عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 10 - (بابُ الكَلاَمِ فِي الأذَانِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْكَلَام فِي أثْنَاء
الْأَذَان بِغَيْر أَلْفَاظه، وَلكنه مَا صرح بالحكم كَيفَ
هُوَ أجائز أم غير جَائِز؟ لَكِن إِيرَاده الأثرين
الْمَذْكُورين فِيهِ، وإيراده حَدِيث ابْن عَبَّاس يُشِير
إِلَى أَنه اخْتَار الْجَوَاز، كَمَا ذهبت إِلَيْهِ
طَائِفَة، على مَا نذكرهُ عَن قريب إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
وَتَكَلّمَ سُلَيْمَانُ بنُ صْرَدٍ فِي أذَانِهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وصرد، بِضَم الصَّاد
الْمُهْملَة وَفتح الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة:
وَهُوَ سُلَيْمَان بن صرد بن أبي الجون الْخُزَاعِيّ
الصَّحَابِيّ، وَكَانَ اسْمه فِي الْجَاهِلِيَّة: يسارا
فَسَماهُ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، سُلَيْمَان،
وكنيته أَبُو الطّرف، وَكَانَ خيّرا عابدا، نزل الْكُوفَة،
وَقَالَ ابْن سعد: قتل بالجزيرة بِعَين الوردة فِي شهر
ربيع الآخر سنة خمس وَسِتِّينَ، وَكَانَ أَمِيرا على
البوابين، أَرْبَعَة آلَاف يطْلبُونَ بِدَم الْحُسَيْن بن
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وعلق البُخَارِيّ مَا
روى عَنهُ، وَأخرجه ابْن أبي شيبَة من حَدِيث مُوسَى بن
عبد الله بن يزِيد بن سُلَيْمَان بن صرد، وَكَانَت لَهُ
صُحْبَة، كَانَ يُؤذن فِي الْعَسْكَر وَكَانَ يَأْمر
غُلَامه بِالْحَاجةِ فِي أَذَانه، وَوَصله أَبُو نعيم شيخ
البُخَارِيّ فِي كتاب الصَّلَاة لَهُ، وَأخرجه البُخَارِيّ
عَنهُ فِي (التَّارِيخ) بِإِسْنَاد صَحِيح، وَلَفظه مثل
لفظ ابْن أبي شيبَة.
وَقَالَ الحَسَنُ لَا بَأسَ أَن يَضْحَكَ وهْوَ يُؤَذِّنُ
أوْ يُقِيمُ
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَهَذَا الْأَثر الْمُعَلق غير
مُطَابق للتَّرْجَمَة لِأَنَّهَا فِي الْكَلَام فِي
الْأَذَان، والضحك لَيْسَ بِكَلَام، لِأَنَّهُ صَوت يسمعهُ
نفس الضاحك، وَلَا يسمع غَيره، وَلَو علق عَنهُ مَا
رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه: حَدثنَا ابْن علية،
قَالَ: سَأَلت يُونُس عَن الْكَلَام فِي الْأَذَان
وَالْإِقَامَة، فَقَالَ: حَدثنِي عبيد الله بن غلاب عَن
الْحسن أَنه لم يكن يرى بذلك بَأْسا، لَكَانَ أولى وأوفق
للمطابقة.
616 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَادٌ عنْ
أيُّوبَ وعَبْدِ الحَمِيدَ صاحِبِ الزِّيادِي وعَاصِمٍ
الأَحْوَلِ عنْ عَبْد الله بنِ الحارِثِ قَالَ خَطَبَنا
ابنُ عَبَّاسِ فِي يَوْمِ رَدْغٍ فَلَمَّا بَلَغَ
المُؤَذِّنُ حَيَّ عَلَى الصَّلاَةِ فَأمَرَهُ أنْ
يُنَادِيَ الصَّلاَةَ فِي الرِّحَالِ فَنَظَرَ القَوْمُ
بَعْضُهُمْ إلَى بَعْضٍ فَقَالَ فَعَلَ هَذا مَنْ هُوَ
خَيْرٌ مِنْهُ وَإنَّهَا عَزْمَةٌ.
(5/126)
هَذَا الحَدِيث غير مُطَابق للتَّرْجَمَة
على مَا زَعمه الدَّاودِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: لَا حجَّة
فِيهِ على جَوَاز الْكَلَام فِي الْأَذَان، بل القَوْل
الْمَذْكُور مَشْرُوع من جملَة الْأَذَان فِي ذَلِك
الْمحل. قلت: سلمنَا أَنه مَشْرُوع فِي مثل هَذَا الْموضع،
ولكننا لَا نسلم أَنه من جملَة أَلْفَاظ الْأَذَان
الْمَعْهُودَة، بل يحْتَمل أَن يكون هَذَا حجَّة لمن يجوز
الْكَلَام فِي الْأَذَان من السَّامع عِنْد ظُهُور مصلحَة،
وَإِن كَانَت الْإِجَابَة وَاجِبَة فعلى هَذَا أَمر ابْن
عَبَّاس للمؤذن بِهَذَا الْكَلَام يدل على أَنه لم ير
بَأْسا بالْكلَام فِي الْأَذَان، فَمن هَذَا الْوَجْه يحصل
التطابق بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: مُسَدّد بن مسرهد.
الثَّانِي: خماد هُوَ ابْن زيد. الثَّالِث: أَيُّوب
السّخْتِيَانِيّ. الرَّابِع: عبد الحميد هُوَ ابْن دِينَار
صَاحب الزيَادي. الْخَامِس: عَاصِم بن سُلَيْمَان
الْأَحول. السَّادِس: عبد الله ابْن الْحَارِث ابْن عَم
مُحَمَّد بن سِيرِين وَزوج ابْنَته. السَّابِع: عبد الله
بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل
فِي موضِعين وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم بصريون. وَفِيه:
رِوَايَة أَيُّوب عَن ثَلَاثَة أنفس. وَفِيه: عبد الله بن
الْحَارِث تَابِعِيّ صَغِير، وَرِوَايَة الثَّلَاثَة عَنهُ
من رِوَايَة الأقران، لِأَن الثَّلَاثَة من صغَار
التَّابِعين، فَيكون فِيهِ أَرْبَعَة أنفس من التَّابِعين،
وهم أَيُّوب فَإِنَّهُ رأى أنس بن مَالك، وَعبد الحميد.
سمع أنس بن مَالك، وَكَذَلِكَ عَاصِم بن سُلَيْمَان سمع
أنس بن مَالك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد الله بن عبد الْوَهَّاب
الحَجبي، فرقهما، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد عَن
أَيُّوب، وَفِي الْجُمُعَة عَن مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل بن
علية عَن عبد الحميد بِهِ. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة
عَن عَليّ بن حجر عَن إِسْمَاعِيل بِهِ، وَأخرجه عَن أبي
كَامِل الجحدري عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي عَن حَمَّاد
وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن النَّضر بن شُمَيْل عَن
شُعْبَة عَن عبد الحميد بِهِ، وَعَن عبد بن حميد عَن سعيد
بن عَامر عَن شُعْبَة، وَعَن عبد بن حميد عَن أَحْمد بن
إِسْحَاق الْحَضْرَمِيّ عَن وهب عَن أَيُّوب، وَأخرجه
أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن أسماعيل بِهِ. وَأخرجه
ابْن مَاجَه عَن أَحْمد بن عَبدة الضَّبِّيّ عَن عباد بن
عباد المهلبي عَن عَاصِم بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي يَوْم ردغ) ، بِفَتْح الرَّاء
وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وبالغين الْمُعْجَمَة:
وَهَذِه رِوَايَة ابْن السكن والكشميهني وَأبي الْوَقْت.
وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (رزغ) ، بالزاي مَوضِع
الدَّال. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: وَالْأول أشهر. وَقَالَ
أَيْضا: وَالصَّوَاب الْفَتْح، يَعْنِي فتح الدَّال،
فَإِنَّهُ اسْم، وبالسكون مصدر. وَقَالَ صَاحب
(التَّلْوِيح) : الردغ، بدال مُهْملَة سَاكِنة وغين
مُعْجمَة، رَوَاهُ العذري، وَبَعض رُوَاة مُسلم، وَكَذَا
لِابْنِ السكن والقابسي إلاَّ أَنَّهُمَا فتحا الدَّال:
وَهِي روايتنا من طَرِيق أبي الْوَقْت، وَرِوَايَة
الْأصيلِيّ والسمرقندي: رزغ، بزاي مَفْتُوحَة بعْدهَا غين
مُعْجمَة. وَقَالَ السفاقسي: روينَاهُ بِفَتْح الزَّاي
وَهُوَ فِي اللُّغَة بسكونها. قَالَ الدَّاودِيّ: الرزغ:
الْغَيْم الْبَارِد وَفِي (الْمُحكم) : الرزغ المَاء
الْقَلِيل فِي الثماد، والرزغة أقل من الردغة، والرزغة
بِالْفَتْح: الطين الرَّقِيق. وَفِي (الصِّحَاح) : الرزغة،
بِالتَّحْرِيكِ: الوحل، وَكَذَلِكَ: الردغة
بِالتَّحْرِيكِ، وَفِي كتاب ابي مُوسَى: الردغة، بِسُكُون
الدَّال وَفتحهَا: طين ووحل كثير، وَالْجمع: رداغ، وَقد
يُقَال: ارتدع، بِالْعينِ الْمُهْملَة تلطخ، وَالصَّحِيح
الأول. وَقَوله: (فِي يَوْم ردغ) بِالْإِضَافَة، وَفِي
رِوَايَة: (فِي يَوْم ذِي ردغ) ، وَفِي رِوَايَة ابْن
علية: (فِي يَوْم مطير) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن
قلت: الْيَوْم أهوَ بِالْإِضَافَة إِلَى الردغ أَو
بِالتَّنْوِينِ على أَنه مَوْصُوف؟ قلت: الْإِضَافَة
ظَاهِرَة، وَيحْتَمل الْوَصْف بِأَن يكون أَصله يَوْم ذِي
ردغ قلت: لم يقف على الرِّوَايَة الَّتِي ذَكرنَاهَا
حَتَّى تصرف بذلك. قَوْله: (فَأمره) أَي: أَمر ابْن
عَبَّاس الْمُؤَذّن، وَهَذَا عطف على مُقَدّر، وَهُوَ
جَوَاب لما تَقْدِيره: لما بلغ الْمُؤَذّن إِلَى أَن
يَقُول: حَيّ على الصَّلَاة، أَرَادَ أَن يَقُولهَا فَأمره
ابْن عَبَّاس إِن (يُنَادي: الصَّلَاة فِي الرّحال) ويوضح
ذَلِك فِي رِوَايَة ابْن علية: (إِذا قلت: أشهد أَن
مُحَمَّدًا رَسُول الله، فَلَا تقل: حَيّ على الصَّلَاة) ،
وَابْن علية هُوَ إِسْمَاعِيل، روى أَبُو دَاوُد عَن
مُسَدّد عَن إِسْمَاعِيل أَخْبرنِي عبد الحميد صَاحب
الزيَادي، حَدثنَا عبد الله بن الْحَارِث ابْن عَم
مُحَمَّد بن سِيرِين: (أَن ابْن عَبَّاس قَالَ لمؤذنه فِي
يَوْم مطير: إِذا قلت: أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله،
فَلَا تقل: حَيّ على الصَّلَاة، قل: صلوا فِي بُيُوتكُمْ،
قَالَ: فَكَأَن النَّاس استنكروا ذَلِك، فَقَالَ: قد فعل
ذَا من هُوَ خير مني، إِن الْجُمُعَة عَزمَة، وَإِنِّي
كرهت أَن أحرجكم فتمشون فِي الطين والمطر) . وَقَوله:
(الصَّلَاة) ، مَنْصُوب بعامل مَحْذُوف
(5/127)
تَقْدِيره: صلوا الصَّلَاة وأدوها فِي
الرّحال، وَهُوَ جمع: رَحل، وَهُوَ مسكن الرجل وَمَا
يستصحبه من الأناث. أَي: صلوها فِي مَنَازِلكُمْ. قَوْله:
(فَنظر الْقَوْم) أَي: نظر إِنْكَار على تَغْيِير وضع
الْأَذَان وتبديل الحيعلة بذلك، وَفِي رِوَايَة الحَجبي:
كَأَنَّهُمْ أَنْكَرُوا ذَلِك، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد:
(استنكروا ذَلِك) ، على مَا ذَكرنَاهَا آنِفا. قَوْله:
(فَقَالَ) أَي: ابْن عَبَّاس، فعل هَذَا أَشَارَ بِهِ
إِلَى مَا أَمر الْمُؤَذّن أَن يَقُول: الصَّلَاة فِي
الرّحال، مَوضِع: حَيّ على الصَّلَاة. قَوْله: (من هُوَ
خير مِنْهُ) كلمة: من، فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهُ فَاعل
قَوْله: (فعل) ، وَالضَّمِير فِي: مِنْهُ، يرجع إِلَى ابْن
عَبَّاس، وَمَعْنَاهُ: أَمر بِهِ من هُوَ خير من ابْن
عَبَّاس. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: مِنْهُم، وَوَجهه أَن
يرجع الضَّمِير فِيهِ إِلَى الْمُؤَذّن وَالْقَوْم
جَمِيعًا. وَقَالَ بَعضهم: وَأما رِوَايَة الْكشميهني
فَفِيهَا نظر، وَلَعَلَّ من أذن كَانُوا جمَاعَة، أَو
أَرَادَ جنس المؤذنين. قلت: فِي نظره نظر، وتأويله
بِالْوَجْهَيْنِ غير صَحِيح. أما الأول: فَلم يثبت أَن من
أذن كَانُوا جمَاعَة، وَهَذَا احْتِمَال بعيد، لِأَن
الْأَذَان بِالْجَمَاعَة مُحدث. وَأما الثَّانِي، فَلِأَن
الْألف وَاللَّام فِي: الْمُؤَذّن، للْعهد، فَكيف يجوز أَن
يُرَاد الْجِنْس وَفِي رِوَايَة الحَجبي: (من هُوَ خير
مني) ، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم وَأبي دَاوُد.
قَوْله: (وَإِنَّهَا عَزمَة) أَي: إِن الْجُمُعَة عَزمَة،
بِسُكُون الزَّاي، أَي: وَاجِبَة متحتمة، وَجَاء فِي بعض
طرقه: إِن الْجُمُعَة عَزمَة. فَإِن قلت: لَمْ يسْبق ذكر
الْجُمُعَة فَكيف يُعِيدهُ إِلَيْهَا؟ قلت: قَوْله:
(خَطَبنَا) ، يدل على أَنهم كَانُوا فِي الْجُمُعَة، وَقد
صرح بذلك فِي رِوَايَة أبي دَاوُد، حَيْثُ قَالَ: (إِن
الْجُمُعَة عَزمَة) ، قَوْله فِي رِوَايَة أبي دَاوُد:
(أَن أحرجكم) ، بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي: كرهت أَن أشق
عَلَيْكُم بإلزامكم السَّعْي إِلَى الْجُمُعَة فِي الطين
والمطر، ويروى: (أَن أخرجكم) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة من
الْإِخْرَاج، ويروى: (كرهت أَن أؤثمكم) أَي: أكون سَببا
لاكتسابكم الْإِثْم عِنْد ضيق صدوركم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ التَّيْمِيّ: رخص
الْكَلَام فِي الْأَذَان جمَاعَة مستدلين بِهَذَا الحَدِيث
مِنْهُم: أَحْمد بن حَنْبَل. وَحكى ابْن الْمُنْذر
الْجَوَاز مُطلقًا عَن عُرْوَة وَعَطَاء وَالْحسن
وَقَتَادَة، وَعَن النَّخعِيّ وَابْن سِيرِين
وَالْأَوْزَاعِيّ الْكَرَاهَة، وَعَن الثَّوْريّ الْمَنْع،
وَعَن أبي حنيفَة وصاحبيه خلاف الأولى، وَعَلِيهِ يدل
كَلَام الشَّافِعِي وَمَالك. وَعَن إِسْحَاق بن
رَاهَوَيْه: يكره إلاَّ أَن كَانَ يتَعَلَّق بِالصَّلَاةِ،
وَاخْتَارَهُ ابْن الْمُنْذر وَفِيه: دلَالَة على
فَرضِيَّة الْجُمُعَة، وَأبْعد بعض الْمَالِكِيَّة حَيْثُ
قَالَ: إِن الْجُمُعَة لَيست بِفَرْض، وَإِنَّمَا الْفَرْض
الظّهْر أَو مَا يَنُوب مَنَابه، وَالْجَمَاعَة على
خِلَافه، وَقَالَ ابْن التِّين: وَحكى ابْن أبي صفرَة عَن
(موطأ ابْن وهب) عَن مَالك: إِن الْجُمُعَة سنة. قَالَ:
وَلَعَلَّه يُرِيد فِي السّفر، وَلَا يحْتَج بِهِ. وَفِيه:
تَخْفيف أَمر الْجَمَاعَة فِي الْمَطَر وَنَحْوه من
الْأَعْذَار وَإِنَّهَا متأكدة إِذا لم يكن عذر، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَفِيه: أَن يُقَال: هَذِه الْكَلِمَة
يَعْنِي: الصَّلَاة فِي الرّحال. فِي نفس الْأَذَان. قلت:
أَخذه من كَلَام النَّوَوِيّ، فَإِنَّهُ قَالَ: هَذِه
الْكَلِمَة تقال فِي نفس الْأَذَان، وَيرد عَلَيْهِ حَدِيث
ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، الْآتِي فِي
بَاب الْأَذَان للْمُسَافِر: إِنَّهَا تقال بعده، وَنَصّ
الشَّافِعِي على أَن الْأَمريْنِ جائزان، وَلَكِن بعده
أحسن لِئَلَّا ينخرم نظم الْأَذَان. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
وَمن أَصْحَابنَا من قَالَ: لَا يَقُول إلاَّ بعد
الْفَرَاغ. قَالَ: وَهُوَ ضَعِيف مُخَالف لصريح حَدِيث
ابْن عَبَّاس. قلت: الْأَمْرَانِ جائزان، وَبعد الْفَرَاغ
أحسن كَمَا ذكرنَا، وَكَلَام النَّوَوِيّ يدل على أَنَّهَا
تزاد مُطلقًا إِمَّا فِي أَثْنَائِهِ وَإِمَّا بعده، لَا
أَنَّهَا بدل من الحيعلة. قلت: حَدِيث ابْن عَبَّاس لم
يسْلك مَسْلَك الْأَذَان، أَلا ترى أَنه قَالَ: فَلَا تقل:
حَيّ على الصَّلَاة، قل: صلوا فِي بُيُوتكُمْ، وَإِنَّمَا
أَرَادَ إِشْعَار النَّاس بِالتَّخْفِيفِ عَنْهُم
للْعُذْر، كَمَا فعل فِي التثويب لِلْأُمَرَاءِ وَأَصْحَاب
الولايات، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ ورد فِي حَدِيث ابْن عمر:
أخرجه البُخَارِيّ، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه ابْن عدي
فِي (الْكَامِل) أَنه إِنَّمَا يُقَال بعد فرَاغ
الْأَذَان.
11 - (بابُ أَذانِ الأعْمَى إذَا كانَ لهُ مَنْ
يُخْبِرِهِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَذَان الْأَعْمَى، إِذا كَانَ
عِنْده من يُخبرهُ بِدُخُول الْوَقْت، يَعْنِي يجوز
أَذَانه حِينَئِذٍ، وَمَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة وَابْن
الْمُنْذر عَن ابْن مَسْعُود وَابْن الزبير وَغَيرهمَا
أَنهم كَرهُوا أَن يكون الْمُؤَذّن أعمى، مَحْمُول على مَا
إِذا لم يكن عِنْده من يُخبرهُ بِدُخُول الْوَقْت، وَنقل
النَّوَوِيّ عَن أبي حنيفَة: أَن أَذَان الْأَعْمَى لَا
يَصح قلت: هَذَا غلط لم يقل بِهِ أَبُو حنيفَة، وَإِنَّمَا
ذكر أَصْحَابنَا أَنه يكره ذكره فِي (الْمُحِيط) وَفِي
(الذَّخِيرَة) و (الْبَدَائِع) : غَيره أحب، فَكَأَن وَجه
الْكَرَاهَة لأجل عدم قدرته على مُشَاهدَة دُخُول
الْوَقْت، وَهُوَ فِي الأَصْل مَبْنِيّ على الْمُشَاهدَة.
