عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 26 - (بابُ بُنْيَانِ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة بُنيان الْمَسْجِد
النَّبَوِيّ، والبنيان: الْبناء، يُقَال: بنى يَبْنِي
بنياً وبنية وَبِنَاء. قَالَ الْجَوْهَرِي: الْبُنيان
الْحَائِط، يُقَال: بنى فلَان بَيْتا من الْبُنيان، وَبنى
على أَهله بِنَاء أَي: زفها، والعامة تَقول: بنى بأَهْله
وَهُوَ خطأ.
وَقَالَ أبُو سَعِيدٍ كانَ سَقْفُ المَسْجِدِ مِنْ جَرِيدِ
النَّخْلِ.
13
- 50 مُطَابقَة هَذَا التَّعْلِيق للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة،
وَقد رَوَاهُ مُسْندًا فِي بَاب هَل يُصَلِّي الإِمَام
بِمن حضر: حدّثنا مُسلم، قَالَ: حدّثنا هِشَام عَن يحيى
عَن أبي سَلمَة، قَالَ: (سَأَلت أَبَا سعيد الْخُدْرِيّ
فَقَالَ: جَاءَت سَحَابَة فمطرت حَتَّى سَالَ السّقف
وَكَانَ من جريد النّخل، فأقيمت الصَّلَاة فَرَأَيْت
رَسُول الله يسْجد فِي المَاء والطين حَتَّى رَأَيْت أثر
الطين فِي جَبهته) . قَوْله: (كَانَ سقف الْمَسْجِد) أَي:
سقف مَسْجِد رَسُول ا، فالألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد.
وَقَول الْكرْمَانِي: وَأما لجنس الْمَسَاجِد فبعيد.
قَوْله: (من جريد النّخل) الجريد: هُوَ الَّذِي يجرد عَنهُ
الخوص وَإِن لم يجرد يُسمى سَعَفًا.
وَأَمَرَ عُمَرُ بِبِناءِ المَسْجِدِ وقالَ أكِنَّ
النَّاسَ مِنَ المَطَرِ وَإِيَّاكَ أنْ تُحَمِّرَ أوْ
تُصَفِّرَ فَتَفْتِنَ النَّاسَ.
50
- مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة جدا، وَالْمرَاد من
الْمَسْجِد: مَسْجِد رَسُول ا، وَيَأْتِي فِي هَذَا
الْبَاب أَنه رُوِيَ من حَدِيث نَافِع أَن عبد اأخبره أَن
الْمَسْجِد كَانَ على عهد رَسُول الله مُبينًا بِاللَّبنِ
وسقفه الجريد وعمده خشب النّخل، فَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر
شَيْئا، وَزَاد فِيهِ عمر وبناه على بُنْيَانه فِي عهد
رَسُول الله بِاللَّبنِ والجريد، وَأعَاد عمده خشباً.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا. قَوْله: (بِاللَّبنِ) ،
بِفَتْح اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَيُقَال:
اللبنة، بِكَسْر اللَّام وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة:
وَهِي الطوب النيء. قَوْله: (وعمده) ، بِضَم الْعين
وَالْمِيم وبفتحهما، جمع الْكَثْرَة لعمود الْبَيْت، وَجمع
الْقلَّة: أعمدة. قَوْله: (أكن) فِيهِ أوجه. الأول: أكن،
بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الْكَاف وَفتح النُّون، على صُورَة
الْأَمر من الإكنان، وَهِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وَهِي
الْأَظْهر، وَيدل عَلَيْهِ قَوْله قبله: (أَمر عمر)
وَقَوله بعده: (وَإِيَّاك) وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَولا أَمر
بِالْبِنَاءِ وخاطب أحدا بذلك ثمَّ حذره من التحمير
والتصفير بقوله: (وَإِيَّاك أَن تحمر أَو تصفر) ، والإكنان
من أكننت الشَّيْء أَي: صنته وسترته. وَحكى أَبُو زيد
وَالْكسَائِيّ: كننته، من الثلاثي بِمَعْنى: أكننته.
وَقَالَ ثَعْلَب فِي (الفصيح) : أكننت الشَّيْء أَي:
أخفيته، وكننته إِذا سترته بِشَيْء. وَيُقَال: أكننت
الشَّيْء سترته وصنته من الشَّمْس، وأكننته فِي نَفسِي
أسررته. وَفِي (كتاب فعل وَافْعل) لأبي عُبَيْدَة معمر بن
الْمثنى: قَالَت تَمِيم: كننت الْجَارِيَة أكنها كُنَّا،
بكسرا لكاف، وأكننت الْعلم والسر. وَقَالَت قيس: كننت
الْعلم والسر بِغَيْر ألف، وأكننت الْجَارِيَة بِالْألف.
وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي، فِي (نوادره) : أكنننت
السِّرّ، وكننت وَجْهي من الْحر، وكننت سَيفي، قَالَ: وَقد
يكون هَذَا بِالْألف أَيْضا. الْوَجْه الثَّانِي: أكن
النَّاس، بِضَم الْهمزَة وَكسر الْكَاف وَتَشْديد النُّون
المضمومة: بِلَفْظ الْمُتَكَلّم من الْفِعْل الْمُضَارع،
وَقَالَ ابْن التِّين: هَكَذَا روينَاهُ، وَفِي هَذَا
الْوَجْه الْتِفَات وَهُوَ أَن عمر أخبر عَن نَفسه ثمَّ
الْتفت إِلَى الصَّانِع فَقَالَ: وَإِيَّاك، وَيجوز أَن
يكون تجريداً، فَكَأَن عمر بعد أَن أخبر عَن نَفسه جرد
عَنْهَا شخصا ثمَّ خاطبه بذلك. الْوَجْه
(4/204)
الثَّالِث: قَالَ عِيَاض: كن النَّاس،
بِحَذْف الْهمزَة وَكسر الْكَاف وَتَشْديد النُّون: من كن
يكن، وَهُوَ صِيغَة أَمر، وَأَصله أكن بِالْهَمْزَةِ حذفت
تَخْفِيفًا على غير قِيَاس. الْوَجْه الرَّابِع: كن، بِضَم
الْكَاف، من: كن فَهُوَ مَكْنُون، وَهَذَا لَهُ وَجه،
وَلَكِن الرِّوَايَة لَا تساعده. قَوْله: (وَإِيَّاك) ،
كلمة تحذير أَي: احذر من أَن تحمر. وَكلمَة: أَن،
مَصْدَرِيَّة، ومفعول: تحمر، مَحْذُوف تَقْدِيره: إياك
تحمير الْمَسْجِد أَو تصفيره، وَمرَاده الزخرفة. وَقد روى
ابْن مَاجَه من طَرِيق عَمْرو بن مَيْمُون عَن عمر رَضِي
اتعالى عَنهُ، مَرْفُوعا: (مَا سَاءَ عمل قوم قطّ إلاَّ
زخرفوا مَسَاجِدهمْ) . قَوْله: (فتفتن النَّاس) ، بِفَتْح
التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الْفَاء: من فتن
يفتن، من بَاب ضرب يضْرب، فتنا وفتوناً إِذا امتحنته،
وَضَبطه ابْن التِّين بِضَم تَاء الْخطاب من أفتن،
والأصمعي أنكر هَذَا، وَأَبُو عبيد أجَازه، وَقَالَ: فتن
وافتن بِمَعْنى، وَهُوَ قَلِيل، والفتنة اسْم وَهُوَ فِي
الأَصْل الامتحان والاختبار، ثمَّ كثر اسْتِعْمَالهَا
بِمَعْنى الْإِثْم وَالْكفْر والقتال والإحراق والإزالة
وَالصرْف عَن الشَّيْء. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويفتن من
الْفِتْنَة، وَفِي بَعْضهَا من التفتين. قلت: إِذا كَانَ
من التفتين يكون من بَاب التفعيل، وماضيه: فتن، بتَشْديد
التَّاء، وعَلى ضبط ابْن التِّين يكون من بَاب الإفعال
وَهُوَ الإفتان بِكَسْر الْهمزَة، وعَلى كل حَال هُوَ
بِفَتْح النُّون لِأَنَّهُ مَعْطُوف على الْمَنْصُوب
بِكَلِمَة. أَن.
وَقَالَ أنَسٌ يَتَبَاهَوْنَ بِهَا ثُمَّ لاَ
يَعْمُرُونَها إِلاَّ قَلِيلاً.
هَذَا التَّعْلِيق مَرْفُوع فِي (صَحِيح ابْن خُزَيْمَة) :
عَن مُحَمَّد بن عَمْرو بن الْعَبَّاس حدّثنا سعيد بن
عَامر عَن أبي عَامر الخراز قَالَ: قَالَ أَبُو قلَابَة:
انطلقنا مَعَ أنس نُرِيد الزاوية، نعني قصر أنس، فمررنا
بِمَسْجِد فَحَضَرت صَلَاة الصُّبْح فَقَالَ أنس: لَو
صلينَا فِي هَذَا الْمَسْجِد، فَقَالَ بعض الْقَوْم: نأتي
الْمَسْجِد الآخر، فَقَالَ أنس: إِن رَسُول الله قَالَ:
(يَأْتِي على النَّاس زمَان يتباهون بالمساجد ثمَّ لَا
يعمرونها إلاَّ قَلِيلا، أَو قَالَ: يعمرونها قَلِيلا) .
وَرَوَاهُ أَبُو يعلى الْموصِلِي أَيْضا فِي (مُسْنده) ،
وروى أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) : حدّثنا مُحَمَّد بن عبد
االخزاعي حدّثنا حَمَّاد بن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن أبي
قلَابَة وَقَتَادَة عَن أنس: (إِن النَّبِي قَالَ: لَا
تقوم السَّاعَة حَتَّى يتباهي النَّاس فِي الْمَسَاجِد) .
وَأخرجه النَّسَائِيّ وَابْن ماجة أَيْضا، وروى أَبُو نعيم
فِي (كتاب الْمَسَاجِد) من حَدِيث مُحَمَّد بن مُصعب
القرقساني: عَن حَمَّاد (يتباهى النَّاس بِبِنَاء
الْمَسَاجِد) ، وَمن حَدِيث عَليّ بن حَرْب: عَن سعيد بن
عَامر عَن الخراز: (يتباهون بِكَثْرَة الْمَسَاجِد) .
قَوْله: (يتباهون) ، بِفَتْح الْهَاء من المباهاة وَهِي
الْمُفَاخَرَة، وَالْمعْنَى أَنهم يزخرفون الْمَسَاجِد
ويزينونها ثمَّ يقعودن فِيهَا ويتمارون ويتباهون وَلَا
يشتغلون بِالذكر وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَالصَّلَاة.
قَوْله: (بهَا) ، أَي: بالمساجد، والسياق يدل عَلَيْهِ.
قَوْله: (إلاَّ قَلِيلا) ، بِالنّصب، وَيجوز الرّفْع من
جِهَة النَّحْو، فَإِنَّهُ بدل من ضمير الْفَاعِل.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ لَتُزَخْرِفُنَّهَا كَمَا
زَخْرَفَتِ اليَهُودُ والنَّصَارَى.
هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ أَبُو دَاوُد مَوْصُولا عَن
ابْن عَبَّاس هَكَذَا مَوْقُوفا، وَرُوِيَ عَنهُ
مَرْفُوعا، قَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن الصَّباح عَن
سُفْيَان أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن سُفْيَان
الثَّوْريّ عَن أبي فَزَارَة عَن يزِيد بن الْأَصَم عَن
ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (مَا أمرت بتشييد
الْمَسَاجِد) . قَالَ ابْن عَبَّاس: لتزخرفنها كَمَا زخرفت
الْيَهُود وَالنَّصَارَى، وَأَبُو فَزَارَة اسْمه رَاشد
ابْن كيسَان، وَإِنَّمَا اقْتصر البُخَارِيّ على
الْمَوْقُوف مِنْهُ وَلم يذكر الْمَرْفُوع مِنْهُ
للِاخْتِلَاف على يزِيد بن الْأَصَم فِي وَصله وإرساله،
وَيزِيد هَذَا روى لَهُ مُسلم وَالْأَرْبَعَة. قَوْله:
(لتزخرفنها) أَي: لتزخرفن الْمَسَاجِد، بِضَم الْفَاء
وَنون التَّأْكِيد، والضيمر فِيهِ للمذكرين. وَأما اللَّام
فِيهِ فقد ذكر الطَّيِّبِيّ فِيهِ وَجْهَيْن. الأول: أَن
تكون مَكْسُورَة، وَهِي لَام التَّعْلِيل للنَّفْي قبله،
وَالْمعْنَى: مَا أمرت بتشييد الْمَسَاجِد لأجل زخرفتها،
والتشييد من شيد يشيد: رفع الْبناء والإحكام، وَمِنْه
قَوْله تَعَالَى: {وَلَو كُنْتُم فِي بروج مشيدة}
(النِّسَاء: 87) . الْوَجْه الثَّانِي: فتح اللَّام على
أَنَّهَا جَوَاب الْقسم، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا هُوَ
الْمُعْتَمد، وَالْأول لم تثبت بِهِ الرِّوَايَة أصلا.
قلت: الَّذِي قَالَه الطَّيِّبِيّ هُوَ الَّذِي
يَقْتَضِيهِ الْكَلَام، وَلَا وَجه لمَنعه، وَدَعوى عدم
ثُبُوت الرِّوَايَة يحْتَاج إِلَى برهَان. وَمعنى الزخرفة:
التزيين، يُقَال: زخرف الرجل كَلَامه إِذا موهه وزينه
بِالْبَاطِلِ، والزخرف: الذَّهَب، وَالْمعْنَى هَهُنَا:
تمويه الْمَسَاجِد بِالذَّهَب وَنَحْوه كَمَا زخرفت
الْيَهُود كنائسهم وَالنَّصَارَى بيعهم. قَالَ الْخطابِيّ:
وَإِنَّمَا زخرفت الْيَهُود وَالنَّصَارَى كنائسها
وَبَيْعهَا حِين حرفت الْكتب وبدلتها فضيعوا الدّين وعرجوا
على الزخاريف والتزيين. وَقَالَ محيي السّنة: إِنَّهُم
زخرفوا الْمَسَاجِد عِنْد مَا بدلُوا
(4/205)
دينهم وَأَنْتُم تصيرون إِلَى مثل حَالهم
وسيصير أَمركُم إِلَى المراآة بالمساجد والمباهة بتزيينها،
وَبِهَذَا اسْتدلَّ أَصْحَابنَا على أَن نقش الْمَسْجِد
وتزيينه مَكْرُوه، وَقَول بعض صحابنا: وَلَا بَأْس بنقش
الْمَسْجِد، مَعْنَاهُ تَركه أولى وَلَا يجوز من مَال
الْوَقْف، وَيغرم الَّذِي يُخرجهُ سَوَاء كَانَ نَاظرا أَو
غَيره.
فَإِن قلت: مَا وَجه الْكَرَاهَة إِذا كَانَ من مَاله دون
مَال الْوَقْف؟ قلت: مَا اشْتِغَال الْمُصَلِّي بِهِ،
وَإِمَّا إِخْرَاج المَال فِي غير وَجهه.
644 - ح دّثنا عَلَيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا
يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ بنِ سَعْدٍ قَالَ حدّثني أبي
عنْ صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ قَالَ حدّثنا نافِعٌ أنَّ
عَبْدَ اللَّهِ أخْبَرَهُ أنَّ المَسْجِدَ كانَ عَلى
عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ مبْنِيًّا باللَّبِنِ وَسَقْفُهُ
الجَرِيدُ وَعَمَدُهُ خَشَبُ النَّخْلِ فَلَمْ يَزِدْ
فِيهِ أبُو بَكْرٍ شَيْئاً وَزَادَ فِيهِ عُمَرُوَ بَناهُ
عَلَى بُنْيَانِهِ فِي عَهْدِ رَسولِ اللَّهِ بِاللَّبِنِ
والجَرِيدِ وَأَعادَ عُمُدَهُ خَشَباً ثُمَّ غَيَّرَهُ
عُثْمَانُ فَزَادَ فِيهِ زِيادَةً كَثِيرَةً وَبَنْىَ
جِدَارَهُ بِالحِجَارَةِ المَنْقُوشَةِ والقَصَةِ وَجَعَلَ
عُمُدَهُ مِنْ حِجَارَةٍ مَنْقُوشَةٍ وَسقَّفَهُ
بالسَّاجِ.
مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد ابْن جَعْفَر
بن نجيح أَبُو الْحسن، يُقَال لَهُ ابْن الْمَدِينِيّ
الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن سعد
بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف الزُّهْرِيّ،
أَصله مدنِي كَانَ بالعراق. الثَّالِث: أَبوهُ إِبْرَاهِيم
بن سعد. الرَّابِع: صَالح بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد مؤدب
ولد عمر بن عبد الْعَزِيز. الْخَامِس: نَافِع مولى ابْن
عمر. السَّادِس: عبد ابْن عمر بن الْخطاب.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد. وَفِيه: أَن
رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة الأقران
وَهِي رِوَايَة صَالح عَن نَافِع لِأَنَّهُمَا من طبقَة
وَاحِدَة. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ
لِأَن صَالحا ونافعاً كِلَاهُمَا تابعيان. وَفِيه: زَاد
الْأصيلِيّ لَفْظَة: ابْن سعد، بعد قَوْله: حدّثنا
يَعْقُوب ابْن إِبْرَاهِيم.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن
مُحَمَّد بن يحيى بن فَارس وَمُجاهد بن مُوسَى وَهُوَ اتم،
قَالَا: حدّثنا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم إِلَى آخِره.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (كَانَ على عهد رَسُول ا) أَي: فِي
زَمَانه وأيامه. قَوْله: (بِاللَّبنِ) ، بِفَتْح اللَّام
وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مر تَفْسِيره عَن قريب،
وَكَذَلِكَ معنى الجريد مر عَن قريب. و: (الْعمد) ،
بِضَمَّتَيْنِ وفتحتين أَيْضا، وَقد ذَكرْنَاهُ. قَوْله:
(فَلم يزدْ فِيهِ أَبُو بكر رَضِي اتعالى عَنهُ) ،
يَعْنِي: لم يُغير فِيهِ شَيْئا بِالزِّيَادَةِ
وَالنُّقْصَان. قَوْله: (وَزَاد فِيهِ عمر رَضِي اتعالى
عَنهُ) ، يَعْنِي: فِي الطول وَالْعرض وَلم يُغير فِي
بنائِهِ بل بناه على بينان النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام. قَوْله: (فِي عهد رَسُول ا) ، إِمَّا صفة
للبنيان أَو حَال، وَإِنَّمَا غير عمده لِأَنَّهَا تلفت.
قَالَ السُّهيْلي: نخرت عمده فِي خلَافَة عمر فجددها،
وَهُوَ معنى قَوْله: (وَأعَاد عمده خشباً) . قَوْله: (ثمَّ
غير عُثْمَان) ، يَعْنِي من جِهَة التوسيع وتغيير
الْآلَات. قَوْله: (بحجارة منقوشة) هَكَذَا فِي رِوَايَة
الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي، وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا
(بِالْحِجَارَةِ المنقوشة) ، يَعْنِي: بدل اللَّبن.
قَوْله: (والقصة) أَي: وبالقصة، بِفَتْح الْقَاف وَتَشْديد
الصَّاد الْمُهْملَة، وَهِي الجص بلغَة أهل الْحجاز. قلت:
الجص: لُغَة فارسية معربة وَأَصلهَا: كج، وَفِيه
لُغَتَانِ: فتح الْجِيم وَكسرهَا، وَهُوَ الَّذِي
يُسَمِّيه أهل مصر جيراً، وَأهل الْبِلَاد الشامية يسمونه:
كلساً. قَوْله: (وَجعل عمده) عطف على قَوْله: (وَبنى
جِدَاره) . قَوْله: (وسقفه) بِلَفْظ الْمَاضِي من التسقيف
من بَاب التفعيل عطفا على جعل، ويروى بِلَفْظ الِاسْم عطفا
على عمده. قَوْله: (بالساج) ، بِالسِّين الْمُهْملَة
وبالجيم: وَهُوَ ضرب من الْخشب مَعْرُوف يُؤْتى بِهِ من
الْهِنْد وَله قيمَة.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ قَالَ ابْن بطال: مَا ذكره
البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب يدل على أَن السّنة فِي
بينيان الْمَسَاجِد الْقَصْد وَترك الغلو فِي تشييدها
خشيَة الْفِتْنَة والمباهاة ببنيانها، وَكَانَ عمر رَضِي
اتعالى عَنهُ، مَعَ الْفتُوح الَّتِي كَانَت فِي أَيَّامه
وتمكنه
(4/206)
من المَال لم يُغير الْمَسْجِد عَن
بُنْيَانه الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ فِي عهد النَّبِي، ثمَّ
جَاءَ الْأَمر إِلَى عُثْمَان وَالْمَال فِي زَمَانه أَكثر
وَلم يزدْ على أَن يَجْعَل مَكَان اللَّبن حِجَارَة وقصة
وسقفه بالساج مَكَان الجريد، فَلم يقصر هُوَ وَعمر رَضِي
اعنهما، عَن الْبلُوغ فِي تشييده إِلَى أبلغ الغايات،
إلاَّ عَن علمهما بِكَرَاهَة النَّبِي ذَلِك، وليقتدي بهما
فِي الْأَخْذ من الدُّنْيَا بِالْقَصْدِ والزهد والكفاية
فِي معالي أمورها وإيثار الْبلْغَة مِنْهَا.
قلت: أول من زخرف الْمَسَاجِد الْوَلِيد بن عبد الْملك بن
مَرْوَان، وَذَلِكَ فِي أَوَاخِر عصر الصَّحَابَة رَضِي
اتعالى عَنْهُم، وَسكت كثير من أهل الْعلم عَن إِنْكَار
ذَلِك خوفًا من الْفِتْنَة. وَقَالَ ابْن الْمُنِير: لما
شيد النَّاس بُيُوتهم وزخرفوها فَانْتدبَ أَن يصنع ذَلِك
بالمساجد صونا لَهَا عَن الاستهانة. وَقَالَ بَعضهم:
وَرخّص فِي ذَلِك بَعضهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة إِذا
وَقع ذَلِك على سَبِيل التَّعْظِيم للمساجد، وَلم يَقع
الصّرْف على ذَلِك من بَيت المَال. قلت: مَذْهَب
أَصْحَابنَا أَن ذَلِك مَكْرُوه، وَقَول بعض أَصْحَابنَا:
وَلَا بَأْس بنقش الْمَسْجِد، مَعْنَاهُ: تَركه أولى، وَقد
مر الْكَلَام فِيهِ عَن قريب.
36 - (بابُ التَّعَاوُنِ فِي بِنَاءِ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان تعاون النَّاس بَعضهم بَعْضًا
فِي بِنَاء الْمَسْجِد، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن فِي
ذَلِك أجرا، وَمن زَاد فِي عمله فِي ذَلِك زَاد فِي أجره،
وَفِي بعض النّسخ: فِي بَاء الْمَسَاجِد، بِلَفْظ الْجمع.
وَقَوْلُ اللَّهِ {مَا كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أنْ
يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلَى أنْفُسِهِمْ
بِالكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ وفِي النَّارِ
هُمْ خالِدُونَ. إِنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ
آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ
وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَى إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى
أولَئِكَ أنْ يَكونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ} (التَّوْبَة:
71 81) .
13
- 50 كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي
ذَر: ( {مَا كَانَ للْمُشْرِكين إِن يعمروا مَسَاجِد ا} )
إِلَى قَوْله: {المهتدين} (التَّوْبَة: 71 81) وَلم يَقع
فِي رِوَايَته لفظ: وَقَول اعز وَجل.
وَسبب نزُول هَذِه الْآيَة أَنه لما أسر الْعَبَّاس، رَضِي
اتعالى عَنهُ، يَوْم بدر، أقبل عَلَيْهِ الْمُسلمُونَ
فعيرونه بالْكفْر وَأَغْلظ لَهُ عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ،
فَقَالَ الْعَبَّاس: مَا لكم تذكرُونَ مساوينا دون
محاسننا؟ فَقَالَ لَهُ لي ألكم محَاسِن؟ قَالَ؛ نعم إِنَّا
لنعمر الْمَسْجِد الْحَرَام ونحجب الْكَعْبَة ونسقي
الْحَاج ونفك العاني، فَأنْزل اتعالى هَذِه الْآيَة.
