبَقِيَّة
الطّواف كالركعتين بعده أَيْضا لَا تعْمل إلاَّ
بِالطَّهَارَةِ، وَهل هِيَ شَرط فِي الطّواف، أم لَا فِيهِ
خلاف مَشْهُور.
وقالَ إبْرَاهِيمُ لَا بَأْسَ أنْ تَقْرَأْ الآيَةَ
وَجه تطابق هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة والْآثَار الَّتِي
بعده من حَيْثُ أَن الْحيض لَا يُنَافِي كل عبَادَة، بل
صحت مَعَه عبادات بدنية من الْأَذْكَار نَحْو: التَّسْبِيح
والتحميد والتهليل، وَنَحْو ذَلِك، وَقِرَاءَة مَا دون
الْآيَة عِنْد جمَاعَة وَالْآيَة عِنْد إِبْرَاهِيم،
ومناسك الْحَج كَذَلِك من جملَة مَا لَا يُنَافِيهِ الْحيض
إلاَّ الطّواف، فَإِنَّهُ مُسْتَثْنى من ذَلِك، وَكَذَلِكَ
الْآيَة وَمَا قوقها مُسْتَثْنى من ذَلِك فَمن هَذَا
الْوَجْه طابق هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة، وَكَذَلِكَ
الْآثَار الَّتِي تَأتي، وَحكم الْجنب كَحكم الْحَائِض
فِيمَا ذكرنَا، وَإِذا وجد التطابق بِأَدْنَى شَيْء
يَكْتَفِي بِهِ، والتطويل فِيهِ يؤول إِلَى التعسف.
قَوْله: (قَالَ إِبْرَاهِيم) هُوَ: إِبْرَاهِيم
النَّخعِيّ. قَوْله: (لَا بَأْس) أَي: لَا حرج أَن تقْرَأ
أَي: الْحَائِض الْآيَة من الْقُرْآن، وَقد وَصله
الدَّارمِيّ بِلَفْظ أَرْبَعَة لَا يقرؤون الْقُرْآن:
الْجنب وَالْحَائِض وَعند الْخَلَاء وَفِي الْحمام إلاَّ
آيَة وَعَن إِبْرَاهِيم فِيهِ أَقْوَال: فِي قَول: يستفتح
رَأس الْآيَة وَلَا يُتمهَا، وَهُوَ قَول عَطاء وَسَعِيد
بن جُبَير، لما روى ابْن أبي شيبَة حَدثنَا أَبُو خَالِد
الْأَحْمَر عَن حجاج عَن عَطاء، وَعَن حَمَّاد عَن
إِبْرَاهِيم وَسَعِيد بن جُبَير
(3/273)
فِي الْحَائِض وَالْجنب: يستفتحون رَأس
الْآيَة وَلَا يتمون آخرهَا. وَفِي قَول: يكره قِرَاءَة
الْقُرْآن للْجنب، وروى ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع
عَن شُعْبَة بن حَمَّاد أَن سعيد بن الْمسيب قَالَ: يقْرَأ
الْجنب الْقُرْآن قَالَ: فَذَكرته لإِبْرَاهِيم فكرهه.
وَفِي قَول: يقْرَأ مَا دون الْآيَة وَلَا يقْرَأ آيَة
تَامَّة وروى ابْن أبي شيبَة حَدثنَا وَكِيع عَن مُغيرَة
عَن إِبْرَاهِيم قَالَ: يقْرَأ مَا دون الْآيَة: وَلَا
يقْرَأ آيَة تَامَّة وَفِي قَوْله: يقْرَأ الْقُرْآن مَا
لم يكن جنبا، وَحدثنَا وَكِيع عَن شُعْبَة عَن حَمَّاد عَن
إِبْرَاهِيم عَن عمر قَالَ: تقْرَأ الْحَائِض الْقُرْآن.
