عمدة القاري شرح صحيح البخاري

84 - (بابٌ هَلْ تُنْبَشُ قُبُورُ مُشْرِكِي الجَاهِليَّةِ وَيُتَّخَذُ مَكانُهَا مَسَاجِدَ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ نبش قُبُور الْمُشْركُونَ الَّذين هَلَكُوا فِي الْجَاهِلِيَّة، يَعْنِي: يجوز ذَلِك لما صرح بِهِ فِي حَدِيث الْبَاب فَإِن قلت: كَيفَ يُفَسر كَذَلِك وَفِيه كلمة: هَل، للاستفهام؟ قلت: هَل هُنَا للاستفهام التقريري، وَلَيْسَ بإستفهام حَقِيقِيّ صرح بذلك جمَاعَة من الْمُفَسّرين، وَقَوله تَعَالَى: {هَل أَتَى على الْإِنْسَان} (الْإِنْسَان: 1) وَيَأْتِي: هَل، أَيْضا بِمَعْنى: قد كَذَا فسر الْآيَة جمَاعَة، مِنْهُم ابْن عَبَّاس وَالْكسَائِيّ وَالْفراء والمبرد، وَذكر فى (المقتضب) هَل للاستفهام نَحْو: هَل جَاءَ زيد؟ وَتَكون بِمَنْزِلَة: قد، نَحْو قَوْله تَعَالَى: {هَل اتى على الْإِنْسَان} (الْإِنْسَان: 1) وَقد بَالغ الزَّمَخْشَرِيّ فَزعم أَنَّهَا أبدا بِمَعْنى: قد وَإِنَّمَا الِاسْتِفْهَام مُسْتَفَاد من همزَة مقدرَة مَعهَا، وَنَقله فِي (الْمفصل) عَن سِيبَوَيْهٍ، وَقَالَ فِي (الْكَشَّاف) : {هَل أَتَى} (الْإِنْسَان: 1) أَي: قد أَتَى، على معنى التَّقْرِير والتقريب فِيهِ جَمِيعًا، وَمن عكس الزَّمَخْشَرِيّ هَهُنَا فقد عكس نَفسه:

(4/171)


(إِذا قَالَت حذام فصدقوها ... فَإِن القَوْل مَا قَالَت حذام)

وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا أحسن من الَّذِي يُقَال: إِن ذكر كلمة: هَل، هَهُنَا لَيْسَ لَهُ مَحل، لِأَن عَادَته إِنَّمَا يذكر: هَل، إِذا كَانَ حكم الْبَاب فِيهِ خلاف، وَلَيْسَ هَهُنَا خلاف، وَلم أَرَ شارحاً هُنَا شفى العليل وَلَا أروى الغليل، وَقد فسر بَعضهم بَاب: هَل تنبش قُبُور مُشْركي الْجَاهِلِيَّة؟ بقوله: أَي: دون غَيرهَا من قُبُور الْأَنْبِيَاء وأتباعهم، قلت: هَذَا تَفْسِير عَجِيب مُسْتَفَاد من سوء التَّصَرُّف، لِأَن مَعْنَاهُ ظَاهر، وَهُوَ جَوَاز نبش قُبُور الْمُشْركين لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُم فيستفاد مِنْهُ عدم جَوَاز نبش قُبُور غَيرهم سَوَاء كَانَت قُبُور الْأَنْبِيَاء أَو قُبُور غَيرهم من الْمُسلمين لما فِيهِ من الإهانة لَهُم، فَلَا يجوز ذَلِك، لِأَن حُرْمَة الْمُسلم لَا تَزُول حَيا وَمَيتًا، فَإِن كَانَ هَذَا الْقَائِل اعْتمد فِي هَذَا التَّفْسِير على حَدِيث عَائِشَة الْمَذْكُور فِي الْبَاب، فَلَيْسَ فِيهِ ذكر النبش وَهُوَ ظَاهر، وانما فِيهِ أَنهم إِذا مَاتَ فيهم رجل صَالح يبنون على قَبره مَسْجِدا ويصورون فِيهِ تصاوير، وَلَا يلْزم من ذَلِك النبش، لِأَن بِنَاء الْمَسْجِد على الْقَبْر من غير نبش مُتَصَوّر. قَوْله: (ويتخذ مَكَانهَا مَسَاجِد) عطف على قَوْله: (تنبش) و: (مَكَانهَا) مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة. و: (مَسَاجِد) ، مَرْفُوع لِأَنَّهُ مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَهَذَا الْوَجْه إِذا جعل الإتخاذ مُتَعَدِّيا إِلَى مفعول وَاحِد، وَأما إِذا جعل مُتَعَدِّيا إِلَى مفعولين على مَا هُوَ الأَصْل، لِأَنَّهُ من أَفعَال التصيير كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَاتخذ اإبراهيم خَلِيلًا} (النِّسَاء: 521) فَيكون أحد المفعولين: مَكَانهَا، فحينئذٍ يرفع على أَنه مفعول بِهِ قَامَ مقَام الْفَاعِل، بِخِلَاف الْوَجْه الأول فَإِنَّهُ فِيهِ مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة، كَمَا ذكرنَا، وَالْمَفْعُول الثَّانِي هُوَ: مَسَاجِد بِالنّصب. فَإِنَّهُم. فَإِن الْكرْمَانِي ذكر فِيهِ مَا لَا يَخْلُو عَن نظر وَتَأمل.
لَقْولِ النبيِّ: (لَعَنَ االيَهُودَ اتَّخَذُوا قُبُورَ أْنبِيَائِهمْ مَسَاجِدَ)
هَذَا تَعْلِيل قَوْله: (ويتخذ مَكَانهَا مَسَاجِد) ، خَاصَّة لِأَن التَّرْجَمَة شَيْئَانِ وَالتَّعْلِيل للشق الثَّانِي.
وَجه الِاسْتِدْلَال بِهِ أَن الْيَهُود لما خصوا باللعنة باتخاذهم قُبُور الْأَنْبِيَاء مَسَاجِد علم جَوَاز اتِّخَاذ قُبُور غَيرهم وَمن هم فِي حكمهم من الْمُسلمين. فَإِن قلت: أَلَيْسَ فِي اتِّخَاذ قُبُور الْمُشْركين مَسَاجِد تَعْظِيم لَهُم؟ قلت: لَا يسْتَلْزم ذَلِك، لِأَنَّهُ إِذا نبشت قُبُورهم ورميت عظامهم تصير الأَرْض طَاهِرَة، مِنْهُم، وَالْأَرْض كلهَا مَسْجِد، لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي آخر كتاب الْجَنَائِز فِي بَاب مَا جَاءَ فِي قبر النَّبِي، حدّثنا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حدّثنا أَبُو عوَانَة عَن هِلَال عَن عُرْوَة: (عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا، قَالَت: قَالَ رَسُول الله فِي مَرضه الَّذِي لم يقم مِنْهُ: لعن االيهود وَالنَّصَارَى اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد) ، الحَدِيث. وَأخرجه أَيْضا فِي مَوَاضِع أخر فِي الْجَنَائِز، وَفِي الْمَغَازِي أَيْضا عَن الصَّلْت بن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد.
ومَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاَةِ فِي القُبُورِ
هَذَا عطف على قَوْله: (هَل تنبش) ، لَا يُقَال: إِن هَذِه جملَة خبرية وَقَوله: هَل تنبش، طلبية، فَكيف يَصح عطفها عَلَيْهَا؟ لأَنا نقُول: قد ذكرنَا أَن: هَل اسْتِفْهَام تقريري، وَهُوَ فِي حكم الْجُمْلَة الخبرية الثبوتية مثلهَا، وَقَوله هَذَا يتَنَاوَل مَا إِذا صلى على الْقَبْر أَو إِلَيْهِ أَو بَينهمَا، وَفِيه حَدِيث أبي مرْثَد، واسْمه كناز بن الْحصين. وَأخرجه مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ: بِلَفْظ: (لَا تجلسوا على الْقُبُور وَلَا تصلوا إِلَيْهَا) ، وروى التِّرْمِذِيّ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (الأَرْض كلهَا مَسْجِد إلاَّ الْمقْبرَة وَالْحمام) .
وَرَأى عُمَرُ أنَسَ بنَ مالِكٍ يُصَلِّي عِنْدَ قَبْر فَقَالَ القَبْرَ القَبْرَ وَلَمْ يَأْمُرْهُ بِالإِعادَةِ.
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ وَكِيع بن الْجراح فِي مُصَنفه فِيمَا حَكَاهُ ابْن حزم عَن سُفْيَان بن سعيد عَن حميد (عَن أنس قَالَ: رَآنِي عمر، رَضِي اتعالى عَنهُ، أُصَلِّي إِلَى قبر، فنهاني، فَقَالَ: الْقَبْر أمامك) . قَالَ: وَعَن معمر عَن ثَابت (عَن أنس قَالَ: رَآنِي عمر أُصَلِّي عِنْد قبر فَقَالَ لي: الْقَبْر، لَا تصلي إِلَيْهِ. قَالَ ثَابت: فَكَانَ أنس يَأْخُذ بيَدي إِذا أَرَادَ أَن يُصَلِّي فيتنحى عَن الْقُبُور) . وَرَوَاهُ أَبُو نعيم شيخ البُخَارِيّ عَن حُرَيْث بن السَّائِب، قَالَ: سَمِعت الْحسن يَقُول: (بَينا أنس، رَضِي اتعالى عَنهُ، يُصَلِّي إِلَى قبر فناداه عمر: الْقَبْر الْقَبْر، وَظن أَنه يَعْنِي الْقَمَر، فَلَمَّا رأى أَنه يَعْنِي الْقَبْر تقدم وَصلى وَجَاز الْقَبْر) . قَوْله: (الْقَبْر الْقَبْر) ، مَنْصُوب على التحذير، يجب حذف عَامله وَهُوَ: إتق، أَو اجْتنب. وَفِي بعض الرِّوَايَة بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام. أَي: أَتُصَلِّي عِنْد الْقَبْر؟ قَوْله: (وَلم يَأْمُرهُ بِالْإِعَادَةِ)

(4/172)


أَي: لم يَأْمر عمر أنسا بِإِعَادَة صلَاته تِلْكَ، فَدلَّ على أَنه يجوز وَلَكِن يكره.
وَاعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي جَوَاز الصَّلَاة على الْمقْبرَة، فَذهب أَحْمد إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَلم يفرق بَين المنبوشة وَغَيرهَا، وَلَا بَين أَن يفرش عَلَيْهَا شَيْء يَقِيه من النَّجَاسَة أم لَا، وَلَا بَين أَن تكون بَين الْقُبُور أَو فِي مَكَان مُنْفَرد عَنْهَا، كالبيت والعلو، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: لَا يصلى فِي حمام وَلَا مَقْبرَة على ظَاهر الحَدِيث، يَعْنِي قَوْله: (الأَرْض كلهَا مَسْجِد إِلَّا الْمقْبرَة وَالْحمام) . وَذهب الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالْأَوْزَاعِيّ إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَفرق الشَّافِعِي بَين الْمقْبرَة المنبوشة، وَغَيرهَا فَقَالَ: إِذا كَانَت مختلطة التُّرَاب بلحوم الْمَوْتَى وصديدهم وَمَا يخرج مِنْهَا لم يجز الصَّلَاة فِيهَا للنَّجَاسَة، فَإِن صلى رجل فِي مَكَان طَاهِر مِنْهَا أَجْزَأته صلَاته. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: أما الْمقْبرَة فَالصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة بِكُل حَال، وَلم ير مَالك بِالصَّلَاةِ فِي الْمقْبرَة بَأْسا، وَحكى أَبُو مُصعب عَن مَالك كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة كَقَوْل الْجُمْهُور، وَذهب أهل الظَّاهِر إِلَى تَحْرِيم الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، سَوَاء كَانَت مَقَابِر الْمُسلمين أَو الْكفَّار، وَحكى ابْن حزم عَن خَمْسَة من الصَّحَابَة النَّهْي عَن ذَلِك وهم: عمر وَعلي وَأَبُو هُرَيْرَة وَأنس وَابْن عَبَّاس، رَضِي اتعالى عَنْهُم. وَقَالَ: مَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، وَحَكَاهُ عَن جمَاعَة من التَّابِعين إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَنَافِع بن جُبَير بن مطعم وَطَاوُس وَعَمْرو بن دِينَار وخيثمة وَغَيرهم.
قلت: قَوْله: لَا نعلم لَهُم مُخَالفا من الصَّحَابَة، معَارض بِمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ فِي (معالم السّنَن) عَن عبد اللَّه بن عمر أَنه رخص فِي الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، وَحكي أَيْضا عَن الْحسن الْبَصْرِيّ أَنه صلى فِي الْمقْبرَة. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : حكى أَصْحَابنَا اخْتِلَافا فِي الْحِكْمَة فِي النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْمقْبرَة، فَقيل: الْمَعْنى فِيهِ مَا تَحت مُصَلَّاهُ من النَّجَاسَة، وَقد قَالَ الرَّافِعِيّ: لَو فرش فِي المجزرة والمزبلة شَيْئا وَصلى عَلَيْهِ صحت صلَاته، وَبقيت الْكَرَاهِيَة لكَونه مُصَليا على نَجَاسَة وَإِن كَانَ بَينهمَا حَائِل، وَقَالَ القَاضِي حُسَيْن: إِنَّه لَا كَرَاهَة مَعَ الْفرش على النَّجَاسَة مُطلقًا. وَحكى ابْن الرّفْعَة فِي (الْكِفَايَة) : أَن الَّذِي دلّ عَلَيْهِ كَلَام القَاضِي: أَن الْكَرَاهَة لحُرْمَة الْمَوْتَى، وعَلى كل تَقْدِير من هذَيْن الْمَعْنيين، فَيَنْبَغِي أَن تقيد الْكَرَاهَة بِمَا إِذا حَاذَى الْمَيِّت، أما إِذا وقف بَين الْقُبُور بِحَيْثُ لَا يكون تَحْتَهُ ميت وَلَا نَجَاسَة فَلَا كَرَاهَة، إِلَّا أَن ابْن الرّفْعَة بعد أَن حكى الْمَعْنيين السَّابِقين قَالَ: لَا فرق فِي الْكَرَاهَة بَين أَن يُصَلِّي على الْقَبْر أَو بجانبه. أَو إِلَيْهِ، قَالَ: وَمِنْه يُؤْخَذ أَنه: تكره الصَّلَاة بِجَانِب النَّجَاسَة وَخَلفهَا.

72488 - حدّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدّثنا يَحْيَى عنْ هِشَامٍ قَالَ أخبرنِي أبي عنْ عائِشَةَ أنَّ أُمَّ حَبِيبَةَ وأُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتَا كَنِيسَةً رَأَيْنَهَا بِالحَبَشَةِ فِيهَا تَصَاوِيرُ فَذَكَرَتَا ذَلِكَ للنَّبيِّ فَقَالَ إنَّ أُولَئِكِ إذَا كانَ فِيهِمُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَمَاتَ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِداً وَصَوَّرُوا فيهِ تَلْكَ الصُّوَرَ فأُولَئِكِ شِرَارُ الخَلْقِ عِنْدَ ايَوْمَ القِيَامَةِ. (الحَدِيث 724 أَطْرَافه فِي: 434، 1431، 8783) .

وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لعن االيهود) ، من حَيْثُ إِنَّه يُوَافقهُ، وَذَلِكَ أَنه لعن الْيَهُود لكَوْنهم اتَّخذُوا قُبُور أَنْبِيَائهمْ مَسَاجِد، وَفِي هَذَا الحَدِيث ذمّ النَّصَارَى بِشَيْء أعظم من اللَّعْن فِي كَونهم كَانُوا إِذا مَاتَ الرجل الصَّالح فيهم بنوا على قَبره مَسْجِدا وصوروا فِيهِ تصاوير.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى، بِفَتْح النُّون الْمُشَدّدَة بعد الثَّاء الْمُثَلَّثَة. الثَّانِي: يحيى بن سعيد الْقطَّان. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة. الرَّابِع: أَبوهُ عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ. رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من هَذَا الْوَجْه: أَخْبَرتنِي عَائِشَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هِجْرَة الْحَبَشَة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَأَيْضًا أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَالنَّسَائِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، ثَلَاثَتهمْ عَن يحيى بن سعيد بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن أم حَبِيبَة) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة أم الْمُؤمنِينَ اسْمهَا: رَملَة، بِفَتْح الرَّاء على الْأَصَح بنت أبي سُفْيَان صَخْر الأموية، هَاجَرت مَعَ زَوجهَا عبد اللَّه بن جحش، بِتَقْدِيم الْجِيم على الْحَاء الْمُهْملَة إِلَى الْحَبَشَة، فَتوفي هُنَاكَ فَتَزَوجهَا رَسُول الله وَهِي هُنَاكَ سنة سِتّ من الْهِجْرَة، وَكَانَ النَّجَاشِيّ أمهرها من عِنْده عَن رَسُول ا، وبعثها إِلَيْهِ، وَكَانَت من السابقات إِلَى الْإِسْلَام، توفيت سنة أَربع وَأَرْبَعين بِالْمَدِينَةِ على الْأَصَح. قَوْله: (وَأم سَلمَة) ، فتح اللَّام،

(4/173)