وَقَالَ بَعضهم فِي تَوْجِيه ذكر البُخَارِيّ هَذِه
الْآيَة هَهُنَا وَذكره هَذِه الْآيَة مصير مِنْهُ إِلَى
تَرْجِيح أحد الِاحْتِمَالَيْنِ من أحد الِاحْتِمَالَيْنِ،
وَذَلِكَ أَن قَوْله تَعَالَى: {مَسَاجِد ا} (التَّوْبَة:
71 81) يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا مَوَاضِع السُّجُود،
وَيحْتَمل أَن يُرَاد بهَا الْأَمَاكِن المتخذة لإِقَامَة
الصَّلَاة، وعَلى الثَّانِي يحْتَمل أَن يُرَاد بعمارتها
بنيانها، وَيحْتَمل أَن يُرَاد الْإِقَامَة فِيهَا لذكر
اتعالى قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه هَذَا الْقَائِل لَا
يُنَاسب معنى هَذِه الْآيَة أصلا، وَإِنَّمَا يُنَاسب معنى
قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با
وَالْيَوْم الآخر ... } (التَّوْبَة: 81) الْآيَة، على أَن
أحدا من الْمُفَسّرين لم يذكر هَذَا الْوَجْه الَّذِي ذكره
هَذَا الْقَائِل، وَإِنَّمَا هَذَا تصرف مِنْهُ
بِالرَّأْيِ فِي الْقُرْآن فَلَا يجوز ذَلِك، وَيجب
الْإِعْرَاض عَن هَذَا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: معنى هَذِه
الْآيَة: مَا يَنْبَغِي للْمُشْرِكين با أَن يعمروا
مَسَاجِد االتي بنيت على اسْمه وَحده لَا شريك لَهُ، وَمن
قَرَأَ مَسْجِد اأراد بِهِ الْمَسْجِد الْحَرَام، أشرف
الْمَسَاجِد فِي الأَرْض الَّتِي بنى من أول يَوْم على
عبَادَة اتعالى وَحده لَا شريك لَهُ، وأسسه خَلِيل
الرَّحْمَن عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَذَا وهم
شاهدون على أنفسهم بالْكفْر. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: أما
الْقِرَاءَة بِالْجمعِ فَفِيهَا وَجْهَان: أَحدهمَا: أَن
يُرَاد بِهِ الْمَسْجِد الْحَرَام؟ وَإِنَّمَا قيل:
مَسَاجِد الأنه قبْلَة الْمَسَاجِد كلهَا، وإمامها، فعامره
كعامر جَمِيع الْمَسَاجِد، وَلِأَن كل بقْعَة مِنْهُ
مَسْجِد.
وَالثَّانِي: أَن يُرَاد بِهِ جنس الْمَسَاجِد، فَإِذا لم
يصلحوا أَن يعمروا جِنْسهَا دخل تَحت ذَلِك أَن لَا يعمروا
الْمَسْجِد الْحَرَام الَّذِي هُوَ صدر الْجِنْس ومقدمته،
وَهُوَ آكِد، لِأَن طَرِيقه طَرِيق الْكِنَايَة، كَمَا لَو
قلت: فلَان لَا يقْرَأ كتب ا، كنت أنفى لقِرَاءَة
الْقُرْآن من تصريحك بذلك، ثمَّ إِن البُخَارِيّ ذكر هَذِه
الْآيَة من جملَة التَّرْجَمَة وَحَدِيث الْبَاب لَا
يطابقها، وَلَو ذكر قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يعمر
مَسَاجِد امن آمن با ... } (التَّوْبَة: 81) الْآيَة
لَكَانَ أَجْدَر وَأقرب للمطابقة وَلَكِن يُمكن أَن يُوَجه
ذَلِك وَإِن كَانَ فِيهِ بعض تعسف، وَهُوَ أَن يُقَال:
إِنَّه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن التعاون فِي بِنَاء
الْمَسَاجِد الْمُعْتَبر الَّذِي فِيهِ الْأجر إِنَّمَا
كَانَ للْمُؤْمِنين، وَلم يكن ذَلِك للْكَافِرِينَ، وَإِن
كَانُوا بنوا
(4/207)
مَسَاجِد ليتعبدوا فِيهَا بعبدتهم
الْبَاطِلَة، أَلا ترى أَن الْعَبَّاس رَضِي اتعالى عَنهُ،
لما أسر يَوْم بدر وعير بِكُفْرِهِ وَأَغْلظ لَهُ عَليّ
رَضِي اتعالى عَنهُ، ادّعى أَنهم كَانُوا يعمرون
الْمَسْجِد الْحَرَام، فَبين الْهم ذَلِك أَنه غير
مَقْبُول مِنْهُم لكفرهم حَيْثُ أنزل على نبيه الْكَرِيم:
{مَا كَانَ للْمُشْرِكين أَن يعمروا مَسَاجِد ا}
(التَّوْبَة: 71) كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، ثمَّ أنزل فِي
حق الْمُسلمين الَّذين يتعاونون فِي بِنَاء الْمَسَاجِد
قَوْله: {إِنَّمَا يعمر مَسَاجِد امن آمن با ... }
(التَّوْبَة: 81) الْآيَة، وَالْمعْنَى: إِنَّمَا
الْعِمَارَة المعتد بهَا عمَارَة من آمن با، فَجعل عمَارَة
غَيرهم كلا عمَارَة حَيْثُ ذكرهَا بِكَلِمَة الْحصْر، وروى
عبد بن حميد فِي مُسْنده: حدّثنا يُونُس بن مُحَمَّد
حدّثنا صَالح الْمزي عَن ثَابت الْبنانِيّ وَمَيْمُون بن
سياه وجعفر بن زيد عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول
ا: (إِن عمار الْمَسْجِد هم أهل ا) ، وَرَوَاهُ الْحَافِظ
أَبُو بكر الْبَزَّار أَيْضا، وَلَا شكّ أَن أهل اهم
الْمُؤْمِنُونَ.
744701 - ح دّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا عَبْدُ العَزيزِ
بنُ مُخْتَارٍ قَالَ حدّثنا خالِدٌ الحَذَّاءُ عنْ
عِكْرِمَةَ قَالَ لِيَ ابنُ عَبَّاس وَلاِبْنِهِ عَلِيّ
إنْطَلِقَا إِلى أبي سَعِيدٍ فاسْمَعَا مِنْ حَدِيثِهِ
فَانْطَلَقْنَا فَإِذَا هُوَ فِي حَائِطٍ يُصْلِحُهُ
فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فاحْتَبَي ثُمَّ أنْشَأَ يُحَدِّثُنا
حَتَّى أتَى ذِكْرُ بِنَاءِ المسْجِدِ فَقَالَ كُنَّا
نَحْملُ لَبنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لَبِنَتْينِ
لَبِنَتَيْنِ فَرَآهُ النَّبِي فَنَفَضَ الترَابَ عَنْهُ
وقالَ وَيْحَ عَمَّارٍ تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ
يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ
قَالَ يَقُولُ عَمَّارٌ أَعُوذُ باللَّهِ مِنَ الفِتَنِ.
(الحَدِيث 744 طرفه فِي: 2182) .
مطابقته للتَّرْجَمَة الأولى ظَاهِرَة، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ مُسْتَوفى.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد
تكَرر ذكره. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن مُخْتَار أَبُو
إِسْحَاق الدّباغ الْبَصْرِيّ الْأنْصَارِيّ. الثَّالِث:
خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَتَشْديد الذَّال الْمُعْجَمَة، وَقد تقدم. الرَّابِع:
عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. الْخَامِس: عَليّ بن عبد
ابْن عَبَّاس بن عبد الْمطلب الْقرشِي الْهَاشِمِي أَبُو
الْحسن، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد، كَانَ مولده لَيْلَة
قتل عَليّ بن أبي طَالب فَسمى باسمه وكنى بكنيته، وَكَانَ
غَايَة فِي الْعِبَادَة والزهد وَالْعلم وَالْعَمَل وَحسن
الشكل والفقهه، وَكَانَ يُصَلِّي كل يَوْم ألف رَكْعَة،
هُوَ جد السفاح والمنصور الخليفتين، وَكَانَ يدعى:
السَّجَّاد، لذَلِك. وَكَانَ لَهُ خَمْسمِائَة أصل زيتون
يُصَلِّي كل يَوْم عِنْد أصل كل شَجَرَة رَكْعَتَيْنِ،
مَاتَ بعد الْعشْرين وَمِائَة، إِمَّا سنة أَربع عشرَة أَو
سبع عشرَة أَو عشر، عَن ثَمَان أَو تسع وَسبعين سنة.
السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي اعنه.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن إِسْنَاده كُله بَصرِي لِأَن
ابْن عَبَّاس أَقَامَ أَمِيرا على الْبَصْرَة مُدَّة،
وَعِكْرِمَة مَوْلَاهُ مَعَه.
ذكر تعدد مَوْضِعه: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الْجِهَاد عَن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (ولابنه) ، الضَّمِير
فِيهِ يرجع إِلَى ابْن عَبَّاس. قَوْله: (فَإِذا هُوَ) ،
كلمة: إِذا، هَهُنَا للمفاجأة، أَي: فَإِذا أَبُو سعيد
الْخُدْرِيّ فِي حَائِط، أَي: بُسْتَان. وَسمي بِهِ
لِأَنَّهُ لَا سقف لَهُ. قَوْله: (يصلحه) جملَة فِي مَحل
الرّفْع لِأَنَّهَا خبر لقَوْله: هُوَ، وَلَفظ البُخَارِيّ
فِي بَاب الْجِهَاد: (فأتيناه وَهُوَ وَأَخُوهُ فِي حَائِط
لَهما يسقيانه) قيل: أَخُوهُ هَذَا لأمه، وَهُوَ قَتَادَة
بن النُّعْمَان، ورد بِأَن هَذَا لَا يَصح، لِأَن عَليّ بن
عبد ابْن عَبَّاس ولد فِي آخر خلَافَة عَليّ بن أبي طَالب،
وَمَات قَتَادَة بن النُّعْمَان قبل ذَلِك فِي أَوَاخِر
خلَافَة عمر بن الْخطاب رَضِي اتعالى عَنهُ، وَلَيْسَ لأبي
سعيد أَخ شَقِيق وَلَا أَخ من أَبِيه وَلَا من أمه إلاَّ
قَتَادَة، فَيحْتَمل أَن يكون الْمَذْكُور أَخَاهُ من
الرضَاعَة، وَا تَعَالَى أعلم. قَوْله: (فاحتبى) ،
بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالباء الْمُوَحدَة بعد التَّاء
الْمُثَنَّاة من فَوق، يُقَال؛ احتبى الرجل إِذا جمع ظَهره
وساقيه بعمامته، وَقد يحتبي بيدَيْهِ. قَوْله: (أنشأ)
بِمَعْنى: طفق، وهما من أَفعَال المقاربة وضعا للدلالة على
الشُّرُوع فِي الْخَبَر، ويعملان عمل: كَانَ إلاَّ أَن
خبرهما يجب أَن يكون جملَة، ويشاركهما فِي هَذَا الَّذِي
ذَكرْنَاهُ: جعل وعلق وَأخذ.
قَوْله: (يحدّثنا) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ خبر: أنشأ.
قَوْله: (حَتَّى أَتَى) وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة: (حَتَّى
إِذا أَتَى) . قَوْله: (بِنَاء الْمَسْجِد) ، أَي:
الْمَسْجِد النَّبَوِيّ، فالألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد.
قَوْله: (قَالَ) : أَي أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ. قَوْله:
(لبنة) ، بِفَتْح اللَّام وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة
بعْدهَا النُّون: وَهِي الطوب النيء، وانتصابها على
أَنَّهَا مفعول: نحمل، وانتصاب
(4/208)
الثَّانِيَة بِأَنَّهُ تَأْكِيد لَهَا.
قَوْله: (وعمار) أَي: يحمل عمار بن يَاسر لبنتين لبنتين.
زَاد معمر فِي رِوَايَته: (لبنة عَنهُ ولبنة عَن رَسُول ا)
. وَفِيه زِيَادَة أَيْضا لم يذكرهَا البُخَارِيّ، وَوَقعت
عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج)
من طَرِيق خَالِد الوَاسِطِيّ: عَن خَالِد الْحذاء، وَهِي:
(فَقَالَ النَّبِي: يَا عمار أَلاَّ تحمل كَمَا يحمل
أَصْحَابك؟ قَالَ: إِنِّي أُرِيد من االأجر) .
قَوْله: (فَرَآهُ النَّبِي) ، الضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ
يرجع إِلَى عمار. قَوْله: (فنفض التُّرَاب عَنهُ) ، ويروى:
(فينفض التُّرَاب عَنهُ) ، وَفِيه التَّعْبِير بِصِيغَة
الْمُضَارع فِي مَوضِع الْمَاضِي لاستحضار ذَلِك فِي نفس
السَّامع كَأَنَّهُ شَاهده، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
(فَجعل ينفض التُّرَاب عَنهُ) . وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ
فِي بَاب الْجِهَاد: (عَن رَأسه) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة
مُسلم. قَوْله: (وَيْح عمار) ، كلمة: وَيْح، كلمة رَحْمَة
كَمَا أَن كلمة: ويل، كلمة عَذَاب. تَقول: وَيْح لزيد وويل
لَهُ، برفعهما على الِابْتِدَاء، وَلَك أَن تَقول: ويحاً
لزيد وويلاً لَهُ، فتنصبهما بإضمار فعل، وَأَن تَقول:
وَيحك وويح زيد، وويلك وويل زيد، بِالْإِضَافَة فتنصب
أَيْضا بإضمار الْفِعْل، وَهَهُنَا بِنصب الْحَاء لَا غير.
قَوْله: (الفئة) هِيَ الْجَمَاعَة: و: (الباغية) هم
الَّذين خالفوا الإِمَام وَخَرجُوا عَن طَاعَته بِتَأْوِيل
بَاطِل ظنا بمتبوع مُطَاع. قَوْله: (يَدعُوهُم) أَي:
يَدْعُو عمار الفئة الباغية وهم الَّذين قَتَلُوهُ فِي
وقْعَة صفّين، وأعيد الضَّمِير إِلَيْهِم، وهم غير مذكورين
صَرِيحًا. قَوْله: (إِلَى الْجنَّة) أَي: إِلَى سَببهَا،
وَهِي الطَّاعَة. كَمَا أَن سَبَب النَّار هُوَ
الْمعْصِيَة. قَوْله: (ويدعونه إِلَى النَّار) ، أَي:
يَدْعُو هَؤُلَاءِ الفئة الباغية عمارًا إِلَى النَّار.
فَإِن قيل: كَانَ قتل عمار بصفين، وَكَانَ مَعَ عَليّ
رَضِي اتعالى عَنهُ، وَكَانَ الَّذين قَتَلُوهُ مَعَ
مُعَاوِيَة، وَكَانَ مَعَه جمَاعَة من الصَّحَابَة فَكيف
يجوز أَن يَدعُوهُ إِلَى النَّار؟ فَأجَاب ابْن بطال عَن
ذَلِك فَقَالَ: إِنَّمَا يَصح هَذَا فِي الْخَوَارِج
الَّذين بعث إِلَيْهِم عَليّ عماراً يَدعُوهُم إِلَى
الْجَمَاعَة، وَلَيْسَ يَصح فِي أحد من الصَّحَابَة
لِأَنَّهُ لَا يجوز أَن يتَأَوَّل عَلَيْهِم إلاَّ أفضل
التَّأْوِيل. قلت: تبع ابْن بطال فِي ذَلِك الْمُهلب،
وَتَابعه على ذَلِك جمَاعَة فِي هَذَا الْجَواب، وَلَكِن
لَا يَصح هَذَا، لِأَن الْخَوَارِج إِنَّمَا خَرجُوا على
عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، بعد قتل عمار بِلَا خلاف بَين
أهل الْعلم بذلك، لِأَن ابْتِدَاء أَمرهم كَانَ عقيب
التَّحْكِيم بَين عَليّ وَمُعَاوِيَة، وَلم يكن
التَّحْكِيم إلاَّ بعد انْتِهَاء الْقِتَال بصفين، وَكَانَ
قتل عمار قبل ذَلِك قطعا، وَأجَاب بَعضهم بِأَن المُرَاد
بالذين يَدعُونَهُ إِلَى النَّار كفار قُرَيْش، وَهَذَا
أَيْضا لَا يَصح، لِأَنَّهُ وَقع فِي رِوَايَة ابْن السكن
وكريمة وَغَيرهمَا زِيَادَة توضيح بِأَن الضَّمِير يعود
على قتلة عمار، وهم أهل الشَّام. وَقَالَ الْحميدِي:
لَعَلَّ هَذِه الزِّيَادَة لم تقع للْبُخَارِيّ، أَو وَقعت
فحذفها عمدا وَلم يذكرهَا فِي الْجمع. قَالَ: وَقد أخرجهَا
الْإِسْمَاعِيلِيّ وَالْبرْقَانِي فِي هَذَا الحَدِيث،
وَالْجَوَاب الصَّحِيح فِي هَذَا أَنهم كَانُوا مجتهدين
ظانين أَنهم يَدعُونَهُ إِلَى الْجنَّة، وَإِن كَانَ فِي
نفس الْأَمر خلاف ذَلِك، فَلَا لوم عَلَيْهِم فِي اتِّبَاع
ظنونهم، فَإِن قلت: الْمُجْتَهد إِذا أصَاب فَلهُ
أَجْرَانِ، وَإِذا أَخطَأ فَلهُ أجر، فَكيف الْأَمر
هَهُنَا. قلت: الَّذِي قُلْنَا جَوَاب إقناعي فَلَا يَلِيق
أَن يُذكر فِي حق الصَّحَابَة خلاف ذَلِك، لِأَن اتعالى
أثنى عَلَيْهِم وَشهد لَهُم بِالْفَضْلِ، بقوله: {كُنْتُم
خير أمة أُخرجت للنَّاس} (آل عمرَان: 011) ، قَالَ
الْمُفَسِّرُونَ: هم أَصْحَاب مُحَمَّد.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْفَوَائِد فِيهِ: أَن التعاون
فِي بُنيان الْمَسْجِد من أفضل الْأَعْمَال لِأَنَّهُ
مِمَّا يجْرِي للْإنْسَان أجره بعد مَوته، وَمثل ذَلِك حفر
الْآبَار وَكري الْأَنْهَار وتحبيس الْأَمْوَال التييعم
الْعَامَّة نَفعهَا. وَفِيه: الْحَث على أَخذ الْعلم من كل
أحد وَإِن كَانَ الْآخِذ أفضل من الْمَأْخُوذ مِنْهُ، أَلا
ترى أَن ابْن عَبَّاس مَعَ سَعَة علمه أَمر ابْنه عليا
بِالْأَخْذِ عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ؟ قيل: يحْتَمل أَن
يكون إرْسَال ابْن عَبَّاس إِلَيْهِ لطلب علو الْإِسْنَاد،
لِأَن أَبَا سعيد أقدم صُحْبَة وَأكْثر سَمَاعا من
النَّبِي. قلت: مَعَ هَذَا لَا يُنَافِي ذَلِك مَا
ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: أَن الْعَالم لَهُ أَن يتهيأ
للْحَدِيث وَيجْلس لَهُ جلْسَة. وَفِيه: ترك التحديث فِي
حَالَة المهنة إعظاماً للْحَدِيث وتوقيراً لصحابه.
وَهَكَذَا كَانَ السّلف. وَفِيه: أَن للْإنْسَان أَن
يَأْخُذ من أَفعَال الْبر مَا يشق عَلَيْهِ إِن شَاءَ
كَمَا أَخذ عمار لبنتين. وَفِيه: إكرام الْعَامِل فِي
سَبِيل اوالإحسان إِلَيْهِ بِالْفِعْلِ وَالْقَوْل.
وَفِيه: عَلامَة النُّبُوَّة لِأَنَّهُ أخبر بِمَا يكون
فَكَانَ كَمَا قَالَ. وَفِيه: إصْلَاح الشَّخْص: بِمَا
يتَعَلَّق بِأَمْر ديناه كإصلاح بستانه وَكَرمه بِنَفسِهِ
وَكَانَ السّلف على ذَلِك لِأَن فِيهِ إِظْهَار
التَّوَاضُع وَدفع الْكبر وهما من أفضل الْأَعْمَال
الصَّالِحَة. وَفِيه: فَضِيلَة ظَاهِرَة لعَلي وعمار، ورد
على النواصب الزاعمين أَن عليا لم يكن مصيباً فِي حروبه.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب الِاسْتِعَاذَة من الْفِتَن لِأَنَّهُ
لَا يدْرِي أحد فِي الْفِتْنَة أمأجور هُوَ أم مأزور؟
إلاَّ بِغَلَبَة الظَّن، وَلَو كَانَ مأّوراً لما استعاذ
عمار من الْأجر.
(4/209)
وَقَالَ ابْن بطال. وَفِيه: رد للْحَدِيث
الشَّائِع: (لَا تستعيذوا با من الْفِتَن فَإِن فِيهَا
حِصَار المناقين) قلت: ويروى: (لَا تكْرهُوا الْفِتَن) ،
وَلَكِن لم يَصح هَذَا، فَإِن عبد ابْن وهب قد سُئِلَ عَن
ذَلِك فَقَالَ؛ إِنَّه بَاطِل.
46 - (بابُ الأَسْتِعَانَةِ بِالنَّجَّارِ والصُّنَّاعِ
فِي أعْوَادِ المِنْبَرِ وَالمَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الِاسْتِعَانَة (بالنجار) على
وزن: فعال، بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ الَّذِي يعْمل صَنْعَة
النجارة. قَوْله: (والصناع) أَي: والاستعانة بالصناع،
بِضَم الصَّاد وَتَشْديد النُّون، جمع: صانع وَهُوَ من
قبيل عطف الْعَام على الْخَاص. وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ لف
وَنشر، فَقَوله: (فِي أَعْوَاد الْمِنْبَر) يتَعَلَّق
بالنجار، وَقَوله: (وَالْمَسْجِد) ، يتَعَلَّق بالصناع
أَي: والاستعانة بالصناع فِي الْمَسْجِد، أَي فِي بِنَاء
الْمَسْجِد. قلت: لَا يَصح ذَلِك من حَيْثُ الْمَعْنى
لِأَن النجار دَاخل فِي الصناع، وَشرط اللف والنشر أَن
يكون من مُتَعَدد. فَافْهَم.
844801 - ح دّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدّثنا عَبْدُ
العَزِيزِ عنْ أبي حازِمٍ عنْ سَهْلٍ قَالَ بَعَثَ رَسولُ
اللَّهِ إِلَى امْرَأَةٍ أنْ مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ
يَعْمَلْ لِي أعْوَاداً أجْلِسُ عَلَيْهِنَّ. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد.
الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم، واسْمه سَلمَة بن
دِينَار، يروي عَن أَبِيه أبي حَازِم وَهُوَ الثَّالِث:
الرَّابِع: سهل بن سعد السَّاعِدِيّ، وَقد مر فِي بَاب
الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر والسطوح، وَكَذَلِكَ حَدِيثه
بأتم مِنْهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:
العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بلخي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عَليّ بن عبد ا. وَأخرجه مُسلم
وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن ماجة، وَقد
ذَكرْنَاهُ فِي بَاب الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه. قَوْله: (إِلَى امْرَأَة) :
هِيَ أنصارية، وَقد بَينا الِاخْتِلَاف فِي اسْمهَا. فِي
بَاب الصَّلَاة فِي الْمِنْبَر وَكَذَلِكَ فِي اسْم
غلامها. قَوْله: (أَن مري) أَن: هَذِه مفسرة بِمَنْزِلَة:
أَي، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فأوحينا إِلَيْهِ أَن
أصنع الْفلك} (الْمُؤْمِنُونَ: 72) وَيحْتَمل أَن تكون
مَصْدَرِيَّة بِأَن يقدر قبلهَا حرف الْجَرّ، وَعَن
الْكُوفِيّين إِنْكَار بِأَن، التفسيرية الْبَتَّةَ،
ويروى: (مري) بِدُونِ: أَن ومري: أَمر من أَمر يَأْمر،
وَالْيَاء عَلامَة الْخطاب للمؤنث. قَوْله: (يعْمل) ،
مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر. قَوْله: (أعواداً) أَي:
منبراً مركبا مِنْهَا. قَوْله: (أَجْلِس) ، بِالرَّفْع
أَي: أَنا أَجْلِس عَلَيْهَا.
وَهَهُنَا مَسْأَلَة أصولية وَهِي أَن الْأَمر بِالْأَمر
بالشَّيْء أَمر بذلك الشَّيْء أم لَا؟ وَهل الْغُلَام
مَأْمُور من قبل رَسُول الله أم لَا؟ وَفِيه الْخلاف،
وَالأَصَح عَدمه. وسَاق البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي
الْبيُوع بِهَذَا الْإِسْنَاد بِتَمَامِهِ، وَهَهُنَا
اخْتَصَرَهُ.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: جَوَاز الِاسْتِعَانَة
بِأَهْل الصَّنْعَة فِيمَا يَشْمَل الْمُسلمين نَفعه.
وَفِيه: التَّقَرُّب إِلَى أهل الْفضل بِعَمَل الْخَيْر.
944901 - ح دّثنا خَلاَّدٌ قَالَ حدّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ
بنُ أيْمَنَ عنْ أبِيهِ عنْ جابرٍ أنَّ امْرَأَةً قالَتْ
يَا رسولَ اللَّهِ أَلاَّ أَجْعَلُ لَكَ شَيْئاً تَقْعُدُ
عَلَيْهِ فإِنَّ لي غُلاَماً نَجَّاراً قَالَ إِنْ شِئْتِ
فَعَمِلَتِ المِنْبَرَ. (الحَدِيث 944 أَطْرَافه فِي: 819،
5902، 4853، 5853) .