(5/128)
617 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ
عَنْ مَالِكٍ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سالِمِ ابنِ عَبْدِ
الله عنْ أبِيهِ أنَّ رَسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ إنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ ثُمَّ
قَالَ وَكَانَ رجُلاً أعْمَى لاَ يُنَادِي حَتَّى يُقَالَ
لَهُ أصْبَحْتَ أصْبَحْتَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (لَا يُنَادي) إِلَى
آخِره.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، ومسلمة، بِفَتْح الْمِيم،
وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَعبد
الله هُوَ ابْن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه الطَّحَاوِيّ من تسع طرق صِحَاح:
ثَمَانِيَة مَرْفُوعَة، وَوَاحِدَة مَوْقُوفَة. الأول: عَن
يزِيد بن سِنَان عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك إِلَى
آخِره، نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ. الثَّانِي: عَن يزِيد
بن سِنَان عَن عبد الله بن صَالح عَن اللَّيْث عَن ابْن
شهَاب عَن سَالم عَن ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مثله. الثَّالِث: عَن إِبْرَاهِيم بن أبي
دَاوُد عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب بن أبي حَمْزَة عَن
الزُّهْرِيّ، قَالَ: قَالَ سَالم بن عبد الله: سَمِعت عبد
الله يَقُول: إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يُنَادي ابْن أم مَكْتُوم) . الرَّابِع: عَن يزِيد ابْن
سِنَان عَن أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ عَن عبد الْعَزِيز
بن عبد الله بن أبي سَلمَة عَن الزُّهْرِيّ، فَذكر مثله.
الْخَامِس: عَن الْحسن بن عبد الله بن مَنْصُور البالسي
عَن مُحَمَّد بن كثير عَن الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ
عَن سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مثله. السَّادِس: عَن إِبْرَاهِيم بن مَرْزُوق عَن
وهب بن جرير عَن شُعْبَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن
عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِإِسْنَادِهِ،
مثله. السَّابِع: عَن يُونُس عَن ابْن وهب أَن مَالِكًا
حَدثهُ عَن عبد الله بن دِينَار، فَذكر بِإِسْنَادِهِ
مثله. الثَّامِن: عَن عَليّ بن شيبَة عَن روح بن عبَادَة
عَن مَالك وَشعْبَة عَن عبد الله بن دِينَار، فَذكره
بِإِسْنَادِهِ مثله، غير أَنه قَالَ: (حَتَّى يُنَادي
بِلَال أَو ابْن أم مَكْتُوم) ، شكّ شُعْبَة. التَّاسِع:
هُوَ الْمَوْقُوف عَن يُونُس عَن ابْن وهب أَن مَالِكًا
حَدثهُ عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مثله، وَلم يذكر ابْن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا.
وَقَالَ أَبُو عمر بن عبد الْبر: هَكَذَا رَوَاهُ يحيى عَن
مَالك مُرْسلا عَن سَالم، لم يقل فِيهِ: عَن أَبِيه،
وَتَابعه على ذَلِك أَكثر رُوَاة (الْمُوَطَّأ) ،
وَمِمَّنْ تَابعه على ذَلِك: ابْن الْقَاسِم
وَالشَّافِعِيّ وَابْن بكير وَأَبُو المصعب وَعبد الله بن
يُوسُف التنيسِي، وَمصْعَب الزبيرِي وَمُحَمّد بن الْحسن
وَمُحَمّد بن الْمُبَارك الصُّورِي وَسَعِيد بن عفير ومعن
بن عِيسَى، وَوَصله جمَاعَة عَن مَالك فَقَالُوا فِيهِ:
عَن سَالم عَن أَبِيه عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَمِمَّنْ رَوَاهُ مُسْندًا هَكَذَا: القعْنبِي
وَعبد الرَّزَّاق وَأَبُو قُرَّة مُوسَى بن طَارق وروح بن
عبَادَة وَعبد الله بن نَافِع ومطرف وَابْن أبي أويس وَعبد
الرَّحْمَن ابْن مهْدي وَإِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الخبيبي
وَمُحَمّد بن عمر الْوَاقِدِيّ وَأَبُو قَتَادَة
الْحَرَّانِي وَمُحَمّد بن حَرْب الأبرش وَزُهَيْر ابْن
عباد وكامل بن طَلْحَة وَابْن وهب فِي رِوَايَة أَحْمد بن
صَالح عَنهُ. وَأما أَصْحَاب ابْن شهَاب فَرَوَوْه
مُتَّصِلا مُسْندًا عَن ابْن شهَاب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل) ،
وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (إِن بِلَالًا يُنَادي
بلَيْل) ، ومعناهما وَاحِد، لِأَن معنى قَوْله: يُنَادي
يُؤذن، وَالْبَاء فِي: بلَيْل، للظرفية. قَوْله: (حَتَّى
يُنَادي) أَي: حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم، واسْمه: عبد
الله، وَيُقَال: عَمْرو وَهُوَ الْأَكْثَر، وَيُقَال:
كَانَ اسْمه الْحصين فَسَماهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عبد الله بن قيس بن زَائِدَة الْقرشِي العامري،
وَاسم أم مَكْتُوم: عَاتِكَة بنت عبد الله بن عنكشة بن
عَامر بن مَخْزُوم، وَهُوَ ابْن خَال خَدِيجَة بنت خويلد،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. وَابْن ام مَكْتُوم هَاجر
الى الْمَدِينَة قبل مقدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم واستخلفه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على
الْمَدِينَة ثَلَاث عشرَة مرّة، وَشهد فتح الْقَادِسِيَّة،
وَقتل شَهِيدا، وَكَانَ مَعَه اللِّوَاء يَوْمئِذٍ. وَقيل:
رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَة وَمَات بهَا، وَهُوَ الْأَعْمَى
الْمَذْكُور فِي سُورَة: عبس، ومكتوم من: الكتم، سمي بِهِ
لكتمان نور عَيْنَيْهِ. قَوْله: (ثمَّ قَالَ وَكَانَ رجلا
أعمى) . قيل: إِن هَذَا الْقَائِل هُوَ ابْن عمر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَبِذَلِك جزم الشَّيْخ الْمُوفق
فِي (المغنى) قلت: فِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: قَالَ ابْن
شهَاب؛ وَكَانَ رجلا أعمى، وَكَذَا فِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن أبي خَليفَة. فَإِن قلت: فعلى هَذَا
فِي رِوَايَة البُخَارِيّ إدراج. قلت: لَا نسلم ذَلِك
لِأَنَّهُ لَا يمْنَع كَون ابْن شهَاب قَالَه أَن يكون
شَيْخه قَالَه، وَكَذَا شيخ شَيْخه، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ
مَا فِي رِوَايَة الْبَيْهَقِيّ: عَن الرّبيع بن
سُلَيْمَان ... الحَدِيث الْمَذْكُور، وَفِيه: قَالَ
سَالم: وَكَانَ رجلا ضَرِير الْبَصَر. قَوْله: (أَصبَحت) ،
أَي: قاربت الصَّباح، لِأَن قرب الشَّيْء قد يعبر عَنهُ
كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا بلغن
(5/129)
أَجلهنَّ} (الْبَقَرَة: 234، وَالطَّلَاق:
2) . أَي: قاربن لِأَن الْعدة إِذا تمت فَلَا رَجْعَة،
وَكَانَ فِيهِ تَامَّة، فَلَا تحْتَاج إِلَى خبر، فَهَذَا
التَّفْسِير يدْفع إِشْكَال من يَقُول إِنَّه إِذا جعل
أَذَانه غَايَة للْأَكْل فَلَو لم يُؤذن حَتَّى يدْخل
الصَّباح للَزِمَ مِنْهُ جَوَاز الْأكل بعد طُلُوع
الْفجْر، وَالْإِجْمَاع على خِلَافه إلاَّ مَا روى عَن
سُلَيْمَان الْأَعْمَش جَوَازه بعد طُلُوع الْفجْر وَلَا
يعْتد بِهِ. فَإِن قيل: يشكل على هَذَا مَا رَوَاهُ
الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن ابْن
وهب عَن يُونُس، وَاللَّيْث جَمِيعًا عَن ابْن شهَاب.
وَفِيه: (وَلم يكن يُؤذن حَتَّى يَقُول النَّاس حِين
ينظرُونَ إِلَى بزوغ الْفجْر: أذن) . وَكَذَا رِوَايَة
البُخَارِيّ فِي الصّيام: (حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم،
فَإِنَّهُ لَا يُؤذن حَتَّى يطلع الْفجْر) . وَأَيْضًا،
فَإِن قَوْله: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل) يشْعر أَن ابْن
أم مَكْتُوم بِخِلَافِهِ، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ قبل
الصُّبْح لم يكن بَينه وَبَين بِلَال فرق لصدق أَن كلا
مِنْهُمَا أذن قبل الْوَقْت، وَأجِيب بِأَن المُرَاد
بالبزوغ ابْتِدَاء طُلُوع الْفجْر، فَيكون أَذَانه عَلامَة
لتَحْرِيم الْأكل، وَالظَّاهِر أَنه كَانَ يُرَاعِي لَهُ
الْوَقْت، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو قُرَّة
من وَجه آخر عَن ابْن عمر حَدِيثا فِيهِ، وَكَانَ ابْن ام
مَكْتُوم يتوخى الْفجْر فَلَا يخطئه، وَلَا يكون توخي
الْأَعْمَى فِي مثل هَذَا إلاَّ من كَانَ لَهُ من يُرَاعِي
الْوَقْت. وَأجَاب بَعضهم بِأَنَّهُ لَا يلْزم من كَون
المُرَاد بقَوْلهمْ: أَصبَحت، أَي: قاربت الصَّباح، وُقُوع
أَذَانه قبل الْفجْر، لاحْتِمَال أَن يكون قَوْلهم ذَلِك
وَقع فِي آخر جُزْء من اللَّيْل، وأذانه يَقع فِي أول
جُزْء من طُلُوع الْفجْر. انْتهى. قلت: هَذَا بعيد جدا.
والمؤقت الحاذق فِي علمه يعجز عَن تَحْرِير ذَلِك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ الْأَوْزَاعِيّ
وَعبد الله بن الْمُبَارك وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد
وَإِسْحَاق وَدَاوُد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ فَقَالُوا:
يجوز أَن يُؤذن للفجر قبل دُخُول وقته، وَمِمَّنْ ذهب
إِلَيْهِ: أَبُو يُوسُف، وَاحْتَجُّوا أَيْضا بِمَا
رَوَاهُ البُخَارِيّ عَن عَائِشَة عَن النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، أَنه قَالَ: (إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل
فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) .
على مَا يَجِيء، وَرَوَاهُ مُسلم وَالنَّسَائِيّ أَيْضا
وَلَفظه: (إِذا أذن بِلَال فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى
يُنَادي ابْن ام مَكْتُوم، فَإِن قلت: روى ابْن خُزَيْمَة
فِي (صَحِيحه) من حَدِيث أنيسَة بنت خبيب، قَالَت: قَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أذن ابْن أم
مَكْتُوم فَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَإِذا أذن بِلَال فَلَا
تَأْكُلُوا وَلَا تشْربُوا. وَإِن كَانَت الْمَرْأَة منا
ليبقى عَلَيْهَا شَيْء من سحورها فَتَقول لِبلَال: أمْهل
حَتَّى أفرغ من سحوري) . وروى الدَّارمِيّ من حَدِيث
الْأسود: (عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ لرَسُول الله
ثَلَاثَة مؤذنين: بِلَال وَأَبُو مَحْذُورَة وَعَمْرو بن
أم مَكْتُوم، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: إِذا أذن عَمْرو فَإِنَّهُ ضَرِير الْبَصَر فَلَا
يَغُرنكُمْ، وَإِذا أذن بِلَال فَلَا يطعمن أحد) . وروى
النَّسَائِيّ أَيْضا: عَن يَعْقُوب عَن هشيم عَن مَنْصُور
عَن خبيب بن عبد الرَّحْمَن عَن عمته أنيسَة نَحْو حَدِيث
ابْن خُزَيْمَة. قلت: يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قد جعل الْأَذَان بِاللَّيْلِ نوبا بَين
بِلَال وَعَمْرو، فَأمر فِي بعض اللَّيَالِي بِلَالًا أَن
يُؤذن أَولا بِاللَّيْلِ، فَإِذا نزل بِلَال صعد عَمْرو
فَأذن بعده بِالنَّهَارِ، فَإِذا جَاءَت نوبَة عَمْرو
بَدَأَ فَأذن بلَيْل فَإِذا نزل صعد بِلَال فَأذن بعده
بِالنَّهَارِ، وَكَانَت مقَالَة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: إِن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل فِي الْوَقْت
الَّذِي كَانَت النّوبَة لِبلَال فِي الْأَذَان
بِاللَّيْلِ، وَكَانَت مقَالَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
إِن ابْن مَكْتُوم يُؤذن بلَيْل فِي الْوَقْت الَّذِي
كَانَت النّوبَة فِي الْأَذَان بِاللَّيْلِ نوبَة ابْن أم
مَكْتُوم، فَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يعلم النَّاس
فِي كلا الْوَقْتَيْنِ أَن الْأَذَان الأول مِنْهُمَا هُوَ
أَذَان بلَيْل لَا بنهار، وَأَنه لَا يمْنَع من إراد
الصَّوْم طَعَاما وَلَا شرابًا، وَإِن الْأَذَان الثَّانِي
إِنَّمَا يمْنَع الْمطعم وَالْمشْرَب، إِذْ هُوَ بنهار لَا
بلَيْل. وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد
وَزفر بن الْهُذيْل: لَا يجوز أَن يُؤذن للفجر أَيْضا
إلاَّ بعد دُخُول وَقتهَا، كَمَا لَا يجوز لسَائِر
الصَّلَوَات إلاَّ بعد دُخُول وَقتهَا، لِأَنَّهُ للإعلام
بِهِ، وَقبل دُخُوله تجهيل وَلَيْسَ بإعلام، فَلَا يجوز.
وَأما الْجَواب عَن أَذَان بِلَال الَّذِي كَانَ يُؤذن
بِاللَّيْلِ قبل دُخُول الْوَقْت فَلم يكن ذَلِك لأجل
الصَّلَاة، بل إِنَّمَا كَانَ ذَلِك لينتبه النَّائِم
وليتسحر الصَّائِم، وليرجع الْغَائِب، بَين ذَلِك مَا
رَوَاهُ البُخَارِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (لَا يمنعن أحدكُم أَو
وَاحِدًا مِنْكُم أَذَان بِلَال من سحوره، فَإِنَّهُ يُؤذن
أَو يُنَادي بلَيْل ليرْجع غائبكم ولينتبه نائمك) الحَدِيث
على مَا يَأْتِي عَن قريب إِن شَاءَ الله تَعَالَى،
وَأخرجه مُسلم أَيْضا. وَأخرجه الطَّحَاوِيّ من ثَلَاث
طرق، وَلَفظه: (لَا يمنعن أحدكُم أَذَان بِلَال من سحوره،
فَإِنَّهُ يُنَادي أَو يُؤذن ليرْجع غائبكم ولينتبه
نائمكم) . الحَدِيث، وَمعنى: (ليرْجع غائبكم) : ليرد
غائبكم من الْغَيْبَة، وَرجع يتَعَدَّى بِنَفسِهِ وَلَا
يتَعَدَّى، وَالرِّوَايَة الْمَشْهُورَة: (ليرْجع قائمكم)
من: الْقيام، وَمَعْنَاهُ: ليكمل ويستعجل بَقِيَّة ورده،
وَيَأْتِي بوتره قبل الْفجْر. وَقَالَ عِيَاض مَا ملخصه:
مَا قَالَه الْحَنَفِيَّة
(5/130)
بعيد إِذْ لم يخْتَص هَذَا بِشَهْر
رَمَضَان، وَإِنَّمَا أخبر عَن عَادَته فِي أَذَانه،
وَلِأَنَّهُ الْعَمَل الْمَنْقُول فِي سَائِر الْحول
بِالْمَدِينَةِ، وَإِلَيْهِ رَجَعَ أَبُو يُوسُف حِين
تحَققه، وَلِأَنَّهُ لَو كَانَ للسحور لم يخْتَص بِصُورَة
الْأَذَان للصَّلَاة. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه بعيد
لأَنهم لم يَقُولُوا بِأَنَّهُ مُخْتَصّ بِشَهْر رَمَضَان،
وَالصَّوْم غير مَخْصُوص بِهِ، فَكَمَا أَن الصَّائِم فِي
رَمَضَان يحْتَاج إِلَى الإيقاظ لأجل السّحُور، فَكَذَلِك
الصَّائِم فِي غَيره، بل هَذَا أَشد لِأَن من يحيي ليَالِي
رَمَضَان أَكثر مِمَّن يحيي ليَالِي غَيره، فعلى قَوْله:
إِذا كَانَ أَذَان بِلَال للصَّلَاة كَانَ يَنْبَغِي أَن
يجوز أَدَاء صَلَاة الْفجْر بِهِ، بل هم يَقُولُونَ أَيْضا
بِعَدَمِ جَوَازه، فَعلم أَن أَذَانه إِنَّمَا كَانَ لأجل
إيقاظ النَّائِم، ولإرجاع الْقَائِم. وَمن أقوى
الدَّلَائِل على أَن أَذَان بِلَال لم يكن لأجل الصَّلَاة
مَا رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث حَمَّاد بن سَلمَة عَن
أَيُّوب عَن نَافِع: (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا: أَن بِلَالًا أذن قبل طُلُوع الْفجْر، فَأمره
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَن يرجع فينادي: أَلا
إِن العَبْد نَام، فَرجع فَنَادَى: أَلا إِن العَبْد نَام)
. وَأخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا، فَهَذَا ابْن عمر روى
هَذَا، وَالْحَال أَنه روى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَنه قَالَ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل فَكُلُوا
وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادي ابْن ام مَكْتُوم) ، فَثَبت
بذلك أَن مَا كَانَ من ندائه قبل طُلُوع الْفجْر لم يكن
للصَّلَاة. فَإِن قلت: قَالَ التِّرْمِذِيّ: حَدِيث
حَمَّاد بن سَلمَة غير مَحْفُوظ، وَالصَّحِيح هُوَ حَدِيثه
الَّذِي فِيهِ: (إِن بِلَالًا يُنَادي بلَيْل) إِلَى
آخِره؟ قلت: مَا قَالَه: لَا يكون مَحْفُوظًا، صَحِيحا،
لِأَنَّهُ لَا مُخَالفَة بَين حديثيه، لأَنا قد ذكرنَا أَن
حَدِيثه الَّذِي رَوَاهُ غير حَمَّاد إِنَّمَا كَانَ لأجل
إيقاظ النَّائِم وإرجاع الْقَائِم، فَلم يكن للصَّلَاة.
وَأما حَدِيث حَمَّاد فَإِنَّهُ كَانَ لأجل الصَّلَاة
فَلذَلِك أمره بِأَن يعود وينادي: (أَلا إِن العَبْد نَام)
، وَمِمَّا يُقَوي حَدِيث حَمَّاد مَا رَوَاهُ سعيد بن أبي
عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ:
(أَن بِلَالًا أذن قبل الْفجْر فَأمره النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَن يصعد فينادي: إِن العَبْد نَام) .
رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ قَالَ: تفرد بِهِ أَبُو
يُوسُف عَن سعيد، وَغَيره يُرْسِلهُ، والمرسل أصح. قلت:
أَبُو يُوسُف ثِقَة، وهم وثقوه، وَالرَّفْع من الثِّقَة
زِيَادَة مَقْبُولَة، وَمِمَّا يقويه حَدِيث حَفْصَة بنت
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: (أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ إِذا أذن الْمُؤَذّن
بِالْفَجْرِ قَامَ فصلى رَكْعَتي الْفجْر، ثمَّ خرج إِلَى
الْمَسْجِد وَحرم الطَّعَام، وَكَانَ لَا يُؤذن حَتَّى
يصبح) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ وَالْبَيْهَقِيّ: فَهَذِهِ
حَفْصَة تخبر أَنهم كَانُوا لَا يُؤذنُونَ للصَّلَاة إلاَّ
بعد طُلُوع الْفجْر. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ:
هَذَا مَحْمُول إِن صَحَّ على الْأَذَان الثَّانِي،
وَقَالَ الْأَثْرَم: رَوَاهُ النَّاس عَن نَافِع عَن ابْن
عمر عَن حَفْصَة، وَلم يذكرُوا فِيهِ مَا ذكره عبد
الْكَرِيم عَن نَافِع. قلت: كَلَام الْبَيْهَقِيّ يدل على
صِحَة الحَدِيث عِنْده، وَلكنه لما لم يجد مجالاً لتضعيفه
ذهب إِلَى تَأْوِيله، وَعبد الْكَرِيم الْجَزرِي ثِقَة،
أخرج لَهُ الْجَمَاعَة وَغَيرهم، فَمن كَانَ بِهَذِهِ
المثابة لَا يُنكر عَلَيْهِ إِذا ذكر مَا لم يذكرهُ غَيره.
وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: يحْتَمل أَن يكون بِلَال كَانَ
يُؤذن فِي وَقت يرى أَن الْفجْر قد طلع فِيهِ، وَلَا
يتَحَقَّق لضعف فِي بَصَره، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا
رَوَاهُ أنس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال، فَإِن فِي بَصَره
شَيْئا) . وَقد ذَكرْنَاهُ فِيمَا مضى، وَأخرج
الطَّحَاوِيّ أَيْضا تَأْكِيدًا لذَلِك عَن أبي ذَر، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لِبلَال: (أَنَّك تؤذن إِذا كَانَ الْفجْر
ساطعا وَلَيْسَ ذَلِك الصُّبْح، إِنَّمَا الصُّبْح هَكَذَا
مُعْتَرضًا) وَالْمعْنَى: أَن بِلَالًا كَانَ يُؤذن عِنْد
طُلُوع الْفجْر الْكَاذِب الَّذِي لَا يخرج بِهِ حكم
اللَّيْل، وَلَا تحل بِهِ صَلَاة الصُّبْح، وَمِمَّا يدل
حَدِيث الْبَاب على اسْتِحْبَاب أَذَان وَاحِد بعد وَاحِد.
وَأما أَذَان اثْنَيْنِ مَعًا فَمنع مِنْهُ قوم،
وَقَالُوا: أول من أحدثه بَنو أُميَّة. وَقَالَ
الشَّافِعِيَّة: لَا يكره إلاَّ إِن حصل مِنْهُ تهويش.
وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: وَأما الزِّيَادَة على
الْإِثْنَيْنِ فَلَيْسَ فِي الحَدِيث تعرض إِلَيْهِ.
وَنَصّ الشَّافِعِي على جَوَازه، وَلَفظه: وَلَا يضيق إِن
أذن أَكثر من اثْنَيْنِ.
وَفِيه: جَوَاز تَقْلِيد الْأَعْمَى للبصير فِي دُخُول
الْوَقْت، وَصحح النَّوَوِيّ فِي كتبه: أَن للأعمى والبصير
إعتماد الْمُؤَذّن الثِّقَة.
وَفِيه: الِاعْتِمَاد على صَوت الْمُؤَذّن والاعتماد
عَلَيْهِ أَيْضا فِي الرِّوَايَة إِذا كَانَ عَارِفًا
بِهِ، وَإِن لم يُشَاهد الرَّاوِي.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب السّحُور وتأخيره. وَفِيه: جَوَاز
الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد. وَفِيه: أَن مَا بعد الْفجْر
حكم النَّهَار. وَفِيه جَوَاز ذكر الرجل بِمَا فِيهِ من
العاهة إِذا كَانَ لقصد التَّعْرِيف وَفِيه جَوَاز نِسْبَة
الرجل إِلَى أمه إِذا اشْتهر بذلك. وَفِيه: جَوَاز التكنية
للْمَرْأَة.
(بابُ الآذَانِ بَعْدَ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي الْأَذَان الْمُعْتَبر الْوَاقِع بعد
طُلُوع الْفجْر، وَقدم هَذَا الْبَاب على الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ لكَونه أصلا، لِأَن الْأَذَان
(5/131)
الْمُعْتَبر هُوَ الَّذِي يكون بعد دُخُول
الْوَقْت، وَلِأَن الْأَذَان الْوَاقِع بعد طُلُوع الْفجْر
لَا خلاف فِيهِ، بِخِلَاف الْأَذَان الَّذِي قبله.
618 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ نافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ عُمَرَ قالَ
أخْبَرَتْنِي حَفْصَةُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كانَ إذَا اعْتَكَفَ المُؤَذِّنُ لِلصُّبْحِ صَلَّى
رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ أنْ تُقَامَ الصَّلاَةُ
وَجه مُطَابقَة هَذَا الحَدِيث للتَّرْجَمَة لَا
يَسْتَقِيم إلاَّ على مَا رَوَاهُ الْجَمَاعَة عَن مَالك:
(كَانَ إِذا سكت الْمُؤَذّن صلى رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) .
لِأَنَّهُ يدل على أَن رُكُوعه كَانَ مُتَّصِلا بأذانه،
وَلَا يجوز أَن يكون رُكُوعه إِلَّا بعد الْفجْر، فَلذَلِك
كَانَ الْأَذَان بعد الْفجْر، وعَلى هَذَا الْمَعْنى حمله
البُخَارِيّ وَترْجم عَلَيْهِ: بَاب الْأَذَان بعد
الْفجْر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، تكَرر ذكرهم. وَفِي
الْإِسْنَاد: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد،
والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من
الْفِعْل الْمُؤَنَّث فِي مَوضِع وَفِيه: العنعنة فِي
موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين، والرواة مدنيون مَا
خلا عبد الله.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب وَعَن
مُسَدّد عَن يحيى. وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى
عَن مَالك بِهِ. وَعَن قُتَيْبَة وَمُحَمّد بن رمح وَعَن
زُهَيْر بن حَرْب وَعبيد الله ابْن سعيد وَعَن زُهَيْر عَن
إِسْمَاعِيل بن علية وَعَن أَحْمد بن عبد الله بن الحكم
وَعَن اسحاق بن ابراهيم وَعَن مُحَمَّد بن عباد واخرجه
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن الْحسن بن عَليّ وَفِي
الشَّمَائِل عَن احْمَد بن منيع وَعَن قُتَيْبَة عَن
مَرْوَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن عبد
الله بن الحكم وَعَن إِسْحَاق بن مَنْصُور وَعَن شُعَيْب
وَعَن هِشَام بن عمار وَعَن يحيى بن مُحَمَّد وَعَن
مُحَمَّد بن عبد الله وَعَن مُحَمَّد بن سَلمَة وَعَن
إِسْمَاعِيل بن مَسْعُود وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
عَن عبد الرَّزَّاق. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن مُحَمَّد بن
رمح بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ إِذا اعْتكف الْمُؤَذّن
للصبح) ، هَكَذَا رَوَاهُ عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك،
وَهَكَذَا هُوَ عِنْد جُمْهُور الروَاة من البُخَارِيّ،
وَخَالف عبد الله سَائِر الروَاة عَن مَالك، فَرَوَوْه:
(كَانَ إِذا سكت الْمُؤَذّن من الْأَذَان لصَلَاة
الصُّبْح، وَهَكَذَا رَوَاهُ مُسلم وَغَيره، وَهُوَ
الصَّوَاب: وَقَالَ ابْن قرقول: رِوَايَة الْأصيلِيّ
والقابسي وَأبي ذَر: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا اعْتكف الْمُؤَذّن للصبح وبدا الصُّبْح ركع
رَكْعَتَيْنِ) . وَقَالَ الْقَابِسِيّ: معنى اعْتكف هُنَا:
انتصب قَائِما للأذان، كَأَنَّهُ من مُلَازمَة مراقبة
الْفجْر، وَفِي رِوَايَة الْهَمدَانِي: (كَانَ إِذا أذن
الْمُؤَذّن) . وَعند النَّسَفِيّ: (كَانَ إِذا اعْتكف أذن
الْمُؤَذّن للصبح) ، وَقَالَ بَعضهم: وَقد أطلق جمَاعَة من
الْحفاظ القَوْل: بِأَن الْوَهم فِيهِ من عبد الله بن
يُوسُف شيخ البُخَارِيّ. انْتهى. قلت: الْحَاصِل هَهُنَا
خمس رِوَايَات، ولكلها وَجه فَلَا يحْتَاج إِلَى نِسْبَة
الْوَهم إِلَى أحد مِنْهُم. الرِّوَايَة الأولى: رِوَايَة
عبد الله بن يُوسُف كَانَ إِذا اعْتكف الْمُؤَذّن للصبح،
وَمعنى اعْتكف قد مر الْآن. وَالثَّانيَِة: إِذا سكت
الْمُؤَذّن، وَهِي ظَاهِرَة لَا نزاع فِيهَا.
وَالثَّالِثَة: كَانَ إِذا أذن الْمُؤَذّن، وَهِي أَيْضا
ظَاهِرَة كَذَلِك. وَالرَّابِعَة: كَانَ إِذا اعْتكف أذن
الْمُؤَذّن، يَعْنِي إِذا اعْتكف النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَجَوَاب: إِذا هُوَ قَوْله: (صلى
رَكْعَتَيْنِ) ، وَقَوله: (أذن الْمُؤَذّن) ، جملَة وَقعت
حَالا بِتَقْدِير: قد، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى:
{أوجاؤكم حصرت صُدُورهمْ} (النِّسَاء: 90) ، أَي: قد حصرت.
الْخَامِسَة: (كَانَ إِذا اعْتكف وَأذن الْمُؤَذّن) .
وَكَذَلِكَ الضَّمِير فِي: اعْتكف، هَهُنَا يرجع إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَوله: (وَأذن) عطف
عَلَيْهِ. فَإِن قلت: على هَذَا يلْزم أَن يكون هَذَا
مُخْتَصًّا بِحَال اعْتِكَافه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَلَيْسَ كَذَلِك؟ قلت: الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة لِأَنَّهُ
يحْتَمل أَن حَفْصَة راوية الحَدِيث الْمَذْكُور قد شاهدت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ذَلِك الْوَقْت،
وَهُوَ فِي الِاعْتِكَاف، وَلَا يلْزم من ذَلِك أَن يكون
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل هَذَا الْوَقْت فِي
الِاعْتِكَاف. فَافْهَم. قَوْله: (وبدا الصُّبْح) ،
بِالْبَاء الْمُوَحدَة، فعل مَاض من: البدو، وَهُوَ
الظُّهُور، أُسند إِلَى الصُّبْح وَهُوَ فَاعله، و:
الْوَاو، فِيهِ وَاو الْحَال لَا وَاو الْعَطف، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: وندا الصُّبْح،
بالنُّون من المناداة. قَالَ: وَهُوَ الْأَصَح. وَقَالَ
بَعضهم: ظن أَنه مَعْطُوف على قَوْله: (للصبح) ، فَيكون
التَّقْدِير: لنداء الصُّبْح، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن
الحَدِيث فِي جَمِيع
(5/132)
النّسخ من (الْمُوَطَّأ) وَالْبُخَارِيّ
وَمُسلم وَغَيرهَا: بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قلت: لكَلَام
الْكرْمَانِي وَجه من جِهَة التَّرْكِيب وَالْإِعْرَاب،
وَأما من جِهَة الرِّوَايَة فَيحْتَاج إِلَى الْبَيَان،
وَمَعَ هَذَا كَونه بِالْبَاء الْمُوَحدَة فِي جَمِيع
النّسخ من (الْمُوَطَّأ) وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم لَا
يسْتَلْزم نَفيهَا بالنُّون عِنْد غَيرهَا، قَوْله: (قبل
أَن تُقَام) كلمة: أَن، مَصْدَرِيَّة أَي: قبل قيام
الصَّلَاة، وَهِي الْفَرْض.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن سنة الصُّبْح رَكْعَتَانِ
وأنهما خفيفتان، وَأَن وَقت صَلَاة الْفجْر بعد طُلُوع
الْفجْر، وَلَو صلى الْفَرْض قبله لم يجز، وعَلى هَذَا
ترْجم البُخَارِيّ، رَحمَه الله.
619 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عَنْ
يَحْيى عنْ أبي سَلمَةَ عنْ عَائِشَةَ كانَ النَّبِيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ
بَيْنَ النِّدَاءِ والإقَامَةِ مِنْ صَلاَةِ الصُّبْحِ
(الحَدِيث 619 طرفه فِي: 1159) .
وَجه مُطَابقَة الحَدِيث للتَّرْجَمَة بطرِيق الْإِشَارَة،
وَهُوَ أَن صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِهَاتَيْنِ
الرَّكْعَتَيْنِ بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة يدل على
أَنه صلاهما بعد طُلُوع الْفجْر، وَأَن النداء أَيْضا بعد
طُلُوع الْفجْر، وَهُوَ الْأَذَان بعد الْفجْر، فطابق
التَّرْجَمَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم، بِضَم
النُّون، وَهُوَ الْفضل بن دُكَيْن. الثَّانِي: شَيبَان بن
عبد الرَّحْمَن التَّيْمِيّ. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير.
الرَّابِع: أَبُو سَلمَة، بِفَتْح اللَّام: بن عبد
الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
الْخَامِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا عَن مُحَمَّد بن الْمثنى.
قَوْله: (بَين النداء) أَي: الْأَذَان.
620 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قالَ أخْبَرَنا
مالِكٌ عَنْ عَبْدِ الله بنِ دِينَارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ
عُمَرَ أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ
إنَّ بِلالاً يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا واشْرَبُوا
حَتَّى يُنَادِي ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ.
قد مر هَذَا الحَدِيث قبل هَذَا الْبَاب. أخرجه
البُخَارِيّ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن ابْن
شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه، الحَدِيث. وَقد
اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ، وَقَالَ ابْن عبد
الْبر: هَذَا الْإِسْنَاد لم يخْتَلف عَن مَالك فِيهِ،
وَوجه مطابقته للتَّرْجَمَة بطرِيق الْإِشَارَة أَيْضا،
لِأَن قَوْله: (حَتَّى يُنَادي ابْن أم مَكْتُوم) ،
يَقْتَضِي أَن نداءه حِين يطلع الْفجْر، لِأَنَّهُ لَو
كَانَ قبله لم يكن فرق بَين أَذَانه وأذان بِلَال. قَوْله:
(يُنَادي) ، أَي: يُؤذن، وَالْبَاء فِي: بلَيْل، للظرفية.
(بابُ الأذَانِ قَبْلَ الفَجْرِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَذَان قبل طُلُوع
الْفجْر، هَل هُوَ مَشْرُوع أم لَا؟ وَإِذا شرع، هَل
يَكْتَفِي بِهِ عَن إِعَادَة الْأَذَان بعد الْفجْر أم
لَا؟ وميل البُخَارِيّ إِلَى الْإِعَادَة بِدَلِيل
إِيرَاده الْأَحَادِيث فِي هَذَا الْبَاب الدَّالَّة على
الْإِعَادَة، وَقد بَينا الْمذَاهب فِيهِ مفصلة فِيمَا
مضى.
621 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ يُونُسَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ
قَالَ حدَّثنا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ عَن أبي عُثْمَانَ
النَّهْدِيِّ عنْ عَبْدِ الله بنِ مَسْعُودٍ عَن النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لَا يَمْنَعَنَّ أحَدَكُمْ
أَو أحَدا مِنْكُمْ أذَانُ بِلالٍ مِنْ سْحُورِهِ فإنَّهُ
يُؤَذِّنُ أوْ يُنَادِي بِلَيْلً لِيَرْجِعَ قائِمَكُمْ
ولِيُنَبِّهَ نائِمَكُمْ ولَيْسَ أَن يَقُولَ الفَجْرُ أَو
الصُّبْحُ وَقَالَ بِأصابِعِهِ وَرَفَعَهَا إِلَى فَوْقُ
وطَأْطأْ إِلَى أَسْفَلُ حَتَّى يَقولَ هكذَا وَقَالَ
زُهَيْرٌ بِسَبَّابَتَيْهِ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الأخْرَى
ثُمَّ مَدَّهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وعنْ شِمَالِهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهِي أَن أَذَان بِلَال
كَانَ قبل الْفجْر، لِأَنَّهُ أخبر أَنه كَانَ يُؤذن
بلَيْل، يَعْنِي: قبل طُلُوع الْفجْر.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَحْمد بن يُونُس
الْمَعْرُوف بشيخ الْإِسْلَام. الثَّانِي: زُهَيْر بن
مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ. الثَّالِث: سُلَيْمَان
(5/133)
ابْن طرخان التَّيْمِيّ الْبَصْرِيّ.
الرَّابِع: أَبُو عُثْمَان عبد الرَّحْمَن بن مل
النَّهْدِيّ، بِفَتْح النُّون، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ:
فِي: بَاب الصَّلَاة كَفَّارَة. الْخَامِس: عبد الله بن
مَسْعُود.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أحد
الروَاة من المخضرمين وَهُوَ أَبُو عُثْمَان. وَفِيه:
رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ وهما: سُلَيْمَان
وَأَبُو عُثْمَان. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ مَنْسُوب
إِلَى جده، وَهُوَ أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس
التَّمِيمِي الْيَرْبُوعي. وَفِيه: أَن الِاثْنَيْنِ
الْأَوَّلين. من الروَاة كوفيان والإثنان الْآخرَانِ
بصريان. وَفِيه: عَن أبي عُثْمَان بالعنعنة، وَفِي
رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق مُعْتَمر بن سُلَيْمَان
عَن أَبِيه حَدثنَا أَبُو عُثْمَان.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن يزِيد بن زُرَيْع،
وَفِي خبر الْوَاحِد عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن
مُحَمَّد بن نمير وَعَن أبي بكر بن أبي شيبَة، وَعَن
إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
أَحْمد بن يُونُس بِهِ، وَعَن مُسَدّد بِهِ، وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو ابْن عَليّ عَن يحيى بِهِ،
وَفِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه
ابْن مَاجَه فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن حَكِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يمنعن أحدكُم) بِنصب: أحدكُم،
وفاعله هُوَ قَوْله: (أَذَان بِلَال) . قَوْله: (أَو: أحدا
مِنْكُم) ، شكّ من الرَّاوِي، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح)
يحْتَمل أَن يكون هَذَا الشَّك من زُهَيْر، فَإِن جمَاعَة
رَوَوْهُ عَن سُلَيْمَان التَّيْمِيّ فَقَالُوا: لَا يمنعن
أحدكُم أَذَان بِلَال. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو وَاحِدًا
مِنْكُم، ثمَّ قَالَ: هَل فرق بَين أحدكُم أَو وَاحِدًا
مِنْكُم؟ قلت: كِلَاهُمَا عَام، لَكِن الأول من جِهَة أَنه
اسْم جنس مُضَاف، وَالثَّانِي: لِأَنَّهُ نكرَة فِي سِيَاق
النَّفْي. انْتهى. قلت: الْفرق بَين أحد وَوَاحِد من جِهَة
الْمَعْنى: أَن أحدا يرجع إِلَى الذَّات، وواحدا يرجع
إِلَى الصِّفَات. قَوْله: (من سَحوره) ، بِفَتْح السِّين،
وَهُوَ مَا يتسحر بِهِ، وَبِضَمِّهَا التسحر كَالْوضُوءِ
وَالْوُضُوء، وَفِي بعض النّسخ: من، سحره، وَلم أعلم
صِحَّته. قَوْله: (فَإِنَّهُ أَي: فَإِن بِلَالًا يُؤذن
بلَيْل أَو يُنَادي، شكّ من الرَّاوِي ومعناهما وَاحِد.
