عمدة القاري شرح صحيح البخاري

08 - (بابُ الخَوْخَةِ وَالمَمَرِّ فِي المَسْجِدِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَمر الخوخة الكائنة فِي الْمَسْجِد وَأمر الْمَمَر فِيهِ، وَهُوَ بِفَتْح الميمين وَتَشْديد الرَّاء: مَوضِع الْمُرُور،

(4/242)


وَالظَّاهِر أَن مُرَاد البُخَارِيّ من وضع هَذِه التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى جَوَاز اتِّخَاذ الخوخة والممر فِي الْمَسْجِد، لِأَن حَدِيث الْبَاب يدل على ذَلِك.

664 - ح دّثنا مُحَمَّدُ بنُ سِنَانٍ قَالَ حدّثنا فُلَيْحٌ قَالَ حدّثنا أبُو النَّضْرِ عنْ عُبَيْدِ بنِ حُنَيْنٍ عَنْ بُسْرِ بنِ سَعِيدٍ عَنْ أبي سعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ خَطَبَ النبيُّ فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ خَيَّرَ عَبْداً بَيْنَ الدُّنْيا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فَبَكَى أبُو بَكْر رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ فَقُلْتُ فِي نَفْسِي مَا يُبْكِي هَذَا الشَّيْخَ إنْ يَكُنِ اللَّهُ خيَّرَ عَبْداً بَيْنَ الدُّنيْا وَبَيْنَ مَا عِنْدَهُ فاخْتَارَ مَا عِنْدَ اللَّهِ فكانَ رَسولُ اللَّهِ هُوَ العَبْدَ وكانَ أبُو بَكْرٍ أعْلَمَنَا قَالَ يَا أبَا بَكْرٍ لاَ تَبْكِ إنَّ أمَنَّ النَّاسِ عَلَيَّ فِي صُحْبَتِهِ ومالِهِ أبُو بَكْرٍ وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذاً خَلِيلاً مِنْ أُمَّتِي لاَتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ وَلَكِنْ أُخُوَّةُ الإِسْلاَمِ وَمَوَدَّتُهُ لاَ يَبْقَيَنَّ فِي المَسْجِدِ بابٌ إِلاَّ سُدَّ إِلاَّ بابُ أبي بَكْرٍ. (الحَدِيث 664 طرفاه فِي: 4563، 4093) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الخوخة هِيَ الْبَاب الصَّغِير، وَقد تكون بمصراع وَاحِد وبمصراعين، وَأَصلهَا فتح فِي الْحَائِط، قَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ كوَّة فِي الْجِدَار تُؤدِّي الضَّوْء. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة شَيْئَانِ: أَحدهمَا الخوخة، وَالْآخر الْمَمَر، فمطابقته للخوخة ظَاهِرَة، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر الْمَمَر قلت: الْمَمَر من لَوَازِم الخوخة، فَذكرهَا يُغني عَن ذكره.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة. الأول: مُحَمَّد بن سِنَان، بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة بعْدهَا النُّون، وَقد تقدم. الثَّانِي: فليح، بِضَم الْفَاء وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: ابْن سُلَيْمَان، وَكَانَ اسْمه عبد الْملك، ولقبه: فليح، فغلب على اسْمه واشتهر بِهِ. الثَّالِث: أَبُو النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الصَّاد الْمُعْجَمَة: واسْمه سَالم بن أبي أُميَّة. الرَّابِع: عبيد، بِضَم الْعين، مصغر العَبْد ضد الْحر: ابْن حنين، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره نون أَيْضا: أَبُو عبد االمدني. الْخَامِس: بسر، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَفِي آخِره رَاء: ابْن سعيد، بِفَتْح السِّين. السَّادِس: أَبُو سعيد الْخُدْرِيّ واسْمه: سعد بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: عَن عبيد بن حنين. وَفِيه: عَن بسر بن سعيد، هَكَذَا فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَسقط فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: عَن أبي زيد ذكر بسر بن سعيد فَصَارَ: عَن عبيد بن حنين عَن أبي سعيد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقع فِي بعض النّسخ: أَبُو النَّضر عَن عبيد بن حنين عَن أبي سعيد، وَفِي بَعْضهَا: أَبُو النَّضر عَن بسر بن سعيد عَن أبي سعيد، وَفِي بَعْضهَا: أَبُو النَّضر عَن عبيد وَعَن بسر عَن أبي سعيد بِالْجمعِ بَينهمَا: بواو، الْعَطف. وَفِي بَعْضهَا: أَبُو النَّضر عَن عبيد عَن بسر عَن أبي سعيد بِدُونِ: الْوَاو، بَينهمَا قلت: قَالَ ابْن السكن: عَن الْفربرِي، قَالَ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل: هَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن سُلَيْمَان. عَن فليح عَن أبي النَّضر عَن عبيد عَن بسر عَن أبي سعيد، وَهُوَ خطأ، وَإِنَّمَا هُوَ: عَن عبيد بن حنين وَعَن بسر بن سعيد يَعْنِي: بواو، الْعَطف.
وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن سعيد بن مَنْصُور عَن فليح عَن أبي النَّضر عَن عبيد وَبسر بن سعيد جَمِيعًا عَن أبي سعيد، وَرَوَاهُ عَن فليح كَرِوَايَة سعيد بن يُونُس بن مُحَمَّد عَن ابْن أبي شيبَة، وَرِوَايَة أبي زيد الْمروزِي فِي (صَحِيح البُخَارِيّ) : حدّثنا مُحَمَّد بن سِنَان حدّثنا فليح حدّثنا أَبُو النَّضر عَن عبيد عَن ابْن سعيد، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ فِي فضل أبي بكر عَن عبيد ابْن مُحَمَّد عَن ابْن عَامر حدّثنا فليح حدّثنا سَالم عَن بسر عَن سعيد عَن أبي سعيد، وَفِي هِجْرَة النَّبِي؛ عَن إِسْمَاعِيل بن عبد احدثني مَالك عَن أبي النَّضر عَن عبيد بن حنين عَن أبي سعيد، بِلَفْظ: (أَن يؤتيه امن زهرَة الدُّنْيَا مَا شَاءَ) ، وَفِيه: (فَبكى أَبُو بكر وَقَالَ: فَدَيْنَاك بِآبَائِنَا وَأُمَّهَاتنَا) . وَكَذَا رَوَاهُ مَالك: عَن عبد ابْن مسلمة وَابْن وهب ومعن ومطرف وَإِبْرَاهِيم بن طهْمَان وَمُحَمّد بن الْحسن وَعبد الْعَزِيز بن يحيى. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَلم أره فِي (الْمُوَطَّأ) إلاَّ فِي (كتاب الْجَامِع) للقعنبي وَلم يذكر فِي (الْمُوَطَّأ) غَيره وَمن تَابعه، فَإِنَّمَا رَوَاهُ فِي غير (الْمُوَطَّأ) وَا تَعَالَى أعلم.
قلت: وَكَانَ هَذَا الِاخْتِلَاف إِنَّمَا أَتَى من فليح لِأَن الحَدِيث حَدِيثه وَعَلِيهِ يَدُور، وَهُوَ عِنْد بَعضهم: هُوَ ليّن الرِّوَايَة، وَحَاصِل الرِّوَايَة أَن فليحاً كَانَ يروي تَارَة

(4/243)


عَن عبيد وَعَن بسر كليهمَا، وَتارَة يقْتَصر على أَحدهمَا. وَأَخْطَأ من مُحَمَّد بن سِنَان حَيْثُ حذف الْوَاو العاطفة. فَافْهَم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي فضل أبي بكر رَضِي اتعالى عَنهُ، عَن عبد ابْن مُحَمَّد. وَأخرجه مُسلم فِي الْفَضَائِل.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (عِنْده) أَي، عِنْد اوهو: الْآخِرَة. قَوْله: (مَا يبكي هَذَا الشَّيْخ) من الإبكاء، وَكلمَة: مَا، استفهامية. قَوْله: (إِن يكن اخير) ، كَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إِن يكن عبد خير) ، فإعراب الأولى: هُوَ: أَن: إِن، بِالْكَسْرِ شَرط، ويكن، فعل الشَّرْط وَهُوَ مجزوم، وَلكنه لما اتَّصل بِلَفْظ: ا، كسر لِأَن الأَصْل فِي السَّاكِن إِذا حرك حرك بِالْكَسْرِ. قَالَ الْكرْمَانِي: الْجَزَاء مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ السِّيَاق. قلت: لَا حَاجَة إِلَى هَذَا، بل الْجَزَاء قَوْله: (فَاخْتَارَ مَا عِنْد ا) ، قَوْله: (خير) على صِيغَة الْمَعْلُوم من: التَّخْيِير، وعبداً، مَفْعُوله و: الضَّمِير فِي: فَاخْتَارَ، يرجع إِلَى: العَبْد، و: مَا عِنْد ا، فِي مَحل النصب مَفْعُوله. وإعراب الرِّوَايَة الثَّانِيَة: هُوَ أَن: إِن أَيْضا كلمة شَرط، و: يكن، مجزوم بِهِ. وَقَوله: عبد، مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: مقدما، وَقَوله: خير، على صِيغَة الْمَجْهُول فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ صفة لعبد، وَالْجَزَاء هُوَ قَوْله: (فَاخْتَارَ) . وَقَالَ السفاقسي: وَيصِح أَن تكون الْهمزَة، يَعْنِي همزَة: أَن، مَفْتُوحَة بِأَن يكون مَنْصُوبًا: بِأَن، فَيكون الْمَعْنى مَا يبكيه لأجل أَن يكون اخير عبدا. وَقَالَ بَعضهم: وَجوز ابْن التِّين فتحهَا، يَعْنِي: فتح: أَن، على أَنَّهَا تعليلية، وَفِي نظر. قلت: فِي نظره نظر، لِأَن التَّعْلِيل هُنَا لأجل فِرَاقه لَا على كَونه خيّر عبدا بَين الدُّنْيَا وَبَين مَا عِنْده. قَوْله: (هُوَ العَبْد) ، أَي: الْمُخَير: قَوْله: (وَكَانَ أَبُو بكر أعلمنَا) حَيْثُ فهم أَنه رَسُول ا، وَإِنَّمَا قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: عبدا، على سَبِيل الْإِبْهَام ليظْهر فهم أهل الْمعرفَة ونباهة أَصْحَاب الحذق، وَكَانَ ذَلِك فِي مرض مَوته كَمَا يَجِيء فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس بعده، إِن شَاءَ اتعالى. وَلما كَانَ أَبُو بكر أعلم الصَّحَابَة، إِذْ لم يُنكر أحد مِنْهُم مِمَّن حضر حِين قَالَ أَبُو سعيد: وَكَانَ أَبُو بكر أعلمنَا، اختصه الشَّارِع بالخصوصية الْعُظْمَى. وَقَالَ: (إِن أمنَّ النَّاس عليَّ) إِلَى آخِره فَظهر أَن للصديق من الْفَضَائِل والحقوق مَا لَا يُشَارِكهُ فِي ذَلِك مَخْلُوق. قَالَ الْعلمَاء: فِي ممعنى هَذَا الْكَلَام، مِنْهُم الْخطابِيّ: أَي أَكْثَرهم جوداً وسماحة لنا بِنَفسِهِ وَمَاله، وَلَيْسَ هُوَ من الْمَنّ الَّذِي هُوَ الِاعْتِدَاد بالصنيعة، لِأَنَّهُ مُبْطل للثَّواب، لِأَن الْمِنَّة وَلِرَسُولِهِ فِي قبُول ذَلِك. قَالَ الْخطابِيّ: والمن فِي كَلَام الْعَرَب الْإِحْسَان إِلَى من يُكَافِئهُ. قَالَ تَعَالَى: {هَذَا عطاؤنا فَامْنُنْ} (ص: 93) وَقَالَ: {وَلَا تمنن} (المدثر: 6) أَي: لَا تعط لتأْخذ من الْمُكَافَأَة أَكثر مَا أَعْطَيْت. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وزن: أَمن، أفعل، من: الْمِنَّة، أَي الإمتنان أَي: أَكثر منَّة. وَمَعْنَاهُ: أَن أَبَا بكر لَهُ من الْحُقُوق مَا لَو كَانَ لغيره لَا متن بهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَادر بالتصديق وَنَفَقَة الْأَمْوَال، وبالملازمة والمصاحبة إِلَى غير ذَلِك بانشراح صدر ورسوخ علم بِأَن اورسوله لَهما الْمِنَّة فِي ذَلِك وَالْفضل، لَكِن رَسُول ا، بجميل أخلاقه وكريم أعراقه اعْترف بذل عملا بشكر الْمُنعم، لَيْسَ كَمَا قَالَ الْأَنْصَار. وَفِي (جَامع التِّرْمِذِيّ) ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة مَرْفُوعا: (مَا لأحد عندنَا يَد إلاَّ كافأنا مَا خلا أَبَا بكر فَإِن لَهُ عندنَا يدا يُكَافِئهُ ابها يَوْم الْقِيَامَة) . قَوْله: (وَلَو كنت متخذاً خَلِيلًا) ، الاتخاذ: افتعال من الْأَخْذ، وَاتخذ يتَعَدَّى إِلَى مفعول وَاحِد، وَيَتَعَدَّى إِلَى مفعولين أَحدهمَا بِحرف الْجَرّ، فَيكون بِمَعْنى: اخْتَار وَاصْطفى، وَهنا سكت عَن أحد مفعوليه وَهُوَ الَّذِي دخل عَلَيْهِ حرف الْجَرّ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَو كنت متخذاً من النَّاس خَلِيلًا لاتخذت مِنْهُم أَبَا بكر. والخليل: المخال، وَهُوَ الَّذِي يخالك أَي: يوافقك فِي خلالك، أَو يسايرك فِي طريقتك، من الْخلّ وَهُوَ الطَّرِيق فِي الرمل، أَو يسد خللك كَمَا تسد خلله، أَو يداخلك خلال منازلك. وَقيل: صل الْخلَّة الِانْقِطَاع، فخليل االمنقطع إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْن فورك: الْخلَّة صفاء الْمَوَدَّة بتخلل الْأَسْرَار. وَقيل: الْخَلِيل من لَا يَتَّسِع قلبه لغير خَلِيله. وَقَالَ عِيَاض: أصل الْخلَّة الافتقار والانقطاع، فخليل اأي: الْمُنْقَطع إِلَيْهِ لقصره حَاجته عَلَيْهِ. وَقيل: الْخلَّة الِاخْتِصَاص بِأَصْل الإصطفاء، وَسمي إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، خَلِيل الأنه وَإِلَى فِيهِ وعادى فِيهِ. وَقيل: سمي بِهِ لِأَنَّهُ تخَلّل بخلال حَسَنَة وأخلاق كَرِيمَة، وخلة اتعالى لَهُ نَصره وَجعله ءماماً لمن بعده. وَزعم السفاقسي أَنه كَانَ اتخذ خَلِيلًا من الْمَلَائِكَة. وَلِهَذَا قَالَ: (لَو كنت متخذاً خَلِيلًا من أمتِي) . انْتهى يردة قَوْله: (وَلَكِن صَاحبكُم خَلِيل الرَّحْمَن) ، وَفِي رِوَايَة: (لَو كنت متخذاً خَلِيلًا غير رَبِّي) ، ومعنىء الحَدِيث: أَن أَبَا بكر متأهل لِأَن يَتَّخِذهُ خَلِيلًا لَوْلَا الْمَانِع الْمَذْكُور، وَهُوَ أَنه امْتَلَأَ قلبه بِمَا تخلله من معرفَة اتعالى ومحبته ومراقبته حَتَّى كَأَنَّهَا مزجت

(4/244)


أَجزَاء قلبه بذلك فَلم يَتَّسِع قلبه لخليل آخر، فعلى هَذَا لَا يكون الْخَلِيل، إلاَّ وَاحِدًا، وَمن لم ينْتَه إِلَى ذَلِك مِمَّن تعلق الْقلب بِهِ فَهُوَ حبيب، وَلذَلِك أثبت لأبي بكر وَعَائِشَة أَنَّهُمَا أحب النَّاس إِلَيْهِ، وَنفى عَنْهُمَا الْخلَّة الَّتِي هِيَ فَوق الْمحبَّة، وَقد اخْتلف أَرْبَاب الْقُلُوب فِي ذَلِك، فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الْخلَّة أَعلَى تمسكاً بِهَذَا الحَدِيث، وَذهب ابْن فورك: إِلَى أَن الْمحبَّة أَعلَى لِأَنَّهَا صفة نَبينَا مُحَمَّد، وَهُوَ أفضل من الْخَلِيل. وَقيل: هما سَوَاء فَلَا يكون الْخَلِيل إلاَّ حبيباً، وَلَا الحبيب إلاَّ خَلِيلًا، وَزعم الْفراء أَن مَعْنَاهُ. فَلَو كنت أخص أحدا بِشَيْء من الْعلم دون النَّاس لخصصت بِهِ أَبَا بكر، لِأَن الْخَلِيل من تفرد بخلة من الْفضل لَا يُشَارِكهُ لَهُ فِيهَا أحد، وَقيل: معنى الحَدِيث: لَو كنت مُنْقَطِعًا إِلَى غير الانقطعت إِلَى أبي بكر، لَكِن هَذَا مُمْتَنع لِامْتِنَاع ذَلِك. فَإِن قلت: قَالَ بعض الصَّحَابَة: سَمِعت خليلي. قلت: لَا بَأْس فِي الِانْقِطَاع إِلَى النَّبِي، لِأَن الِانْقِطَاع إِلَيْهِ انْقِطَاع إِلَى اتعالى، وَفِي حكم ذَلِك.
قَوْله: (وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام) كَذَا هُوَ بِالْألف فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأَصْلِيّ: (وَلَكِن خوة الْإِسْلَام) بِحَذْف الْألف. قَالَ الْكرْمَانِي: وتوجيهه أَن يُقَال: نقلت حَرَكَة الْهمزَة إِلَى نون: لَكِن، وحذفت الْهمزَة، فَعرض بعد ذَلِك استثقال ضمة من كسرة وضمة فسكن النُّون تَخْفِيفًا، فَصَارَ: وَلَكِن خوة، وَسُكُون النُّون بعد هَذَا الْعَمَل غير سكونه الْأصيلِيّ، ثمَّ نقل عَن ابْن مَالك أَن فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: سُكُون النُّون، وَثُبُوت الْهمزَة بعْدهَا مَضْمُومَة، وَضم النُّون وَحذف الْهمزَة، وسكونه وَحذف الْهمزَة. فَالْأول أصل، وَالثَّانِي فرع، وَالثَّالِث فرع فرع. انْتهى. قلت: كل هَذَا تكلّف خَارج عَن الْقَاعِدَة، وَلَكِن الْوَجْه أَن يُقَال: إِن: لَكِن، على حَالهَا سَاكِنة النُّون، وحذفت الْهمزَة من أخوة، اعتباطاً، وَلِهَذَا قَالَ ابْن التِّين: روينَاهُ بِغَيْر همزَة، وَلَا أصل لهَذَا، وَكَأن الْهمزَة سَقَطت هُنَا، وَهِي ثَابِتَة فِي بَاقِي الْمَوَاضِع: ثمَّ إِن قَوْله: إخْوَة الْإِسْلَام، كَلَام إضافي مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل، وَنَحْو ذَلِك، وَيُؤَيِّدهُ أَن فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس الَّذِي بعده وَقع هَكَذَا. قَوْله: (ومودته) أَي: مَوَدَّة الْإِسْلَام، وَالْفرق بَين الْخلَّة والمودة بِاعْتِبَار الْمُتَعَلّق مَعَ أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد، وَهُوَ أَنه أثبت الْمَوَدَّة لِأَنَّهَا بِحَسب الْإِسْلَام وَالدّين، وَنفى الْخلَّة للمعنى الَّذِي ذَكرْنَاهُ، وَالدَّلِيل على أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد هُوَ قَوْله فِي الحَدِيث الَّذِي بعده. وَلَكِن خلة الْإِسْلَام، بدل لفظ الْمَوَدَّة. وَقد قيل: إِن الْخلَّة أخص وَأَعْلَى مرتبَة من الْمَوَدَّة فنفى الْخَاص وَأثبت الْعَام. فَإِن قيل: المُرَاد من السِّيَاق أَفضَلِيَّة أبي بكر، وكل الصَّحَابَة داخلون تَحت أخوة الْإِسْلَام، فَمن أَيْن لزم أفضليته؟ وَأجِيب: بِأَنَّهَا تعلم مِمَّا قبله وَمِمَّا بعده. قَوْله: (لَا يبْقين) ، بالنُّون الْمُشَدّدَة: للتوكيد. وَقَالَ الْكرْمَانِي: بِلَفْظ مَجْهُول، ويروى بِلَفْظ: الْمَعْرُوف أَيْضا. قلت: فِي صِيغَة الْمَجْهُول يكون لفظ: بَاب، مَرْفُوعا على أَنه مفعول نَاب عَن الْفَاعِل، وَالتَّقْدِير: لَا يبْقى أحد فِي الْمَسْجِد بَابا إلاَّ بَاب أبي بكر، وَفِي صِيغَة الْمَعْلُوم يكون: بَاب، مَرْفُوعا على أَنه فَاعل، وَلَا يُقَال: كَيفَ نهى الْبَاب عَن الْبَقَاء وَهُوَ غير مُكَلّف، لأَنا نقُول: إِنَّه كِنَايَة لِأَن عدم الْبَقَاء لَازم للنَّهْي عَن الْإِبْقَاء فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يبقيه أحد حَتَّى لَا يبْقى؟ وَذَلِكَ كَمَا يُقَال: لَا أرينك هَهُنَا أَي لَا تقعد عِنْدِي حَتَّى لَا أَرَاك؟ قَوْله: (إِلاَّ سُدَّ) الاستنثاء مفرغ تَقْدِيره: لَا يبْقين بَاب بِوَجْه من الْوُجُوه إِلاَّ بِوَجْه السد إِلاَّ بَاب أبي بكر، أَو يكون التَّقْدِير إِلاَّ بَابا سد، حَتَّى لَا يُقَال: الْفِعْل وَقع مُسْتَثْنى ومستثنى مِنْهُ. فَافْهَم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ من الْفَوَائِد الأولى: مَا قَالَه الْخطابِيّ: وَهُوَ أَن أمره بسد الْأَبْوَاب غير الْبَاب الشَّارِع إِلَى الْمَسْجِد إِلاَّ بَاب أبي بكر، يدل على اخْتِصَاص شَدِيد لأبي بكر، وإكرام لَهُ، لِأَنَّهُمَا كَانَا لَا يفترقان. الثَّانِيَة: فِيهِ دلَالَة على أَنه قد أفرده فِي ذَلِك بِأَمْر لَا يُشَارك فِيهِ، فَأولى مَا يصرف إِلَيْهِ التَّأْوِيل فِيهِ أَمر الْخلَافَة، وَقد أَكثر الدّلَالَة عَلَيْهَا بأَمْره إِيَّاه بِالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاة الَّتِي بنى لَهَا الْمَسْجِد، قَالَ الْخطابِيّ: وَلَا أعلم أَن إِثْبَات الْقيَاس أقوى من إِجْمَاع الصَّحَابَة على اسْتِخْلَاف أبي بكر، مستدلين فِي ذَلِك باستخلافه إِيَّاه فِي أعظم أُمُور الدّين، وَهُوَ الصَّلَاة، فقاسوا عَلَيْهَا سَائِر الْأُمُور، وَلِأَنَّهُ كَانَ يخرج من بَاب بَيته وَهُوَ فِي الْمَسْجِد للصَّلَاة، فَلَمَّا غلق الْأَبْوَاب إلاَّ بَاب أبي بكر دلّ على أَنه يخرج مِنْهُ للصَّلَاة، فَكَأَنَّهُ أَمر بذلك على أَن من بعده يفعل ذَلِك هَكَذَا، فَإِن قلت: رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ: (سدوا الْأَبْوَاب إلاَّ بَاب عَليّ) قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هُوَ غَرِيب، وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدِيث: إلاَّ بَاب أبي بكر أصح. وَقَالَ الْحَاكِم: تفرد بِهِ مِسْكين بن بكير الْحَرَّانِي عَن شُعْبَة، وَقَالَ ابْن عَسَاكِر: وَهُوَ وهم، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَتَابعه

(4/245)


إِبْرَاهِيم بن الْمُخْتَار. الثَّالِثَة: قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: التَّعْرِيض بِالْعلمِ للنَّاس، وَإِن قل فهماؤهم خشيَة أَن يدْخل عَلَيْهِم مساءة أَو خزي. الرَّابِعَة: فِيهِ أَنه لَا يسْتَحق أَخذ الْعلم حَقِيقَة إلاَّ من فهم، والحافظ لَا يبلغ دَرَجَة الْفَهم، وَإِنَّمَا يُقَال لِلْحَافِظِ: عَالم بِالنَّصِّ لَا بِالْمَعْنَى. الْخَامِسَة: فِيهِ دَلِيل على أَن أَبَا بكر أعلم الصَّحَابَة. السَّادِسَة: فِيهِ الحض على اخْتِيَار مَا عِنْد اوالزهد فِي الدُّنْيَا والإعلام بِمن اخْتَار ذَلِك من الصَّالِحين. السَّابِعَة: فِيهِ أَن على السُّلْطَان شكر من أحسن صحبته ومعونته بِنَفسِهِ وَمَاله، واختصاصه بالفضيلة الَّتِي لم يُشَارك فِيهَا. الثَّامِنَة: فِيهِ ائتلاف النُّفُوس بقوله: (وَلَكِن أخوة الْإِسْلَام أفضل) . التَّاسِعَة: فِيهِ أَن الْمَسَاجِد تصان عَن تطرق النَّاس إِلَيْهَا من خوخات وَنَحْوهَا إلاَّ من أَبْوَابهَا إلاَّ من حَاجَة مهمة. الْعَاشِرَة: فِيهِ أَن الْخَلِيل فَوق الصّديق وَالْأَخ.
126 - (حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ قَالَ حَدثنَا وهب بن جرير قَالَ حَدثنَا أبي قَالَ سَمِعت يعلى بن حَكِيم عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ خرج رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ عاصبا رَأسه بِخرقَة فَقعدَ على الْمِنْبَر فَحَمدَ الله وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ إِنَّه لَيْسَ من النَّاس أحد أَمن عَليّ فِي نَفسه وَمَاله من أبي بكر بن أبي قُحَافَة وَلَو كنت متخذا من النَّاس خَلِيلًا لاتخذت أَبَا بكر خَلِيلًا وَلَكِن خلة الْإِسْلَام أفضل سدوا عني كل خوخة فِي هَذَا الْمَسْجِد غير خوخة أبي بكر) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول عبد الله بن مُحَمَّد الْجعْفِيّ بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وبالفاء المسندي. الثَّانِي وهب بن جرير بِفَتْح الْجِيم. الثَّالِث أَبوهُ جرير بن حَازِم بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالزاي الْعَتكِي. الرَّابِع يعلى بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة ابْن حَكِيم بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة الثَّقَفِيّ الْمَكِّيّ سكن الْبَصْرَة وَمَات بِالشَّام. الْخَامِس عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. السَّادِس عبد الله بن عَبَّاس. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه السماع وَالْقَوْل وَفِيه رِوَايَة الابْن عَن الْأَب. والْحَدِيث يَأْتِي فِي الْفَرَائِض بِزِيَادَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي المناقب عَن عَمْرو بن عَليّ عَن وهب. (بَيَان مَعْنَاهُ) قَوْله " عاصبا رَأسه " انتصاب عاصبا على أَنه حَال وَرَأسه مَنْصُوب بِهِ ويروى " عاصب رَأسه " بِالْإِضَافَة وَقَالَ ابْن التِّين الْمَعْرُوف عصب رَأسه تعصيبا (قلت) ذكر صَاحب دستور اللُّغَة عصب بِالتَّخْفِيفِ أَيْضا فَقَالَ عصب شدّ ذكره فِي بَاب فعل يفعل بِفَتْح الْعين فِي الْمَاضِي وَكسرهَا فِي الْمُسْتَقْبل قَوْله " فَحَمدَ الله " أَي على وجود الْكَمَال وَأثْنى أَي على عدم النُّقْصَان قَوْله " ابْن أبي قُحَافَة " بِضَم الْقَاف وَتَخْفِيف الْحَاء الْمُهْملَة وَبعد الْألف فَاء واسْمه عُثْمَان بن عَامر التَّيْمِيّ أسلم يَوْم الْفَتْح وعاش إِلَى خلَافَة عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مَاتَ وَله سبع وَتسْعُونَ سنة وَلَيْسَ فِي الصَّحَابَة من فِي نَسْله ثَلَاثَة بطُون صحابيون إِلَّا هُوَ قَوْله " أَنه " أَي أَن الشَّأْن لَيْسَ من النَّاس أحدا من عَليّ فِي نَفسه وَمَاله من أبي بكر بن أبي قُحَافَة وَفِي حَدِيث أبي سعيد السَّابِق " أَن أَمن النَّاس عَليّ فِي صحبته وَمَاله أَبُو بكر " وَالْفرق بَين العبارتين أَن الأولى أبلغ لِأَن الثَّانِيَة يحْتَمل أَن يكون لَهُ من يُسَاوِيه فِي الْمِنَّة إِذْ الْمَنْفِيّ هُوَ الْأَفْضَلِيَّة لَا الْمُسَاوَاة قَوْله " وَلَكِن خلة الْإِسْلَام " بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَقَالَ ابْن بطال وَقع فِي الحَدِيث " وَلَكِن خوة الْإِسْلَام " وَلَا أعرف مَعْنَاهُ قَالَ وَقد وجدت الحَدِيث بعده " خلة " بدل خوة وَهُوَ الصَّوَاب لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - صرف الْكَلَام على مَا تقدمه من ذكر الخلالة فَأتى بِلَفْظ مُشْتَقّ مِنْهَا وَلم أجد خوة بِمَعْنى خلة فِي كَلَام الْعَرَب. وَمِمَّا يُسْتَفَاد من هَذَا الحَدِيث جَوَاز الْخطْبَة قَاعِدا قَالَه الْكرْمَانِي (قلت) هَذِه الْخطْبَة لم تكن وَاجِبَة وَبَاب التَّطَوُّع وَاسع قَوْله " سدوا " بِضَم السِّين وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ قَوْله " غير خوخة أبي بكر " كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين وَفِي رِوَايَة الْكشميهني " إِلَّا خوخة أبي بكر "
18 -

(4/246)


(بابُ الأَبْوابِ والغَلَقِ لِلْكَعْبَةِ والمَسَاجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اتِّخَاذ الْأَبْوَاب للكعبة ولغيرها من الْمَسَاجِد لأجل صونها عَمَّا لَا يصلح فِيهَا، وَلأَجل حفظ مَا فِيهَا من الْأَيْدِي العادية، وَلِهَذَا قَالَ ابْن بطال: اتِّخَاذ الْأَبْوَاب للمساجد وَاجِب، وَعلل الْوُجُوب بِمَا ذكرنَا. قَوْله: (والغلق) بتحريك اللَّام، وَهُوَ المغلاق وَهُوَ مَا يغلق بِهِ الْبَاب.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بنُ مُحَمَّدِ حدّثنا سُفْيَانُ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ قَالَ قَالَ لِي ابنُ أبي مُلَيْكَةَ يَا عَبْدَ المَلِكِ لَوْ رَأيْتَ مَسَاجِدَ ابنِ عبَّاسٍ وَأبْوَابَهَا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: الْأَبْوَاب. قَوْله: (قَالَ أَبُو عبد ا) ، المُرَاد بِهِ البُخَارِيّ نَفسه، وَعبد ابْن مُحَمَّد هُوَ الْجعْفِيّ المسندي، مضى ذكره فِي الْبَاب السَّابِق، وسُفْيَان: هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَابْن جريج هُوَ عبد ابْن جريج، وَابْن أبي مليكَة هُوَ عبد ابْن عبد الرَّحْمَن بن أبي مليكَة، بِضَم الْمِيم، وَاسم أبي مليكَة: زُهَيْر بن عبد ابْن جدعَان التَّيْمِيّ الْأَحول الْمَكِّيّ القَاضِي. قَوْله: (لَو رَأَيْت) ، جَزَاؤُهُ مَحْذُوف، أَي: رَأَيْتهَا كَذَا وَكَذَا، وَيحْتَمل أَن تكون: لَو، للتمنى فَلَا تحْتَاج إِلَى الْجَزَاء، وَهَذَا الْكَلَام يدل على أَن هَذِه الْمَسَاجِد كَانَت لَهَا أَبْوَاب، وأغلاق بِأَحْسَن مَا يكون، وَلَكِن كَانَت فِي الْوَقْت الَّذِي قَالَ ابْن أبي مليكَة لِابْنِ جريج: خربَتْ واندرست.
127 - (حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان وقتيبة قَالَا حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم مَكَّة فَدَعَا عُثْمَان بن طَلْحَة فَفتح الْبَاب فَدخل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وبلال وَأُسَامَة بن زيد وَعُثْمَان بن طَلْحَة ثمَّ أغلق الْبَاب فَلبث فِيهِ سَاعَة ثمَّ خَرجُوا قَالَ ابْن عمر فبدرت فَسَأَلت بِلَالًا فَقَالَ صلى فِيهِ فَقلت فِي أَي قَالَ بَين الأسطوانتين قَالَ ابْن عمر فَذهب عَليّ أَن أسأله كم صلى) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " فَفتح الْبَاب " وَفِي قَوْله " ثمَّ أغلق ". (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول أَبُو النُّعْمَان بِضَم الْمِيم مُحَمَّد بن الْمفضل السدُوسِي الْبَصْرِيّ. الثَّانِي قُتَيْبَة بن سعيد وَقد تكَرر ذكره. الثَّالِث حَمَّاد بن زيد وَقد تقدم غير مرّة. الرَّابِع أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ. الْخَامِس نَافِع مولى ابْن عمر. السَّادِس عبد الله بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه روى البُخَارِيّ عَن شيخين وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر وَعَن أَحْمد بن مُحَمَّد عَن ابْن الْمُبَارك وَعَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَعَن مُحَمَّد بن النُّعْمَان وَفِي الْجِهَاد عَن يحيى بن بكير وَعَن مُسَدّد عَن يحيى وَعَن أبي نعيم وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن رمح وَعَن يحيى بن يحيى عَن مَالك وَعَن أبي الرّبيع وقتيبة أبي كَامِل ثَلَاثَتهمْ عَن حَمَّاد بِهِ وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن حميد بن مسْعدَة وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن القعْنبِي وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق وَعَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث وَعَن مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَن أَحْمد بن سُلَيْمَان وَعَن عَمْرو بن عَليّ وَعَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم دُحَيْم وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " عُثْمَان بن طَلْحَة " هُوَ عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة عبد الله بن عبد الْعُزَّى الْعَبدَرِي الحَجبي

(4/247)


قتل أَبوهُ وَعَمه يَوْم أحد كَافِرين فِي جمَاعَة من بني عَمهمَا وَهَاجَر هَذَا مَعَ خَالِد بن الْوَلِيد وَعَمْرو وَدفع النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لَهُ وَإِلَى ابْن عَمه شيبَة بن عُثْمَان مِفْتَاح الْكَعْبَة وَقَالَ الْكرْمَانِي أسلم يَوْم هدنة الْحُدَيْبِيَة وَجَاء يَوْم الْفَتْح بمفتاح الْكَعْبَة وَفتحهَا فَقَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " خذوها " يَعْنِي الْمِفْتَاح " يَا آل أبي طَلْحَة خالدة تالدة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم إِلَّا ظَالِم " ثمَّ نزل الْمَدِينَة فَأَقَامَ بهَا إِلَى وَفَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثمَّ تحول إِلَى مَكَّة وَمَات بهَا سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين قَوْله " وبلال " عطف على قَول النَّبِي أَي وَدخل بِلَال أَيْضا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَدخل أَيْضا أُسَامَة بن زيد وَعُثْمَان بن أبي طَلْحَة وإدخاله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة مَعَه لمعان تخص كل وَاحِد مِنْهُم فَأَما دُخُول بِلَال فلكونه مؤذنه وخادم أَمر صلَاته وَأما أُسَامَة فَلِأَنَّهُ كَانَ يتَوَلَّى خدمَة مَا يحْتَاج إِلَيْهِ وَأما عُثْمَان فلئلا يتَوَهَّم النَّاس أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عَزله وَلِأَنَّهُ كَانَ يقوم بِفَتْح الْبَاب وإغلاقه قَوْله " فبدرت " أَي أسرعت قَوْله " فَسَأَلت بِلَالًا " أَي عَن صَلَاة النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْكَعْبَة قَوْله " فَقلت فِي أَي " أَي فِي أَي نواحيه ويروى فِي أَي نواحيه بِوُجُود الْمُضَاف إِلَيْهِ قَوْله " بَين الاسطوانتين " هِيَ تَثْنِيَة الاسطوانة بِضَم الْهمزَة وَزنهَا أفعوالة وَقيل فعلوانة وَقيل افعلانة قَوْله " فَذهب عَليّ " أَي فَاتَ مني سُؤال الكمية قَوْله " أَن أسأله " بِفَتْح أَن مَصْدَرِيَّة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل ذهب (وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ) مَا قَالَه الْخطابِيّ وَابْن بطال أَن إغلاق بَاب الْكَعْبَة كَانَ لِئَلَّا يكثر النَّاس عَلَيْهِ فيصلوا بِصَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَيكون ذَلِك عِنْدهم من الْمَنَاسِك كَمَا فعل فِي صَلَاة اللَّيْل حِين لم يخرج إِلَيْهِم خشيَة أَن تكْتب عَلَيْهِم وَقيل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِئَلَّا يزدحموا عَلَيْهِ لتوفر دواعيهم على مُرَاعَاة أَفعاله ليأخذوها عَنهُ وَقيل ليَكُون ذَلِك أسكن لِقَلْبِهِ وَأجْمع لخشوعه. وَمِنْهَا مَا قَالَ ابْن بطال اتِّخَاذ الْأَبْوَاب للمساجد وَاجِب وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَمِنْهَا أَن الْمُسْتَحبّ لمن يدْخل الْكَعْبَة أَن يُصَلِّي بَين الاسطوانتين كَمَا فعل النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَسَيَجِيءُ فِي كتاب الْحَج عَن ابْن عمر أَنه سَأَلَ بِلَالًا هَل صلى فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ نعم بَين العمودين اليمانيين وَفِي لفظ " جعل العمودين عَن يسَاره وعمودا عَن يَمِينه وَثَلَاثَة أعمدة وَرَاءه وَكَانَ الْبَيْت يَوْمئِذٍ على سِتَّة أعمدة ثمَّ صلى " وَفِي لفظ " فَمَكثَ فِي الْبَيْت نَهَارا طَويلا ثمَّ خرج فابتدر النَّاس من الدُّخُول فسبقتهم فَوجدت بِلَالًا قَائِما وَرَاء الْبَيْت فَقلت لَهُ أَيْن صلى فَقَالَ بَين ذَيْنك العمودين المقدمين قَالَ ونسيت أَن أسأله كم صلى وَعند الْمَكَان الَّذِي صلى فِيهِ مرّة مرّة حَمْرَاء " وروى أَحْمد من حَدِيث عُثْمَان بن أبي طَلْحَة بِسَنَد صَالح " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْبَيْت فصلى رَكْعَتَيْنِ بَين الساريتين " وَفِي فَوَائِد سمويه بن عبد الرَّحْمَن بن الوضاح قَالَ " قلت لشيبة زَعَمُوا أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دخل الْكَعْبَة فَلم يصل فِيهَا قَالَ كذبُوا وَأبي لقد صلى رَكْعَتَيْنِ بَين العمودين ثمَّ ألصق بهما بَطْنه وظهره " -
28 - (بابُ دُخولِ المُشْرِكِ المَسْجِدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز دُخُول الْمُشرك الْمَسْجِد، وَفِيه خلاف، فعندنا يجوز مُطلقًا، وَعند الْمَالِكِيَّة والمزني الْمَنْع مُطلقًا، وَعند الشَّافِعِيَّة التَّفْصِيل بَين الْمَسْجِد الْحَرَام وَغَيره، وَلنَا حَدِيث الْبَاب.

38 -

(4/248)


(بابُ رَفْعِ الصَّوْتِ فِي المَسَاجِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم رفع الصَّوْت فِي الْمَسَاجِد، وَلَكِن هَذَا أَعم من أَن يكون مَمْنُوعًا، أَو غير مَمْنُوع، فَذكره الْحَدِيثين فِيهِ إِشَارَة إِلَى بَيَان تَفْصِيل فِيهِ مَعَ الْخلاف، فَالْحَدِيث الأول يدل على الْمَنْع، والْحَدِيث الثَّانِي يدل على عَدمه، وَقد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ فِيمَا تقدم، وَهُوَ بَاب التقاضي والملازمة فِي الْمَسْجِد.

074921 - ح دّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ حَدثنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدّثنا الجُعَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ حدّثني يَزِيدُ بنُ خُصَيْفَةَ عنِ السَّائِبِ بنِ يَزِيدَ قَالَ كنْتُ قائِماً فِي المَسْجِدِ فَحَصَبَنِي رَجلٌ فَنَظَرْتُ فإِذا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ فَقَالَ اذْهبْ فَأتِني بِهَذَيْنِ فَجِئْتُهُ بِهِما قَالَ مَن أنْتُما أوْ مِنْ أيْنَ أنْتُما قَالَا منْ أهْلِ الطَّائِفِ قَالَ لَوْ كُنْتُما مِنْ أهْلِ البَلَدِ لأوْجَعْتُكُما تَرْفَعَانِ أصْوَاتَكُمَا فِي مَسْجِدِ رسولِ اللَّهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي أحد احتماليها، وَهُوَ: الْمَنْع.
ذكر رِجَاله. وهم خَمْسَة. الأول: عَليّ بن الْمَدِينِيّ، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: يحيى الْقطَّان، كَذَلِك. الثَّالِث: الجعيد، بِضَم الْجِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، وَيُقَال لَهُ: جعيد، أَيْضا بِدُونِ الْألف وَاللَّام، وَيُقَال لَهُ: الْجَعْد، بِدُونِ التصغير، وَهُوَ اسْمه الْأَصْلِيّ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: الْجَعْد بن عبد الرَّحْمَن بن أَوْس، وَهُوَ ثِقَة روى لَهُ مُسلم حَدِيثا وَاحِدًا عَن السَّائِب. الرَّابِع: يزِيد، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الزَّاي: أَبُو خصيفَة، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفتح الصَّاد الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالفاء: ابْن أخي السَّائِب الْمَذْكُور فِيهِ، وخصيفة جده، وَأَبوهُ عبد ابْن خصيفَة، وَقد نسب إِلَى جده. الْخَامِس: السَّائِب، بِالسِّين الْمُهْملَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة ابْن أُخْت النمر الْكِنْدِيّ الصَّحَابِيّ، وَقد تقدم فِي بَاب اسْتِعْمَال فضل وضوء النَّاس، وروى ثمَّة الجعيد عَن السَّائِب بِدُونِ وَاسِطَة، وَهَهُنَا روى عَنهُ بِوَاسِطَة، يزِيد، وروى حَاتِم بن إِسْمَاعِيل هَذَا الحَدِيث عَن الجعيد عَن السَّائِب بِلَا وَاسِطَة، أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ، وَصَحَّ سَماع الْجَعْد عَن الساب كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن، فَلَا يكون هَذَا الِاخْتِلَاف قادحاً، وروى عبد الرَّزَّاق هَذَا من طَرِيق أُخْرَى عَن نَافِع قَالَ: (كَانَ عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، يَقُول: لَا تكثروا للغط. فَقَالَ: إِن مَسْجِدنَا هَذَا لَا يرفع فِيهِ الصَّوْت) . الحَدِيث، وَهَذَا فِيهِ انْقِطَاع لِأَن نَافِعًا لم يدْرك هَذَا الزَّمَان.
ذكر لطائف إِسْنَاده. فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مديني ومدني وبصري. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَاله كَمَا ذكرنَا.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (كنت قَائِما) ، وَقع فِي الْأُصُول بِالْقَافِ، ويروى: (نَائِما) ، بالنُّون وَيُؤَيّد هَذِه الرِّوَايَة مَا ذكره الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي يعلى حدّثنا مُحَمَّد بن عباد حدّثنا حَاتِم بن إِسْمَاعِيل عَن الجعيد عَن السَّائِب، قَالَ: (كنت مُضْطَجعا فحصبني إِنْسَان) . قَوْله: (فحصبني) ، من: حصبت الرجل أحصبه، بِالْكَسْرِ: رميته بالحصباء. قَوْله: (إِذا هُوَ عمر بن الْخطاب) كلمة؛ إِذا، للمفاجأة وَهُوَ: مُبْتَدأ وَعمر: خَبره، ويروى: فَإِذا عمر بن الْخطاب، فعلى هَذَا: عمر، مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره؛ فَإِذا عمر حَاضر، أَو: وَاقِف. قَوْله: (فَقَالَ: اذْهَبْ) ، أَي: فَقَالَ عمر للسائب: إذهب. قَوْله: (فَاتَنِي بِهَذَيْنِ) ، يَعْنِي: بِهَذَيْنِ الشخصين وَكَانَا ثقفيين، كَذَا فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق. قَوْله: (لأوجعتكما) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (لأوجعتكما جلدا) . قَوْله: (ترفعان) ، خطاب لهذين الْإِثْنَيْنِ، وَهِي جملَة استئنافية، وَهِي فِي الْحَقِيقَة جَوَاب عَن سُؤال مُقَدّر، كَأَنَّهُمَا قَالَا: لم توجعن؟ قَالَ: لأنكما ترفعان أصواتكما فِي مَسْجِد رَسُول ا. فَإِن قلت: مَا وَجه الْجمع فِي أصواتكما، مَعَ أَن الْمَوْجُود صوتان لَهما؟ قلت: الْمُضَاف الْمثنى معنى، إِذا كَانَ جُزْء مَا أضيف إِلَيْهِ، الْأَفْصَح أَن يذكر بِالْجمعِ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فقد صغت قُلُوبكُمَا} (التَّحْرِيم: 4) وَيجوز إِفْرَاده نَحْو: أكلت رَأس شَاتين، والتثنية مَعَ أصالتها قَليلَة الِاسْتِعْمَال، وَإِن لم يكن جزءه فالأكثر

(4/249)


مَجِيئه بِلَفْظ التَّثْنِيَة، نَحْو: سلَّ الزيدان سيفيهما، وَإِن أَمن اللّبْس جَازَ جلّ الْمُضَاف بِلَفْظ الْجمع، كَمَا فِي قَوْله: (يعذبان فِي قبورهما) وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (برفعكما أصواتكما) ، أَي: بِسَبَب رفعكما أصواتكما.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ. مَا قَالَه ابْن بطال: قَالَ بَعضهم: أما إِنْكَار عمر فلأنهما رفعا أصواتهما فِيمَا لَا يحتاجان إِلَيْهِ من اللَّغط الَّذِي لَا يجوز فِي الْمَسْجِد، وَإِنَّمَا سَأَلَهُمَا من أَيْن أَنْتُمَا ليعلم أَنَّهُمَا إِن كَانَا من أهل الْبَلَد وعلما أَن رفع الصَّوْت فِي الْمَسْجِد باللغط فِيهِ غير جَائِز زجرهما وأدبهما، فَلَمَّا أخبراه أَنَّهُمَا من غير الْبَلَد عُذْرهمَا بِالْجَهْلِ. وَفِيه: مَا يدل على جَوَاز قبُول اعتذار أهل الْجَهْل بالحلم إِذا كَانَ فِي شَيْء يخفى مثله. وَفِيه: جَوَاز تَأْدِيب الإِمَام من يرفع صَوته فِي الْمَسْجِد باللغط وَنَحْو ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: هَذَا الحَدِيث لَهُ حكم الرّفْع لِأَن عمر لَا يتوعد الرجلَيْن الْمَذْكُورين بِالْجلدِ إلاَّ على مُخَالفَة أَمر توفيقي. قلت: لَا نسلم ذَلِك لِأَنَّهُ يجوز أَن يكون ذَلِك بِاجْتِهَادِهِ ورأيه.