قَالَ الْكرْمَانِي: الحَدِيث لَا يدل على الشق الآخر من
التَّرْجَمَة، وَهُوَ؛ ذكر الصناع وَالْمَسْجِد. ثمَّ
قَالَ: قلت: إِمَّا أَنه اكْتفى بالنجار والمنبر لِأَن
الْبَاقِي يعلم مِنْهُ، وَإِمَّا أَنه أَرَادَ أَن يلْحق
إِلَيْهِ مَا يتَعَلَّق بذلك، وَلم يتَّفق لَهُ وَلم يثبت
عِنْده بِشَرْطِهِ مَا يدل عَلَيْهِ. قلت: الْجَواب الأول
أوجه من الثَّانِي.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة. الأول: خَلاد، بتفح الْخَاء
الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام: وَهُوَ ابْن يحيى، سبق
فِي بَاب الصَّلَاة إِذا قدم من سَفَره. الثَّانِي: عبد
الْوَاحِد بن أَيمن، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء
آخر الْحُرُوف وَفتح الْمِيم وَفِي آخِره نون: الحبشي
الْمَكِّيّ الْقرشِي المَخْزُومِي، وَعبد الْوَاحِد هَذَا
يروي عَن أَبِيه أَيمن هَذَا، وَأَبوهُ هُوَ الثَّالِث،
وَهُوَ يروي عَن جَابر بن عبد ارضي اتعالى عَنْهُمَا
وَهُوَ الرَّابِع.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة
الإبن عَن الْأَب. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي
ومكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه أخرجه
(4/210)
البُخَارِيّ فِي الْبيُوع أَيْضا عَن خَلاد
بن يحيى أَيْضا، وَأخرجه فِي عَلامَة النُّبُوَّة عَن أبي
نعيم.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (أَن امْرَأَة) ، هِيَ الَّتِي ذكرت
فِي حَدِيث سهل بن سعد الْمَذْكُور آنِفا. قَوْله:
(أَلاَ؟) هِيَ مُخَفّفَة مركبة من همزَة الِاسْتِفْهَام و:
لَا، النافية، وَلَيْسَت حرف التَّنْبِيه وَلَا حرف
التحضيض. قَوْله: (فَإِن لي غُلَاما نجاراً) ، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (فَإِن لي غُلَام نجار) . قَوْله:
(إِن شِئْت) ، جَزَاؤُهُ مَحْذُوف تَقْدِيره: إِن شِئْت
عملت، ويروى: (إِن شِئْت فعلت) ، بِلَا حذف. قَوْله:
(فَعمِلت) ، أَي: الْمَرْأَة عملت الْمِنْبَر، وَهَذَا
إِسْنَاد مجازي، لِأَن الْعَامِل هُوَ الْغُلَام وَهِي
الآمرة، وَهُوَ من قبيل قَوْلهم: كسا الْخَلِيفَة
الْكَعْبَة. قيل: هَذَا الحَدِيث لَا يدل على
الِاسْتِعَانَة، لِأَن هَذِه الْمَرْأَة قَالَت ذَلِك من
تِلْقَاء نَفسهَا، أُجِيب: بِأَنَّهَا استعانة بالغلام فِي
نجارة الْمِنْبَر.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: قبُول الْبَذْل إِذا كَانَ
بِغَيْر سُؤال، واستنجاز الْوَعْد مِمَّن تعلم مِنْهُ
الْإِجَابَة، والتقرب إِلَى أهل الْفضل بِعَمَل الْخَيْر.
وَقَالَ ابْن بطال. فَإِن قلت: الحديثان متخالفان، فَفِي
حَدِيث سهل: أَن النَّبِي سَأَلَ الْمَرْأَة أَن تَأمر
عَبدهَا بِعَمَل الْمِنْبَر، وَفِي حَدِيث جَابر: أَن
الْمَرْأَة سَأَلت النَّبِي ذَلِك. قلت: يحْتَمل أَن تكون
الْمَرْأَة بدأت بِالْمَسْأَلَة، فَلَمَّا أَبْطَأَ
الْغُلَام بِعَمَلِهِ استنجزها إِتْمَامه، إِذْ علم طيب
نفس الْمَرْأَة بِمَا بذلته من صَنْعَة غلامها، وَيُمكن
أَن يكون إرْسَاله إِلَى الْمَرْأَة ليعرفها صَنْعَة مَا
يصنع الْغُلَام من الأعواد.
56 - (بابُ مَنْ بَنَى مَسْجِداً)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل من بنى مَسْجِدا.
110 - (حَدثنَا يحيى بن سُلَيْمَان حَدثنِي ابْن وهب
أَخْبرنِي عَمْرو أَن بكيرا حَدثهُ أَن عَاصِم بن عمر بن
قَتَادَة حَدثهُ أَنه سمع عبيد الله الْخَولَانِيّ أَنه
سمع عُثْمَان بن عَفَّان رَضِي الله عَنهُ يَقُول عِنْد
قَول النَّاس فِيهِ حِين بنى مَسْجِد الرَّسُول - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّكُم أَكثرْتُم
وَإِنِّي سَمِعت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - يَقُول من بنى مَسْجِدا قَالَ بكير حسبت أَنه
قَالَ يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله بنى الله لَهُ مثله فِي
الْجنَّة) مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن
الْبَاب فِي بَيَان فضل من بنى الْمَسْجِد (ذكر رِجَاله)
وهم سَبْعَة. الأول يحيى بن سُلَيْمَان الْجعْفِيّ مر فِي
بَاب كِتَابَة الْعلم. الثَّانِي عبد الله بن وهب وَقد مر
أَيْضا غير مرّة. الثَّالِث عَمْرو بِفَتْح الْعين ابْن
الْحَارِث الملقب بدرة الغواص مر فِي بَاب الْمسْح على
الْخُفَّيْنِ. الرَّابِع بكير مصغر مخفف ابْن عبد الله
الْأَشَج الْمدنِي خرج قَدِيما إِلَى مصر فَنزل بهَا.
الْخَامِس عَاصِم بن عمر بِضَم الْعين الأوسي
الْأنْصَارِيّ مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة عشْرين وَمِائَة.
السَّادِس عبيد الله بتصغير العَبْد ابْن الْأسود
الْخَولَانِيّ بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون
الْوَاو وبالنون ربيب مَيْمُونَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا. السَّابِع عُثْمَان بن عَفَّان
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ
التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد
فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْأَفْرَاد فِي
مَوضِع وَفِيه السماع فِي موضِعين وَفِيه ثَلَاثَة من
التَّابِعين فِي نسق وَاحِد وهم بكير وَعَاصِم وَعبد الله
وَفِيه ثَلَاثَة من أول الْإِسْنَاد مصريون وَثَلَاثَة من
آخِره مدنيون وَفِي وَسطه مدنِي سكن مصر وَهُوَ بكير (ذكر
من أخرجه غَيره) أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن هَارُون
بن سعيد الْأَيْلِي وَأحمد بن عِيسَى عَن ابْن وهب إِلَى
آخِره وَأخرجه أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن اسحق بن
إِبْرَاهِيم عَن أبي بكر الْحَنَفِيّ وَعبد الْملك بن
الصَّباح وَفِيه وَفِي آخر الْكتاب عَن زُهَيْر بن حَرْب
وَمُحَمّد بن الْمثنى كِلَاهُمَا عَن الضَّحَّاك بن مخلد
ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الحميد بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن
مَحْمُود بن لبيد عَن عُثْمَان بن عَفَّان وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الصَّلَاة عَن بنْدَار عَن أبي بكر
الْحَنَفِيّ عَن عبد الحميد بن جَعْفَر عَن أَبِيه عَن
مَحْمُود بن لبيد عَن عُثْمَان إِلَى آخِره وَقَالَ حَدِيث
حسن صَحِيح وَأخرجه ابْن ماجة عَن بنْدَار عَن أبي بكر
(4/211)
الْحَنَفِيّ وَقَالَ التِّرْمِذِيّ وَفِي
الْبَاب عَن أبي بكر وَعمر وَعلي وَعبد الله بن عَمْرو
وَأنس وَابْن عَبَّاس وَعَائِشَة وَأم حَبِيبَة وَأبي ذَر
وَعَمْرو بن عَنْبَسَة وواثلة بن الْأَسْقَع وَأبي
هُرَيْرَة وَجَابِر بن عبد الله رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم. (قلت) حَدِيث أبي بكر رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي
مُعْجَمه الْأَوْسَط من رِوَايَة وهب بن حَفْص عَن حبيب بن
نوح عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة بن مصرف عَن أَبِيه عَن مرّة
الطّيب عَن أبي بكر الصّديق فَذكره ووهب بن حَفْص ضَعِيف
وَفِي علل أبي حَاتِم الرَّازِيّ قَالَ هُوَ مُنكر عَن أبي
بكر الصّديق " من بنى مَسْجِدا لله وَلَو مثل مفحص قطاة ".
وَحَدِيث عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أخرجه ابْن
حبَان " من بني لله مَسْجِدا يذكر فِيهِ اسْم الله بنى
الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة ". وَحَدِيث عمر رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ عِنْد ابْن ماجة من حَدِيث عُرْوَة عَن
عَليّ قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " من بنى مَسْجِدا لله بنى الله لَهُ بَيْتا
فِي الْجنَّة " وَإِسْنَاده ضَعِيف. وَحَدِيث عبد الله بن
عَمْرو عِنْد أبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ من حَدِيث عَمْرو
بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده نَحوه وَزَاد " أوسع مِنْهُ
" وروى أَحْمد أَيْضا نَحوه. وَحَدِيث أنس عِنْد
التِّرْمِذِيّ رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة بن سعيد حَدثنَا نوح
بن قيس عَن عبد الرَّحْمَن مولى قيس عَن زِيَاد النميري
عَن أنس قَالَ قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " من بنى لله مَسْجِدا صَغِيرا
كَانَ أَو كَبِيرا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة "
وَأخرجه أَيْضا أَبُو نعيم وَلَفظه " من بني مَسْجِدا لله
فِي الدُّنْيَا يُرِيد بِهِ وَجه الله قَالُوا إِذا نكثر
يَا رَسُول الله قَالَ الله أَكثر " وَفِي لفظ " كل بِنَاء
وبال على صَاحبه يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا مَسْجِدا فَإِن
لَهُ بِهِ قصرا فِي الْجنَّة من لُؤْلُؤ ". وَحَدِيث ابْن
عَبَّاس عِنْد أبي مُسلم الْكَجِّي مثله وَزَاد " وَلَو
كمفحص قطاة ". وَحَدِيث عَائِشَة عِنْد مُسَدّد فِي
مُسْنده الْكَبِير عَن أبي دَاوُد عَن كثير بن عبد
الرَّحْمَن الطَّحَّان عَن عَطاء عَن عَائِشَة أَنَّهَا
قَالَت قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا
فِي الْجنَّة قلت يَا رَسُول الله وَهَذِه الْمَسَاجِد
الَّتِي فِي طَرِيق مَكَّة قَالَ وَتلك ". وَحَدِيث أم
حَبِيبَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط. وَحَدِيث
أبي ذَر عِنْد الْبَزَّار. وَحَدِيث عَمْرو بن عَنْبَسَة
عِنْد النَّسَائِيّ. وَحَدِيث وَاثِلَة بن الْأَسْقَع
عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه الْكَبِير " من بني
مَسْجِدا يصلى فِيهِ بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة
أفضل مِنْهُ ". وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة عِنْد
الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَعند الْبَيْهَقِيّ فِي
شعب الْإِيمَان " من بني بَيْتا يعبد الله فِيهِ حَلَالا
بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة من الدّرّ والياقوت "
وَحَدِيث جَابر عِنْد ابْن خُزَيْمَة " من حفر مَاء لم
يشرب مِنْهُ كبد حَيّ من جن وَلَا إنس وَلَا طَائِر إِلَّا
آجره الله يَوْم الْقِيَامَة وَمن بنى مَسْجِدا كمفحص قطاة
أَو أَصْغَر بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " (قلت)
وَفِي الْبَاب عَن أبي قرصافة ونبيط بن شريط وَعمر بن
مَالك وَأَسْمَاء بنت يزِيد ومعاذ وَأبي أُمَامَة وَعبد
الله بن أبي أوفى وَأبي مُوسَى وَعبد الله بن عمر بن
الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَحَدِيث أبي قرصافة
واسْمه جندرة بن خيشنة عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير
أَنه سمع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
يَقُول " ابْنُوا الْمَسَاجِد وأخرجوا القمامة مِنْهَا
فَمن بنى " فَذكره وَزَاد " قَالَ رجل يَا رَسُول الله
وَهَذِه الْمَسَاجِد الَّتِي تبنى فِي الطَّرِيق قَالَ نعم
وَإِخْرَاج القمامة مِنْهَا مُهُور حور الْعين " وَفِي
إِسْنَاده جَهَالَة. وَحَدِيث نبيط عِنْده أَيْضا فِي
الصَّغِير. وَحَدِيث عمر بن مَالك عِنْد أبي مُوسَى
الْمَدِينِيّ فِي كتاب الصَّحَابَة وَلَفظه " من بنى لله
مَسْجِدا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة ". وَحَدِيث
أَسمَاء بنت يزِيد عِنْد الطَّبَرَانِيّ نَحوه وَرَوَاهُ
أَبُو نعيم وَلَفظه " من بنى لله مَسْجِدا بنى الله لَهُ
بَيْتا فِي الْجنَّة أوسع مِنْهُ " وَحَدِيث معَاذ عِنْد
أبي الْفرج فِي كتاب الْعِلَل " من بنى لله مَسْجِدا بنى
الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة " وَمن علق فِيهِ
قِنْدِيلًا صلى عَلَيْهِ سَبْعُونَ ألف ملك حَتَّى يطفى
ذَلِك الْقنْدِيل وَمن بسط فِيهِ حَصِيرا صلى عَلَيْهِ
سَبْعُونَ ألف ملك حَتَّى يتقطع ذَلِك الْحَصِير وَمن
أخرجه مِنْهُ قذاة كَانَ لَهُ كفلان من الْأجر " وَفِيه
كَلَام كثير. وَحَدِيث أبي أُمَامَة عِنْد أبي نعيم " لَا
يَبْنِي أحد مَسْجِدا لله إِلَّا بنى الله لَهُ بَيْتا فِي
الْجنَّة أوسع مِنْهُ ". وَحَدِيث عبد الله بن أبي أوفى
أخرجه الْحَافِظ عبد الْمُؤمن بن خلف الدمياطي فِي جُزْء
جمعه. وَحَدِيث أبي مُوسَى كَذَلِك. وَحَدِيث عبد الله بن
عمر عِنْد الْبَزَّار وَالطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من
رِوَايَة الحكم بن ظهير وَهُوَ مَتْرُوك عَن ابْن أبي ليلى
عَن نَافِع عَن ابْن عمر فَذكره وَزَاد فِيهِ
الطَّبَرَانِيّ " وَلَو كمفحص قطاة " فَهَؤُلَاءِ ثَلَاثَة
وَعِشْرُونَ صحابيا (ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله "
يَقُول " جملَة وَقعت حَالا عَن عُثْمَان قَوْله " عِنْد
قَول النَّاس فِيهِ " أَي فِي عُثْمَان وَذَلِكَ أَن
بَعضهم أنكر عَلَيْهِ عِنْد تَغْيِيره بِنَاء الْمَسْجِد
وَجعله بِالْحِجَارَةِ المنقوشة والقصة وَوَقع بَيَان
ذَلِك عِنْد مُسلم حَيْثُ أخرجه
(4/212)
من طَرِيق مَحْمُود بن لبيد الْأنْصَارِيّ
وَهُوَ من صغَار الصَّحَابَة قَالَ " لما أَرَادَ عُثْمَان
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ بِنَاء الْمَسْجِد كره النَّاس
ذَلِك وأحبوا أَن يَدعُوهُ على هَيئته " أَي فِي عهد
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله "
حِين بنى " أَي حِين أَرَادَ عُثْمَان أَن يَبْنِي وَلم
يبن عُثْمَان إنْشَاء وَإِنَّمَا وَسعه وشيده وَقد
ذَكرْنَاهُ فِي بَاب بُنيان الْمَسْجِد وَقَالَ بَعضهم
فَيُؤْخَذ مِنْهُ إِطْلَاق الْبناء فِي حق من جدد كَمَا
يُطلق فِي حق من أنشأ أَو المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هَهُنَا
بعض الْمَسْجِد من إِطْلَاق الْكل على الْبَعْض (قلت) ذكر
هَذَا الْقَائِل شَيْئَيْنِ الأول مُسْتَغْنى عَنهُ فَلَا
حَاجَة إِلَى ذكره وَالثَّانِي لَا يَصح لِأَنَّهُ ذكر فِي
بَاب بُنيان الْمَسْجِد حَدِيث عبد الله بن عمر وَفِيه "
ثمَّ غَيره عُثْمَان فَزَاد فِيهِ زِيَادَة كَثِيرَة وَبنى
جِدَاره بحجارة منقوشة والقصة وَجعل عمده من حِجَارَة
منقوشة وسقفه بالساج " انْتهى فَهَذَا يدل على أَنه غير
الْكل وَزَاد فِيهِ يَعْنِي فِي الطول وَالْعرض وَكَانَ
الْمَسْجِد مَبْنِيا بِاللَّبنِ وسقفه بِالْجَرِيدِ وعمده
خشب النّخل وبناه عُثْمَان بِالْحِجَارَةِ وَجعل عمده
بِالْحِجَارَةِ وسقفه بالساج فَكيف يَقُول هَذَا الْقَائِل
أَو المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُنَا بعض الْمَسْجِد فَهَذَا
كَلَام من لم يتَأَمَّل ويتصرف من غير وَجه قَوْله "
مَسْجِد الرَّسُول " كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين
وَفِي رِوَايَة الْكشميهني والحموي " مَسْجِد رَسُول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " قَوْله "
إِنَّكُم أَكثرْتُم " مقولة لقَوْله يَقُول ومفعوله
مَحْذُوف للْعلم بِهِ وَالتَّقْدِير أَنكُمْ أَكثرْتُم
الْكَلَام فِي الْإِنْكَار على فعلى قَوْله " من بنى
مَسْجِدا " التَّنْوِين فِيهِ للشيوع فَيتَنَاوَل من بنى
مَسْجِدا كَبِيرا أَو صَغِيرا يدل عَلَيْهِ حَدِيث أنس
الَّذِي أخرجه التِّرْمِذِيّ بِهَذَا اللَّفْظ على مَا
ذَكرْنَاهُ وروى ابْن أبي شيبَة حَدِيث الْبَاب عَن
عُثْمَان من وَجه آخر وَزَاد فِيهِ " وَلَو كمفحص قطاة "
وَفِي حَدِيث جَابر " كمفحص قطاة أَو أَصْغَر " وللعلماء
فِي تَوْجِيه هَذَا قَولَانِ فَقَالَ أَكْثَرهم هَذَا
مَحْمُول على الْمُبَالغَة لِأَن الْمَكَان الَّذِي تفحص
القطاة عَنهُ لتَضَع فِيهِ بيضها وترقد عَلَيْهِ لَا
يَكْفِي مِقْدَار للصَّلَاة فِيهِ وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث
جَابر الَّذِي ذَكرْنَاهُ وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ على
ظَاهره فَالْمَعْنى على هَذَا أَن يزِيد فِي مَسْجِد قدرا
يحْتَاج إِلَيْهِ تكون تِلْكَ الزِّيَادَة على هَذَا
الْقدر أَو يشْتَرك جمَاعَة فِي بِنَاء مَسْجِد فَتَقَع
حِصَّة كل وَاحِد مِنْهُم ذَلِك الْقدر قيل هَذَا كُله
بِنَاء على أَن المُرَاد من الْمَسْجِد مَا يتَبَادَر
إِلَيْهِ الذِّهْن وَهُوَ الْمَكَان الَّذِي يتَّخذ
للصَّلَاة فِيهِ فَإِن كَانَ المُرَاد بِالْمَسْجِدِ
مَوضِع السُّجُود وَهُوَ مَا يسع الْجِهَة فَلَا يحْتَاج
إِلَى شَيْء مِمَّا ذكر (قلت) قَوْله " من بنى " يَقْتَضِي
وجود بِنَاء على الْحَقِيقَة فَيحمل على الْمَسْجِد
الْمَعْهُود بَين النَّاس وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث أم
حَبِيبَة " من بني لله بَيْتا " وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب
وَحَدِيث عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَيْضا " من بنى
لله مَسْجِدا يذكر فِيهِ اسْم الله " وكل ذَلِك يدل على
أَن المُرَاد بِالْمَسْجِدِ هُوَ الْمَكَان الْمُتَّخذ لَا
مَوضِع السُّجُود فَقَط وَهُوَ الَّذِي ذهب إِلَيْهِ
الْفرْقَة الأولى وَلَكِن لَا يمْنَع إِرَادَة مَوضِع
السُّجُود مجَازًا فَيدْخل فِيهِ الْمَوَاضِع المحوطة
إِلَى جِهَة الْقبْلَة وفيهَا هَيْئَة الْمِحْرَاب فِي
طرقات الْمُسَافِرين وَالْحَال أَنَّهَا لَيست كالمساجد
المبنية بالجدران والسقوف وَرُبمَا يَجْعَل مِنْهَا مَوضِع
فِي غَايَة الصغر يدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي قرصافة الَّذِي
ذَكرْنَاهُ قَوْله " قَالَ بكير حسبت أَنه " أَي أَن
عَاصِم بن عمر بن قَتَادَة وَهُوَ شَيْخه الَّذِي روى
عَنهُ هَذَا الحَدِيث قَالَ فِي رِوَايَته " يَبْتَغِي
بِهِ وَجه الله " وَهَذِه الْجُمْلَة مدرجة مُعْتَرضَة
وَقعت فِي الْبَين وَلم يجْزم بهَا بكير فَلذَلِك ذكرهَا
بالحسبان وَلَيْسَت هَذِه الْجُمْلَة فِي رِوَايَة جَمِيع
من روى هَذَا الحَدِيث فَإِن لَفظهمْ فِيهِ " من بني لله
مَسْجِدا بنى الله لَهُ مثله فِي الْجنَّة " فَكَأَن بكير
أنسى لَفْظَة الله فَذكرهَا بِالْمَعْنَى فَإِن معنى
قَوْله " لله " يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله لاشْتِرَاكهمَا
فِي الْمَعْنى الْمَقْصُود وَهُوَ الْإِخْلَاص ثمَّ إِن
لَفْظَة يَبْتَغِي بِهِ على تَقْدِير ثُبُوتهَا فِي كَلَام
الرَّسُول تكون حَالا من فَاعل بنى وَالْمرَاد بِوَجْه
الله ذَات الله وابتغاء وَجه الله فِي الْعَمَل هُوَ
الْإِخْلَاص وَهُوَ أَن تكون نِيَّته فِي ذَلِك طلب مرضاة
الله تَعَالَى من دون رِيَاء وَسُمْعَة حَتَّى قَالَ ابْن
الْجَوْزِيّ من كتب اسْمه على الْمَسْجِد الَّذِي يبنيه
كَانَ بَعيدا من الْإِخْلَاص (فَإِن قلت) فعلى هَذَا لَا
يحصل الْوَعْد الْمَخْصُوص لمن يبنيه بِالْأُجْرَةِ لعدم
الْإِخْلَاص (قلت) الظَّاهِر هَذَا وَلكنه يُؤجر فِي
الْجُمْلَة يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن
وَابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم من حَدِيث عقبَة بن عَامر
مَرْفُوعا " أَن الله يدْخل بِالسَّهْمِ الْوَاحِد
ثَلَاثَة الْجنَّة صانعه الْمُحْتَسب فِي صَنعته والرامي
بِهِ والممد بِهِ " فَقَوله " الْمُحْتَسب فِي صَنعته "
هُوَ من يقْصد بذلك إِعَانَة الْمُجَاهِد وَهُوَ أَعم من
أَن يكون مُتَطَوعا بذلك أَو بِأُجْرَة لَكِن الْإِخْلَاص
لَا يكون إِلَّا من المتطوع (فَإِن قلت) قَوْله " من بنى "
حَقِيقَته أَن يُبَاشر الْبناء بِنَفسِهِ ليحصل لَهُ
الْوَعْد الْمَخْصُوص فَلَا يدْخل فِيهِ الْأَمر بذلك
(قلت) يتَنَاوَل الْأَمر أَيْضا بنيته " والأعمال
بِالنِّيَّاتِ " (فَإِن قلت) يلْزم من ذَلِك الْجمع بَين
الْحَقِيقَة وَالْمجَاز وَهُوَ
(4/213)
مُمْتَنع (قلت) لَا امْتنَاع فِيهِ عِنْد
الشَّافِعِي وَأما عِنْد غَيره فبعموم الْمجَاز وَهُوَ أَن
يحمل الْكَلَام على معنى مجازي يتَنَاوَل الْحَقِيقَة
وَهَذَا يُسمى عُمُوم الْمجَاز وَلَا نزاع فِي جَوَاز
اسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي معنى مجازي يكون الْمَعْنى
الْحَقِيقِيّ من أَفْرَاده كاستعمال الدَّابَّة عرفا
فِيمَا يدب على الأَرْض وَمِثَال ذَلِك فِيمَن أوصى لأبناء
زيد مثلا وَله أَبنَاء وَأَبْنَاء أَبنَاء يسْتَحق
الْجَمِيع عِنْد أبي يُوسُف وَمُحَمّد عملا بِعُمُوم
الْمجَاز حَيْثُ يُطلق الْأَبْنَاء على الْفَرِيقَيْنِ
قَوْله " بنى الله لَهُ " إِسْنَاد الْبناء إِلَى الله
مجَازًا اتِّفَاقًا قطعا (فَإِن قلت) إِظْهَار الْفَاعِل
فِيهِ لماذا (قلت) لِأَن فِي تكْرَار اسْمه تَعْظِيمًا
وتلذذا للذاكر قَالَ الشَّاعِر
(أعد ذكر نعْمَان لنا أَن ذكره ... هُوَ الْمسك مَا كررته
يتضوع)
وَقَالَ بَعضهم لِئَلَّا تتنافر الضمائر أَو يتَوَهَّم
عوده على باني الْمَسْجِد (قلت) كلا الْوَجْهَيْنِ غير
صَحِيح أما الأول فَلِأَن التنافر إِنَّمَا يكون إِذا
كَانَت الضمائر كَثِيرَة وَأما الثَّانِي فَمَمْنُوع قطعا
للقرينة الحالية والمقالية قَوْله " مثله " مَنْصُوب على
أَنه صفة لمصدر مَحْذُوف أَي بِنَاء مثله والمثل فِي
اللُّغَة الشّبَه يُقَال هَذَا الشَّيْء مثل هَذَا أَي
شبهه قَالَ الْجَوْهَرِي مثل كلمة تَسْوِيَة يُقَال هَذَا
مثله وَمثله كَمَا تَقول شبهه وَشبهه وَعند أهل
الْمَعْقُول الْمُمَاثلَة بَين الشَّيْئَيْنِ هُوَ
الِاتِّحَاد فِي النَّوْع كاتحاد زيد وَعَمْرو فِي
الإنسانية وَإِذا كَانَ فِي الْجِنْس يُسمى مجانسة كاتحاد
الْإِنْسَان مَعَ الْفرس فِي الحيوانية وَقد اخْتلفُوا فِي
المُرَاد بالمثلية هَهُنَا فَقَالَ قوم مِنْهُم ابْن
الْعَرَبِيّ يَعْنِي مثله فِي الْمِقْدَار والمساحة (قلت)
يرد هَذَا حَدِيث عبد الله بن عَمْرو " بَيْتا أوسع مِنْهُ
" وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أَسمَاء وَأبي أُمَامَة على مَا
ذَكرنَاهَا وَقَالَ قوم مثله فِي الْجَوْدَة والحصانة
وَطول الْبَقَاء (قلت) هَذَا لَيْسَ بِشَيْء على مَا لَا
يخفى مَعَ أَنه ورد فِي حَدِيث وَاثِلَة عِنْد أَحْمد
وَالطَّبَرَانِيّ " بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة
أفضل مِنْهُ " وَقَالَ صَاحب الْمُفْهم هَذِه المثلية
لَيست على ظَاهرهَا وَإِنَّمَا يعْنى أَنه يَبْنِي لَهُ
بثوابه بَيْتا أشرف وَأعظم وَأَرْفَع وَقَالَ النَّوَوِيّ
يحْتَمل قَوْله " مثله " أَمريْن أَحدهمَا أَن يكون
مَعْنَاهُ بنى الله لَهُ مثله فِي مُسَمّى الْبَيْت وَأما
صفته فِي السعَة وَغَيرهَا فمعلوم فَضلهَا فَإِنَّهَا مَا
لَا عين رَأَتْ وَلَا أذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر
وَالثَّانِي أَن مَعْنَاهُ أَن فَضله على بيُوت الْجنَّة
كفضل الْمَسْجِد على بيُوت الدُّنْيَا (قلت) الْوَجْه
الثَّانِي لَا يَخْلُو عَن بعد وَقَالَ بعض شرَّاح
التِّرْمِذِيّ وَيحْتَمل أَنه أَرَادَ أَن يُنَبه بقوله "
مثله " على الحض على الْمُبَالغَة فِي إِرَادَة
الِانْتِفَاع بِهِ فِي الدُّنْيَا فِي كَونه ينفع
الْمُصَلِّين ويكنهم عَن الْحر وَالْبرد وَيكون فِي مَكَان
يحْتَاج إِلَيْهِ وَيكثر الِانْتِفَاع بِهِ ليقابل
الِانْتِفَاع بِهِ فِي الدُّنْيَا انتفاعه هُوَ بِمَا
يبْنى لَهُ فِي الْجنَّة. وَقَالَ صَاحب الْمُفْهم وَهَذَا
الْبَيْت وَالله أعلم مثل بَيت خَدِيجَة الَّذِي بشرت بِهِ
بِبَيْت فِي الْجنَّة من قصب يُرِيد من قصب الزمرد
والياقوت (قلت) قد ذكرنَا حَدِيث أبي هُرَيْرَة من (1)
عِنْد الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط وَالْبَيْهَقِيّ فِي
شعب الْإِيمَان " بنى الله لَهُ بَيْتا فِي الْجنَّة من در
(2) وَيَاقُوت " (فَإِن قلت) قَالَ الله تَعَالَى {من
جَاءَ بِالْحَسَنَة فَلهُ عشر أَمْثَالهَا} فَمَا معنى
التَّقْيِيد بِمثلِهِ (قلت) أجابوا عَن هَذَا بأجوبة.