وَقَوله (بلَيْل) أَي فِي ليل قَوْله: (ليرْجع) ، بِفَتْح
الْيَاء وَكسر الْجِيم المخففة، يسْتَعْمل هَذَا لَازِما
ومتعديا. تَقول: رَجَعَ زيد وَرجعت زيدا، وَهَهُنَا متعدٍ
وفاعله: بِلَال. قَوْله: (قائمكم) ، بِالنّصب مَفْعُوله،
وَمَعْنَاهُ: يرد الْقَائِم أَي المتهجد إِلَى رَاحَته
ليقوم إِلَى صَلَاة الصُّبْح نشيطا، أَو يكون لَهُ حَاجَة
إِلَى الصّيام فيتسحر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: ليرْجع،
إِمَّا من الرُّجُوع وَإِمَّا من الرجع. وقائمكم، مَرْفُوع
أَو مَنْصُوب؟ قلت: فهم مِنْهُ أَنه جوز الْوَجْهَيْنِ
هَهُنَا: أَحدهمَا كَون ليرْجع لَازِما، وَيكون قائمكم
فَاعله مَرْفُوعا، وَالْآخر: يكون مُتَعَدِّيا، وَيكون
قائمكم مَنْصُوب على أَنه مفعول لَهُ. قَوْله: (ولينبه) من
التَّنْبِيه أَي: وليوقظ نائمكم. وَقَالَ الْكرْمَانِي:
ولينبه من التَّنْبِيه وَهُوَ الإنباه، وَفِي بَعْضهَا:
ولينتبه من الانتباه. قلت: جوز الْوَجْهَيْنِ فِيهِ
أَيْضا، ثمَّ قَالَ: مَعْنَاهُ أَنه إِنَّمَا يُؤذن
بِاللَّيْلِ ليعلمكم أَن الصُّبْح قريب، فَيرد الْقَائِم
المتهجد إِلَى رَاحَته لينام لَحْظَة ليُصبح نشيطا ويوقظ
نائمكم ليتأهب للصبح بِفعل مَا أَرَادَهُ من تهجد قَلِيل
أَو تسحر أَو اغتسال. قلت: أَو لإيتار إِن كَانَ نَام عَن
الْوتر، وَهَذَا كَمَا ترى جوز الْكرْمَانِي الْوَجْهَيْنِ
فِي كل وَاحِد من قَوْله: (ليرْجع) و (لينبه) وَلم يبين
أَنَّهُمَا رِوَايَة أم لَا، وَالظَّاهِر أَنه تصرف من
جِهَة الْمَعْنى. وَقَالَ بَعضهم: من روى ليرْجع قائمكم،
من الترجيع يَعْنِي: بِضَم الْيَاء وَتَشْديد الْجِيم فقد
أَخطَأ. قلت: أَن كَانَ خَطؤُهُ من جِهَة الرِّوَايَة
فَيمكن، وإلاَّ فَمن جِهَة الْمَعْنى فَلَيْسَ بخطأ،
وتعليل هَذَا الْقَائِل الْخَطَأ بقوله فَإِنَّهُ يصير من
الترجيع، وَهُوَ الترديد وَلَيْسَ بمرده هُنَا فِيهِ نظر،
لِأَن الَّذِي روى من الترجيع لَهُ أَن يَقُول: مَا أردْت
بِهِ الترديد، وَإِنَّمَا أردْت بِهِ التَّعْدِيَة، فَإِن
رَجَعَ الَّذِي هُوَ لَازم يجوز تعديته بالتضعيف كَمَا فِي
سَائِر الْأَلْفَاظ اللَّازِمَة. قَوْله: (وَلَيْسَ أَن
يَقُول) بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَهَذَا من كَلَام
الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: قَالَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: لَيْسَ الْفجْر أَو الصُّبْح على الشَّك
من الرَّاوِي، أَن يَقُول الشَّخْص هَكَذَا، وَأَشَارَ
بإصبعيه ورفعهما إِلَى فَوق وطأطأ إِلَى أَسْفَل،
وَأَشَارَ بِهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى
الْفجْر الْكَاذِب، وَهُوَ الضَّوْء المستطيل من الْعُلُوّ
إِلَى السّفل، وَهُوَ من اللَّيْل، وَلَا يدْخل بِهِ وَقت
الصُّبْح، وَيجوز فِيهِ التسحر وَنَحْوه. قَوْله: (حَتَّى
يَقُول) ، هَكَذَا إِلَى آخِره إِشَارَة إِلَى الصُّبْح
الصَّادِق، وَقد فسر زُهَيْر الرَّاوِي الصَّادِق بقوله
بسبابتيه إِلَى آخِره. وَاعْلَم أَن قَوْله: (الْفجْر)
اسْم: لَيْسَ، وَخَبره هُوَ قَوْله: (أَن يَقُول) وَمعنى
القَوْل بالأصابع: الْإِشَارَة بهَا، قَوْله: (بأصابعه)
بِلَفْظ الْجمع رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْكشميهني: (بإصبعيه) ، وَقَالَ الْكرْمَانِي: ويروى:
(باصبعه) ، بِلَفْظ
(5/134)
الْمُفْرد، وَلم يذكرهُ غَيره. وَفِي
الْأصْبع عشر لُغَات: فتح الْهمزَة، وَضمّهَا، وَكسرهَا،
وَكَذَلِكَ الْبَاء فَهَذِهِ تسع لُغَات، والعاشر الأصبوع،
والسبابة من الْأَصَابِع الَّتِي تلِي الْإِبْهَام، وَسميت
بذلك لِأَن النَّاس يشيرون بهَا عِنْد الشتم. قَوْله:
(إِلَى فَوق) رُوِيَ مَبْنِيا على الضَّم على نِيَّة
الْإِضَافَة، ومنونا بِالْجَرِّ على عدم نِيَّتهَا،
وَهَكَذَا حكم الْأَسْفَل لكنه غير منصرف فجره بِالْفَتْح،
وَكَذَا سَائِر الظروف الَّتِي تقطع عَن الْإِضَافَة،
وقرىء بهما فِي قَوْله تَعَالَى: {لله الْأَمر من قبل وَمن
بعد} (الرّوم: 4) . قَوْله: (وطأطأ) على وزن: دحرج، أَي:
خفض إصبعيه إِلَى أَسْفَل، وَهَذَا هُوَ الْإِشَارَة إِلَى
كَيْفيَّة الصُّبْح الصَّادِق، وَفِي رِوَايَة
الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق عِيسَى بن يُونُس عَن
سُلَيْمَان قَالَ: الْفجْر لَيْسَ هَكَذَا، وَلَكِن
الْفجْر هَكَذَا وَاخْتلف أَلْفَاظ الروَاة فِي هَذَا
فَقَالَ بَعضهم وأخصر مَا وَقع فيهل رِوَايَة جرير عَن
سُلَيْمَان عِنْد مُسلم (لَيْسَ الْفجْر الْمُعْتَرض
وَلَكِن المستطيل) . قلت: رِوَايَة مُسلم: (لَا يَغُرنكُمْ
من سحوركم أَذَان بِلَال، وَلَا بَيَاض الْأُفق المستطيل،
هَكَذَا، حَتَّى يستطير هَكَذَا) . وَحَكَاهُ حَمَّاد بن
زيد، وَقَالَ: يَعْنِي مُعْتَرضًا. وَفِي رِوَايَة أبي
الشَّيْخ من طَرِيق شُعْبَة عَن سوَادَة: سَمِعت سَمُرَة
يخْطب، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا
يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال، وَلَا هَذَا الْبيَاض حَتَّى
يَبْرق الْفجْر أَو ينفجر الْفجْر) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن الْأَذَان الَّذِي
كَانَ يُؤذن بِهِ بِلَال، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
كَانَ لرجع الْقَائِم وإيقاظ النَّائِم، وَبِه قَالَ أَبُو
حنيفَة. قَالَ: وَلَا بُد من أَذَان آخر، كَمَا فعل ابْن
أم مَكْتُوم، وَهُوَ قَول النَّوَوِيّ أَيْضا، وَقد ذكرنَا
اخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ فِيمَا مضى، وَقَالَ أَبُو
الْفَتْح الْقشيرِي: الَّذين قَالُوا بِجَوَاز الْأَذَان
للصبح قبل دُخُول الْوَقْت اخْتلفُوا فِي وقته، فَذكر بعض
الشَّافِعِيَّة أَنه يكون فِي وَقت السحر بَين الْفجْر
الصَّادِق والكاذب، وَيكرهُ التَّقْدِيم على ذَلِك
الْوَقْت، وَعند الْبَعْض: يُؤذن عِنْد انْقِضَاء صَلَاة
الْعَتَمَة من نصف اللَّيْل، وَقيل: عِنْد ثلث اللَّيْل،
وَقيل: عِنْد سدسه الآخر.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَأحمد وَمَالك فِي قَول الْجَوَاز:
من نصف اللَّيْل، وَهُوَ الْأَصَح من أَقْوَال أَصْحَاب
الشَّافِعِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَالْقَوْل
الثَّانِي: عِنْد طُلُوع الْفجْر فِي السحر، وَقَالَ
النَّوَوِيّ: وَبِه قطع الْبَغَوِيّ وَصَححهُ القَاضِي
حُسَيْن وَالْمُتوَلِّيّ. وَالثَّالِث: يُؤذن لَهَا فِي
الشتَاء لسبع يبْقى من اللَّيْل، وَفِي الصَّيف لنصف سبع
يبْقى. وَالرَّابِع: من ثلث اللَّيْل آخر الْوَقْت
الْمُخْتَار. وَالْخَامِس: جَمِيع اللَّيْل وَقت لأذان
الصُّبْح، حَكَاهُ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ: لَوْلَا
حِكَايَة أبي عَليّ لَهُ، وَأَنه لم ينْقل إلاَّ مَا صَحَّ
عِنْده لما استجزت نَقله، وَكَيف يحسن الدُّعَاء لصَلَاة
الصُّبْح فِي وَقت الدُّعَاء للمغرب؟ والسرف فِي كل شَيْء
مطروح، وَأما السَّبع وَنصف السَّبع فَحَدِيث بَاطِل عِنْد
أهل الحَدِيث، وَإِنَّمَا رَوَاهُ الشَّافِعِي عَن بعض
أَصْحَابه عَن الْأَعْرَج عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد عَن
عمَارَة عَن أَبِيه عَن جده عَن سعيد الْقرظِيّ، وَهُوَ
مُخَالف لمذهبه فَإِنَّهُ قَالَ: كَانَ آذاننا فِي الشتَاء
لسبع وَنصف السَّبع يبْقى من اللَّيْل، وَفِي الصَّيف لسبع
يبْقى مِنْهُ، وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (شرح الْمسند) ،
وَتَقْدِيم الْأَذَان على الْفجْر مُسْتَحبّ، وَبِه قَالَ
مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر
وَدَاوُد وَأَبُو يُوسُف. وَقَالَ بَعضهم: ادّعى بعض
الْحَنَفِيَّة كَمَا حَكَاهُ السرُوجِي عَنْهُم أَن النداء
قبل الْفجْر لم يكن بِأَلْفَاظ الْأَذَان، وَإِنَّمَا
كَانَ تذكيرا أَو تسحيرا، كَمَا يَقع للنَّاس الْيَوْم،
وَهَذَا مَرْدُود لِأَن الَّذِي يصنعه النَّاس الْيَوْم
مُحدث قطعا، وَقد تظافرت الطّرق على التَّعْبِير بِلَفْظ
الْأَذَان فَحَمله على مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ مقدم. قلت:
لفظ الْأَذَان يتَنَاوَل مَعْنَاهُ اللّغَوِيّ والشرعي،
وَقد قَامَ دَلِيل من الشَّارِع أَن المُرَاد من أَذَان
بِلَال لَيْسَ مَعْنَاهُ الشَّرْعِيّ، وَهُوَ أَذَان ابْن
أم مَكْتُوم، إِذْ لَو لم يكن كَذَلِك لم يُوجد الْفرق
بَين أذانيهما، وَالْحَال أَن الشَّارِع فرق بَينهمَا،
وَقد قَالَ: أَن أَذَان بِلَال لإيقاظ النَّائِم ولرجع
الْقَائِم، وَقَالَ لَهُم: لَا يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال.
وَجعل أَذَان ابْن أم مَكْتُوم وَهُوَ الأَصْل كَمَا
قَرَّرْنَاهُ فِيمَا مضى، وتظافر الطّرق لَا يصادم مَا
ذَكرْنَاهُ.
وَفِيه: بَيَان الْفجْر الْكَاذِب والصادق.
وَفِيه: زِيَادَة الْإِيضَاح بِالْإِشَارَةِ تَأْكِيدًا
للتعليم، وَقَالَ الْمُهلب يُؤْخَذ مِنْهُ أَن الْإِشَارَة
تكون أقوى من الْكَلَام.
622 - حدَّثنا إسْحاقُ قَالَ أخبرنَا أبُو أُسامةَ قَالَ
عُبَيْدُ الله حَدثنَا عَنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عَن
عائِشَةَ وَعَن نافِعٍ عَن ابنِ عُمَرَ أنَّ رسولَ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وحدَّثني يُوسُفُ بنُ
عِيسَى المَرُوزِيُّ قَالَ حَدثنَا الفَضْلُ قَالَ حدَّثنا
عُبَيْدُ الله بنُ عُمَرَ عنِ القَاسِمِ بنِ مُحَمَّدٍ عَن
عائِشَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّهُ
قَالَ إنَّ بِلاَلاً يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ فَكُلُوا
واشْرَبُوا حَتَّى يُؤَذِّنَ ابنُ أمِّ مَكْتُومٍ.
(5/135)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ
أَذَان بِلَال فِي اللَّيْل قبل دُخُول وَقت الْفجْر.
ذكر رِجَاله: وهم تِسْعَة: الأول: إِسْحَاق غير مَنْسُوب،
وَزعم الجياني أَن إِسْحَاق عَن أبي أُسَامَة يحْتَمل أَن
يكون إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم الْحَنْظَلِي أَو إِسْحَاق
بن مَنْصُور الكوسج، أَو إِسْحَاق بن نصر السَّعْدِيّ
وَزعم الْحَافِظ أَبُو الْحجَّاج الدِّمَشْقِي فِي
(أَطْرَافه) : أَنه إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَوجد بِخَط
الْحَافِظ الدمياطي على حَاشِيَته الصَّحِيح: أَن إِسْحَاق
هَذَا هُوَ ابْن شاهين الوَاسِطِيّ. وَقَالَ بَعضهم أما
مَا وَقع بِخَط الدمياطي بِأَنَّهُ ابْن شاهين، فَلَيْسَ
بصواب، لِأَنَّهُ لَا يعرف لَهُ عَن أبي أُسَامَة شَيْء.
قلت: عدم مَعْرفَته بِعَدَمِ رِوَايَة ابْن شاهين عَن أبي
أُسَامَة لَا يسْتَلْزم الْعَدَم مُطلقًا، وَجَهل الشَّخْص
بِشَيْء لَا يسْتَلْزم جهل غَيره بِهِ. قلت: هَذَا
الالتباس قدح فِي الأسناد؟ قلت: لَا، لِأَن أيا كَانَ
مِنْهُم فَهُوَ عدل ضَابِط بِشَرْط البُخَارِيّ.
الثَّانِي: أَبُو أُسَامَة، وَهُوَ حَمَّاد بن أُسَامَة
وَقد تقدم. الثَّالِث: عبيد الله، بتصغير العَبْد، وَهُوَ:
عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب
الْمدنِي الْعمريّ الْعَدوي القريشي، وَقد تقدم.
الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقد تقدم. الْخَامِس: نَافِع
مولى ابْن عمر. السَّادِس: يُوسُف بن عِيسَى أَبُو
يَعْقُوب الْمروزِي، وَقد تقدم. السَّابِع: الْفضل بن
مُوسَى السينَانِي، وسينان بِكَسْر السِّين الْمُهْملَة،
قَرْيَة من قرى مرو. الثَّامِن: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ.
التَّاسِع: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده مِنْهَا: أَنه أخرج هَذَا الحَدِيث
عَن عبيد الله بن عمر من وَجْهَيْن ذكر لَهُ فِي أَحدهمَا
إسنادين: نَافِع عَن ابْن عمر، وَالقَاسِم عَن عَائِشَة.
وَالْوَجْه الثَّانِي: اقْتصر فِيهِ على الْقَاسِم عَن
عَائِشَة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ: التحديث بِصِيغَة
الْإِفْرَاد عَن إِسْحَاق وَعَن يُوسُف، ويروى بِصِيغَة
الْجمع أَيْضا فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع: عبيد الله عَن
الْقَاسِم، وَالْفضل عَن عبيد الله، ويوسف عَن الْفضل.
وَمِنْهَا أَن فِيهِ: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع
إِسْحَاق عَن أبي أُسَامَة. وَمِنْهَا أَن فِيهِ: العنعنة
فِي سَبْعَة مَوَاضِع، وَهُوَ ظَاهر لَا يخفى. وَفِيه:
القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع بعد إِسْحَاق وَبعد أبي
أُسَامَة وَبعد يُوسُف وَبعد الْفضل.
قَوْله: (قَالَ عبيد الله: حَدثنَا عَن الْقَاسِم) فَاعل:
قَالَ، هُوَ أَبُو أُسَامَة، وَعبيد الله هُوَ الْقَائِل
بقوله: حَدثنَا. وَفِيه: تَقْدِيم وَتَأْخِير، وأصل
التَّرْكِيب: قَالَ أَبُو أُسَامَة: حَدثنَا عبيد عَن
الْقَاسِم، وَكَأَنَّهُ رَاعى لفظ شَيْخه وَلم يذكرهُ على
الأَصْل. قَوْله: (وَعَن نَافِع) ، عطف على الْقَاسِم أَي:
قَالَ عبيد الله عَن نَافِع أَيْضا، وَمِنْهَا أَن فِيهِ
كلمة: (ح) فِي أَكثر النّسخ، وَهِي إِشَارَة إِلَى
التَّحْوِيل من إِسْنَاد إِلَى إِسْنَاد آخر قبل ذكر متن
الحَدِيث، أَو إِشَارَة إِلَى الْحَائِل أَو إِلَى
الحَدِيث، وَقد مر فِي الْكتاب مثل هَذَا فِي غير مَوضِع.
قَوْله: (حَتَّى يُؤذن) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
(حَتَّى يُنَادي) ، وَقد أوردهُ البُخَارِيّ فِي الصّيام
بِلَفْظ: (يُؤذن) ، وَزَاد وَفِي آخِره: (فَإِنَّهُ لَا
يُؤذن حَتَّى يطلع الْفجْر) . قَالَ الْقَاسِم: لم يكن
بَين أذانهما إلاَّ أَن يرقى فِي هَذَا وَينزل هَذَا.
فَإِن قلت: هَذَا مُرْسل. لِأَن الْقَاسِم تَابِعِيّ فَلم
يدْرك الْقِصَّة الْمَذْكُورَة. قلت: ثَبت عِنْد
الطَّحَاوِيّ من رِوَايَة يحيى الْقطَّان، وَعند
النَّسَائِيّ من رِوَايَة حَفْص بن غياث، كِلَاهُمَا عَن
عبيد الله بن عمر عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، فَذكر
الحَدِيث، (قَالَت: فَلم يكن بَينهمَا إلاَّ أَن ينزل
هَذَا ويصعد هَذَا) . وعَلى هَذَا فَمَعْنَى قَوْله: فِي
رِوَايَة البُخَارِيّ، قَالَ الْقَاسِم، أَي: فِي
رِوَايَته عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر بَقِيَّة الْكَلَام قد مر عَن قريب: قَالَ
الْكرْمَانِي: قَالَت الْحَنَفِيَّة: لَا يسن الْأَذَان
قبل وَقت الصُّبْح. قَالَ الطَّحَاوِيّ: أَن ذَلِك النداء
من بِلَال لينبه النَّائِم وَيرجع الْقَائِم لَا
للصَّلَاة، وَقَالَ غَيره: إِنَّه كَانَ نِدَاء لَا أذانا،
كَمَا جَاءَ فِي بعض الرِّوَايَات أَنه كَانَ يُنَادي.
أَقُول للشَّافِعِيَّة: أَن يَقُولُوا: الْمَقْصُود بَيَان
أَن وُقُوع الْأَذَان قبل الصُّبْح، وَتَقْرِير الرَّسُول
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، وَأما أَنه للصَّلَاة أَو
لغَرَض آخر، فَذَلِك بحث آخر. وَأما رِوَايَة: (كَانَ
يُنَادي) ، فمعارض بِرِوَايَة: (كَانَ يُؤذن)
وَالتَّرْجِيح مَعنا لِأَن كل أَذَان نِدَاء بِدُونِ
الْعَكْس، فَالْعَمَل بِرِوَايَة: (يُؤذن عمل بالروايتين،
وَجمع بَين الدَّلِيلَيْنِ، وَالْعَكْس لَيْسَ كَذَلِك.
قلت: أَرَادَ الْكرْمَانِي أَن ينتصر لمذهبه لَكِن لم
يَأْتِ بِشَيْء عَلَيْهِ قبُول، فَقَوله: قَالَ
الطَّحَاوِيّ: إِن ذَلِك النداء من بِلَال لينبه النَّائِم
وَيرجع الْقَائِم، هُوَ من كَلَام الشَّارِع، فَإِن
أَرَادَ بذلك الِاعْتِرَاض عَلَيْهِ فَهُوَ بَاطِل.