174 - ح دّثنا أحَمدُ قَالَ حدّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ بنُ يَزِيدَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدّثني عَبْدُ اللَّهِ بنُ كَعْبِ بنِ مالِكٍ أنَّ كَعْبَ بنَ مَالِكٍ أخْبَرَهُ أنَّهُ تَقاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَيْناً لَهُ عليهِ فِي عَهْدِ رسولِ اللَّهِ فِي المَسْجِدِ فَارْتَفَعَتْ أصْوَاتُهُما حَتَّى سَمِعَهَا رَسولُ اللَّهِ وَهْوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ إِلَيْهِما رسولُ اللَّهِ حَتَّى كَشَفَ سِجْفَ حُجْرَتِهِ ونادَى يَا كَعْبُ بنَ مالِكٍ قَالَ لَبيْكَ يَا رسولَ اللَّهِ فأشَارَ بِيَدِهِ أنْ ضَعِ الشَّطْرَ منْ دَيْنِكَ قَالَ كَعْبٌ قَدْ فَعَلْتُ يَا رسولَ اللَّهِ قَالَ رسولُ اللَّهِ قُمْ فاقْضِهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الِاحْتِمَال الثَّانِي، وَهُوَ: عدم الْمَنْع.
ذكر رِجَاله. وهم سِتَّة: الأول: أَحْمد، قَالَ الغساني: قَالَ البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة فِي موضِعين: حدّثنا أَحْمد قَالَ: حدّثنا ابْن وهب، فَقَالَ ابْن السكن: هُوَ أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ. قلت: وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْفربرِي: حدّثنا أَحْمد بن صَالح. وَقَالَ الْحَاكِم فِي (الْمدْخل) : إِنَّه هُوَ، وَقيل: إِنَّه أَحْمد بن عِيسَى التسترِي، وَلَا يَخْلُو أَن يكون وَاحِدًا مِنْهُمَا. وَقَالَ الكلاباذي: قَالَ لي ابْن مَنْدَه الْأَصْفَهَانِي: كل مَا قَالَه البُخَارِيّ فِي (الْجَامِع) : أَحْمد عَن ابْن وهب، هُوَ: أَحْمد ابْن صَالح الْمصْرِيّ. الثَّانِي: عبد ابْن وهب الْمصْرِيّ. الثَّالِث: يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبد ابْن كَعْب بن مَالك. السَّادِس: أَبوهُ كَعْب بن مَالك الْأنْصَارِيّ السّلمِيّ الْمدنِي الشَّاعِر.
وَهَذَا الحَدِيث مَعَ تَحْقِيق مَعْنَاهُ وفوائده قد مضى فِي بَاب التقاضي والملازمة فِي الْمَسْجِد قبل مِقْدَار عشرَة أَبْوَاب.
قَوْله: (حَتَّى سَمعهَا) ، أَي: حَتَّى سمع النَّبِي، أصواتهما: وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: حَتَّى سمعهما. وَا تَعَالَى أعلم.

48 - (بابُ الحِلَقِ وَالْجُلُوسِ فِي المَسْجِدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْحلق وَالْجُلُوس فِي الْمَسْجِد، يَعْنِي: يجوز ذَلِك خُصُوصا إِذا كَانَ لعلم أَو ذكر أَو قِرَاءَة قُرْآن. قَوْله: (الْحلق) ، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح اللَّام، كَذَا قَالَه الْخطابِيّ فِي (إصْلَاح الْغَلَط) . وَقَالَ ابْن التِّين: الْحلق، بِفَتْح الْحَاء وَاللَّام: جمع حَلقَة، مثل تَمْرَة وتمر. وَفِي (الْمُحكم) : الْحلقَة كل شَيْء اسْتَدَارَ كحلقة الْحَدِيد وَالْفِضَّة وَالذَّهَب، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي النَّاس، وَالْجمع: حلاق، على الْغَالِب، و: حلق على النَّادِر: هضبة وهضب، وَالْحلق: عِنْد سِيبَوَيْهٍ اسْم للْجمع وَلَيْسَ بِجمع لِأَن فعلة لَيست مِمَّا يكسر على فعل، وَنَظِير هَذَا مَا حَكَاهُ من قَوْلهم؛ فلكة وفلك، وَقد حكى سِيبَوَيْهٍ فِي: الْحلقَة، فتح اللَّام، وَأنْكرهُ ابْن السّكيت يكسر على فعل، وَنَظِير هَذَا مَا حَكَاهُ من قَوْلهم: فلكة وفلك، وَقد حكى سِيبَوَيْهٍ فِي: الْحلقَة، فتح اللَّام، وأنكرها ابْن السّكيت وَغَيره. وَقَالَ اللحياني: حَلقَة الْبَاب وحلقته بِإِسْكَان اللَّام وَفتحهَا، وَقَالَ كرَاع: حَلقَة الْقَوْم وحلقتهم، وَحكى الْأمَوِي: حَلقَة الْقَوْم وحلاق، وَحكى أَبُو يُونُس عَن أبي عمر بن الْعَلَاء: حَلقَة فِي الْوَاحِد بِالتَّحْرِيكِ وَالْجمع: حلقات وَفِي (الموعب) : الْحلق مُؤَنّثَة فِي الْقيَاس إِلاَّ أَنِّي رايته فِي رجزدكين مذكراً، وَبَلغنِي أَن بَعضهم يَقُول: الْحلقَة، بِالتَّحْرِيكِ وَهِي لُغَة قَليلَة، فجَاء التَّذْكِير

(4/250)


على هَذَا، وَحكى مكي عَن الْخَلِيل: بِالتَّحْرِيكِ. قَالَ الفرزدق:
(يَا أَيهَا الْجَالِس فِي وسط الْحلقَة ... أَفِي زنا جلدت أم فِي سَرقَة)

وَفِي (الْمُجَرّد) لكراع: حَلقَة الْقَوْم، وحلقة، وحلقة وَالْجمع: حلق وَحلق وحلاق.

274131 - ح دّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ عنْ نافِعٍ عنِ ابِنِ عُمَرَ قَالَ سَأَلَ رَجُلٌ النبيَّ وَهُوَ عَلَى المِنْبَرِ مَا تَرَى فِي صَلاَةِ اللَّيْلِ قَالَ مَثْنَى مَثْنَى فإِذَا خَشِيَ الصُّبْحَ صلَّى وَاحِدَةً فأَوْتَرَتْ لَهُ مَا صَلَّى وإنَّهُ كانَ يَقُولُ اجْعَلُوا آخِرَ صَلاَتِكُمْ وتْراً فإِنَّ النَّبيَّ أمَرَ بِهِ. (الحَدِيث 274 أَطْرَافه فِي: 374، 099، 399، 599، 7311) .
11

- مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للجزء الثَّانِي من التَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن كَون النَّبِي على الْمِنْبَر يدل على كَون جمَاعَة جالسين فِي الْمَسْجِد، وَمِنْهُم الرجل الَّذِي سَأَلَهُ عَن صَلَاة اللَّيْل، وَهَذَا لم يعرف اسْمه. وَقَالَ ابْن بطال: شبه البُخَارِيّ فِي الحَدِيث جُلُوس الرِّجَال فِي الْمَسْجِد حول النَّبِي وَهُوَ يخْطب: بِالْحلقِ، وَالْجُلُوس فِي الْمَسْجِد للْعلم. انْتهى قلت: فعلى هَذَا طابق الحَدِيث جزئي التَّرْجَمَة كليهمَا.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد، وَقد تكَرر ذكره. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل، على صِيغَة الْمَفْعُول، مر فِي بَاب قَول النَّبِي: (رب مبلغ أوعى) . الثَّالِث: عبيد ابْن عمر الْعمريّ، مر فِي بَاب الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْإِبِل. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد ابْن عمر رَضِي اعنهم.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي هَذَا الْبَاب على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ اتعالى عَن أبي النُّعْمَان، وَأخرجه أَيْضا عَن عبد ابْن يُوسُف عَن مَالك عَن نَافِع وَعبد ابْن دِينَار عَن ابْن عمر. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ فِي (مَعَاني الْآثَار) من اثْنَي عشر طَرِيقا.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه قَوْله: (وَهُوَ على الْمِنْبَر) جملَة حَالية. قَوْله: (مَا ترى؟) يحْتَمل أَن يكون من الرَّأْي، أَي: مَا رَأْيك؟ وَأَن يكون من الرُّؤْيَة الَّتِي هِيَ الْعلم، وَالْمرَاد لَازِمَة أَي: مَا حكمت؟ إِذْ الْعَالم يحكم بِعِلْمِهِ شرعا. قَوْله: (مثنى مثنى) مقول القَوْل، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة جملَة لِأَن مقول القَوْل يكون جملَة، فالمبتدأ مَحْذُوف تَقْدِيره: صَلَاة اللَّيْل مثنى مثنى، أَي: اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ، وَالثَّانِي تَأْكِيد للْأولِ، وَهُوَ غير منصرف لِأَن فِيهِ الْعدْل الْحَقِيقِيّ وَالصّفة. قَوْله: (فأوترت) على صِيغَة الْمَاضِي، أَي: أوترت تِلْكَ الْوَاحِد، لَهُ، أَي: للْمُصَلِّي. قَوْله: (مَا صلى) ، جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا مفعول أوترت، وَالْفَاعِل فِيهِ الضَّمِير الَّذِي يرجع إِلَى الْوَاحِدَة. قَوْله: (وَأَنه) ، جملَة استئنافية، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى ابْن عمر، وَالْقَائِل هُوَ نَافِع. قَوْله: (بِاللَّيْلِ) ، وَقعت فِي رِوَايَة الْكشميهني والأصيلي. فَقَط. قَوْله: (أَمر بِهِ) ، أَي: بالوتر، أَو بالجعل الَّذِي يدل عَلَيْهِ قَوْله: (اجعلوا) .
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الْحلق فِي الْمَسْجِد للْعلم وَالذكر وَقِرَاءَة الْقُرْآن وَنَحْو ذَلِك فَإِن قلت: روى مُسلم من حَدِيث جَابر بن سَمُرَة، قَالَ: (دخل رَسُول الله الْمَسْجِد وهم حلق، فقافل: مَالِي أَرَاكُم عزين؟) فَهَذَا يُعَارض ذَلِك قلت: تحلقهم هَذَا كَانَ لغير فَائِدَة وَلَا مَنْفَعَة، بِخِلَاف تحلقهم فِي ذَلِك، لِأَنَّهُ كَانَ لسَمَاع الْعلم والتعلم، فَلَا مُعَارضَة. وَفِيه: أَن الْخَطِيب إِذا سُئِلَ عَن أَمر الدّين لَهُ أَن يُجَاوب من سَأَلَهُ، وَلَا يضر ذَلِك خطبَته. وَفِيه: أَن صَلَاة اللَّيْل رَكْعَتَانِ.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي النَّوَافِل، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: السّنة أَن تكون مثنى مثنى لَيْلًا وَنَهَارًا. قَالَ أَبُو حنيفَة: الْأَفْضَل الْأَرْبَع لَيْلًا وَنَهَارًا. وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد: الْأَفْضَل بِاللَّيْلِ رَكْعَتَانِ، وبالنهار أَربع. وَاحْتج أَبُو حنيفَة فِي صَلَاة اللَّيْل بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي (سنَنه) من حَدِيث عَائِشَة (أَنَّهَا سُئِلت عَن صَلَاة رَسُول ا، فِي جَوف اللَّيْل، فَقَالَت: كَانَ يُصَلِّي صَلَاة الْعشَاء فِي جمَاعَة. ثمَّ يرجع إِلَى أَهله فيركع أَربع رَكْعَات، ثمَّ يأوي إِلَى فرَاشه) الحَدِيث بِطُولِهِ. وَفِي آخِره: (حَتَّى قبض على ذَلِك) ، وَاحْتج فِي صَلَاة النَّهَار بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث معَاذَة (أَنَّهَا سَأَلت عَائِشَة: كم كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي الضُّحَى؟

(4/251)


قَالَت: أَربع رَكْعَات يزِيد مَا شَاءَ) ، رَوَاهُ أَبُو يعلى فِي مُسْنده، وَفِيه: (لَا يفصل بَينهُنَّ بِسَلام) . فَإِن قلت: روى الْأَرْبَعَة عَن ابْن عمر أَن النَّبِي قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، قلت: لما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ سكت عَنهُ، إلاَّ أَنه قَالَ: اخْتلف أَصْحَاب شُعْبَة فِيهِ، فرفعه بَعضهم وَوَقفه بَعضهم، وَرَوَاهُ الثِّقَات عَن عبد ابْن عمر عَن النَّبِي وَلم يذكر فِيهِ صَلَاة النَّهَار، وَقَالَ النَّسَائِيّ: هَذَا الحَدِيث عِنْدِي خطأ، وَقَالَ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) إِسْنَاد جيد إلاَّ أَن جمَاعَة من أَصْحَاب ابْن عمر خالفوا الْأَزْدِيّ فِيهِ، فَلم يذكرُوا فِيهِ النَّهَار، مِنْهُم: سَالم وَنَافِع وَطَاوُس. والْحَدِيث فِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جمَاعَة عَن ابْن عمر وَلَيْسَ فِيهِ ذكر النَّهَار، وروى الطَّحَاوِيّ عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُصَلِّي بِالنَّهَارِ أَرْبعا. وبالليل رَكْعَتَيْنِ، ثمَّ قَالَ: فمحال أَن يروي ابْن عمر عَن رَسُول الله شَيْئا ثمَّ يُخَالف ذَلِك، فَعلم بذلك أَنه كَانَ مَا رُوِيَ عَنهُ عَن رَسُول الله ضَعِيفا، أَو كَانَ مَوْقُوفا غير مَرْفُوع. فَإِن قلت: روى الْحَافِظ أَبُو نعيم فِي (تَارِيخ اصفهان) : عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة قَالَت: قَالَ رَسُول ا: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ، وروى إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) عَنهُ قَالَ: (صَلَاة اللَّيْل وَالنَّهَار مثنى مثنى) ؟ قلت: الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم أصح مِنْهُمَا وَأقوى وَأثبت، وعَلى تَقْدِير التَّسْلِيم نقُول: مَعْنَاهُ شفعاً لَا وترا، بسبيل إِطْلَاق اسْم الْمَلْزُوم على اللَّازِم مجَازًا جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ.
وَفِيه إِن قَوْله: (فَإِذا خشِي أحدكُم الصُّبْح صلى وَاحِدَة) ، احْتج بِهِ من يَقُول: إِن الْوتر رَكْعَة وادة، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث ابْن مجلز، قَالَ: سَمِعت ابْن عمر يحدث عَن النَّبِي قَالَ: (الْوتر رَكْعَة من آخر اللَّيْل) ، وَإِلَيْهِ ذهب عَطاء بن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن الْمسيب وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَإِسْحَاق وَدَاوُد، وهم جعلُوا هَذَا الحَدِيث أصلا فِي الإيتار بِرَكْعَة، إلاَّ أَن مَالِكًا قَالَ: وَلَا بُد أَن يكون قبلهَا شفع ليسلم بَينهُنَّ فِي الْحَضَر وَالسّفر، وَعنهُ: لَا بَأْس أَن يُوتر الْمُسَافِر بِوَاحِدَة، وَكَذَا فعله سَحْنُون فِي مَرضه، وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: الرَّكْعَة الْوَاحِدَة لم تشرع إلاَّ فِي الْوتر، وَفعله أَبُو بكر وَعمر، وَرُوِيَ عَن عُثْمَان وَسعد بن أبي وَقاص وَابْن عَبَّاس وَمُعَاوِيَة وَأبي مُوسَى وَابْن الزبير وَعَائِشَة رَضِي اتعالى عَنْهُم.
وَقَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَأحمد، فِي رِوَايَة الْحسن بن حَيّ وَابْن الْمُبَارك: الْوتر ثَلَاث رَكْعَات لَا يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ كَصَلَاة الْمغرب، وَقَالَ أَبُو عمر: يرْوى ذَلِك عَن عمر بن الْخطاب، وَعلي ابْن أبي طَالب وَعبد ابْن مَسْعُود وَأبي بن كَعْب وَزيد بن ثَابت وَأنس بن مَالك وَأبي أُمَامَة وَحُذَيْفَة وَالْفُقَهَاء السَّبْعَة، وَأَجَابُوا عَمَّا احتجت بِهِ أهل الْمقَالة الأولى من الحَدِيث الْمَذْكُور وَنَحْوه فِي هَذَا الْبَاب بِأَن قَوْله: (الْوتر رَكْعَة من آخر اللَّيْل) ، يحْتَمل مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ، وَيحْتَمل أَن يكون رَكْعَة مَعَ شفع تقدمها، وَذَلِكَ كُله وتر، فَتكون تِلْكَ الرَّكْعَة توتر الشفع الْمُتَقَدّم لَهَا، وَقد بَين ذَلِك آخر حَدِيث الْبَاب الَّذِي احْتج بِهِ هَؤُلَاءِ، وَهُوَ قَوْله: (فأوترت لَهُ مَا صلى) ، وَكَذَلِكَ قَوْله فِي الحَدِيث الثَّانِي من هَذَا الْبَاب: (فأوتر بِوَاحِدَة توتر لَك مَا قد صليت) ، وَآخر حَدِيثهمْ حجَّة عَلَيْهِم، وروى التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) : عَن عَليّ رَضِي اتعالى عَنهُ، أَن رَسُول ا: (كَانَ يُوتر بِثَلَاث) ، الحَدِيث، وروى الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) عَن عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول ا، يُوتر بِثَلَاث لَا يعْقد إلاَّ فِي آخِره) ، وروى النَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن زُرَارَة عَن سعيد بن هِشَام عَن عَائِشَة، قَالَت: (كَانَ رَسُول ا، لَا يسلم فِي رَكْعَتي الْوتر) . وَقَالَ الْحَاكِم: لَا يسلم فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين من الْوتر، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ، وروى الإِمَام مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي من حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: (أَن النَّبِي، كَانَ يُوتر بِثَلَاث) الحَدِيث، وروى مُسلم وَأَبُو دَاوُد من رِوَايَة عَليّ بن عبد ابْن عَبَّاس عَن أَبِيه أَنه رقد عِنْد رَسُول الله فَذكر الحَدِيث.
وَفِيه؛ ثمَّ أوتر بِثَلَاث، وروى النَّسَائِيّ من رِوَايَة يحيى بن الجزار عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (كَانَ رَسُول الله يُصَلِّي من اللَّيْل ثَمَان رَكْعَات ويوتر بِثَلَاث) ، وروى أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه، من رِوَايَة عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أبي بن كَعْب: (أَن رَسُول الله كَانَ يُوتر بِثَلَاث رَكْعَات) ، وروى ابْن مَاجَه من رِوَايَة الشّعبِيّ، قَالَ: سَأَلت عبد ابْن عَبَّاس وَعبد ابْن عمر رَضِي اتعالى عَنْهُم، عَن صَلَاة رَسُول الله فَقَالَا: ثَلَاث عشرَة، مِنْهَا: ثَمَان بِاللَّيْلِ ويوتر بِثَلَاث وَرَكْعَتَيْنِ بعد الْفجْر، وروى الدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) من حَدِيث عبد ابْن مَسْعُود، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (وتر اللَّيْل ثَلَاث كوتر النَّهَار: صَلَاة الْمغرب) . وروى

(4/252)


مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي من حَدِيث أنس بن مَالك: (أَن النَّبِي كَانَ يُوتر بِثَلَاث) وروى أَيْضا من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن أَبْزَى عَن أَبِيه: (أَن رَسُول الله كَانَ يُوتر بِثَلَاث) ، وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) قَالَ: حدّثنا حَفْص عَن عَمْرو عَن الْحسن، قَالَ: أجمع الْمُسلمُونَ على أَن الْوتر ثَلَاث لَا يسلم إِلَّا فِي آخِرهنَّ. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي، قَالَ: (لَا توتروا بِثَلَاث وأوتروا بِخمْس أَو بِسبع، وَلَا تشبهوا بِصَلَاة الْمغرب) . قلت: رُوِيَ هَذَا مَوْقُوفا على أبي هُرَيْرَة، كَمَا رُوِيَ مَرْفُوعا، وَمَعَ هَذَا هُوَ معَارض بِحَدِيث عَليّ وَعَائِشَة وَمن ذكرنَا مَعَهُمَا من الصَّحَابَة، وَأَيْضًا إِن قَوْله: (لَا توتروا بِثَلَاث) ، يحْتَمل كَرَاهَة الْوتر من غير تطوع قبله من الشفع، وَيكون الْمَعْنى: لَا توتروا بِثَلَاث رَكْعَات وَحدهَا من غير أَن يتقدمها شَيْء من التَّطَوُّع الفع، بل أوتروا هَذِه الثَّلَاث مَعَ شفع قبلهَا لتَكون خمْسا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله: (واوتروا بِخمْس) أَو: أوتروا هَذِه الثَّلَاث مَعَ شفعين قبلهَا لتَكون سبعا، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله: (أَو بِسبع) أَي: أوتروا بِسبع رَكْعَات: أَربع تطوع وَثَلَاث وتر، وَلَا تفردوا هَذِه الثَّلَاث كَصَلَاة الْمغرب لَيْسَ قبلهَا شَيْء، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله: (وَلَا تشبهوا بِصَلَاة الْمغرب) وَمَعْنَاهُ: لَا تشبهوا بِصَلَاة الْمغرب فِي كَونهَا مُنْفَرِدَة عَن تطوع قبلهَا، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ: لَا تشبهوا بِصَلَاة الْمغرب فِي كَونهَا ثَلَاث رَكْعَات. وَالنَّهْي لَيْسَ بوارد على تَشْبِيه الذَّات بِالذَّاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَارِد على تَشْبِيه الصّفة بِالصّفةِ، وَمَعَ هَذَا فِيمَا ذكره نفي أَن تكون الرَّكْعَة الْوَاحِدَة وترا، لِأَنَّهُ أَمر بالإيتار بِخمْس أَو بِسبع لَيْسَ إلاَّ. فَافْهَم. فَإِن قلت: قَالَ مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي: لم نجد عَن النَّبِي خَبرا ثَابتا مُفَسرًا أَنه أوتر بِثَلَاث لم يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ، كَمَا وجدنَا فِي الْخمس والبسع وَالتسع، غير أَنا وجدنَا عَنهُ أَخْبَارًا أَنه أوتر بِثَلَاث لَا ذكر للتسليم فِيهَا؟ قلت: يرد عَلَيْهِ مَا ذَكرْنَاهُ من (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث عَائِشَة: أَنه إِن يُوتر بِثَلَاث لَا يقْعد إلاَّ فِي آخِرهنَّ، وَفِي حَدِيث أبي بن كَعْب: لَا يسلم إلاَّ فِي آخِرهنَّ، وَقد قيل: لَعَلَّ مُحَمَّد بن نصر لَا يرى هَذَا ثَابتا. قلت: هَذَا تعصب لَا يجدي وَلَا يلْزم من عدم رُؤْيَته ثَابتا أَن لَا يكون ثَابتا عِنْد غَيره.
وَفِيه: إِن قَوْله: اجعلوا آخر صَلَاتكُمْ ... إِلَى آخِره، دَلِيل على أَن ذَلِك يَقْتَضِي الْوُجُوب لظَاهِر الْأَمر بِهِ، وَلكنه مُسْتَحبّ فِي حق من لَا يغلبه النّوم، فَإِن كَانَ يغلبه وَلَا يَثِق بالانتباه أوتر قبله.

474331 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَنْ إِسْحَاقَ بنِ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أبي طَلْحَة

(4/253)


َ أنَّ أَبَا مُرَّةَ مَوْلَى عَقِيلِ بنِ أبي طالِبٍ أخْبَرَهُ عنْ أبي وَاقِدٍ اللَّيْثِيَّ قَالَ بَيْنَمَا رسولُ اللَّهِ فِي المَسْجِدِ فَأَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَر فَأَقْبَلَ اثْنانِ إِلَى رَسولِ اللَّهِ وذَهَبَ وَاحِدٌ فَأَمَّا أَحَدُهُما فَرَأَى فُرْجَةً فَجَلَسَ وَأَما الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ وَأَمَّا الآخَرُ فأدْبَرَ ذَاهِباً فَلَمَّا فَرَغَ رَسولُ اللَّهِ قَالَ أَلاَ أُخْبرُكمْ عنِ الثَّلاَثَةِ أَمَّا أحَدُهُمْ فأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ وأمَّا الآخَرُ فاسْتَحْيَا فاستَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ. (انْظُر الحَدِيث 66) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة خُصُوصا فِي قَوْله: (فَرَأى فُرْجَة فِي الْحلقَة) ، وَهَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه بِهَذَا الْإِسْنَاد قد مر فِي كتاب الْعلم فِي بَاب: من قعد حَيْثُ يَنْتَهِي بِهِ الْمجْلس. وَمن رأى فُرْجَة فِي الْحلقَة فَجَلَسَ فِيهَا، غير أَن شيخ البُخَارِيّ هُنَاكَ: إِسْمَاعِيل عَن مَالك، وَهَهُنَا: عبد ابْن يُوسُف عَن مَالك. وَقد تكلمنا هُنَاكَ بِمَا فِيهِ الْكِفَايَة. قَوْله: (أَبَا مرّة) بِضَم الْمِيم، و: (عقيل) ، بِفَتْح الْعين، و: (وَاقد) بِالْقَافِ. قَوْله: (فأوي إِلَى ا) ، بِالْقصرِ، وَقَوله: (فآواه ا) ، بِالْمدِّ.

58 - (بابُ الاسْتِلْقَاءِ فِي المَسْجِدِ وَمَدِّ الرِّجْلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الاستلقاء فِي الْمَسْجِد، والاستلقاء مصدر: اسْتلْقى، وثلاثيه من: لَقِي يلقى، فَنقل إِلَى بَاب: الاستفعال، فَقيل: اسْتلْقى على قَفاهُ. ذكره الْجَوْهَرِي فِي بَاب اللِّقَاء، وَذكر فِيهِ: واستلقى على قَفاهُ، ومصدره إِذن يكون: الاستلقاء. وَذكره ابْن الْأَثِير فِي بَاب: سلنق يسلنق ومستلق: بالنُّون فِي الأول، وَالتَّاء فِي الثَّانِي، وَالصَّحِيح مَا ذكره الْجَوْهَرِي.

574431 - ح دّثنا عَبْدُ اللَّهِ بنُ مسْلَمَة عنْ مالِكٍ عَن ابنِ شِهَابٍ عنْ عَبَّادِ بنِ تَمِيمٍ عَنْ عَمِّهِ أنَّهُ رَأى رسولَ اللَّهِ مُسْتَلْقياً فِي المَسْجِدِ وَاضِعَاً إحْدَى رجْلَيْهِ عَلَى الأُخْرَى. (الحَدِيث 574 طرفاه فِي: 9695، 7826) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: عبد ابْن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: عباد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم فِي بَاب: لَا يتَوَضَّأ من الشَّك. الْخَامِس: عَمه عبد ابْن زيد بن عَاصِم الْمَازِني، تقدم فِي هَذَا الْبَاب أَيْضا.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: الرُّؤْيَة. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عَمه. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره. أخرجه البُخَارِيّ فِي اللبَاس عَن أَحْمد بن يُونُس عَن إِبْرَاهِيم بن سعد، وَفِي الاسْتِئْذَان عَن عَليّ بن عبد اعن سُفْيَان. وَأخرجه مُسلم فِي اللبَاس عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد ابْن نمير وَزُهَيْر بن حَرْب وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، خمستهم عَن سُفْيَان بِهِ، وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وحرملة، وَكِلَاهُمَا عَن ابْن وهب عَن يُونُس وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عبد بن حميد، كِلَاهُمَا عَن عبد الرَّزَّاق عَن معمر، كِلَاهُمَا عَن الزُّهْرِيّ بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْأَدَب عَن القعْنبِي والنفيلي، كِلَاهُمَا عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الاسْتِئْذَان عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن عَن سُفْيَان بِهِ، وَقَالَ: حسن صَحِيح. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن قُتَيْبَة عَن مَالك بِهِ.
ذكر إعرابه وَمَا يُسْتَفَاد مِنْهُ. قَوْله: (رأى) بِمَعْنى: أبْصر، فَلذَلِك اكْتفى بمفعول وَاحِد. قَوْله: (مُسْتَلْقِيا) حَال، وَكَذَلِكَ: (وَاضِعا) ، كِلَاهُمَا من رَسُول الله وهما حالان مترادفتان، وَيجوز أَن يكون: وَاضِعا، حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي: مُسْتَلْقِيا، فعلى هَذَا يكون الحالان متداخلتين.
وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: بَيَان جَوَاز هَذَا الْفِعْل، وَالنَّهْي الْوَارِد عَن ذَلِك مَنْسُوخ بِهَذَا الحَدِيث. قلت: النَّهْي هُوَ مَا روى جَابر بن عبد ا: (أَن رَسُول ا، نهى أَن يضع الرجل إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى وَهُوَ مستلق) . وَأجَاب: الْخطابِيّ عَن النَّهْي بِجَوَاب آخر، وَهُوَ: أَن عِلّة النَّهْي عَنهُ أَن تبدو عَورَة الْفَاعِل لذَلِك، فَإِن الْإِزَار رُبمَا ضَاقَ، فَإِذا شال لابسه إِحْدَى رجلَيْهِ فَوق الْأُخْرَى بقيت هُنَاكَ فُرْجَة تظهر مِنْهَا عَوْرَته. وَمِمَّنْ جزم

(4/254)


بِأَنَّهُ مَنْسُوخ ابْن بطال. وَقَالَ بَعضهم: محمل النَّهْي حَيْثُ يخْشَى أَن تبدو عَورَة الْفَاعِل أولى من ادِّعَاء النّسخ، لِأَنَّهُ لَا يثبت بِالِاحْتِمَالِ. قلت: الْقَائِل بالنسخ مَا ادّعى أَن النّسخ بِالِاحْتِمَالِ، وَإِنَّمَا جزم بِهِ، فَكيف يدعى الْأَوْلَوِيَّة بِالِاحْتِمَالِ؟ وَيُقَوِّي دَعْوَى النّسخ مَا رُوِيَ عَن عمر وَعُثْمَان أَنَّهُمَا كَانَا يفْعَلَانِ ذَلِك، على مَا نذكرهُ إِن شَاءَ اتعالى، وَيُقَال: يحْتَمل أَن يكون الشَّارِع فعل ذَلِك لضَرُورَة، أَو كَانَ ذَلِك بِغَيْر محْضر جمَاعَة، فجلوس رَسُول الله فِي الْجَامِع كَانَ على خلاف ذَلِك من التربع والاحتباء، وجلسات الْوَقار والتواضع. وَفِيه: جَوَاز الاتكاء فِي الْمَسْجِد والاضطجاع، وأنواع الاسْتِرَاحَة غير الانبطاح، وَهُوَ الْوُقُوع على الْوَجْه، فَإِن النَّبِي قد نهى عَنهُ، وَقَالَ: إِنَّهَا ضجعة يبغضها اتعالى.
وعنِ ابنِ شهِابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ قَالَ كانَ عُمَرُ وَعُثْمانُ يَفْعَلاَنِ ذَلِكَ.

قَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون هَذَا تَعْلِيقا، وَأَن يكون دَاخِلا تَحت الْإِسْنَاد السَّابِق، أَي: عَن مَالك عَن ابْن شهَاب، وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعَن ابْن شهَاب ... إِلَى آخِره، سَاقه البُخَارِيّ بالسند الأول، وَقد صرح بِهِ أَبُو دَاوُد، وَزَاد أَبُو مَسْعُود فِيمَا حَكَاهُ الْحميدِي فِي جمعه، فَقَالَ: إِن أَبَا بكر وَعمر وَعُثْمَان كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِك. وَقد أخرج البرقاني هَذَا الْفَصْل من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن سعد عَن الزُّهْرِيّ مُتَّصِلا بِالْحَدِيثِ الأول، وَلم يذكر سعيد بن الْمسيب، وَسَعِيد لم يَصح سَمَاعه عَن عمر رَضِي اتعالى عَنهُ، وَأدْركَ ثَمَان وَلم يحفظ لَهُ عَنهُ رِوَايَة عَن رَسُول ا. وَقَالَ بَعضهم: وَعَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب. مَعْطُوف على الْإِسْنَاد الأول، وَقد صرح بذلك أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته عَن القعْنبِي، وَهُوَ كَذَلِك فِي (الْمُوَطَّأ) ، وغفل عَن ذَلِك من زعم أَنه مُعَلّق.
قلت: يُرِيد بِهِ الْكرْمَانِي، والكرماني مَا جزم بِأَنَّهُ مُعَلّق، بل قَالَ: يحْتَمل، وَهُوَ صَحِيح بِحَسب الظَّاهِر وتصريح أبي دَاوُد بذلك فِي كِتَابه لَا يدل على أَن هَذَا دَاخل فِي الْإِسْنَاد الْمَذْكُور هَهُنَا قطعا، وَرِوَايَة أبي دَاوُد هَكَذَا: حدّثنا القعْنبِي عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب أَن عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان بن عَفَّان كَانَا يفْعَلَانِ ذَلِك، أَي: الْمَذْكُور من الاستلقاء والوضع. قلت: اخْتلف جمَاعَة من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ وَغَيرهم فِي هَذَا الْبَاب، فَذهب مُحَمَّد بن سِيرِين وَمُجاهد وَطَاوُس وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ إِلَى أَنه يكره وضع إِحْدَى الرجلَيْن على الْأُخْرَى، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَكَعب بن عجْرَة، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: لَا بَأْس بذلك، وهم: الْحسن الْبَصْرِيّ وَالشعْبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وَأَبُو مجلز وَمُحَمّد بن الْحَنَفِيَّة، ويروى ذَلِك عَن أُسَامَة بن زيد وَعبد ابْن عمر وَأَبِيهِ عمر بن الْخطاب وَعُثْمَان وَعبد ابْن مَسْعُود وَأنس بن مَالك. وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حدّثنا وَكِيع عَن عبد الْعَزِيز بن الْمَاجشون عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب: أَن عمر وَعُثْمَان كَانَا يفعلانه، حدّثنا يحيى بن سعيد عَن مُحَمَّد بن عجلَان عَن يحيى بن عبد ابْن مَالك عَن أَبِيه قَالَ: (دخل على عمر وَرَأى مُسْتَلْقِيا وَاضِعا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى) ، حدّثنا مَرْوَان بن مُعَاوِيَة عَن سُفْيَان بن الْحسن عَن الزُّهْرِيّ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز عَن عبد ابْن عبد ابْن الْحَارِث (أَنه رأى ابْن عمر يضطجع فَيَضَع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى) ، حدّثنا وَكِيع عَن أُسَامَة عَن نَافِع قَالَ: (كَانَ ابْن عمر يستلقي على قَفاهُ وَيَضَع إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى، لَا يرى بذلك بَأْسا، ويفعله بذلك وَهُوَ جَالس لَا يرى بذلك بَأْسا) ، حدّثنا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن جَابر بن عبد الرَّحْمَن بن الْأسود عَن عَمه، قَالَ: (رَأَيْت ابْن مَسْعُود رَضِي اتعالى عَنهُ، مُسْتَلْقِيا وَاضِعا إِحْدَى رجلَيْهِ فَوق الْأُخْرَى وَهُوَ يَقُول: {رَبنَا لَا تجعلنا فتْنَة للْقَوْم الظَّالِمين} (يُونُس: 58) حدّثنا ابْن مهْدي عَن سُفْيَان عَن عمرَان، يَعْنِي: ابْن مُسلم، قَالَ: (رَأَيْت أنسا وَاضِعا إِحْدَى رجلَيْهِ على الْأُخْرَى) .

68 - (بابُ المَسْجِدِ يَكُونُ فِي الطرِيقِ منْ غَرِ ضَرَرٍ بِالنَّاسِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز بِنَاء الْمَسْجِد يكون فِي طَرِيق النَّاس، لَكِن بِشَرْط أَن لَا يكون فِيهِ ضَرَر، لَهُم، وَلما كَانَ بِنَاء الْمَسْجِد على أَنْوَاع: نوع مِنْهُ يجوز بِالْإِجْمَاع وَهُوَ أَن يبنيه فِي ملكه، وَنَوع مِنْهُ لَا يجوز بِالْإِجْمَاع وَهُوَ أَن يبنيه فِي غير ملكه. وَنَوع يجوز ذَلِك بِشَرْط أَن لَا يضر بِأحد، وَذَلِكَ فِي الْمُبَاحَات. وَقد شَذَّ بَعضهم مِنْهُم: ربيعَة، فِي منع ذَلِك. أَرَادَ البُخَارِيّ بِهَذَا الْبَاب الرَّد على هَؤُلَاءِ، وَاحْتج على ذَلِك بِقصَّة أبي بكر رَضِي اتعالى عَنهُ، وَعلم بذلك النَّبِي فَلم يُنكر عَلَيْهِ

(4/255)


فأقره على ذَلِك. فَإِن قلت: رُوِيَ منع ذَلِك عَن عَليّ وَابْن عمر رَضِي اتعالى عَنْهُم. قلت: ذكره عبد الرَّزَّاق بِإِسْنَاد ضَعِيف، وَالصَّحِيح مَا نقل عَن أبي بكر الصّديق رَضِي اتعالى عَنهُ.
وبهِ قَالَ الحَسَنُ وأيُّوبُ ومالِكٌ.
أَي: بِجَوَاز بِنَاء الْمَسْجِد فِي الطَّرِيق بِحَيْثُ لَا يحصل ضَرَر للنَّاس، قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ وَأَيوب السّخْتِيَانِيّ وَمَالك بن أنس. فَإِن قلت: الْجُمْهُور على جَوَاز ذَلِك، فَمَا الْفَائِدَة فِي تَصْرِيح هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَة بِأَسْمَائِهِمْ وتخصيصهم بِهِ؟ قلت: لما ورد عَنْهُم هَذَا الحكم صَرِيحًا، صرح بذكرهم.
135 - (حَدثنَا يحيى بن بكير قَالَ حَدثنَا اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَة بن الزبير أَن عَائِشَة زوج النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَت لم أَعقل أَبَوي إِلَّا وهما يدينان الدّين وَلم يمر علينا يَوْم إِلَّا يأتينا فِيهِ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - طرفِي النَّهَار بكرَة وَعَشِيَّة ثمَّ بدا لأبي بكر فابتنى مَسْجِدا بِفنَاء دَاره فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ وَيقْرَأ الْقُرْآن فيقف عَلَيْهِ نسَاء الْمُشْركين وأبناؤهم يعْجبُونَ مِنْهُ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ وَكَانَ أَبُو بكر رجلا بكاء لَا يملك عَيْنَيْهِ إِذا قَرَأَ الْقُرْآن فأفزغ ذَلِك أَشْرَاف قُرَيْش من الْمُشْركين) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة. الأول يحيى بن بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير أَبُو زَكَرِيَّا المَخْزُومِي الْمصْرِيّ. الثَّانِي اللَّيْث بن سعد الْمصْرِيّ. الثَّالِث عقيل بِضَم الْعين بن خَالِد الْأَيْلِي. الرَّابِع مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الْخَامِس عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. السَّادِس عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي موضِعين وَفِيه الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد بِالْفَاءِ وَفِي بعض النّسخ أَخْبرنِي فَوجه الْفَاء أَن تكون للْعَطْف على مُقَدّر كَأَن ابْن شهَاب قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَة بِكَذَا وَكَذَا فَأَخْبرنِي عقيب تِلْكَ الإخبارات بِهَذَا وَفِيه رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وَفِيه أَن نصف الروَاة مصريون وهم الثَّلَاثَة الأول وَالْبَاقِي مدنيون. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ هُنَا وَفِي الْهِجْرَة وَالْإِجَارَة وَفِي الْكفَالَة وَفِي الْأَدَب مُخْتَصرا وَمُطَولًا عَن يحيى بن بكير وسَاق بعضه فِي غَزْوَة الرجيع من حَدِيث هِشَام بن عُرْوَة عَن عَائِشَة (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " لم أَعقل " أَي لم أعرف قَوْله " أَبَوي " وأرادت عَائِشَة أَبَا بكر وَأمّهَا أم رُومَان وَهَذِه التَّثْنِيَة من بَاب التغليب وَفِي بعض النّسخ أبواي بِالْألف وَذَلِكَ على لُغَة بني الْحَارِث بن كَعْب جعلُوا الِاسْم الْمثنى نَحْو الْأَسْمَاء الَّتِي آخرهَا ألف كعصى فَلم يقلبوها يَاء فِي الْجَرّ وَالنّصب قَوْله " يدينان الدّين " أَي يتدينان بدين الْإِسْلَام وانتصاب الدّين بِنَزْع الْخَافِض يُقَال دَان بِكَذَا ديانَة وَتَدين بِهِ تدينا وَيحْتَمل أَن يكون مَفْعُولا بِهِ ويدين بِمَعْنى يُطِيع وَلكنه فِيهِ تجوز من حَيْثُ جعل الدّين كالشخص المطاع قَوْله " بكرَة وَعَشِيَّة " منصوبتان على الظَّرْفِيَّة وَقد ذكر البُخَارِيّ فِي كتاب الْهِجْرَة مطولا بِهَذَا الْإِسْنَاد بعد قَوْله عَشِيَّة وَقبل قَوْله ثمَّ بدا لأبي بكر قصَّة طَوِيلَة فِي خُرُوج أبي بكر عَن مَكَّة ورجوعه فِي جوَار ابْن الدغنة واشتراطه عَلَيْهِ أَن لَا يستعلن بِعِبَادَتِهِ فَعِنْدَ فرَاغ الْقِصَّة قَالَ ثمَّ بدا لأبي بكر أَي ظهر لَهُ من بدا الْأَمر بدوا مثل قعد قعُودا أَي ظهر قَالَ الْجَوْهَرِي بدا لَهُ فِي هَذَا الْأَمر أَي نَشأ لَهُ فِيهِ رَأْي قَوْله " بِفنَاء دَاره " بِكَسْر الْفَاء ممدودا وَهُوَ مَا امْتَدَّ من جوانبها قَوْله " بكاء " على وزن فعال مُبَالغَة باك قَوْله " لَا يملك عَيْنَيْهِ " أَي لَا يُطيق إمساكهما ومنعهما من الْبكاء وَفِي بعض النّسخ " لَا يملك عينه " وَهُوَ وَإِن كَانَ مُفردا لكنه جنس يُطلق على الْوَاحِد والاثنين قَوْله " إِذا قَرَأَ " إِذا ظرفية وَالْعَامِل فِيهِ لَا يملك أَو شَرْطِيَّة وَالْجَزَاء مُقَدّر يدل عَلَيْهِ لَا يملك قَوْله " فأفزع " من الإفزاع وَهُوَ الإخافة قَوْله " ذَلِك " أَي الْوُقُوف وَكَانَ خوفهم من ميل الْأَبْنَاء وَالنِّسَاء إِلَى دين الْإِسْلَام (وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ) جَوَاز بِنَاء الْمَسْجِد فِي الطَّرِيق إِذا لم يكن ضَرَر للعامة كَمَا ذَكرْنَاهُ وَبَيَان فضل أبي بكر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مِمَّا لَا يُشَارِكهُ فِيهِ أحد لِأَنَّهُ قصد تَبْلِيغ كتاب الله وإظهاره مَعَ الْخَوْف على نَفسه وَلم يبلغ شخص آخر هَذِه الْمنزلَة