الأول مَا قَالَه بَعضهم أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَه قبل نزُول هَذِه الْآيَة (قلت) هَذَا
بعيد وَلَا يعلم ذَلِك إِلَّا بالتاريخ. الثَّانِي أَن
المثلية إِنَّمَا هِيَ بِحَسب الكمية وَالزِّيَادَة بِحَسب
الْكَيْفِيَّة (قلت) المثلية بِحَسب الكمية تسمى مُسَاوَاة
كاتحاد مِقْدَار مَعَ آخر فِي الْقدر وَفِي الْكَيْفِيَّة
تسمى مشابهة. الثَّالِث أَن التَّقْيِيد بِهِ لَا يَنْفِي
الزِّيَادَة واستبعده بَعضهم وَلَيْسَ بِبَعِيد. الرَّابِع
أَن الْمَقْصُود مِنْهُ بَيَان الْمُمَاثلَة فِي أَن
أَجزَاء هَذِه الْحَسَنَة من جنس الْعَمَل لَا من غَيره
وَعِنْدِي جَوَاب فتح لي بِهِ من الْأَنْوَار الالهية
وَهُوَ أَن المجازاة بِالْمثلِ عدل مِنْهُ وَالزِّيَادَة
عَلَيْهِ بِحَسب الْكَيْفِيَّة والكمية فضل مِنْهُ قَوْله
" فِي الْجنَّة " قَالَ بَعضهم هُوَ مُتَعَلق ببنى أَو
هُوَ حَال من قَوْله مثله (قلت) لَيْسَ كَذَلِك وَإِنَّمَا
هُوَ مُتَعَلق بِمَحْذُوف وَقع صفة لمثله وَالتَّقْدِير
بنى الله لَهُ مثله كَائِنا فِي الْجنَّة وَكَيف يكون
حَالا من مثله وَشرط الْحَال أَن يكون من معرفَة كَمَا عرف
فِي مَوْضِعه وَلَفظ مثل لَا يتعرف وَإِن أضيف
66 - (بابٌ يَأْخُذُ بِنُصُولِ النَّبْلِ إِذَا مَرَّ فِي
المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الشَّخْص يَأْخُذ بنصول
السِّهَام إِذا مر فِي مَسْجِد من الْمَسَاجِد، وَإِنَّمَا
قَدرنَا هَكَذَا لِئَلَّا يَقع لفظ: بَاب ضائعاً،
وَأَيْضًا فِيهِ بَيَان أَن الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي:
يَأْخُذ، يرجع إِلَى هَذَا الْمُقدر، لِئَلَّا يكون
إضماراً قبل الذّكر، وليلتئم التَّرْكِيب، وَلم: أر أحدا
من الشُّرَّاح يذكر شَيْئا فِي مثل هَذِه الْمَوَاضِع،
مَعَ أَن فيهم من يَدعِي دعاوي عريضة فِي هَذَا الْبَاب
(4/214)
وَلَيْسَ لَهُ حَظّ من هَذِه الدقائق.
والنصول: جمع نصل. قَالَ الْجَوْهَرِي: النصل نصل السهْم
وَالسيف وَالرمْح، وَالْجمع نصول ونصال. والنبل، بِفَتْح
النُّون وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره لَام:
السِّهَام الْعَرَبيَّة، وَهِي مُؤَنّثَة لَا وَاحِد لَهَا
من لَفظهَا، وَجَوَاب: إِذا، هُوَ قَوْله: يَأْخُذ مقدما.
154111 - ح دّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدّثنا
سُفْيَانُ قَالَ قلْتُ لِعَمْرٍ وأسَمِعْتَ جابرَ بنَ
عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ مرَّ رَجُلٌ فِي المَسْجِدِ
وَمَعَهُ سِهامٌ فَقَالَ لهُ رَسولُ اللَّهِ أمْسِكْ
بنصَالِها. (الحَدِيث 154 طرفاه فِي: 3707، 4707) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ، أَمر بإمساك
النصال عِنْد الْمُرُور فِي الْمَسْجِد.
ذكر رِجَاله وهم أَرْبَعَة. الأول: قُتَيْبَة بن سعيد.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن
دِينَار. الرَّابِع: جَابر بن عبد االأنصاري.
ذمر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: السُّؤَال عَن السماع
بطرِيق الِاسْتِفْهَام، وَلم يذكر لَهُ جَوَاب، قَالَ ابْن
بطال. فَإِن قيل: حَدِيث جَابر لَا يظْهر فِيهِ
الْإِسْنَاد لِأَنَّهُ لم ينْقل أَن عمرا قَالَ لَهُ: نعم.
قُلْنَا: قد ذكر البُخَارِيّ فِي غير كتاب الصَّلَاة أَنه
قَالَ: نعم، فَبَان بقوله: نعم، إِسْنَاد الحَدِيث.
وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذِه مَسْأَلَة اخْتلف
فِيهَا المحدثون، فَمنهمْ من شَرط النُّطْق إِذا قَالَ
لَهُ التلميذ: أخْبرك فلَان بِكَذَا وَكَذَا، وَمِنْهُم من
لم يتشرط، وَذكر البُخَارِيّ فِي مَوضِع آخر عَن عَليّ بن
عبد اعن سُفْيَان، فَقَالَ: نعم. انْتهى. قلت: الْمَذْهَب
الرَّاجِح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر الْمُحَقِّقين مِنْهُم
البُخَارِيّ أَن قَول الشَّيْخ: نعم، لَا يشْتَرط، بل
يَكْتَفِي بسكوت الشَّيْخ إِذا كَانَ متيقظاً، فعلى هَذَا
فالإسناد فِي حَدِيث جَابر ظَاهر، وَمَعَ ذَلِك فقد جَاءَ
فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ أَنه قَالَ لَهُ: نعم، فَانْقَطع
النزاع. وَقَالَ بَعضهم: حُكيَ عَن رِوَايَة الْأصيلِيّ
أَنه ذكره فِي حَدِيثه، فَقَالَ: نعم، وَلم أره فِيهَا،
قلت: عدم رُؤْيَته لَا يسْتَلْزم عدم الرِّوَايَة عَنهُ.
فَإِن لم يره هُوَ فقد حكى من هُوَ أكبر مِنْهُ أَنه
رُوِيَ عَنهُ لفظ. نعم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْفِتَن عَن عَليّ بن عبد ا. وَأخرجه مُسلم
فِي الْأَدَب عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَإِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن عبد
ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن مَنْصُور.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَدَب عَن هِشَام بن عمار
سبعتهم، عَنهُ بِهِ، وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الْفِتَن عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد بن زيد عَن
عَمْرو عَن جَابر، وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن يحيى بن
يحيى وَأبي الرّبيع عَنهُ بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي
الْأَدَب أَيْضا عَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح،
كِلَاهُمَا عَن لَيْث بن سعد عَن أبي الزبير عَن جَابر:
(أَن النَّبِي أَمر رجلا كَانَ يتَصَدَّق بِالنَّبلِ فِي
الْمَسْجِد أَن لَا يمر بهَا إلاَّ وَهُوَ آخذ بنصولها) .
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْجِهَاد عَن قُتَيْبَة بِهِ،
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (مُعْجَمه الْأَوْسَط) من
حَدِيث أبي الْبِلَاد عَن مُحَمَّد بن عبد ا، قَالَ:
(كُنَّا عِنْد أبي سعيد الْخُدْرِيّ، فَقلب رجل نبْلًا
فَقَالَ أَبُو سعيد: أما كَانَ هَذَا يعلم أَن رَسُول الله
نهى عَن تقليب السِّلَاح وسله) يَعْنِي فِي الْمَسْجِد.
وروى ابْن مَاجَه من حَدِيث زيد بن جُبَير، وَهُوَ ضَعِيف،
عَن دَاوُد بن الْحصين عَن نَافِع عَن ابْن عمر يرفعهُ:
(خِصَال لَا تنبغي فِي الْمَسْجِد: لَا يتَّخذ طَرِيقا،
وَلَا يشهر فِيهِ سلَاح، وَلَا ينبض فِيهِ بقوس، وَلَا
ينثر فِيهِ نبل، وَلَا يمر فِيهِ بِلَحْم نيء، وَلَا يضْرب
فِيهِ حد، وَلَا يقْتَصّ فِيهِ من أحد، وَلَا يتَّخذ
سوقاً) . وَرُوِيَ أَيْضا من حَدِيث الْحَارِث بن نَبهَان،
وَهُوَ مَتْرُوك الحَدِيث، عَن عتبَة بن يقظان، وَهُوَ غير
ثِقَة، عَن أبي سعيد، وَهُوَ مَجْهُول الْحَال وَالْعين،
عَن مَكْحُول عَن وَاثِلَة، وَأنكر سَمَاعه عَنهُ ابْن
مسْهر وَالْحَاكِم. وَقَالَ البُخَارِيّ فِي (التَّارِيخ
الْأَوْسَط) سمع مِنْهُ أَن النَّبِي قَالَ: (جَنبُوا
مَسَاجِدنَا صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ وشراءكم
وَبَيْعكُمْ وَخُصُومَاتكُمْ وَرفع أَصْوَاتكُم وَإِقَامَة
حُدُودكُمْ وسل سُيُوفكُمْ، وَاتَّخذُوا على أَبْوَابهَا
الْمَطَاهِر وَجَمِّرُوهَا فِي الْجمع) . وَعِنْده أَيْضا
من حَدِيث ابْن عَبَّاس: (نزهوا الْمَسَاجِد وَلَا تتخذوها
طرقاً، وَلَا تمر فِيهِ حَائِض، وَلَا يقْعد فِيهِ جنب
إلاَّ عابري سَبِيل، وَلَا ينثر فِيهِ نبل، وَلَا يسل
فِيهِ سيف، وَلَا يضْرب بِهِ حد، وَلَا ينشد فِيهِ شعر.
فَإِن أنْشد قيل: فض افاك) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: تَأْكِيد حُرْمَة
الْمُسلمين، لِأَن الْمَسَاجِد مورودة بالخلق لَا سِيمَا
فِي أَوْقَات الصَّلَاة، وَهَذَا التَّأْكِيد من النَّبِي
لِأَنَّهُ خشِي أَن يُؤْذى بهَا أحد. وَفِيه: كريم خلقه
ورأفته بِالْمُؤْمِنِينَ. وَفِيه: التَّعْظِيم لقَلِيل
الدَّم وَكَثِيره. وَفِيه: أَن الْمَسْجِد يجوز فِيهِ
إِدْخَال السِّلَاح.
76 -
(4/215)
(بابُ المرُورِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب بَيَان جَوَاز الْمُرُور بِالنَّبلِ فِي
الْمَسْجِد إِذا أمسك نصاله. وَفِي هَذِه التَّرْجَمَة نوع
قُصُور على مَا لَا يخفى.
254211 - حدّثنا مُوسَى بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدّثنا
عَبْدُ الوَاحِدِ قَالَ حدّثنا أبُو بُرْدَةَ بنُ عَبْدِ
اللَّهِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا بُرْدَةَ عنْ أبِيهِ عنِ
النبيِّ قَالَ مَنْ مَرَّ فِي شَيْءٍ منْ مَسَاجِدِنا أوْ
أسْواقِنَا بِنَبْلٍ فَلْيَأْخُذْ عَلَى نِصَالِها لاَ
يَعْقِرْ بَكَفِّهِ مُسْلِماً. (الحَدِيث 254 طرفه فِي:
5707) .
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من مر)
، فَإِنَّهُ صرح فِيهِ بِلَفْظ الْمُرُور، وَجعله شرطا،
ورتب عَلَيْهِ الْجَزَاء، وَهُوَ قَوْله: (فليأخذ) ،
فَدلَّ هَذَا على جَوَاز الْمُرُور فِي الْمَسْجِد بنبل
يَأْخُذ نصاله، وَبِهَذَا يحصل الْجَواب عَن سُؤال
الْكرْمَانِي، حَيْثُ قَالَ: فَإِن قلت: مَا وَجه تَخْصِيص
هَذَا الحَدِيث يَعْنِي حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ
بِهَذَا الْبَاب، وَهُوَ قَوْله: بَاب الْمُرُور فِي
الْمَسْجِد، وَتَخْصِيص الحَدِيث السَّابِق يَعْنِي حَدِيث
جَابر الْمَذْكُور بِالْبَابِ السَّابِق وَهُوَ قَوْله:
بَاب يَأْخُذ بنصول النبل إِذا مر فِي الْمَسْجِد، أَن
كلاًّ من الْحَدِيثين يدل على كل من الترجمتين؟ وَتَقْرِير
الْجَواب: هُوَ أَنه نظر إِلَى لفظ الرَّسُول حَيْثُ لم
يكن فِي الأول لفظ الْمُرُور، فِي لفظ الرَّسُول، وَفِي
الثَّانِي ذكره مَقْصُودا بِالْوَجْهِ الَّذِي ذَكرْنَاهُ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة. الأول: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل
التَّبُوذَكِي، وَقد مر فِي بَاب كتاب الْوَحْي.
الثَّانِي: عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، بِكَسْر الزَّاي
الْمُعْجَمَة بعْدهَا الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد مر فِي
بَاب الْجِهَاد من الْإِيمَان. الثَّالِث: أَبُو بردة،
بِضَم، الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الرَّاء، واسْمه:
بريد، مصغر برد ضد الْحر: ابْن عبد ا. الرَّابِع: أَبُو
بردة الثَّانِي، واسْمه: عَامر، وَهُوَ جد أبي بردة الأول.
الْخَامِس: أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيّ واسْمه: عبد ابْن
قيس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي
عَن جده وَهُوَ أَبُو بردة الأول يروي عَن أبي بردة
الثَّانِي، وَهُوَ جده، كَأَنَّهُ قَالَ: سَمِعت جدي يروي
عَن أَبِيه. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه
الصَّحَابِيّ، وَهُوَ رِوَايَة أبي بردة. الثَّانِي: عَن
أَبِيه أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا
بَين بَصرِي وكوفي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْفِتَن عَن أبي كريب عَن أبي أُسَامَة
وَأخرجه مُسلم فِي الْأَدَب عَن أبي كريب وَأبي عَامر عبد
ابْن أبي براد الْأَشْعَرِيّ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد عَن
أبي كريب فِي الْجِهَاد. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَدَب
عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن أبي أُسَامَة بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه. قَوْله: (من مر) ، كلمة: من،
مَوْصُولَة تَضَمَّنت معنى الشَّرْط فِي مَحل الرّفْع على
الِابْتِدَاء، وَخَبره هُوَ. قَوْله: (فليأخذ) . قَوْله:
(أَو أسواقنا) كلمة؛ أَو، للتنويع من الشَّارِع وَلَيْسَت
للشَّكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (بنبل) ، الْبَاء، فِيهِ
للمصاحبة مَعْنَاهُ: من مر مصاحباً للنبل، وَلَيْسَت:
الْبَاء، فِيهِ مثل: الْبَاء فِي قَوْلك: بزيد، فَإِنَّهَا
للإلصاق. قَوْله: (على نصالها) ضمنت كلمة الْأَخْذ هُنَا
معنى الاستعلاء للْمُبَالَغَة فعديت بعلى، وإلاَّ
فَالْوَجْه أَن يعدى الْأَخْذ: بِالْبَاء. قَوْله: (لَا
يعقر) أَي: لَا يجرح، وَهُوَ مَرْفُوع، وَيجوز الْجَزْم
نظرا إِلَى أَنه جَوَاب الْأَمر. قَوْله: (بكفه) :
الْبَاء، فِيهِ تتَعَلَّق بقوله: (فليأخذ) لَا بقوله: (لَا
يعقر) فَإِن الْعقر بالكف لَا يتَصَوَّر، وَوَقع فِي
رِوَايَة الْأصيلِيّ: (فليأخذ على نصالها بكفه لَا يعقر
مُسلما) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يُرَاد
مِنْهُ كف النَّفس أَي: لَا يعقر بكفه نَفسه عَن الْأَخْذ
أَي: لَا يجرح بِسَبَب تَركه أَخذ النصال مُسلما. قلت: لَا
يبعد هَذَا الِاحْتِمَال، وَلَكِن الأول رَاجِح
وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي أُسَامَة:
(فليمسك على نصالها بكفه أَن يُصِيب أحدا من الْمُسلمين) .
وَله من طَرِيق ثَابت عَن أبي بردة: (فليأخذ بنصالها) ثمَّ
ليَأْخُذ بنصالها، ثمَّ ليَأْخُذ بنصالها) . [/
بشر
86 - (بابُ الشِّعْرِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الشّعْر فِي الْمَسْجِد،
وَفِي بعض النّسخ بَاب إنشاد الشّعْر فِي الْمَسْجِد.
(4/216)
354311 - ح دّثنا أبُو اليَمَانِ الحَكَمُ
بنُ نافِعٍ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَن الزهْرِيِّ قَالَ
أَخْبرنِي أبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عَوفٍ
أنَّهُ سَمِعَ حَسَّانَ بنَ ثابِتٍ الأَنْصَارِيَّ
يَسْتَشْهدُ أَبَا هُرَيْرَةَ أنْشُدُكَ اللَّهَ هلْ
سَمِعْتَ النبيَّ يَقُولُ يَا حَسَّانُ أجِبْ عنْ رَسولِ
اللَّهِ اللَّهُمَّ أيِّدْهُ بِرُوحِ القُدُسِ قَالَ أبُو
هُرَيْرَةَ نَعَمْ. (الحَدِيث 354 طرفاه فِي: 2123، 2516)
.
مطابقته للتَّرْجَمَة غير ظَاهِرَة هَهُنَا لِأَنَّهُ
لَيْسَ فِيهِ صَرِيحًا أَنه كَانَ فِي الْمَسْجِد،
والترجمة هُوَ الشّعْر فِي الْمَسْجِد، وَلَكِن
البُخَارِيّ روى هَذَا الحَدِيث فِي كتاب بَدْء الْخلق
وَفِيه التَّصْرِيح أَنه كَانَ فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ:
حدّثنا عَليّ بن عبد احدّثنا سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن
سعيد بن الْمسيب، قَالَ: (مر عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، فِي
الْمَسْجِد وَحسان ينشد، فلحظ إِلَيْهِ. قَالَ: كنت أنْشد
فِيهِ وَفِيه من هُوَ خير مِنْك، ثمَّ الْتفت إِلَى أبي
هُرَيْرَة فَقَالَ: أنْشدك با أسمعته، يَقُول: أجب عني،
اللَّهُمَّ أيده بِروح الْقُدس؟ قَالَ: نعم) . وهما حَدِيث
وَاحِد، وَيُقَال: إِن الشّعْر الْمُشْتَمل على الْحق
مَقْبُول بِدَلِيل دُعَاء النَّبِي، لحسان على شعره،
فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يمْنَع فِي الْمَسْجِد كَسَائِر
الْكَلَام المقبول، وَمُرَاد البُخَارِيّ من وضع هَذِه
التَّرْجَمَة هُوَ الْإِشَارَة إِلَى جَوَاز الشّعْر
المقبول فِي الْمَسْجِد، والْحَدِيث يدل على هَذَا بِهَذَا
الْوَجْه، فَيَقَع التطابق بَين الحَدِيث والترجمة لَا
محَالة.
فَإِن قلت: لم يَصح سَماع أبي سَلمَة وَلَا سَماع سعيد من
عمر، وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ لما أنكرهُ عمر على حسان.
قلت: الْأَمر كَذَلِك، لَكِن يحمل ذَلِك على أَن سعيداً
سمع ذَلِك من أبي هُرَيْرَة بعد، أَو سمع ذَلِك من حسان،
أَو وَقع لحسان استشهاد أبي هُرَيْرَة مرّة أُخْرَى،
فَحَضَرَ ذَلِك سعيد، وَيُؤَيّد هَذَا سِيَاق حَدِيث
الْبَاب، فَإِن فِيهِ: إِن أَبَا سَلمَة سمع حسانا يستشهد
أَبَا هُرَيْرَة، وَأَبُو سَلمَة لم يدْرك زمن مُرُور عمر
أَيْضا فَإِنَّهُ أَصْغَر من سعيد، فَدلَّ على تعدد
الاستشهاد. غَايَة مَا فِي الْبَاب هُنَا أَن يكون سعيد
أرسل قصَّة الْمُرُور ثمَّ سمع بعد ذَلِك استشهاد حسان
لأبي هُرَيْرَة وَهُوَ مَرْفُوع مَوْصُول بِلَا تردد.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة. الأول: أَبُو الْيَمَان، بِفَتْح
الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي:
شُعَيْب بن أبي حَمْزَة وَاسم أبي حَمْزَة: دِينَار
الْحِمصِي. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ.