وَقَوله: لَا للصَّلَاة، مُسلم عِنْدهم أَيْضا، حَتَّى لَو
صلى بذلك الْأَذَان صَلَاة الْفجْر لَا يجوز. وَقَوله:
الْمَقْصُود بَيَان أَن وُقُوع الْأَذَان قبل الصُّبْح،
فَهَذَا لَا ننازعهم فِيهِ، وَنحن أَيْضا نقُول: إِنَّه
وَقع قبل الصُّبْح، وَلَكِن لَا يعْتد بِهِ فِي حق
الصَّلَاة. وَقَوله: وَتَقْرِير الرَّسُول صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم لَهُ، يردهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لِبلَال: أَن يرجع فينادي: (أَلا إِن العَبْد نَام،
فَرجع فَنَادَى: أَلا إِن العَبْد نَام) . رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ وَالتِّرْمِذِيّ من حَدِيث حَمَّاد
(5/136)
ابْن سَلمَة عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن
ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. فَإِن قلت:
قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا حَدِيث غير مَحْفُوظ،
وَالصَّحِيح مَا روى عبيد الله بن عمر وَغَيره عَن نَافِع
عَن ابْن عمر: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ: (أَن بِلَالًا يُؤذن بلَيْل فَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يُؤذن ابْن أم مَكْتُوم) . قلت: مَا لحماد بن
سَلمَة، وَهُوَ ثِقَة؟ . وَلَيْسَ حَدِيثه يُخَالف حَدِيث
عبيد الله بن عمر، لِأَن حَدِيثه لإيقاظ النَّائِم وَرجع
الْقَائِم، وَلم يكن لأجل الصَّلَاة، فَلذَلِك لم
يَأْمُرهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِأَن يرجع وينادي:
(أَلا إِن العَبْد نَام) . وَأما حَدِيث حَمَّاد ابْن
سَلمَة فقد كَانَ لأجل غَفلَة بِلَال عَن الْوَقْت، وعَلى
كلا التَّقْدِيرَيْنِ: أَذَان بِلَال لم يكن معتدا
للصَّلَاة. وَقَوله: وَأما رِوَايَة (كَانَ يُنَادي) إِلَى
آخِره، فَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن كلاَّ من الْأَذَان
والنداء فِي الْحَقِيقَة يرجع إِلَى معنى وَاحِد، وَهُوَ
الْإِعْلَام، وَلَا إِعْلَام قبل الْوَقْت. ثمَّ قَالَ
الْكرْمَانِي: بِأَن الْأَذَان للإعلام بِوَقْت الصَّلَاة
بالألفاظ الَّتِي عينهَا الشَّارِع، وَهُوَ لَا يصدق
عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ إعلاما بوقتها. فَأجَاب بِأَن
الْإِعْلَام بِالْوَقْتِ أَعم من أَن يكون إعلاما بِأَن
الْوَقْت دخل، أَو قرب أَن يدْخل. انْتهى. قلت: فعلى مَا
ذكره إِذا أذن عِنْد قرب وَقت صَلَاة أَي صَلَاة كَانَت
يَنْبَغِي أَن يَكْتَفِي بِهِ وَلَا يُعَاد، وَيصلى بِهِ.
وَلم يقل بِهِ أحد فِي كل الصَّلَاة. وَقَالَ بَعضهم:
وَاحْتج الطَّحَاوِيّ بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّة الْأَذَان
قبل الْفجْر، بقوله: (لما كَانَ بَين أذانيهما من الْقرب)
، مَا ذكر فِي حَدِيث عَائِشَة ثَبت أَنَّهُمَا كَانَا
يقصدان وقتا وَاحِدًا وَهُوَ طُلُوع الْفجْر، فيخطئه
بِلَال ويصيبه ابْن أم مَكْتُوم، وَتعقب بِأَنَّهُ لَو
كَانَ كَذَلِك لما أقره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مُؤذنًا، وَاعْتمد عَلَيْهِ، وَلَو كَانَ كَمَا ادّعى
لَكَانَ وُقُوع ذَلِك مِنْهُ نَادرا. قلت: لَو اعْتمد
عَلَيْهِ فِي أَذَان الْفجْر لَكَانَ لم يقل: لَا
يَغُرنكُمْ أَذَان بِلَال، وَتَقْرِيره صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِيَّاه على ذَلِك لم يكن إلاَّ لِمَعْنى بَينه فِي
الحَدِيث، وَهُوَ: تَنْبِيه النَّائِم وَرجع الْقَائِم،
لمعان مَقْصُودَة فِي ذَلِك.
14 - بابٌ بَيْنَ الأَذَانِ والإقَامَةِ ومَنْ يَنْتَظِرُ
إقَامَةَ الصَّلاَةِ
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ كم بَين الْأَذَان
وَالْإِقَامَة، فَحِينَئِذٍ يكون بَاب منونا مَرْفُوعا على
أَنه خبر مبتد مَحْذُوف، وَقَالَ بَعضهم: أما بَاب، فَهُوَ
فِي روايتنا بِلَا تَنْوِين. قلت: لَيْت شعري من هُوَ
الرَّاوِي لَهُ، فَهَل هُوَ مِمَّن يعْتَمد عَلَيْهِ فِي
تصرفه فِي التراكيب، وَهَذَا لَيْسَ لفظ الحَدِيث حَتَّى
يقْتَصر فِيهِ على الْمَرْوِيّ، وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام
البُخَارِيّ، فَالَّذِي لَهُ يَد فِي تَحْقِيق النّظر فِي
تراكيب النَّاس يتَصَرَّف فِيهِ بِأَيّ وَجه، يَأْتِي
مَعَه على قَاعِدَة أهل النَّحْو واصطلاح الْعلمَاء فِيهِ،
وَبَاب هُنَا منون، وَوَجهه مَا ذَكرْنَاهُ، ومميز: كم،
مَحْذُوف أَي: كم سَاعَة، وَنَحْو ذَلِك. قَوْله:
(وَالْإِقَامَة) أَي: إِقَامَة الصَّلَاة. قَوْله: (وَمن
ينْتَظر الْإِقَامَة) لَيْسَ بموجود فِي كثير من النّسخ،
وعَلى تَقْدِير وجوده يكون عطفا على الْمُقدر الَّذِي
قدرناه، تَقْدِيره: وَيذكر فِيهِ من ينْتَظر إِقَامَة
الصَّلَاة.
20 - (حَدثنَا إِسْحَاق الوَاسِطِيّ قَالَ حَدثنَا خَالِد
عَن الْجريرِي عَن ابْن بُرَيْدَة عَن عبد الله بن مُغفل
الْمُزنِيّ أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ - قَالَ بَين كل أذانين صَلَاة ثَلَاثًا لمن
شَاءَ) مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن معنى قَوْله "
بَين كل أذانين صَلَاة " بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة
وَقَالَ بَعضهم وَلَعَلَّ البُخَارِيّ أَشَارَ بذلك أَي
بقوله بَاب كم بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة إِلَى مَا
رُوِيَ عَن جَابر رَضِي الله عَنهُ " أَن النَّبِي -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَ لِبلَال
اجْعَل بَين أذانك وإقامتك قدر مَا يفرغ الْآكِل من أكله
والشارب من شربه والمقتصر إِذا دخل لقَضَاء حَاجَة " أخرجه
التِّرْمِذِيّ وَالْحَاكِم لَكِن إِسْنَاده ضَعِيف (قلت)
هَذَا كَلَام عَجِيب لِأَنَّهُ كَيفَ يترجم بَابا ويورد
فِيهِ حَدِيثا صَحِيحا على شَرطه وَيُشِير بذلك إِلَى
حَدِيث ضَعِيف فَأَي شَيْء هُنَا يدل على هَذِه
الْإِشَارَة. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة الأول اسحق هُوَ
ابْن شاهين الوَاسِطِيّ وَفِي الروَاة اسحق بن وهب العلاف
الوَاسِطِيّ وَلَكِن لَيست لَهُ رِوَايَة عَن خَالِد
وَإِنَّمَا تميز اسحق هَهُنَا من غَيره من اسحق
الْحَنْظَلِي واسحق بن نصر السَّعْدِيّ واسحق بن مَنْصُور
الكوسج بقوله الوَاسِطِيّ الثَّانِي خَالِد بن عبد الله
الطَّحَّان وَقد تقدم الثَّالِث الْجريرِي بِضَم الْجِيم
وَفتح الرَّاء الأولى وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف
وبالراء الْمُهْملَة هُوَ سعيد بن إِيَاس الرَّابِع ابْن
بُرَيْدَة بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالدال الْمُهْملَة
وَهُوَ عبد الله بن حصيب الْأَسْلَمِيّ قَاضِي مرو مَاتَ
بهَا الْخَامِس عبد الله بن مُغفل بِضَم الْمِيم وَفتح
الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْفَاء
(5/137)
(ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه من
الروَاة الْأَوَّلَانِ واسطيان والاثنان بصريان وَفِيه أَن
شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده وَأَنه لم يذكرهُ إِلَّا
بنسبته إِلَى بَلَده وَاسِط (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه
غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عبد
الله بن يزِيد الْمقري عَن كهمس بن الْحسن وَأخرجه مُسلم
فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة ووكيع
كِلَاهُمَا عَن كهمس بِهِ وَعَن ابْن أبي شيبَة عَن عبد
الْأَعْلَى عَن الْجريرِي بِهِ وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ
عَن النُّفَيْلِي عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن الْجريرِي
بِهِ وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن هناد عَن وَكِيع
بِهِ وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عبيد الله بن سعيد
عَن يحيى بن سعيد عَن كهمس بِهِ وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ
عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي أُسَامَة ووكيع بِهِ
(ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " بَين كل أذانين " أَي الْأَذَان
وَالْإِقَامَة فَهُوَ من بَاب التغليب وَقَالَ الْخطابِيّ
حمل أحد الاسمين على الآخر شَائِع كَقَوْلِهِم الأسودان
للتمر وَالْمَاء وَالْأسود إِنَّمَا هُوَ أَحدهمَا وَقَالَ
الْكرْمَانِي وَيحْتَمل أَن يكون الِاسْم لكل وَاحِد
مِنْهُمَا حَقِيقَة لِأَن الْأَذَان فِي اللُّغَة
الْإِعْلَام وَالْأَذَان إِعْلَام بِحُضُور الْوَقْت
وَالْإِقَامَة إِعْلَام بِفعل الصَّلَاة (قلت) الْأَذَان
إِعْلَام الغائبين وَالْإِقَامَة إِعْلَام الْحَاضِرين
وَقيل لَا يجوز حمل هَذَا على ظَاهره لِأَن الصَّلَاة
وَاجِبَة بَين كل أذاني وَقْتَيْنِ والْحَدِيث يخبر
بالتخيير بقوله " لمن شَاءَ " قَوْله " صَلَاة " أَي وَقت
صَلَاة وموضعها قَوْله " ثَلَاثًا " أَي قَالَهَا ثَلَاث
مَرَّات وتفسره الرِّوَايَة الَّتِي تَأتي بعد بَاب وَهِي
قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " بَين كل
أذانين صَلَاة بَين كل أذانين صَلَاة ثمَّ قَالَ فِي
الثَّالِثَة لمن شَاءَ " وَفِي رِوَايَة مُسلم والإسماعيلي
" قَالَ فِي الرَّابِعَة لمن شَاءَ " وَعند أبي دَاوُد "
قَالَهَا مرَّتَيْنِ " وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فَائِدَة
هَذَا الحَدِيث أَنه يجوز أَن يتَوَهَّم أَن الْأَذَان
للصَّلَاة يمْنَع أَن يفعل سوى الصَّلَاة الَّتِي أذن
لَهَا فَبين أَن التَّطَوُّع بَين الْأَذَان وَالْإِقَامَة
جَائِز (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ جَوَاز
الصَّلَاة بَين كل أذانين يَعْنِي بَين الْإِقَامَة
وَالْأَذَان وَالْحَاصِل أَن الْوَصْل بَينهمَا مَكْرُوه
لِأَن الْمَقْصُود بِالْأَذَانِ إِعْلَام النَّاس بِدُخُول
الْوَقْت لِيَتَأَهَّبُوا للصَّلَاة بِالطَّهَارَةِ
فيحضروا الْمَسْجِد لإِقَامَة الصَّلَاة وبالوصل يَنْتَفِي
هَذَا الْمَقْصُود ثمَّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِي حد
الْفَصْل فَذكر التُّمُرْتَاشِيّ فِي جَامعه أَن
الْمُؤَذّن يقْعد مِقْدَار رَكْعَتَيْنِ أَو أَربع أَو
مِقْدَار مَا يفرغ الْآكِل من أكله والشارب من شربه
والحاقن من قَضَاء حَاجته وَقيل مِقْدَار مَا يقْرَأ عشر
آيَات ثمَّ يثوب ثمَّ يُقيم كَذَا فِي الْمُجْتَبى وَفِي
شرح الطَّحَاوِيّ يفصل بَينهمَا مِقْدَار رَكْعَتَيْنِ
يقْرَأ فِي كل رَكْعَة نَحوا من عشر آيَات وينتظر
الْمُؤَذّن للنَّاس وَيُقِيم للضعيف المستعجل وَلَا
ينْتَظر رَئِيس الْمحلة وكبيرها وَهَذَا كُله إِلَّا فِي
صَلَاة الْمغرب عِنْد أبي حنيفَة لِأَن تَأْخِيرهَا
مَكْرُوه فيكتفي بِأَدْنَى الْفَصْل وَهُوَ سكتة يسكت
قَائِما سَاعَة ثمَّ يُقيم (فَإِن قلت) مَا مِقْدَار
السكتة عِنْده (قلت) قدر مَا يتَمَكَّن فِيهِ من قِرَاءَة
ثَلَاث آيَات قصار أَو آيَة طَوِيلَة وَرُوِيَ عَن أبي
حنيفَة مِقْدَار مَا يخطو ثَلَاث خطوَات وَقَالَ أَبُو
يُوسُف وَمُحَمّد يفصل بَينهمَا بجلسة خَفِيفَة مِقْدَار
الجلسة بَين الْخطْبَتَيْنِ وَمذهب الشَّافِعِي مَا ذكره
النَّوَوِيّ فَإِنَّهُ قَالَ يسْتَحبّ أَن يفصل بَين
أَذَان الْمغرب وإقامتها فصلا يَسِيرا بقعدة أَو سكُوت أَو
نَحْوهمَا وَهَذَا لَا خلاف فِيهِ عندنَا وَنقل صَاحب
الْهِدَايَة عَن الشَّافِعِي أَنه يفصل بِرَكْعَتَيْنِ
اعْتِبَارا بِسَائِر الصَّلَوَات وَفِيه نظر وَقَالَ
أَحْمد يفصل بَينهمَا بِصَلَاة رَكْعَتَيْنِ فِي الْمغرب
اعْتِبَارا بِسَائِر الصَّلَوَات وَاحْتج بِالْحَدِيثِ
الْمَذْكُور (قلت) روى الدَّارَقُطْنِيّ ثمَّ
الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنَيْهِمَا عَن حبَان بن عبد الله
الْعَدوي حَدثنَا عبد الله بن بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ
قَالَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -
" أَن عِنْد كل أذانين رَكْعَتَيْنِ إِلَّا الْمغرب "
(فَإِن قلت) ذكر ابْن الْجَوْزِيّ هَذَا الحَدِيث فِي
الموضوعات وَنقل عَن الفلاس أَنه قَالَ كَانَ حبَان هَذَا
كذابا (قلت) الحَدِيث رَوَاهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده
فَقَالَ لَا نعلم من رَوَاهُ عَن ابْن بُرَيْدَة إِلَّا
حبَان بن عبد الله وَهُوَ رجل مَشْهُور من أهل الْبَصْرَة
لَا بَأْس بِهِ -
625 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ بَشَّارٍ قَالَ حَدثنَا
غُنْدَرٌ قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ سَمِعْتُ عَمْرَو
بنَ عَامِرٍ
(5/138)
الأنصَارِيَّ عَنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ قَالَ
كَانَ المُؤَذِّنُ إذَا أذَّنَ قامَ ناسٌ مِن أصْحَابِ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَبْتَدِرُونَ
السَّوَارِيَ حَتَّى يَخْرُجَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم وهُمْ كَذَلِكَ يُصَلُّونَ الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ
المَغْرَبِ ولَمْ يَكُنْ بَيْنَ الآذَانِ والإقَامَةِ
شَيْءٌ (انْظُر الحَدِيث 503) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وهم يصلونَ
الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب) فَإِن صلَاتهم قبل صَلَاة
الْمغرب بعد الْأَذَان فصل بَينه وَبَين الْإِقَامَة،
وَبِهَذَا أَخذ أَحْمد وَإِسْحَاق. وَالْجَوَاب مَا
ذَكرْنَاهُ من اسْتثِْنَاء الْمغرب فِي حَدِيث بُرَيْدَة
الْمَذْكُور آنِفا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة، ذكرُوا غير مرّة، وبشار على
وزن: فعال بِالتَّشْدِيدِ، وَالْبَاء الْمُوَحدَة والشين
الْمُعْجَمَة، وغندر، بِضَم الْغَيْن الْمُعْجَمَة: لقب
مُحَمَّد بن جَعْفَر ابْن امْرَأَة شُعْبَة، وَعَمْرو،
بِفَتْح الْعين: ابْن عَامر الْأنْصَارِيّ، مر فِي بَاب
الْوضُوء من غير حدث.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع.
وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي
أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي
ومدني وواسطي، وَهُوَ شُعْبَة.
بَيَان مَحل تعدده وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قبيصَة عَن سُفْيَان. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن أبي
عَامر عَن سُفْيَان عَنهُ بِهِ نَحوه، وَفِي نُسْخَة عَن
شُعْبَة بدل عَن سُفْيَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ الْمُؤَذّن إِذا أذن) ،
وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (إِذا أَخذ الْمُؤَذّن
فِي أَذَان الْمغرب) . قَوْله: (قَامَ نَاس) ، وَفِي
رِوَايَة النَّسَائِيّ: (قَامَ كبار أَصْحَاب رَسُول الله،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،) . قَوْله: (يبتدرون) ، أَي:
يتسارعون ويستبقون. قَوْله: (السَّوَارِي) جمع سَارِيَة
وَهِي: الأسطوانة، وَكَانَ غرضهم بالاستباق إِلَيْهَا
الاستتار بهَا مِمَّن يمر بَين أَيْديهم لكَوْنهم يصلونَ
فُرَادَى. قَوْله: (وهم كَذَلِك) ، أَي: فِي تِلْكَ
الْحَالة هم مبتدرون منتظرون الْخُرُوج، وَفِي رِوَايَة
مُسلم زِيَادَة وَهِي: (فَيَجِيء الْغَرِيب فيحسب أَن
الصَّلَاة قد صليت من كَثْرَة من يُصليهَا) . رَوَاهَا من
طَرِيق عبد الْعَزِيز بن صُهَيْب عَن أنس. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: (وَهِي كَذَلِك) ،
بدل: وهم، والأمران جائزان فِي ضمير الْعُقَلَاء، نَحْو:
الرِّجَال فعلت وفعلوا. قَوْله: (قَالَ وَلم يكن بَين
الْأَذَان وَالْإِقَامَة شَيْء) ، أَي: قَالَ أنس: وَلم
يكن بَينهمَا زمَان أَو صَلَاة. فَإِن قلت: هَذَا أثر
وَهُوَ ناف، وَالَّذِي سبق قبله من النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مُثبت، فَكيف الْجمع بَينهمَا؟ قلت:
قَالَ ابْن الْمُنِير: يجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ بِحمْل
النَّفْي الْمُطلق على الْمُبَالغَة مجَازًا،
وَالْإِثْبَات للتَّعْلِيل على الْحَقِيقَة. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَجه الْجمع بَينهمَا أَن هَذَا خَاص
بِأَذَان الْمغرب، وَذَاكَ عَام، وَالْخَاص إِذا عَارض
الْعَام يخصصه عِنْد الشَّافِعِيَّة، سَوَاء علم تَأَخره
أم لَا، وَالْمرَاد بقوله: (كل أذانين) غير أذاني الْمغرب،
وَقيل: التَّنْوِين فِيهِ للتنكير والتعظيم، وَنفي الْكثير
لَا يسْتَلْزم نفي الْقَلِيل، وَيُؤَيّد ذَلِك مَا رَوَاهُ
الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث شُعْبَة: (وَكَانَ بَين
الْأَذَان وَالْإِقَامَة قرب. قلت: يدل عَلَيْهِ مَا
رَوَاهُ عُثْمَان بن جبلة وَأَبُو دَاوُد عَن شُعْبَة:
(وَلم يكن بَينهمَا إلاَّ قَلِيل) . وَقيل: حَدِيث الْبَاب
على ظَاهره، وَقَوله: وَلم يكن بَينهمَا شَيْء، يدل على
أَن عُمُوم قَوْله: (بَين كل أذانين صَلَاة) مَخْصُوص
بالمغرب، فَإِنَّهُم لم يَكُونُوا يصلونَ بَينهمَا، بل
كَانُوا يشرعون فِي الصَّلَاة فِي أثْنَاء الْأَذَان
ويفرغون مَعَ فَرَاغه، وَيُؤَيّد ذَلِك حَدِيث بُرَيْدَة
الْمَذْكُور عَن قريب، فَإِن فِيهِ اسْتثِْنَاء الْمغرب
كَمَا ذكرنَا. قلت: قَول هَذَا الْقَائِل: ويفرغون مَعَ
فَرَاغه، فِيهِ نظر لِأَنَّهُ مَا فِي الحَدِيث شَيْء يدل
على ذَلِك، وشروعهم فِي الْأَذَان لَا يسْتَلْزم فراغهم
مَعَ فرَاغ الْأَذَان، وَادّعى بعض الْمَالِكِيَّة نسخهما
لِأَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْأَمر لما نهى عَن الصَّلَاة
بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب، ثمَّ ندب الْمُبَادرَة إِلَى
الْمغرب فِي أول وَقتهَا، فَلَو استمرت الْمُوَاظبَة على
الِاشْتِغَال بغَيْرهَا لَكَانَ ذَلِك ذَرِيعَة إِلَى
مُخَالفَة إِدْرَاك أول وَقتهَا. وَقَالَ بَعضهم: دَعْوَى
النّسخ لَا دَلِيل عَلَيْهَا. قلت: يسْتَأْنس لتأييد قَول
هَذَا الْقَائِل بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن طَاوس،
قَالَ: سُئِلَ ابْن عمر عَن الرَّكْعَتَيْنِ قبل الْمغرب؟
فَقَالَ: مَا رَأَيْت أحدا على عهد رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، يُصَلِّيهمَا. وَقَالَ أَبُو بكر ابْن
الْعَرَبِيّ: اخْتلف الصَّحَابَة فِيهِ، وَلم يَفْعَله أحد
بعد الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَقَالَ
النَّخعِيّ: إِنَّهَا بِدعَة، وَرُوِيَ عَن الْخُلَفَاء
الْأَرْبَعَة وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة أَنهم كَانُوا لَا
يصلونهما.