(4/256)


بعد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَفِيه فَضَائِل أُخْرَى لأبي بكر وَهِي قدم إِسْلَامه وَإِسْلَام أَبَوَيْهِ وَتردد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَيْهِ طرفِي النَّهَار وَكَثْرَة بكائه ورقة قلبه
78 - (بابُ الصلاَةِ فِي مَسْجِدِ السُّوقِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الصَّلَاة فِي مَسْجِد السُّوق، ويروى فِي مَسَاجِد السُّوق، بِلَفْظ الْجمع، وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَلَفظ الْإِفْرَاد رِوَايَة أبي ذَر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: المُرَاد بالمساجد مَوَاضِع إِيقَاع الصَّلَاة لَا الْأَبْنِيَة الْمَوْضُوعَة للصَّلَاة من الْمَسَاجِد، فَكَأَنَّهُ قَالَ: بَاب الصَّلَاة فِي مَوَاضِع الْأَسْوَاق. وَقَالَ ابْن بطال: رُوِيَ أَن الْأَسْوَاق شَرّ الْبِقَاع، فخشي البُخَارِيّ أَن يُوهم من رأى ذَلِك الحَدِيث أَنه لَا تجوز الصَّلَاة فِي الْأَسْوَاق اسْتِدْلَالا بِهِ، فجَاء بِحَدِيث أبي هُرَيْرَة، إِذْ فِيهِ إجَازَة الصَّلَاة فِي السُّوق وَإِذا جَازَت الصَّلَاة فِي السُّوق فُرَادَى فَكَانَ أولى أَن يتَّخذ فِيهِ مَسْجِد للْجَمَاعَة. وَقَالَ بَعضهم: موقع التَّرْجَمَة الْإِشَارَة إِلَى أَن الحَدِيث الْوَارِد فِي الْأَسْوَاق شَرّ الْبِقَاع، وَأَن الْمَسَاجِد خير الْبِقَاع، كَمَا أخرجه الْبَزَّار وَغَيره لَا يَصح إِسْنَاده، وَلَو صَحَّ لم يمْنَع وضع الْمَسْجِد فِي السُّوق لِأَن بقْعَة الْمَسْجِد حِينَئِذٍ تكون بقْعَة خير.
قلت: كل مِنْهُم قد تكلّف، أما الْكرْمَانِي فَإِنَّهُ ارْتكب الْمجَاز من غير ضَرُورَة، وَأما ابْن بطال فَإِنَّهُ من أَيْن تحقق خشيَة البُخَارِيّ مِمَّا ذكره حَتَّى وضع هَذَا الْبَاب؟ وَأما الْقَائِل الثَّالِث فَإِنَّهُ أبعد جدا، لِأَنَّهُ من أَيْن علم أَن البُخَارِيّ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا ذكره؟ وَالْأَوْجه أَن يُقَال: إِن البُخَارِيّ لما أَرَادَ أَن يُورد حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي فِيهِ الْإِشَارَة إِلَى أَن صَلَاة الْمُصَلِّي لَا تَخْلُو إِمَّا أَن تكون فِي الْمَسْجِد الَّذِي بني لَهَا، أَو فِي بَيته الَّذِي هُوَ منزله، أَو السُّوق، وضع بَابا فِيهِ جَوَاز الصَّلَاة فِي الْمَسْجِد الَّذِي فِي السُّوق، وَإِنَّمَا خص هَذَا بِالذكر من بَين الثَّلَاثَة لِأَنَّهُ لما كَانَ مَوضِع اللَّغط واشتغال النَّاس بِالْبيعِ وَالشِّرَاء وَالْإِيمَان الْكَثِيرَة فِيهِ بِالْحَقِّ وَالْبَاطِل، وَرُبمَا كَانَ يتَوَهَّم عدم جَوَاز الصَّلَاة فِيهِ من هَذِه الْجِهَات خصّه بِالذكر.
وصَلَّى ابنُ عَوْنٍ فِي مَسْجِدٍ فِي دَارٍ يُغْلَقُ عَلَيْهِمُ البَابُ.
لَيْسَ فِي التَّرْجَمَة مَا يُطَابق هَذَا الْأَثر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَلَعَلَّ غَرَض البُخَارِيّ مِنْهُ الرَّد على الْحَنَفِيَّة حَيْثُ قَالُوا بامتناع اتِّخَاذ الْمَسَاجِد فِي الدَّار المحجوبة عَن النَّاس، وَنَقله بَعضهم فِي شَرحه معجباً بِهِ، قلت: جازف الْكرْمَانِي فِي هَذَا لِأَن الْحَنَفِيَّة لم يَقُولُوا هَكَذَا، بل الْمَذْهَب فِيهِ أَن من اتخذ مَسْجِدا فِي دَاره وأفرز طَرِيقه يجوز ذَلِك، وَيصير مَسْجِدا، فَإِذا أغلق بَابه وَصلى فِيهِ يجوز مَعَ الْكَرَاهَة، وَكَذَا الحكم فِي سَائِر الْمَسَاجِد.
وَابْن عون، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره نون: هُوَ عبد ابْن عون، وَقد تقدم فِي بَاب قَول النَّبِي: رب مبلغ ... . وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : كَذَا فِي نُسْخَة سَمَاعنَا، يَعْنِي أَنه ابْن عون، وَقَالَ ابْن الْمُنِير: ابْن عمر، قلت: قَالُوا إِنَّه تَصْحِيف، وَالصَّحِيح إِنَّه ابْن عون، وَكَذَا وَقع فِي الْأُصُول.

774 - ح دّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدّثنا أبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الأَعْمشِ عنْ أبي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَة عنِ النبيِّ قَالَ: صَلاَةُ الجَمِيعِ تَزِيدُ عَلَى صَلاتِهِ فِي بَيْتِهِ وصَلاَتِهِ فِي سُوقِهِ خَمْساً وعِشْرِينَ دَرَجَةً فإِنَّ أحَدَكُمْ إِذَا تَوَضَّأَ فأحْسَنَ وَأتى المسْجِدَ لاَ يُريدُ إلاَّ الصَّلاَةَ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً أوَ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً حَتَّى يَدْخُلَ المَسْجِدَ وإذَا دَخَلَ المَسْجِدَ كانَ فِي صَلاَةٍ مَا كانَتْ تَحْبِسُهُ وَتُصلَّى يَعْني عَلَيْهِ المَلاَئِكَةُ مَا دَامَ فِي مَجْلِسِهِ الَّذِي فِيهِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ مَا لَمْ يُوءْذِ يُحْدِثْ فِيهِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَصلَاته فِي سوقه) .
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة، كلهم قد ذكرُوا، وَأَبُو مُعَاوِيَة مُحَمَّد بن حَازِم الضَّرِير، وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان بن مهْرَان، وَأَبُو صَالح هُوَ ذكْوَان.
ذكر لطائف اسناده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي ومدني.

(4/257)


ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي بَاب فضل الْجَمَاعَة عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن عبد الْوَاحِد عَن الْأَعْمَش. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَأبي كريب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد بن السّري. وَأخرجه ابْن ماجة فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكرمعناه) قَوْله: (صَلَاة الْجَمِيع) أَي: صَلَاة الْجَمَاعَة، والجميع فِي اللُّغَة ضد المتفرق والجيش أَيْضا والحي الْمُجْتَمع، ويؤكد بِهِ، يُقَال: جاؤوا جَمِيعًا، أَي: كلهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: صَلَاة الْجَمِيع، أَي: صَلَاة فِي الْجَمِيع، يَعْنِي صَلَاة الْجَمَاعَة، قلت: هَذَا تصرف غير مرضِي. قَوْله: (على صلَاته فِي بَيته) أَي: على صَلَاة الْمُنْفَرد، وَقَوله: (فِي بَيته) قرينَة على هَذَا إِذْ الْغَالِب أَن الرجل يُصَلِّي فِي بَيته مُنْفَردا. قَوْله: (خمْسا) نصب على أَنه مفعول لقَوْله: تزيد، نَحْو قَوْلك: زِدْت عَلَيْهِ عشرَة وَنَحْوهَا. قَوْله: (فَإِن أحدكُم) ، بِالْفَاءِ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الكشميني: (بِأَن أحدكُم) بِالْبَاء الْمُوَحدَة، ووجهها أَن تكون الْبَاء للمصاحبة، فَكَأَنَّهُ قَالَ: تزيد على صلَاته بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة مَعَ فَضَائِل أخر، وَهُوَ رفع الدَّرَجَات وَصَلَاة الْمَلَائِكَة وَنَحْوهَا، وَيجوز أَن تكون للسَّبَبِيَّة. قَوْله: (فَأحْسن) كَذَا هُوَ بِدُونِ مَفْعُوله، وَالتَّقْدِير فَأحْسن الْوضُوء، وَالْإِحْسَان فِي الْوضُوء إسباغه برعاية السّنَن والآداب. قَوْله: (لَا يُرِيد إلاَّ الصَّلَاة) ، جملَة حَالية، والمضارع الْمَنْفِيّ إِذا وَقع حَالا يجوز فِيهِ الْوَاو وَتَركه. قَوْله: (خطْوَة) قَالَ السفاقسي: روينَاهُ بِفَتْح الْخَاء، وَهِي الْمرة الْوَاحِدَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الرِّوَايَة بِضَم الْخَاء، وَهِي وَاحِدَة الخطى، وَهِي مَا بَين الْقَدَمَيْنِ، وَالَّتِي بِالْفَتْح مصدر. قَوْله: (أَو حط) ، ويروي: (وَحط) بِالْوَاو، وَهَذَا أشمل. قَوْله: (مَا كَانَ يحْبسهُ) ، أَي: مَا كَانَ الْمَسْجِد يحْبسهُ، وَكلمَة: مَا، للمدة أَي: مُدَّة دوَام حبس الْمَسْجِد إِيَّاه. قَوْله: (وَتصلي الْمَلَائِكَة عَلَيْهِ) ، أَي تَدْعُو لَهُ بقَوْلهمْ: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ، اللَّهُمَّ ارحمه. وَقَوله: (اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ) ، تَقْدِيره: وَتَدْعُو الْمَلَائِكَة قائلين: اللَّهُمَّ، إِذْ لَا يَصح الْمَعْنى إلاَّ بِهِ. وَقيل: إِنَّه بَيَان للصَّلَاة، كَذَا هُوَ بِدُونِ مَفْعُوله، وَالتَّقْدِير: فَأحْسن الْوضُوء. قَوْله: (مَا لم يؤذ) ، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالذال الْمُعْجَمَة: من الْإِيذَاء، وَالضَّمِير الْمَرْفُوع الَّذِي فِيهِ يرجع إِلَى الْمُصَلِّي، ومفعوله مَحْذُوف تَقْدِيره: مَا لم يؤذ الْمَلَائِكَة، وايذاؤه إيَّاهُم بِالْحَدَثِ فِي الْمَسْجِد، وَهُوَ معنى قَوْله: يحدث، بِضَم الْيَاء من الإحداث بِكَسْر الْهمزَة، وَهُوَ مجزوم وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين على أَنه بدل من: يؤذ، وَيجوز رَفعه على طَرِيق الِاسْتِئْنَاف. وَفِي رِوَايَة الشكميني: (مَا لم يؤذ بِحَدَث فِيهِ) ، بِلَفْظ الْجَار وَالْمَجْرُور مُتَعَلقا: بيؤذ قَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض النّسخ: (مَا لم يحدث) ، بطرح لفظ يؤذ، أَي: مَا لم ينْقض الْوضُوء، وَالَّذِي ينْقض الْوضُوء الْحَدث. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون أَعم من ذَلِك قلت: الحَدِيث رَوَاهُ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه، وَلَفظه: (مَا لم يؤذ فِيهِ أَو يحدث فِيهِ) . والأعمية الَّتِي قَالَهَا هَذَا الْقَائِل لَا تمشي فِي رِوَايَة البُخَارِيّ على مَا يخفى، وتمشي فِي رِوَايَة أبي دَاوُد لِأَنَّهُ عطف: أَو يحدث، على قَوْله: (لم يؤذ فِيهِ) ، وَالْمعْنَى: مَا لم يؤذ فِي مَجْلِسه الَّذِي صلى فِيهِ أحدا بقوله أَو فعله، أَو: يحدث، بِالْجَزْمِ من الإحداث بِمَعْنى الْحَدث لَا من التحديث، فَافْهَم. فَإِنَّهُ مَوضِع تَأمل.
ذكر تعدد الرِّوَايَات فِي قَوْله: (خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) فِي رِوَايَة البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي سعيد: (صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تزيد على صلَاته فِي بَيته خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) . وَعند أبي ماجة: (بضعاً وَعشْرين دَرَجَة) ، وَفِي لفظ: (فضل الصَّلَاة على صَلَاة أحدكُم وَحده خمْسا وَعشْرين جُزْءا) . وَعند السراج: (تعدل خَمْسَة وَعشْرين صَلَاة من صَلَاة الْفَذ) ، وَفِي لفظ: (تزيد على صَلَاة الْفَذ خمْسا وَعشْرين) ، وَفِي لفظ: (سَبْعَة وَعشْرين جُزْءا) ، وَفِي لفظ: خير من صَلَاة الْفَذ) ، وَفِي لفظ: (تزيد على صَلَاة الْفَذ بِخمْس وَعشْرين دَرَجَة) ، وَفِي لفظ: (صَلَاة مَعَ الإِمَام أفضل من خمس وَعشْرين يُصليهَا وَحده) . وَفِي كتاب ابْن حزم: صَلَاة الْجَمَاعَة تزيد على صَلَاة الْمُنْفَرد سبعا وَعشْرين دَرَجَة، وَفِي (سنَن الْكَجِّي) : صَلَاة الْجَمِيع تفضل على صَلَاة الْفَذ، وَعند ابْن حبَان: (فَإِن صلاهَا بِأَرْض فَيْء فَأَتمَّ وضوءها وركوعها وسجودها تكْتب صلَاته بِخَمْسِينَ دَرَجَة) ، وَعند أبي دَاوُد: (بلغت خمسين صَلَاة) . وَقَالَ عبد الْوَاحِد بن زِيَاد فِي هَذَا الحَدِيث: صَلَاة الرجل فِي الفلاة، تضَاعف على صلَاته فِي الْجَمَاعَة، موعند البُخَارِيّ، من حَدِيث نَافِع عَن ابْن عمر: (صَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تفضل على صَلَاة الرجل وَحده بِسبع وَعشْرين دَرَجَة) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: كَذَا رَوَاهُ نَافِع، وَعَامة من روى عَن النَّبِي إِنَّمَا قَالَ: (خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) ،

(4/258)


وَعند ابْن حبَان من حَدِيث أبي بن كَعْب: (أَرْبَعَة وَعشْرين أَو خَمْسَة وَعشْرين دَرَجَة، وَصَلَاة الرجل أذكى من صلَاته وَحده، وَصلَاته مَعَ الرجلَيْن أذكى من صلَاته مَعَ الرجل، وَصلَاته مَعَ الثَّلَاثَة أذكى من صلَاته مَعَ الرجلَيْن، وَمَا أَكثر فَهُوَ أحب إِلَى اعز وَجل) ، وَعند أبي نعيم: عَن الْعمريّ عَن نَافِع بِلَفْظ: (سَبْعَة أَو خَمْسَة وَعشْرين) ، وَعند أَحْمد بِسَنَد جيد عَن ابْن مَسْعُود، رَضِي اتعالى عَنهُ: (صَلَاة الْجَمِيع تفضل على صَلَاة الرجل وَحده خَمْسَة وَعشْرين ضعفا، كلهَا مثل صلَاته) ، وَفِي (مُسْند ابْن أبي شيبَة) : (بضعاً وَعشْرين دَرَجَة) .
وَعند السراج: (بِخمْس وَعشْرين صَلَاة) ، وَفِي لفظ: (تزيد خمْسا وَعشْرين) ، وَفِي (تَارِيخ البُخَارِيّ) : من حَدِيث الإفْرِيقِي عَن قباث بن أَشْيَم: (صَلَاة رجلَيْنِ، يؤم أَحدهمَا صَاحبه، أذكى عِنْد امن أَرْبَعَة تترى، وَصَلَاة أَرْبَعَة يؤمهم أحدهم أذكى عِنْد امن صَلَاة ثَمَانِيَة تترى، وَصَلَاة ثَمَانِيَة يؤمهم أحدهم أذكى عِنْد امن صَلَاة مائَة تترى) ، وَعند السراج، من حَدِيث أنس مَوْقُوفا بِسَنَد صَحِيح: (تفضل صَلَاة الْجَمِيع على صَلَاة الرجل وَحده بضعاً وَعشْرين صَلَاة) . وَعند الْكَجِّي، من حَدِيث أبان مَرْفُوعا: (تفضل صَلَاة الْجَمِيع على صَلَاة الرجل وَحده بِأَرْبَع وَعشْرين صَلَاة) ، وَعند السراج بِسَنَد صَحِيح، وَعَن عَائِشَة: (تفضل على صلَاته وَحده خمْسا وَعشْرين دَرَجَة) ، وَكَذَا رَوَاهُ معَاذ عِنْد الطَّبَرَانِيّ، وَعند ابْن أبي شيبَة: عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس: (فضل صَلَاة الْجَمَاعَة على صَلَاة الْوَاحِد خمس وَعِشْرُونَ دَرَجَة قَالَ، فَإِن كَانُوا أَكثر فعلى عدد من فِي الْمَسْجِد، فَقَالَ رجل: وَإِن كَانُوا عشرَة آلَاف؟ قَالَ: نعم) . وَعند ابْن زنجوية، من حَدِيث ابْن الْخطاب الدِّمَشْقِي: عَن زُرَيْق بن عبد االأنصاري: (صَلَاة الرجل فِي بَيته، وَصلَاته فِي مَسْجِد الْقَبَائِل بِخمْس وَعشْرين صَلَاة، وَصلَاته فِي الْمَسْجِد الَّذِي يجمع فِيهِ بِخَمْسِمِائَة صَلَاة) . وَفِي فَضَائِل الْقُدس لأبي بكر مُحَمَّد بن أَحْمد الوَاسِطِيّ، من حَدِيث أبي الْخطاب: (وَصَلَاة فِي مَسْجِد الْقَبَائِل بست وَعشْرين، وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى بِخَمْسِينَ ألف صَلَاة، وَصَلَاة فِي مَسْجِدي بِخَمْسِينَ ألف صَلَاة، وَصَلَاة فِي الْمَسْجِد الْحَرَام بِمِائَة ألف صَلَاة) . وَمن حَدِيث عمار بن الْحسن: حدّثنا إِبْرَاهِيم بن هدبة عَن أنس مَرْفُوعا مثله: وَصلَاته على السَّاحِل بألفي ألف صَلَاة، وَصلَاته بسواك بِأَرْبَع مائَة ألف صَلَاة.
ذكر وَجه هَذِه الرِّوَايَات اخْتلفُوا فِي وَجه الْجمع بَين سبع وَعشْرين دَرَجَة وَبَين خمس وَعشْرين. فَقيل: السَّبع مُتَأَخِّرَة عَن الْخمس فَكَأَن اأخبره بِخمْس ثمَّ زَاده، ورد هَذَا بتعذر التَّارِيخ، ورد هَذَا الرَّد بِأَن الْفَضَائِل لَا تنسخ، فَتعين أَنه مُتَأَخّر. وَقيل: إِن صَلَاة الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد أفضل من صَلَاة الْفَذ فِي الْمَسْجِد بِسبع وَعشْرين دَرَجَة، ورد هَذَا بقوله: (وَصَلَاة الرجل فِي جمَاعَة تضعف على صلَاته فِي بَيته وَفِي سوقه بِخمْس وَعشْرين ضعفا) . وَقيل: إِن الصَّلَاة الَّتِي لم تكن فِيهَا فَضِيلَة الخطى إِلَى الصَّلَاة، وَلَا فَضِيلَة انتظارها تفضل بِخمْس، وَالَّتِي فِيهَا ذَلِك تفضل بِخمْس، وَالَّتِي فِيهَا ذَلِك تفضل بِسبع. وَقيل: إِن ذَلِك يخْتَلف باخْتلَاف الْمُصَلِّين وَالصَّلَاة، فَمن أكملها وحافظ عَلَيْهَا فَوق من أخل بِشَيْء من ذَلِك، وَقيل: إِن الزِّيَادَة لصلاتي الْعشَاء وَالصُّبْح لِاجْتِمَاع مَلَائِكَة اللَّيْل وَالنَّهَار فيهمَا، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (تفضل صَلَاة أحدكُم وَحده بِخمْس وَعشْرين جُزْءا، وتجتمع مَلَائِكَة اللَّيْل وَالنَّهَار فِي صَلَاة الْفجْر) . فَذكر اجْتِمَاع الْمَلَائِكَة بواو فاصلة، واستأنف الْكَلَام وقطعه من الْجُمْلَة الْمُتَقَدّمَة، وَقيل: لَا مُنَافَاة بَين الحدثين لِأَن ذكر الْقَلِيل لَا يُنَافِي الْكثير، وَمَفْهُوم الْعدَد بَاطِل عِنْد جمَاعَة من الْأُصُولِيِّينَ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: إِنَّمَا قَالَ: دَرَجَة، وَلم يقل: جُزْءا وَلَا نَصِيبا وَلَا حَافِظًا وَلَا شَيْئا من أَمْثَال ذَلِك، لِأَنَّهُ أَرَادَ الثَّوَاب من جِهَة الْعُلُوّ والارتفاع، وَأَن تِلْكَ فَوق هَذِه بِكَذَا وَكَذَا دَرَجَة، لِأَن الدَّرَجَات إِلَى جِهَة فَوق قلت: قد جَاءَ فِيهِ لفظ: الْجُزْء والضعف، وَقد تقدما عَن قريب، فَكَأَنَّهُ لم يطلع عَلَيْهِمَا. وَقيل: إِن الدرجَة أَصْغَر من الْجُزْء، فَكَأَن الْخَمْسَة وَالْعِشْرين إِذا جزئت دَرَجَات كَانَت سبعا وَعشْرين دَرَجَة قلت: هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: سبعا وَعشْرين دَرَجَة وخمساً وَعشْرين دَرَجَة فَاخْتلف الْقدر مَعَ اتِّحَاد لفظ الدرجَة. وَقد قيل: يحْتَمل أَن تكون الدرجَة فِي الْآخِرَة والجزء فِي الدُّنْيَا فَإِن قلت: قد علم وَجه الْجمع بَين هذَيْن العددين، وَلَكِن مَا الْحِكْمَة فِي التَّنْصِيص عَلَيْهِمَا؟ قلت: نقل الطَّيِّبِيّ عَن التوربشتي: وَأما وَجه قصر أَبْوَاب الْفَضِيلَة على خمس وَعشْرين تَارَة، وعَلى سبع وَعشْرين أُخْرَى فَإِن الْمرجع فِي حَقِيقَة ذَلِك إِلَى عُلُوم النُّبُوَّة الَّتِي قصرت عقل الألباء عَن إِدْرَاك جملها وتفاصيلها، وَلَعَلَّ الْفَائِدَة فِيمَا كشف بِهِ حَضْرَة النُّبُوَّة وَهِي اجْتِمَاع الْمُسلمين مصطفين كَصُفُوف الْمَلَائِكَة والاقتداء بِالْإِمَامِ وَإِظْهَار شَعَائِر الْإِسْلَام وَغَيرهَا انْتهى قلت: هَذَا لَا يشفي الغليل وَلَا يجدي العليل، وَالَّذِي ظهر لي فِي هَذَا