الرَّابِع: أَبُو سَلمَة، وَهَؤُلَاء تقدمُوا فِي بَاب
كتاب الْوَحْي. الْخَامِس: حسان بن ثَابت بن الْمُنْذر بن
الْحَرَام، ضد الْحَلَال، الْأنْصَارِيّ الْمدنِي، شَاعِر
رَسُول ا، من فحول شعراء الْإِسْلَام والجاهلية، وعاش كل
وَاحِد مِنْهُم مائَة وَعشْرين سنة وَقَالَ أَبُو نعيم:
لَا يعرف فِي الْعَرَب أَرْبَعَة تَنَاسَلُوا من صلب
وَاحِد واتفقت مدد أعمارهم هَذَا الْقدر غَيرهم، وعاش حسان
فِي الْجَاهِلِيَّة سِتِّينَ سنة وَفِي الْإِسْلَام
كَذَلِك، مَاتَ سنة خمسين بِالْمَدِينَةِ. فَإِن قلت: هُوَ
منصرف أَو غير منصرف قلت: إِن كَانَ مشتقاً من: الْحسن،
فَهُوَ منصرف، وَإِن كَانَ من: الْحس، فَغير منصرف.
فَافْهَم. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، وَقد تكَرر ذكره.
فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث يعد من مُسْند حسان أَو من
مُسْند أبي هُرَيْرَة؟ قلت: لم يذكر أَبُو مَسْعُود
والْحميدِي وَغَيرهمَا أَن لحسان بن ثَابت رِوَايَة فِي
هَذَا الحَدِيث، وَلَا ذكرُوا لَهُ حَدِيثا مُسْندًا،
وَإِنَّمَا أوردوا هَذَا الحَدِيث فِي مُسْند أبي
هُرَيْرَة، وَخَالف خلف فَذكره فِي مُسْند حسان، وَأَنه
روى عَن النَّبِي، هَذَا الحَدِيث، وَذكر فِي مُسْند أبي
هُرَيْرَة أَن البُخَارِيّ أخرجه فِي الصَّلَاة عَن أبي
الْيَمَان، وَذكر ابْن عَسَاكِر لحسان حديثين مسندين:
أَحدهمَا هَذَا، وَذكر أَنه فِي (سنَن أبي دَاوُد) من
طَرِيق سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ:
وَلَيْسَ فِي حَدِيثه استشهاد حسان بِهِ، وَأَنه فِي
النَّسَائِيّ مرّة بالاستشهاد، وَمرَّة من حَدِيث سعيد عَن
عمر بِعَدَمِهِ، ثمَّ أوردهُ فِي مُسْند أبي هُرَيْرَة
رَضِي اتعالى عَنهُ، من طَرِيق أبي سَلمَة عَنهُ. وَفِي
كتاب (من عَاشَ مائَة وَعشْرين) لِابْنِ مَنْدَه: من
حَدِيث عبيد ابْن عبد اعن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: مر عمر
رَضِي اتعالى عَنهُ، بِحسان ... . الحَدِيث، وَقَالَ
الْمُنْذِرِيّ: وَسَعِيد لم يَصح سَمَاعه من عمر، وَإِن
كَانَ سمع ذَلِك من حسان فمتصل.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع وَاحِد، وَكَذَلِكَ الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع
فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع فِي
موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه
(4/217)
البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَدْء الْخلق عَن
عَليّ بن الْمَدِينِيّ كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَفِي الْأَدَب
أَيْضا عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن أَخِيه أبي بكر،
وَفِيه أَيْضا عَن أبي الْيَمَان، كَمَا أخرجه هَهُنَا.
وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل عَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى وَعمر بن مُحَمَّد
النَّاقِد، ثَلَاثَتهمْ عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن عبد ابْن
عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي الْيَمَان بِهِ، وَعَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن رَافع وَعبد بن
حميد، ثَلَاثَتهمْ عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
الزُّهْرِيّ عَن سعيد بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْأَدَب عَن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أبي خلف، وَأحمد بن
عَبدة، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أَحْمد بن
صَالح عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي
الصَّلَاة، وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن قُتَيْبَة
وَمُحَمّد بن مَنْصُور فرقهما، كِلَاهُمَا عَن مَنْصُور
عَن سُفْيَان بِهِ، وَأخرجه أَيْضا عَن خَمْسَة أنفس،
وَأخرجه أَيْضا فِي الْقَضَاء عَن مُحَمَّد بن عبد ابْن
بزيغ عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن شُعْبَة عَن عدي بن ثَابت
عَن الْبَراء بن عَازِب عَن حسان بن ثَابت قَالَ: قَالَ لي
رَسُول ا: (أهجهم أَو: هاجهم) ، يَعْنِي الْمُشْركين،
(وجبرائيل مَعَك) ، رَوَاهُ سُفْيَان بن حبيب عَن شُعْبَة
فَجعله من مُسْند الْبَراء رَضِي اتعالى عَنهُ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (يستشهد أَبَا
هُرَيْرَة) أَي: يطْلب مِنْهُ الشَّهَادَة. ومحلها النصب
على الْحَال من حسان، فَإِن قيل: لَا بُد فِي الشَّهَادَة
من نِصَاب فَكيف ثَبت غَرَض حسان بِشَهَادَة أبي هُرَيْرَة
فَقَط؟ أُجِيب: بِأَن هَذِه رِوَايَة حكم شَرْعِي، ويكتفى
فِيهَا عدل وَاحِد. وَأطلق الشَّهَادَة على سَبِيل
التَّجَوُّز لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَة إِخْبَار،
فَيَكْفِي فِيهِ عدل وَاحِد، كَمَا بَين ذَلِك فِي
مَوْضِعه. قَوْله: (أنْشدك ا) ، بِفَتْح الْهمزَة وَضم
الشين: مَعْنَاهُ سَأَلتك با. قَالَ الْجَوْهَرِي: نشدت
فلَانا أنْشدهُ نشداً إِذا قلت لَهُ: نشدتك ا، أَي:
سَأَلتك با، كَأَنَّك ذكرته، إِيَّاه، فنشد أَي تذكر.
وَقَالَ ابْن الْأَثِير: يُقَال: نشدتك اوأنشدك اوبا،
وناشدتك اأي: سَأَلتك وَأَقْسَمت عَلَيْك، ونشدته نشدة
ونشداناً ومناشدة، وتعديته إِلَى مفعولين إِمَّا لِأَنَّهُ
بِمَنْزِلَة دَعَوْت، حَيْثُ قَالُوا: نشدتك اوبا، كَمَا
قَالُوا: دَعَوْت زيدا وبزيد، أَو لأَنهم ضمنوه معنى ذكرت.
وَأما: أنشدتك با فخطأ.
قَوْله: (أجب عَن رَسُول ا) وَفِي رِوَايَة سعيد: (أجب
عني) ، وَمعنى الأول: أجب الْكفَّار عَن جِهَة رَسُول ا،
وَلَفظ: جِهَة، مُقَدّر، وَيجوز أَن يضمن: أجب معنى: إدفع،
وَالْمعْنَى: إدفع عَن رَسُول ا. وَيحْتَمل أَن يكون
الأَصْل رِوَايَة سعيد، وَهِي: أجب عني، ثمَّ نقل حسان
ذَلِك بِالْمَعْنَى. وَزَاد فِيهِ لَفْظَة؛ رَسُول ا،
تَعْظِيمًا لَهُ، وَيحْتَمل أَن تكون تِلْكَ لَفْظَة
رَسُول ا، بِعَيْنِه لأجل المهابة وتقوية لداعي
الْمَأْمُور، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذا عزمت فتوكل
على ا} (آل عمرَان: 951) وكما يَقُول الْخَلِيفَة: أَمِير
الْمُؤمنِينَ يرسم لَك، لِأَن فِيهِ تَعْظِيمًا لَهُ،
وتقوية للْمَأْمُور ومهابة بِخِلَاف، قَوْله؛ أَنا أرسم.
وَالْمرَاد بالإجابة: الرَّد على الْكفَّار الَّذين هجوا
رَسُول ا.
قَوْله: (اللَّهُمَّ أيده) هَذَا دُعَاء من رَسُول ا،
لحسان، دَعَا لَهُ بالتأييد، وَهُوَ الْقُوَّة على
الْكفَّار. قَوْله: (بِروح الْقُدس) : الْبَاء: فِيهِ
تتَعَلَّق بقوله: أيده، وَالْمرَاد: بِروح الْقُدس، هُنَا
جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ
البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث الْبَراء بِلَفْظ:
وَجِبْرِيل مَعَك. والقدس، بِضَم الْقَاف وَالدَّال
بِمَعْنى: الطُّهْر، وَسمي جِبْرِيل بذلك لِأَنَّهُ خلق من
الطُّهْر. وَقَالَ كَعْب: الْقُدس الرب، عز وَجل، وَمعنى:
روح الْقُدس روح ا، وَإِنَّمَا سمي بِالروحِ لِأَنَّهُ
يَأْتِي بِالْبَيَانِ عَن اتعالى فتحيي بِهِ الْأَرْوَاح.
وَقيل: معنى الْقُدس الْبركَة، وَمن أَسمَاء اتعالى:
القدوس، أَي: الطَّاهِر المنزه عَن الْعُيُوب والنقائص،
وَمِنْه الأَرْض المقدسة، وَبَيت الْمُقَدّس، لِأَنَّهُ
الْموضع الَّذِي يتقدس فِيهِ، أَي: يتَطَهَّر فِيهِ من
الذُّنُوب.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام الأول: فِيهِ
الدّلَالَة على أَن الشّعْر الْحق لَا يحرم فِي
الْمَسْجِد، وَالَّذِي يحرم فِيهِ مَا فِيهِ الخناء والزور
وَالْكَلَام السَّاقِط، يدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ مصححاً من حَدِيث عَائِشَة: (كَانَ رَسُول
الله ينصب لحسان منبراً فِي الْمَسْجِد فَيقوم عَلَيْهِ
ويهجو الْكفَّار) . فَإِن قلت: روى ابْن خُزَيْمَة فِي
صَحِيحه عَن عبد ابْن سعيد حدّثنا أَبُو خَالِد الْأَحْمَر
عَن ابْن عجلَان عَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن
جده: (نهى رَسُول الله عَن تناشد الْأَشْعَار فِي
الْمَسَاجِد) ، وَحسنه الحافظان: الطوسي وَالتِّرْمِذِيّ،
وروى أَبُو دَاوُد من حَدِيث صَدَقَة بن خَالِد عَن
مُحَمَّد بن عبد االشعبي عَن زفر بن وثيمة عَن حَكِيم بن
حزَام مَرْفُوعا: (نهى النَّبِي أَن يستقاد فِي
الْمَسْجِد، وَأَن تنشد فِيهِ الْأَشْعَار، وَأَن تُقَام
فِيهِ الْحُدُود) . وروى عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) من
حَدِيث ابْن الْمُنْكَدر: عَن أسيد بن عبد الرَّحْمَن:
(أَن شَاعِرًا جَاءَ
(4/218)
النَّبِي وَهُوَ فِي الْمَسْجِد، قَالَ:
أنْشدك يَا رَسُول ا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: بلَى، فَقَالَ
لَهُ النَّبِي: فَاخْرُج من الْمَسْجِد، فَخرج فأنشده
فَأعْطَاهُ رَسُول الله ثوبا) . وَقَالَ: هَذَا بدل مَا
مدحت بِهِ رَبك. قلت: أما حَدِيث عَمْرو: فَمنهمْ من
يَقُول: إِنَّه صحيفَة، حَتَّى قَالَ ابْن حزم: لَا يَصح
هَذَا، لَكِن يَقُول: من يصحح نسخته يصحح حَدِيثه. وَأما
حَدِيث حَكِيم بن حزَام فَقَالَ أَبُو مُحَمَّد الأشبيلي:
إِنَّه حَدِيث ضَعِيف. وَقَالَ ابْن الْقطَّان: لم يبين
أَبُو مُحَمَّد من أمره شَيْئا، وعلته الْجَهْل بِحَال
زفر، فَلَا يعرف. قلت: أما زفر فَإِنَّهُ لَيْسَ كَمَا
قَالَ، بل حَاله مَعْرُوفَة. قَالَ عُثْمَان بن سعيد
الدَّارمِيّ: سَأَلت يحيى عَنهُ، فَقَالَ: ثِقَة، وَذكره
ابْن حبَان فِي (كتاب الثِّقَات) ، وَصحح لَهُ الْحَاكِم
حَدِيثا عَن الْمُغيرَة بن شُعْبَة. وَأما حَدِيث أسيد
فَفِي سَنَده ابْن أبي يحيى شيخ الشَّافِعِي. وَفِيه
كَلَام شَدِيد، وَقد جمع ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه)
بَين الشّعْر الْجَائِز إنشاده فِي الْمَسْجِد وَبَين
الْمَمْنُوع من إنشاده فِيهِ. وَقَالَ أَبُو نعيم
الْأَصْبَهَانِيّ فِي (كتاب الْمَسَاجِد) : نهى عَن تناشد
أشعار الْجَاهِلِيَّة والمبطلين فِيهِ، فَأَما أشعار
الْإِسْلَام والمحقين فواسع غير مَحْظُور.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء أَيْضا فِي جَوَاز إنشاد الشّعْر
مُطلقًا، فَقَالَ الشّعبِيّ وعامر بن سعد البَجلِيّ
وَمُحَمّد بن سِيرِين وَسَعِيد بن الْمسيب وَالقَاسِم
وَالثَّوْري وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد
وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد: لَا بَأْس بإنشاد
الشّعْر الَّذِي لَيْسَ فِيهِ هجاء، وَلَا نكب عرض أحد من
الْمُسلمين، وَلَا فحش. وَقَالَ مَسْرُوق بن الأجدع
وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَسَالم بن عبد اولحسن
الْبَصْرِيّ وَعَمْرو بن شُعَيْب: تكره رِوَايَة الشّعْر
وإنشاده، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث عمر بن الْخطاب
عَن رَسُول الله قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم قَيْحا
خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) . وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة
وَالْبَزَّار والطَّحَاوِي، وروى مُسلم عَن سعد بن أبي
وَقاص عَن النَّبِي قَالَ: (لِأَن يمتلىء جَوف أحدكُم
قَيْحا يرِيه خير من أَن يمتلىء شعرًا) . وَأخرجه ابْن
ماجة أَيْضا، وَأخرجه البُخَارِيّ عَن ابْن عمر عَن
النَّبِي نَحْو رِوَايَة ابْن أبي شيبَة، وَأخرجه مُسلم
أَيْضا عَن أبي هُرَيْرَة نَحْو رِوَايَته عَن سعد،
وَأخرجه أَيْضا عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَأخرجه
الطَّحَاوِيّ أَيْضا عَن عَوْف بن مَالك عَن النَّبِي،
وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ أَيْضا عَن أبي الدَّرْدَاء عَن
النَّبِي، وَأجَاب الْأَولونَ عَن هَذَا وَقَالُوا:
إِنَّمَا هَذِه الْأَحَادِيث وَردت على خَاص من الشّعْر،
وَهُوَ أَن يكون فِيهِ فحش وخناء، وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ
عَن الشّعبِيّ: المُرَاد بِهِ الشّعْر الَّذِي هجي بِهِ
النَّبِي، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الَّذِي فِيهِ عِنْدِي
غير ذَلِك، لِأَن مَا هجي بِهِ رَسُول الله لَو كَانَ شطر
بَيت لَكَانَ كفرا، وَلَكِن وَجهه عِنْدِي أَن يمتلىء قلبه
حَتَّى يغلب عَلَيْهِ فيشغله عَن الْقُرْآن وَالذكر. قيل:
فِيمَا قَالَه أَبُو عُبَيْدَة نظر، لِأَن الَّذين هجوا
النَّبِي كَانُوا كفَّارًا، وهم فِي حَال هجوهم موصوفون
بالْكفْر من غير هجو، غَايَة مَا فِي الْبَاب: قدلازاد
كفرهم وطغيانهم بهجوهم، وَالَّذِي قَالَه الشّعبِيّ أوجه.
قلت: قَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ قوم: لَو كَانَ إريد بذلك
مَا هجي بِهِ رَسُول الله من الشّعْر لم يكن لذكر الامتلاء
معنى، لِأَن قَلِيل ذَلِك وَكَثِيره كفر، وَلَكِن ذكر
الامتلاء لَيْسَ فِيمَا دونه. قَالُوا: فَهُوَ عندنَا على
الشّعْر الَّذِي يمْلَأ الْجوف فَلَا يكون فِيهِ قُرْآن
وَلَا تَسْبِيح وَلَا غَيره، فأ مَا من كَانَ فِي جَوْفه
الْقُرْآن وَالشعر مَعَ ذَلِك، فَلَيْسَ مِمَّن امْتَلَأَ
جَوْفه شعرًا، فو خَارج من قَول رَسُول ا: (لِأَن يمتلىء
جَوف أحدكُم قَيْحا يرِيه خير لَهُ من أَن يمتلىء شعرًا) .
وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: كَانَ حسان ينشد الشّعْر فِي
الْمَسْجِد فِي أول الْإِسْلَام، وَكَذَا لعب الْحَبَش
فِيهِ، وَكَانَ الْمُشْركُونَ إِذْ ذَاك يدخلونه، فَلَمَّا
كمل الْإِسْلَام زَالَ ذَلِك كُله. قلت: أَشَارَ بذلك
إِلَى النّسخ، وَلم يُوَافقهُ أحد على ذَلِك. قَوْله:
(قَيْحا) نصب على التَّمْيِيز، وَهُوَ: الصّديق الَّذِي
يسيل من الدمل وَالْجرْح، قَوْله: (يرِيه) من الوري،
وَهُوَ الدَّاء يُقَال: ورى يوري فَهُوَ موري إِذا أصَاب
جَوْفه الدَّاء وَقَالَ الْجَوْهَرِي: وروى الْقَيْح
جَوْفه يرِيه ورياً: أكله، وَقَالَ قوم: مَعْنَاهُ حَتَّى
يُصِيب ريته. قلت: فِيهِ نظر.
الثَّانِي من الْأَحْكَام: جَوَاز الاستنصار من الْكفَّار.
قَالَ الْعلمَاء: يَنْبَغِي أَن لَا يبْدَأ الْمُشْركُونَ
بالسب والهجاء مَخَافَة من سبهم الْإِسْلَام وَأَهله،
قَالَ تَعَالَى: {وَلَا تسبوا الَّذين يدعونَ من دون
افيسبوا اعدواً} (الْأَنْعَام: 801) ولتنزيه أَلْسِنَة
الْمُسلمين عَن الْفُحْش، إلاَّ أَن تَدْعُو إِلَى ذَلِك
ضَرُورَة كابتدائهم بِهِ، فَكيف إِذا هم أَو نَحوه كَمَا
فعله.
الثَّالِث: فِيهِ اسْتِحْبَاب الدُّعَاء لمن قَالَ شعرًا،
مثل قصَّة حسان.
الرَّابِع: فِيهِ الدّلَالَة على فَضِيلَة حسان رَضِي
اتعالى عَنهُ.
96 -
(4/219)
(بابُ أصْحَابِ الحِرَابِ فِي المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز دُخُول أَصْحَاب الحراب
فِي الْمَسْجِد، وَالْمرَاد من أَصْحَاب الحراب هُنَا هم
الَّذين يتشاققون بِالسِّلَاحِ كالحراب وَنَحْوهَا
للاشتداد وَالْقُوَّة على الْحَرْب مَعَ أَعدَاء الدّين،
وَقَالَ الْمُهلب: الْمَسْجِد مَوْضُوع لأمر جمَاعَة
الْمُسلمين، وكل مَا كَانَ من الْأَعْمَال الَّتِي تجمع
مَنْفَعَة الدّين وَأَهله واللعب بالحراب من تدريب
الْجَوَارِح على مَعَاني الحروب فَهُوَ جَائِز فِي
الْمَسْجِد وَغَيره، و: الحراب، بِكَسْر الْحَاء: جمع
حَرْبَة، كالقصاع: جمع قَصْعَة. والحراب، أَيْضا مصدر من:
حَارب يحارب محاربة وحراباً، وَالْمرَاد هُنَا الأول.
454411 - ح دّثنا عَبْدُ العَزِيزِ بنُ عَبْدِ اللَّهِ
قَالَ حدّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عَنْ صَالِحٍ عنِ
ابنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزَّبِيْرِ
أنَّ عائِشَةَ قالَتْ لَقَدْ رَأيْتُ رسولَ اللَّهِ
يَوْماً عَلَى بابِ حُجْرَتِي والحَبَشةُ يَلْعَبُونَ فِي
المَسْجِدِ ورسولُ اللَّهِ يَسْتُرُني بِرِدَائِهِ أنْظُرُ
إلَى لَعِبِهِمْ. زَاد إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر حَدثنَا
ابْن وهب أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن عُرْوَة عَن
عَائِشَة قَالَت رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والحبشة يَلْعَبُونَ بِحِرَابِهِمْ)
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " والحبشة يَلْعَبُونَ
بِحِرَابِهِمْ " (ذكر رِجَاله) وهم تِسْعَة. الأول عبد
الْعَزِيز بن عبد الله بن يحيى أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي
العامري الْمدنِي. الثَّانِي إِبْرَاهِيم بن سعد بن
إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف. الثَّالِث صَالح
بن كيسَان أَبُو مُحَمَّد مؤدب ولد عمر بن عبد الْعَزِيز.
الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ.
الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس
إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الْحزَامِي مر فِي كتاب الْعلم
وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ. السَّابِع عبد الله بن وهب.
الثَّامِن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. التَّاسِع عَائِشَة
أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا (ذكر لطائف
إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي موضِعين
والعنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع وَفِيه أَن عبد الْعَزِيز
من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَفِيه ثَلَاثَة من التَّابِعين
وهم صَالح وَابْن شهَاب وَعُرْوَة وَفِيه أَن رُوَاته مَا
بَين مدنِي ومصري وأيلي وَفِيه أَن قَوْله زَاد ابْن
الْمُنْذر يحْتَمل التَّعْلِيق قَالَه الْكرْمَانِي (قلت)
هُوَ تَعْلِيق بِلَا احْتِمَال وَقد وَصله
الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عُثْمَان بن عمر عَن يُونُس
وَالَّذِي زَاده هُوَ لفظ " بِحِرَابِهِمْ " (ذكر تعدد
مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي
الْعِيدَيْنِ وَفِي مَنَاقِب قُرَيْش وَأخرجه مُسلم فِي
الْعِيدَيْنِ أَيْضا عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح (ذكر
مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه) قَوْله " لقد رَأَيْت رَسُول الله
- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " أَي وَالله لقد
أَبْصرت فهم معنى الْقسم من اللَّام وَلَفْظَة قد
اللَّتَان تدلان على التَّأْكِيد وَرَأَيْت بِمَعْنى
أَبْصرت فَلذَلِك اقْتصر على مفعول وَاحِد قَوْله "
يَوْمًا " نصب على الظّرْف قَوْله " والحبشة يَلْعَبُونَ "
جملَة حَالية والحبشة والحبش جنس من السودَان مَشْهُور
قَوْله " وَرَسُول الله يسترني " جملَة حَالية أَيْضا
وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ بعد نزُول الْحجاب قَوْله "
أنظر " أَيْضا جملَة حَالية قَوْله " إِلَى لعبهم "
بِفَتْح اللَّام وَكسر الْعين وبكسر اللَّام وَسُكُون
الْعين قَوْله " زَاد " فعل مَاض وفاعله ابْن الْمُنْذر
وَهُوَ فَاعل قَالَ أَيْضا ومفعوله الَّذِي زيد هُوَ
قَوْله " بِحِرَابِهِمْ " كَمَا ذكرنَا (ذكر مَا يستنبط
مِنْهُ من الْأَحْكَام) فِيهِ جَوَاز اللّعب بالحراب فِي
الْمَسْجِد على الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي أول
الْبَاب وَحكى ابْن التِّين عَن أبي الْحسن اللَّخْمِيّ
أَن اللّعب بالحراب فِي الْمَسْجِد مَنْسُوخ بِالْقُرْآنِ
وَالسّنة أما الْقُرْآن فَقَوله تَعَالَى {فِي بيُوت أذن
الله أَن ترفع} وَأما السّنة فِي حَدِيث وَاثِلَة بن
الْأَسْقَع الَّذِي أخرجه ابْن ماجة " جَنبُوا
مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ وَمَجَانِينكُمْ " ورد بِأَن
الحَدِيث ضَعِيف وَلَيْسَ فِيهِ وَلَا فِي الْآيَة
تَصْرِيح بِمَا ادَّعَاهُ وَلَا عرف التَّارِيخ حَتَّى
يثبت النّسخ. وَفِيه جَوَاز النّظر إِلَى اللّعب الْمُبَاح
وَقَالَ الْكرْمَانِي وَقد يُمكن أَن يكون ترك النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَائِشَة لتنظر
إِلَى لعبهم لتضبط السّنة فِي ذَلِك
(4/220)
وتنقل تِلْكَ الحركات المحكمة إِلَى بعض من
يَأْتِي من أَبنَاء الْمُسلمين وتعرفهم بذلك وَفِيه من حسن
خلقه الْكَرِيم وَجَمِيل معاشرته لأَهله. وَفِيه جَوَاز
نظر النِّسَاء إِلَى الرِّجَال وَوُجُوب استتارهن عَنْهُم.