أم الْمُؤمنِينَ أَيْضا، وَاسْمهَا: هِنْد، على الْأَصَح، بنت أبي أُميَّة المخزومية، هَاجر بهَا زَوجهَا أَبُو سَلمَة إِلَى الْحَبَشَة، فَلَمَّا رجعا إِلَى الْمَدِينَة مَاتَ زَوجهَا فَتَزَوجهَا رَسُول ا، تقدّمت فِي بَاب العظة بِاللَّيْلِ. قَوْله: (ذكرتا) ، بِلَفْظ التَّثْنِيَة للمؤنث من الْمَاضِي، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: أم حَبِيبَة وَأم سَلمَة، وَهُوَ على الْأَصَح فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (ذكرا) ، بالتذكير وَهُوَ على خلاف الأَصْل، وَالْأَظْهَر أَنه من النساخ أَو من بعض الروَاة غير المميزين. قَوْله: (كَنِيسَة) بِفَتْح الْكَاف، وَهِي معبد النَّصَارَى. وَفِي مَوضِع آخر: يُقَال لَهَا مَارِيَة، والمارية بتَخْفِيف الْيَاء: الْبَقَرَة، وبتشديدها: القطاة الملساء. قَوْله: (رأينها) ، بِصِيغَة جمع الْمُؤَنَّث من الْمَاضِي، وَإِنَّمَا جمع بِاعْتِبَار من كَانَ مَعَ أم حَبِيبَة وَأم سَلمَة، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والأصيلي: (رأتاها) ، على الأَصْل بضمير التَّثْنِيَة. قَوْله: (فِيهَا تصاوير) جملَة إسمية فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة كَنِيسَة، والتصاوير: التماثيل. قَوْله: (إِن أُولَئِكَ) ، بِكَسْر الْكَاف وَيجوز فتحهَا. قَوْله: (فَمَاتَ) ، عطف على قَوْله: (كَانَ) . قَوْله: (بنوا) جَوَاب: إِذا. قَوْله: (تيك الصُّور) بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بدل اللَّام فِي: تِلْكَ، وَهِي لُغَة فِيهِ، وَهِي فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَفِي رِوَايَة غَيره: (تِلْكَ) .
قَوْله: (فَأُولَئِك) ، ويروى: (وَأُولَئِكَ) ، بِالْوَاو، وَالْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي: أُولَئِكَ، الْمَاضِيَة. قَوْله: (شرار الْخلق) ، بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة جمع: الشَّرّ، كالخيار جمع الْخَيْر، والبحار جمع الْبَحْر، وَأما الأشرار فَقَالَ يُونُس: وَاحِدهَا شَرّ أَيْضا. وَقَالَ الْأَخْفَش: شرير، مثل: يَتِيم وأيتام. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِنَّمَا صور أوائلهم الصُّور ليأتنسوا بِرُؤْيَة تِلْكَ الصُّور ويتذكروا أفعالهم الصَّالِحَة فيجتهدون كاجتهادهم ويعبدون اعند قُبُورهم، ثمَّ خلف من بعدهمْ خلوف جهلوا مُرَادهم، ووسوس لَهُم الشَّيْطَان أَن أسلافكم كَانُوا يعْبدُونَ هَذِه الصُّور ويعظمونها فعبدوها، فحذر النَّبِي عَن مثل ذَلِك سداً للذريعة المؤدية إِلَى ذَلِك، وسداً للذرائع فِي قَبره، وَكَانَ ذَلِك فِي مرض مَوته إِشَارَة إِلَى أَنه من الْأَمر الْمُحكم الَّذِي لَا ينْسَخ بعده، وَلما احْتَاجَت الصَّحَابَة، رَضِي اتعالى عَنْهُم، والتابعون إِلَى زِيَادَة مَسْجده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام بنوا على الْقَبْر حيطاناً مُرْتَفعَة مستديرة حوله لِئَلَّا تصل إِلَيْهِ الْعَوام فَيُؤَدِّي إِلَى ذَلِك الْمَحْذُور، ثمَّ بنوا جدارين بَين ركني الْقَبْر الشمالي حرفوها حَتَّى التقيا حَتَّى لَا يُمكن أحد أَن يسْتَقْبل الْقَبْر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: نهي عَن اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد، وَعَن فعل التصاوير، وَإِنَّمَا نهى عَنهُ لاتخاذهم الْقُبُور والصور آلِهَة. وَفِيه: دَلِيل على تَحْرِيم تَصْوِير الْحَيَوَان خُصُوصا الْآدَمِيّ الصَّالح. وَفِيه: منع بِنَاء الْمَسَاجِد على الْقُبُور وَمُقْتَضَاهُ التَّحْرِيم، كَيفَ وَقد ثَبت اللَّعْن عَلَيْهِ؟ وَأما الشَّافِعِي وَأَصْحَابه فصرحوا بِالْكَرَاهَةِ، وَقَالَ الْبَنْدَنِيجِيّ: وَالْمرَاد أَن يسوى الْقَبْر مَسْجِدا فيصلى فَوْقه، وَقَالَ: إِنَّه يكره أَن يبْنى عِنْده مَسْجِد فيصلى فِيهِ إِلَى الْقَبْر، وَأما الْمقْبرَة الداثرة إِذا بني فِيهَا مَسْجِد ليصلى فِيهِ فَلم أر فِيهِ بَأْسا، لِأَن الْمَقَابِر وقف، وَكَذَا الْمَسْجِد، فمعناها وَاحِد. وَقد ذكرنَا عَن قريب مَذَاهِب الْعلمَاء فِي الصَّلَاة على الْقَبْر. وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ: لما كَانَت الْيَهُود وَالنَّصَارَى يَسْجُدُونَ لقبور الْأَنْبِيَاء تَعْظِيمًا لشأنهم، ويجعلونها قبْلَة يتوجهون فِي الصَّلَاة نَحْوهَا، واتخذوها أوثاناً لعنهم النَّبِي وَمنع الْمُسلمين عَن مثل ذَلِك، فَأَما من اتخذ مَسْجِدا فِي جوَار صَالح وَقصد التَّبَرُّك بِالْقربِ مِنْهُ لَا للتعظيم لَهُ وَلَا للتوجه إِلَيْهِ فَلَا يدْخل فِي الْوَعيد الْمَذْكُور. وَفِيه: جَوَاز حِكَايَة مَا يُشَاهِدهُ الْمَرْء من الْعَجَائِب، وَوُجُوب بَيَان حكم ذَلِك على الْعَالم بِهِ. وَفِيه: ذمّ فَاعل الْمُحرمَات. وَفِيه: أَن الِاعْتِبَار فِي الْأَحْكَام بِالشَّرْعِ لَا بِالْعقلِ.

82498 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَارِثِ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ قَالَ قَدِمَ النبيُّ المَدِينَةَ فَنَزَلَ أعْلَى المَدِينَةِ فِي حَيَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَمْرِو بنِ عَوْفٍ فَأَقامَ النبيُّ فِيهِمْ أرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً ثُمَّ أرْسَلَ إِلَى بَنِي النجَّارِ فَجَاؤُوا مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ كَأَنِّي أنْظُرُ إِلَيّ النبيِّ عَلى رَاحِلَتِهِ وأبُو بَكْر رِدْفُهُ وَمَلأَ بَني النجَّارِ حَوْلَهُ حَتَّى ألْقَى بِفِنَاءِ أبِي أيُّوبَ وَكَانَ يُحبُّ أَن يُصَلِّى حَيْثُ أدْرَكَتْهُ الصَّلاَةُ وَيُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنمِ وَأنَّهُ

(4/174)


أمَرَ بِبِنَاءِ المسْجِدِ فَأرْسَلَ إلَى مَلأٍ مِنْ بَنِي النَّجَّارِ فَقال يَا بَني النجَّارِ ثامِنونِي بِحَائِطِكُمْ هَذَا قَالُوا لاَ وَا لَا نَطْلُبُ ثَمَنَهُ إلاَّ إلَى افقال أنَسٌ فكانَ فِيهِ مَا أقُولُ لَكُمْ قُبُورُ الْمُشْركِينَ وَفِيهِ خِرَبٌ وَفِيهِ نَخْلٌ فَأَمَرَ النبيُّ بِقُبُورِ المْشرِكِينَ فَنُبِشَتْ ثُمَّ بِالخِرِبِ فَسُوِّيَتْ وبِالنَّخْلِ فَقُطِعَ فَصَفُّوا النَّخْلَ قِبْلَةَ المَسْجِدِ وَجَعَلوا عِضَادَتَيْهِ الحِجَارَةَ وَجعَلُوا يَنْقُلُونَ الصَّخْرَ وَهُمْ يَرْتَجِزُونَ والنبيُّ مَعَهْمُ وَهْوَ يَقُولُ:
اللَّهُمَّ لاَ خَيْر إلاَّ خَيْرُ الآخِرَه فَاغْفِرْ لِلاَّنْصَارِ والمهَاجِرَهْ.

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد التَّيْمِيّ. الثَّالِث: أَبُو التياح، بِفَتْح الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: واسْمه يزِيد بن حميد الضبغي، وَالْكل تقدمُوا. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف اسناده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ فِي الصَّلَاة فِي موضِعين من الْوَصَايَا، وَفِي هِجْرَة النَّبِي عَن مُسَدّد، وَفِي الْحَج عَن أبي معمر عبد اللَّه بن عَمْرو، وَفِي الْبيُوع عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي الْوَصَايَا عَن إِسْحَاق عَن عبد الصَّمد بن عبد الوراث، وَفِي الْهِجْرَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن الصَّمد. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى وشبيان بن فروخ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد بِهِ وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن حَمَّاد، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عمان ابْن مُوسَى عَن عبد الْوَارِث نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد بن وَكِيع عَن حَمَّاد بن سَلمَة بِبَعْضِه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قدم النَّبِي الْمَدِينَة) : قَالَ الْحَاكِم: تَوَاتَرَتْ الْأَخْبَار بورود النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، قبَاء يَوْم الْإِثْنَيْنِ لثمان خلون من ربيع الأول. وَقَالَ مُحَمَّد بن مُوسَى الْخَوَارِزْمِيّ، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس الرَّابِع من تيرماه، وَمن شهور الرّوم الْعَاشِرَة من أيلول سنة سَبْعمِائة وَثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ لذِي القرنين، وَقَالَ الْخَوَارِزْمِيّ: من حِين ولد إِلَى حِين أسرِي بِهِ: أحد وَخَمْسُونَ سنة وَسَبْعَة أشهر وَثَمَانِية وَعِشْرُونَ يَوْمًا، وَمِنْه إِلَى الْيَوْم الَّذِي هَاجر: سنة وشهران وَيَوْم، فَذَلِك ثَلَاث وَخَمْسُونَ سنة، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْخَمِيس. وَفِي (وطبقات ابْن سعد) : أَن رَسُول الله خرج من الْغَار لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ لأَرْبَع لَيَال خلون من شهر ربيع الأول، وَيُقَال: لِاثْنَتَيْ عشرَة لَيْلَة خلت من شهر ربيع الأول، فَنزل على كُلْثُوم بن هدم، وَهُوَ الْمُثبت عندنَا، وَذكر البرقي أَنه قدم الْمَدِينَة لَيْلًا، وَعَن جَابر: لما قدم الْمَدِينَة نحر جزوراً. قَوْله: (فَنزل أَعلَى المدنية) ويروى: فِي الْمَدِينَة، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَنزل فِي علو الْمَدِينَة) بِالضَّمِّ وَهِي الْعَالِيَة.
قَوْله: (فِي حَيّ) ، بتَشْديد الْيَاء وَهِي: الْقَبِيلَة، وَجَمعهَا أَحيَاء. قَوْله: (بَنو عَمْرو بن عَوْف) ، بِفَتْح الْعين فيهمَا، (فَأَقَامَ فيهم أَربع عشرَة لَيْلَة) ، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَكَذَا فِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن شَيْخه مُسَدّد، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (أَرْبعا وَعشْرين لَيْلَة) ، وَعَن الزُّهْرِيّ: أَقَامَ فيهم (بضع عشرَة لَيْلَة) . وَعَن عُوَيْمِر بن سَاعِدَة: (لبث فيهم ثَمَانِي عشرَة لَيْلَة ثمَّ خرج) قَوْله: (ثمَّ أرسل إِلَى بني النجار) ، وَبَنُو النجار هم بَنو تيم اللات بن ثَعْلَبَة بن عَمْرو بن الجموح، والنجار قبيل كَبِير من الْأَنْصَار، مِنْهُ بطُون وعمائر وأفخاذ وفضائل، وتيم اللات هُوَ النجار، سمي بذلك لِأَنَّهُ اختتن بقدوم، وَقيل: بل ضرب رجلا بقدوم فجرحه، ذكره الْكَلْبِيّ وَأَبُو عُبَيْدَة، وَإِنَّمَا طلب بني النجار لأَنهم كَانُوا أَخْوَاله، لِأَن هاشماً جده تزوج سلمى بنت عَمْرو بن زيد من بني عدي بن النجار بِالْمَدِينَةِ فَولدت لَهُ عبد الْمطلب. قَوْله: (فجاؤا متقلدي السيوف) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة كَرِيمَة بِإِضَافَة: متقلدين إِلَى السيوف وَسُقُوط النُّون للإضافة، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين (متقلدين السيوف) ، بِنصب السيوف وَثُبُوت النُّون لعدم الْإِضَافَة، وعَلى كل حَال هُوَ مَنْصُوب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي: جاؤوا، والتقلد جعل نجاد السَّيْف على الْمنْكب. قَوْله: (على رَاحِلَته) ، الرَّاحِلَة الْمركب من الْإِبِل ذكرا كَانَ أَو أُنْثَى، وَكَانَت

(4/175)


رَاحِلَته نَاقَة تسمى الْقَصْوَاء.
قَوْله: (وَأَبُو بكر ردفه) ، جملَة اسمية فِي مَوضِع النصب على الْحَال، والردف بِكَسْر الرَّاء وَسُكُون الدَّال: المرتدف، وَهُوَ الَّذِي يركب خلف الرَّاكِب. وأردفته أَنا إِذا أركبته مَعَك، وَذَاكَ الْموضع الَّذِي يركبه: رداف، وكل شَيْء تبع شَيْئا فَهُوَ: ردفه. وَكَانَ لأبي بكر نَاقَة، فَلَعَلَّهُ تَركهَا فِي بني عَمْرو بن عَوْف لمَرض أَو غَيره، وَيجوز أَن يكون ردهَا إِلَى مَكَّة ليحمل عَلَيْهَا أَهله، وَثمّ وَجه آخر حسن وَهُوَ: أَن نَاقَته كَانَت مَعَه، وَلكنه مَا ركبهَا لشرف الارتداف خَلفه، لِأَنَّهُ تَابعه والخليفة بعده. قَوْله: (وملأ بني النجار حوله) جملَة إسمية حَالية أَيْضا و: الْمَلأ، أَشْرَاف الْقَوْم ورؤساؤهم، سموا بذلك لأَنهم ملاء بِالرَّأْيِ والغنى، وَالْمَلَأ: الْجَمَاعَة، وَالْجمع أملاء. وَقَالَ ابْن سَيّده: وَلَيْسَ الْمَلأ من بَاب: رَهْط، وَإِن كَانَ إسمين، لِأَن رهطاً لَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَالْمَلَأ: رجل مالىء جليل مَلأ الْعين بجهرته، فَهُوَ كالعرب وَالزَّوْج، حكى ملأته على الْأَمر أملؤه وملأته كَذَلِك، أَي: شاورته، و: مَا كَانَ الْأَمر عَن مَلأ منا أَي: عَن تشَاور وَإِجْمَاع. قَوْله: (ألْقى) أَي: حَتَّى ألْقى رَحْله وَالْمَفْعُول مَحْذُوف، يُقَال: ألقيت الشَّيْء إِذا طرحته. وَقَوله: (بِفنَاء أبي أَيُّوب) أَي: بِفنَاء دَار أبي أَيُّوب، الفناء، بِكَسْر الْفَاء: سَعَة أَمَام الدَّار وَالْجمع أفنية، وَفِي (الْمُجْمل) : فنَاء الدَّار مَا امْتَدَّ من جوانبها. وَفِي (الْمُحكم) : وتبدل الْبَاء من الْفَاء. وَاسم أبي أَيُّوب: خَالِد بن زيد الْأنْصَارِيّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِي (شرف الْمُصْطَفى) : لما نزلت النَّاقة عِنْد دَار أبي أَيُّوب جعل جَبَّار ابْن صَخْر ينخسها بِرجلِهِ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوب: يَا جَبَّار، أعن منزلي تنخسها؟ أما وَالَّذِي بَعثه بِالْحَقِّ لَوْلَا الْإِسْلَام لضربتك بِالسَّيْفِ قلت: جَبَّار بن صَخْر بن أُميَّة بن خنساء السّلمِيّ، وَيُقَال: جَابر بن صَخْر الْأنْصَارِيّ، شهد الْعقبَة وبدراً وَهُوَ صَحَابِيّ كَبِير، روى مُحَمَّد بن إِسْحَاق عَن أبي سعد الخطمي سمع جَبَّار بن عبد اللَّه قَالَ: (صليت خلف رَسُول الله أَنا وَجَابِر بن صَخْر فأقامنا خَلفه) . وَالصَّحِيح: أَن اسْمه: جَبَّار بن صَخْر. وَذكر مُحَمَّد بن إِسْحَاق فِي كتاب (الْمُبْتَدَأ وقصص الْأَنْبِيَاء) ، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، تأليفه: أَن تبعا وَهُوَ ابْن حسان لما قدم مَكَّة قبل مولد رَسُول ا، بِأَلف عَام، وَخرج مِنْهَا إِلَى يثرب وَكَانَ مَعَه أَربع مائَة رجل من الْحُكَمَاء، فَاجْتمعُوا وتعاقدوا على أَن لَا يخرجُوا مِنْهَا، وسألهم تبع عَن سر ذَلِك فَقَالُوا: إِنَّا نجد فِي كتبنَا أَن نَبيا اسْمه مُحَمَّد هَذِه دَار مهاجره، فَنحْن نُقِيم لَعَلَّ أَن نَلْقَاهُ، فَأَرَادَ تبع الْإِقَامَة مَعَهم، ثمَّ بني لكل وَاحِد من أُولَئِكَ دَار، وَاشْترى لَهُ جَارِيَة وَزوجهَا مِنْهُ، وَأَعْطَاهُمْ مَالا جزيلاً، وكتاباً فِيهِ إِسْلَامه وَقَوله:
شهِدت على أَحْمد أَنه رَسُول من ابارىء النسم فِي أَبْيَات، وختمه بِالذَّهَب وَدفعه إِلَى كَبِيرهمْ، وَسَأَلَهُ أَن يَدْفَعهُ إِلَى مُحَمَّد إِن أدْركهُ وإلاَّ من أدْركهُ من وَلَده، وَبني للنَّبِي دَارا ينزلها إِذا قدم الْمَدِينَة، فتداول الدَّار الْملاك إِلَى أَن صَارَت لأبي أَيُّوب، رَضِي اتعالى عَنهُ وَهُوَ من ولد ذَلِك الْعَالم الَّذِي دفع إِلَيْهِ الْكتاب، قَالَ: وَأهل الْمَدِينَة من ولد أُولَئِكَ الْعلمَاء الْأَرْبَع مائَة، وَيَزْعُم بَعضهم أَنهم كَانُوا الْأَوْس والخررج، وَلما خرج رَسُول اصلى تَعَالَى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، أرْسلُوا إِلَيْهِ كتاب تبع مَعَ رجل يُسمى أَبَا ليلى، فَلَمَّا رَآهُ قَالَت: أَنْت أَبُو ليلى ومعك كتاب تبع الأول، فَبَقيَ أَبُو ليلى متفكراً وَلم يعرف النَّبِي، فَقَالَ: من أَنْت فَإِنِّي لم أر فِي وَجهك أثر السحر، وتوهم أَنه سَاحر، فَقَالَ: أَنا مُحَمَّد، هَات الْكتاب. فَلَمَّا قَرَأَهُ، قَالَ: مرْحَبًا بتبع الْأَخ الصَّالح، ثَلَاث مَرَّات، وَفِي سيرة ابْن إِسْحَاق: اسْمه تبان أسعد أَبُو كرب، وَهُوَ الَّذِي كسى الْبَيْت الْحَرَام، وَفِي (مغايص الْجَوْهَر فِي أَنْسَاب حمير) : كَانَ يدين بالزبور، وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : (لَا تسبوا تبعا) . وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى سهل بن سعد، رَضِي اتعالى عَنهُ، إِنَّه قَالَ: (سَمِعت رَسُول الله يَقُول: لَا تسبوا تبعا فَإِنَّهُ كَانَ قد أسلم) . وَأخرجه أَحْمد فِي مُسْنده.
وَتبع، بِضَم التار الْمُثَنَّاة من فَوق وَفتح الْبَاء الْمُشَدّدَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة: لقب لكل من ملك الْيمن، ككسرى لقب لكل من ملك الْفرس، وَقَيْصَر لكل من ملك الرّوم، وَقَالَ عِكْرِمَة: إِنَّمَا سمي لِكَثْرَة أَتْبَاعه، وَكَانَ يعبد النَّار، فسألم قَالَ: وَهَذَا تبع الْأَوْسَط، قَالَ: وَأقَام ملكا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ سنة، وَقيل: ثَمَانِينَ سنة. وَقَالَ ابْن سِيرِين: هُوَ أول من كسى الْبَيْت وَملك الدُّنْيَا والأقاليم بأسرها، وَحكى الْقَاسِم بن عَسَاكِر عَن سعيد بن عبد الْعَزِيز أَنه قَالَ: كَانَ إِذا عرض الْخَيل قَامُوا صفا من دمشق إِلَى صنعاء، وَهَذَا بعيد إِن أَرَادَ بِهِ صنعاء الْيمن، لِأَن بَينهَا وَبَين دمشق أَكثر من شَهْرَيْن، وَالظَّاهِر أَنه أَرَادَ بهَا صنعاء دمشق، وَهِي قَرْيَة على بَاب دمشق من نَاحيَة