وَلَمْ يَرَ ابْنُ عَبَّاسِ بالقِرَاءَةِ لَلْجُنُبِ
بَأْساً
هَذَا الْأَثر وَصله ابْن الْمُنْذر بِلَفْظ: أَن ابْن
عَبَّاس كَانَ يقْرَأ ورده وَهُوَ جنب. وَقَالَ ابْن أبي
شيبَة: حَدثنَا الثَّقَفِيّ عَن خَالِد عَن عِكْرِمَة عَن
ابْن عَبَّاس أَنه كَانَ لَا يرى بَأْسا أَن يقْرَأ الْجنب
الْآيَة والآيتين، وَكَانَ أَحْمد يرخص للْجنب أَن يقْرَأ
الْآيَة وَنَحْوهَا، وَبِه قَالَ مَالك: وَقد حكى عَنهُ
أَنه قَالَ: تقْرَأ الْحَائِض وَلَا يقْرَأ الْجنب لِأَن
الْحَائِض إِذا لم تقْرَأ نسيت الْقُرْآن، لِأَن أَيَّام
الْحَائِض تتطاول وَمُدَّة الْجَنَابَة لَا تطول.
وكانَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَذْكُرُ اللَّهِ
عَلَى كُلِّ أَحْيَائِهِ
هَذَا حَدِيث أخرجه مُسلم فِي صَحِيحه من حَدِيث عَائِشَة
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: يرْوى على كل أَحْوَاله
وَأَرَادَ البُخَارِيّ بإيراد هَذَا، وَبِمَا ذكره فِي
هَذَا الْبَاب، الِاسْتِدْلَال على جَوَاز قِرَاءَة الْجنب
وَالْحَائِض، لِأَن الذّكر أَعم من أَن يكون بِالْقُرْآنِ
أَو بِغَيْرِهِ، وَبِه قَالَ الطَّبَرِيّ وَابْن الْمُنْذر
وَدَاوُد.
وقالَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ كُنَّا نُؤْمَرُ أنْ يَخْرُجَ
الحَيَّضُ فَيَكُبرنَ بِتَكْبِيرِهِمْ وَيَدْعُونَ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي أَبْوَاب
الْعِيدَيْنِ فِي أَيَّام التَّكْبِير: أَيَّام مني،
وَإِذا غَدا إِلَى عَرَفَة حَدثنَا مُحَمَّد، قَالَ
حَدثنَا عمر ابْن حَفْص، قَالَ: حَدثنَا أبي عَن عَاصِم
عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، قَالَت: (كُنَّا نؤمر أَن نخرج يَوْم الْعِيد،
حَتَّى تخرج الْبكر من خدرها، وَحَتَّى تخرج الْحيض،
فيكنَّ خلف النَّاس فيكبرنَّ بتكبيرهم، ويدعونَ بدعائهم
يرجون بركَة ذَلِك الْيَوْم وطهرته) ، وَرَوَاهُ أَيْضا
فِي بَاب خُرُوج النِّسَاء الْحيض إِلَى الْمصلى على مَا
يَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَوجه الِاسْتِدْلَال بِهِ مَا ذَكرْنَاهُ من أَنه لَا فرق
بَين الذّكر والتلاوة، لِأَن الذّكر أَعم. وَقَالَ بَعضهم:
وَيدعونَ، كَذَا الْأَكْثَر الروَاة، وللكشميهني: يدعين،
بياء تَحْتَانِيَّة بدل الْوَاو. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره
مُخَالف لقواعد التصريف، لِأَن هَذِه الصِّيغَة معتل
الْأُم من ذَوَات الْوَاو، ويستوى فِيهَا لفظ جمَاعَة
الذُّكُور وَالْإِنَاث فِي الْخطاب والغيبة جَمِيعًا.