وَفِيه فضل عَائِشَة وَعظم محلهَا عِنْد رَسُول الله -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
(بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي
الْمَسْجِد)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان ذكر البيع وَالشِّرَاء يَعْنِي
فِي الْإِخْبَار عَن وقوعهما على الْمِنْبَر فِي
الْمَسْجِد لَا عَن وقوعهما على الْمِنْبَر وَفِي بعض
النّسخ على الْمِنْبَر وَالْمَسْجِد قيل على هَذِه
النُّسْخَة يكون التَّقْدِير وعَلى الْمَسْجِد وَلَا تدخل
عَلَيْهِ كلمة الاستعلاء وَالْأَصْل أَن يُقَال وَفِي
الْمَسْجِد أُجِيب بِأَن هَذَا عكس مَا عمل فِي قَوْله
تَعَالَى {ولأصلبنكم فِي جُذُوع النّخل} وَالْأَصْل أَن
يُقَال على جُذُوع النّخل وَلَكِن الْحُرُوف يَنُوب
بَعْضهَا عَن بعض وَقَالَ الْكرْمَانِي يجوز أَن يكون من
بَاب
(علفتها تبتا وَمَاء بَارِدًا ... )
(قلت) تَقْدِيره وسقيتها مَاء بَارِدًا لِأَنَّهُ لَا يعلف
بِالْمَاءِ
654511 - ح دّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حدّثنا
سُفْيَانُ عنْ يَحْيَى عنْ عَمْرَةَ عنْ عائِشَةَ قالَتْ
أتَتْها بَرِيرَةُ تَسْأَلُها فَهِيَ كِتَابَتِها فقالَتْ
إنْ شِئْتِ أعْطَيْتُ أهْلَكِ وَيَكُونُ الوَلاَءُ لِي
وَقَالَ أهْلُها إِنْ شِئْتِ أعْطَيْتِها مَا بَقِيَ.
وَقَالَ سُفْيانُ مَرَّةً إنْ شِئْتِ أعْتَقْتِها وَيكُونُ
الوَلاءُ لَنا فَلَمَّا جاءَ رسولُ اللَّهِ ذكَّرَتْهُ
ذَلِكَ فَقَالَ النبيُّ ابْتاعِيها فَأعْتِقيها فَإِنَّ
الوَلاَءَ لِمَنْ أعْتَقَ ثمَّ قامَ رسولُ اللَّهِ عَلَى
المِنْبَرِ. وَقَالَ سُفْيانُ مرَّةً فَصَعِدَ رسولُ
اللَّهِ عَلَى المِنْبَرِ فَقَالَ مَا بالُ أقْوَامٍ
يشْترِطُونَ شُرُوطاً لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَنِ
اشْتَرَطَ شَرْطاً لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَلَيْسَ
لَهُ وَإِن اشْتَرَطَ مائَةَ مَرَّةٍ قَالَ عَلِيٌّ قَالَ
يَحْيَى وَعَبْدُ الوَهابِ عنْ يَحْيَى عنْ عَمْرَةَ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بنُ عَوْنَ عنْ يَحْيَى قَالَ سَمِعْتُ
عَمرَةَ قالتْ سَمِعْتُ عائِشَةَ رَضِي اعنها وَرَوَاهُ
مالِكٌ عَنْ يَحْيَى عنْ عَمْرَة أَن بَرِيرَة وَلَمْ
يَذْكُرْ صَعِدَ المِنْبَرَ. .
مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة تعلم من قَوْله: (مَا
بَال أَقوام يشترطون) إِلَى آخِره، فَإِنَّهُ ذكره هُنَا
عقيب قَضِيَّة مُشْتَمِلَة على بيع وَشِرَاء وَعتق
وَوَلَاء، فَإِنَّهُ لما قَالَ: (ابتاعيها فأعتقيها فَإِن
الْوَلَاء لمن أعتق) ، قبل صُعُوده على الْمِنْبَر، دلّ
على حكم هَذِه الْأَشْيَاء، ثمَّ لما قَالَ على
الْمِنْبَر: (مَا بَال أَقوام) الخ، أَشَارَ بِهِ إِلَى
الْقَضِيَّة الَّتِي وَقعت، فَكَانَت إِشَارَته إِلَيْهَا
كوقوعها على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، وَهَذَا هُوَ
الْوَجْه، لَا مَا ذكره أَكثر الشُّرَّاح مِمَّا تنفر
عَنهُ الطباع وتمج عَنهُ الأسماع، وَسَيعْلَمُ ذَلِك من
يقف عَلَيْهِ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد االمديني.
الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: يحيى بن
سعيد الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: عمْرَة بنت عبد الرَّحْمَن
الْأَنْصَارِيَّة المدنية، وَقد تكَرر ذكرهم. الْخَامِس:
عَائِشَة، رَضِي اتعالى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين، وعَلى رِوَايَة الْحميدِي فِي (مُسْنده) فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع، لِأَن فِي رِوَايَته: حدّثنا سُفْيَان
حدّثنا يحيى. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مديني ومكي ومدني. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التابعية عَن الصحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ فِي
مَوَاضِع عديدة: فِي الزَّكَاة فِي بَاب الصَّدَقَة على
موَالِي أَزوَاج النَّبِي. وَفِي الْعتْق وَالْمكَاتب
وَالْهِبَة والبيوع والفرائض وَالطَّلَاق والشروط والأطعمة
وَكَفَّارَة الْأَيْمَان، وَأخرجه فِي الطَّلَاق من حَدِيث
ابْن عَبَّاس، وَفِي الْفَرَائِض من حَدِيث ابْن عمر،
وَأخرج مُسلم طرفا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَأخرجه
البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب البيع وَالشِّرَاء مَعَ
النِّسَاء من طَرِيق عُرْوَة عَن عَائِشَة، وَفِي بَاب
إِذا اشْترط فِي البيع شُرُوطًا من حَدِيث هَاشم عَن
أَبِيه عَنْهَا. وَأخرجه مُسلم أَيْضا مطولا ومختصراً.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْعتْق عَن القعْنبِي وقتيبة من
حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة. وَأخرجه
التِّرْمِذِيّ فِي الْوَصَايَا عَن قُتَيْبَة بِهِ.
(4/221)
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْبيُوع عَن
قُتَيْبَة بِهِ، وَفِيه: وَفِي الْعتْق عَن يُونُس بن عبد
الْأَعْلَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا عَن عمْرَة عَن
عَائِشَة فِي الْفَرَائِض عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان
ومُوسَى بن عبد الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل
وَهُوَ ابْن علية، ثَلَاثَتهمْ عَن جَعْفَر بن عون بِهِ،
وَعَن الْحَارِث بن مِسْكين عَن ابْن أبي الْقَاسِم عَن
مَالك بِهِ، وَفِي الْعتْق وَفِي الشُّرُوط عَن مُحَمَّد
بن مَنْصُور عَن سُفْيَان بِهِ، وَفِي الشُّرُوط أَيْضا
عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن سُفْيَان بِبَعْضِه.
وَأخرجه ابْن ماجة أَيْضا فِي الْعتْق عَن أبي بكر بن أبي
شيبَة وَعلي بن مُحَمَّد، قَالَا: حدّثنا وَكِيع عَن
هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن عَائِشَة زوج النَّبِي
أَن بَرِيرَة أتتها وَهِي مُكَاتبَة قد كاتبها أَهلهَا على
تسع أَوَاقٍ، فَقَالَت لَهَا: إِن شَاءَ أهلك عددت لَهُم
عدَّة وَاحِدَة وَكَانَ الْوَلَاء لي. قَالَ: فَأَتَت
أَهلهَا فَذكرت ذَلِك لَهُم فَأَبَوا إلاَّ أَن يشْتَرط
الْوَلَاء لَهُم، فَذكرت عَائِشَة ذَلِك للنَّبِي فَقَالَ:
إفعلي. قَالَ: فَقَامَ النَّبِي فَخَطب النَّاس فَحَمدَ
اوأثنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ: (مَا بَال رجال يشترطون
شُرُوطًا لَيست فِي كتاب ا، كل شَرط لَيْسَ فِي كتاب افهو
بَاطِل وَإِن كَانَ مائَة شَرط، كتاب اأحق، وَشرط اأوثق،
وَالْوَلَاء لمن أعتق) .
ذكر اعراب وَمَعْنَاهُ قَوْله: (قَالَ: اتتها بَرِيرَة) ،
فَاعل: قَالَت، يحْتَمل أَن يكون: عمْرَة، وَيحْتَمل أَن
يكون: عَائِشَة، فَإِذا كَانَت: عَائِشَة، فَفِيهِ
الْتِفَات من الْحَاضِر إِلَى الْغَائِب، وبريرة، بِفَتْح
الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الأولى وَفتح
الثَّانِيَة بَينهمَا يَاء آخر الْحُرُوف سَاكِنة، وَزعم
الْقُرْطُبِيّ أَن وَزنهَا. فعيلة، من الْبر، وَيحْتَمل
أَن تكون بِمَعْنى مفعولة أَي: مبرورة، كأكيلة السَّبع أَي
مأكولته وَيحْتَمل أَن تكون بِمَعْنى: فاعلة، كرحيمة
بِمَعْنى: راحمة، وَهِي بنت صَفْوَان، كَانَت لقوم من
الْأَنْصَار، أَو مولاة لأبي أَحْمد ابْن جحش، وَقيل:
مولاة لبَعض بني هِلَال، وَكَانَت قبطية.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: بَرِيرَة مولاة لعَائِشَة كَانَت
لعتبة بن أبي لَهب، قلت: ذكرهَا الذَّهَبِيّ فِي
الصحابيات، وَقَالَ: يُقَال: إِن عبد الْملك بن مَرْوَان
سمع مِنْهَا، وَفِي (مُعْجم الطَّبَرَانِيّ) : من حَدِيث
عبد الْملك بن مَرْوَان، قَالَ: (كنت أجالس بَرِيرَة
بِالْمَدِينَةِ فَكَانَت تَقول لي: يَا عبد الْملك إِنِّي
أرى فِيك خِصَالًا وَإنَّك لخليق أَن تلِي هَذَا الْأَمر،
فَإِن وليته فاحذر الدُّنْيَا، فَإِنِّي سَمِعت رَسُول
الله يَقُول: إِن الرجل ليدفع عَن بَاب الْجنَّة بعد أَن
ينظر إِلَيْهَا بملىء محجمة من دم يريقه من مُسلم بِغَيْر
حق) . انْتهى.
وَعبد الْملك اخْتلف فِي مولده، فَقَالَ حنيفَة بن خياط:
سنة ثَلَاث، وَقَالَ أَبُو حسان الزيَادي: سنة خمس،
وَقَالَ مُحَمَّد بن سعد سنة خمس، وَقَالَ مُحَمَّد بن
سعد. سنة سِتّ وَعشْرين، وولاه مُعَاوِيَة ديوَان الْخراج
وعمره سِتَّة عشر سنة، فعلى هَذَا تكون بَرِيرَة
مَوْجُودَة بعد سنة أَرْبَعِينَ. وَقد اخْتلف فِي اسْم زوج
بَرِيرَة فَفِي (الصَّحِيح) : مغيث، بِضَم الْمِيم وَكسر
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وَفِي آخِره ثاء، مُثَلّثَة، وَعَن الصريفيني عَن العسكري:
معتب، بِعَين مُهْملَة وَكسر التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة، وَعند أبي، مُوسَى
الْأَصْبَهَانِيّ اسْمه: مقسم، وَا تَعَالَى أعلم.
قَوْله: (تسألها فِي كتَابَتهَا) ، جملَة حَالية وَقعت
حَالا عَن بَرِيرَة، وَالْأَصْل فِي السُّؤَال أَن يعدى:
بعن، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {يَسْأَلُونَك عَن
الْأَنْفَال} (الْأَنْفَال: 1) وَلَكِن لما كَانَ سؤالها
بِمَعْنى الاستعطاء، بِمَعْنى: تستعطيها فِي أَمر
كتَابَتهَا، عدي بِكَلِمَة الظّرْف، وَيجوز أَن يكون معنى:
تسْأَل، تستعين بالتضمين، على أَن فِي رِوَايَة جَاءَت
هَكَذَا، وَالْكِتَابَة فِي اللُّغَة مصدر: كتب من الْكتب،
وَهُوَ الْجمع، وَمِنْه كتبت الْقرْبَة إِذا خرزتها، وَسمي
هَذَا العقد؛ كِتَابَة ومكاتبة، لِأَن فِيهِ ضم حريَّة
الْيَد إِلَى حريَّة الرَّقَبَة، أَو لِأَن فِيهِ جمعا
بَين نجمين فَصَاعِدا، أَو لِأَن كلاًّ مِنْهُمَا يكْتب
الْوَثِيقَة، وَفِي الشَّرْع: تَحْرِير الْمَمْلُوك يدا
فِي الْحَال، ورقبة فِي الْمَآل، لِأَن الْمكَاتب لَا
يتحرر رَقَبَة إلاَّ إِذا أدّى المَال، وَهُوَ بدل
الْكِتَابَة، وَأما فِي الْحَال فَهُوَ حر من جِهَة الْيَد
فَقَط حَتَّى يكون أَحَق بِكَسْبِهِ، وَيجب على الْمولى
الضَّمَان بِالْجِنَايَةِ عَلَيْهِ أَو على مَاله،
وَلِهَذَا قيل: الْمكَاتب طَار عَن ذل الْعُبُودِيَّة وَلم
ينزل فِي ساحة الْحُرِّيَّة، فَصَارَ كالنعامة أَن استطير
تباعر، وان استحمل تطاير. قَوْله: (فَقَالَت: إِن شِئْت)
أَي: قَالَت عَائِشَة مُخَاطبَة لبريرة: إِن شِئْت، وَهُوَ
بِكَسْر التَّاء. قَوْله: (أَعْطَيْت) ، بِلَفْظ
الْمُتَكَلّم. قَوْله: (أهلك) المُرَاد بِهِ: مواليها،
وَهُوَ مَنْصُوب على أَنه مفعول أول لأعطيت، ومفعوله
الثَّانِي مَحْذُوف وَهُوَ: ثمنك، لدلَالَة الْكَلَام
عَلَيْهِ. قَوْله: (وَيكون الْوَلَاء لي) بِفَتْح الْوَاو،
وَهُوَ فِي عرف الْفُقَهَاء عبارَة عَن تناصر يُوجب
الْإِرْث، وَالْعقد وَالْوَلَاء فِي اللُّغَة. النُّصْرَة
والمحبة، إلاَّ أَن اخْتصَّ فِي الشَّرْع: بولاء الْعتْق،
والموالاة واشتقاقه من الْوَلِيّ وَهُوَ: الْقرب، وَحُصُول
الثَّانِي بعد الأول من غير فصل. قَوْله: (وَقَالَ
أَهلهَا) أَي: أهل بَرِيرَة. قَوْله: (إِن شِئْت
(4/222)
اعطيتها) مقول القَوْل، التَّاء: فِي شِئْت
وَأعْطيت، مَكْسُورَة لِأَنَّهَا خطاب لعَائِشَة. قَوْله:
(مَا بَقِي) أَي: الَّذِي بَقِي من مَال الْكِتَابَة فِي
ذمَّة بَرِيرَة، وَمحل هَذِه الْجُمْلَة النصب لِأَنَّهَا
وَقعت مَفْعُولا ثَانِيًا لقَوْله؛ أعطيتهَا، ومفعوله
الأول الضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: أعطيتهَا. قَوْله:
(وَقَالَ سُفْيَان) ، هُوَ ابْن عُيَيْنَة أحد الروَاة
الْمَذْكُورين فِي الحَدِيث، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن
سُفْيَان حدث بِهِ. على وَجْهَيْن: فَمرَّة قَالَ: إِن
شِئْت أعطيتهَا مَا بَقِي، وَمرَّة قَالَ: إِن شِئْت
أعتقتها، وَيكون الْوَلَاء لنا، يَعْنِي فِي
الْوَجْهَيْنِ، و: التَّاء، فِي أعتقتها مَكْسُورَة
لِأَنَّهَا خطاب لعَائِشَة. وَقَوله: (قَالَ سُفْيَان)
دَاخل فِي الْمَوْصُول غير مُعَلّق. فَافْهَم فَإِن قلت:
كم كَانَ مَال الْكِتَابَة على بَرِيرَة؟ قلت: ذكر ف بَاب
الْكِتَابَة من حَدِيث يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن
عُرْوَة: (عَن عَائِشَة قَالَت: إِن بَرِيرَة دخلت
عَلَيْهَا تستعينها فِي كتَابَتهَا وَعَلَيْهَا خمس
أَوَاقٍ نجمت عَلَيْهَا فِي خمس سِنِين) الحَدِيث فَإِن
قلت: ذكر فِي بَاب سُؤال النَّاس: (كاتبت أَهلِي على تسع
أَوَاقٍ فِي كل عَام أُوقِيَّة فأعينيني، فَقَالَ: خذيها
فأعتقيها واشترطي لَهُم الْوَلَاء فَإِنَّمَا الْوَلَاء
لمن أعتق) ، فَبين الرِّوَايَتَيْنِ تعَارض. قلت: هَذَا
الحَدِيث أصح لاتصاله ولانقطاع ذَاك، وَلِأَن رَاوِي هَذَا
عَن أمه وَهُوَ أعرف بِحَدِيث أمه وخالته، وَقيل: يحْتَمل
أَن تكون هَذِه الْخَمْسَة الأواق الَّتِي قد اسْتحقَّت
عَلَيْهَا بالنجوم من جملَة التِّسْعَة، أَو أَنَّهَا
أَعْطَتْ نجوماً وَفضل عَلَيْهَا خَمْسَة، قلت: هَذَا
يردهُ مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الشُّرُوط: فِي البيع،
وَلم تكن قَضَت من كتَابَتهَا شَيْئا. والأواق جمع:
أُوقِيَّة، بِضَم الْهمزَة وَتَشْديد الْيَاء، وَالْجمع
يشدد ويخفف مثل: أثفية وأثافي وأثافٍ، وَرُبمَا يَجِيء فِي
الحَدِيث: وقية، وَلَيْسَت بِالْعَالِيَةِ وهمزتها
زَائِدَة، وَكَانَت الْأُوقِيَّة قَدِيما عبارَة عَن
أَرْبَعِينَ درهما، ثمَّ أَنَّهَا تخْتَلف باخْتلَاف
اصْطِلَاح الْبِلَاد. قَوْله: (ذكرته) ، قَالَ
الْكرْمَانِي: ذكرته، بِلَفْظ التَّكَلُّم، والمتكلم بِهِ
عَائِشَة، والراوي نقل لَفظهَا بِعَيْنِه، وبالغيبة: كَأَن
عَائِشَة جردت من نَفسهَا شخصا فحكت عَنْهَا، فَالْأول:
حِكَايَة الرَّاوِي عَن لفظ عَائِشَة، وَالثَّانِي:
حِكَايَة عَائِشَة عَن نَفسهَا. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم:
(ذكرته ذَلِك) ، كَذَا وَقع هُنَا بتَشْديد الْكَاف،
فَقيل: الصَّوَاب مَا وَقع فِي رِوَايَة مَالك وَغَيره
بِلَفْظ: ذكرت، لِأَن التَّذْكِير يَسْتَعْدِي سبق علم
بذلك، وَلَا يتَّجه تخطئة هَذِه الرِّوَايَة لاحْتِمَال
السَّبق على وَجه الْإِجْمَال قلت: لم يبين أحد مِنْهُمَا
رَاوِي التَّشْدِيد وَلَا رَاوِي التَّخْفِيف، وَاللَّفْظ
يحْتَمل أَرْبَعَة أوجه. الأول: ذكرته، بِالتَّشْدِيدِ
وبالضمير الْمَنْصُوب. وَالثَّانِي: ذكرت، بِالتَّشْدِيدِ
بِدُونِ الضَّمِير الْمَنْصُوب. وَالثَّالِث: ذكرت، على
صِيغَة الْمَاضِي للمؤنثة الْوَاحِدَة بِالتَّخْفِيفِ
بِدُونِ الضَّمِير. وَالرَّابِع: ذكرته بِالتَّخْفِيفِ،
وَالضَّمِير لِأَن ذكر بِالتَّخْفِيفِ يعدى يُقَال: ذكرت
الشَّيْء بعد النسْيَان، وذكرته بلساني وبقلبي وتذكرته
وأذكرته غَيْرِي وذكرته، بِمَعْنى. قَوْله: (فَقَالَ
ابتاعيها) أَي: قَالَ النَّبِي لعَائِشَة: اشتريها، أَي:
بَرِيرَة. قَوْله: (وَقَالَ سُفْيَان مرّة فَصَعدَ رَسُول
ا) أَرَادَ أَنه رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ: مرّة قَالَ: ثمَّ
قَامَ رَسُول الله على الْمِنْبَر، وَمرَّة قَالَ: فَصَعدَ
رَسُول الله على الْمِنْبَر، وَذكر فِي بَاب الشِّرَاء
وَالْبيع مَعَ النِّسَاء، قَالَ لي النَّبِي: (اشْترِي
واعتقي فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق، ثمَّ قَامَ من
الْعشي فَأثْنى على ابما هُوَ أَهله) الحَدِيث.
قَوْله: (مَا بَال أَقوام؟) أَي: مَا حَالهم؟ وَفِي بَاب
الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ النِّسَاء: (مَا بَال أنَاس
يشترطون شُرُوطًا ... ؟) الحَدِيث. قَوْله: (لَيست فِي
كتاب اتعالى) ، أَي: الشُّرُوط، ويروى: لَيْسَ، بالتذكير،
وَوَجهه إِمَّا بِاعْتِبَار جنس الشَّرْط، أَو بِاعْتِبَار
الْمَذْكُور. وَقَالَ الْكرْمَانِي: إِمَّا بِاعْتِبَار
الِاشْتِرَاط. قلت: فِيهِ نظر لَا يخفى، وَالْمرَاد: من
كتاب ا، قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: يحْتَمل أَن يُرِيد
بِكِتَاب ا، حكم ا، وَيُرَاد بذلك نفي كَونهَا فِي كتاب
ابواسطة أَو بِغَيْر وَاسِطَة، فَإِن الشَّرِيعَة كلهَا
فِي كتاب ا، أما بِغَيْر وَاسِطَة كمالنصوصات فِي
الْقُرْآن من الْأَحْكَام، وَأما بِوَاسِطَة قَوْله
تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُم الرَّسُول فَخُذُوهُ} (الْحَشْر:
7) {وَأَطيعُوا اوأطيعوا الرَّسُول} (الْمَائِدَة: 29،
والنور: 452، والتغابن: 21) قَالَ الْخطابِيّ: لَيْسَ
المُرَاد أَن مَا لم ينص عَلَيْهِ فِي كتاب افهو بَاطِل،
فَإِن لفظ: (الْوَلَاء لمن أعتق) ، من قَوْله، لَكِن
الْأَمر بِطَاعَتِهِ فِي كتاب ا، فَجَاز إِضَافَة ذَلِك
إِلَى الْكتاب انْتهى. وَيجوز أَن يكون المُرَاد بِكِتَاب
ا: حكم اسواء ذكر فِي الْقُرْآن إو السّنة، وَقيل:
المُرَاد من الْكتاب: الْمَكْتُوب، يَعْنِي الْمَكْتُوب
فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ. قَوْله: (فَلَيْسَ لَهُ) أَي:
ذَلِك الشَّرْط، أَي: لَا يسْتَحقّهُ. وَفِي رِوَايَة
النَّسَائِيّ: (من شَرط شرطا لَيْسَ فِي كتاب الم يجز
لَهُ) .
قَوْله: (وَإِن اشْترط مائَة مرّة) ، ذكر الْمِائَة
للْمُبَالَغَة فِي الْكَثْرَة، لَا أَن هَذَا الْعدَد
بِعَيْنِه هُوَ المُرَاد. وَقَالَ بَعضهم؛ لفظ مائَة
للْمُبَالَغَة، فَلَا مَفْهُوم لَهُ، قلت: لم يدر هَذَا
الْقَائِل أَن مَفْهُوم اللَّفْظ فِي اللُّغَة هُوَ
مَعْنَاهُ، فعلى قَوْله يكون هَذَا اللَّفْظ مهملاً
وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِن كَانَ قَالَ ذَلِك على رَأْي
الْأُصُولِيِّينَ حَيْثُ فرقوا بَين
(4/223)
مَفْهُوم اللَّفْظ ومنطوقه، فَهَذَا
الْموضع لَيْسَ مَحَله، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي
بَاب الشِّرَاء وَالْبيع مَعَ النِّسَاء: (وَإِن اشْترط
مائَة شَرط، وَشرط اأحق وأوثق) ، وَكَذَا فِي رِوَايَة
ابْن مَاجَه أَيْضا. قَوْله: (وَرَوَاهُ مَالك) ، مُعَلّق
وَصله فِي بَاب الْمكَاتب: عَن عبد ابْن يُوسُف عَنهُ،
وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي الْفَرَائِض عَن الْحَارِث بن
مِسْكين عَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك، كَمَا ذكره
مُرْسلا، وَرَوَاهُ الشَّافِعِي عَن مَالك. وَلَفظه:
(واشرطي لَهُم الْوَلَاء) ، بِغَيْر: تَاء. قَالَ
الطَّحَاوِيّ: مَعْنَاهُ أظهري، لِأَن الإشراط:
الْإِظْهَار. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهِي رِوَايَة تفرد
الشَّافِعِي عَن مَالك بهَا. قَوْله: (قَالَ عَليّ)
يَعْنِي ابْن عبد االمديني الْمَذْكُور فِي أول الْبَاب.