(5/139)
قَالَ عُثْمَانُ بنُ جَبَلَةَ وأبُو دَاوُد
عَن شُعْبَةَ لَمْ يَكُن بَيْنَهُمَا إلاَّ قَلِيلٌ
جبلة، بِفَتْح الْجِيم وَالْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن أبي
رواد، ابْن أخي عبد الْعَزِيز بن أبي رواد، واسْمه:
مَيْمُون الْأَزْدِيّ، مَوْلَاهُم الْبَصْرِيّ وَأَبُو
دَاوُد: سُلَيْمَان بن دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، وَهُوَ من
أَفْرَاد مُسلم، وَيُقَال أَبُو دَاوُد هَذَا: عمر بن سعيد
الْحَفرِي الْكُوفِي، وحفر بِالْفَاءِ مَوضِع
بِالْكُوفَةِ، وَهُوَ أيضامن أَفْرَاد مُسلم. قَالَ
الْكرْمَانِي: وَالظَّاهِر أَنه تَعْلِيق مِنْهُ لِأَن
البُخَارِيّ كَانَ ابْن عشرَة عِنْد وَفَاة
الطَّيَالِسِيّ.
15 - (بابُ مَنِ انْتَظَرَ الإقَامَةَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من سمع الْأَذَان وانتظر
إِقَامَة الصَّلَاة، وَالظَّاهِر من وضع هَذَا الْبَاب
الْإِشَارَة إِلَى أَن ذَلِك مُخْتَصّ بِالْإِمَامِ لِأَن
الْمَأْمُوم يسْتَحبّ أَن يحوز الصَّفّ الأول، وَيُمكن أَن
يُشَارك الإِمَام فِي ذَلِك من كَانَ منزله قَرِيبا من
الْمَسْجِد بِحَيْثُ يسمع الْإِقَامَة من منزله، فَإِنَّهُ
إِذا كَانَ متهيأ للصَّلَاة كَانَ انْتِظَاره لَهَا
كانتظاره إِيَّاهَا وَهُوَ فِي الْمَسْجِد.
626 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عَنِ
الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ
أنَّ عَائِشَةَ قالَتْ كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إذَا سَكَتَ المُؤَذِّنُ بالأُولَى مِن صلاةِ
الفَجْرِ قامَ فَرَكَعَ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ قَبْلَ
صلاةِ الفَجْرِ بَعْدَ أنْ يَسْتَبِينَ الفَجْرُ ثُمَّ
اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الأيْمَنِ حَتَّى يَأتِيهِ
المُؤَذِّنُ لِلإقَامَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ اضْطجع على شقَّه
الْأَيْمن) إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو الْيَمَان الحكم
بن نَافِع. الثَّانِي: شُعَيْب بن أبي حَمْزَة. الثَّالِث:
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع:
عُرْوَة بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة أم
الْمُؤمنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين، وَفِي
رُوَاته حمصيان ومدنيان. .
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن عَمْرو بن
مَنْصُور عَن عَليّ بن عَيَّاش، كِلَاهُمَا عَن شُعَيْب
بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا سكت الْمُؤَذّن) أَي: إِذا
فرغ من الْأَذَان بِالسُّكُوتِ عَنهُ، هَكَذَا فِي
رِوَايَة الْجُمْهُور الْمُعْتَمدَة، بِالتَّاءِ
الْمُثَنَّاة من فَوق. وَحكى ابْن التِّين: بِالْبَاء
الْمُوَحدَة، وَمَعْنَاهُ: صب الْأَذَان فِي الآذان، جمع
الْأَذَان، واستعير الصب للإفاضة فِي الْكَلَام. وَقَالَ
ابْن قرقول: ورويناه عَن الْخطابِيّ: (سكب الْمُؤَذّن) ،
بِالْبَاء الْمُوَحدَة. قَالَ: وَرَأَيْت بِخَط أبي عَليّ
الجياني عَن أبي مَرْوَان: سكب وَسكت، بِمَعْنى وَابْن
الْأَثِير لم يذكر غير الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقَالَ:
إِرَادَة إِذا أذن فاستعير السكب للإفاضة فِي الْكَلَام،
كَمَا يُقَال: أفرغ فِي أُذُنِي حَدِيثا أَي: القى وصب،
وَقَالَ الصَّاغَانِي فِي (الْعباب) أَيْضا: بِالْبَاء
الْمُوَحدَة، وَذكر أَن الْمُحدثين صحفوها
بِالْمُثَنَّاةِ. وَقَالَ بَعضهم: وَلَيْسَ كَمَا قَالَ.
قلت: لم يبين وَجه الرَّد عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الصَّاغَانِي
مِمَّن يرد عَلَيْهِ فِي مثل هَذَا، وَقَالَ ابْن بطال
والسفاقسي: إِن هَذِه رِوَايَة ابْن الْمُبَارك عَن
الْأَوْزَاعِيّ عَن الزُّهْرِيّ. قَالَا: وَلها وَجه من
الصَّوَاب. قلت: بل هُوَ عين الصَّوَاب، لِأَن سكت
بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق لَا يسْتَعْمل بِالْبَاء
الْمُوَحدَة، بل يسْتَعْمل بِكَلِمَة: من، أَو: عَن، وسكب
بِالْبَاء الْمُوَحدَة اسْتعْمل هُنَا بِالْبَاء. فَإِن
قلت: الْبَاء تَجِيء بِمَعْنى: عَن، كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى: {فاسأل بِهِ خَبِيرا} (الْفرْقَان: 59) . أَي:
عَنهُ. قلت: الأَصْل أَن يسْتَعْمل كل حرف فِي بَابه،
وَلَا يسْتَعْمل فِي غير بَابه إلاَّ لنكتة، وَأي نُكْتَة
هُنَا؟ قَوْله: (بِالْأولَى) ، مُرَاده الْأَذَان الأول،
لِأَنَّهُ أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِقَامَة، وَلكنه
أنثه بِاعْتِبَار المناداة وَالْأَذَان الأول يُؤذن بِهِ
عِنْد دُخُول الْوَقْت، وَهُوَ أول بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْإِقَامَة، وثان بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْأَذَان الَّذِي
قبل الْفجْر، وَيجوز أَن يؤول: الأولى، بالمرة الأولى
وبالساعة الأولى. قَوْله: (بعد أَن يستبين الْفجْر) من
الاستبانة، وَهُوَ: الظُّهُور، ويروى: يَسْتَنِير من
الاستنارة، ويروى: يستيقن. قَوْله: (على شقَّه) أَي: على
جنبه الْأَيْمن. قَالَ
(5/140)
الْكرْمَانِي: وَالْحكمَة فِيهِ أَن لَا
يسْتَغْرق فِي النّوم، لِأَن الْقلب من جِهَة الْيَسَار
مُتَعَلق حِينَئِذٍ غير مُسْتَقر، وَإِذا نَام على
الْيَسَار كَانَ فِي دعة واستراحة فيستغرق، وَأَيْضًا يكون
انحدار الثّقل إِلَى سفل أسهل وَأكْثر فَيصير سَببا لدغدغة
قَضَاء الْحَاجة فينتبه فِي أسْرع وَقت. قلت: لَا يستحسن
هَذَا الْكَلَام فِي حَقه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَإِنَّمَا يمشي فِي حق غَيره، وَالنَّبِيّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يحب التَّيَامُن فِي كل شَيْء،
وَجَمِيع مَا صدر عَنهُ من قَول وَفعل كَانَ على أحسن
الْوُجُوه وأفضلها وأكملها، وَأَيْضًا النّوم على الْيَمين
نوم الصَّالِحين، وعَلى الْيَسَار نوم الْحُكَمَاء، وعَلى
الظّهْر نوم الجبارين والمتكبرين، وعَلى الْوَجْه نوم
الْكفَّار.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ فِيهِ: اسْتِحْبَاب التَّخْفِيف فِي
سنة الْفجْر، وَاسْتحبَّ قوم تخفيفها، وَهُوَ مَذْهَب
مَالك وَالشَّافِعِيّ فِي آخَرين. وَقَالَ النَّخعِيّ،
وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ: لَا بَأْس بإطالتها،
وَلَعَلَّه أَرَادَ بذلك غير محرم. وَفِي (مُصَنف) ابْن
أبي شيبَة: عَن سعيد بن جُبَير: (كَانَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم رُبمَا أَطَالَ رَكْعَتي الْفجْر) ،
وَقَالَ مُجَاهِد: لَا بَأْس أَن يُطِيل رَكْعَتي الْفجْر،
وَبَالغ قوم فَقَالُوا: لَا قِرَاءَة فِيهَا، حَكَاهُ
عِيَاض والطَّحَاوِي: والْحَدِيث الصَّحِيح يرد ذَلِك،
وَهُوَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ
فِي الأولى بِفَاتِحَة الْكتاب و: {قل يَا أَيهَا
الْكَافِرُونَ} (الْكَافِرُونَ: 1) . وَفِي الثَّانِيَة
بِالْفَاتِحَةِ و {قل هُوَ الله أحد} (الْإِخْلَاص: 1) .
وَفِي رِوَايَة ابْن عَبَّاس كَانَ يقْرَأ فيهمَا:
{قُولُوا آمنا بِاللَّه} (الْبَقَرَة: 136) .
وَبِقَوْلِهِ: {قل يَا أهل الْكتاب} (آل عمرَان: 64 و 98 و
99، والمائدة: 59 و 68 و 77) . وَاسْتحبَّ مَالك
الِاقْتِصَار على الْفَاتِحَة، على ظَاهر قَول عَائِشَة:
كَانَ يخففهما حَتَّى إِنِّي لأقول قد قَرَأَ فيهمَا بِأم
الْكتاب. وَفِي (فَضَائِل الْقُرْآن الْعَظِيم) لأبي
الْعَبَّاس الغافقي: (أَمر رجلا شكى إِلَيْهِ شَيْئا أَن
يقْرَأ بِفَاتِحَة الْكتاب وَسورَة ألم نشرح، وَفِي
الثَّانِيَة فِي الأولى بِالْفَاتِحَةِ وَسورَة ألم تَرَ
كَيفَ) .
وَفِيه: اسْتِحْبَاب الِاضْطِجَاع على الْأَيْمن عِنْد
النّوم، وَهُوَ سنة عِنْد الْبَعْض وَاجِب عِنْد الْحسن
الْبَصْرِيّ، وَذكر القَاضِي عِيَاض: أَن عِنْد مَالك
وَجُمْهُور الْعلمَاء وَجَمَاعَة من الصَّحَابَة بِدعَة.
قلت: يَعْنِي الِاضْطِجَاع بعد رَكْعَتي الْفجْر، وَفِي
(سنَن أبي دَاوُد) وَالتِّرْمِذِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح على
شَرط الشَّيْخَيْنِ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا صلى أحدكُم رَكْعَتي الْفجْر
فليضطجع على يَمِينه) . وَاعْلَم أَنه ثَبت فِي الصَّحِيح
(أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ
إِحْدَى عشرَة رَكْعَة يُوتر مِنْهَا بِوَاحِدَة، فَإِذا
فرغ مِنْهَا اضْطجع على شقَّه حَتَّى يَأْتِيهِ الْمُؤَذّن
فَيصَلي رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) ، فَهَذَا الِاضْطِجَاع
كَانَ بعد صَلَاة اللَّيْل، وَقبل صَلَاة رَكْعَتي
الْفجْر، وَلم يقل أحد: إِن الِاضْطِجَاع قبلهمَا سنة،
فَكَذَا بعدهمَا. وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: (إِن كنت مستيقظة حَدثنِي
وَإِلَّا اضْطجع) . فَهَذَا يدل على أَنه لَيْسَ بِسنة،
وَأَنه تَارَة كَانَ يضطجع قبل وَتارَة بعد وَتارَة لَا
يضطجع.
وَفِيه: اسْتِحْبَاب إتْيَان الْمُؤَذّن إِلَى الإِمَام
الرَّاتِب وإعلامه بِحُضُور الصَّلَاة.
وَفِيه: دلَالَة على أَن الِانْتِظَار للصَّلَاة فِي
الْبَيْت كالانتظار فِي الْمَسْجِد، إِذْ لَو لم يكن
كَذَلِك لخرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى
الْمَسْجِد ليَأْخُذ لنَفسِهِ بحظها من فَضِيلَة
الِانْتِظَار.
وَفِيه: أَن مُرَاعَاة الْوَقْت للمؤذن وَأَن الإِمَام
يَجْعَل إِلَيْهِ ذَلِك. وَقَالَ الدَّاودِيّ فِي حَدِيث
عَائِشَة دلَالَة أَن الْمُؤَذّن لَا يكون إلاَّ عَالما
بالأوقات، أَو يكون لَهُ من يعرفهُ بهَا.
وَفِيه: تَعْجِيل رَكْعَتي الْفجْر عِنْد طُلُوع الْفجْر،
وَقد كره جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم أَصْحَابنَا
التَّنَفُّل بعد أَذَان الْفجْر إِلَى صَلَاة الْفجْر
بِأَكْثَرَ من رَكْعَتي الْفجْر، لما فِي مُسلم عَن
حَفْصَة: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا
طلع الْفجْر لَا يُصَلِّي إلاَّ رَكْعَتَيْنِ خفيفتين) .
وَعند أبي دَاوُد: (عَن يسَار مولى ابْن عمر، قَالَ:
رَآنِي عبد الله وَأَنا أُصَلِّي بعد طُلُوع الْفجْر،
فَقَالَ: يَا يسَار إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم خرج علينا وَنحن نصلي هَذِه الصَّلَاة فَقَالَ: لَا
تصلوا بعد الْفجْر إلاَّ رَكْعَتَيْنِ) . وَقَالَ أَبُو
عِيسَى: حَدِيث غرب لَا نعرفه إلاَّ من حَدِيث قدامَة بن
مُوسَى، وَهَذَا مِمَّا أجمع عَلَيْهِ أهل الْعلم، كَرهُوا
أَن يُصَلِّي الرجل بعد طُلُوع الْفجْر إلاَّ رَكْعَتي
الْفجْر، وَإِلَى هَذَا ذهب أَبُو حنيفَة وَمَالك وَأحمد،
ولأصحاب الشَّافِعِي فِيهِ ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: مثل
الْجَمَاعَة، الثَّانِي: لَا تدخل الْكَرَاهَة حَتَّى
يُصَلِّي سنة الْفجْر، الثَّالِث: لَا تدخل الْكَرَاهَة
حَتَّى يُصَلِّي الصُّبْح، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَهُوَ
الصَّحِيح، وَالله تَعَالَى أعلم.
16 -
بابٌ بَيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صلاةٌ لِمَنْ شاءَ
أَي: هَذَا بَاب بَيَان أَن بَين كل أذانين صَلَاة، وَقد
قُلْنَا: إِن المُرَاد من الأذانين الْأَذَان
وَالْإِقَامَة بطرِيق التغليب، كالعمرين والقمرين
وَنَحْوهمَا، لَا يُقَال: هَذَا الْبَاب تكْرَار لِأَنَّهُ
ذكر قبل هَذَا الْبَاب، لأَنا نقُول: إِنَّه قد ذكر
هُنَاكَ بِبَعْض مَا دلّ عَلَيْهِ لفظ حَدِيث الْبَاب،
وَهنا ذكر بِلَفْظ الحَدِيث، وَأَيْضًا لما كَانَ بعض
اخْتِلَاف فِي رُوَاة الحَدِيث وَفِي مَتنه ذكره بترجمتين
بِحَسب ذَلِك.
(5/141)
627 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يَزِيدَ
قَالَ حدَّثنا كَهْمَسَ عنْ عَبْدِ الله بنِ بُرَيْدَةَ
عَنْ عَبْدِ الله بنِ مُغَفَّلٍ قَالَ قَالَ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بَيْنَ كُلِّ أذَانَيْنِ صلاةٌ بَيْنَ
كُلِّ أذَانَيْنِ صلاةٌ ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ
لِمَنْ شاءَ (انْظُر الحَدِيث 624) .
مطابقته للتَّرْجَمَة لَفظه كَمَا ذكرنَا، وَعبد الله بن
يزِيد هُوَ أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمقري مولى آل عمر
الْبَصْرِيّ، ثمَّ الْمَكِّيّ، مَاتَ سنة ثَلَاث عشرَة
وَمِائَتَيْنِ، روى عَنهُ البُخَارِيّ، وروى عَن عَليّ بن
الْمَدِينِيّ عَنهُ فِي الْأَحْكَام، وَعَن مُحَمَّد غير
مَنْسُوب عَنهُ فِي الْبيُوع، وروى عَنهُ مُسلم
بِوَاسِطَة. وكهمس، بِفَتْح الْكَاف وَسُكُون الْهَاء
وَفتح الْمِيم وبالسين الْمُهْملَة: ابْن الْحسن مكبر
النمري، بِفَتْح النُّون وَالْمِيم: الْقَيْسِي، مَاتَ سنة
تسع وَأَرْبَعين وَمِائَة، وَبَاقِي الروَاة وَمَا
يتَعَلَّق بِالْحَدِيثِ قد ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين عبارَة حَدِيث ذَاك الْبَاب
وَعبارَة حَدِيث هَذَا الْبَاب؟ قلت: الحَدِيث الَّذِي
هُنَا يُفَسر ذَاك الحَدِيث، وَالْأَحَادِيث يُفَسر
بَعْضهَا بَعْضًا. وَقَوله هُنَاكَ: ثَلَاثًا، من لفظ
الرَّاوِي أَي: قَالَهَا ثَلَاث مَرَّات، وَبَين ذَلِك
رِوَايَة النَّسَائِيّ: (بَين كل أذانين صَلَاة، بَين كل
أذانين صَلَاة، بَين كل أذانين صَلَاة) . وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا التَّوْفِيق بَينه حَيْثُ
قيد الثَّالِثَة بقوله: لمن شَاءَ، وَبَين الْمُطلق
الَّذِي ثمَّة؟ قلت: هَذَا فِي الكرتين الْأَوليين مُطلق،
وَذَاكَ مُقَيّد بقوله: (لمن شَاءَ) فِي المرات،
وَالْمُطلق يحمل على الْمُقَيد عِنْد الْأُصُولِيِّينَ،
وإيضا ثمَّة نقل الزِّيَادَة فِي الْأَوليين، وَزِيَادَة
الثِّقَة مَقْبُولَة عِنْد الْمُحدثين. قلت: مَشِيئَة
الصَّلَاة مُرَادة بَين كل أذانين على أَي وَجه كَانَ،
أَلاَ ترى أَن عِنْد التِّرْمِذِيّ قَالَهَا مرّة، وَقَالَ
فِي الرَّابِعَة لمن شَاءَ؟ وَعند أبي دَاوُد قَالَهَا
مرَّتَيْنِ وَعند البُخَارِيّ ثَلَاثًا وَعند النَّسَائِيّ
ثَلَاث مَرَّات مكررة بِغَيْر لفظ الْعدَد؟ وَالله
تَعَالَى أعلم.
17 -
بابُ مَنْ قَال لِيُؤَذِّن فِي السَّفَرِ مُؤَذِّنٌ واحِدٌ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول: من قَالَ ... إِلَى
آخِره،. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى
أَن وَاحِدًا من الْمُسَافِرين إِذا أذن يَكْفِي وَلَا
يحْتَاج إِلَى أَذَان الْبَقِيَّة، لِأَنَّهُ رُبمَا كَانَ
يتخيل أَنه لَا يَكْفِي الْأَذَان إلاَّ من جَمِيعهم،
لِأَن حَدِيث الْبَاب يدل ظَاهرا أَن الْأَذَان فِي السّفر
لَا يتَكَرَّر، سَوَاء كَانَ فِي الصُّبْح أَو فِي غَيره.