وَفِي التَّقْدِير مُخْتَلف، فوزن الْجمع الْمُذكر: يقعون،
وَوزن الْجمع الْمُؤَنَّث يفعلن، وَسَيَأْتِي مزِيد
الْكَلَام فِي مَوضِع، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
{وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَخْبَرَني أبُو سُفْيَانَ أنَّ
هِرَقْلَ دَعَا بِكِتابِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فَقَرَأَ فَإِذَا فِيهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمان
الرَّحِيمِ وَيَا أَهْلَ الكِتابِ تَعَالُوا إِلَى
كَلِمَةٍ الآيَةَ} (سُورَة آل عمرَان: 64)
هَذَا قِطْعَة من حَدِيث أبي سُفْيَان فِي قصَّة هِرقل:
وَقد وَصله البُخَارِيّ فِي بَدْء الْوَحْي وَغَيره،
وَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، قَالَ:
أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عبيد
الله بن عبد الله بن عتبَة بن مَسْعُود عَن عبد الله بن
عَبَّاس أخبرهُ (أَن أَبَا سُفْيَان بن حَرْب أخبرهُ أَن
هِرقل أرسل إِلَيْهِ فِي ركب من قُرَيْش إِلَى أَن قَالَ:
ثمَّ دَعَا بِكِتَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
الَّذِي بعث بِهِ دحْيَة الْكَلْبِيّ إِلَى عَظِيم بصرى،
فَدفعهُ إِلَى هِرقل فقرأه، فَإِذا فِيهِ بِسم الله
الرحمان الرَّحِيم من مُحَمَّد ابْن عبد الله وَرَسُوله
إِلَى هِرقل عَظِيم الرّوم، سَلام على من اتبع الْهدى أما
بعد، فَإِنِّي أَدْعُوك بِدِعَايَةِ الْإِسْلَام، أسلم
تسلم يؤتك الله أجرك مرَّتَيْنِ، فَإِن توليت فَعَلَيْك
إِثْم الأريسين. {يَا أهل الْكتاب تَعَالَوْا إِلَى كلمة
سَوَاء بَيْننَا وَبَيْنكُم أَن لَا نعْبد إِلَى الله
وَلَا نشْرك بِهِ شَيْئا وَلَا يتَّخذ بَعْضنَا بَعْضًا
أَرْبَابًا من دون الله فَإِن توَلّوا فَقولُوا أشهدوا
بِأَنا مُسلمُونَ} .
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وسلمكتب
إِلَى الرّوم وهم كفار، وَالْكَافِر جنب، كَأَنَّهُ
يَقُول: إِذا جَازَ مس الْكتاب للْجنب مَعَ كَونه
مُشْتَمِلًا على آيَتَيْنِ، فَكَذَا يجوز لَهُ قِرَاءَته،
وَالْحَاصِل أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعث
للْكفَّار الْقُرْآن مَعَ أَنهم غير ظَاهِرين، فجوز مسهم
وقراءتهم لَهُ، فَدلَّ على جَوَاز الْقِرَاءَة للْجنب.
(3/274)
وقالَ عَطَاءٌ عَنْ جابرٍ حاضَتْ عائِشَةٌ
فَنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ الطَّوافِ
بالبَيْتِ لَا تُصَلِّى
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَجَابِر بن عبد الله
الْأنْصَارِيّ، وَهَذَا قِطْعَة من حَدِيث ذكره
البُخَارِيّ مَوْصُولا فِي كتاب الْأَحْكَام فِي بَاب قَول
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَو اسْتقْبلت من
أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت) حدّثنا الْحسن بن عمر حدّثنا
يزِيد عَن حبيب عَن عَطاء عَن جَابر بن عبد الله قَالَ:
(كُنَّا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فلبينا
بِالْحَجِّ وَقدمنَا مَكَّة إِلَى أَن قَالَ: وَكَانَت
عَائِشَة قدمت مَكَّة وَهِي حَائِض، فَأمرهَا النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تنسك الْمَنَاسِك كلهَا غير
أَنَّهَا لَا تَطوف وَلَا تصلي حَتَّى تطهر) الحَدِيث.
قَوْله: (فنسكت) ، بِفَتْح السِّين، وَالْمعْنَى: أَقَامَت
بِأُمُور الْحَج كلهَا غير الطّواف بِالْبَيْتِ
وَالصَّلَاة وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) وَتَبعهُ صَاحب
(التَّوْضِيح) قَوْله: (وَلَا تصلى) يحْتَمل أَن يكون من
كَلَام عَطاء، أَو من كَلَام البُخَارِيّ، وَالله أعلم.