قَوْله: (قَالَ يحيى) هُوَ ابْن سعيد الْقطَّان و: (عبد
الْوَهَّاب) ، هُوَ ابْن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ، يُرِيد
بذلك أَن الحَدِيث من طَرِيق هذَيْن الرجلَيْن مُرْسل،
يُوضحهُ قَول الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِيمَا عندنَا من
حَدِيث يحيى بن سعيد وَعبد الْوَهَّاب عَن يحيى ذَلِك
الْمِنْبَر وصعوده، وحديثهما مُرْسل. حدّثنا أَبُو
الْقَاسِم حدّثنا بنْدَار حدّثنا يحيى بن سعيد، قَالَ:
وأنبأنا الْقَاسِم أَنبأَنَا بنْدَار حدّثنا عبد
الْوَهَّاب، قَالَ: قَالَ: سمعنَا يحيى يَقُول:
أَخْبَرتنِي عمْرَة بِهِ. قَوْله: (عَن عمْرَة نَحوه)
يَعْنِي: نَحْو رِوَايَة مَالك. قَوْله: (وَقَالَ جَعْفَر
بن عون) الخ، أَفَادَ بِهِ تَصْرِيح يحيى بِسَمَاعِهِ لَهُ
عَن عمْرَة، وَكَذَا سَماع عمْرَة عَن عَائِشَة، وخرجه
النَّسَائِيّ عَن أَحْمد بن سُلَيْمَان ومُوسَى بن عبد
الرَّحْمَن وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن عون
عَن يحيى بن سعيد، فَذكره فأمن بذلك مَا فِيهِ من
الْإِرْسَال الْمَذْكُور، وَأعلم أَن التَّعْلِيق عَن
مَالك مُتَأَخّر فِي رِوَايَة كَرِيمَة عَن طَرِيق جَعْفَر
بن عون.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام الأول: فِيهِ دَلِيل
على جَوَاز الْكِتَابَة، فَإِذا كَاتب رجل عَبده أَو أمته
على مَال شَرط عَلَيْهِ وَقبل العَبْد ذَلِك صَار مكَاتبا،
وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَيْضا قَوْله تَعَالَى: {فكاتبوهم
إِن علمْتُم فيهم خيرا} (النُّور: 33) وَدلَالَة هَذَا على
مَشْرُوعِيَّة العقد لَا تخفى على الْعَارِف بِلِسَان
الْعَرَب، سَوَاء كَانَ الْأَمر للْوُجُوب أَو لغيره،
وَهَذَا لَيْسَ بِأَمْر إِيجَاب بِإِجْمَاع بَين
الْفُقَهَاء سوء مَا ذهب إِلَيْهِ دَاوُد الظَّاهِرِيّ
وَمن تبعه، وَرُوِيَ نَحوه عَن عَمْرو بن دِينَار وَعَطَاء
وَأحمد فِي رِوَايَة، وروى صَاحب (التَّقْرِيب) عَن
الشَّافِعِي نَحوه، فَإِن قلت: ظَاهر الْأَمر للْوُجُوب
كَمَا ذهب إِلَيْهِ هَؤُلَاءِ قلت: هَذَا فِي الْأَمر
الْمُطلق الْمُجَرّد عَن الْقَرَائِن، وَهنا مُقَيّد
بقوله: {إِن علمْتُم فيهم خيرا} (النُّور: 33) فَيكون أَمر
ندب، وَذهب بعض أَصْحَابنَا إِلَى أَنه أَمر إِبَاحَة،
وَهُوَ غير صَحِيح، لِأَن فِي الْحمل على الْإِبَاحَة
إِلْغَاء الشَّرْط إِذْ هُوَ مُبَاح بِدُونِهِ
بالِاتِّفَاقِ، وَكَلَام امنزه عَن ذَلِك، وَالْمرَاد
بِالْخَيرِ الْمَذْكُور أَن لَا يضر الْمُسلمين بعدالعتق،
فَإِن كَانَ يضرهم فَالْأَفْضَل أَن لَا يكاتبه، وَإِن
كَانَ يَصح. وَعَن ابْن عَبَّاس وَابْن عمر وَعَطَاء:
الْخَيْر الْكسْب خَاصَّة، وَرُوِيَ عَن الثَّوْريّ
وَالْحسن الْبَصْرِيّ أَنه الْأَمَانَة وَالدّين خَاصَّة.
وَقيل؛ هُوَ الْوَفَاء وَالْأَمَانَة وَالصَّلَاح، وَإِذا
فقد الْأَمَانَة وَالْكَسْب وَالصَّلَاح لَا يكره عندنَا،
وَبِه قَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ. وَقَالَ أَحْمد
وَإِسْحَاق وَأَبُو الْحُسَيْن بن الْقطَّان من
الشَّافِعِيَّة؛ يكره وَلَا يعْتق الْمكَاتب إِلَّا
بأَدَاء الْكل عِنْد جُمْهُور الْفُقَهَاء، لما روى أَبُو
دَاوُد وَغَيره من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه
عَن جده عَن النَّبِي أَنه قَالَ: (الْمكَاتب عبد مَا
بَقِي عَلَيْهِ من كِتَابَته دِرْهَم) وروى الشَّافِعِي
فِي (مُسْنده) أخبرنَا ابْن أبي عُيَيْنَة عَن ابْن نجيح
عَن مُجَاهِد أَن زيد ابْن ثَابت قَالَ فِي الْمكَاتب:
(هُوَ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم) ، وَاخْتَارَهُ
لمذهبه، وَهُوَ مَذْهَب أَصْحَابنَا، وَفِيه اخْتِلَاف
الصَّحَابَة. فمذهب ابْن عَبَّاس أَنه يعْتق كَمَا أَخذ
الصَّحِيفَة من مَوْلَاهُ يَعْنِي؛ يعْتق بِنَفس العقد
وَهُوَ غَرِيم الْمولى بِمَا عَلَيْهِ من بدل الْكِتَابَة،
وَمذهب ابْن مَسْعُود أَنه يعْتق إِذا أدّى قيمَة نَفسه،
وَمذهب زيد مَا ذَكرْنَاهُ، وَإِنَّمَا اخْتَارَهُ
الْأَرْبَعَة لِأَنَّهُ مؤيد بِالْحَدِيثِ الْمَذْكُور.
الثَّانِي من الْأَحْكَام: جَوَاز تَزْوِيج الْأمة
الْمُزَوجَة، لِأَن بَرِيرَة كَانَت مُزَوّجَة وَقد ذكرنَا
اسْمه وَالِاخْتِلَاف فِيهِ فَإِن قلت: كَانَ زَوجهَا حرا
أَو عبدا. قلت: فِي رِوَايَة البُخَارِيّ (عَن ابْن
عَبَّاس قَالَ: رَأَيْته عبدا) يَعْنِي: زوج بَرِيرَة،
(كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ يتبعهَا فِي سِكَك الْمَدِينَة
يبكي عَلَيْهَا ودموعه تسيل على لحيته، فَقَالَ النَّبِي
لِعَمِّهِ الْعَبَّاس: أَلا تعجب من حب مغيث بَرِيرَة وَمن
بغض بَرِيرَة مغيثاً؟ فَقَالَ النَّبِي: لَو راجعتيه
قَالَت: يَا رَسُول اتأمرني؟ قَالَ: إِنَّمَا أَنا أشفع.
قَالَت: فَلَا حَاجَة لي فِيهِ) . فَإِن قلت: ذكر فِي
الْفَرَائِض، قَالَ الحكم: كَانَ زَوجهَا حرا قلت: قَالَ:
وَقَول الحكم مُرْسل، وَذكر فِي بَاب مِيرَاث السائبة،
قَالَ الْأسود: وَكَانَ زَوجهَا حرا. قَالَ: وَقَول
الْأسود مُنْقَطع، وَقَول ابْن عَبَّاس أصح. وَفِي مُسلم
أَيْضا قَالَ عبد الرَّحْمَن. وَكَانَ زَوجهَا عبدا.
الثَّالِث: فِي ثُبُوت الْوَلَاء للْمُعْتق عَن نفس،
فَهَذَا لَا خلاف فِيهِ للْحَدِيث الْمَذْكُور،
(4/224)
وَاخْتلفُوا فِيمَن أعتق على أَن لَا
وَلَاء لَهُ وَهُوَ الْمُسَمّى بالسائبة، فمذهب
الْجُمْهُور أَن الشَّرْط بَاطِل وَالْوَلَاء لمن اعْتِقْ،
وَمذهب أَحْمد أَنه لم يكن لَهُ الْوَلَاء عَلَيْهِ، فَلَو
أَخذ من مِيرَاثه شَيْئا رده فِي مثله. وَقَالَ مَالك
وَمَكْحُول وَأَبُو الْعَالِيَة وَالزهْرِيّ وَعمر بن عبد
الْعَزِيز رَضِي اعنه: يَجْعَل، وَلَاؤُه لجَمِيع
الْمُؤمنِينَ، كَذَا فعله بعض الصَّحَابَة.
الرَّابِع: فِيهِ دَلِيل على تنجم الْكِتَابَة، لقولها:
(كاتبت أَهلِي على تسع أَوَاقٍ، فِي كل عَام أُوقِيَّة) .
وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: وَلَيْسَ فِيهِ تعرض
للكتابة الْحَالة فيتكلم عَلَيْهِ. قلت: يجوز عِنْد
أَصْحَابنَا أَن يشْتَرط المَال حَالا ومنجماً لظَاهِر
قَوْله تَعَالَى: {فكاتبوهم إِن علمْتُم} (النُّور: 33) من
غير شَرط التنجم والتأجيل، فَلَا يُزَاد على النَّص
بِالرَّأْيِ، وَبِه قَالَ مَالك. وَفِي (الْجَوَاهِر) :
قَالَ أَبُو بكر: ظَاهر قَول مَالك: إِن التنجيم والتأجيل
شَرط فِيهِ، ثمَّ قَالَ: وعلماؤنا النظار يَقُولُونَ: إِن
الْكتاب الحالية جَائِزَة ويسمونها قطاعة، وَهُوَ
الْقيَاس. وَقَالَ الشَّافِعِي: لَا يجوز حَالا. وَلَا بُد
من نجمين، وَبِه قَالَ أَحْمد فِي ظَاهر رِوَايَته.
الْخَامِس: اشْتِرَاط الْوَلَاء للْبَائِع هَل يفْسد
العقد؟ فِيهِ خلاف، فظاهرا لحَدِيث أَنه لَا يُفْسِدهُ لما
قَالَ فِي هَذَا الحَدِيث: (واشترطي لَهُم الْوَلَاء) .
وَلَا يَأْذَن النَّبِي، فِي عقد بَاطِل. وَقَالَ الشَّيْخ
تَقِيّ الدّين: إِذا قُلْنَا إِن صَحِيح فَهَل يَصح
الشَّرْط؟ فِيهِ اخْتِلَاف فِي مَذْهَب الشَّافِعِي،
وَالْقَوْل بِبُطْلَانِهِ مُوَافق لألفاظ الحَدِيث. فَإِن
قلت: كَيفَ يَأْذَن النَّبِي فِي البيع على شَرط فَاسد؟
وَكَيف يَأْذَن فِي البيع حَتَّى يَقع على هَذَا الشَّرْط
وَيقدم البَائِع عَلَيْهِ ثمَّ يبطل اشْتِرَاطه؟ قلت:
أُجِيب: عَنهُ، بأجوبة: الأول: مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ:
وَهُوَ أَنه لم يُوجد اشْتِرَاط الْوَلَاء فِي حَدِيث
عَائِشَة إلاَّ من رِوَايَة مَالك عَن هِشَام، فَأَما من
سواهُ وَهُوَ: اللَّيْث بن سعد وَعَمْرو بن الْحَارِث
فَإِنَّهُمَا رويا عَن هِشَام عَن السُّؤَال لولاء
بَرِيرَة ءنما كَانَ من عَائِشَة لأَهْلهَا بأَدَاء
مكاتبتها إِلَيْهِم، فَقَالَ: (لَا يمنعك ذَلِك عَنْهَا:
ابتاعي وأعتقي وَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن اعْتِقْ) .
وَهَذَا خلاف مَا رَوَاهُ مَالك عَن هِشَام: (خذيها
واشرطي، فَإنَّا الْوَلَاء لمن أعتق) ، مَعَ أَنه يحْتَمل
أَن يكون معنى: أشرطي: أظهري، لِأَن الإشراط فِي كَلَام
الْعَرَب الْإِظْهَار، وَمِنْه قَول أَوْس بن حجر.
(فأشرط فِيهَا نَفسه وَهُوَ معصم)
أَي: أظهر نَفسه، أَي: أظهري الْوَلَاء الَّذِي يُوجب
اعتقاك إِنَّه لمن يكون الْعتاق مِنْهُ دون من سواهُ.
الثَّانِي: أَن معنى: (واشترطي لَهُم) أَي: عَلَيْهِم،
كَقَوْلِه تَعَالَى: {إِن أَحْسَنْتُم أَحْسَنْتُم لأنفسكم
وَإِن أسأتم فلهَا} (الْإِسْرَاء: 7) قيل: فِيهِ نظر،
لِأَن سِيَاق الحَدِيث وَكَثِيرًا من أَلْفَاظه يَنْفِيه،
ورد بِأَن الْقَرِينَة الحالية تدل على هَذَا مَعَ أَن
مَجِيء: اللَّام، بِمَعْنى: على، كثير فِي الْقُرْآن
والْحَدِيث والأشعار، على مَا لَا يخفى. الثَّالِث: أَنه
على الْوَعيد الَّذِي ظَاهره الْأَمر وباطنه النَّهْي،
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُم}
(فصلت: 04) وَقَوله: {واستفزز من اسْتَطَعْت مِنْهُم}
(الْإِسْرَاء: 46) أَلاَ ترى أَنه صعد الْمِنْبَر وخطب
وَقَالَ: مَا بَال رجال ... إِلَى آخِره.
الرَّابِع: أَنه قد كَانَ أخْبرهُم بِأَن الْوَلَاء لمن.
اعْتِقْ، ثمَّ أقدموا على اشْتِرَاط مَا يُخَالف هَذَا
الحكم الَّذِي علموه، فَور دهذا اللَّفْظ على سَبِيل
الزّجر والتوبيخ والنكير لمخالفتهم الحكم الشَّرْعِيّ.
الْخَامِس: أَن إبِْطَال هَذَا الشَّرْط عُقُوبَة ونكال
لمعاندتهم فِي الْأَمر الشَّرْعِيّ، فَصَارَ هَذَا من بَاب
الْعقُوبَة بِالْمَالِ كحرمان الْقَاتِل من الْمِيرَاث،
وَكَانَ بَين لَهُم حكم الْوَلَاء، وَأَن هَذَا الشَّرْط
لَا يحل، فَلَمَّا أحوا وعاندوا أبطل شرطهم. السَّادِس:
أَن هَذَا خَاص بِهَذِهِ الْقَضِيَّة عَام فِي سَائِر
الصُّور، وَيكون سَبَب التَّخْصِيص بِإِبْطَال هَذَا
الشَّرْط الْمُبَالغَة فِي زجرهم عَن هَذَا الِاشْتِرَاط
الْمُخَالف للشَّرْع، كَمَا أَن فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة
كَانَ خَاصّا بِتِلْكَ الْوَاقِعَة، مُبَالغَة فِي
إِزَالَة مَا كَانُوا عَلَيْهِ من منع الْعمرَة فِي أشهر
الْحَج. وَقَالَ القَاضِي: الْمُشكل فِي هَذَا الحَدِيث
مَا وَقع من طَرِيق هِشَام هُنَا، وَهُوَ قَوْله: (اشتريها
وأعتقيها واشترطي لَهُم الْوَلَاء) ، كَيفَ أمرهَا رَسُول
ا، بِهَذَا وَفِيه عقد بيع على شَرط لَا يجوز، وتغرير
بالبائعين إِذا شَرط لَهُم مَا لَا يَصح؟ وَلما صَعب
الِانْفِصَال عَن هَذَا على بعض النَّاس أنكر هَذَا
الحَدِيث أصلا، فحكي ذَلِك عَن يحيى بن أكتم وَقد وَقع فِي
كثير من الرِّوَايَات سُقُوط هَذِه اللَّفْظَة، وَهَذَا
الَّذِي شجع يحيى على إنكارها.
السَّادِس من الْأَحْكَام: مَا قَالَه الْخطابِيّ: إِن
فِيهِ دَلِيلا على جَوَاز بيع الْمكَاتب، رَضِي بِهِ أَو
لم يرض، عجز عَن أَدَاء نجومه أَو لم: يعجز، أدّى بعض
النُّجُوم أم لَا. وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين:
اخْتلفُوا فِي بيع الْمكَاتب عل ثَلَاثَة مَذَاهِب:
الْمَنْع، وَالْجَوَاز، وَالْفرق بَين أَن يَشْتَرِي
لِلْعِتْقِ فَيجوز أَو للاستخدام فَلَا. أما من أجَاز
بَيْعه فاستدل بِهَذَا الحَدِيث، فَإِنَّهُ ثَبت أَن
بَرِيرَة كَانَت مُكَاتبَة، وَهُوَ قَول عَطاء
وَالنَّخَعِيّ وَأحمد وَمَالك فِي رِوَايَة، وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَمَالك فِي رِوَايَة: لَا يجوز
بَيْعه، وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود وَرَبِيعَة. قلت:
مَذْهَب أبي حنيفَة
(4/225)
وَأَصْحَابه أَنه لَا يجوز بيع الْمكَاتب
مَا دَامَ مكَاتبا حَتَّى يعجز، وَلَا يجوز بيع مكَاتبه
بِحَال، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي بِمصْر، وَكَانَ بالعراق
يَقُول: يجوز بَيْعه. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَقَالَ بعض
الْعلمَاء: يجوز بَيْعه لِلْعِتْقِ لَا للاستخدام.
السَّابِع: مَا قَالَه الْخطابِيّ: فِيهِ جَوَاز بيع
الرَّقَبَة بِشَرْط الْعتْق، لِأَن الْقَوْم قد تنازعوا
الْوَلَاء وَلَا يكون الْوَلَاء إلاَّ بعد الْعتْق، فَدلَّ
أَن الْعتْق كَانَ مَشْرُوطًا فِي البيع. قلت: إِذا اشْترط
البَائِع على الْمُبْتَاع إِيقَاع معنى من مَعَاني الْبر
فَإِن اشْترط عَلَيْهِ من ذَلِك مَا يتعجل كَالْعِتْقِ
الْمُعَجل فَذَلِك جَائِز عِنْد الشَّافِعِي، وَلَا يجوز
عِنْد أبي حنيفَة. فَإِن امْتنع البَائِع من إِنْفَاذ
الْعتْق؟ فَقَالَ أَشهب: يجْبر على الْعتْق. وَقَالَ ابْن
كنَانَة: لَو رَضِي البَائِع بذلك لم يكن لَهُ ذَلِك
وَيعتق عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: إِن كَانَ
اشْتَرَاهُ على إِيجَاب الْعتْق فَهُوَ حر، وَإِن كَانَ
اشْتَرَاهُ من غير إِيجَاب عتق لم يجْبر على عتق، والإيجاب
أَن يَقُول: إِن اشْتَرَيْته مِنْك فَهُوَ حر، وَإِن لم
يقل ذَلِك، وَإِنَّمَا اشْترط أَن يسْتَأْنف عتقه بعد
كَمَال ملكه فَلَيْسَ بِإِيجَاب. وَقَالَ الشَّافِعِي:
البيع فَاسد ويمضي الْعتْق اتبَاعا للسّنة، وَرُوِيَ
عَنهُ: البيع جَائِز وَالشّرط بَاطِل، وروى الْمُزنِيّ
عَنهُ: لَا يجوز تصرف المُشْتَرِي بِحَال فِي البيع
الْفَاسِد، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأَصْحَابه،
وَاسْتحْسن أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن الْحسن أَن ينجز
لَهُ الْعتْق وَيجْعَل عَلَيْهِ الثّمن، وَإِن مَاتَ قبل
أَن يعتقهُ كَانَت عَلَيْهِ الْقيمَة. وَقَالَ أَبُو
يُوسُف: الْعتْق جَائِز وَعَلِيهِ الْقيمَة، وَالْحجّة
لأبي حنيفَة فِي هَذَا الْبَاب وَأَمْثَاله حَدِيث عبد
ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن النَّبِي: أَنه نهى عَن بيع
وَسلف وَعَن شرطين فِي بيعَة، وَعنهُ أَيْضا: لَا يحل سلف
وَلَا بيع وَلَا شَرْطَانِ فِي بيع، أخرجه الْأَرْبَعَة
والطَّحَاوِي بأسانيد صِحَاح، وفسروا قَوْله: وَعَن شرطين
فِي بيع، بِأَن البيع فِي نَفسه شَرط، فَإِذا شَرط فِيهِ
شَرط آخر فقد صَار شرطين. وَقَول الْخطابِيّ: فَدلَّ أَن
الْعتْق كَانَ مَشْرُوطًا فِي البيع لَا دَلِيل لَهُ فِيهِ
ظَاهرا، وَالْحكم بِهِ عى جَوَاز البيع بِالشّرطِ غير
صَحِيح، لِأَنَّهُ مُخَالف لظَاهِر الحَدِيث الصَّحِيح.
الثَّامِن: مَا قَالَه الْخطابِيّ فِيهِ أَيْضا: إِنَّه
لَيْسَ كل شَرط يشْتَرط فِي بيع كَانَ قادحاً فِي أَصله
ومفسداً لَهُ، وَإِن معنى مَا ورد من النَّهْي عَن بيع
وَشرط منصرف إِلَى بعض الْبيُوع وَإِلَى نوع من الشُّرُوط،
وَقَالَ عِيَاض: الشُّرُوط الْمُقَارنَة للْبيع ثَلَاثَة
أَقسَام: أَحدهَا: أَن يكون من مُقْتَضى العقد: كالتسليم
وَجَوَاز التَّصَرُّف فِي الْمَبِيع، وَهَذَا لَا خلاف فِي
جَوَاز اشْتِرَاطه لِأَنَّهُ يقْضِي بِهِ وَإِن لم
يشْتَرط. وَالثَّانِي: أَن لَا يكون من مُقْتَضَاهُ،
وَلكنهَا من مصْلحَته: كالتحميل وَالرَّهْن وَاشْتِرَاط
الْخِيَار، فَهَذَا أَيْضا يجوز اشْتِرَاطه لِأَنَّهُ من
مصْلحَته فَأشبه مَا كَانَ من مُقْتَضَاهُ. وَالثَّالِث:
أَن يكون خَارِجا عَن ذَلِك مِمَّا لَا يجوز اشْتِرَاطه
فِي الْعُقُود، بل يمْنَع من مُقْتَضى العقد أَو يُوقع
فِيهِ غرراً أَو غير ذَلِك من الْوُجُوه الممنوعة، فَهَذَا
مَوضِع اضْطِرَاب الْعلمَاء. وَا تَعَالَى أعلم.