(4/259)


الْمقَام من الْأَنْوَار الإلهية والأسرار الربانية والعنايات المحمدية أَن كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا بِالنَّصِّ، وَأَنه لَو صلى فِي بَيته كَانَ يحصل لَهُ ثَوَاب عشر صلوَات، وَكَذَا لَو صلىَّ فِي سوقه كَانَ لكل صَلَاة عشر، ثمَّ أَنه إِذا صلى بِالْجَمَاعَة يُضَاعف لَهُ مثله فَيصير ثَوَاب عشْرين صَلَاة، أَو زِيَادَة الْخمس فَلِأَنَّهُ أدّى فرضا من الْفُرُوض الْخَمْسَة، فأنعم اعليه ثَوَاب خمس صلوَات أُخْرَى نَظِير عدد الْفُرُوض الْخَمْسَة زِيَادَة عشْرين إنعاماً وفضلاً مِنْهُ عَلَيْهِ، فَتَصِير الْجُمْلَة خَمْسَة وَعشْرين. وَجَوَاب آخر، وَهُوَ: إِن مَرَاتِب الْأَعْدَاد آحَاد وعشرات ومآت وألوف، والمآت من الأوساط، وَخير الْأُمُور أوسطها، والخمسة وَالْعشْرُونَ ربع الْمِائَة، وللربع حكم الْكل. وَأما زِيَادَة السَّبع، فَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون ذَلِك لمناسبة أعداد رَكْعَات الْيَوْم وَاللَّيْلَة إِذْ الْفَرَائِض سَبْعَة عشر والرواتب الْمُؤَكّدَة عشرَة. انْتهى. قلت: الرَّوَاتِب الْمَذْكُورَة اثْنَي عشر، لحَدِيث المثابرة فَتَصِير: تِسْعَة وَعشْرين، فَلَا يُطَابق الْوَاقِع، فَنَقُول: يُمكن أَن يُقَال: إِن أَيَّام الْعُمر سَبْعَة، فَإِذا صلى بِالْجَمَاعَة يُزَاد لَهُ على الْعشْرين ثَوَاب سبع صلوَات، كل صَلَاة من صلوَات كل يَوْم وَلَيْلَة من الْأَيَّام السَّبْعَة. وَأما الْوتر فَلَعَلَّهُ شرع بعد ذَلِك، ثمَّ الْعلمَاء اخْتلفُوا: هَل هَذَا الْفضل لأجل الْجَمَاعَة فَقَط حَيْثُ كَانَت؟ أَو أَن ذَلِك إِنَّمَا يكون ذَلِك فِي الْجَمَاعَة الَّتِي تكون فِي الْمَسْجِد لما يلْزم ذَلِك من أَفعَال تخْتَص بالمساجد؟ قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَالظَّاهِر الأول، لِأَن الْجَمَاعَة هُوَ الْوَصْف الَّذِي علق عَلَيْهِ الحكم. وَا أعلم. ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ قَالَ ابْن بطال: فِيهِ: أَن الصَّلَاة فِيهِ للمنفرد دَرَجَة من خمس وَعشْرين دَرَجَة. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لم يقل يُسَاوِي صلَاته مُنْفَردا خمْسا وَعشْرين حَتَّى يكون لَهُ دَرَجَة مِنْهَا، بل قَالَ: تزيد، فَلَيْسَ للمنفرد من الْخَمْسَة وَالْعِشْرين شَيْء قلت: قَالَ ذَلِك بِالنّظرِ فِي الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة فِي الْبَاب، فَلَو كَانَ وقف على الرِّوَايَات الَّتِي ذَكرنَاهَا لما قَالَ ذَلِك كَذَلِك. وَفِيه: الدّلَالَة على فَضِيلَة الْجَمَاعَة. وَفِيه: جَوَاز اتِّخَاذ الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت والأسواق. وَفِيه: مَا اسْتدلَّ بِهِ بعض الْمَالِكِيَّة على أَن صَلَاة الْجَمَاعَة لَا يفضل بَعْضهَا على بعض بِكَثْرَة الْجَمَاعَة، ورد هَذَا بِمَا ذكرنَا عَن ابْن حبَان، وَمَا كثر فَهُوَ أحب إِلَى اتعالى، وَإِلَى مطلوبية الْكَثْرَة ذهب الشَّافِعِي وَابْن حبيب الْمَالِكِي.

88 - (بَاب تَشْبِيكِ الأصَابِعِ فِي المَسْجِدِ وغَيْرِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز تشبيك الْأَصَابِع، سَوَاء كَانَ فِي الْمَسْجِد أَو غَيره، وَالْمَوْجُود فِي غَالب النّسخ فِي هَذَا الْبَاب حديثان: أَحدهمَا: حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ، وَالْآخر: حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَفِي بعض النّسخ حَدِيث آخر عَن ابْن عمر، رَضِي اتعالى عَنْهُمَا، وجد ذَلِك بِخَط البرزالي وَلم يَسْتَخْرِجهُ الحافظان الْإِسْمَاعِيلِيّ وَأَبُو نعيم، وَلَا ذكره ابْن بطال أَيْضا، وَإِنَّمَا حكى أَبُو مَسْعُود الدِّمَشْقِي فِي (كتاب الْأَطْرَاف) أَنه رَآهُ فِي كتاب أبي رُمَيْح عَن الْفربرِي وَحَمَّاد بن شَاكر عَن البُخَارِيّ، وَهُوَ هَذَا.

874731 - ح دّثنا حامِدُ بنُ عُمَرَ عنْ بَشْرٍ قَالَ حدّثنا عاصِمٌ قَالَ حدّثنا واقِدٌ عَنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ أوِ ابنِ عَمْروٍ قَالَ شَبَّكَ النبيُّ أصَابِعَهُ. وَقَالَ عاصِمُ بنُ عَلِيٍ حدّثنا عاصِمُ بنُ مُحَمَّدٍ سَمِعْتُ هَذَا الحدِيثَ منْ أبي فَلَمْ أحْفَظْهُ فَقَوَّمَهُ لِي وَاقِدٌ عَنْ أبِيهِ قَالَ سَمِعْتُ أبي وَهُوَ يَقُولُ قَالَ عَبْدُ ااِ قَالَ رسولُ اللَّهِ يَا عَبْدَ ابنَ عَمْروٍ كَيْفَ بِكَ إذَا بَقِيت فِي حُثَالَةٍ مِنَ الناسِ بِهَذَا وَلَفْظُهُ فِي جَمْعِ الحُمَيْدِيّ فِي مْسْنَدِ ابنِ عُمَرَ شَبَّك النَّبِي أصَابِعَهُ وَقَالَ كَيْفَ أنْتَ يَا عَبْدَ ااِ إذَا بَقِيْتَ فِي حُثَالَةٍ مِنَ النَّاسِ قَدْ مَرَجَتْ عُهُودُهُمْ وأمانَاتُهُمْ وَاخْتَلَفُوا فَصَاروا هَكَذَا وَشَبَّكَ بَيْنَ أصابِعِهِ قَالَ فَكَيْفَ أفْعَلُ يَا رَسولَ ااِ قَالَ تأخذُ مَا تَعْرِفُ وَتَدَعُ مَا تُنكِرُ وتُقْبِلُ على خاصِتَّكَ وتَدَعُهُمْ وَعَوَامَّهُمْ. (انظرالحديث 974) .

(4/260)


مطابقته للتَّرْجَمَة فِي أحد جزئيها، وَاكْتفى البُخَارِيّ بدلالته على بعض التَّرْجَمَة حَيْثُ دلّ أبي هُرَيْرَة على تَمامهَا.
ذكر رِجَاله فِيهِ تِسْعَة أنفس: الأول: حَامِد بن عمر البكراوي من ذُرِّيَّة أبي بكر الثَّقَفِيّ نزيل نيسابور، وقاضي كرمان، روى عَنهُ مُسلم أَيْضا، مَاتَ بنيسابور أول سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن الْمفضل الرقاشِي الْحجَّة، كَانَ يَصُوم يَوْمًا وَيفْطر يَوْمًا وَيُصلي كل يَوْم أَرْبَعمِائَة رَكْعَة، مَاتَ سنة تسع وَثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: عَاصِم بن مُحَمَّد بن زيد بن عبد ابْن عمر بن الْخطاب الْعمريّ الْمدنِي، وَثَّقَهُ أَحْمد وَغَيره. الرَّابِع: أَخُو عَاصِم، وَهُوَ: وَاقد، بِالْقَافِ: ابْن مُحَمَّد بن زيد الْمَذْكُور، ثقه أَبُو زرْعَة وَغَيره. الْخَامِس: أَبوهُ مُحَمَّد بن عبد ا، وَثَّقَهُ غير وَاحِد. السَّادِس: عبد ابْن عمر بن الْخطاب. السَّابِع: عبد ابْن عَمْرو بن الْعَاصِ. الثَّامِن: أَبُو عبد اوهو البُخَارِيّ نَفسه. التَّاسِع: عَاصِم بن عَليّ بن عَاصِم بن صُهَيْب الوَاسِطِيّ شيخ البُخَارِيّ والدارمي، وَفِي (تَهْذِيب التَّهْذِيب) : كَانَ من ثِقَات الشُّيُوخ وأعيانهم. وَقَالَ ابْن معِين: ضَعِيف، وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ بِشَيْء، وَفِي رِوَايَة: لَيْسَ بِثِقَة، وَفِي رِوَايَة: كَذَّاب، مَاتَ فِي نصف رَجَب سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ.
ذكر لطائف اسناده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل وَالسَّمَاع. وَفِيه: الشَّك بَين عبد ابْن عمر بن الْخطاب وَبَين عبد ابْن عمر بن الْعَاصِ، وَالظَّاهِر أَن الشَّك من وَاقد. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومدني.
ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله: (قَالَ عَاصِم بن عَليّ) تَعْلِيق من البُخَارِيّ وَوَصله إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) لَهُ، قَالَ: حدّثنا عَاصِم بن عَليّ حدّثنا عَاصِم بن مُحَمَّد عَن وَاقد سَمِعت أبي يَقُول: قَالَ عبد ا، قَالَ: رَسُول ا، فَذكره. قَوْله: (فِي حثالة) بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الثَّاء الْمُثَلَّثَة، قَالَ ابْن سَيّده: هُوَ مَا يخرج من الطَّعَام من زوان وَنَحْوه مِمَّا لَا خير فِيهِ. وَقَالَ اللحياني: هُوَ أجل من التُّرَاب والدقاق قَلِيلا، وَخَصه بِالْحِنْطَةِ، والحثالة والحثل: الرَّدِيء من كل شَيْء، وَقيل: هُوَ القشارة من التَّمْر وَالشعِير وَمَا أشبههما، وحثالة القرط نقايته. قَوْله: (مرجت عهودهم) ، قَالَ أَبُو الْمَعَالِي فِي (الْمُنْتَهى) : مرجت عهودهم: إِذا لم تثبت، وَأمر حجوها: إِذا لم يوفوا بهَا وخلطوها، ومرجت أمانتهم فَسدتْ، ومرج الدّين اخْتَلَط واضطرب. وَفِي (الْمُحكم) : مرج الْأَمر مرجاً فَهُوَ مارج ومريج: الْتبس وَاخْتَلَطَ، ومرج أمره يمرجه: ضيَّعه، وَرجل ممارج يمرج أُمُوره وَلَا يحكمها ومرج الْعَهْد وَالدّين وَالْأَمَانَة: فسد، وأمرج عَهده: لم يَفِ بِهِ، قَوْله: (وَشَبك بَين أَصَابِعه) ، أَي: شَبكَ النَّبِي بَين أَصَابِعه ليمثل لَهُم اختلاطهم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ: جَوَاز تشبيك الْأَصَابِع سَوَاء فِي الْمَسْجِد أَو غَيره لإِطْلَاق الحَدِيث، وَلَكِن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد وَفِي الصَّلَاة، وَكره إِبْرَاهِيم ذَلِك فِي الصَّلَاة، وَهُوَ قَول مَالك، وَرخّص فِي ذَلِك ابْن عمر وَابْنه سَالم، فَكَانَ يشبكان بَين أصابعهما فِي الصَّلَاة، ذكره ابْن أبي شيبَة، وَكَانَ الْحسن الْبَصْرِيّ يشبك بَين أَصَابِعه فِي الْمَسْجِد. وَقَالَ مَالك: إِنَّهُم لينكرون تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد وَمَا بِهِ بَأْس.
وَإِنَّمَا يكره فِي الصَّلَاة، وقدروه النَّهْي عَن ذَلِك فِي أَحَادِيث. مِنْهَا: مَا أخرجه ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) ، فَقَالَ: حدّثنا أَبُو عرُوبَة حدّثنا مُحَمَّد بن سَعْدَان حَدثنَا سُلَيْمَان ابْن عبد اعن عبيد ابْن عمر عَن زيد بن أبي أنيسَة عَن الحكم عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى عَن كَعْب بن عجْرَة: (أَن النَّبِي قَالَ لَهُ: يَا كَعْب، إِذا تَوَضَّأت فأحسنت الْوضُوء، ثمَّ خرجت إِلَى الْمَسْجِد فَلَا تشبك بَين أصابعك فَإنَّك فِي صَلَاة) . وَمِنْهَا: مَا أخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن سعيد عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول ا: (إِذا تَوَضَّأ أحدكُم فِي بَيته ثمَّ أَتَى الْمَسْجِد كَانَ فِي صَلَاة حَتَّى يرجع فَلَا يفعل هَكَذَا، وَشَبك بَين أَصَابِعه) ، وَقَالَ: حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ. وَمِنْهَا: مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن عبد ابْن عبد الرَّحْمَن بن موهب عَن عَمه عَن مولى لأبي سعيد، وَهُوَ مَعَ رَسُول ا، فَدخل رَسُول الله الْمَسْجِد فَرَأى رجلا جَالِسا وسط النَّاس وَقد شَبكَ بَين أَصَابِعه يحدث نَفسه، فَأَوْمأ إِلَيْهِ رَسُول الله فَلم يفْطن لَهُ، فَالْتَفت إِلَى أبي سعيد فَقَالَ: (إِذا صلى أحدكُم فَلَا يشبكن بَين أَصَابِعه، فَإِن التشبيك من الشَّيْطَان) . فَإِن قلت: هَذِه الْأَحَادِيث مُعَارضَة لأحاديث الْبَاب قلت: غير مقاومة لَهَا فِي الصِّحَّة، وَلَا مُسَاوِيَة. وَقَالَ ابْن بطال: وَجه إِدْخَال هَذِه التَّرْجَمَة فِي الْفِقْه مُعَارضَة بِمَا رُوِيَ من النَّهْي عَن

(4/261)


التشبيك فِي الْمَسْجِد، وَقد وَردت فِيهِ مَرَاسِيل، ومسند من طرق غير ثَابِتَة قلت: كَأَنَّهُ أَرَادَ بالمسند حَدِيث كَعْب بن عجْرَة الَّذِي ذَكرْنَاهُ فَإِن قلت: حَدِيث كَعْب هَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان قلت: فِي اسناده اخْتِلَاف، فضعفه بَعضهم بِسَبَبِهِ، وَقيل: لَيْسَ بَين هَذِه الْأَحَادِيث مُعَارضَة لِأَن النَّهْي إِنَّمَا ورد عَن فعل ذَلِك فِي الصَّلَاة أَو فِي الْمُضِيّ إِلَى الصَّلَاة وَفعله لَيْسَ فِي الصَّلَاة وَلَا فِي الْمُضِيّ إِلَيْهَا مُعَارضَة إِذا، وَبَقِي كل حَدِيث على حياله فَإِن قلت: فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة الَّذِي فِي الْبَاب وَقع تشبيكه وَهُوَ فِي الصَّلَاة قلت: إِنَّمَا بعد انْقِضَاء الصَّلَاة فِي ظَنّه فَهُوَ فِي حكم المنصرف عَن الصَّلَاة، وَالرِّوَايَة الَّتِي فِيهَا النَّهْي عَن ذَلِك مَا دَامَ فِي الْمَسْجِد ضعيفه، لِأَن فِيهَا ضَعِيفا ومجهولاً، وَقد رَوَاهَا ابْن أبي شيبَة، وَلَفظه: (إِذا صلى أحدكُم فَلَا يشبكن بَين أَصَابِعه، فَإِن التشبيك من الشَّيْطَان، وَإِن أحدكُم لَا يزَال فِي صَلَاة مَا دَامَ فِي الْمَسْجِد حَتَّى يخرج مِنْهُ) وَقَالَ ابْن الْمُنِير: التَّحْقِيق أَنه لَيْسَ بَين هَذِه الْأَحَادِيث تعَارض، إِذا الْمنْهِي عَنهُ فعله على وَجه الْعَبَث وَالَّذِي فِي الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ الْمَقْصُود التَّمْثِيل وتصوير الْمَعْنى فِي اللَّفْظ فَإِن قلت: مَا حكمه النَّهْي عَن التشبيك؟ قلت: أُجِيب بأجوبة. الأول: لكَونه من الشَّيْطَان، كَمَا مر الْآن. الثَّانِي: لِأَنَّهُ يجلب النّوم، وَهُوَ من مظان الْحَدث. الثَّالِث: أَن صُورَة التشبيك تشبه صُورَة الِاخْتِلَاف، كَمَا نبه عَلَيْهِ فِي حَدِيث ابْن عمر، فكره ذَلِك لمن هُوَ فِي حكم الصَّلَاة حَتَّى لَا يَقع فِي الْمنْهِي عَنهُ. قَوْله: للمصلين: (وَلَا تختلفوا فتختلف قُلُوبهم) ، وَا تَعَالَى أعلم.