وقالَ الحَكَمُ إنِّي لاَ ذْبَحْ وَأَنَّا جُنُبٌ وقالَ
اللَّهُ: {وَلَا تأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ} (سُورَة الْأَنْعَام: 121)
الحكم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف ابْن
عتيبة، بِضَم الْعين المهلمة وَفتح التَّاء الْمُثَنَّاة
من فَوق وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة، الْكُوفِي، وَقد تقدم فِي بَاب السمر
بِالْعلمِ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَغَوِيّ فِي
(الجعديات) من رِوَايَته عَن عَليّ بن الحعد عَن شُعْبَة
عَنهُ. قَوْله: (إِنِّي لأذبح) أَي: أَنِّي لأذبح
الذَّبِيحَة وَالْحَال أَنِّي جنب، وَلَكِن لَا بُد أَن
أذكر الله تَعَالَى يحكم هَذِه الْآيَة وَهِي: {وَلَا
تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ} (سُورَة
الْأَنْعَام: 121) وَأَرَادَ بِهَذَا أَن الذّبْح
مُسْتَلْزم شرعا لذكر الله بِمُقْتَضى هَذِه الْآيَة،
فَدلَّ على أَن الْجنب يجوز لَهُ التِّلَاوَة.
وَاعْلَم أَن البُخَارِيّ ذكر فِي هَذَا الْبَاب سِتَّة من
الْآثَار إِلَى هُنَا، وَاسْتدلَّ بهَا على جَوَاز
قِرَاءَة الْجنب الْقُرْآن، وَفِي كل ذَلِك مناقشة، ورد
عَلَيْهِ الْجُمْهُور بِأَحَادِيث وَردت بِمَنْع الْجنب
عَن قِرَاءَة الْقُرْآن.
وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
أخرجه الْأَرْبَعَة، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا حَفْص
بن عمر، قَالَ: أخبرنَا شُعْبَة عَن عَمْرو بن مرّة عَن
عبد الله ابْن سَلمَة، قَالَ: دخلت على عَليّ رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، أَنا ورجلان: رجل منا وَرجل من بني إسد،
أحسبد فبعثهما عَليّ بعثاً وَقَالَ: إنَّكُمَا علجان
فعالجان عَن دينكما، ثمَّ قَامَ فَدخل الْمخْرج، ثمَّ خرج
فَدَعَا بِمَاء فَأخذ مِنْهُ حفْنَة فتمسح بهَا ثمَّ جعل
يقْرَأ الْقُرْآن، فأنكروا ذَلِك، فَقَالَ: (إِن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَجِيء من الْخَلَاء
فيقرإ بِنَا الْقُرْآن وَيَأْكُل مَعنا اللَّحْم لَا يحجزه
عَن الْقُرْآن شَيْء لَيْسَ الْجَنَابَة) . فَإِن قلت: ذكر
الْبَزَّار أَنه لَا يرْوى عَن عَليّ إلاَّ حَدِيث عَمْرو
بن مرّة عَن عبد الله بن سَلمَة، وَحكى البُخَارِيّ: عَن
عَمْرو بن مرّة، كَانَ عبد الله، يَعْنِي ابْن سَلمَة
يحدثنا، فتعرق وتنكر، وَكَانَ قد كبر وَلَا يُتَابع فِي
حَدِيثه، وَذكر الشَّافِعِي هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ:
وَإِن لم يكن أهل الحَدِيث يثبتونه. وَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ: وَإِنَّمَا توقف الثَّانِي فِي ثُبُوت
هَذَا الحَدِيث لِأَن مَدَاره على عبد الله بن سَلمَة
الْكُوفِي، وَكَانَ قد كبر وَأنكر من حَدِيث وعقله بعض
النكرَة، وَإِنَّمَا روى هَذَا الحَدِيث بعد كبر. قَالَه
شُعْبَة، وَذكر الْخطابِيّ أَن الإِمَام أَحْمد كَانَ يوهن
حَدِيث عَليّ هَذَا، ويضعف أَمر عبد الله بن سَلمَة وَذكره
ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الضُّعَفَاء والمتروكين) وَقَالَ
النَّسَائِيّ: يعرف وينكر. قلت: التِّرْمِذِيّ لما أخرجه
قَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَصَححهُ ابْن حبَان أَيْضا،