(4/176)


بَاب الفرديس، واتصلت حيطانها بِالْعقبَةِ، وَهِي محلّة عَظِيمَة بِظَاهِر دمشق، وَذكر ابْن عَسَاكِر فِي كِتَابه: أَن تبعا هَذَا لما قدم مَكَّة وكسى الْكَعْبَة وَخرج إِلَى يثرب كَانَ فِي مائَة ألف وَثَلَاثِينَ ألفا من الفرسان، وَمِائَة ألف وَثَلَاثَة عشر ألفا من الرجالة. وَذكر أَيْضا: أَن تبعا لما خرج من يثرب مَاتَ فِي بِلَاد الْهِنْد، وَذكر السُّهيْلي: أَن دَار أبي أَيُّوب هَذِه صَارَت بعده إِلَى أَفْلح مولى أبي أَيُّوب فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ، بعد مَا خرب، الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بِأَلف دِينَار بعد حِيلَة احتالها عَلَيْهِ الْمُغيرَة، فأصلحه الْمُغيرَة وَتصدق بِهِ على أهل بَيت فُقَرَاء بِالْمَدِينَةِ.
قَوْله: (وَيُصلي فِي مرابض الْغنم) ، المرابض جمع: مربض، وَهُوَ: مأوى الْغنم. قَوْله: (إِنَّه أَمر) بِكَسْر الْهمزَة فِي: إِن، لِأَنَّهُ كَلَام مُسْتَقْبل بِذَاتِهِ، أَي: إِن النَّبِي أَمر بِبِنَاء الْمَسْجِد، ويروى: أَمر، على بِنَاء الْمَفْعُول، فعلى هَذَا يكون الضَّمِير فِي: أَنه، للشأن، وَالْمَسْجِد: هُوَ بِكَسْر الْجِيم وَفتحهَا، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يسْجد فِيهِ. وَفِي (الصِّحَاح) : الْمَسْجِد، بِفَتْح الْجِيم: مَوضِع السُّجُود، وبكسرها: الْبَيْت الَّذِي يصلى فِيهِ. وَمن الْعَرَب من يفتح فِي كلا الْوَجْهَيْنِ، وَعَن الْفراء: سمعنَا الْمَسْجِد وَالْمَسْجِد، وَالْفَتْح جَائِز وَإِن لم نَسْمَعهُ. وَفِي (الْمعَانِي) للزجاج: كل مَوضِع يتعبد فِيهِ مَسْجِد. قَوْله: (ثامنوني) بالثاء الْمُثَلَّثَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي بيعونيه بِالثّمن، وَقَالَ بَعضهم: أَي اذْكروا لي ثمنة. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : أَي قدرُوا ثمنه لأشتريه مِنْكُم وبايعوني فِيهِ. قلت: كل ذَلِك لَيْسَ تَفْسِيرا لموضوع هَذِه الْمَادَّة، وَإِن كَانَ يدل على الْمَقْصُود، وَالتَّفْسِير هُوَ الَّذِي ذكرته فِي (شرح سنَن أبي دَاوُد) وَهُوَ: أَن هَذِه اللَّفْظَة من: ثامنت الرجل، فِي البيع أثامنه، إِذا قاولته فِي ثمنه، وساومته على بَيْعه وشرائه. قَوْله: (بحائطكم) ، الْحَائِط هَهُنَا الْبُسْتَان يدل عَلَيْهِ قَوْله: (وَفِيه نخل) ، وبالنخل فَقطع، وَفِي لفظ: كَانَ مربداً، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يَجْعَل فِيهِ التَّمْر لينشف. قَوْله: (لَا نطلب ثمنه إلاَّ إِلَى اعز وَجل) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي مَا حَاصله: لَا نطلب ثمن المصروف فِي سَبِيل ا، وَأطلق الثّمن على سَبِيل المشاكلة. ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: ر
الطّلب يسْتَعْمل: بِمن، فَالْقِيَاس أَن يُقَال: إلاَّ من اقلت: مَعْنَاهُ: لَا نطلب الثّمن من أحد، لكنه مَصْرُوف إِلَى اتعالى، قلت: وَهَذَا كُله تعسف مَعَ تَطْوِيل، بل مَعْنَاهُ: لَا نطلب الثّمن إلاَّ من اتعالى، وَكَذَا وَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَا نطلب ثمنه إلاَّ من ا. وَقد جَاءَ: إِلَى، فِي كَلَام الْعَرَب للابتداء، كَقَوْلِه:
فَلَا يرْوى إِلَى ابْن أَحْمد. أَي: منى، وَيجوز أَن تكون: إِلَى هَهُنَا، على مَعْنَاهَا لانْتِهَاء الْغَايَة، وَيكون التَّقْدِير: ننهي طلب الثّمن إِلَى ا، كَمَا فِي قَوْلهم: أَحْمد إِلَيْك ا، وَالْمعْنَى: أنهِي حَمده إِلَيْك، وَالْمعْنَى لَا نطلب مِنْك الثّمن بل نتبرع بِهِ، ونطلب الثّمن أَي: الْأجر من اتعالى، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُور فِي (الصَّحِيحَيْنِ) . وَذكر مُحَمَّد بن سعد فِي (الطَّبَقَات) : على الْوَاقِدِيّ أَن النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، اشْتَرَاهُ مِنْهُم بِعشْرَة دَنَانِير، دَفعهَا أَبُو بكر الصّديق. وَيُقَال: كَانَ ذَلِك مربد اليتيمين، فدعاهما النّبي صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، فساومهما ليتخذه مَسْجِدا، فَقَالَا: بل نهبه لَك يَا رَسُول ا، فَأبى رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، حَتَّى ابتاعه مِنْهُمَا بِعشْرَة دَنَانِير، وَأمر أَبَا بكر أَن يعطيهما ذَلِك. وَفِي (الْمَغَازِي) لأبي معشر: فَاشْتَرَاهُ أَبُو أَيُّوب مِنْهُمَا وَأَعْطَاهُ الثّمن، فبناه مَسْجِدا. واليتيمان هما: سهل وَسُهيْل، ابْنا رَافع بن عَمْرو بن أبي عَمْرو، من بني النجار، كَانَا فِي حجر أسعد بن زُرَارَة، وَقيل: معَاذ بن عفراء، وَقَالَ معَاذ: يَا رَسُول اأنا أرضيهما، فاتخذه مَسْجِدا. وَيُقَال أَن بني النجار جعلُوا حائطهم وَقفا وَأَجَازَهُ النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم، وَاسْتدلَّ ابْن بطال بِهَذَا على صِحَة وقف الْمشَاع. وَقَالَ: وقف الْمشَاع جَائِز عِنْد مَالك، وَهُوَ قَول أبي يُوسُف وَالشَّافِعِيّ، خلافًا لمُحَمد بن الْحسن، وَالصَّحِيح أَن بني النجار لم يوقفوا شَيْئا، بل باعوه وَوَقفه النَّبِي، فَلَيْسَ وقف مشَاع.
قَوْله: (قُبُور الْمُشْركين) بِالرَّفْع بدل أَو بَيَان لقَوْله: (مَا أَقُول) . قَوْله: (وَفِيه خرب) قَالَ أَبُو الْفرج: الرِّوَايَة الْمَعْرُوفَة: (خرب) ، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء، جمع خربه. كَمَا يُقَال: كلمة وكلم، وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَان: حدّثناه الخراب، بِكَسْر الْخَاء وَفتح الرَّاء وَهُوَ: جمع الخراب، وَهُوَ مَا يخرب من الْبناء فِي لُغَة بني تَمِيم، وهما لُغَتَانِ صحيحتان رويتا، وَقَالَ الْخطابِيّ: لَعَلَّ صَوَابه: خرب، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة: جمع: خربة، وَهِي الخروق فِي الأَرْض إلاَّ أَنهم يَقُولُونَهَا فِي ثقبة مستديرة فِي أَرض أَو جِدَار، قَالَ: وَلَعَلَّ الرِّوَايَة جرف جمع الجرفة، ويه جمع الجرف، كَمَا يُقَال: خرج وخرجة، وترس وترسة، وابين من ذَلِك إِن ساعدته الرِّوَايَة أَن يكون حدباً جمع حدبة، وَهُوَ الَّذِي يَلِيق بقوله: فسويت، وَإِنَّمَا يسوى الْمَكَان المحدودب أَو مَوضِع من الأَرْض فِيهِ

(4/177)


خروق وهدوم، فَأَما الخرب فَإِنَّهَا تعمر وَلَا تسوى، وَقَالَ عِيَاض: هَذَا التَّكَلُّف لَا حَاجَة إِلَيْهِ فَإِن الَّذِي ثَبت فِي الرِّوَايَة صَحِيح الْمَعْنى، كَمَا أَمر يقطع النّخل لتسوية الأَرْض، أَمر بالخرب فَرفعت رسومها وسويت موَاضعهَا لتصير جَمِيع الأَرْض مبسوطة مستوية للمصلين، وَكَذَلِكَ فعل بالقبور. وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة، بِسَنَد صَحِيح: وَأمر بالحرث فحرث، وَهُوَ الَّذِي زعم ابْن الْأَثِير أَنه رُوِيَ بِالْحَاء الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة، يُرِيد الْموضع المحروث للزِّرَاعَة. قلت: كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَلَكِن قيل: إِنَّه وهم. قَوْله: (وبالنخل) أَي: أَمر بِالنَّخْلِ فَقطع. قَوْله: (فصفوا النّخل) من صففت الشَّيْء صفا، وَفِي (مغازي ابْن بكير) عَن ابْن إِسْحَاق: جعلت قبْلَة الْمَسْجِد من اللَّبن، وَيُقَال: بل من حِجَارَة منضودة بَعْضهَا على بعض، وَسَيَأْتِي فِي (الصَّحِيح) : أَن الْمَسْجِد كَانَ على عَهده مَبْنِيا بِاللَّبنِ وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل، وَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر شَيْئا، وَلَعَلَّ المُرَاد بالقبلة جِهَتهَا، لَا الْقبْلَة الْمَعْهُودَة الْيَوْم، فَإِن ذَلِك لم يكن ذَلِك الْوَقْت، وَورد أَيْضا أَنه كَانَ فِي مَوضِع الْمَسْجِد الْغَرْقَد فَأمر أَن يقطع، وَكَانَ فِي المربد قُبُور جَاهِلِيَّة فَأمر بهَا رَسُول الله فنبشت، وَأمر بالعظام أَن تغيب، وَكَانَ فِي المربد مَاء مستنجل فستره حَتَّى ذهب. قَوْله: نز قَلِيل الجري، من النجل وَهُوَ: المَاء الْقَلِيل، وَجعلُوا طوله مِمَّا يَلِي الْقبْلَة إِلَى مؤخره مائَة ذِرَاع، وَفِي هذَيْن الْجَانِبَيْنِ مثل ذَلِك فَهُوَ مربع،، وَيُقَال: كَانَ أقل من الْمِائَة، وَجعلُوا الأساس قَرِيبا من ثَلَاثَة أَذْرع على الأَرْض بِالْحِجَارَةِ ثمَّ بنوه بِاللَّبنِ، وَجعل النَّبِي ينْقل مَعَهم اللَّبن وَالْحِجَارَة بِنَفسِهِ وَيَقُول:
(هَذَا الْجمال لَا جمال خَيْبَر ... هَذَا أبر رَبنَا وأطهر)

وَجعل قبلته إِلَى الْقُدس، وَجعل لَهُ ثَلَاثَة أَبْوَاب بَابا فِي مؤخره، وباباً يُقَال لَهُ: بَاب الرَّحْمَة، وَهُوَ الْبَاب الَّذِي يدعى بَاب العاتكة، وَالثَّالِث: الَّذِي يدْخل مِنْهُ، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ الْبَاب الَّذِي يَلِي آل عُثْمَان، وَجعل طول الْجِدَار قامة وبسطة، وعمده الْجُذُوع، وسقفه جريداً فَقيل لَهُ: أَلا تسقفه؟ فَقَالَ: عَرِيش كعريش مُوسَى خشيبات، وَتَمام الْأَمر أعجل من ذَلِك، وَسَيَأْتِي فِي الْكتاب عَن قريب: عَن ابْن عمر: أَن الْمَسْجِد كَانَ على عهد رَسُول الله مَبْنِيا بِاللَّبنِ وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل، وَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر شَيْئا، وَزَاد فِيهِ عمر، وبناه على بنائِهِ فِي عهد النَّبِي بِاللَّبنِ والجريد وَأعَاد عمده خشباً ثمَّ غَيره عُثْمَان فَزَاد فِيهِ زِيَادَة كَثِيرَة، وَبنى جِدَاره بحجارة منقوشة والقصة وَجعل عمده حِجَارَة منقوشة، وسقفه بالساج. وَفِي (الإكليل) ثمَّ بناه الْوَلِيد بن عبد الْملك فِي إمرة عمر بن عبد الْعَزِيز، وَفِي (الرَّوْض) : ثمَّ بناه الْمهْدي، ثمَّ زَاد فِيهِ الْمَأْمُون، ثمَّ لم يبلغنَا تغيره إِلَى الْآن. قَوْله: (عضادتيه) تَثْنِيَة: عضادة، بِكَسْر الْعين. قَالَ ابْن التياني فِي (الموعب) : قَالَ أَبُو عمر: وَهِي جَانب الْحَوْض، وَعَن صَاحب (الْعين) : أعضاد كل شَيْء مَا يشده من حواليه من الْبناء وَغَيره، مِثَال عضاد الْحَوْض، وَهِي صَفَائِح من حِجَارَة ينصبن على شفيره، وعضادتا الْبَاب مَا كَانَ عَلَيْهِمَا يطبق الْبَاب إِذا أصفق. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري: عضادتا الْبَاب الخشبتان المنصوبتان عَن يَمِين الدَّاخِل مِنْهُ وشماله، وَزَاد الْقَزاز: فَوْقهمَا الْعَارِضَة. قَوْله: (يرتجزون) أَي: يتعاطون الرجز، من: الرجز، وَهُوَ ضرب من الشّعْر، وَقد رجز الراجز وأرجزه، وَقد اخْتلف العروضيون وَأهل الْأَدَب فِي الرجز هَل هُوَ شعر أم لَا، مَعَ اتِّفَاق أَكْثَرهم على أَن الرجز لَا يكون شعرًا، وَعَلِيهِ يحمل مَا جَاءَ من النَّبِي من ذَلِك: لِأَن الشّعْر حرَام عَلَيْهِ بِنَصّ الْقُرْآن الْعَظِيم. وَقَالَ القرطبى: الصَّحِيح فِي الرجز أَنه من الشّعْر، وَإِنَّمَا أخرجه من الشّعْر من أشكل عَلَيْهِ إنشاد النَّبِي إِيَّاه، فَقَالَ: لَو كَانَ شعرًا لما علمه. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء، لِأَن من أنْشد الْقَلِيل من الشّعْر أَو قَالَه أَو تمثل بِهِ على وَجه الندور لم يسْتَحق اسْم شَاعِر، وَلَا يُقَال فِيهِ: إِنَّه يعلم الشّعْر، وَلَا ينْسب إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن التِّين: لَا يُطلق على الرجز شعرًا، إِنَّمَا هُوَ كَلَام مرجز مسجع بِدَلِيل أَنه يُقَال لصانعه: راجز، وَلَا يُقَال: شَاعِر. وَيُقَال: أنْشد رجزاً وَلَا يُقَال أنْشد شعرًا. وَقيل: أَن مَا قَالَه الشَّاعِر لَيْسَ برجز وَلَا مَوْزُون، وَقد اخْتلف هَل يحل لَهُ الشّعْر؟ فعلى القَوْل بِنَفْي الْجَوَاز هَل يحْكى بَيْتا وَاحِدًا؟ فَقيل: لَا يتمه إلاَّ متغيراً وَأبْعد من قَالَ: الْبَيْت الْوَاحِد لَيْسَ بِشعر، وَلما ذكر قَول طرفه.
(ستبدي لَك الْأَيَّام مَا كنت جَاهِلا.)

قَالَ: قَالَ:
(ويأتيك من لم تزَود بالأخبار)

. فَقَالَ أَبُو بكر: يَا رَسُول الم يقل هَكَذَا، وَإِنَّمَا قَالَ:
(ويأتيك بالأخبار من لم تزَود.)

فَقَالَ: كِلَاهُمَا سَوَاء، فَقَالَ: أشهد أَنَّك لست بشاعر، وَلَا تُحسنهُ. وَلما أنْشد، على مَا ذكرنَا، خرج أَن يكون شعرًا، وَقد قيل: قَوْله تَعَالَى: {وَمَا علمناه الشّعْر} (يس: 96) أَي: صَنعته، وَهِي الْآلَة الَّتِي لَهُ، فَأَما أَن يحفظ مَا قَالَ النَّاس فَلَيْسَ بممتنع عَلَيْهِ. قَوْله:

(4/178)