284 - ح دّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدّثنا ابنُ شمَيْلٍ أخبرنَا ابنُ عَوْنٍ عنِ ابنِ سِيرِينَ عَنْ أبي هُرَيْرَةَ قلَ صَلَّى بِنَا رسولُ اللَّهِ إحْدَى صَلاَتِي العَشِيَّ قالَ سِيرِينَ قَد سَمَّاهَا أبُو هُرَيْرةَ وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنا قالَ فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتْينِ ثُمَّ سَلَّمَ فقامَ إلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فَي المَسْجِدِ فَاتَّكَأَ عَلَيْها كأنَّهُ غَضْبَانُ ووضَعَ يَدَهُ اليُمْنَى عَلَى اليُسْرَى وشَبَّكَ بَيْنَ أصابِعِهِ ووضَعَ خَدَّهُ الأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كفَّهِ اليُسْرَى وَخَرَجَتِ السَّرَعانُ مِنْ أبْوَابِ المَسْجِدِ فقالُوا قَصُرَتِ الصَّلاَةُ وفِي

(4/262)


القَوْمِ أبُو بَكْرٍ وعُمَرُ فَهَابَاهُ أنْ يُكَلِّمَاهُ وفِي القَوْمِ رَجُلٌ فِي يَدَيْهِ طُولٌ يُقَالُ لَهُ ذُو اليَدَيْنِ قَالَ يَا رسولَ اللَّهِ أنَسيتَ أمْ قَصُرَتِ الصَّلاَةُ قالَ لَمْ أنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ فقالَ أكَما يَقُولُ ذُو اليَدَيْنِ فقالُوا نَعَمْ فَتَقَدَّمَ فَصَلَّى مَا تَرَكَ ثُمَّ سلَّمَ ثُم كَبَّرَ وسَجَدَ مِثْلَ سْجُودِهِ أوْ أطْوَلَ ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ وكبَّرَ ثُمَّ كَبَّرَ وسَجَدَ مِثْلَ سُجُودِهِ أوْ أَطْولَ ثُمَّ رَفَعَ رأْسَهُ وكَبَّرَ فَرُبَّما سألُوهُ ثُمَّ سَلَّمَ فَيَقُولُ نُبِّئْتُ أنَّ عِمْرانَ بنَ حُصَيْنٍ قَالَ ثُمَّ سَلَّمَ. (الحَدِيث 284 أَطْرَافه فِي: 417، 517، 7221، 8221، 9221، 1506، 0527) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث يدل على تَمامهَا، لِأَن التشبيك إِذا جَازَ فِي الْمَسْجِد فَفِي غَيره أولى بِالْجَوَازِ.
ذكر رِجَاله وهم خَمْسَة: الأول: إِسْحَاق بن مَنْصُور بن بهْرَام، تقدم فِي بَاب فضل من علم. الثَّانِي: النَّضر بن شُمَيْل، بِضَم الْمُعْجَمَة، تقدم فِي بَاب العنزة. الثَّالِث: عبد ابْن عون، تقدم. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين، تكَرر ذكره. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن إِسْحَاق بن مَنْصُور هُوَ المجزوم بِهِ عِنْد أبي نعيم. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين مروزي وبصري.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن عبد ابْن مسلمة عَن مَالك وَعَن حَفْص بن عَمْرو عَن آدم عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم عَن قُتَيْبَة عَن مَالك وَعَن حجاج بن الشَّاعِر. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عَليّ ابْن نصر بن عَليّ، وَعَن مُحَمَّد بن عبيد وَعَن معَاذ عَن أَبِيه. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حميد بن مسْعدَة عَن يزِيد ابْن زُرَيْع، وَعَن عَمْرو بن عُثْمَان. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن أبي أُسَامَة. وَأخرج الطَّحَاوِيّ هَذَا الحَدِيث من ثَلَاثَة عشر طَرِيقا.
ذكر مَعْنَاهُ) . قَوْله: (إِحْدَى صَلَاتي الْعشي) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وَالْمُسْتَمْلِي: (الْعشَاء) ، بِالْمدِّ، وَالظَّاهِر أَنه وهم لِأَنَّهُ صَحَّ فِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ: (صلى بِنَا النَّبِي الظّهْر أَو الْعَصْر) . وَفِي رِوَايَة مُسلم: (صلى بِنَا النَّبِي الْعَصْر فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ) ، وَفِي أُخْرَى لَهُ. (صلى رَكْعَتَيْنِ من صَلَاة الظّهْر ثمَّ سلم) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (صلى بِنَا رَسُول الله إِحْدَى صَلَاتي العشى الظّهْر أَو الْعَصْر) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (صلى بِنَا رَسُول الله إِحْدَى صَلَاتي العشى الظّهْر أَو الْعَصْر، وأكبر ظَنِّي أَنه ذكر صَلَاة الظّهْر) . قَوْله: (وأكبر ظَنِّي أَنه ذكر صَلَاة الظّهْر) هُوَ قَول ابْن سِيرِين أَي: أكبر ظَنِّي أَن أَبَا هُرَيْرَة ذكر صَلَاة الظّهْر، وَكَذَا ذكره البُخَارِيّ فِي كتاب الْأَدَب، وَأطلق على الظّهْر وَالْعصر صَلَاتي العشى، لِأَن العشى يُطلق على مَا بعد الزَّوَال إِلَى الْمغرب فَإِن قلت: قَالَ الْجَوْهَرِي: الْعشي والعشية من صَلَاة الْمغرب إِلَى الْعَتَمَة؟ قلت: الَّذِي ذكره هُوَ أصل الْوَضع، وَفِي الإستعمال يُطلق على مَا ذَكرْنَاهُ، وَقَالَ الْأَزْهَرِي: الْعشي، بِفَتْح الْعين وَكسر الشين وَتَشْديد الْيَاء: مَا بَين زَوَال الشَّمْس وغروبها.
قَوْله: (معروضة) أَي: مَوْضُوعَة بِالْعرضِ أَو مطروحة فِي نَاحيَة الْمَسْجِد. قَوْله: (وضع يَده الْيُمْنَى) ، يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْوَضع حَال التشبيك وَأَن يكون بعد زَوَاله، وَعند الْكشميهني: (وضع خَدّه الْأَيْمن) بدل: يَده الْيُمْنَى) . قَوْله: (السرعان) قَالَ الْجَوْهَرِي: سرعَان النَّاس، بِالتَّحْرِيكِ: أوائلهم، وَيُقَال: أخفاؤهم والمستعجلون مِنْهُم، وَيلْزم الْإِعْرَاب نونه فِي كل وَجه، وَهُوَ الصَّوَاب الَّذِي قَالَه الْجُمْهُور من أهل الحَدِيث واللغة، وَكَذَا ضَبطه المتقنون. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: السرعان، بِفَتْح السِّين وَالرَّاء: أَوَائِل النَّاس الَّذين يتسارعون إِلَى الشَّيْء ويقبلون عَلَيْهِ بِسُرْعَة، وَيجوز تسكين الرَّاء قلت: وَكَذَا نقل القَاضِي عَن بَعضهم، قَالَ: وَضَبطه الْأصيلِيّ فِي البُخَارِيّ، بِضَم السِّين وَإِسْكَان الرَّاء، وَوَجهه أَنه جمع سريع كقفيز وقفزان، وكثيب وكثبان، وَمن قَالَ: سرعَان، بِكَسْر السِّين فَهُوَ خطأ. وَقيل: يُقَال أَيْضا: سرعَان بِكَسْر السِّين وَالرَّاء وَهُوَ جمع: سريع، كرعيل ورعلان. وَأما أَقْوَالهم: سرعَان مَا فعلت، فَفِيهِ ثَلَاث لُغَات: الضَّم وَالْكَسْر وَالْفَتْح مَعَ إسكان الرَّاء وَالنُّون مَفْتُوحَة أبدا. قَوْله:، " قصرت الصَّلَاة " بِضَم الْقَاف وَكسر الصَّاد ويروى بِفَتْح الْقَاف وَضم الصَّاد قَوْله " فهاباه " أَي هاب أَبُو بكر وَعمر النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -

(4/263)


ويروى: (فَهَابَا) ، بِدُونِ الضَّمِير الْمَنْصُوب، وَهُوَ من الهيبة، وَهُوَ: الْخَوْف والاجلال، وَقد هابه يهابه، وَالْأَمر مِنْهُ: هَب، بِفَتْح الْهَاء. قَوْله: (أَن يُكَلِّمَاهُ) كلمة أَن، مَصْدَرِيَّة، وَالتَّقْدِير: من التكليم. قَوْله: (وَفِي الْقَوْم رجل) جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (ذُو الْيَدَيْنِ) فِيهِ رِوَايَات: فَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (فَقَامَ رجل طَوِيل الْيَدَيْنِ كَانَ رَسُول الله سَمَّاهُ ذَا الْيَدَيْنِ) . وَفِي رِوَايَة: (فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ) ، وَفِي رِوَايَة: (فَقَامَ رجل من بني سليم) ، وَفِي رِوَايَة: (رجل يُقَال لَهُ الْخِرْبَاق بن عَمْرو، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طول) . وَفِي رِوَايَة: (وَكَانَ رجلا بسيط الْيَدَيْنِ) ، وَقع ذَلِك فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن: (أَن رَسُول الله صلى بهم الظّهْر ثَلَاث رَكْعَات ثمَّ سلم وَانْصَرف، فَقَالَ لَهُ الْخِرْبَاق: يَا رَسُول اإنك صليت ثَلَاثًا؟ فجَاء فصلى رَكْعَة ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ للسَّهْو ثمَّ سلم) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا فِي (مُسْنده) وَالطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) .
وخرباق، بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة: ابْن عبد عَمْرو السّلمِيّ، وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ: ذُو الْيَدَيْنِ جَمِيعًا. وَقَالَ ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) : ذُو الْيَدَيْنِ، وَيُقَال لَهُ: ذُو الشمالين أَيْضا: ابْن عبد عَمْرو بن فضلَة الْخُزَاعِيّ. وَقَالَ أَبُو عبد االعدني فِي (مُسْنده) : قَالَ أَبُو مُحَمَّد الْخُزَاعِيّ: ذُو الْيَدَيْنِ أحد أجدادنا، وَهُوَ ذُو الشمالين بن عَمْرو بن ثَوْر بن ملكان بن أفْضى بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : حدّثنا ابْن فُضَيْل عَن حُصَيْن عَن عِكْرِمَة قَالَ: (صلى النَّبِي بِالنَّاسِ ثَلَاث رَكْعَات ثمَّ انْصَرف، فَقَالَ لَهُ بعض الْقَوْم: حدث فِي الصَّلَاة شَيْء؟ وَمَا ذَلِك؟ قَالُوا: لم نصل إلاَّ ثَلَاث رَكْعَات. فَقَالَ: أكذاك يَا ذَا الْيَدَيْنِ؟ وَكَانَ يُسمى ذَا الشمالين، فَقَالَ: نعم. فصلى رَكْعَة وَسجد سَجْدَتَيْنِ) وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (معرفَة الصَّحَابَة) : ذُو الْيَدَيْنِ اسْمه الْخِرْبَاق من بني سليم، كَانَ نزل بِذِي خشب من نَاحيَة الْمَدِينَة، وَلَيْسَ هُوَ ذَا الشمالين خزاعي حَلِيف لبني زهرَة، قتل يَوْم بدر، وَأَن قصَّة ذِي الشمالين كَانَت قبل بدر، ثمَّ أحكمت الْأُمُور بعد ذَلِك.
وَقَالَ القَاضِي عِيَاض فِي (شرح مُسلم) : وَأما حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ فقد ذكر مُسلم فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَن اسْمه الْخِرْبَاق، وَكَانَ فِي يَدَيْهِ طول. وَفِي الرِّوَايَة الْأُخْرَى: بسيط الْيَدَيْنِ، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: رجل من بني سليم وَوَقع للعذري: سلم وَهُوَ خطأ، وَقد جَاءَ فِي حَدِيث عبيد بن عُمَيْر مُفَسرًا، فَقَالَ فِيهِ: ذُو الْيَدَيْنِ أَخُو بني سليم، وَفِي رِوَايَة الزُّهْرِيّ: ذُو الشمالين رجل من بني زهرَة، وبسبب هَذِه الْكَلِمَة ذهب الحنفيون إِلَى أَن حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخ بِحَدِيث ابْن مَسْعُود، قَالُوا: لِأَن ذَا الشمالين قتل يَوْم بدر فِيمَا ذكره أهل السّير، وَهُوَ من بني سليم، فَهُوَ ذُو الْيَدَيْنِ الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَهَذَا لَا يَصح لَهُم، وَإِن قتل ذُو الشمالين يَوْم بدر فَلَيْسَ هُوَ بالخرباق، وَهُوَ رجل آخر حَلِيف لبني زهرَة اسْمه: عُمَيْر بن عبد عَمْرو من خُزَاعَة، بِدَلِيل رِوَايَة أبي هُرَيْرَة حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ ومشاهدته خَبره، وَلقَوْله: صلى بِنَا رَسُول ا، وَذكر الحَدِيث، وَإِسْلَام أبي هُرَيْرَة بِخَير بعد يَوْم بدر بِسنتَيْنِ، فَهُوَ غير ذِي الشمالين المستشهد ببدر، وَقد عدوا قَول الزُّهْرِيّ فِيهِ هَذَا من وهمه، وَقد عدهما بَعضهم حديثين فِي نازلتين وَهُوَ الصَّحِيح لاخْتِلَاف صفتهما، لِأَن فِي حَدِيث الْخِرْبَاق ذَا الشمالين أَنه: سلم من ثَلَاث، وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: من اثْنَتَيْنِ، وَفِي حَدِيث الْخِرْبَاق: إِنَّهَا الْعَصْر، وَفِي حَدِيث ذِي الْيَدَيْنِ: الظّهْر لغير شكّ عِنْد نعضهم، وَقد ذكر مُسلم ذَلِك كُله. اناتهى. وَقَالَ أَبُو عمر: ذُو الْيَدَيْنِ غير ذِي الشمالين الْمَقْتُول ببدر بِدَلِيل مَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة. وَأما قَول الزُّهْرِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: أَنه ذُو الشمالين، فَلم يُتَابع عَلَيْهِ.
قلت: الْجَواب على ذَلِك كُله مَعَ تَحْرِير الْكَلَام فِي هَذَا الْموضع أَنه: وَقع فِي كتاب النَّسَائِيّ: ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين وَاحِد، كِلَاهُمَا لقب على الْخِرْبَاق كَمَا ذكرنَا حَيْثُ قَالَ: أخبرنَا مُحَمَّد بن رَافع حدّثنا عبد الرَّزَّاق حدّثنا معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَأبي بكر بن سُلَيْمَان بن أبي خَيْثَمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (صلى النَّبِي الظّهْر أَو الْعَصْر فَسلم من رَكْعَتَيْنِ فَانْصَرف، فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ وَذُو الشمالين ابْن عَمْرو: أنقضت الصَّلَاة أم نسيت؟ فَقَالَ النَّبِي: مَا يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: صدق يَا رَسُول ا، فَأَتمَّ لَهُم الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ نقصتا) ، وَهَذَا سَنَد صَحِيح مُتَّصِل صرح فِيهِ بِأَن ذَا الشمالين هُوَ ذُو الْيَدَيْنِ. وَقَالَ النَّسَائِيّ أَيْضا: أَن هَارُون بن مُوسَى الْفَروِي حَدثنِي أَبُو ضَمرَة عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: أَخْبرنِي أَبُو سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: (نسي رَسُول الله فَسلم فِي سَجْدَتَيْنِ، فَقَالَ ذُو الشمالين: اقصرت الصَّلَاة أم نسيت يَا رَسُول ا؟ قَالَ رَسُول ا: أصدق ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نعم، فَقَامَ رَسُول الله فَأَتمَّ الصَّلَاة) ، وَهَذَا أَيْضا سَنَد صَحِيح صَرِيح فِيهِ أَيْضا أَن: ذَا الشمالين، وَهُوَ: ذُو الْيَدَيْنِ. وَقد تَابع الزُّهْرِيّ على ذَلِك

(4/264)


عمرَان بن أبي أنس، قَالَ النَّسَائِيّ: أخبرنَا عِيسَى بن حَمَّاد أخبرنَا اللَّيْث عَن زيد بن أبي حبيب عَن عمرَان بن أبي أنس عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن رَسُول ا، صلى يَوْمًا فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ انْصَرف، فأدركه ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ: يَا رَسُول اانقصت الصَّلَاة أم نسيت؟ فَقَالَ: لم تنقص الصَّلَاة وَلم أنس قَالَ: بلَى، وَالَّذِي بَعثك بِالْحَقِّ قَالَ رَسُول ا، أصدق ذُو الْيَدَيْنِ؟ قَالُوا: نعم فصلى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ) : وَهَذَا يضاً سَنَد صَحِيح على شَرط مُسلم. وَأخرج نَحوه الطَّحَاوِيّ: عَن ربيع الْمُؤَذّن عَن شُعَيْب بن اللَّيْث عَن اللَّيْث عَن يزِيد بن أبي حبيب إِلَى آخِره نَحوه، فَثَبت أَن الزُّهْرِيّ لم ينْفَرد بذلك، وَأَن الْمُخَاطب للنَّبِي ذُو الشمالين، وَأَن من قَالَ ذَلِك لم يهم، وَلَا يلْزم من عدم تَخْرِيج ذَلِك فِي الصَّحِيح عدم صِحَّته، فَثَبت أَن ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين وَاحِد، وَهَذَا أولى من جعله رجلَيْنِ لِأَنَّهُ خلاف الأَصْل فِي هَذَا الْموضع فَإِن قلت: أخرج الْبَيْهَقِيّ حَدِيثا وَاسْتدلَّ بِهِ على بَقَاء ذِي الْيَدَيْنِ بعد النَّبِي، فَقَالَ: الَّذِي قتل ببدر هُوَ ذُو الشمالين بن عبد عَمْرو بن فضلَة، حَلِيف بني زهرَة من خُزَاعَة: وَأما ذُو الْيَدَيْنِ الَّذِي أخبر النَّبِي، بسهوه فَإِنَّهُ بَقِي بعد النَّبِي. كَذَا ذكره شَيخنَا أَبُو عبد االحافظ، ثمَّ خرج عَنهُ بِسَنَدِهِ إِلَى معدي بن سُلَيْمَان، قَالَ: حَدثنِي شُعَيْب بن مطير عَن أَبِيه ومطير حَاضر فَصدقهُ، قَالَ شُعَيْب: يَا أبتاه أَخْبَرتنِي أَن ذَا الْيَدَيْنِ لقيك بِذِي خشب فأخبرك أَن رَسُول ا: الحَدِيث؛ ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَقَالَ بعض الروَاة: فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، فَقَالَ ذُو الشمالين: يَا رَسُول اأقصرت الصَّلَاة؟ وَكَانَ شَيخنَا أَبُو عبد ايقول: كل من قَالَ ذَلِك فقد أَخطَأ، فَإِن ذَا الشمالين تقدم مَوته وَلم يعقب وَلَيْسَ لَهُ راو قلت: سَنَده ضَعِيف لِأَن فِيهِ معدي بن سُلَيْمَان، فَقَالَ أَبُو زرْعَة: واهي الحَدِيث، وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف الحَدِيث. وَقَالَ أَبُو حَاتِم: يحدث عَن ابْن عجلَان مَنَاكِير. وَقَالَ ابْن حبَان: يروي المقلوبات عَن الثِّقَات، والملزوقات عَن الْأَثْبَات لَا يجوز الإحتجاج بِهِ إِذا انْفَرد. وَفِي سَنَده أَيْضا شهيب لم يعرف حَاله وَولده مطير، قَالَ فِيهِ ابْن الْجَارُود: روى عَنهُ ابْنه شُعَيْب لم يكْتب حَدِيثه، وَفِي (الضُّعَفَاء) للذهبي: لم يَصح حَدِيثه، وَفِي (الكاشف) : مطير بن سليم عَن ذِي الزَّوَائِد وَعنهُ أَبنَاء شُعَيْب وسليم لم يَصح حَدِيثه.
ولضعف هَذَا السَّنَد قَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (كتاب الْمعرفَة) : ذُو الْيَدَيْنِ بَقِي بعد النَّبِي فِيمَا يُقَال، وَلَقَد أنصف وَأحسن فِي هَذِه الْعبارَة، ثمَّ إِن قَول شَيْخه أبي عبد ا: كل من قَالَ ذَلِك فقد أَخطَأ، غير صَحِيح، روى مَالك فِي (موطئِهِ) عَن ابْن شهَاب عَن ابْن أبي بكر بن سُلَيْمَان عَن أبي خثيمَةَ: (بَلغنِي أَن رَسُول الله ركعه رَكْعَتَيْنِ فِي إِحْدَى صَلَاتي النَّهَار، الظّهْر أَو الْعَصْر، فَسلم من اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ ذُو الشمالين، رجل من بني زهرَة بن كلاب: أقصرت الصَّلَاة؟)
الحَدِيث، وَفِي آخِره: مَالك عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب، وَعَن أبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن مثل ذَلِك، فقد صرح فِي هَذِه الرِّوَايَة أَنه ذُو الشمالين وَأَنه من بني زهرَة فَإِن قلت: هُوَ مُرْسل. قلت: ذكر أَبُو عمر فِي (التَّمْهِيد) : أَنه مُتَّصِل من وُجُوه صِحَاح، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا ذكرنَا مِمَّا رَوَاهُ النَّسَائِيّ آنِفا، ثمَّ قَول الْحَاكِم عَن ذِي الشمالين: لم يعقب يفهم من ظَاهِرَة أَن ذَا الْيَدَيْنِ أعقب، وَلَا أصل لذَلِك فِيمَا قد علمناه، وَا تَعَالَى أعلم. فَإِن قلت: إِن ذَا الْيَدَيْنِ وَذَا الشمالين إِذا كَانَا لقباً على شخص وَاحِد على مَا زعمتم فَحِينَئِذٍ يدل على أَن أَبَا هُرَيْرَة لم يحضر تِلْكَ الصَّلَاة، وَذَلِكَ لِأَن ذَا الْيَدَيْنِ الَّذِي هُوَ ذُو الشمالين قتل ببدر، وَأَبُو هُرَيْرَة أسلم عَام خَيْبَر وَهُوَ مُتَأَخّر بِزَمَان كثير، وَمَعَ هَذَا فَأَبُو هُرَيْرَة يَقُول: (صلى بِنَا رَسُول الله إِحْدَى صَلَاتي الْعشي، إِمَّا الظّهْر أَو الْعَصْر)
الحَدِيث، وَفِيه: (فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ فَقَالَ يَا رَسُول ا)
أخرجه مُسلم وَغَيره. وَفِي رِوَايَة: (صلى بِنَا رَسُول ا، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ)
الحَدِيث قلت: أجَاب الطَّحَاوِيّ بِأَن معناد: صلى بِالْمُسْلِمين، وَهَذَا جَائِز فِي اللُّغَة، كَمَا رُوِيَ عَن النزل بن سُبْرَة قَالَ: (قَالَ لنا رَسُول ا: أَنا وَإِيَّاكُم كُنَّا ندعى بني عبد منَاف)
الحَدِيث والنزال لم ير رَسُول ا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بذلك: قَالَ لقومنا، وَرُوِيَ عَن طَاوُوس، قَالَ: (قدم علينا معَاذ ابْن جبل فَلم يَأْخُذ من الخضراوات شَيْئا، وَإِنَّمَا أَرَادَ: قدم بلدنا، لِأَن معَاذًا قدم الْيمن فِي عهد رَسُول ا، قبل أَن يُولد طَاوس) ، وَمثله مَا ذكره الْبَيْهَقِيّ فِي بَاب: الْبَيَان أَن النَّهْي مَخْصُوص بِبَعْض الْأَمْكِنَة عَن مُجَاهِد، قَالَ: جَاءَنَا أَبُو ذَر، رَضِي اتعالى عَنهُ؟ إِلَى آخِره. قَالَ الْبَيْهَقِيّ: مُجَاهِد لَا يثبت لَهُ سَماع من أبي ذَر. وَقَوله: (جَاءَنَا) ، أَي: بلدنا. فأفهم.
قَوْله: (لم أنس وَلم تقصر) ، أَي: الصَّلَاة، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (كل ذَلِك لم يكن) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (كل ذَلِك لم أفعل) ، قَالَ

(4/265)