وَقَالَ الْحَاكِم فِي عبد الله بن سَلمَة، أَنه غير مطعون
فِيهِ. وَقَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ ثِقَة. وَقَالَ ابْن
عدي: أَرْجُو أَنه لَا بَأْس بِهِ. قَوْله: لَا يحجزه،
بالزاي الْمُعْجَمَة، أَي: لَا يمنعهُ ويروى، بالراء
الْمُهْملَة، بِمَعْنَاهُ ويروي: لَا يَحْجُبهُ،
بِمَعْنَاهُ أَيْضا. وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عرم، أخرجه
التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش
عَن مُوسَى بن عقبَة عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يقْرَأ الْحَائِض
وَلَا الْجنب شَيْئا من الْقُرْآن) ، وَضعف هَذَا الحَدِيث
بِإِسْمَاعِيل بن عَيَّاش قَالَ الْبَيْهَقِيّ: رِوَايَته
عَن أهل الْحجاز ضَعِيفَة لَا يحْتَج بهَا، قَالَه أَحْمد
وَيحيى وَغَيرهمَا من الْحفاظ. وَمِنْهَا: حَدِيث جَابر،
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث مُحَمَّد
بن الْفضل عَن أَبِيه عَن طَاوُوس عَن جَابر مَرْفُوعا
نَحوه، وَرَوَاهُ ابْن عدي فِي (الْكَامِل) وَأعله
بِمُحَمد بن الْفضل وَأَغْلظ فِي تَضْعِيفه عَن
البُخَارِيّ وَالنَّسَائِيّ وَأحمد وَابْن معِين. قلت:
وَرُبمَا يعتضدان بِحَدِيث عَليّ الْمَذْكُور، وَلم يَصح
عَن البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث، فَلذَلِك ذهب
إِلَى جَوَاز قِرَاءَة الْجنب وَالْحَائِض أَيْضا
وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِمَا صَحَّ عِنْده وَعند غَيره من
حَدِيث عَائِشَة الَّذِي رَوَاهُ مُسلم الَّذِي ذكر عَن
قريب، قَالَ الطَّبَرِيّ فِي (كتاب التَّهْذِيب) الصَّوَاب
أَن مَا رُوِيَ عَنهُ عَلَيْهِ، الصَّلَاة وَالسَّلَام، من
ذكر الله على كل أحيائه وَأَنه كَانَ يقْرَأ مَا لم يكن
جنبا أَن قِرَاءَته طَاهِرا اخْتِيَار مِنْهُ لأَفْضَل
الْحَالَتَيْنِ
(3/275)
وَالْحَالة الْأُخْرَى أَرَادَ تَعْلِيم
الْأمة، وَأَن ذَلِك جَائِز لَهُم، غير مَحْظُور عَلَيْهِم
ذكر الله وَقِرَاءَة الْقُرْآن.
305 - حدّثنا أبُو نُعَيمؤغ قالَ حدّثنا عَبْدُ العَزِيرِ
بنُ أبي سَلَمَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ القاسِمِ
عَنْ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ
خَرَجْنَا مَعَ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لاَ
نَذْكُرُ إلاَّ الحَجُّ فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طمِثْتِ
فَدَخَلَ عَلَيَّ النَّبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأنَا
أَبْكِي فقالَ مَا يُبْكِيكِ قُلْتُ لَوَدِدْتُ واللَّهِ
أنِّي لَمْ أَحُجَّ العامَ قالَ لَعَلَّكِ نُفِسْتِ قُلْتُ
نَعَمْ قالَ فإنَّ ذَلِكِ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى
بَنَاتِ آدَمَ فَافْعَلِي مَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غَيْرَ
أَنْ لاَ تَطُوفِي بالبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي. .
هَذَا الحَدِيث قد تقدم فِي أول كتاب الْحيض عَن عَليّ بن
عبد الله الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان عَن عبد الرَّحْمَن بن
الْقَاسِم عَن الْقَاسِم، وَأخرجه أَيْضا فِي الْأَضَاحِي
عَن قُتَيْبَة وَعَن مُسَدّد، وشرحناه هُنَاكَ
مُسْتَوْفِي.