(وَالنَّبِيّ مَعَهم) ، جملَة حَالية، أَي: وَالنَّبِيّ يرتجز مَعَهم، وَكَذَا قَوْله: (وَهُوَ يَقُول) حَال قَوْله: (اللَّهُمَّ) مَعْنَاهُ: يَا ا، وَقَالَ البصريون: اللَّهُمَّ، دُعَاء بِجَمِيعِ أَسْمَائِهِ إِذْ: الْمِيم، تشعر بِالْجمعِ كَمَا فِي: عَلَيْهِم، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: أَصله اأمنا بِخَير، أَي: اقصدنا، فَخفف فَصَارَ: اللَّهُمَّ قَوْله: (لَا خير إلاَّ خير الْآخِرَة) . وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد.
(اللَّهُمَّ إِن الْخَيْر خير الْآخِرَة) . قَوْله: (فَاغْفِر للْأَنْصَار) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (فَاغْفِر الْأَنْصَار) ، بِحَذْف: اللَّام، وَوَجهه أَن يضمن: أَغفر، معنى: اسْتُرْ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ وَشَيْخه أَيْضا، بِلَفْظ: (فانصر الْأَنْصَار) ، وَالْأَنْصَار جمع نصير، كأشراف جمع شرِيف، والنصير النَّاصِر من نَصره اعلى عدوه ينصره نصرا، والأسم: النُّصْرَة، وَسموا بذلك لأَنهم أعانوه على أعدائه وشدوا مِنْهُ، (والمهاجرة) الْجَمَاعَة المهاجرة، وهم الَّذين هَاجرُوا من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة النَّبَوِيَّة محبَّة فِيهِ وطلباً للآخرة،، وَالْهجْرَة فِي الأَصْل من الهجر ضد الْوَصْل، وَقد هجره هجراً وهجراناً، ثمَّ غلب على الْخُرُوج من أَرض إِلَى أَرض، وَترك الأولى للثَّانِيَة. يُقَال مِنْهُ هَاجر مهاجرة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَنه لَو قرىء هَذَا الْبَيْت بِوَزْن الشّعْر يَنْبَغِي أَن يُوقف على: الْآخِرَة، والمهاجرة، إلاَّ أَنه قيل: إِنَّه قرأهما بِالتَّاءِ متحركة خُرُوجًا عَن وزن الشّعْر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام: فِيهِ: جَوَاز الإرداف. وَفِيه: جَوَاز الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم. وَفِيه: جَوَاز التَّصَرُّف فِي الْمقْبرَة الْمَمْلُوكَة بِالْهبةِ وَالْبيع. وَفِيه: جَوَاز نبش قُبُور الْمُشْركين لِأَنَّهُ لَا حُرْمَة لَهُم. فَإِن قلت: كَيفَ يجوز إخراجهم من قُبُورهم والقبر مُخْتَصّ بِمن دفن فِيهِ فقد جازه فَلَا يجوز بَيْعه وَلَا نَقله عَنهُ؟ قلت: تِلْكَ الْقُبُور الَّتِي أَمر النَّبِي بنبشها لم تكن أملاكاً لمن دفن فِيهَا، بل لَعَلَّهَا غصبت، فَلذَلِك بَاعهَا ملاكها وعَلى تَقْدِير التَّسْلِيم أَنَّهَا حبست فَلَيْسَ بِلَازِم، إِنَّمَا اللَّازِم تحبيس الْمُسلمين لَا الْكفَّار، وَلِهَذَا قَالَت الْفُقَهَاء: إِذا دفن الْمُسلم فِي أَرض مَغْصُوبَة يجوز إِخْرَاجه فضلا عَن الْمُشرك، وَقد يُجَاب بِأَنَّهُ دعت الضَّرُورَة وَالْحَاجة إِلَى نبشهم فَجَاز، فَإِن قلت: هَل يجوز فِي هَذَا الزَّمَان نبش قُبُور الْكفَّار ليتَّخذ مَكَانهَا مَسَاجِد؟ قلت: أجَاز ذَلِك قوم محتجين بِهَذَا الحَدِيث، وَبِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَن النَّبِي قَالَ: هَذَا قبر أبي رِغَال، وَهُوَ: أَبُو ثَقِيف، وَكَانَ من ثَمُود وَكَانَ بِالْحرم يدْفع عَنهُ، فَلَمَّا خرج أَصَابَته النقمَة فَدفن بِهَذَا الْمَكَان، وَآيَة ذَلِك أَنه دفن مَعَه غُصْن من ذهب فابتدر النَّاس فنبشوه وَاسْتَخْرَجُوا الْغُصْن، قَالُوا: فَإِذا جَازَ نبشها لطلب المَال فنبشها للِانْتِفَاع بمواضعها أولى، وَلَيْسَت حرمتهم موتى بأعظم مِنْهَا وهم أَحيَاء، بل هُوَ مأجور فِي ذَلِك، وَإِلَى جَوَاز نبش قُبُورهم لِلْمَالِ ذهب الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَشْهَب بِهَذَا الحَدِيث، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: لَا يفعل، لِأَن رَسُول الله لما مر بِالْحجرِ قَالَ: (لَا تدْخلُوا بيُوت الَّذين ظلمُوا إلاَّ أَن تَكُونُوا بَاكِينَ) . فَنهى أَن يدْخل عَلَيْهِم بُيُوتهم، فَكيف قُبُورهم؟ وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قد أَبَاحَ دُخُولهَا على وَجه الْبكاء.
فَإِن قلت: هَل يجوز أَن تبنى على قُبُور الْمُسلمين؟ قلت: قَالَ ابْن الْقَاسِم: لَو أَن مَقْبرَة من مَقَابِر الْمُسلمين عفت فَبنى قوم عَلَيْهَا مَسْجِدا لم أر بذلك بَأْسا، وَذَلِكَ لِأَن الْمَقَابِر وقف من أوقاف الْمُسلمين لدفن موتاهم لَا يجوز لأحد أَن يملكهَا، فَإِذا درست وَاسْتغْنى عَن الدّفن فِيهَا جَازَ صرفهَا إِلَى الْمَسْجِد، لِأَن الْمَسْجِد أَيْضا وقف من أوقاف الْمُسلمين لَا يجوز تملكه لأحد، فمعناهما على هَذَا وَاحِد. وَذكر أَصْحَابنَا أَن الْمَسْجِد إِذا خرب ودثر وَلم يبْق حوله جمَاعَة، والمقبرة إِذا عفت ودثرت تعود ملكا لأربابها، فَإِذا عَادَتْ ملكا يجوز أَن يبْنى مَوضِع الْمَسْجِد دَارا وَمَوْضِع الْمقْبرَة مَسْجِدا وَغير ذَلِك، فَإِذا لم يكن لَهَا أَرْبَاب تكون لبيت المَال.
وَفِيه: أَن الْقَبْر إِذا لم يبْق فِيهِ بَقِيَّة من الْمَيِّت وَمن ترابه الْمُخْتَلط بالصديد جَازَت الصَّلَاة فِيهِ. وَفِيه: جَوَاز قطع الْأَشْجَار المثمرة للضَّرُورَة والمصلحة إِمَّا لاستعمال خشبها أَو ليغرس موضعهَا غَيرهَا أَو لخوف سُقُوطهَا على شَيْء تتلفه أَو لاتخاذ موضعهَا مَسْجِدا، وَكَذَا قطعهَا فِي بِلَاد الْكفَّار إِذا لم يرج فتحهَا لِأَن فِيهِ نكاية وغيظاً لَهُم وإرغاماً. وَفِيه: جَوَاز الارتجاز وَقَول الْأَشْعَار وَنَحْوهَا لتنشيط النُّفُوس وتسهيل الْأَعْمَال وَالْمَشْي عَلَيْهَا.

94 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم، وَقد ذكرنَا أَن المرابض جمع: مربض، بِكَسْر الْبَاء، لِأَنَّهُ من ربض يربض، مثل:

(4/179)


ضرب يضْرب، يُقَال: ربض فِي الأَرْض إِذا لصق بهَا، وَأقَام ملازماً لَهَا، وَاسم الْمَكَان: مربض، وَهُوَ مأوى الْغنم، وربوض الْغنم مثل بروك الْإِبِل. وَفِي (الصِّحَاح) : ربوض الْغنم وَالْبَقر وَالْفرس وَالْكَلب مثل بروك الْإِبِل، وجثوم الطير. وَضبط بَعضهم المربض، بِكَسْر الْمِيم: وَهُوَ غلط.
وَجه الْمُنَاسبَة بَين الْبَابَيْنِ من حَيْثُ إِن الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب بِعَيْنِه طرف من الحَدِيث فِي الْبَاب السَّابِق لَكِن الْمَذْكُور هُنَاكَ أَنه كَانَ يحب الصَّلَاة حَيْثُ أَدْرَكته إِذا دخل وَقتهَا، سَوَاء كَانَ فِي مرابض الْغنم أَو غَيرهَا، وَالْمَذْكُور هَهُنَا: كَانَ يُصَلِّي فِي مرابض الْغنم قبل أَن يَبْنِي الْمَسْجِد.

924 - حدّثنا سُلَيْمَانُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدّثنا شعْبَةُ عنْ أبي التَّيَّاحِ عنْ أنَسٍ قَالَ كانَ النبيّ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ ثُمَّ سَمِعْتُهُ يقُولُ كانَ يُصَلِّي فِي مَرَابِضِ الغَنَمِ قَبْلَ أنَّ يُبْنَى المَسْجِدُ. .

مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو التياح مضى ذكره فِي الْبَاب السَّابِق. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والعنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي بَاب أَبْوَال الْإِبِل فِي كل الْوُجُوه.
قَوْله: (ثمَّ سمعته بعد يَقُول) ، قَالَ بَعضهم: هُوَ شُعْبَة، يَعْنِي: يَقُول ثمَّ سَمِعت أَبَا التياح يَقُول، بِقَيْد بعد أَن قَالَ مُطلقًا، قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون الْقَائِل هُوَ أَبَا التياح سمع من أنس أَولا بِإِطْلَاق، ثمَّ سمع بِقَيْد يَعْنِي: أَبُو التياح يَقُول ثمَّ سَمِعت أنسا بعد ذَلِك القَوْل يَقُول: كَانَ يُصَلِّي إِلَى آخِره، أَشَارَ بذلك إِلَى أَن قَوْله أَولا مُطلق وَقَوله ثَانِيًا مُقَيّد، فَالْحكم أَنَّهُمَا إِذا وردا سَوَاء يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد عملا بالدليلين، وَالْمرَاد بِالْمَسْجِدِ مَسْجِد رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَآله وَسلم.

05 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الإِبِلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّلَاة فِي مَوضِع الْإِبِل، وَفِي بعض النّسخ: فِي مَوَاضِع الْإِبِل، بِالْجمعِ ثمَّ إِن البُخَارِيّ إِن إراد من مَوَاضِع الْإِبِل معاطنها فَالصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة عِنْد قوم، خلافًا لآخرين، وَإِن أَرَادَ بهَا أَعم من ذَلِك فَالصَّلَاة فِيهَا غير مَكْرُوهَة بِلَا خلاف، وعَلى كل تَقْدِير لم يذكر فِي الْبَاب حَدِيثا يدل على أحد الْفَصْلَيْنِ، وَإِنَّمَا ذكر فِيهِ الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير وَهُوَ لَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَعَن هَذَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث بَيَان أَنه صلى فِي مَوضِع الْإِبِل، وَإِنَّمَا صلى إِلَى الْبَعِير لَا فِي مَوْضِعه، وَلَيْسَ إِذا أُنِيخ الْبَعِير فِي مَوضِع صَار ذَلِك عطناً أَو مأوىً للابل. انْتهى. قلت: لِأَن العطن اسْم لمبرك الْإِبِل عِنْد المَاء ليشْرب عللاً بعد نهل، فَإِذا استوفت ردَّتْ إِلَى المراعي، وَأجَاب بَعضهم عَن كَلَام الْإِسْمَاعِيلِيّ بقوله: إِن مُرَاده الْإِشَارَة إِلَى مَا ذكر من عِلّة النَّهْي عَن ذَلِك وَهِي كَونهَا من الشَّيَاطِين، كَأَنَّهُ يَقُول: لَو كَانَ ذَلِك مَانِعا من صِحَة الصَّلَاة لامتنع مثله فِي جعلهَا أَمَام الْمُصَلِّي، وَكَذَلِكَ صَلَاة راكبها، وَقد ثَبت أَنه، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُصَلِّي النَّافِلَة وَهُوَ على بعيره.
قلت: سُبْحَانَ اما أبعد هَذَا الْجَواب عَن موقع الْخطاب، فَإِنَّهُ مَتى ذكر عِلّة النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي معاطن الْإِبِل حَتَّى يُشِير إِلَيْهِ، وَلم يذكر شَيْئا فِي كِتَابه من أَحَادِيث النَّهْي فِي ذَلِك، وَإِنَّمَا ذكره غَيره، فَمُسلم ذكر حَدِيث جَابر بن سَمُرَة من رِوَايَة جَعْفَر بن أبي ثَوْر عَنهُ: (أَن رجلا سَأَلَ رَسُول ا: أأتوضأ من لُحُوم الْغنم؟ قَالَ: إِن شِئْت فَلَا تتوضأ. قَالَ: أتوضأ من لُحُوم الْإِبِل؟ قَالَ: فَتَوَضَّأ من لُحُوم الْإِبِل. قَالَ: أُصَلِّي فِي مرابض الْغنم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أُصَلِّي فِي مبارك الْإِبِل؟ قَالَ: لَا.) وَأَبُو دَاوُد ذكر حَدِيث الْبَراء من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى. وَفِيه: (سُئِلَ عَن الصَّلَاة فِي مبارك الْإِبِل فَقَالَ: لَا تصلوا فِي مبارك الْإِبِل، فَإِنَّهَا من الشَّيَاطِين) . وَالتِّرْمِذِيّ ذكر حَدِيث أبي هُرَيْرَة من حَدِيث ابْن سِيرِين عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول ا،: (صلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل) . وَابْن مَاجَه ذكر حَدِيث سُبْرَة بن معبد من رِوَايَة عبد الْملك بن الرّبيع بن سُبْرَة ابْن معبد الْجُهَنِيّ أَخْبرنِي عَن أَبِيه أَن رَسُول الله قَالَ: (لَا تصلي فِي أعطان الْإِبِل وَتصلي فِي مراح الْغنم) . وَذكر ابْن مَاجَه أَيْضا حَدِيث عبد اللَّه بن مُغفل من رِوَايَة الْحسن عَنهُ قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (صلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل فَإِنَّهَا خلف من الشَّيَاطِين) . وَذكر أَيْضا حَدِيث ابْن عمر من حَدِيث محَارب بن دثار، يَقُول: سَمِعت

(4/180)


عبد اللَّه بن عمر يَقُول: سَمِعت رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، يَقُول: (توضأوا من لُحُوم الْإِبِل) . الحَدِيث. وَفِيه: (وَلَا تصلوا فِي معاطن الْإِبِل) . وَذكر الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) حَدِيث أسيد بن حضير. قَالَ: قَالَ رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم: (توضأوا من لُحُوم الْإِبِل وَلَا تصلوا فِي مناخها) . وَأخرج أَيْضا فِي (الْكَبِير) حَدِيث سليك الْغَطَفَانِي عَن النَّبِي يعلى فِي (مُسْنده) حَدِيث طَلْحَة بن عبيد اللَّه، قَالَ: (كَانَ رَسُول الله يتَوَضَّأ من ألبان الْإِبِل ولحومها وَلَا يُصَلِّي فِي أعطانها) . وَذكر أَحْمد فِي (مُسْنده) حَدِيث عبد اللَّه بن عَمْرو بن الْعَاصِ أَن النَّبِي: (كَانَ يُصَلِّي فِي مرابض الْغنم وَلَا يُصَلِّي فِي مرابد الْإِبِل وَالْبَقر) وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) أَيْضا وَلَفظه: (لَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل وصلوا فِي مراح الْغنم) . وَذكر الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، من حَدِيث عقبَة بن عَامر فِي (الْكَبِير) و (الْأَوْسَط) عَن النَّبِي قَالَ: (صلوا فِي مرابض الْغنم وَلَا تصلوا فِي أعطان الْإِبِل أَو فِي مبارك الْإِبِل) . وَذكر أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا حَدِيث يعِيش الْجُهَنِيّ الْمَعْرُوف بِذِي الْغرَّة من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَنهُ، قَالَ: (عرض أَعْرَابِي لرَسُول ا) . الحَدِيث، وَفِيه: (تدركنا الصَّلَاة وَنحن فِي أعطان الْإِبِل فنصلي فِيهَا؟ فَقَالَ رَسُول ا: لَا) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا. .
فَهَذَا كَمَا رَأَيْت وَقع فِي مَوضِع: مبارك الْإِبِل، وَفِي مَوضِع: أعطان الْإِبِل، وَفِي مَوضِع: مناخ الْإِبِل، وَفِي مَوضِع: مرابد الْإِبِل. وَوَقع عِنْد الطَّحَاوِيّ فِي حَدِيث جَابر بن سَمُرَة: (أَن رجلا قَالَ: يَا رَسُول اأصلي فِي مباءة الْغنم؟ قَالَ: نعم، قَالَ: أُصَلِّي فِي مباءة الْإِبِل؟ قَالَ: لَا، والمباءة الْمنزل الَّذِي تأوي إِلَيْهِ الْإِبِل) . والأعطان جمع عطن وَقد فسرناه، وَالْمبَارك جمع مبرك وَهُوَ مَوضِع بروك الْجمل فِي أَي مَوضِع كَانَ، والمناخ، بِضَم الْمِيم وَفِي آخِره خاء مُعْجمَة: الْمَكَان الَّذِي تناخ فِيهِ الْإِبِل، والمرابد هِيَ، بِالدَّال الْمُهْملَة: الْأَمَاكِن الَّتِي تحبس فِيهَا الْإِبِل وَغَيرهَا من الْبَقر وَالْغنم. وَقَالَ ابْن حزم: كل عطن فَهُوَ مبرك، وَلَيْسَ كل مبرك عطناً، لِأَن العطن هُوَ الْموضع الَّذِي تناخ فِيهِ عِنْد وُرُودهَا المَاء فَقَط، والمبرك أَعم، لِأَنَّهُ الْموضع الْمُتَّخذ لَهُ فِي كل حَال، فَإِذا كَانَ كَذَلِك تكره الصَّلَاة فِي مبارك الْإِبِل ومواضعها، سَوَاء كَانَت عطناً أَو منَاخًا أَو مباءةً أَو مرابد أَو غير ذَلِك. فَدلَّ هَذَا كُله أَن عِلّة النَّهْي فِيهِ كَونهَا خلقت من الشَّيَاطِين وَلَا سِيمَا فَإِنَّهُ علل ذَلِك بقوله: (فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين) ، وَقد مر فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فَإِنَّهَا من الشَّيَاطِين) ، وَفِي راوية ابْن مَاجَه: (فَإِنَّهَا خلقت من الشَّيَاطِين) ، فَهَذَا يدل على أَن الْإِبِل خلقت من الْجِنّ، لِأَن الشَّيَاطِين من الْجِنّ على الصَّحِيح من الْأَقْوَال، وَعَن هَذَا قَالَ يحيى بن آدم: جَاءَ النَّهْي من قبل أَن الْإِبِل يخَاف وثوبها فتعطب من تلاقي حينئذٍ أَلا ترى أَنه يَقُول: إِنَّهَا جن، وَمن جن خلقت، واستصوب هَذَا أَيْضا القَاضِي عِيَاض.
وَذكروا أَيْضا أَن عِلّة النَّهْي فِيهِ من ثَلَاثَة أوجه أُخْرَى:
أَحدهَا: من شريك بن عبد اللَّه أَنه كَانَ يَقُول: نهي عَن الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل لِأَن أَصْحَابهَا من عَادَتهم التغوط بِقرب إبلهم وَالْبَوْل، فينجسون بذلك أعطان الْإِبِل، فَنهى عَن الصَّلَاة فِيهَا لذَلِك، لَا لعِلَّة الْإِبِل، وَإِنَّمَا هُوَ لعِلَّة النَّجَاسَة الَّتِي تمنع من الصَّلَاة فِي أَي مَوضِع مَا كَانَت، بِخِلَاف مرابض الْغنم، فَإِن أَصْحَابهَا من عَادَتهم تنظيف مواضعهم وتترك الْبَوْل فِيهَا والتغوط، فأبيحت الصَّلَاة فِي مرابضها لذَلِك، وَهَذَا بعيد جدا مُخَالف لظَاهِر الحَدِيث.
وَالْوَجْه الثَّانِي: أَن عِلّة النَّهْي هِيَ كَون أبوالها وأرواثها فِي معاطنها، وَهَذَا أَيْضا بعيد أَيْضا لِأَن مرابض الْغنم تشركها فِي ذَلِك.
وَالْوَجْه الثَّالِث: ذكره يحيى بن آدم. أَن الْعلَّة فِي اجْتِنَاب الصَّلَاة فِي معاطن الْإِبِل: الْخَوْف من قبلهَا، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، بِخِلَاف الْغنم، لِأَنَّهُ لَا يخَاف مِنْهَا مَا يخَاف من الْإِبِل. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِن كَانَت الْعلَّة هِيَ مَا قَالَ شريك فَإِن الصَّلَاة مَكْرُوهَة حَيْثُ يكون الْغَائِط وَالْبَوْل سَوَاء كَانَ عطنا أَو غَيره، وَإِن كَانَ مَا قَالَه يحيى، فَإِن الصَّلَاة مَكْرُوهَة حَيْثُ يخَاف على النُّفُوس، سَوَاء كَانَ عطناً أَو غَيره، وغمز بَعضهم فِي الطَّحَاوِيّ بقوله: قَالَ إِن النّظر يَقْتَضِي عدم التَّفْرِقَة بَين الْإِبِل وَالْغنم فِي الصَّلَاة وَغَيرهَا، كَمَا هُوَ مَذْهَب أَصْحَابه، وَتعقب بِأَنَّهُ مُخَالف للأحاديث الصَّحِيحَة المصرحة بالتفرقة، فَهُوَ قِيَاس فَاسد الِاعْتِبَار.
قلت: هَذَا الْكَلَام فَاسد الِاعْتِبَار لِأَن الطَّحَاوِيّ مَا قَالَ قطّ: إِن النّظر يَقْتَضِي عدم التَّفْرِقَة، وَإِنَّمَا قَالَ: حكم هَذَا الْبَاب من طَرِيق النّظر أَنا رأيناهم لَا يَخْتَلِفُونَ فِي مرابض الْغنم أَن الصَّلَاة فِيهَا جَائِزَة، وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي أعطان الْإِبِل، فقد رَأينَا حكم لحْمَان الْإِبِل كَحكم لحْمَان الْغنم فِي طَهَارَتهَا، ورأينا حكم أبوالها كَحكم أبوالها فِي طَهَارَتهَا أَو نجاستها، فَكَانَ يَجِيء فِي النّظر أَيْضا أَن يكون حكم الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْإِبِل

(4/181)


كَهُوَ فِي مَوَاضِع الْغنم قِيَاسا، ونظراً على مَا ذكرنَا، فَمن تَأمل مَا قَالَه علم أَن الْقيَاس الَّذِي ذكره لَيْسَ من جِهَة عدم التَّفْرِقَة، وَلَيْسَ هُوَ بمخالف للأحاديث الصَّحِيحَة المصرحة بالتفرقة، وَإِنَّمَا ذهب إِلَى عدم التَّفْرِقَة من حَيْثُ مُعَارضَة حَدِيث صَحِيح تِلْكَ الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة. وَهُوَ قَوْله: (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا وَطهُورًا) ، فعمومه يدل على جَوَاز الصَّلَاة فِي أعطان الْإِبِل وَغَيرهَا بعد أَن كَانَت طَاهِرَة، وَهُوَ مَذْهَب جُمْهُور الْعلمَاء، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَآخَرُونَ وكرهها الْحسن الْبَصْرِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر، وَعَن أَحْمد فِي رِوَايَة مَشْهُورَة عَنهُ أَنه إِذا صلى فِي أعطان الْإِبِل فَصلَاته فَاسِدَة، وَهُوَ مَذْهَب أهل الظَّاهِر. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: لَا بَأْس بِالصَّلَاةِ فِيهَا. وَقَالَ أصبغ: يُعِيد فِي الْوَقْت وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) وَحمل الشَّافِعِي وَجُمْهُور الْعلمَاء النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي معاطن الْإِبِل على الْكَرَاهَة إِذا كَانَ بَينه وَبَين النَّجَاسَة الَّتِي فِي أعطانها حَائِل، فَإِن لم يكن بَينهمَا حَائِل لَا تصح صلَاته.
قلت: إِذا لم يكن بَين الْمُصَلِّي وَبَين النَّجَاسَة حَائِل لَا تجوز صلَاته فِي أَي مَكَان كَانَ، وَجَوَاب آخر عَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة: إِن النَّهْي فِيهَا للتنزيه كَمَا أَن الْأَمر فِي مرابض الْغنم للْإِبَاحَة وَلَيْسَ للْوُجُوب اتِّفَاقًا وَلَا للنذب. فَإِن قلت: فِي حَدِيث الْبَراء عِنْد أبي دَاوُد: (وَسُئِلَ عَن الصَّلَاة فِي مرابض الْغنم؟ فَقَالَ: صلوا فَإِنَّهَا بركَة) . وَعند الطَّبَرِيّ فِي حَدِيث عبد اللَّه بن مُغفل: (فَإِنَّهَا بركَة من الرَّحْمَن) ، وَفِي رِوَايَة أَحْمد: (فَإِنَّهَا أقرب من الرَّحْمَة) ، وَعند الْبَزَّار من حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (فَإِنَّهَا من دَوَاب الْجنَّة) . فَكل هَذَا يدل على اسْتِحْبَاب الصَّلَاة فِي مرابض لما فِيهَا من الْبركَة، وَقرب الرَّحْمَة قلت: ذكر هَذَا للترغيب فِي الْغنم لإبعادها عَن حكم الْإِبِل، إِذا وصف أَصْحَاب الْإِبِل بالغلظ وَالْقَسْوَة، وَوصف أَصْحَاب الْغنم بِالسَّكِينَةِ، وَلَا تعلق لاستحباب الصَّلَاة بمرابض الْغنم، فَإِن قلت: مرابد الْبَقر هَل تلْحق بمرابض الْغنم أم بمرابد الْإِبِل؟ قلت: ذكر أَبُو بكر بن الْمُنْذر أَنَّهَا مُلْحقَة بمرايد الْغنم، فَلَا تكره الصَّلَاة فِيهَا. فَإِن قلت: فِي حَدِيث عبد اللَّه بن عَمْرو من مُسْند أَحْمد إلحاقها بِالْإِبِلِ كَمَا تقدم قلت: فِي إِسْنَاده عبد اللَّه بن لَهِيعَة، وَالْكَلَام فِيهِ مَشْهُور.
91 - (حَدثنَا صَدَقَة بن الْفضل قَالَ أخبرنَا سُلَيْمَان بن حَيَّان قَالَ حَدثنَا عبيد الله عَن نَافِع قَالَ رَأَيْت ابْن عمر يُصَلِّي إِلَى بعيره وَقَالَ رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَفْعَله) قد ذكرنَا أَن هَذَا الحَدِيث يخبر أَنه يصلى إِلَى الْبَعِير لَا فِي مَوْضِعه فَلَا تطابق لَهُ للتَّرْجَمَة وَقد ذكر بَعضهم فَقَالَ كَأَنَّهُ يُشِير إِلَى أَن الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي التَّفْرِقَة بَين الْإِبِل وَالْغنم لَيست على شَرطه لَكِن لَهَا طرق قَوِيَّة مِنْهَا حَدِيث جَابر بن سَمُرَة عِنْد مُسلم وَحَدِيث الْبَراء بن عَازِب عِنْد أبي دَاوُد وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ وَحَدِيث عبد الله بن مُغفل عِنْد النَّسَائِيّ وَحَدِيث سُبْرَة بن معبد عِنْد ابْن ماجة وفيهَا كلهَا التَّعْبِير بمعاطن الْإِبِل انْتهى (قلت) لَيْت شعري مَا وَجه هَذِه الْإِشَارَة وَبِمَا دلّ على مَا ذكر وَقَوله وفيهَا كلهَا التَّعْبِير بمعاطن الْإِبِل لَيْسَ كَذَلِك فَإِن الْمَذْكُور فِي حَدِيث جَابر بن سَمُرَة مبارك الْإِبِل وَالْمبَارك غير المعاطن لِأَن المبرك أَعم وَقد ذَكرْنَاهُ وَكَذَلِكَ الْمَذْكُور فِي رِوَايَة أبي دَاوُد لفظ الْمُبَارك. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول صَدَقَة بن الْفضل أَبُو الْفضل الْمروزِي مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ وَقد تقدم فِي بَاب الْعلم والعظة بِاللَّيْلِ. الثَّانِي سُلَيْمَان بن حَيَّان بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالنون منصرفا وَغير منصرف أَبُو خَالِد الْأَحْمَر الْأَزْدِيّ الْجَعْفَرِي الْكُوفِي الإِمَام مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب كَانَ من سَادَات أهل الْمَدِينَة فضلا وَعبادَة وَتُوفِّي سنة سبع وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع نَافِع مولى ابْن عمر تقدم. الْخَامِس عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه القَوْل والرؤية فِي موضِعين وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وكوفي ومدني. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا يَأْتِي ذكره عَن قريب وَترْجم عَلَيْهِ بَاب الصَّلَاة إِلَى الرَّاحِلَة وَالْبَعِير وَالشَّجر والرحل عَن مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي الْبَصْرِيّ قَالَ حَدثنَا مُعْتَمر بن سُلَيْمَان إِلَى آخِره وَأخرجه مُسلم مُنْقَطِعًا وروى الشّطْر الأول عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَابْن نمير عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر قَالَ ابْن أبي شيبَة كَانَ يُصَلِّي إِلَى رَاحِلَته وَقَالَ ابْن نمير صلى إِلَى بعير وروى الشّطْر الثَّانِي

(4/182)


عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر وَرَوَاهُ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن أَبِيه عَن عبيد الله بن عمر بِلَفْظ كَانَ يُصَلِّي سبحته حَيْثُ مَا تَوَجَّهت نَاقَته وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة ووهب بن بَقِيَّة وَابْن أبي خلف وَعبد الله بن سعيد عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن سُفْيَان بن وَكِيع حَدثنَا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر عَن عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صلى إِلَى بعيره أَو رَاحِلَته وَكَانَ يُصَلِّي على رَاحِلَته حَيْثُ مَا تَوَجَّهت بِهِ قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيث صَحِيح وَفِي الْبَاب عَن أبي الدَّرْدَاء وَرَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده بِلَفْظ " صلى بِنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَى بعير من الْمغنم " وَذكر مَالك فِي الْمُوَطَّأ أَنه بلغه أَن ابْن عمر كَانَ يسْتَتر براحلته فِي السّفر إِذا صلى وَوَصله ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " يُصَلِّي إِلَى بعيره " وَفِي الْمُحكم الْبَعِير الْجمل الْبَاذِل وَقيل الْجذع وَقد يكون للْأُنْثَى حكى عَن بعض الْعَرَب شربت من لبن بَعِيري وصرعتني بعير لي وَالْجمع أَبْعِرَة وأباعر وأباعير وبعران وبعران وَفِي الْمُخَصّص قَالَ الْفَارِسِي أباعر جمع أَبْعِرَة كأسقية وأساق وَفِي الْجَامِع الْبَعِير بِمَنْزِلَة الْإِنْسَان يجمع الْمُذكر والمؤنث من النَّاس إِذا رَأَيْت جملا على الْبعد قلت هَذَا بعير فَإِذا استثبته قلت هَذَا جمل أَو نَاقَة قَالَ الْأَصْمَعِي إِذا وضعت النَّاقة وَلَدهَا سَاعَة تضعه سليل قبل أَن يعلم أذكر هُوَ أم أُنْثَى فَإِذا علم فَإِن كَانَ ذكرا فَهُوَ سقب وَأمه مسقب وَقد أذكرت فَهِيَ مُذَكّر وَإِن كَانَ أُنْثَى فَهِيَ حَائِل وَأمّهَا أم حَائِل فَإِذا مَشى فَهُوَ راشح وَالأُم مرشح فَإِذا ارْتَفع عَن الراشح فَهُوَ جادل فَإِذا جمل فِي سنامه شحما فَهُوَ مجذومكعر وَهُوَ فِي هَذَا كُله حوار فَإِذا اشْتَدَّ قيل ربع وَالْجمع أَربَاع وَربَاع وَالْأُنْثَى ربعَة فَلَا يزَال ربعا حَتَّى يَأْكُل الشّجر ويعين على نَفسه ثمَّ هُوَ فصيل وهبع وَالْأُنْثَى فصيلة وَالْجمع فصلان وفصلان لِأَنَّهُ فصل عَن أمه فَإِذا اسْتكْمل الْحول وَدخل فِي الثَّانِي فَهُوَ ابْن مَخَاض وَالْأُنْثَى بنت مَخَاض فَإِذا اسْتكْمل السّنة الثَّانِيَة وَدخل فِي الثَّالِثَة فَهُوَ ابْن لبون وَالْأُنْثَى بنت لبون فَإِذا اسْتكْمل الثَّالِثَة وَدخل فِي الرَّابِعَة فَهُوَ حِينَئِذٍ حق وَالْأُنْثَى حقة سمي بِهِ لِأَنَّهُ اسْتحق أَن يحمل عَلَيْهِ ويركب فَإِذا مَضَت الرَّابِعَة وَدخل فِي الْخَامِسَة فَهُوَ جذع وَالْأُنْثَى جَذَعَة فَإِذا مَضَت الْخَامِسَة وَدخل فِي السّنة السَّادِسَة وَألقى ثنيته فَهُوَ ثني وَالْأُنْثَى ثنية فَإِذا مَضَت السَّادِسَة وَدخل فِي السَّابِعَة فَهُوَ حِينَئِذٍ رباع وَالْأُنْثَى ربَاعِية فَإِذا مَضَت السَّابِعَة وَدخل فِي الثَّامِنَة وَألقى السن فَهُوَ سديس وَسدس لُغَتَانِ وَكَذَا يُقَال للْأُنْثَى فَإِذا مَضَت الثَّامِنَة وَدخل فِي التَّاسِعَة فطرنا بِهِ وطلع فَهُوَ حِينَئِذٍ فاطر وباذل وَكَذَلِكَ يُقَال للْأُنْثَى فَلَا يزَال باذلا حَتَّى تمْضِي التَّاسِعَة فَإِذا مَضَت وَدخل فِي الْعَاشِرَة فَهُوَ حِينَئِذٍ مخلف ثمَّ لَيْسَ لَهُ اسْم بعد الإخلاف وَلَكِن يُقَال لَهُ باذل عَام وباذل عَاميْنِ ومخلف عَام ومخلف عَاميْنِ إِلَى مَا زَاد على ذَلِك فَإِذا كبر فَهُوَ عود وَالْأُنْثَى عودة فَإِذا ارْتَفع عَن ذَلِك فَهُوَ قحر وَالْجمع أقحر وقحور قَوْله " يَفْعَله " أَي يُصَلِّي وَالْبَعِير فِي طرف قبلته (ذكر مَا يستنبط مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة إِلَى الْحَيَوَان وَنقل ابْن التِّين عَن مَالك أَنه لَا يصلى إِلَى الْخَيل وَالْحمير لنجاسة أبوالها وَفِيه جَوَاز الصَّلَاة بِقرب الْبَعِير وَأَنه لَا بَأْس أَن يسْتَتر الْمُصَلِّي بالراحلة وَالْبَعِير فِي الصَّلَاة وَقد حكى التِّرْمِذِيّ عَن بعض أهل الْعلم أَنهم لَا يرَوْنَ بِهِ بَأْسا وروى ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه عَن أنس أَنه صلى وَبَينه وَبَين الْقبْلَة بعير عَلَيْهِ محمله وروى أَيْضا الاستتار بالبعير عَن سُوَيْد بن غَفلَة وَالْأسود بن يزِيد وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالقَاسِم وَسَالم وَعَن الْحسن لَا بَأْس أَن يسْتَتر بالبعير وَقَالَ ابْن عبد الْبر فِي الاستذكار لَا أعلم فِيهِ أَي فِي الاستتار بالراحلة خلافًا وَقَالَ ابْن حزم من منع من الصَّلَاة إِلَى الْبَعِير فَهُوَ مُبْطل
15 - (بابُ مَنْ صَلَّى وَقُدَّامَهُ تَنُّورٌ أَو نارٌ أَو شَيْءٌ مِمَّا يُعْبَد فَأَرَادَ بهِ وَجْهَ الله تَعَالَى)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم من صلى وَبَين يَدَيْهِ تنور أَو شَيْء إِلَى آخِره، يَعْنِي لَا يكره، فَإِن قلت: لَمْ يُوضح البُخَارِيّ ذَلِك بل أجمله وأبهمه يحْتَمل: لَا يكره، وَيحْتَمل: يكره، فَمن أَيْن تَرْجِيح احْتِمَال عدم الْكَرَاهَة؟ قلت: إِيرَاده بِالْحَدِيثين الْمَذْكُورين فِي الْبَاب يدل على احْتِمَال عدم الْكَرَاهَة، لِأَن النَّبِي لَا يُصَلِّي صَلَاة مَكْرُوهَة، وَلَكِن لَا يتم استدلاله بِهَذَا من وُجُوه:
الأول: مَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ بقوله: لَيْسَ مَا أرَاهُ اتعالى من النَّار حِين أطلعه عَلَيْهَا بِمَنْزِلَة نَار يتَوَجَّه الْمَرْء إِلَيْهَا وَهِي معبودة

(4/183)