628 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حَدثنَا وُهَيْبٌ
عنْ أيُّوبَ عَنْ أبِي قلاِبِةَ عنْ مالِكِ بنِ
الحُوَيْرِثِ قالَ أتيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي نَفَرٍ منْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ
لَيْلَةً وكانَ رَحِيما رَفيقا فَلَمَّا رَأى شَوْقَنا
إلَى أهَالِينَا قَالَ ارْجِعُوا فكونُوا فِيهِمْ
وعَلِّمُوهُمْ وصَلوا فإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ
فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ وَلْيَؤُمُّكُمْ
أكْبَرُكُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليؤذن لكم أحدكُم) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُعلى بن أَسد، بِضَم
الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام
الْمَفْتُوحَة: أَبُو الْهَيْثَم الْبَصْرِيّ الْعمريّ،
أَخُو بهز بن أَسد، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي شهر رَمَضَان
سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: وهيب، مصغر
وهب، ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ الْكَرَابِيسِي، وَقد تقدم.
الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد تقدم غير مرّة.
الرَّابِع: أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن
زيد. الْخَامِس: مَالك بن الْحُوَيْرِث، مصغر الْحَارِث،
بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن أَشْيَم اللَّيْثِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ على قَول
من قَالَ: إِن أَيُّوب رأى أنس بن مَالك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي خبر
الْوَاحِد عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي الْأَدَب عَن
مُسَدّد، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف،
وَفِيه وَفِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه
مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن
أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَخلف بن هِشَام، وَعَن إِسْحَاق
بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي سعيد
(5/142)
الأشبح. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن مَحْمُود بن
غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن حَاجِب بن
الْوَلِيد وَعَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعَن عَليّ بن حجر.
وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بشر بن هِلَال الصَّواف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي نفر) ، بِفَتْح الْفَاء:
عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، والنفير مثله وَلَا
وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسموا بذلك لأَنهم إِذا حزبهم أَمر
اجْتَمعُوا ثمَّ نفروا إِلَى عدوهم. وَفِي (الواعي) :
وَلَا يَقُولُونَ عشرُون نَفرا وَلَا ثَلَاثُونَ نَفرا.
قَوْله: (من قومِي) هم: بَنو لَيْث بن بكر بن عبد منَاف بن
كنَانَة. قَوْله: (فَأَقَمْنَا عِنْده) أَي: عِنْد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عشْرين لَيْلَة) :
المُرَاد بأيامها، بِدَلِيل الرِّوَايَة الثَّانِيَة فِي
الْبَاب: (بعد عشْرين يَوْمًا وَلَيْلَة) . قَوْله:
(وَكَانَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (رحِيما) بِمَعْنى: ذَا رَحْمَة وشفقة ورقة قلب.
قَوْله: (رَقِيقا) ، بقافين فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، قيل:
والكشميهني أَيْضا، وَمَعْنَاهُ: كَانَ رَقِيق الْقلب،
وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (رَفِيقًا) بِالْفَاءِ أَولا
ثمَّ بِالْقَافِ، من: الرِّفْق. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
رِوَايَة البُخَارِيّ بِوَجْهَيْنِ: بالقافين وبالفاء
وَالْقَاف، وَرِوَايَة مُسلم بالقافين خَاصَّة. وَقَالَ
ابْن قرقول: رِوَايَة الْقَابِسِيّ بِالْفَاءِ، والأصيلي
وَأبي الْهَيْثَم بِالْقَافِ. قَوْله: (إِلَى أَهْلينَا) ،
هُوَ جمع أهل، والأهل من النَّوَادِر حَيْثُ يجمع مكسرا
نَحْو: الأهالي، ومصححا بِالْوَاو وَالنُّون نَحْو:
الأهلون، وبالألف وَالتَّاء نَحْو: الأهلات. قَوْله:
(ارْجعُوا) من الرُّجُوع لَا من الرجع. قَوْله: (وصلوا)
زَاد فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية عَن أَيُّوب:
(كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) . قَوْله: (فَإِذا حضرت
الصَّلَاة) يَعْنِي: إِذا حَان وَقتهَا. قَوْله: (فليؤذن
لكم أحدكُم) . فَإِن قلت: فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة فِي
الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ فِي حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث
أَيْضا: (إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما) ،
وَبَينهمَا تعَارض ظَاهر؟ قلت: قيل مَعْنَاهُ: من أحب
مِنْكُمَا أَن يُؤذن فليؤذن، وَذَلِكَ لِاسْتِوَائِهِمَا
فِي الْفضل، وَفِيه نظر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قد يُقَال:
فلَان قَتله بَنو تَمِيم، مَعَ أَن الْقَاتِل وَاحِد
مِنْهُم، وَكَذَا فِي الْإِنْشَاء يُقَال: يَا تَمِيم
اقْتُلُوهُ. قلت: حَاصله أَن التَّثْنِيَة تذكر وَيُرَاد
بِهِ الْوَاحِد، مثل قَوْله:
(قفا نبْكِ)
وَمرَاده الْخطاب للْوَاحِد، وَكَذَلِكَ يَأْتِي فِي
الْجمع، وَقَالَ التَّيْمِيّ: المُرَاد من قَوْله: أذنا
الْفضل وإلاَّ فأذان الْوَاحِد يجزىء.
ذكر اخْتِلَاف الفاظ هَذَا الحَدِيث) : الرِّوَايَة
هَهُنَا: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفر
من قومِي) ، وَعَن خَالِد بن أبي قلَابَة فِي بَاب
الْأَذَان للمسافرين إِذا كَانُوا جمَاعَة: (أَتَى رجلَانِ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُريدَان السّفر،
فَقَالَ إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما ثمَّ
ليؤمكما أكبركما) . وَفِي: بَاب: الإثنان فَمَا فَوْقهمَا
جمَاعَة: (إِذا حضرت الصَّلَاة فأذنا) الحَدِيث. وَفِي
بَاب: إِذا اسْتَووا فِي الْقِرَاءَة: (فليؤمهم أكبرهم) ،
قدمنَا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن شببة
متقاربون، وَفِيه: (لَو رجعتم إِلَى بِلَادكُمْ فعلمتموهم
فليصلوا صَلَاة كَذَا فِي حِين كَذَا، وَصَلَاة كَذَا فِي
حِين كَذَا. وَفِي إجَازَة خبر الْوَاحِد: (فَلَمَّا ظن
أَنا قد اشتقنا إِلَى أهلنا سَأَلنَا عَمَّن تركنَا
بَعدنَا، فَأَخْبَرنَاهُ، فَقَالَ: إرجعوا إِلَى أهليكم
فأقيموا فيهم وعلموهم، ومروهم ... وَذكر أَشْيَاء أحفظها
أَو لَا أحفظها وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)
الحَدِيث. وَفِي بَاب رَحْمَة النَّاس والبهائم، نَحوه.
وَعند أبي دَاوُد: (كُنَّا يَوْمئِذٍ متقاربين فِي الْعلم)
. وَفِي رِوَايَة لأبي قلَابَة: (فَأَيْنَ الْقُرْآن؟
قَالَ: إنَّهُمَا كَانَا متقاربين) . وَفِي رِوَايَة ابْن
حزم: (متقارنين) ، بالنُّون فِي الْمَوْضِعَيْنِ، من:
الْمُقَارنَة. يُقَال: فلَان قرين فلَان، إِذا كَانَ قرينه
فِي السن، وَكَذَا إِذا كَانَ فِي الْعلم. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الْأَلْفَاظ
المتعددة كَانَت مِنْهُ فِي وفادتين أَو فِي وفادة
وَاحِدَة، غير أَن النَّقْل تكَرر مِنْهُ، وَمن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْأَمر بِأَذَان
للْجَمَاعَة، وَهُوَ عَام للْمُسَافِر وَغَيره، وكافة
الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب الْأَذَان للْمُسَافِر، إِلَّا
عَطاء فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا لم يُؤذن وَلم يقم أعَاد
الصَّلَاة، وإلاَّ مُجَاهدًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا نسي
الْإِقَامَة أعَاد، وأخذا بِظَاهِر الْأَمر، وَهُوَ: أذنا
وأقيما. وَقيل: الْإِجْمَاع صَارف عَن الْوُجُوب، وَفِيه
نظر، وَحكى الطَّبَرِيّ عَن مَالك أَنه: يُعِيد إِذا ترك
الْأَذَان، ومشهور مذْهبه الِاسْتِحْبَاب. وَفِي
(الْمُخْتَصر) عَن مَالك: وَلَا أَذَان على مُسَافر،
وَإِنَّمَا الْأَذَان على من يجْتَمع إِلَيْهِ لتأذينه،
وبوجوبه على الْمُسَافِر قَالَ دَاوُد. قَالَت طَائِفَة:
هُوَ مُخَيّر، إِن شَاءَ أذن وَأقَام، وَرُوِيَ ذَلِك عَن
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ قَول عُرْوَة
وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَت طَائِفَة: تجزيه
الْإِقَامَة، رُوِيَ ذَلِك عَن مَكْحُول وَالْحسن
وَالقَاسِم، وَكَانَ ابْن عمر يُقيم فِي السّفر لكل صَلَاة
إلاَّ الصُّبْح فَإِنَّهُ كَانَ يُؤذن لَهَا وَيُقِيم.
وَقَالَ قاضيخان: من أَصْحَابنَا رجل صلى فِي سفر أَو فِي
بَيته بِغَيْر أَذَان وَإِقَامَة يكره. قَالَ: فالكراهة
مَقْصُورَة على الْمُسَافِر، وَمن صلى فِي بَيته
فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يُؤذن وَيُقِيم ليَكُون على هَيْئَة
الْجَمَاعَة، وَلِهَذَا كَانَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي
(5/143)
حَقه أفضل. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي
قَوْله: (ثمَّ ليؤمكما أكبركما) يدل على تساويهما فِي
شُرُوط الْإِمَامَة، وَرجح أَحدهمَا بِالسِّنِّ. قلت:
لِأَن هَؤُلَاءِ كَانُوا مستورين فِي بَاقِي الْخِصَال،
لأَنهم هَاجرُوا جَمِيعًا، وَأَسْلمُوا جَمِيعًا وصحبوا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولازموه عشْرين
لَيْلَة، فاستووا فِي الْأَخْذ عَنهُ. فَلم يبْق مَا يقدم
بِهِ إلاَّ السن.
وَفِيه: حجَّة لِأَصْحَابِنَا فِي تَفْضِيل الْإِمَامَة
على الْأَذَان لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(ليؤمكما أكبركما) خص الْإِمَامَة بالأكبر.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْجَمَاعَة تصح بِإِمَام ومأموم،
وَهُوَ إِجْمَاع الْمُسلمين.
وَفِيه: الحض على الْمُحَافظَة على الْأَذَان فِي الْحَضَر
وَالسّفر.
وَفِيه: أَن الْأَذَان وَالْجَمَاعَة مشروعان على
الْمُسَافِرين.
[رم 18
2
بابُ الآذَانِ للْمُسَافِرِينَ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً
والإِقَامَةَ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَذَان للمسافرين،
وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن للْمُسَافِر
أَن يُؤذن. وَقَوله: إِذا كَانُوا جمَاعَة. هُوَ مُقْتَضى
أَحَادِيث الْبَاب، وَلَكِن لَيْسَ فِيهَا مَا يمْنَع
أَذَان الْمُنْفَرد. وَقَوله: (للمسافرين) ، بِلَفْظ
الْجمع هُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَهُوَ مُنَاسِب
لقَوْله: (إِذا كَانُوا جمَاعَة) ، وَفِي رِوَايَة
البَاقِينَ: (للْمُسَافِر) ، بِلَفْظ الْإِفْرَاد، فيؤول
على أَن تكون الْألف وَاللَّام فِيهِ للْجِنْس، وَفِيه
معنى الْجمع فحصلت الْمُنَاسبَة من هَذَا الْوَجْه.
قَوْله: (وَالْإِقَامَة) ، بِالْجَرِّ عطفا على الآذان.
وكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ
أَي: وَكَذَلِكَ الْأَذَان وَالْإِقَامَة بِعَرَفَة وَجمع،
بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم: وَهُوَ الْمزْدَلِفَة،
سميت بِجمع لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهَا لَيْلَة الْعِيد.
وَأما عَرَفَة فَإِنَّهَا تطلق على الزَّمَان، وَهُوَ
التَّاسِع من ذِي الْحجَّة، وعَلى الْمَكَان وَهُوَ
الْموضع الْمَعْرُوف الَّذِي يقف فِيهِ الْحجَّاج يَوْم
عَرَفَة، وَلم يذكر فِي: جمع، حَدِيثا، فَكَأَنَّهُ اكْتفى
بِحَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي ذكره فِي كتاب الْجمع،
وَفِيه: أَنه صلى الْمغرب بِأَذَان وَإِقَامَة، وَالْعشَاء
بِأَذَان وَإِقَامَة، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله، وَكَذَلِكَ لم يذكر فِي
عَرَفَة شَيْئا، وَقد روى جَابر فِي حَدِيث طَوِيل أخرجه
مُسلم، وَفِيه: (أَن بِلَالًا أذن وَأقَام لما جمع
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الظّهْر وَالْعصر
يَوْم عَرَفَة) .
وقَوْلِ المُؤَذِّنِ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فِي
اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ أوْ المَطِيرَةِ
وَقَول: مجرور أَيْضا عطفا على قَوْله: (وَالْإِقَامَة) ،
وَإِلَى هُنَا كُله من التَّرْجَمَة. قَوْله: (الصَّلَاة)
، بِالنّصب أَي: أدوها، ويروى بِالرَّفْع على أَنه
مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (فِي الرّحال) ، تَقْدِيره:
الصَّلَاة تصلى فِي الرّحال. وَهُوَ جمع: رَحل، ورحل
الشَّخْص: منزله. قَوْله: (أَو الْمَطِيرَة) بِفَتْح
الْمِيم، على وزن: فعيلة، بِمَعْنى: الماطرة. وَإسْنَاد
الْمَطَر إِلَى اللَّيْلَة بالمجاز، إِذْ اللَّيْل ظرف
لَهُ لَا فَاعل، وللعلماء فِي: أنبت الرّبيع البقل،
أَقْوَال أَرْبَعَة: مجَاز فِي الْإِسْنَاد، أَو فِي أنبت،
أَو فِي الرّبيع، وَسَماهُ السكاكي: اسْتِعَارَة
بِالْكِنَايَةِ، أَو الْمَجْمُوع مجَاز عَن الْمَقْصُود،
وَذكر الإِمَام الرَّازِيّ أَن الْمجَاز الْعقلِيّ،
وَإِنَّمَا لم يَجْعَل الْمَطِيرَة بِمَعْنى الممطور
فِيهَا لِأَن فعيلة إِنَّمَا تجْعَل بِمَعْنى مفعولة إِذا
لم يذكر موصوفها مَعهَا، وَهَهُنَا اللَّيْلَة موصوفها
مَذْكُور، فَلذَلِك دَخلهَا تَاء التَّأْنِيث، وَعند عدم
ذَلِك لَا تدخل فِيهَا تَاء التَّأْنِيث.
628 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ حَدثنَا وُهَيْبٌ
عنْ أيُّوبَ عَنْ أبِي قلاِبِةَ عنْ مالِكِ بنِ
الحُوَيْرِثِ قالَ أتيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي نَفَرٍ منْ قَوْمِي فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ
لَيْلَةً وكانَ رَحِيما رَفيقا فَلَمَّا رَأى شَوْقَنا
إلَى أهَالِينَا قَالَ ارْجِعُوا فكونُوا فِيهِمْ
وعَلِّمُوهُمْ وصَلوا فإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ
فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ وَلْيَؤُمُّكُمْ
أكْبَرُكُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فليؤذن لكم أحدكُم) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُعلى بن أَسد، بِضَم
الْمِيم وَفتح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد اللَّام
الْمَفْتُوحَة: أَبُو الْهَيْثَم الْبَصْرِيّ الْعمريّ،
أَخُو بهز بن أَسد، مَاتَ بِالْبَصْرَةِ فِي شهر رَمَضَان
سنة ثَمَان عشرَة وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: وهيب، مصغر
وهب، ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ الْكَرَابِيسِي، وَقد تقدم.
الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ، وَقد تقدم غير مرّة.
الرَّابِع: أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن
زيد. الْخَامِس: مَالك بن الْحُوَيْرِث، مصغر الْحَارِث،
بالثاء الْمُثَلَّثَة: ابْن أَشْيَم اللَّيْثِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون.
وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ على قَول
من قَالَ: إِن أَيُّوب رأى أنس بن مَالك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي خبر
الْوَاحِد عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَفِي الْأَدَب عَن
مُسَدّد، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُحَمَّد بن يُوسُف،
وَفِيه وَفِي الْجِهَاد عَن أَحْمد بن يُونُس. وَأخرجه
مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن زُهَيْر بن حَرْب، وَعَن
أبي الرّبيع الزهْرَانِي، وَخلف بن هِشَام، وَعَن إِسْحَاق
بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي سعيد الأشبح. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ
عَن مَحْمُود بن غيلَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
حَاجِب بن الْوَلِيد وَعَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعَن عَليّ
بن حجر. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن بشر بن هِلَال
الصَّواف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فِي نفر) ، بِفَتْح الْفَاء:
عدَّة رجال من ثَلَاثَة إِلَى عشرَة، والنفير مثله وَلَا
وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَسموا بذلك لأَنهم إِذا حزبهم أَمر
اجْتَمعُوا ثمَّ نفروا إِلَى عدوهم. وَفِي (الواعي) :
وَلَا يَقُولُونَ عشرُون نَفرا وَلَا ثَلَاثُونَ نَفرا.
قَوْله: (من قومِي) هم: بَنو لَيْث بن بكر بن عبد منَاف بن
كنَانَة. قَوْله: (فَأَقَمْنَا عِنْده) أَي: عِنْد
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (عشْرين لَيْلَة) :
المُرَاد بأيامها، بِدَلِيل الرِّوَايَة الثَّانِيَة فِي
الْبَاب: (بعد عشْرين يَوْمًا وَلَيْلَة) . قَوْله:
(وَكَانَ) أَي: النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قَوْله: (رحِيما) بِمَعْنى: ذَا رَحْمَة وشفقة ورقة قلب.
قَوْله: (رَقِيقا) ، بقافين فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، قيل:
والكشميهني أَيْضا، وَمَعْنَاهُ: كَانَ رَقِيق الْقلب،
وَفِي رِوَايَة غَيرهمَا: (رَفِيقًا) بِالْفَاءِ أَولا
ثمَّ بِالْقَافِ، من: الرِّفْق. وَقَالَ النَّوَوِيّ:
رِوَايَة البُخَارِيّ بِوَجْهَيْنِ: بالقافين وبالفاء
وَالْقَاف، وَرِوَايَة مُسلم بالقافين خَاصَّة. وَقَالَ
ابْن قرقول: رِوَايَة الْقَابِسِيّ بِالْفَاءِ، والأصيلي
وَأبي الْهَيْثَم بِالْقَافِ. قَوْله: (إِلَى أَهْلينَا) ،
هُوَ جمع أهل، والأهل من النَّوَادِر حَيْثُ يجمع مكسرا
نَحْو: الأهالي، ومصححا بِالْوَاو وَالنُّون نَحْو:
الأهلون، وبالألف وَالتَّاء نَحْو: الأهلات. قَوْله:
(ارْجعُوا) من الرُّجُوع لَا من الرجع. قَوْله: (وصلوا)
زَاد فِي رِوَايَة إِسْمَاعِيل بن علية عَن أَيُّوب:
(كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) . قَوْله: (فَإِذا حضرت
الصَّلَاة) يَعْنِي: إِذا حَان وَقتهَا. قَوْله: (فليؤذن
لكم أحدكُم) . فَإِن قلت: فِي الرِّوَايَة الْآتِيَة فِي
الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ فِي حَدِيث مَالك بن الْحُوَيْرِث
أَيْضا: (إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما) ،
وَبَينهمَا تعَارض ظَاهر؟ قلت: قيل مَعْنَاهُ: من أحب
مِنْكُمَا أَن يُؤذن فليؤذن، وَذَلِكَ لِاسْتِوَائِهِمَا
فِي الْفضل، وَفِيه نظر. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قد يُقَال:
فلَان قَتله بَنو تَمِيم، مَعَ أَن الْقَاتِل وَاحِد
مِنْهُم، وَكَذَا فِي الْإِنْشَاء يُقَال: يَا تَمِيم
اقْتُلُوهُ. قلت: حَاصله أَن التَّثْنِيَة تذكر وَيُرَاد
بِهِ الْوَاحِد، مثل قَوْله:
(قفا نبْكِ)
وَمرَاده الْخطاب للْوَاحِد، وَكَذَلِكَ يَأْتِي فِي
الْجمع، وَقَالَ التَّيْمِيّ: المُرَاد من قَوْله: أذنا
الْفضل وإلاَّ فأذان الْوَاحِد يجزىء.