قَوْله: (سرف) بِفَتْح السِّين وَكسر الرَّاء اسْم موع
بِالْقربِ من مَكَّة قَوْلهَا: (طمثت) بِفَتْح الْمِيم
وَكسرهَا: أَي حِضْت.
8 - (بابُ الاسْتِحَاضَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الِاسْتِحَاضَة، وَهِي
جَرَيَان دم الْمَرْأَة من فرجهَا فِي غير أَوَانه، وَيخرج
من عرق يُقَال لَهُ: العاذل، بِالْعينِ الْمُهْملَة.
والذال الْمُعْجَمَة.
والمناسبة بَين الْبَابَيْنِ ظَاهِرَة، لِأَن الْحيض
والاستحاضة من أَحْكَام الْمَرْأَة.
306 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ قالَ أخبرنَا
مالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنُ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عَنْ
عائِشَةَ أنَّها قالَتْ قالَتْ فاطِمَةُ بِنْتُ أبي
حُبَيْشٍ لرسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَا
رَسُولَ اللَّهِ إنِّي لَا أَطْهُرُ أفَأَدَعُ الصَّلاةَ
فقالَ رسولِ اللَّهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّمَا
ذَلِكَ عِرْقٌ وَلَيْسَ بالحَيْضَةِ فإذَا أَقْبَلَتِ
الحَيْضَةُ فَاتْرُكِي الصَّلاَةَ فَإذَا ذَهَبَ قَدْرُها
فاغْسُلِي عَنْكِ الدَّمَ وَصلِّي. .
مُطَابقَة للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَنَّهُ غب حكم
الِاسْتِحَاضَة، وَمر هَذَا الحَدِيث فِي بَاب غسل الدَّم،
وَصرح فِيهِ بالاستحاضة، وَذَلِكَ فِي رِوَايَة أبي
مُعَاوِيَة عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن
عَائِشَة، قَالَت: (جَاءَت فَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت (يَا رَسُول
الله إِنِّي أمْرَأَة استحاض فَلَا أطهر، أفأدع
الصَّلَاة؟) الحَدِيث.
رِجَاله قد تقدمُوا مرَارًا. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة
الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، والإخبار كَذَلِك، وَفِيه:
العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَهِشَام بن عُرْوَة بن
الزبير، وحبيش، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي آخِره
شين مُعْجمَة، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب
غسل الدَّم، وَنَذْكُر هَاهُنَا غير مَا ذكرنَا هُنَاكَ.
قَوْله: (وَصلى) أَي: بعد الِاغْتِسَال، كَمَا سَيَأْتِي
التَّصْرِيح بِهِ فِي بَاب إِذا حَاضَت فِي شهر ثَلَاث
حيض، وَفِي لفظ: (فدعي الصَّلَاة قدر الإيام الَّتِي كنت
تحيضين فِيهَا) وَفِي رِوَايَة ابْن مَنْدَه من جِهَة
مَالك: (دعِي الصَّلَاة قدر الْأَيَّام الَّتِي كنت تحيضين
فِيهَا، ثمَّ اغْتَسِلِي وَصلي) وَفِي لفظ: (ثمَّ توضىء
لكل صَلَاة) وَعند أبي دَاوُد من حَدِيث عَائِشَة: (أَن أم
حَبِيبَة بنت جحش استحيضت سبع سِنِين، فاستففت النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك فَقَالَ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن هَذِه لَيست بالحيضة،
وَلَكِن هَذَا عرف فاغتسلي وَصلي، وَكَانَت تَغْتَسِل فِي
مركن فِي حجرَة أُخْتهَا زَيْنَب بنت جحش حَتَّى تعلو