لقوم، وَلَا حكم مَا أرِي ليخبرهم كَحكم من وضع الشَّيْء بَين يَدَيْهِ أَو رَآهُ قَائِما مَوْضُوعا، فَجعله أَمَام مُصَلَّاهُ وقبلته. الْوَجْه الثَّانِي: مَا ذكره السفاقسي: لَيْسَ فِيهِ مَا بوب عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يَفْعَله مُخْتَارًا، وَإِنَّمَا عرض ذَلِك لِمَعْنى أَرَادَهُ اتعالى، ورؤيته للنار رُؤْيَة عين كشف اعنها، فَأرَاهُ إِيَّاهَا، وَكَذَلِكَ الْجنَّة كَمَا كشف لَهُ عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى. الْوَجْه الثَّالِث: مَا ذكره القَاضِي السرُوجِي فِي (شرح الْهِدَايَة) فَقَالَ: لَا دلَالَة فِي هَذَا الحَدِيث على عدم الْكَرَاهَة، لِأَنَّهُ، قَالَ: أُريت النَّار، وَلَا يلْزم أَن تكون أَمَامه مُتَوَجها إِلَيْهَا، بل يجوز أَن تكون عَن يَمِينه أَو عَن يسَاره أَو غير ذَلِك. الْوَجْه الرَّابِع: مَا ذكره هُوَ أَيْضا، فَقَالَ: وَيحْتَمل أَن يكون ذَلِك وَقع لَهُ قبل شُرُوعه فِي الصَّلَاة. انْتهى. قلت: قد تصدى بَعضهم فِي نصْرَة البُخَارِيّ فَأجَاب عَن هذَيْن الْوَجْهَيْنِ بِجَوَاب تمجه الأسماع وتستمجه الطباع، وَهُوَ أَن البُخَارِيّ كوشف بِهَذَا الِاعْتِرَاض فَعجل بِالْجَوَابِ عَنهُ حَيْثُ صدر الْبَاب بالمعلق عَن أنس، فَفِيهِ: (عرضت عَليّ النَّار وَأَنا أُصَلِّي) . وَأما كَونه رَآهَا أَمَامه فسياق حَدِيث ابْن عَبَّاس يَقْتَضِيهِ، فَفِيهِ أَنهم قَالُوا لَهُ بعد أَن انْصَرف: (يَا رَسُول ارأيناك تناولت شَيْئا فِي مقامك ثمَّ رَأَيْنَاك تكعكعت) أَي: تَأَخَّرت إِلَى خلف، وَفِي جَوَابه أَن ذَلِك بِسَبَب كَونه أرى النَّار انْتهى.
فَانْظُر إِلَى هَذَا الْأَمر الْغَرِيب العجيب، شخص يكاشف اعْتِرَاض شخص يَأْتِي من بعده بِمدَّة مِقْدَار خَمْسمِائَة سنة أَو أَكثر بِقَلِيل، ويجيب عَنهُ بتصدير هَذَا الْبَاب الَّذِي فِيهِ حَدِيث أنس مُعَلّقا، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس مَوْصُولا، وَمَعَ هَذَا لَا يتم الْجَواب بِمَا ذكره، وَلَا يتم الِاسْتِدْلَال بِهِ للْبُخَارِيّ. بَيَان ذَلِك أَن قَوْله: (وَأَنا أُصَلِّي) ، فِي حَدِيث أنس، يحْتَمل أَن يكون الْمَعْنى: وَأَنا أُرِيد الصَّلَاة، وَلَا مَانع من هَذَا التَّقْدِير. وَأما تنَاوله الشَّيْء وتأخره إِلَى خلف فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس لَا يسْتَلْزم أَن يكون ذَلِك بِسَبَب رُؤْيَته النَّار أَمَامه، وَلَا يَسْتَحِيل أَن يكون ذَلِك بِسَبَب رُؤْيَته إِيَّاهَا عَن يَمِينه أَو عَن شِمَاله. وَقَوله وَفِي جَوَابه: إِن ذَلِك بِسَبَب كَونه أرِي النَّار، مُسلم إِن ذَلِك كَانَ بِسَبَب كَونه أرِي النَّار، وَلَكِن لَا نسلم أَنه كَانَ ذَلِك بِسَبَب كَون رُؤْيَته النَّار أَمَامه، وَلَئِن سلمنَا جَمِيع ذَلِك فَنَقُول: لنا جوابان آخرَانِ غير الْأَرْبَعَة الْمَذْكُورَة:
أَحدهمَا: أَنه أريها فِي جَهَنَّم وَبَينه وَبَينهَا مَا لَا يُحْصى من بعد الْمسَافَة، فَعدم كَرَاهَة صلَاته لذَلِك. وَالْآخر: يجوز أَن يكون ذَلِك مِنْهُ رُؤْيَة علم ووحي باطلاعه وتعريفه فِي أمورها، تَفْصِيلًا مَا لم يعرفهُ قبل ذَلِك. وَجَوَاب آخر: ذكره ابْن التِّين، وَقَالَ: لَا حجَّة فِيهِ على التَّرْجَمَة، لِأَنَّهُ لم يفعل ذَلِك اخْتِيَارا، وَإِنَّمَا عرض عَلَيْهِ ذَلِك للمعنى الَّذِي أَرَادَهُ امن تنبيهه للعباد، وَقَالَ بَعضهم: وَتعقب بِأَن الِاخْتِيَار وَعَدَمه فِي ذَلِك سَوَاء مِنْهُ قلت: لَا نسلم التَّسْوِيَة، فَإِن الْكَرَاهَة تتأكد عِنْد الِاخْتِيَار، وَأما عِنْد عَدمه فَلَا كَرَاهَة لعدم الْعلَّة الْمُوجبَة للكراهة، وَهِي التَّشَبُّه بعبدة النَّار. وَقَالَ ابْن بطال: الصَّلَاة جَائِزَة إِلَى كل شَيْء إِذا لم يقْصد الصَّلَاة إِلَيْهِ وَقصد بهَا اتعالى، وَالسُّجُود لوجهه خَالِصا. وَلَا يضرّهُ اسْتِقْبَال شَيْء من المعبودات وَغَيرهَا، كَمَا لم يضر النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، مَا رَآهُ فِي قبلته من النَّار.
قَوْله: (وقدامه تنور) جملَة إسمية وَقعت حَالا. فَقَوله: (تنور) مُبْتَدأ، و (قدامه) بِالنّصب على الظّرْف خَبره، و: التَّنور، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَضم النُّون الْمُشَدّدَة، وَقَالَ الْكرْمَانِي: حفيرة النَّار: قلت: التَّنور مَشْهُور، وَهُوَ تَارَة يحْفر فِي الأَرْض حفيرة، وَتارَة يتَّخذ من الطين ويدفن فِي الأَرْض وتوقد فِيهِ النَّار إِلَى أَن يحمى فيخبز فِيهِ، وَتارَة يطْبخ فِيهِ، فَقيل: هُوَ عَرَبِيّ، وَقيل: مُعرب توافقت عَلَيْهِ الْعَرَب والعجم. قَوْله: (أَو نَار) ، عطف على قَوْله: (تنور) . فَإِن قلت: هَذَا يُغني عَن ذكر التَّنور. قلت: هَذَا من عطف الْعَام على الْخَاص، وَفَائِدَته الاهتمام بِهِ لِأَن عَبدة النَّار من الْمَجُوس لَا يعْبدُونَ إلاَّ النَّار المكومة الظَّاهِرَة، وَرُبمَا لَا تظهر النَّار من التَّنور لعمقه أَو لقلَّة النَّار. قَوْله: (أَو شَيْء مِمَّا يعبد) عطف على مَا قبله، وَالتَّقْدِير أَو: من صلى وقدامه شَيْء مِمَّا يعبد كالأوثان والأصنام والتماثيل والصور وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يعبده أهل الضلال وَالْكفْر، وَهَذَا أَعم من النَّار والتنور. قَوْله: (فَأَرَادَ بِهِ وَجه ا) أَي: فَأَرَادَ الْمُصَلِّي الَّذِي قدامه شَيْء من هَذِه الْأَشْيَاء ذَات اتعالى، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الصَّلَاة إِلَى شَيْء من الْأَشْيَاء الَّتِي ذكرهَا لَا تكون مَكْرُوهَة إِذا قصد بِهِ وَجه اتعالى، وَلم يقْصد الصَّلَاة إِلَيْهِ. وَعند أَصْحَابنَا يكره ذَلِك مُطلقًا لما فِيهِ من نوع التَّشَبُّه بعبدة الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة ظَاهرا، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن ابْن سيربن أَنه كره الصَّلَاة إِلَى التَّنور، وَقَالَ: بَيت نَار.
وقالَ الزُّهْرِيُّ أَخْبرنِي أَنَسٌ قَالَ قَالَ النَّبِي عُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ وَأنَا أصلِّي

(4/184)


وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث الْمُعَلق للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، شَاهد النَّار وَهُوَ فِي الصَّلَاة، وَلَكِن فِيهِ مَا فِيهِ، وَقد أمعنا الْكَلَام فِيهِ، وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الَّذِي علقه مَوْصُولا فِي بَاب: وَقت الظّهْر عِنْد الزَّوَال، كَمَا ستقف عَلَيْهِ عَن قريب إِن شَاءَ اتعالى، وَأخرجه أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن أبي الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَأخرجه مُسلم فِي فَضَائِل النَّبِي عَن عبد اللَّه ابْن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي الْيَمَان بِهِ.

134 - حدّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ زَيْدِ بنِ أسْلَم عنْ عَطاءِ بنِ يَسَارٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عَبَّاسٍ قَالَ انْخَسَفَتِ الشَّمْسُ فَصَلَّى رسولُ الله ثُمَّ قَالَ: أُرِيتُ النَّارَ فَلَمْ أرَ مَنْظَراً كالْيَوْمِ قَطُّ أفْظَعَ. .
وَجه التطابق مَعَ مَا فِيهِ مَا ذَكرْنَاهُ هُوَ الَّذِي مضى فِي حَدِيث أنس. وَرِجَاله قد ذكرُوا غَيره مرّة.
وَمن لطائف إِسْنَاده: أَن فِيهِ: صِيغَة التحديث بِالْجمعِ فِي مَوضِع وَاحِد، وَالْبَاقِي عنعنة، وَأَن: رُوَاته كلهم مدنيون إلاَّ أَن عبد اللَّه بن مسلمة سكن الْبَصْرَة. وَأَن هَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه مر فِي بَاب كفران العشير.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صَلَاة الخسوف، وَفِي الْإِيمَان عَن عبد اللَّه بن مسلمة، وَفِي النِّكَاح عَن عبد اللَّه بن يُوسُف، وَفِي بَدْء الْخلق عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس، ثَلَاثَتهمْ عَن مَالك عَن زيد بن أسلم عَنهُ بِهِ، وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن إِسْحَاق بن عِيسَى عَن مَالك بِهِ، وَعَن سُوَيْد بن سعيد عَن حَفْص بن ميسرَة عَن زيد بن أسلم بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (انخسفت الشَّمْس) أَي: انكسفت، روى جمَاعَة أَن الْكُسُوف يكون فِي الشَّمْس وَالْقَمَر، وروى جمَاعَة فيهمَا بِالْخَاءِ، وروى جمَاعَة فِي الشَّمْس بِالْكَاف، وَفِي الْقَمَر بِالْخَاءِ، وَالْكثير فِي اللُّغَة، وَهُوَ اخْتِيَار الْفراء أَن يكون الْكُسُوف للشمس والخسوف للقمر، يُقَال: كسفت الشَّمْس وكسفها اتعالى، وانكسفت. وَخسف الْقَمَر وخسفه اوانخسف، وَذكر ثَعْلَب فِي (الفصيح) أَن كسفت الشَّمْس وَخسف الْقَمَر أَجود الْكَلَام. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري خسف الْقَمَر وخسفت الشَّمْس إِذا ذهب ضوؤهما. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة معمر بن الْمثنى: خسف الْقَمَر وكسف وَاحِد: ذهب ضوؤه، وَقيل: الْكُسُوف أَن يكسف ببعضهما، والخسوف أَن يخسف بكلهما، قَالَ اتعالى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} (الْقَصَص: 18) . وَقَالَ شمر: الْكُسُوف فِي الْوَجْه: الصُّفْرَة والتغير، وَقَالَ ابْن حبيب فِي (شرح الْمُوَطَّأ) : الْكُسُوف تغير اللَّوْن، والخسوف انخسافهما، وَكَذَلِكَ تَقول فِي عين الْأَعْوَر إِذا انخسفت وَغَارَتْ فِي جفن الْعين وَذهب نورها وضياؤها. وَفِي (نَوَادِر اليزيدي) و (الغريبين) انكسفت الشَّمْس، وانكر ذَلِك الْفراء والجوهري. وَقَالَ الْقَزاز: كسفت الشَّمْس وَالْقَمَر تكسف كسوفاً فَهِيَ كاسفة، وكسفت فَهِيَ مكسوفة وَقوم يَقُولُونَ: انكسفت وَهُوَ غلط. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الْعَامَّة يَقُولُونَ: انكسفت وَفِي (الْمُحكم) : كسفها اوأكسفها، وَالْأولَى أَعلَى، وَالْقَمَر كَالشَّمْسِ. وَقَالَ اليزيدي: خسف الْقَمَر وَهُوَ يخسف خسوفاً فَهُوَ خسف وخسيف وخاسف، وانخسف انخسافاً قَالَ: وانخسف أَكثر فِي أَلْسِنَة النَّاس، وَفِي (شرح الفصيح) لأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عبد الْجَلِيل: كسفت الشَّمْس اسودت فِي رَأْي الْعين من ستر الْقَمَر إِيَّاهَا عَن الْأَبْصَار، وَبَعْضهمْ يَقُول: كسفت على مَا لم يسم فَاعله، وانكسفت. وَعَن أبي حَاتِم: إِذا ذهب ضوء بعض الشَّمْس بخفاء بعض جرمها فَذَلِك الْكُسُوف، وَزعم ابْن التِّين وَغَيره: أَن بعض اللغويين قَالَ: لَا يُقَال فِي الشَّمْس إلاَّ كسفت، وَفِي الْقَمَر إلاَّ خسف، وَذكر هَذَا عَن عُرْوَة بن الزبير أَيْضا، وَحكى عِيَاض عَن بعض أهل اللُّغَة عَكسه، وَهَذَا غير جيد، لقَوْله تَعَالَى: {وَخسف الْقَمَر} (الْقِيَامَة: 8) . وَعند ابْن طريف: كسفت الشَّمْس وَالْقَمَر والنجوم وَالْوُجُوه كسوفاً، وَفِي (المغيث) لأبي مُوسَى: روى حَدِيث الْكُسُوف عَليّ وَابْن عَبَّاس وَأبي بن كَعْب وَسمرَة وَعبد الرَّحْمَن بن سَمُرَة وَعبد اللَّه ابْن عَمْرو والمغيرة وَأَبُو هُرَيْرَة وَأَبُو بكرَة وَأَبُو شُرَيْح الكعبي والنعمان بن بشير وَقبيصَة الْهِلَالِي، رَضِي اعنهم جَمِيعًا، بِالْكَاف. وَرَوَاهُ أَبُو مُوسَى وَأَسْمَاء وَعبد اللَّه بن عدي بن الْخِيَار، بِالْخَاءِ. وَرُوِيَ عَن جَابر وَابْن مَسْعُود (1) وَعَائِشَة رَضِي اعنهم باللفظين

(4/185)


جَمِيعًا، كلهم حكوا عَن النَّبِي: (لَا ينكسفان) ، بِالْكَاف، فَسُمي كسوف الشَّمْس وَالْقَمَر كسوفاً.
قلت: أغفل حَدِيث ابْن مَسْعُود من عِنْد البُخَارِيّ: لَا ينكسفان. قَوْله: (فصلى رَسُول ا) أَي: صَلَاة الْكُسُوف. قَوْله: (أريت) ، بِضَم الْهمزَة وَكسر الرَّاء، أَي: بصرت النَّار فِي الصَّلَاة. قَوْله: (كَالْيَوْمِ) ، الْكَاف للتشبيه بِمَعْنى: مثل، وَهُوَ صفة لقَوْله: (منْظرًا) ، وَهُوَ مَوضِع النّظر مَنْصُوب بقوله: (لم أر) . قَوْله: (أفظع) ، بِالنّصب صفة لقَوْله: (منْظرًا) ، وَفِيه حذف أَيْضا وَتَقْدِير الْكَلَام: فَلم أر منْظرًا أفظع مثل منظر الْيَوْم، وأفظع من الفظيع، وَهُوَ الشنيع الشَّديد، والمجاوز للمقدار، يُقَال: فظع الْأَمر بِالضَّمِّ، فظاعة فَهُوَ فظيع أَي: شَدِيد شنيع جَاوز الْمِقْدَار. وَكَذَلِكَ أفظع الْأَمر فَهُوَ مفظع، وأفظع الرجل، على مَا لم يسم فَاعله، أَي: نزل بِهِ أَمر عَظِيم. فَإِن قلت: أفظع أفعل، وَلَا يسْتَعْمل إلاَّ بِمن، قلت: أفظع هُنَا بِمَعْنى فظيع، فَلَا يحْتَاج إِلَى: من، أَو يكون على بَابه، وَحذف مِنْهُ من، كَمَا فِي اأكبر، أَي: أكبر من كل شَيْء. قَوْله: (قطّ) هَهُنَا لاستغراق زمَان مضى فتختص بِالنَّفْيِ، واشتقاقه من: قططته أَي: قطعته، فَمَعْنَى: مَا فعلته قطّ، مَا فعلته فِيمَا انْقَطع من عمري، وَهِي بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد الطَّاء المضمومة فِي أفْصح اللُّغَات، وَقد تكسر على أصل التقاء الساكنين، وَقد تتبع قافه طاءه فِي الضَّم، وَقد تخفف طاؤه مَعَ ضمهَا أَو اسكانها، وبنيت لتضمنها معنى: مذ، وَإِلَى إِذْ الْمَعْنى: مذ أَن خلقت إِلَى الْآن. وَإِنَّمَا بنيت على الْحَرَكَة لِئَلَّا يلتقي ساكنان، وعَلى الضمة تَشْبِيها بالغايات.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ اسْتِحْبَاب صَلَاة الْكُسُوف. وَفِيه: أَن النَّار مخلوفة الْيَوْم وَكَذَا الْجنَّة، إِذْ لَا قَائِل بِالْفرقِ خلافًا لمن أنكر ذَلِك من الْمُعْتَزلَة. وَفِيه: من معجزات النَّبِي، رُؤْيَته النَّار رَأْي عين حَيْثُ كشف اتعالى عَنهُ الْحجب، فرآها مُعَاينَة كَمَا كشف اله عَن الْمَسْجِد الْأَقْصَى. وَفِيه: على مَا بوب البُخَارِيّ عدم كَرَاهَة الصَّلَاة إِذا كَانَت بَين يَدي الْمُصَلِّي نَار وَلم يقْصد بِهِ إلاَّ وَجه اتعالى.

25 - (بابُ كَرَاهِيَةِ الصَّلاَةِ فِي المَقَابِرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كَرَاهِيَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَفِي بعض النّسخ: كَرَاهَة الصَّلَاة. الْكَرَاهَة والكراهية كِلَاهُمَا مصدران، تَقول: كرهت الشَّيْء أكرهه كَرَاهَة وكراهية، فَهُوَ شَيْء: كريه ومكروه. وَبَين الْبَابَيْنِ تناسب من حَيْثُ الضِّدّ، والمقابر جمع مَقْبرَة، بِضَم الْبَاء، هُوَ المسموع، وَالْقِيَاس فتح الْبَاء. وَفِي (شرح الْهَادِي) : إِن مَا جَاءَ على: مفعلة بِالضَّمِّ يُرَاد بهَا أَنَّهَا مَوْضُوعَة لذَلِك ومتخذة لَهُ، فَإِذا قَالُوا: الْمقْبرَة بِالْفَتْح أَرَادوا مَكَان الْفِعْل، وَإِذا ضمُّوا أَرَادوا الْبقْعَة الَّتِي من شَأْنهَا أَن يقبر فِيهَا، وَكَذَلِكَ: الْمشْربَة والمشربة، والتأنيث فِي هَذِه الْأَسْمَاء لإِرَادَة الْبقْعَة، أَو للْمُبَالَغَة، ليدل على أَن لَهَا ثباتاً فِي أَنْفسهَا.

234 - حدّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا يَحْيى عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ أَخْبرنِي نافِعٌ عنِ ابْن عُمَرَ عنِ النبيِّ قَالَ: اجْعَلُوا فِي بُيُوتِكُمْ مِنْ صَلاَتِكُمْ ولاَ تَتَّخِذُوهَا قُبُوراً. (الحَدِيث 234 طرفه فِي: 7811) .

قيل: هَذَا الحَدِيث لَا يُطَابق التَّرْجَمَة لِأَنَّهَا فِي كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَالْمرَاد من الحَدِيث: أَن لَا تَكُونُوا فِي بُيُوتكُمْ كالأموات فِي الْقُبُور حَيْثُ انْقَطَعت عَنْهُم الْأَعْمَال، وَارْتَفَعت عَنْهُم التكاليف، وَهُوَ غير متعرض لصَلَاة الْأَحْيَاء فِي ظواهر الْمَقَابِر، وَلِهَذَا قَالَ: لَا تتخذوها قبوراً، وَلم يقل: مَقَابِر. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذَا الحَدِيث يدل على النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْقَبْر لَا فِي الْمَقَابِر. وَقَالَ السفاقسي مَا ملخصه: إِن البُخَارِيّ تَأَول هَذَا الحَدِيث على منع الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، والهذا ترْجم بِهِ، وَلَيْسَ كَذَلِك لِأَن منع الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر أَو جَوَازهَا لَا يفهم مِنْهُ، وَقَالَ بَعضهم فِي رد مَا قَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ. قلت: قد ورد بِلَفْظ: الْمَقَابِر، كَمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر) . انْتهى. قلت: هَذَا عَجِيب، كَيفَ يُقَال: حَدِيث يرويهِ غَيره، بِأَنَّهُ مُطَابق لما ترْجم بِهِ؟ وَقَالَ بَعضهم أَيْضا، فِي رد مَا قَالَه السفاقسي: إِن أَرَادَ أَنه لَا يُؤْخَذ مِنْهُ بطرِيق الْمَنْطُوق فَسلم، وَإِن أَرَادَ نفي ذَلِك مُطلقًا فَلَا، فقد قدمنَا وَجه استنباطه. انْتهى. قلت: وَجه استنباطه أَنه قَالَ: استنبط من قَوْله فِي الحَدِيث: (وَلَا تتخذوها قبوراً) . أَن الْقُبُور لَيست بِمحل لِلْعِبَادَةِ، فَتكون الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة، وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى أَن مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ فِي ذَلِك حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي اعنه، مَرْفُوعا: (الأَرْض كلهَا مَسْجِد إلاَّ الْمقْبرَة وَالْحمام) . انْتهى.