النَّوَوِيّ فِيهِ تَأْوِيلَانِ: أَحدهمَا: أَن مَعْنَاهُ لم يكن الْمَجْمُوع، وَلَا يَنْفِي وجود أَحدهمَا. وَالثَّانِي: هُوَ الصَّوَاب، مَعْنَاهُ: لم يكن لَا ذَلِك وَلَا ذَا فِي ظَنِّي، بل ظَنِّي أَنِّي أكملت الصَّلَاة أَرْبعا. وَيدل على صِحَة هَذَا التَّأْوِيل، وَأَنه لَا يجوز غَيره، أَنه جَاءَ فِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي هَذَا الحَدِيث: أَن النَّبِي قَالَ: (لم نقصر وَلم أنس يرجع إِلَى السَّلَام أَي: لم أنس فِيهِ إِنَّمَا سلمت قصدا، وَلم أنس فِي نفس السَّلَام، وَإِنَّمَا سَهَوْت عَن الْعدَد. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَهَذَا فَاسد، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يكون جَوَابا عَمَّا سُئِلَ عَنهُ. وَيُقَال: بَين النسْيَان والسهو فرق، فَقيل: كَانَ يسهو وَلَا ينسى، فَلذَلِك نفي عَن نَفسه النسْيَان، لِأَن فِيهِ غَفلَة، وَلم يغْفل. قَالَه القَاضِي. وَقَالَ الْقشيرِي: هَذَا افرق بَينهمَا فِي اسْتِعْمَال اللُّغَة، وَكَأَنَّهُ يلوح من اللَّفْظ على أَن النسْيَان عدم الذّكر لأمر لَا يتَعَلَّق باصلاة، والسهو عدم الذّكر لأمر يتَعَلَّق بهَا، وَيكون النسْيَان الْإِعْرَاض عَن تفقد أمورها حَتَّى يحصل عدم الذّكر، والسهو عدم الذّكر لَا لأجل الْإِعْرَاض. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: لَا نسلم الْفرق، وَلَئِن سلم فقد أضَاف النَّبِي النسْيَان إِلَى نَفسه فِي غير مَا مَوضِع، بقوله: (إِنَّمَا أَنا بشر أنسى كَمَا تنسون فَإِذا نسيت فذكروني) . وَقَالَ القَاضِي: إِنَّمَا أنكر نسيت المضافة إِلَى نَفسه، وَهُوَ قد نهى عَن هَذَا بقوله: (بئْسَمَا لأحدكم أَن يَقُول: نسيت كَذَا، وَلكنه نسي) . وَقد قَالَ أَيْضا: لَا أنسى، وَقد شكّ بعض الروَاة فِي رِوَايَته، فَقَالَ: أنسى أَو أنسّى، وَأَن: أَو للشَّكّ أَو للتقسيم، وَأَن هَذَا يكون مِنْهُ مرّة من قبل شغله، وَمرَّة يغلب وَيجْبر عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَأَلَهُ السَّائِل بذلك أنكرهُ. وَقَالَ: (كل ذَلِك لم يكن) وَفِي الْأُخْرَى: (لم أنس وَلم تقصر) ، أما الْقصر فَبين، وَكَذَلِكَ: لم أنس، حَقِيقَة من قبل نَفسِي وَلَكِن اتعالى أنساني، وَيُمكن أَن يُجَاب عَمَّا قَالَه القَاضِي: أَن النَّهْي فِي الحَدِيث عَن إِضَافَة نسيت إِلَى الْآيَة الْكَرِيمَة لِأَنَّهُ يقبح لِلْمُؤمنِ أَن يضيف إِلَى نَفسه نِسْيَان كَلَام اتعالى، وَلَا يلْزم من هَذَا النَّهْي الْخَاص النَّهْي عَن إِضَافَته إِلَى كل شَيْء. فَافْهَم. وَذكر بَعضهم أَن الْعِصْمَة ثَابِتَة فِي الْإِخْبَار عَن اتعالى، وَأما إخْبَاره عَن الْأُمُور الوجودية فَيجوز فِيهَا النسْيَان قلت: تَحْقِيق الْكَلَام فِي هَذَا الْمقَام أَن قَوْله: لم ينس وَلم تقصر الصَّلَاة، مثل قَوْله: كل ذَلِك لم يكن، وَالْمعْنَى: كل من الْقصر وَالنِّسْيَان لم يكن، فَيكون فِي معنى: لَا شَيْء مِنْهُمَا بكائن، على شُمُول النَّفْي وعمومه لوَجْهَيْنِ:
أَحدهمَا: أَن السُّؤَال عَن أحد الْأَمريْنِ: بِأم، وَيكون لطلب التَّعْيِين بعد ثُبُوت أَحدهمَا عِنْد الْمُتَكَلّم، لَا على التَّعْيِين، غير أَنه إِنَّمَا يكون بِالتَّعْيِينِ أَو بنفيهما جَمِيعًا تخطئه للمستفهم لَا بِنَفْي الْجمع بَينهمَا، حَتَّى يكون نفي الْعُمُوم لِأَنَّهُ عَارِف بِأَن الْكَائِن أَحدهمَا.
وَالثَّانِي: لما قَالَ: كل ذَلِك لم يكن، قَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: قد كَانَ بعض ذَلِك. وَمَعْلُوم أَن الثُّبُوت للْبَعْض إِنَّمَا يُنَافِي النَّفْي عَن كل فَرد لَا النَّفْي عَن الْمَجْمُوع. وَقَوله: قد كَانَ بعض ذَلِك، مُوجبَة جزئية ونقيضها السالبة الْكُلية، وَلَوْلَا أَن ذَا الْيَدَيْنِ فهم السَّلب الْكُلِّي لما ذكر فِي مُقَابلَته الْإِيجَاب الجزئي، وَهَهُنَا قَاعِدَة أُخْرَى وَهِي: أَن لَفْظَة: كل إِذا وَقعت فِي حيّز النفيي كَانَ النَّفْي مُوجبهَا خَاصَّة، وَأفَاد بمفهومه ثُبُوت الْفِعْل لبَعض الْأَفْرَاد، كَقَوْلِك: مَا جَاءَ كل الْقَوْم وَلم آخذ كل الدَّرَاهِم. وَقَوله.
(مَا كل مَا يتَمَنَّى الْمَرْء يُدْرِكهُ)

وَإِن وَقع النَّفْي فِي حيزها اقْتضى السَّلب عَن كل فَرد. كَقَوْلِه: (كل ذَلِك لم يكن) .
قَوْله: (أكما يَقُول ذُو الْيَدَيْنِ؟) أَي: الْأَمر كَمَا يَقُول. قَوْله: (فَقَالُوا: نعم) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (فَقَالَ النَّاس: نعم) ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (فأمأوا) أَي: نعم، وَفِي أَكثر الْأَحَادِيث قَالُوا: نعم، وَيُمكن أَن يجمع بَينهمَا بِأَن بعض أَوْمَأ، وَبَعْضهمْ يكلم. وَسَنذكر وَجه هَذَا عَن قريب. قَوْله: (فَرُبمَا سَأَلُوهُ) فَرُبمَا سَأَلُوا ابْن سِيرِين: هَل فِي الحَدِيث: ثمَّ سلم، يَعْنِي: سَأَلُوا ابْن سِيرِين أَن رَسُول الله بعد هَذَا السُّجُود سلم مرّة أُخْرَى، أَو اكْتفى بِالسَّلَامِ الأول؟ وَكلمَة: رب، أَصْلهَا للتقليل، وَكثر اسْتِعْمَالهَا فِي التكثير، وتلحقها كلمة: مَا، فَتدخل على الْجمل. قَوْله: (فَيَقُول: نبئت) ، بِضَم النُّون: أَي أخْبرت أَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ: ثمَّ سلم، وَهَذَا يدل على أَنه لم يسمع من عمرَان، وَقد بَين أَبُو دَاوُد فِي رِوَايَته عَن ابْن سِيرِين الْوَاسِطَة بَينه وَبَين عمرَان، فَقَالَ: حدّثنا مُحَمَّد بن يحيى بن فَارس حدّثنا مُحَمَّد بن عبد ابْن الْمثنى قَالَ حَدثنِي أَشْعَث عَن مُحَمَّد بن سِيرِين عَن خَالِد عَن أبي قلَابَة عَن أبي الْمُهلب عَن عمرَان بن حُصَيْن: (أَن رَسُول ا، صلى بهم وسها، فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ ثمَّ تشهد ثمَّ سلم) . وَرَوَاهُ النَّسَائِيّ والترمزي وَقَالَ: حسن غَرِيب، وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث شُعْبَة عَن خَالِد الْحذاء، قَالَ: سَمِعت أَبَا قلَابَة يحدث عَن عَمه أبي الْمُهلب عَن عمرَان بن حُصَيْن: (أَن رَسُول الله صلى بهم الظّهْر ثَلَاث رَكْعَات ثمَّ سلم وَانْصَرف، فَقَالَ لَهُ الْخِرْبَاق: يَا رَسُول اإنك صليت ثَلَاثًا قَالَ: فجَاء فصلى رَكْعَة ثمَّ سلم ثمَّ سجد سَجْدَتَيْنِ للسَّهْو ثمَّ سلم) . وَأَبُو قلَابَة اسْمه: عبد ابْن زيد الحرمي، وَعَمه أَبُو الْمُهلب اسْمه: عَمْرو بن مُعَاوِيَة، قَالَه النَّسَائِيّ. وَقيل: عبد الرَّحْمَن بن مُعَاوِيَة، وَقيل: مُعَاوِيَة بن عَمْرو، وَقيل: عبد الرَّحْمَن بن

(4/266)


عَمْرو، وَقيل: النَّضر بن عَمْرو، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ من الْأَحْكَام وَهُوَ على وُجُوه: الأول: فِيهِ دَلِيلا على أَن سُجُود السَّهْو سَجْدَتَانِ.
الثَّانِي: فِيهِ حجَّة لِأَصْحَابِنَا الْحَنَفِيَّة أَن سَجْدَتي السَّهْو بعد السَّلَام، وَهُوَ حجَّة على الشَّافِعِي وَمن تبعه فِي أَنَّهَا قبل السَّلَام.
الثَّالِث: أَن الَّذِي عَلَيْهِ السَّهْو إِذا ذهب من مقَامه ثمَّ عَاد وَقضى مَا عَلَيْهِ هَل يَصح؟ فَظَاهر الحَدِيث يدل على أَنه يَصح، لِأَنَّهُ قَالَ فِي رِوَايَة عمرَان بن حُصَيْن: (فجَاء فصلى رَكْعَة) ، وَفِي رِوَايَة غَيره من الْجَمَاعَة: (فَتقدم وَصلى) ، وَهُوَ رِوَايَة اليخاري هَهُنَا، وَفِي رِوَايَة: (فَرجع رَسُول الله إِلَى مقَامه) ، وَلَكِن اخْتلف الْفُقَهَاء فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، فَعِنْدَ الشَّافِعِي فِيهَا وَجْهَان: أصَحهمَا: أَنه يَصح لِأَنَّهُ ثَبت فِي صَحِيح مُسلم: (أَنه، عَلَيْهِ السَّلَام، مَشى إِلَى الْجذع وَخرج السرعان) . وَفِي رِوَايَة: (دخل منزله) . وَفِي رِوَايَة: (دخل الْحُجْرَة ثمَّ خرج وَرجع النَّاس وَبنى على صلَاته) . وَالْوَجْه الثَّانِي: وَهُوَ الْمَشْهُور عِنْدهم: أَن الصَّلَاة تبطل، بذلك قَالَ النَّوَوِيّ، وَهَذَا مُشكل، وَتَأْويل الحَدِيث صَعب على من أبطلها، وَنقل عَن مَالك أَنه مَا لم ينْتَقض وضوؤه يجوز لَهُ ذَلِك وَإِن طَال الزَّمَان، وَكَذَا رُوِيَ عَن ربيعَة، مستدلين بِحَدِيث عمرَان. وَمذهب أبي حنيفَة فِي هَذِه الْمَسْأَلَة: إِذا سلم سَاهِيا على الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ فِي مَكَانَهُ لم يصرف وَجهه عَن الْقبْلَة وَلم يتَكَلَّم عَاد إِلَى الْقَضَاء لما عَلَيْهِ، وَلَو اقْتدى بِهِ رجل يَصح اقْتِدَاؤُهُ بِهِ، أما إِذا صرف وَجهه عَن الْقبْلَة فَإِن كَانَ فِي الْمَسْجِد وَلم يتَكَلَّم فَكَذَلِك، لِأَن الْمَسْجِد كُله فِي حكم مَكَان وَاحِد، لِأَنَّهُ مَكَان الصَّلَاة، وَإِن كَانَ خرج فِي الْمَسْجِد ثمَّ تذكر لَا يعود، وتفسد صلَاته. وَأما إِذا كَانَ فِي الصَّحرَاء فَإِن تذكر قبل أَن يُجَاوز الصُّفُوف من خَلفه أَو من قبل الْيَمين أَو الْيَسَار عَاد إِلَى قَضَاء مَا عَلَيْهِ، وإلاَّ فَلَا، وَإِن مَشى أَمَامه لم يذكرهُ فِي الْكتاب.
وَقيل: إِن مَشى قدر الصُّفُوف الَّتِي خَلفه تفْسد وإلاَّ فَلَا، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن أبي يُوسُف اعْتِبَارا لأحد الْجَانِبَيْنِ. وَقيل: إِذا جَاوز مَوضِع سُجُوده لَا يعود، وَهُوَ الْأَصَح، وَهَذَا إِذا لم يكن بَين يَدَيْهِ ستْرَة، فَإِن كَانَ يعود مَا لم يجاوزها، لِأَن دَاخل الستْرَة فِي حكم الْمَسْجِد. وَا اعْلَم.
وَأَجَابُوا عَن الحَدِيث: إِنَّه مَنْسُوخ، وَذَلِكَ أَن عمر بن الْخطاب عمل بعد رَسُول الله بِخِلَاف مَا كَانَ عمله يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ، وَالْحَال أَنه كَانَ فِيمَن حضر يَوْم ذِي الْيَدَيْنِ، فلولا ثَبت عِنْده انتساخ ذَلِك لما عمل بِخِلَاف مَا عمل بِهِ النَّبِي، وَأَيْضًا فَإِن عمر فعل ذَلِك بِحَضْرَة الصَّحَابَة وَلم يُنكر عَلَيْهِ أحد، فَصَارَ ذَلِك مِنْهُم إِجْمَاعًا. وروى الطَّحَاوِيّ ذَلِك عَن ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حدّثنا أَبُو عَاصِم عَن عُثْمَان بن الْأسود. قَالَ: (سَمِعت عَطاء يَقُول: صلى عمر بن الْخطاب بِأَصْحَابِهِ فَسلم فِي رَكْعَتَيْنِ ثمَّ انْصَرف، فَقيل لَهُ فِي ذَلِك، فَقَالَ: إِنِّي جهزت عيرًا من الْعرَاق بأحمالها وأقتابها حَتَّى وَردت الْمَدِينَة، قَالَ: فصلى بهم أَربع رَكْعَات) .
الرَّابِع: اسْتدلَّ بِهِ قوم على أَن الْكَلَام فِي الصَّلَاة من الْمَأْمُومين لإمامهم إِذا كَانَ على وَجه إصْلَاح الصَّلَاة لَا يقطع الصَّلَاة، وَأَن الْكَلَام من الإِمَام والمأمومين فِيهَا على السَّهْو لَا يقطع الصَّلَاة، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: وَذهب الشَّافِعِي وَأَصْحَابه إِلَى الْكَلَام وَالسَّلَام سَاهِيا فِي الصَّلَاة لَا يُبْطِلهَا، كَقَوْل مَالك وَأَصْحَابه سَوَاء، وَإِنَّمَا الْخلاف بَينهم أَن مَالِكًا يَقُول: لَا يفْسد الصَّلَاة تعمد الْكَلَام فِيمَا إِذا كَانَ فِي شَأْنهَا وإصلاحها، وَهُوَ قَول ربيعَة وَابْن الْقَاسِم، إلاَّ مَا رُوِيَ عَنهُ فِي الْمُنْفَرد، وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل ذكره الْأَثْرَم عَنهُ أَنه قَالَ: مَا تكلم بِهِ الْإِنْسَان فِي صلَاته لإصلاحها لم تفْسد عَلَيْهِ صلَاته، فَإِن تكلم لغير ذَلِك فَسدتْ عَلَيْهِ، وَذكر الْخرقِيّ عَنهُ أَن مذْهبه فِيمَن تكلم عَامِدًا أَو سَاهِيا بطلت صلَاته إلاَّ الإِمَام خَاصَّة، فَإِنَّهُ إِذا تكلم لمصْلحَة صلَاته لم تبطل صلَاته. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه وَمن تَابعهمْ من أَصْحَاب مَالك وَغَيرهم: إِن من تعمد الْكَلَام وَهُوَ يعلم أَنه لم يتم الصَّلَاة، وَأَنه فِيهَا أفسد صلَاته، فَإِن تكلم نَاسِيا أَو تكلم وَهُوَ يظنّ أَنه لَيْسَ فِي الصَّلَاة، لَا يُبْطِلهَا. قَالَ النَّوَوِيّ: وَبِهَذَا قَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من السّلف وَالْخلف، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس، وَعبد ابْن الزبير وأخيه عُرْوَة وَعَطَاء وَالْحسن وَالشعْبِيّ وَقَتَادَة وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَجَمِيع الْمُحدثين. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري، وَفِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ: تبطل صلَاته بالْكلَام نَاسِيا أَو جَاهِلا، انْتهى. وَأجْمع الْمُسلمُونَ طرّاً أَن الْكَلَام عَامِدًا فِي الصَّلَاة إِذا كَانَ الْمُصَلِّي يعلم أَنه فِي الصَّلَاة وَلم يكن ذَلِك لإِصْلَاح صلَاته أَنه يفْسد الصَّلَاة، إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْأَوْزَاعِيّ أَنه: من تكلم لإحياء نفس أَو مثل ذَلِك من الْأُمُور الجسام لم تفْسد بذلك صلَاته، وَهُوَ قَول ضَعِيف فِي النّظر. وَقَالَ القَاضِي عِيَاض الْمَشْهُور عَن مَالك وَأَصْحَابه الْأَخْذ بِحَدِيث

(4/267)


ذِي الْيَدَيْنِ، وروى عَنهُ ترك الْأَخْذ بِهِ، وَأَنه كَانَ يسْتَحبّ أَن يُعِيد وَلَا يَبْنِي. قَالَ: وَإِنَّمَا تكلم النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَأَصْحَابه لأَنهم ظنُّوا أَن الصَّلَاة قصرت وَلَا يجوز ذَلِك لِأَحَدِنَا الْيَوْم. وَقَالَ الْحَارِث بن مِسْكين: أَصْحَاب مَالك كلهم قَالُوا: كَانَ هَذَا أول الْإِسْلَام، وَأما الْآن فَمن تكلم فِيهَا أَعَادَهَا.
الْخَامِس: فِيهِ دَلِيل على أَن من قَالَ نَاسِيا: لم أفعل كَذَا، وَكَانَ قد فعله، أَنه غير كَاذِب.
السَّادِس: فِيهِ جَوَاز التلقيب الَّذِي سَبيله التَّعْرِيف دون التهجين.
السَّابِع: فِيهِ الْإِجْزَاء بسجدتين عَن السهوات لِأَنَّهُ سَهَا عَن الرَّكْعَتَيْنِ وَتكلم نَاسِيا وَاقْتصر على السَّجْدَتَيْنِ.
الثَّامِن: فِيهِ دَلِيل على جَوَاز تشبيك الْأَصَابِع فِي الْمَسْجِد، على مَا ترْجم عَلَيْهِ الْبَاب.
الأسئلة والأجوبة الأول: كَيفَ تكلم ذُو الْيَدَيْنِ وَالْقَوْم وهم فِي الصَّلَاة بعد؟ وَأجِيب: بِأَنَّهُم لم يَكُونُوا على الْيَقِين من الْبَقَاء فِي الصَّلَاة، لأَنهم كَانُوا مجوزين نسخ الصَّلَاة من أَربع إِلَى رَكْعَتَيْنِ. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِن هَذَا كَانَ خطابا للنَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وجواباً، وَذَلِكَ لَا يبطل عندنَا غَيرنَا، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد بِإِسْنَاد صَحِيح: (إِن الْجَمَاعَة أَو مأوا) ، أَي: أشاروا نعم، فعلى هَذِه الرِّوَايَة لم يتكلموا.
الثَّانِي: قيل: فِيهِ إِشْكَال على مَذْهَب الشَّافِعِي، لِأَن عِنْدهم أَنه لَا يجوز للْمُصَلِّي الرُّجُوع فِي قدر صلَاته إِلَى قَول غَيره إِمَامًا أَو مَأْمُوما، وَلَا يعْمل إلاَّ على يَقِين نَفسه؟ وَأجَاب: النَّوَوِيّ عَن ذَلِك: بِأَنَّهُ، سَأَلَهُمْ ليتذكر، فَلَمَّا ذَكرُوهُ تذكر فَعلم السَّهْو فَبنى عَلَيْهِ، لَا أَنه رَجَعَ إِلَى مُجَرّد قَوْلهم، وَلَو جَازَ ترك يَقِين نَفسه وَالرُّجُوع إِلَى قَول غَيره لرجع ذُو الْيَدَيْنِ حِين قَالَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: (لم تقصر وَلم أنس) قلت: هَذَا لَيْسَ بِجَوَاب مخلص لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو من الرُّجُوع، سَوَاء كَانَ رُجُوعه للتذكرة أَو لغيره، وَعدم رُجُوع ذِي الْيَدَيْنِ كَانَ لأجل كَلَام الرَّسُول لَا لأجل يَقِين نَفسه. وَقَالَ ابْن الْقصار: اخْتلف الروَاة فِي هَذَا عَن مَالك، فَمرَّة قَالَ: يرجع إِلَى قَوْلهم، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة، لِأَنَّهُ قَالَ: يَبْنِي على غَالب ظَنّه. وَقَالَ مرّة أُخْرَى: يعْمل على يقينه وَلَا يرجع إِلَى قَوْلهم، كَقَوْل الشَّافِعِي.
الثَّالِث: قد رُوِيَ فِي بعض رِوَايَات مُسلم فِي قصَّة ذِي الْيَدَيْنِ أَن أَبَا هُرَيْرَة قَالَ: (بَينا أَنا أُصَلِّي مَعَ النَّبِي، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، صَلَاة الظّهْر)
الحَدِيث، وَهَذَا صَرِيح أَنه حضر تِلْكَ الصَّلَاة؟ وَالْجَوَاب: عَنهُ قد ذَكرْنَاهُ عَن الطَّحَاوِيّ عَن قريب، وَقيل: يحْتَمل أَن بعض الروَاة فهم من قَول أبي هُرَيْرَة فِي إِحْدَى رواياته: (صلى بِنَا) ، أَنه كَانَ حَاضرا، فَروِيَ الحَدِيث بِالْمَعْنَى على زَعمه، وَقَالَ: بَينا أَنا أُصَلِّي.
الرَّابِع: فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن أَنه دخل منزله، وَلَا يجوز لأحد الْيَوْم أَن ينْصَرف عَن الْقبْلَة، وَيَمْشي وَقد بَقِي عَلَيْهِ شَيْء من الصَّلَاة؟ أُجِيب: بِأَنَّهُ فعل ذَلِك وَهُوَ لَا يرى أَنه فِي الصَّلَاة فَإِن قيل: فَيلْزم على هَذَا لَو أكل أَو شرب أَو بَاعَ أَو اشْترى وَهُوَ لَا يرى فِي الصَّلَاة أَنه لَا يُخرجهُ ذَلِك مِنْهَا؟ قلت: هَذَا كُله مَنْسُوخ فَلَا يعْمل بِهِ الْيَوْم، وَا أعلم.