حمرَة الدَّم على المَاء) وَعِنْده أَيْضا من حَدِيث
عَائِشَة: (أَن سهلة بنت سُهَيْل استحيضت، فَاتَت النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأمرهَا أَن تَغْتَسِل عِنْد كل
صَلَاة، فَلَمَّا جهدها ذلكأمرها أَن تجمع بَين الظّهْر
وَالْعصر بِغسْل، وَالْمغْرب وَالْعشَاء بِغسْل وتغتسل
للصبح) وَعِنْده من حَدِيث عَائِشَة أَيْضا قَالَت:
(أستحيضت امْرَأَة على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَأمرت أَن تعجل الْعَصْر وتؤخر الظّهْر وتغتسل
لَهما غسلا، وَأَن تُؤخر الْمغرب وتعجل الْعشَاء وتغتسل
لَهما غسلا وتغتسل لصَلَاة الصُّبْح) وَعِنْده من حَدِيث
عَائِشَة فِي الْمُسْتَحَاضَة: (تَغْتَسِل مرّة وَاحِدَة
ثمَّ تتوضأ
(3/276)
إِلَى أَيَّام اقرائها) وَفِي لفظ: [حم (فاجتنبي
الصَّلَاة، أثر محيضك ثمَّ اغْتَسِلِي وتوضئي، لكل صَلَاة،
وَإِن قطر الدَّم على الْحَصِير) [/ حم وَعند أبي عوَانَة
الإسفرائني [حم (فَإِذا ذهب قدرهَا فاغسلي عَنْك الدَّم)
[/ حم وَعند التِّرْمِذِيّ مصححاً. [حم (توضئي لكل صَلَاة
حَتَّى يَجِيء ذَلِك الْوَقْت) [/ حم وَعند
الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فَإِذا أَقبلت الْحَيْضَة فلندع
الصَّلَاة، وَإِذا أَدْبَرت فلتغتسل ولتتوضأ لكل صَلَاة)
وَعند الطَّحَاوِيّ مَرْفُوعا: (فاغتسلي لطهرك وتوضئي
عِنْد كل صَلَاة) وَعند الدَّارمِيّ: [حم (فَإِذا ذهب
قدرهَا فاغسلي عَنْك الدَّم وتوضئي وَصلي) [/ حم قَالَ
هِشَام: وَكَانَ أبي يَقُول: تَغْتَسِل غسل الأول، ثمَّ
مَا يكون بعد ذَلِك فَإِنَّهَا تطهر وَتصلي، وَعند أَحْمد:
[حم (اغْتَسِلِي وتوضئي لكل صَلَاة وَصلي) [/ حم وَقَالَ
الشَّافِعِي: ذكر الْوضُوء عندنَا غير مَحْفُوظ، وَلَو
كَانَ مَحْفُوظًا لَكَانَ أحب إِلَيْنَا من الْقيَاس وَفِي
(التَّمْهِيد) رَوَاهُ أَبُو حنيفَة عَن هِشَام مَرْفُوعا
كَرِوَايَة يحيى عَن هِشَام سَوَاء، قَالَ فِيهِ: (وتوضئي
لكل صَلَاة) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ حَمَّاد ابْن سَلمَة عَن
هِشَام مثله، وَحَمَّاد فِي ثِقَة ثَبت.
وَاعْلَم أَن وَطْء الْمُسْتَحَاضَة جَائِز فِي حَال
جَرَيَان الدَّم عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء، حَكَاهُ ابْن
الْمُنْذر، وَعَن ابْن عَبَّاس وَابْن الْمسيب وَالْحسن
وَعَطَاء وَسَعِيد بن جُبَير وَقَتَادَة وَحَمَّاد بن أبي
سُلَيْمَان وَبكر الْمُزنِيّ وَالْأَوْزَاعِيّ
وَالثَّوْري، وَكَانَ زَوجهَا يَأْتِيهَا، قَالَ ابْن
الْمُنْذر: وروينا عَن عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: لَا
يَأْتِيهَا زَوجهَا، وَبِه قَالَ النَّخعِيّ وَالْحكم
وَسليمَان ابْن يسَار وَالزهْرِيّ وَالشعْبِيّ وَابْن
عَلَيْهِ وَكَرِهَهُ ابْن سِيرِين، وَقَالَ أَحْمد لَا
يَأْتِيهَا إلاَّ أَن يطول ذَلِك بهَا، وَفِي رِوَايَة:
لَا يجوز وَطْؤُهَا إلاَّ أَن يخَاف زَوجهَا الْعَنَت،
وَعَن مَنْصُور، تَصُوم وَلَا يَأْتِيهَا زَوجهَا وَلَا
تمس الْمُصحف وَتصلي مَا شَاءَت من الْفَرَائِض والنوافل.