قلت: عِنْد أَصْحَابنَا البيع بِالشّرطِ على ثَلَاثَة
أوجه. الأول: البيع وَالشّرط كِلَاهُمَا جائزان، وَهُوَ
على ثَلَاثَة أَنْوَاع: أَحدهَا: أَن كل شَرط يَقْتَضِيهِ
العقد ويلائمه فَلَا يُفْسِدهُ بِأَن يَشْتَرِي أمة
بِشَرْط أَن تخدمه أَو يَغْشَاهُ، أَو دَابَّة بِشَرْط أَن
يركبهَا وَنَحْو ذَلِك. النَّوْع الثَّانِي: كل شَرط لَا
يَقْتَضِيهِ العقد وَلَكِن يلائمه بِأَن يشْتَرط أَن يرهنه
بِالثّمن رهنا، وَسَماهُ أَن يُعْطِيهِ كَفِيلا وَسَماهُ
وَالْكَفِيل حَاضر فَقبله، وَكَذَلِكَ الْحِوَالَة، جَازَ
اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر. النَّوْع الثَّالِث: كل شَرط
لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه، وَلَكِن ورد الشَّرْع
بِجَوَازِهِ: كالخيار وَالْأَجَل، أَو لم يرد الشَّرْع
بِهِ وَلكنه مُتَعَارَف متعامل بَين النَّاس بِأَن اشْترى
نعلا على أَن يحذوه البَائِع، أَو قلنسوة بِشَرْط أَن
يبطنه. جَازَ اسْتِحْسَانًا خلافًا لزفَر. الْوَجْه
الثَّانِي: البيع وَالشّرط كِلَاهُمَا فاسدان، وَهُوَ كل
شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَا يلائمه، وَفِيه
مَنْفَعَة لأَحَدهمَا أَو للمعقود عَلَيْهِ. بِأَن اشْترى
حِنْطَة على أَن يطحنها البَائِع، أَو عبدا على أَن لَا
يَبِيعهُ، وَكَذَا على أَن لَا يعتقهُ خلافًا للشَّافِعِيّ
فِيهِ، فَإِن أعْتقهُ ضمن الثّمن اسْتِحْسَانًا عِنْد أبي
حنيفَة، وَعِنْدَهُمَا قِيمَته. الْوَجْه الثَّالِث: البيع
جَائِز وَالشّرط بَاطِل، وَهُوَ على ثَلَاثَة أَنْوَاع:
الأول: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد وَلَيْسَ فِيهِ
مَنْفَعَة بل فِيهِ مضرَّة بِأَن بَاعَ ثوبا أَو دَابَّة
بِشَرْط أَن لَا يَبِيعهُ وَلَا يَهبهُ، أَو طَعَاما
بِشَرْط أَن لَا يَأْكُل وَلَا يَبِيع، جَازَ البيع وَبَطل
الشَّرْط. الثَّانِي: كل شَرط لَا يَقْتَضِيهِ العقد
وَلَيْسَ فِيهِ مَنْفَعَة وَلَا مضرَّة لأحد، بِأَن بَاعَ
طَعَاما بِشَرْط أَن يَأْكُلهُ جَازَ البيع وَبَطل
الشَّرْط. الثَّالِث: كل شَرط يُوجب مَنْفَعَة لغير
الْمُتَعَاقدين وَالْمَبِيع نَحْو: البيع بِشَرْط أَن
يقْرض أَجْنَبِيّا لَا يفْسد البيع.
التَّاسِع: قَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ دَلِيل على أَنه لَا
وَلَاء لمن أسلم على يَدَيْهِ، وَلَا لمن حَالف إنْسَانا
على المناصرة، وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: فِيهِ حصر
الْوَلَاء للْمُعْتق فيقضتي ذَلِك أَن لَا وَلَاء بِالْحلف
والموالاة وبإسلام الرجل على يَد الرجل
(4/226)
وَلَا بإلتقاطه للقيط، وكل هَذِه الصُّور
فِيهَا خلاف بَين الْفُقَهَاء، وَمذهب الشَّافِعِي: لَا
وَلَاء فِي شَيْء مِنْهَا للْحَدِيث. قلت: الْوَلَاء عِنْد
أَصْحَابنَا نَوْعَانِ: أَحدهمَا: وَلَاء الْعتَاقَة،
وَالْآخر: وَلَاء الْمُوَالَاة، وَقد كَانَت الْعَرَب
تتناصر بأَشْيَاء: بِالْقَرَابَةِ والصداقة والمؤاخاة
وَالْحلف والعصبة، وَوَلَاء الْعتَاقَة وَوَلَاء
الْمُوَالَاة، وَقرر رَسُول الله تناصرهم بِالْوَلَاءِ
بنوعين وهما: الْعتَاقَة وَوَلَاء الْمُوَالَاة، وَقَالَ:
(إِن مولى الْقَوْم مِنْهُم وحليفهم مِنْهُم) . رَوَاهُ
أَرْبَعَة من الصَّحَابَة، فَأَحْمَد فِي (مُسْنده) : من
حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عبيد بن رِفَاعَة بن رَافع الزرقي
عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (مولى
الْقَوْم مِنْهُم، وَابْن أختهم مِنْهُم، وحليفهم مِنْهُم)
. وَالْبَزَّار فِي (سنَنه) : من حَدِيث أبي هُرَيْرَة عَن
النَّبِي، قَالَ: (حَلِيف الْقَوْم مِنْهُم وَابْن أختهم
مِنْهُم) . والدارمي فِي (مُسْنده) : من حَدِيث عَمْرو بن
عون أَن رَسُول ا، قَالَ: (ابْن أُخْت الْقَوْم مِنْهُم
وحليف الْقَوْم مِنْهُم) . وَالطَّبَرَانِيّ فِي
(مُعْجَمه) : من حَدِيث عتبَة بن غَزوَان عَن النَّبِي
نَحوه، وَالْمرَاد بالحليف مولى الْمُوَالَاة لأَنهم
كَانُوا يؤكدون الْمُوَالَاة بِالْحلف.
الْعَاشِر: أَنه يسْتَحبّ للْإِمَام عِنْد وُقُوع بِدعَة
أَن يخْطب النَّاس وَيبين لَهُم حكم ذَلِك وينكر
عَلَيْهَا.
الْحَادِي عشر: فِيهِ أَنه يسْتَحبّ للْإِمَام أَن يحسن
الْعشْرَة مَعَ رَعيته، أَلاَ ترى أَنه، لما خطب لم يواجه
صَاحب الشَّرْط بِعَيْنِه، لِأَن الْمَقْصُود يحصل لَهُ
وَلغيره بِدُونِ فضيحة وشناعة عَلَيْهِ.
الثَّانِي عشر: فِيهِ الْمُبَالغَة فِي إِزَالَة الْمُنكر
والتغليظ فِي تقبيحه.
الثَّالِث عشر: فِي جَوَاز كِتَابَة الْأمة دون زَوجهَا.
الرَّابِع عشر: فِيهِ أَن زوج الْأمة لَيْسَ لَهُ منعهَا
من السَّعْي فِي كتَابَتهَا، وَقَالَ أَبُو عمر: لَو
اسْتدلَّ مستدل من هَذَا الْمَعْنى بِأَن الزَّوْجَة
لَيْسَ عَلَيْهَا خدمَة زَوجهَا كَانَ حسنا.
الْخَامِس عشر: فِيهِ دَلِيل على أَن العَبْد زوج الْأمة
لَهُ منعهَا من الْكِتَابَة الَّتِي تؤول إِلَى عتقهَا
وفراقها لَهُ، كَمَا أَن لسَيِّد الْأمة عتق أمته تَحت
العَبْد، وَإِن أدّى ذَلِك إِلَى إبِْطَال نِكَاحه،
وَكَذَلِكَ لَهُ أَن يَبِيعهَا من زَوجهَا الْحر وَإِن
كَانَ فِي ذَلِك بطلَان عقده.
السَّادِس عشر: فِيهِ دَلِيل على أَن بيع الْأمة ذَات
الزَّوْج لَيْسَ بِطَلَاق لَهَا، لِأَن الْعلمَاء قد
اجْتَمعُوا وَلم يخْتَلف فِي تِلْكَ الْأَحَادِيث أَيْضا
أَن بَرِيرَة كَانَت حِين اشترتها عَائِشَة ذَات الزَّوْج،
وَإِنَّمَا اخْتلفُوا فِي زَوجهَا: هَل كَانَ حرا أَو
عبدا؟ وَقد اجْتمع عُلَمَاء الْمُسلمين على أَن الْأمة
إِذا أعتقت وَزوجهَا عبد أَنَّهَا تخير، وَاخْتلفُوا إِذا
كَانَ زَوجهَا حرا هَل تخير أم لَا؟ .
السَّابِع عشر: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز أَخذ السَّيِّد
نُجُوم الْمكَاتب من مَسْأَلَة النَّاس، لترك النَّبِي
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، زجرها عَن مَسْأَلَة
عَائِشَة إِذا كَانَت تستعينها فِي أَدَاء نجمها، وَهَذَا
يرد قَول من كره كِتَابَة الْمكَاتب الَّذِي يسْأَل
النَّاس، وَقَالَ: يطعمني أوساخ النَّاس.
الثَّامِن عشر: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز نِكَاح العَبْد
الْحرَّة لِأَنَّهَا إِذا خيرت فاختارته بقيت مَعَه وَهِي
حرَّة وَهُوَ عبد.
التَّاسِع عشر: قَالُوا: فِيهِ مَا يدل على ثُبُوت
الْوَلَاء فِي سَائِر وُجُوه الْعتْق: كالكتابة
وَالتَّعْلِيق بالصيغة وَغير ذَلِك.
الْعشْرُونَ: فِيهِ دَلِيل على قبُول خبر العَبْد
وَالْأمة، لِأَن بَرِيرَة أخْبرت أَنَّهَا مُكَاتبَة،
فأجابتها عَائِشَة بِمَا أجابت.
17 - (بابُ التقاضِي والمُلاَزَمَة فيِ المَسْجِدِ)
أَي: هَذَا الْبَاب فِي بَيَان حكم التقاضي، أَي فِي
مُطَالبَة الْغَرِيم بِقَضَاء الدّين. قَوْله: (والملازمة)
أَي: وَحكم مُلَازمَة الْغَرِيم فِي طلب الدّين. قَوْله:
(فِي الْمَسْجِد) يتَعَلَّق بالتقاضي وبالملازمة أَيْضا
بالتقدير، لِأَنَّهُ مَعْطُوف عَلَيْهِ.
754611 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ
حدّثنا عُثْمانُ بنُ عُمَرَ قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ
الزهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ كَعْبِ بنِ مالِكٍ
عَنْ كَعْبٍ أنَّهُ تَقَاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْناً
كانَ لهُ عليهِ فِي المَسْجِدِ فَارْتَفَعتَ أصْوَاتُهُمَا
حَتَّى سَمِعَهَا رَسولُ اللَّهِ وهوَ فِي بَيْتِهِ
فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا حَتى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ
فَنَادَى يَا كعْبُ قَالَ لَبَّيْكَ يَا رَسولَ اللَّهِ
قَالَ ضَعْ مِن دَيْنِكَ هَذَا وأوْمَأَ إِليْهِ أَي
الشَّطْرَ قَالَ لَقَدْ فَعَلْتُ يَا رسولَ اللَّهِ قالَ
قُمْ فَاقْضِهِ. (الحَدِيث 754 أَطْرَافه فِي: 174، 8142،
4242، 6072، 0172) .
وَجه مطابقته للتَّرْجَمَة فِي التقاضي ظَاهر، وَأما فِي
الْمُلَازمَة فبوجهين. أَحدهمَا: أَن كَعْبًا لما طلب ابْن
أبي حَدْرَد بِدِينِهِ فِي
(4/227)
مَسْجِد النَّبِي عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام، لَازمه إِلَى أَن خرج النَّبِي عَلَيْهِ
السَّلَام، وَفصل بَينهمَا. وَالْآخر: أَنه أخرج هَذَا
الحَدِيث فِي عدَّة مَوَاضِع كَمَا سنذكرها، فَذكر فِي
بَاب الصُّلْح وَفِي بَاب الْمُلَازمَة عَن عبد ابْن كَعْب
عَن أَبِيه أَنه كَانَ لَهُ على عبد ابْن أبي حَدْرَد مَال
فَلَزِمَهُ ... الحَدِيث، فَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِلَفْظ
الْمُلَازمَة هُنَا، إِلَى الحَدِيث الْمَذْكُور، على أَن
مَا ذكره فِي عدَّة مَوَاضِع كلهَا حَدِيث وَاحِد، وَله
عَادَة فِي بعض الْمَوَاضِع يذكر التراجم بِهَذِهِ
الطَّرِيقَة.
ذكر رِجَاله وهم سِتَّة: الأول: عبد ابْن مُحَمَّد بن عبد
ابْن جَعْفَر بن الْيَمَان، أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ
البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، مَاتَ يَوْم الْخَمِيس
لست ليالٍ بَقينَ من ذِي الْقعدَة سنة تسع وَعشْرين
وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عُثْمَان بن عمر، بِضَم الْعين:
ابْن فَارس الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد.
الرَّابِع: مُحَمَّد بن الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبد ابْن
كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ الْمدنِي.
السَّادِس: أَبُو كَعْب ابْن مَالك الْأنْصَارِيّ
الشَّاعِر، أحد الثَّلَاثَة الَّذين تَابَ اعليهم وَأنزل
افيهم: {وعَلى الثَّلَاثَة الَّذين خلفوا} (التَّوْبَة:
811) رُوِيَ لَهُ ثَمَانُون حَدِيثا، للْبُخَارِيّ مِنْهَا
أَرْبَعَة، مَاتَ بِالْمَدِينَةِ سنة خمسين، وَكَانَ ابْنه
عبد اقائده حِين عمي.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْجمع أَيْضا فِي مَوضِع
وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: رِوَايَة الابْن
عَن الْأَب. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري وبصري
ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصُّلْح وَفِي الْأَشْخَاص عَن عبد ابْن
مُحَمَّد وَأخرجه أَيْضا فِي الْمُلَازمَة وَفِي الصُّلْح
أَيْضا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث. وَأخرجه مُسلم فِي
الْبيُوع عَن حَرْمَلَة عَن ابْن وهب بن وَعَن إِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم عَن عُثْمَان بن عمر بِهِ. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي القضايا عَن أَحْمد بن صَالح عَن ابْن وهب
بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أبي دَاوُد
سُلَيْمَان بن سيف عَن عُثْمَان بن عمر بِهِ، وَعَن
الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن
أَبِيه، وَعَن مُحَمَّد بن رَافع عَن عبد الرَّزَّاق عَن
معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن كَعْب بن مَالك مُرْسلا. وَأخرجه
ابْن ماجة فِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن يحيى الذهلي.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (إِنَّه تقاضي) أَي:
أَن كَعْبًا تقاضي أَي: طَالب ابْن أبي حَدْرَد بِالدّينِ،
و: تقاضى، على وزن: تفَاعل، وأصل هَذَا الْبَاب لمشاركة
أَمريْن فَصَاعِدا نَحوه: تشاركاً، قَالَ الْكرْمَانِي:
هُوَ مُتَعَدٍّ إِلَى مفعول وَاحِد وَهُوَ الابْن. قلت:
إِذا كَانَ تفَاعل من فَاعل الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعول
وَاحِد: كضارب، لم يتعدَّ وَإِن كَانَ من الْمُتَعَدِّي
إِلَى مفعولين: كجاذبته الثَّوْب، يتَعَدَّى إِلَى وَاحِد.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: دينا، مَنْصُوب بِنَزْع الْخَافِض
أَي: بدين قلت: إِنَّمَا وَجه بِهَذَا لأَنا قُلْنَا: إِن
تفَاعل إِذا كَانَ من الْمُتَعَدِّي إِلَى مفعولين لَا
يتَعَدَّى إِلَّا إِلَى مفعول وَاحِد. قَوْله: (ابْن أبي
حَدْرَد) ، اسْم ابْن أبي حَدْرَد: هُوَ عبد ابْن أبي
سَلامَة: كَمَا صرح بِهِ البُخَارِيّ فِي أحد رواياته على
مَا ذكرنَا، وَهُوَ صَحَابِيّ على الْأَصَح، شهد
الْحُدَيْبِيَة وَمَا بعْدهَا، مَاتَ سنة إِحْدَى أَو
اثْنَتَيْنِ وَسبعين عَن إِحْدَى وَثَمَانِينَ سنة.
وَقَالَ الذَّهَبِيّ: عبد ابْن سَلامَة بن عُمَيْر هُوَ
ابْن عبد ابْن أبي حَدْرَد الْأَسْلَمِيّ، أَمر على غير
سَرِيَّة. وَقَالَ فِي بَاب الكنى: أَبُو حَدْرَد
الْأَسْلَمِيّ سَلامَة بن عُمَيْر، روى عَنهُ ابْنه عبد
اومحمد بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهمَا، وحروف حَدْرَد كلهَا
مُهْملَة، والحاء مَفْتُوحَة وَكَذَا الرَّاء وَالدَّال
سَاكِنة. قَالَ الْجَوْهَرِي ثمَّ الصَّنْعَانِيّ: حَدْرَد
اسْم رجل لم يَأْتِ من الْأَسْمَاء على فعلع بتكرير الْعين
غَيره. قَوْله: (كَانَ لَهُ عَلَيْهِ) جملَة فِي مَحل
النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (دينا) . قَوْله: (فِي
مَسْجِد) يتَعَلَّق بقوله: (تقاضى) . قَوْله: (أصواتهما) ،
من قبيل قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا}
(التَّحْرِيم: 4) وَيجوز اعْتِبَار الْجمع فِي: صوتيهما
بِاعْتِبَار أَنْوَاع الصَّوْت. قَوْله: (وَهُوَ فِي
بَيته) جملَة اسمية فِي مَحل النصب على الْحَال من رَسُول
ا. قَوْله: (فَخرج إِلَيْهِمَا) وَفِي رِوَايَة
الْأَعْرَج: (فَمر بهما النَّبِي) . فَإِن قلت: كَيفَ
التَّوْفِيق بَين الرِّوَايَتَيْنِ لِأَن الْخُرُوج غير
الْمُرُور؟ قلت: وفْق قوم بَينهمَا بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن
يكون مر بهما أَولا ثمَّ إِن كَعْبًا لما أشخص خَصمه
للمحاكمة فتخاصما وَارْتَفَعت أصواتهما فسمعهما النَّبِي
وَهُوَ فِي بَيته فَخرج إِلَيْهِمَا. وَقَالَ بَعضهم:
فِيهِ بعد، لِأَن فِي الطَّرِيقَيْنِ أَنه أَشَارَ إِلَى
كَعْب بالوضيعة، وَأمر غَرِيمه بِالْقضَاءِ، فَلَو كَانَ
أمره بذلك تقدم لما احْتج إِلَى إِعَادَته. قلت: الَّذِي
استبعد فقد أبعد، لِأَن إعدته بذلك قد تكون للتَّأْكِيد،
لِأَن الوضيعة أَمر مَنْدُوب والتأكيد بهَا مَطْلُوب، ثمَّ
قَالَ هَذَا الْقَائِل: وَالْأولَى فِيمَا يظْهر لي أَن
يحمل الْمُرُور على أَمر معنوي لَا حسي. قلت: إِن أَرَادَ
بِالْأَمر الْمَعْنَوِيّ الْخُرُوج فَفِيهِ إِخْرَاج
اللَّفْظ عَن مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ بِلَا ضَرُورَة،
وَالْأولَى
(4/228)
أَن يكون اللَّفْظ على مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ، وَيكون
الْمَعْنى أَنه: لما سمع صوتهما خرج من الْبَيْت لأجلهما
وَمر بهما. وَالْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، وَلَا
سِيمَا فِي حَدِيث وَاحِد رُوِيَ بِوُجُوه مُخْتَلفَة.
وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ: من حَدِيث زَمعَة بن صَالح
عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن كَعْب بن مَالك عَن أَبِيه: (أَن
النَّبِي مر بِهِ وَهُوَ ملازم رجل فِي أوقيتين، فَقَالَ
لَهُ النَّبِي: هَكَذَا يضع الشّطْر، وَقَالَ الرجل: نعم
يَا رَسُول ا، فَقَالَ: أدِّ إِلَيْهِ مَا بَقِي من حَقه)
.
قَوْله: (سجف حجرته) ، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة
وَفتحهَا بعْدهَا جِيم سَاكِنة، وَقَالَ ابْن سَيّده: هُوَ
السّتْر، وَقيل: هُوَ الستران المقرونان بَينهمَا فُرْجَة،
وكل بَاب ستر بسترين مقرونين فَكل شقّ مِنْهُ سجف،
وَالْجمع أسجاف وسجوف، وَرُبمَا قَالُوا: السجاف والسجف
والسجيف إرخاء السجف. زَاد فِي (الْمُخَصّص) و (الْجَامِع)
: وَبَيت مسجف. وَفِي (الصِّحَاح) : أسجف السّتْر أَي
أَرْسلتهُ. وَقَالَ عِيَاض وَغَيره: لَا يُسمى سجفاً إلاَّ
أَن يكون مشقوق الْوسط كالمصراعين. قلت: الَّذِي قَالَه
ابْن سَيّده يردهُ. قَوْله؛ (لبيْك) ، تَثْنِيَة. للبَّا،
وَهُوَ الْإِقَامَة وَهُوَ مفعول مُطلق يجب حذف عَامله،
وَهُوَ من بَاب الثنائي الَّذِي للتَّأْكِيد والتكرار
وَمَعْنَاهُ: لباً بعد لبٍ أَي: أَنا مُقيم على طَاعَتك.
قَوْله: (ضع) ، على وزن: فع، أَمر من: وضع يضع. قَوْله:
(أَي الشّطْر) تَفْسِير لقَوْله: هَذَا، أَي: ضع عَنهُ
الشّطْر أَي: النّصْف. وَجَاء لفظ: النّصْف، مُصَرحًا فِي
رِوَايَة الْأَعْرَج على مَا يَجِيء إِن شَاءَ اتعالى،
وَهُوَ مَنْصُوب لِأَنَّهُ تَفْسِير للمنصوب، وَهُوَ
قَوْله: هَذَا، لِأَنَّهُ مَنْصُوب بقوله: ضع. قَوْله:
(لقد فعلت) مُبَالغَة فِي امْتِثَال الْأَمر لِأَنَّهُ أكد
فعلت: بِاللَّامِ، وَكلمَة؛ قد، وَفِيه معنى الْقسم
أَيْضا. قَوْله: (قُم) ، خطاب لِابْنِ أبي حَدْرَد.
قَوْله: (فاقضه) أَمر على جِهَة الْوُجُوب، لِأَن رب
الدّين لما أطَاع بِوَضْع مَا أَمر بِهِ تعين على
الْمديَان أَن يقوم بِمَا بَقِي عَلَيْهِ لِئَلَّا يجْتَمع
على رب الدّين وضيعة ومطل.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام فِيهِ: إِشَارَة
إِلَى أَنه لَا يجْتَمع الوضيعة والمطل، لِأَن صَاحب
الدّين يتَضَرَّر كَمَا ذكرنَا. وَفِيه: الْمُخَاصمَة فِي
الْمَسْجِد فِي الْحُقُوق، والمطالبة بالديون، قَالَه ابْن
بطال. وَفِيه: دَلِيل على إِبَاحَة رفع الصَّوْت فِي
الْمَسْجِد مَا لم يتفاحش لعدم الْإِنْكَار مِنْهُ
عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقد أفرد لَهُ
البُخَارِيّ بَابا يَأْتِي عَن قريب، إِن شَاءَ اتعالى
فَإِن قلت: قد ورد فِي حَدِيث وَاثِلَة من عِنْد ابْن
مَاجَه يرفعهُ: (جَنبُوا مَسَاجِدكُمْ صِبْيَانكُمْ
وَخُصُومَاتكُمْ) ، وَحَدِيث مَكْحُول من عِنْد أبي نعيم
الْأَصْبَهَانِيّ عَن معَاذ مثله، وَحَدِيث جُبَير بن
مطعم، وَلَفظه: (وَلَا ترفع فِيهِ الْأَصْوَات) ، وَكَذَا
حَدِيث ابْن عمر من عِنْد أبي أَحْمد. قلت: أُجِيب: بِأَن
هَذِه الْأَحَادِيث ضَعِيفَة، فَبَقيَ الْأَمر على
الْإِبَاحَة من غير معَارض، وَلَكِن هَذَا الْجَواب لَا
يُعجبنِي لِأَن الْأَحَادِيث الضعيفة تتعاضد وتتقوى إِذا
اخْتلفت طرقها ومخارجها، وَالْأولَى أَن يُقَال: أَحَادِيث
الْمَنْع مَحْمُولَة على مَا إِذا كَانَ الصَّوْت
متفاحشاً، وَحَدِيث الْإِبَاحَة مَحْمُول على مَا إِذا
كَانَ غير متفاحش. وَقَالَ مَالك: لَا بَأْس أَن يقْضِي
الرجل فِي الْمَسْجِد دينا، وَأما التِّجَارَة وَالصرْف
فَلَا أحبه. وَفِيه: جَوَاز الِاعْتِمَاد على الْإِشَارَة
لقَوْله: هَكَذَا، أَي: الشّطْر، وَأَنَّهَا بِمَنْزِلَة
الْكَلَام إِذا فهمت لدلالتها عَلَيْهِ، فَيصح على هَذَا
يَمِين الْأَخْرَس وشهادته ولعانه وعقوده إِذا فهم عَنهُ
ذَلِك. وَفِيه: إِشَارَة الْحَاكِم إِلَى الصُّلْح على
جِهَة الْإِرْشَاد، وَهَهُنَا وَقع الصُّلْح على
الْإِقْرَار الْمُتَّفق عَلَيْهِ، لِأَن نزاعهما لم يكن
فِي الدّين وَإِنَّمَا كَانَ فِي التقاضي. وَأما الصُّلْح
على الْإِنْكَار فَأَجَازَهُ أَبُو حنيفَة وَمَالك، وَهُوَ
قَول الْحسن. وَقَالَ الشَّافِعِي: هُوَ بَاطِل، وَبِه
قَالَ ابْن أبي ليلى. وَفِيه: الْمُلَازمَة للاقتضاء.
وَفِيه: الشَّفَاعَة إِلَى صَاحب الْحق والإصلاح بَين
الْخُصُوم وَحسن التَّوَسُّط بَينهم. وَفِيه: قبُول
الشَّفَاعَة فِي غير مَعْصِيّة. وَفِيه: إرْسَال الستور
عِنْد الْحُجْرَة. |