(4/186)


قلت: دَعْوَاهُ بِأَن البُخَارِيّ استنبط كَذَا، وَأَنه أَشَارَ إِلَى حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ أعجب وَأغْرب من الأول لِأَن معنى قَوْله، صلى اعليه وَآله وَسلم: (لَا تتخذوها قبوراً) ، لَا تتخذوها خَالِيَة من الصَّلَاة وتلاوة الْقُرْآن كالقبور حَيْثُ لَا يصلى فِيهَا وَلَا يقْرَأ الْقُرْآن، وَيدل على هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن سابط عَن أَبِيه، يرفعهُ: (نوروا بُيُوتكُمْ بِذكر اتعالى وَأَكْثرُوا فِيهَا تِلَاوَة الْقُرْآن، وَلَا تتخذوها قبوراً كَمَا اتخذها الْيَهُود وَالنَّصَارَى، فَإِن الْبَيْت الَّذِي يقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن يَتَّسِع على أَهله وَيكثر خَيره واتحضره الْمَلَائِكَة، وتدحض عَنهُ الشَّيَاطِين، وَإِن الْبَيْت الَّذِي لَا يقْرَأ فِيهِ الْقُرْآن يضيق على أَهله ويقل خَيره وتنفر مِنْهُ الْمَلَائِكَة وتحضر فِيهِ الشَّيَاطِين) . انْتهى. وَأَيْضًا، فَإِن معنى هَذَا على التَّشْبِيه البليغ، فحذفت مِنْهُ أَدَاة التَّشْبِيه لِأَن مَعْنَاهُ لَا تجعلوها مثل الْقُبُور حَيْثُ لَا يصلى فِيهَا، وَلَا دلَالَة لهَذَا أصلا على أَنَّهَا لَيست بِمحل لِلْعِبَادَةِ بِنَوْع من أَنْوَاع الدلالات اللفظية.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: مُسَدّد بن مسرهد، وَيحيى الْقطَّان، وَعبيد اللَّه بن عمر الْعمريّ، وَنَافِع مولى ابْن عمر، وَعبد اللَّه بن عمر، وَالْكل ذكرُوا غَيره مرّة.
وَفِيه من لطائف الْإِسْنَاد: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد، وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين.
وَأخرجه: مُسلم عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل ومسدد فرقهما. وَابْن مَاجَه عَن زيد بن أخزم وَعبد الرَّحْمَن بن عَمْرو مُخْتَصرا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من صَلَاتكُمْ) ، قيل: أَي بعض صَلَاتكُمْ. قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ مفعول الْجعل، وَهُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى وَاحِد، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَجعل الظُّلُمَات والنور} (الْأَنْعَام: 1) وَهُوَ إِذا كَانَ بِمَعْنى: التصيير، يتَعَدَّى إِلَى مفعولين، كَقَوْلِه تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جعلكُمْ خلائف الأَرْض} (الْأَنْعَام: 561) قلت: معنى قَوْله: (اجعلوا فِي بُيُوتكُمْ من صَلَاتكُمْ) : صلوا فِيهَا وَلَا تجعلوها كالقبور مهجورة من الصَّلَاة، وَالْمرَاد صَلَاة النَّافِلَة، أَي: صلوا النَّوَافِل فِي بُيُوتكُمْ. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض: قيل هَذَا فِي الْفَرِيضَة، وَمَعْنَاهُ: اجعلوا بعض فرائضكم فِي بُيُوتكُمْ ليقتدي بكم من لَا يخرج إِلَى الْمَسْجِد من نسْوَة وَعبيد ومريض وَنَحْوهم. قَالَ: وَقَالَ الْجُمْهُور: بل هُوَ فِي النَّافِلَة لإخفائها، وَلِلْحَدِيثِ الآخر: (أفضل الصَّلَاة صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاَّ الْمَكْتُوبَة) . قلت: فعلى التَّقْدِير الأول يكون: من، فِي قَوْله: (من صَلَاتكُمْ) ، زَائِدَة، وَيكون التَّقْدِير: إجعلوا صَلَاتكُمْ فِي بُيُوتكُمْ، وَيكون المُرَاد مِنْهَا النَّوَافِل، وعَلى التَّقْدِير الثَّانِي تكون: من، للتَّبْعِيض مُطلقًا. وَيكون المُرَاد: من الصَّلَاة، مُطلق الصَّلَاة، وَيكون الْمَعْنى: اجعلوا بعض صَلَاتكُمْ وَهُوَ النَّفْل من الصَّلَاة الْمُطلقَة فِي بُيُوتكُمْ، وَالصَّلَاة الْمُطلقَة تَشْمَل النَّفْل وَالْفَرْض، على أَن الْأَصَح منع مَجِيء من، زَائِدَة فِي الْكَلَام الْمُثبت، وَلَا يجوز حمل الْكَلَام على الْفَرِيضَة لَا كلهَا وَلَا بَعْضهَا، لِأَن الْحَث على النَّفْل فِي الْبَيْت، وَذَلِكَ لكَونه أبعد من الرِّيَاء وأصون من المحبطات، وليتبرك بِهِ الْبَيْت وتنزل الرَّحْمَة فِيهِ وَالْمَلَائِكَة، وتنفر الشَّيَاطِين مِنْهُ على مَا دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث الَّذِي أخرجه الطَّبَرَانِيّ الَّذِي ذَكرْنَاهُ عَن قريب قَوْله: (وَلَا تتخذوها قبوراً) من التَّشْبِيه البليغ البديع بِحَذْف حرف التَّشْبِيه للْمُبَالَغَة، وَهُوَ تَشْبِيه الْبَيْت الَّذِي لَا يصلى فِيهِ بالقبر الَّذِي لَا يتَمَكَّن الْمَيِّت من الْعِبَادَة فِيهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: يحْتَمل أَن يكون مَعْنَاهُ: لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ أوطاتاً للنوم لَا تصلونَ فِيهَا، فَإِن النّوم أَخُو الْمَوْت. وَقَالَ: وَأما من أَوله على النَّهْي عَن دفن الْمَوْتَى فِي الْبيُوت فَلَيْسَ بِشَيْء، وَقد دفن رَسُول الله فِي بَيته الَّذِي كَانَ يسكنهُ أَيَّام حَيَاته. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ شَيْء فِيهِ نظر، وَدفن رَسُول الله فِيهِ لَعَلَّه من خَصَائِصه، سِيمَا وَقد رُوِيَ: (الْأَنْبِيَاء يدفنون حَيْثُ يموتون) . قلت: هَذِه الرِّوَايَة رَوَاهَا ابْن مَاجَه من حَدِيث ابْن عَبَّاس عَن أبي بكر مَرْفُوعا: (مَا قبض نَبِي إلاَّ دفن حَيْثُ يقبض) . وَفِي إِسْنَاده: حُسَيْن بن عبد اللَّه الْهَاشِمِي، وَهُوَ ضَعِيف، وروى التِّرْمِذِيّ فِي (الشَّمَائِل) وَالنَّسَائِيّ فِي (الْكُبْرَى) من طَرِيق سَالم بن عبيد الْأَشْجَعِيّ: (عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي اتعالى عَنهُ أَنه: قيل لَهُ: وَأَيْنَ يدْفن رَسُول ا؟ قَالَ: فِي الْمَكَان الَّذِي قبض افيه روحه، فَإِنَّهُ لم يقبض روحه إلاَّ فِي مَكَان طيب) ، وَهَذَا الْإِسْنَاد صَحِيح وَلكنه مَوْقُوف، وَحَدِيث ابْن مَاجَه أَكثر تَصْرِيحًا فِي الْمَقْصُود.
وَقَالَ بَعضهم: وَإِذا حمل دَفنه فِي بَيته على الِاخْتِصَاص لم يبعد نهي غَيره عَن ذَلِك، بل هُوَ مُتَّجه لِأَن اسْتِمْرَار الدّفن فِي الْبيُوت رُبمَا يصيرها مَقَابِر فَتَصِير الصَّلَاة فِيهَا مَكْرُوهَة. وَلَفظ أبي هُرَيْرَة عِنْد مُسلم أصرح من حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ قَوْله: (لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ مَقَابِر) ، فَإِن ظَاهره يَقْتَضِي النَّهْي عَن الدّفن فِي الْبيُوت مُطلقًا. قلت: لَا نسلم هَذَا الِاقْتِضَاء من ظَاهر اللَّفْظ، بل الْمَعْنى الَّذِي يدل عَلَيْهِ ظَاهر اللَّفْظ: لَا تجْعَلُوا بُيُوتكُمْ

(4/187)


خَالِيَة عَن الصَّلَاة كالمقابر، فَإِنَّهَا لَيست بِمحل لِلْعِبَادَةِ، وَلِهَذَا احتجت بِهِ طَائِفَة على كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: دَلِيل على أَن الصَّلَاة لَا تجوز فِي الْمَقَابِر. قلت: الحَدِيث لَا يدل على هَذَا، بل تَرْجَمَة الْبَاب تساعده على ذَلِك، وَقد حققنا الْكَلَام فِيهِ. وَقد وَردت أَحَادِيث عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة تدل على كَرَاهَة الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، بل استدلت بهَا جمَاعَة على عدم الْجَوَاز كَمَا ذكرنَا فِيمَا مضى، وَهِي مَا رُوِيَ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ وَعلي وَعبد اللَّه بن عَمْرو وَأبي هُرَيْرَة وَجَابِر وَابْن عَبَّاس وَحُذَيْفَة وَأنس وَأبي أُمَامَة وَأبي ذَر، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: حدّثنا ابْن أبي عمر أَبُو عمار الْحُسَيْن بن حُرَيْث، قَالَ: أخبرنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن عَمْرو بن يحيى عَن أَبِيه سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (الأَرْض كلهَا مَسْجِدا إلاَّ الْمقْبرَة وَالْحمام) . ثمَّ قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَليّ، وَذكر من ذَكَرْنَاهُمْ إِلَى آخِره، وللعلماء قَولَانِ فِي معنى حَدِيث الْبَاب: أَحدهمَا: أَنه ورد فِي صَلَاة النَّافِلَة لِأَنَّهُ قد سنّ الصَّلَوَات فِي جمَاعَة كَمَا هُوَ مُقَرر فِي الشَّرْع. وَالثَّانِي: أَنه ورد فِي صَلَاة الْفَرِيضَة ليقتدي بِهِ من لَا يَسْتَطِيع الْخُرُوج إِلَى الْمَسْجِد، وَقد ذَكرْنَاهُ مفصلا عَن قريب، من صلى فِي بَيته جمَاعَة فقد أصَاب سنة الْجَمَاعَة وفضلها. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا صلى الرجل مَعَ الرجل فهما جمَاعَة، وَلَهُمَا التَّضْعِيف خمْسا وَعشْرين دَرَجَة، وَرُوِيَ أَن إِسْحَاق وَأحمد وَعلي بن الْمدنِي اجْتَمعُوا فِي دَار أَحْمد فَسَمِعُوا النداء، فَقَالَ أحدهم أخرج بِنَا إِلَى الْمَسْجِد، فَقَالَ أَحْمد: خروجنا إِنَّمَا هُوَ للْجَمَاعَة وَنحن جمَاعَة، فأقاموا الصَّلَاة وصلوا فِي الْبَيْت: وَقد رُوِيَ عَن جمَاعَة أَنهم كَانُوا لَا يتطوعون فِي الْمَسْجِد، مِنْهُم حُذَيْفَة والسائب بن يزِيد وَالربيع بن خثيم وسُويد بن غلفة، وَمن هَذَا أَخذ علماءونا أَن الْأَفْضَل فِي غير الْفَرَائِض الْمنزل، وروى ابْن أبي شيبَة بِسَنَد جيد عَن زيد بن خَالِد الْجُهَنِيّ يرفعهُ: (صلوا فِي بُيُوتكُمْ وَلَا تتخذوها قبوراً) ، وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث جَعْفَر بن إِبْرَاهِيم عَن ولد ذِي الجناحين حَدثنِي عَليّ بن عمر عَن أَبِيه جَعْفَر الطيار عَن عَليّ بن الْحُسَيْن عَن أَبِيه عَن جده يرفعهُ: (لَا تَتَّخِذُوا قَبْرِي عيداً وَلَا بُيُوتكُمْ قبوراً) . وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حدّثنا أَبُو بكرَة قَالَ: حدّثنا أَبُو الْمطرف بن أبي الْوَزير قَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن مُوسَى عَن سعيد بن إِسْحَاق عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الْمغرب فِي مَسْجِد بني عبد الْأَشْهَل، فَلَمَّا فرغ رأى النَّاس يسبحون، فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس إِنَّمَا هَذِه الصَّلَاة فِي الْبيُوت) .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه أَيْضا، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن بَحر بن نصر بِإِسْنَادِهِ عَن عبد اللَّه بن سعد، قَالَ: (سَأَلت النَّبِي عَن الصَّلَاة فِي بَيْتِي وَالصَّلَاة فِي الْمَسْجِد فَقَالَ: قد ترى مَا أقرب بَيْتِي من الْمَسْجِد، فَلِأَن أُصَلِّي فِي بَيْتِي أحب إِلَيّ من أَن أُصَلِّي فِي الْمَسْجِد إلاَّ أَن تكون صَلَاة مَكْتُوبَة) . وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: بَاب الْقيام فِي شهر رَمَضَان هَل هُوَ فِي الْمنَازل أفضل أم مَعَ الإِمَام؟ ثمَّ روى حَدِيث أبي ذَر، رَضِي اتعالى عَنهُ، قَالَ: (صمت مَعَ النَّبِي)
الحَدِيث وَفِيه: (إِن الْقَوْم إِذا صلوا مَعَ الإِمَام حَتَّى ينْصَرف كتب لَهُم قيام تِلْكَ اللَّيْلَة) . ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى أَن الْقيام فِي شهر رَمَضَان مَعَ الإِمَام أفضل مِنْهُ فِي الْمنَازل، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا ذكرنَا، وَأَرَادَ بهؤلاء: اللَّيْث بن سعد وَعبد اللَّه بن الْمُبَارك وَإِسْحَاق وَأحمد فَإِنَّهُم قَالُوا: الْقيام مَعَ الإِمَام فِي شهر رَمَضَان أفضل مِنْهُ فِي الْمنَازل. وَقَالَ أَبُو عمر: قَالَ أَحْمد بن حَنْبَل: الْقيام فِي الْمَسْجِد مَعَ الإِمَام أحب إِلَيّ وَأفضل من صَلَاة المرأ فِي بَيته. وَقَالَ بِهِ قوم من الْمُتَأَخِّرين من أَصْحَاب أبي حنيفَة وَأَصْحَاب الشَّافِعِي، فَمن أَصْحَاب أبي حنيفَة: عِيسَى بن أبان وبكار بن قُتَيْبَة وَأحمد بن أبي عمرَان. وَمن أَصْحَاب الشَّافِعِي: إِسْمَاعِيل بن يحيى الْمُزنِيّ وَمُحَمّد بن عبد اللَّه بن الحكم. وَقَالَ أَحْمد: كَانَ جَابر وَعلي وَعبد اللَّه يصلونها فِي جمَاعَة.
قلت: ويحكى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب وَمُحَمّد بن سِيرِين وَطَاوُس، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا الْحَنَفِيَّة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) يسْتَحبّ أَن يجْتَمع النَّاس فِي شهر رَمَضَان بعد الْعشَاء فَيصَلي بهم إمَامهمْ خمس ترويحات، ثمَّ قَالَ: وَالسّنة فِيهَا الْجَمَاعَة على وَجه الْكِفَايَة، حَتَّى لَو امْتنع أهل مَسْجِد عَن إِقَامَتهَا كَانُوا مسيئين، وَلَو أَقَامَهَا الْبَعْض فالمتخلف عَن الْجَمَاعَة تَارِك للفضيلة، لِأَن أَفْرَاد الصَّحَابَة يرْوى عَنْهُم التَّخَلُّف، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ فَقَالُوا: بل صلَاته فِي بَيته أفضل من صلَاته مَعَ الإِمَام، وَأَرَادَ بهؤلاء الْقَوْم: مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ وَرَبِيعَة وَإِبْرَاهِيم وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالْأسود وعلقمة، فَإِنَّهُم قَالُوا: بل صلَاته فِي بَيته أفضل من صلَاته مَعَ الإِمَام. وَقَالَ أَبُو عمر: اخْتلفُوا فِي الْأَفْضَل من الْقيام مَعَ النَّاس أَو الِانْفِرَاد فِي شهر رَمَضَان، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ: صَلَاة الْمُنْفَرد فِي بَيته أفضل، وَقَالَ مَالك: وَكَانَ ربيعَة وَغير وَاحِد من عُلَمَائِنَا يَنْصَرِفُونَ

(4/188)


وَلَا يقومُونَ مَعَ النَّاس. وَقَالَ مَالك: وَأَنا أفعل ذَلِك، وَمَا قَامَ رَسُول ا، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، إلاَّ فِي بَيته. وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عمر وَسَالم وَالقَاسِم وَإِبْرَاهِيم وَنَافِع أَنهم كَانُوا يَنْصَرِفُونَ وَلَا يقومُونَ مَعَ النَّاس. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَاخْتَارَ الشَّافِعِي أَن يُصَلِّي الرجل وَحده إِذا كَانَ قَارِئًا، ثمَّ احْتج الطَّحَاوِيّ بهؤلاء بِمَا رَوَاهُ زيد بن ثَابت عَن النَّبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (خير صَلَاة الْمَرْء فِي بَيته إلاَّ الْمَكْتُوبَة) ، ثمَّ روى عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ لَا يُصَلِّي خلف الإِمَام فِي شهر رَمَضَان، وَرُوِيَ أَيْضا إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ، وَذهب إِلَيْهِ الطَّحَاوِيّ أَيْضا حَتَّى قَالَ فِي آخر الْبَاب: وَذَلِكَ هُوَ الصَّوَاب.