وَفِي وَجه للشَّافِعِيَّة: لَا تستبيح النَّافِلَة أصلا،
وَمذهب الشَّافِعِي: أَنَّهَا لَا تصلي بِطَهَارَة
وَاحِدَة أَكثر من فَرِيضَة وَاحِدَة مُؤَدَّاة أَو مقضية
وَحكي ذَلِك عَن عُرْوَة وَالثَّوْري وَأحمد وَأبي ثَوْر،
وَقَالَ أَبُو حنيفَة طَهَارَتهَا مقدرَة فِي الْوَقْت
فَتُصَلِّي فِي الْوَقْت بطهارتها الْوَاحِدَة مَا شَاءَت،
وَقَالَ مَالك وَرَبِيعَة وَأَبُو دَاوُد: دم
الِاسْتِحَاضَة لَا ينْقض الْوضُوء فَإِذا طهرت فلهَا أَن
تصلي بطهارتها مَا شَاءَت من الْفَرَائِض والنوافل إلاَّ
أَن تحديث بِغَيْر الِاسْتِحَاضَة، وَيصِح وضؤوها لفريضة
قبل دُخُول وَقتهَا، خلافًا للشَّافِعِيّ، وَلَا يجب
عَلَيْهَا الِاغْتِسَال لشَيْء من الصَّلَاة وَلَا فِي
وَقت من الْأَوْقَات إلاَّ مرّة وَاحِدَة إلاَّ فِي وَقت
انْقِطَاع حَيْضهَا، وَبِه قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء،
وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس
وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ قَول
عُرْوَة وَأبي سَلمَة وَمَالك وَأبي حنيفَة وَأحمد.
وَرُوِيَ عَن ابْن عمر وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَابْن
الزبير أَنهم قَالُوا: يجب عَلَيْهَا أَن تَغْتَسِل لكل
صَلَاة، وَرُوِيَ أَيْضا عَن عَليّ وَابْن عَبَّاس وَعَن
عَائِشَة أَنَّهَا قَالَت: تَغْتَسِل كل يَوْم غسلا
وَاحِدًا وَعَن ابْن الْمسيب وَالْحسن، تَغْتَسِل من
صَلَاة الظّهْر إِلَى صَلَاة الظّهْر.
فَائِدَة: كَانَ فِي زمن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم جمَاعَة من النِّسَاء مستحاضات، مِنْهُنَّ: أم
حَبِيبَة بنت جحش وَسَيَأْتِي حَدِيثهَا وَزَيْنَب أم
الْمُؤمنِينَ وَأَسْمَاء أُخْت مَيْمُونَة لأمها
وَفَاطِمَة بنت أبي حُبَيْش، وَحمْنَة بنت جحش، ذكرهَا
أَبُو دَاوُد، وسهلة بنت سُهَيْل ذكرهَا أَيْضا، وَكَذَا
زَيْنَب بنت جحش وَسَوْدَة بنت زَمعَة ذكرهَا الْعَلَاء بن
الْمسيب عَن الحكم عَن أبي جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ
بن حُسَيْن، وَزَيْنَب بنت أم سَلمَة ذكرهَا
الْإِسْمَاعِيلِيّ فِي جمعه لحَدِيث يحيى بن أبي كثير،
وَأَسْمَاء بنت مرشد الحارثية ذكرهَا الْبَيْهَقِيّ،
وبادية بنت غيلَان، ذكرهَا ابْن الْأَثِير. قلت: هِيَ
الثقفية الَّتِي قَالَ عَنْهَا: هيت المخنث: تقبل
بِأَرْبَع وتدبر بثمان، تزَوجهَا عبد الرَّحْمَن بن عَوْف،
وأبوها أسلم وَتَحْته عشرَة نسْوَة. |