35 - (بابُ الصَّلاَةِ فِي مَوَاضِعِ الخَسْفِ وَالعَذَابِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة فِي الْأَمْكِنَة الَّتِي خسفت أَو نزل عَلَيْهَا الْعَذَاب، وَأبْهم حكمه حَيْثُ لم يبين: هَل هِيَ مَكْرُوهَة أَو غير جَائِزَة؟ وَلَكِن تَقْدِيره: يكره لدلَالَة أثر عَليّ، على ذَلِك، يُقَال: خسف الْمَكَان يخسف خسوفاً: ذهب فِي الأَرْض، وَخسف ابه الأَرْض خسفاً، أَي: غَابَ بِهِ فِيهَا، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْض} (الْقَصَص: 18) وَخسف هُوَ فِي الأَرْض، وَخسف بِهِ، وخسوف الْعين ذهابها فِي الرَّأْس، وخسوف الْقَمَر كسوفه. قَوْله: (وَالْعَذَاب) ، من بَاب عطف الْعَام على الْخَاص.
ويُذْكَرُ أنَّ عَلِيًّا رَضِي الله عَنهُ كَرِه الصَّلاَةَ بِخَسْفِ بابِلَ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ يدل أَيْضا على أَن مُرَاده من عقد هَذَا الْبَاب هُوَ الْإِشَارَة إِلَى أَن الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْخَسْف مَكْرُوهَة وَهَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع، حدّثنا سُفْيَان حدّثنا عبد اللَّه بن شريك عَن عبد اللَّه بن أبي الْمحل العامري، قَالَ: (كُنَّا مَعَ عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، فمررنا على الْخَسْف الَّذِي بِبَابِل، فَلم يصلِّ حَتَّى أجَازه) أَي: تعداه، و: الْمحل، بِضَم الْمِيم وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام، وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : من حَدِيث حجاج بن شَدَّاد عَن أبي صَالح الْغِفَارِيّ (عَن عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، أَنه مر بِبَابِل وَهُوَ يسير، فَجَاءَهُ الْمُؤَذّن يُؤذن بِصَلَاة الْعَصْر، فَلَمَّا بدر مِنْهَا أَمر الْمُؤَذّن، فَأَقَامَ، فَلَمَّا فرغ من الصَّلَاة قَالَ: إِن حَبِيبِي، صلى اتعالى عَلَيْهِ وَسلم، نهاني أَن أُصَلِّي فِي الْمقْبرَة، ونهاني أَن أُصَلِّي فِي أَرض بابل، فَإِنَّهَا ملعونة) .
قَالَ ابْن يُونُس أَبُو صَالح الْغِفَارِيّ: سعيد بن عبد الرَّحْمَن روى عَن عَليّ، وَمَا أَظُنهُ سمع مِنْهُ. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: فِي سَنَده رجال لَا يعْرفُونَ. وَقَالَ عبد الْحق: هُوَ حَدِيث واهٍ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : إِسْنَاده غير قوي. وَقَالَ الْخطابِيّ: فِي سَنَده مقالٌ وَلَا أعلم أحدا من الْعلمَاء حرم الصَّلَاة فِي أَرض بابل، وَقد عَارضه مَا هُوَ أصح مِنْهُ، وَهُوَ قَوْله: (جعلت لي الأَرْض مَسْجِدا) وَيُشبه، إِن ثَبت الحَدِيث، أَن يكون نَهَاهُ أَن يتخذها وطناً ومقاماً، فَإِذا أَقَامَ بهَا كَانَت صلَاته بهَا، وَهَذَا من بَاب التَّعْلِيق فِي علم الْبَيَان قلت: أَرَادَ بهَا الْمُلَازمَة الشَّرْعِيَّة، لِأَن من لَازم إِقَامَة شخص بمَكَان أَن تكون صلَاته فِيهِ، فَيكون من بَاب إِطْلَاق الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم، وَإِنَّمَا قيدنَا الْمُلَازمَة بالشرعية لانْتِفَاء الْمُلَازمَة الْعَقْلِيَّة. وَقَالَ الْخطابِيّ أَيْضا: لَعَلَّ النَّهْي لعَلي خَاصَّة، أَلا ترى أَنه قَالَ: نهاني، وَلَعَلَّ ذَلِك إنذار مِنْهُ مَا لَقِي من المحنة بِالْكُوفَةِ، وَهِي من أَرض بابل. قَالَ أَبُو عبيد الْبكْرِيّ: بابل بالعراق مَدِينَة السحر مَعْرُوفَة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: بابل، اسْم مَوضِع بالعراق ينْسب إِلَيْهِ السحر وَالْخمر، وَقَالَ الْأَخْفَش: لَا ينْصَرف لتأنيثه، وَذَلِكَ أَن اسْم كل شَيْء مؤنث إِذا كَانَ أَكثر من ثَلَاثَة أحرف فَإِنَّهُ لَا ينْصَرف فِي الْمعرفَة، وَقَالَ أَصْحَاب الْأَخْبَار: بنى نمْرُود المجدل، أَي: الْقصر بهَا، وَطوله فِي السَّمَاء خَمْسَة آلَاف ذِرَاع، وَهُوَ الْبُنيان الَّذِي ذكره اتعالى فِي كِتَابه الْعَزِيز، بقوله تَعَالَى: {فَأتى ابنيانهم من الْقَوَاعِد} (النَّحْل: 62) وَبَات النَّاس ولسانهم سرياني فَأَصْبحُوا وَقد تَفَرَّقت لغاتهم على اثْنَيْنِ وَسبعين لِسَانا، كل يتبلبل بِلِسَانِهِ، فَسمى الْموضع بابلاً. وَقَالَ الْهَمدَانِي: وَرُبمَا سموا الْعرَاق بابلاً، قَالَ عمر بن أبي ربيعَة، وأتى الْبَصْرَة فضافه ابْن الْهلَال الْمَعْرُوف بصديق الْجِنّ:
(يَا أهل بابل مَا نفست عَلَيْكُم ... من عيشكم إلاَّ ثَلَاث خلال)

:
(مَاء الْفُرَات، وظل عَيْش بَادر ... وغنى مسمعتين لِابْنِ هِلَال)

وَذكر الطَّبَرَانِيّ فِي تَفْسِيره: بابل، اسْم قَرْيَة أَو مَوضِع من مَوَاضِع الأَرْض، وَقد اخْتلف أهل التَّأْوِيل فِيهَا، فَقَالَ بَعضهم، وَهُوَ السّديّ: هِيَ بابل دنباوند، وَقَالَ بَعضهم: بل ذَلِك بالعراق، ورد ذَلِك فِي حَدِيث مَرْوِيّ عَن عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا

(4/189)


وَاعْلَم أَنه قد وَردت أَحَادِيث فِيهَا النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي مَوَاضِع، مِنْهَا: حَدِيث ابْن عمر، رَضِي اتعالى عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله نهى أَن يصلى فِي سَبْعَة مَوَاطِن: فِي المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطَّرِيق وَفِي الْحمام وَفِي معاطن الْإِبِل وَفَوق ظهر بَيت ا) ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه. وَقَالَ القَاضِي أَبُو بكر ابْن الْعَرَبِيّ: الْمَوَاضِع الَّتِي لَا يصلى فِيهَا ثَلَاثَة عشر موضعا، فَذكر السَّبْعَة الْمَذْكُورَة وَزَاد: إِلَى الْمقْبرَة. وأمامك جِدَار مرحاض عَلَيْهِ نَجَاسَة والكنيسة والبيعة وَفِي قبلتك تماثيل وَفِي دَار الْعَذَاب. وَذكر غَيره، الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة وَإِلَى النَّائِم والمتحدث، وَالصَّلَاة فِي بطن الْوَادي وَالصَّلَاة فِي مَسْجِد الضرار، فَصَارَت الْجُمْلَة ثَمَانِيَة عشر موضعا.
فَنَقُول: أما المزبلة فَهِيَ الْمَكَان الَّذِي يلقى فِيهِ الزبل، وَهُوَ السرجين، وفيهَا لُغَتَانِ: فتح الْبَاء وَضمّهَا، أما الصَّلَاة فِيهَا فَإِن كَانَت بهَا نَجَاسَة فَتحرم الصَّلَاة فِيهَا من غير حَائِل، وَإِن فرش عَلَيْهَا شَيْء حَائِل بَينه وَبَينهَا انْتَفَى التَّحْرِيم وَبقيت الْكَرَاهَة. وَأما المجرزة: فَهِيَ: بِفَتْح الزَّاي: الْمَكَان الَّذِي ينْحَر فِيهِ الْإِبِل ويذبح فِيهِ الْبَقر وَالْغنم، وَهِي أَيْضا مَحل الدِّمَاء والأرواث، وَالْكَلَام فِيهِ مثل الْكَلَام فِي المزبلة. وَأما الْمقْبرَة: فقد مر الْكَلَام فِيهَا. وَأما قَارِعَة الطَّرِيق: فَلَمَّا فِيهَا من شغل الخاطر بمرور النَّاس ولغطهم. وَأما الْحمام: فَقَالَ أَحْمد: لَا تصح الصَّلَاة فِيهَا، وَمن صلى فِيهَا أعَاد أبدا، وَعند الْجُمْهُور يكره وَلَا يبطل، ثمَّ قيل: الْعلَّة الغسالات، وَقيل: لِأَنَّهَا مأوى الشَّيَاطِين، فعلى الأول إِذا صلى فِي مَكَان طَاهِر فِيهَا لَا يكره، وَيلْزم من الثَّانِي أَن تكره الصَّلَاة فِي غير الْحمام أَيْضا لعدم خلو الْأَمْكِنَة من الشَّيَاطِين. وَأما معاطن الْإِبِل: فقد مر الْكَلَام فِيهَا. وَأما الصَّلَاة فَوق ظهر بَيت ا: فَفِيهِ خلاف وتفصيل عرف ذَلِك من الْفُرُوع. وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَلم يَصح فِيهِ حَدِيث. وَأما الصَّلَاة إِلَى جِدَار مر حاض: فَلَمَّا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن عبد اللَّه بن عَمْرو، قَالَ: (لَا يصلى إِلَى الحش) ، وَعَن عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ: (لَا تصلي تجاه حش) . وَعَن إِبْرَاهِيم: (كَانُوا يكْرهُونَ ثَلَاثَة أَبْيَات الْقبْلَة وَذكر مِنْهَا الحش) . وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) : وَقد نَص الشَّافِعِي على أَنه لَا تكره الصَّلَاة إِذا صلى وَبَين يَدَيْهِ جيفة، وَحكى الْمُحب الطَّبَرِيّ فِي (شرح التَّنْبِيه) : أَنه يكره اسْتِقْبَال الْجِدَار النَّجس والمتنجس فِي الصَّلَاة، وَقَالَ ابْن حبيب من الْمَالِكِيَّة: من تعمد الصَّلَاة إِلَى نَجَاسَة بطلت صلَاته إلاَّ أَن يكون بَعيدا جدا. وَأما الصَّلَاة فِي الْكَنِيسَة والبيعة: فكرهها الْحسن الْبَصْرِيّ، وَفِي (مُصَنف ابْن أبي شيبَة) : إِن ابْن عَبَّاس كره الصَّلَاة فِي الْكَنِيسَة إِذا كَانَت فِيهَا تصاوير، وَلم ير الشّعبِيّ وَعَطَاء وَابْن أبي رَبَاح بِالصَّلَاةِ فِي الْكَنِيسَة والبيعة بَأْسا وَكَذَلِكَ ابْن سِيرِين، وَصلى أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَعمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْكَنِيسَة.
وَأما الصَّلَاة إِلَى قبْلَة فِيهَا تماثيل:، فقد مر الْكَلَام فِيهَا. وَأما الصَّلَاة فِي دَار الْعَذَاب: فَلَمَّا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، وَقد ذكر عَن قريب. وَأما الصَّلَاة فِي الأَرْض الْمَغْصُوبَة: فَلَمَّا فِيهِ من اسْتِعْمَال حق الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه فَيحرم وَتَصِح وَلَا ثَوَاب فِيهَا. وَأما الصَّلَاة إِلَى النَّائِم والمتحدث: فَلَمَّا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس النَّهْي فِي ذَلِك رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه. وَأما الصَّلَاة فِي بطن الْوَادي؛ فَهُوَ خوف السَّيْل السالب للخشوع، قَالَه الرَّافِعِيّ، وَإِن لم يتَوَقَّع ذَلِك. فَيجوز أَن يُقَال: لَا كَرَاهَة. وَأما الصَّلَاة فِي مَسْجِد الضرار: فَلقَوْله تَعَالَى: {لَا تقم فِيهِ أبدا} (التَّوْبَة: 801) وَقَالَ ابْن حزم: لَا تصح الصَّلَاة فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مَوضِع صَلَاة، وَقَالَ: لَا تجوز الصَّلَاة أَيْضا فِي مَسْجِد يستهزأ فِيهِ با أَو بِرَسُولِهِ، أَو بِشَيْء من الدّين، أَو فِي مَكَان يكفر فِيهِ بِشَيْء، فَإِن لم يُمكنهُ الزَّوَال وَلَا قدرَة صلى، وأجزأته صلَاته.

33449 - حدّثنا إسْماعِيلُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثني مالِكٌ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ دِينَارٍ عنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ رَضِي اعنهما أنَّ رسولَ قَالَ لاَ تَدْخلُوا عَلى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أنْ تَكُونُوا باكِينَ فإِنْ لَمْ تكُونُوا باكِينَ فَلاَ تَدْخُلُوا عَلَيْهِمْ لاَ يُصِيبُكُمْ مَا أصَابَهُمْ. (الحَدِيث 334 أَطْرَافه فِي: 0833، 1833، 9144، 0244، 2074) .

هَذَا الحَدِيث مُطَابق لأثر عَليّ من حَيْثُ عدم النُّزُول من النَّبِي لما مر بِالْحجرِ ديار ثَمُود فِي حَال توجهه إِلَى تَبُوك، وَمن عَليّ كَذَلِك حَيْثُ لم ينزل لما أَتَى خسف بابل، فأثر عَليّ، رَضِي اتعالى عَنهُ، مُطَابق للتَّرْجَمَة للْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ، فَكَذَلِك حَدِيث ابْن عمر مُطَابق للتَّرْجَمَة، لِأَن المطابق للمطابق للشَّيْء مُطَابق لذَلِك الشَّيْء، وَعدم نزولهما فيهمَا مُسْتَلْزم لعدم الصَّلَاة فيهمَا، وَعدم الصَّلَاة لأجل الْكَرَاهَة وَالْبَاب مَعْقُود لبَيَان الْكَرَاهَة، فحصلت الْمُطَابقَة فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة، ذكرُوا

(4/190)


غير مرّة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ الْمَشْهُور بِابْن أويس.
وَمن لطائف إِسْنَاده: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع، والعنعنة فِي مَوضِع، وَأَن رُوَاته كلهم مدنيون.
وَأخرجه: البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن يحيى بن بكر، وَفِي التَّفْسِير عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن معن بن عِيسَى عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (هَؤُلَاءِ الْمُعَذَّبين) ، بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة: يَعْنِي ديار هَؤُلَاءِ وهم أَصْحَاب الْحجر قوم ثَمُود وَهَؤُلَاء قوم صَالح، عَلَيْهِ السَّلَام، و: الْحجر، بِكَسْر الْحَاء وَسُكُون الْجِيم: بلد بَين الشَّام والحجاز، وَعَن قَتَادَة فِيمَا ذكره الطَّبَرِيّ: الْحجر اسْم الْوَادي الَّذِي كَانُوا بِهِ. وَعَن الزُّهْرِيّ: هُوَ اسْم مدينتهم، وَكَانَ نهي النَّبِي إيَّاهُم بقوله: (لَا تدْخلُوا) حِين مروا مَعَ النَّبِي بِالْحجرِ فِي حَال توجههم إِلَى تَبُوك، وللبخاري فِي (أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء) عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لَا تدْخلُوا مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم) . وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا قَالَ: (لَا تدْخلُوا) من جِهَة التشاؤم بِتِلْكَ الْبقْعَة الَّتِي نزل بهَا السخط، يدل عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وسكنتم فِي مسَاكِن الَّذين ظلمُوا أنفسهم} (إِبْرَاهِيم: 54) فِي مقَام التوبيخ على السّكُون فِيهَا، وَقد تشاءم بالبقعة الَّتِي نَام فِيهَا عَن الصَّلَاة، ورحل عَنْهَا ثمَّ صلى، فكراهية الصَّلَاة فِي مَوضِع الْخَسْف، أولى، ثمَّ اسْتثْنى من ذَلِك قَوْله. (إلاَّ أَن تَكُونُوا بَاكِينَ) فأباح الدُّخُول فِيهِ على وَجه الْبكاء وَالِاعْتِبَار، وَهَذَا يدل على أَن من صلى هُنَاكَ لَا تفْسد صلَاته، مَوضِع بكاء وَاعْتِبَار.
وَزَعَمت الظَّاهِرِيَّة: أَن من صلى فِي بِلَاد ثَمُود وَهُوَ غير باك فَعَلَيهِ سُجُود السَّهْو إِن كَانَ سَاهِيا، وَإِن تعمد ذَلِك بطلت صلَاته. قلت: هَذَا خلف من القَوْل إِذْ لَيْسَ فِي الحَدِيث مَا يدل على فَسَاد صَلَاة من لم يبك، وَإِنَّمَا فِيهِ خوف نزُول الْعَذَاب بِهِ. وَقَالَ الْخطابِيّ: معنى هَذَا الحَدِيث أَن الدَّاخِل فِي ديار الْقَوْم الَّذين أهلكوا بخسف وَعَذَاب، إِذا دَخلهَا فَلم يجلب عَلَيْهِ مَا يرى من آثَار مَا نزل بهم بكاء، وَلم يبْعَث عَلَيْهِ حزنا إِمَّا شَفَقَة عَلَيْهِم وَإِمَّا خوفًا من حُلُول مثلهَا بِهِ، فَهُوَ قاسي الْقلب قَلِيل الْخُشُوع غير مستشعر للخوف والوجل، فَلَا يَأْمَن إِذا كَانَ حَاله كَذَلِك أَن يُصِيبهُ مَا أَصَابَهُم، وَهُوَ معنى قَوْله: (لَا يُصِيبكُم مَا أَصَابَهُم) . وَهُوَ بِالرَّفْع لِأَنَّهُ اسْتِئْنَاف كَلَام.
وَقَالَ بَعضهم: وَالْمعْنَى فِيهِ: لِئَلَّا يصبيكم. قلت: الْجُمْلَة الاستئنافية لَا تكون تعليلاً. وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَيجوز الْجَزْم على أَن: لَا ناهية وَهُوَ أوجه. قلت: هَذَا مَبْنِيّ على صِحَة الرِّوَايَة بذلك. وَقَوله: وَهُوَ أوجه، غير موجه، لِأَنَّهُ لم يبين وَجهه، وَفِي لفظ البُخَارِيّ: (أَن يُصِيبكُم) ، بِفَتْح همزَة: أَن، وَفِيه إِضْمَار تَقْدِيره: حذر أَن يُصِيبكُم، أَو خشيَة أَن يُصِيبكُم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ يُصِيب عَذَاب الظَّالِمين لغَيرهم، {وَلَا تزر وَازِرَة وزر أُخْرَى} (الْأَنْعَام: 461، الْإِسْرَاء: 51 فاطر: 81، الزمر: 7، النَّجْم: 83) قلت: لَا نسلم الْإِصَابَة إِلَى غير الظَّالِم. قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقوا فتْنَة لَا تصيبن الَّذين ظلمُوا مِنْكُم خَاصَّة} (الْأَنْفَال: 52) وَأما الْآيَة الأولى فمحمولة على عَذَاب يَوْم الْقِيَامَة، ثمَّ لَا نسلم أَن الَّذِي يدْخل موضعهم وَلَا يتَضَرَّع لَيْسَ بظالم، لِأَن ترك التضرع فِيمَا يجب فِيهِ التضرع ظلم.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: فِيهِ: دلَالَة على أَن ديار هَؤُلَاءِ لَا تسكن بعدهمْ وَلَا تتَّخذ وطناً لِأَن الْمُقِيم المستوطن لَا يُمكنهُ أَن يكون دهره باكياً أبدا، وَقد نهى أَن يدْخل دروهم إلاَّ بِهَذِهِ الصّفة. وَفِيه: الْمَنْع من الْمقَام بهَا والاستيطان. وَفِيه: الْإِسْرَاع عَن الْمُرُور بديار الْمُعَذَّبين، كَمَا فعل رَسُول الله فِي وَادي محسر، لِأَن أَصْحَاب الْفِيل هَلَكُوا هُنَاكَ. وَفِيه: أَمرهم بالبكاء لِأَنَّهُ ينشأ عَن التفكر فِي مثل ذَلِك، وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: التفكر الَّذِي ينشأ عَنهُ الْبكاء فِي مثل ذَلِك الْمقَام يَنْقَسِم ثَلَاثَة أَقسَام: أَحدهَا: تفكر يتَعَلَّق با تَعَالَى إِذْ قضى على أُولَئِكَ بالْكفْر. الثَّانِي: يتَعَلَّق بأولئك الْقَوْم إِذا بارزوا رَبهم الْكفْر وَالْفساد. الثَّالِث: يتَعَلَّق بالمار عَلَيْهِم لِأَنَّهُ وفْق للْإيمَان وَتمكن من الِاسْتِدْرَاك والمسامحة فِي الزلل. وَفِيه: الدّلَالَة على كَرَاهَة الصَّلَاة فِي مَوضِع الْخَسْف وَالْعَذَاب، وَالْبَاب مَعْقُود عَلَيْهِ.