ذكر اخْتِلَاف الفاظ هَذَا الحَدِيث) : الرِّوَايَة
هَهُنَا: (أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي نفر
من قومِي) ، وَعَن خَالِد بن أبي قلَابَة فِي بَاب
الْأَذَان للمسافرين إِذا كَانُوا جمَاعَة: (أَتَى رجلَانِ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُريدَان السّفر،
فَقَالَ إِذا أَنْتُمَا خرجتما فأذنا ثمَّ أقيما ثمَّ
ليؤمكما أكبركما) . وَفِي: بَاب: الإثنان فَمَا فَوْقهمَا
جمَاعَة: (إِذا حضرت الصَّلَاة فأذنا) الحَدِيث. وَفِي
بَاب: إِذا اسْتَووا فِي الْقِرَاءَة: (فليؤمهم أكبرهم) ،
قدمنَا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن شببة
متقاربون، وَفِيه: (لَو رجعتم إِلَى بِلَادكُمْ فعلمتموهم
فليصلوا صَلَاة كَذَا فِي حِين كَذَا، وَصَلَاة كَذَا فِي
حِين كَذَا. وَفِي إجَازَة خبر الْوَاحِد: (فَلَمَّا ظن
أَنا قد اشتقنا إِلَى أهلنا سَأَلنَا عَمَّن تركنَا
بَعدنَا، فَأَخْبَرنَاهُ، فَقَالَ: إرجعوا إِلَى أهليكم
فأقيموا فيهم وعلموهم، ومروهم ... وَذكر أَشْيَاء أحفظها
أَو لَا أحفظها وصلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي)
الحَدِيث. وَفِي بَاب رَحْمَة النَّاس والبهائم، نَحوه.
وَعند أبي دَاوُد: (كُنَّا يَوْمئِذٍ متقاربين فِي الْعلم)
. وَفِي رِوَايَة لأبي قلَابَة: (فَأَيْنَ الْقُرْآن؟
قَالَ: إنَّهُمَا كَانَا متقاربين) . وَفِي رِوَايَة ابْن
حزم: (متقارنين) ، بالنُّون فِي الْمَوْضِعَيْنِ، من:
الْمُقَارنَة. يُقَال: فلَان قرين فلَان، إِذا كَانَ قرينه
فِي السن، وَكَذَا إِذا كَانَ فِي الْعلم. وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: يحْتَمل أَن تكون هَذِه الْأَلْفَاظ
المتعددة كَانَت مِنْهُ فِي وفادتين أَو فِي وفادة
وَاحِدَة، غير أَن النَّقْل تكَرر مِنْهُ، وَمن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: الْأَمر بِأَذَان
للْجَمَاعَة، وَهُوَ عَام للْمُسَافِر وَغَيره، وكافة
الْعلمَاء على اسْتِحْبَاب الْأَذَان للْمُسَافِر، إِلَّا
عَطاء فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا لم يُؤذن وَلم يقم أعَاد
الصَّلَاة، وإلاَّ مُجَاهدًا فَإِنَّهُ قَالَ: إِذا نسي
الْإِقَامَة أعَاد، وأخذا بِظَاهِر الْأَمر، وَهُوَ: أذنا
وأقيما. وَقيل: الْإِجْمَاع صَارف عَن الْوُجُوب، وَفِيه
نظر، وَحكى الطَّبَرِيّ عَن مَالك أَنه: يُعِيد إِذا ترك
الْأَذَان، ومشهور مذْهبه الِاسْتِحْبَاب. وَفِي
(الْمُخْتَصر) عَن مَالك: وَلَا أَذَان على مُسَافر،
وَإِنَّمَا الْأَذَان على من يجْتَمع إِلَيْهِ لتأذينه،
وبوجوبه على الْمُسَافِر قَالَ دَاوُد. قَالَت طَائِفَة:
هُوَ مُخَيّر، إِن شَاءَ أذن وَأقَام، وَرُوِيَ ذَلِك عَن
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ قَول عُرْوَة
وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ. وَقَالَت طَائِفَة: تجزيه
الْإِقَامَة، رُوِيَ ذَلِك عَن مَكْحُول وَالْحسن
وَالقَاسِم، وَكَانَ ابْن عمر يُقيم فِي السّفر لكل صَلَاة
إلاَّ الصُّبْح فَإِنَّهُ كَانَ يُؤذن لَهَا وَيُقِيم.
وَقَالَ قاضيخان: من أَصْحَابنَا رجل صلى فِي سفر أَو فِي
بَيته بِغَيْر أَذَان وَإِقَامَة يكره. قَالَ: فالكراهة
مَقْصُورَة على الْمُسَافِر، وَمن صلى فِي بَيته
فَالْأَفْضَل لَهُ أَن يُؤذن وَيُقِيم ليَكُون على هَيْئَة
الْجَمَاعَة، وَلِهَذَا كَانَ الْجَهْر بِالْقِرَاءَةِ فِي
حَقه أفضل. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي قَوْله: (ثمَّ
ليؤمكما أكبركما) يدل على تساويهما فِي شُرُوط
الْإِمَامَة، وَرجح أَحدهمَا بِالسِّنِّ. قلت: لِأَن
هَؤُلَاءِ كَانُوا مستورين فِي بَاقِي الْخِصَال، لأَنهم
هَاجرُوا جَمِيعًا، وَأَسْلمُوا جَمِيعًا وصحبوا رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولازموه عشْرين لَيْلَة،
فاستووا فِي الْأَخْذ عَنهُ. فَلم يبْق مَا يقدم بِهِ
إلاَّ السن.
وَفِيه: حجَّة لِأَصْحَابِنَا فِي تَفْضِيل الْإِمَامَة
على الْأَذَان لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ:
(ليؤمكما أكبركما) خص الْإِمَامَة بالأكبر.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْجَمَاعَة تصح بِإِمَام ومأموم،
وَهُوَ إِجْمَاع الْمُسلمين.
وَفِيه: الحض على الْمُحَافظَة على الْأَذَان فِي الْحَضَر
وَالسّفر.
وَفِيه: أَن الْأَذَان وَالْجَمَاعَة مشروعان على
الْمُسَافِرين.
[رم 18
2
بابُ الآذَانِ للْمُسَافِرِينَ إذَا كَانُوا جَمَاعَةً
والإِقَامَةَ
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْأَذَان للمسافرين،
وَأَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن للْمُسَافِر
أَن يُؤذن. وَقَوله: إِذا كَانُوا جمَاعَة. هُوَ مُقْتَضى
أَحَادِيث الْبَاب، وَلَكِن لَيْسَ فِيهَا مَا يمْنَع
أَذَان الْمُنْفَرد. وَقَوله: (للمسافرين) ، بِلَفْظ
الْجمع هُوَ رِوَايَة الْكشميهني، وَهُوَ مُنَاسِب
لقَوْله: (إِذا كَانُوا جمَاعَة) ، وَفِي رِوَايَة
البَاقِينَ: (للْمُسَافِر) ، بِلَفْظ الْإِفْرَاد، فيؤول
على أَن تكون الْألف وَاللَّام فِيهِ للْجِنْس، وَفِيه
معنى الْجمع فحصلت الْمُنَاسبَة من هَذَا الْوَجْه.
قَوْله: (وَالْإِقَامَة) ، بِالْجَرِّ عطفا على الآذان.
وكَذَلِكَ بِعَرَفَةَ وَجَمْعٍ
أَي: وَكَذَلِكَ الْأَذَان وَالْإِقَامَة بِعَرَفَة وَجمع،
بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم: وَهُوَ الْمزْدَلِفَة،
سميت بِجمع لِاجْتِمَاع النَّاس فِيهَا لَيْلَة الْعِيد.
وَأما عَرَفَة فَإِنَّهَا تطلق على الزَّمَان، وَهُوَ
التَّاسِع من ذِي الْحجَّة، وعَلى الْمَكَان وَهُوَ
الْموضع الْمَعْرُوف الَّذِي يقف فِيهِ الْحجَّاج يَوْم
عَرَفَة، وَلم يذكر فِي: جمع، حَدِيثا، فَكَأَنَّهُ اكْتفى
بِحَدِيث ابْن مَسْعُود الَّذِي ذكره فِي كتاب الْجمع،
وَفِيه: أَنه صلى الْمغرب بِأَذَان وَإِقَامَة، وَالْعشَاء
بِأَذَان وَإِقَامَة، ثمَّ قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يَفْعَله، وَكَذَلِكَ لم يذكر فِي
عَرَفَة شَيْئا، وَقد روى جَابر فِي حَدِيث طَوِيل أخرجه
مُسلم، وَفِيه: (أَن بِلَالًا أذن وَأقَام لما جمع
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَين الظّهْر وَالْعصر
يَوْم عَرَفَة) .
وقَوْلِ المُؤَذِّنِ الصَّلاَةُ فِي الرِّحَالِ فِي
اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ أوْ المَطِيرَةِ
وَقَول: مجرور أَيْضا عطفا على قَوْله: (وَالْإِقَامَة) ،
وَإِلَى هُنَا كُله من التَّرْجَمَة. قَوْله: (الصَّلَاة)
، بِالنّصب أَي: أدوها، ويروى بِالرَّفْع على أَنه
مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (فِي الرّحال) ، تَقْدِيره:
الصَّلَاة تصلى فِي الرّحال. وَهُوَ جمع: رَحل، ورحل
الشَّخْص: منزله. قَوْله: (أَو الْمَطِيرَة) بِفَتْح
الْمِيم، على وزن: فعيلة، بِمَعْنى: الماطرة. وَإسْنَاد
الْمَطَر إِلَى اللَّيْلَة بالمجاز، إِذْ اللَّيْل ظرف
لَهُ لَا فَاعل، وللعلماء فِي: أنبت الرّبيع البقل،
أَقْوَال أَرْبَعَة: مجَاز فِي الْإِسْنَاد، أَو فِي أنبت،
أَو فِي الرّبيع، وَسَماهُ السكاكي: اسْتِعَارَة
بِالْكِنَايَةِ، أَو الْمَجْمُوع مجَاز عَن الْمَقْصُود،
وَذكر الإِمَام الرَّازِيّ أَن الْمجَاز الْعقلِيّ،
وَإِنَّمَا لم يَجْعَل الْمَطِيرَة بِمَعْنى الممطور
فِيهَا لِأَن فعيلة إِنَّمَا تجْعَل بِمَعْنى مفعولة إِذا
لم يذكر موصوفها مَعهَا، وَهَهُنَا اللَّيْلَة موصوفها
مَذْكُور، فَلذَلِك دَخلهَا تَاء التَّأْنِيث، وَعند عدم
ذَلِك لَا تدخل فِيهَا تَاء التَّأْنِيث.
629 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا
شُعْبَةُ عنِ المُهَاجِرِ بنِ أبي الحَسَنِ عنْ زَيْدِ بنِ
وَهَبٍ عنْ أبي ذرٍّ قَالَ كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي سَفَرٍ فَأَرَادَ المُؤَذِّنُ أنْ
يُؤَذِّنَ فَقَالَ لَهُ أبْرِدْ ثُمَّ أَرَادَ أنْ
يُؤَذِّنَ فَقَالَ لهُ أبْرِدْ ثمَّ أَرَادَ إِن يَأْذَن
فَقَالَ لَهُ أبردحَتَّى ساوَى الظِّلُّ التُّلُولُ
فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنَّ شِدَّةَ
الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْمُؤَذّن أَرَادَ
أَن يُؤذن فَأمره النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بالإبراد ثَلَاث مَرَّات، وَلم يتَعَرَّض إِلَى ترك
الْأَذَان، فَدلَّ على أَنه أذن بعد الْإِبْرَاد
الْمَوْصُوف، وَأقَام، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
مَعَ الصَّحَابَة كَانُوا فِي سفر، فطابق الحَدِيث
التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة. فَإِن قلت: لَا
دلَالَة هُنَا على الْإِقَامَة، والترجمة مُشْتَمِلَة على
الْأَذَان وَالْإِقَامَة مَعًا؟ قلت: الْمَقْصُود هُوَ
الدّلَالَة
(5/144)
فِي الْجُمْلَة، وَلَا يلْزم الدّلَالَة
صَرِيحًا على كل جُزْء من التَّرْجَمَة، وَمن لَا يتْرك
الْأَذَان فِي السّفر مَعَ كَونه مَظَنَّة التَّخْفِيف لَا
يتْرك الْإِقَامَة الَّتِي هِيَ أخف من الْأَذَان، وَهَذَا
الحَدِيث بِعَيْنِه وَلَفظه قد مر فِي: بَاب الْإِبْرَاد
بِالظّهْرِ فِي شدَّة الْحر، وَفِي الْبَاب الَّذِي
يَلِيهِ: بَاب الْإِبْرَاد مَعَ الظّهْر فِي السّفر، مَعَ
اخْتِلَاف يسير فِي الروَاة والمتن، فَإِنَّهُ فِي الْكل
عَن شُعْبَة ... إِلَى آخِره، غير أَن شَيْخه فِي الأول:
عَن مُحَمَّد بن بشار عَن غنْدر عَن شُعْبَة، وَفِي
الثَّانِي: عَن آدم عَن شُعْبَة وَهَهُنَا، كَمَا رَأَيْت:
عَن مُسلم ابْن ابراهيم عَن شُعْبَة، وَمُسلم الْأَزْدِيّ
الفراهيدي القصاب الْبَصْرِيّ من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
قَوْله: (سَاوَى) ، أَي: صَار الظل مُسَاوِيا التل. أَي:
مثله. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: فَحِينَئِذٍ يكون
أول وَقت الْعَصْر عِنْد الشَّافِعِيَّة، وَلَا يجوز
تَأْخِير االظهر إِلَيْهِ؟ قلت: لَا نسلم، إِذْ لَيْسَ
وَقت الظّهْر مُجَرّد كَون الظل مثله، بل هُوَ بعد
الْفَيْء وظل الْمثل كليهمَا. قلت: أول وَقت الْعَصْر
عِنْد صيرورة ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ، وَبَين مُسَاوَاة
الظل الْمثل، وَكَون ظلّ كل شَيْء مثلَيْهِ آنات عديدة.
630 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عَنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عنْ أبي قِلاَبَةَ عَنْ
مالِكِ بنِ الحُوَيْرِثِ قَالَ أتَى رَجُلاَنِ النَّبِيَّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُرِيدانِ السَّفَرَ فَقَالَ
النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أنْتُمَا
خَرَجْتُمَا فَأَذِّنَا ثُمَّ أقِيمَا ثُمَّ
لِيَؤُمُّكُمَا أكْبَرُكُمَا. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. فَإِن قلت: التَّرْجَمَة
لجمع الْمُسَافِرين، والْحَدِيث للتثنية؟ قلت: للتثنية حكم
الْجمع، وَفِيه الْأَذَان وَالْإِقَامَة صريحان، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ فِي الْبَاب السَّابِق، وَمُحَمّد بن
يُوسُف هُوَ الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ.
فَإِن قلت: قد روى البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُحَمَّد بن
يُوسُف عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة، فَمن أَيْن إِن
سُفْيَان هُنَا هُوَ الثَّوْريّ؟ قلت: لِأَن الَّذِي يروي
عَن ابْن عُيَيْنَة هُوَ مُحَمَّد بن يُوسُف البيكندي،
وَلَيْسَت لَهُ رِوَايَة عَن الثَّوْريّ. فَإِن قلت:
الْفرْيَابِيّ يروي أَيْضا عَن ابْن عُيَيْنَة؟ قلت: نعم،
وَلَكِن إِذا أطلق سُفْيَان فَالْمُرَاد بِهِ الثَّوْريّ،
وَأما إِذا روى عَن ابْن عُيَيْنَة فَإِنَّهُ يُبينهُ.
قَوْله: (رجلَانِ) ، هما: مَالك بن الْحُوَيْرِث ورفيقه،
وَلَفظ البُخَارِيّ فِي: بَاب سفر الْإِثْنَيْنِ من كتاب
الْجِهَاد: (انصرفت من عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، أَنا وَصَاحب لي) . قَوْله: (فأذنا) ، قد قُلْنَا
فِي الْبَاب الْمَاضِي: إِن المُرَاد بِهِ أَحدهمَا، لِأَن
الْوَاحِد قد يُخَاطب بِصِيغَة التَّثْنِيَة، كَمَا ذكرنَا
هُنَاكَ، وَيدل على هَذَا مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من
طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة عَن خَالِد الْحذاء فِي هَذَا
الحَدِيث: (إِذا كنت مَعَ صَاحبك فَأذن وأقم وليؤمكما
أكبركما) . وَقَالَ ابْن الْقصار: أَرَادَ بِهِ الْفضل،
وإلاَّ فأذان الْوَاحِد يجزىء. قلت: نظر هُوَ إِلَى ظَاهر
اللَّفْظ، وَلَيْسَ ظَاهر اللَّفْظ بِمُرَاد، لِأَن
الْمَنْقُول عَن السّلف خلاف ذَلِك، وَأَن اراد أَن يُؤذن
كل وَاحِد، فَلَيْسَ كَذَلِك أيضافإن أَذَان الْوَاحِد
يَكْفِي الْجَمَاعَة. قَوْله: (ثمَّ ليؤمكما أكبركما)
قَالَ الْقُرْطُبِيّ: يدل على تساويهما فِي شُرُوط
الْإِقَامَة، وَرجح أَحدهمَا بِالسِّنِّ، وَقَالَ ابْن
بزيزة: يجوز أَن يكون أَشَارَ إِلَى كبر الْفضل وَالْعلم.
631 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا
عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا أيُّوبُ عَنْ أبي
قِلاَبَةَ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ قَالَ أتَيْنَا إِلَى
النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونَحْنُ شَبَبَةٌ
مُتَقَارِبُونَ فَأَقَمْنَا عِنْدَهُ عِشْرِينَ يَوْما
وَلَيْلَةً وكانَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
رَحِيمَا رَفِيقا فلَمَّا ظَنَّ أنَّا قَدِ اشْتَهَيْنَا
أهْلَنَا أوْ قَدِ اشْتقْنَا سألَنا عَمنْ تَركْنَا
بَعْدَنَا فأَخْبَرْنَاهُ قَالَ ارْجِعُوا إلَى أهْلِيكمْ
فأقِيمُوا فِيهِمْ وعَلِّمُوهُمْ ومُرُوهُمْ وذَكَرَ
أشْيَاءَ أحْفَظُها أَو لَا أحْفَظُهَا وَصَلُّوا كمَا
رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فإذَا حَضَرَتِ الصَّلاَةُ
فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أحَدُكُمْ ولْيُؤُمَّكُمْ
أكْبَرُكُمْ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَالْكَلَام فِي أَكثر
الحَدِيث قد مضى فِي الْبَاب السَّابِق، وَعبد الْوَهَّاب
بن عبد الْمجِيد الْبَصْرِيّ وَأَيوب هُوَ
السّخْتِيَانِيّ، وَأَبُو قلَابَة عبد الله بن زيد،
وَمَالك هُوَ: ابْن الْحُوَيْرِث. قَوْله: (شببة) ، على
وزن: فعلة بتحريك الْعين وَهُوَ جمع: شَاب، (ومتقاربون) ،
صفته أَي: فِي السن. قَوْله: (سَأَلنَا) بِفَتْح اللَّام،
قَوْله: (أَو قد اشتقنا) شكّ من الرَّاوِي، ويروى
(5/145)
(وَقد اشتقنا) بواو الْعَطف بِغَيْر شكّ.
قَوْله: (إِلَى أهليكم) ، ويروى: (إِلَى أهاليكم) .
قَوْله: (أَو لَا أحفظها) شكّ من الرَّاوِي.
632 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ أخبرنَا يَحْيى عنْ
عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ قَالَ حدَّثني نافِعٌ قَالَ
أذَّنَ ابنُ عُمَرَ فِي لَيْلَةٍ بارِدَةٍ بِضَجْنَانَ
ثُمَّ قَالَ صَلوا فِي رِحَالِكُمْ فَأخْبَرَنا أنَّ رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَأمُرُ مُؤَذِّنا
يُؤَذِّنُ ثُمَّ يَقُولُ على إثْرِهِ ألاَ صَلُّوا فِي
الرِّحَالِ فِي اللَّيْلَةِ البَارِدَةِ أوِ المَطِيرَةِ
فِي السَّفَرِ (الحَدِيث 632 طرفه فِي: 666) .
مطابقته للتَّرْجَمَة الَّتِي هِيَ: (وَقَول الْمُؤَذّن
الصَّلَاة فِي الرّحال) إِلَى آخِره، ظَاهِرَة، لِأَن ابْن
عمر هَذَا هُوَ الَّذِي أذن، ثمَّ قَالَ: صلوا فِي
رحالكُمْ. قَوْله: (حَدثنَا يحيى) هُوَ الْقطَّان. قَوْله:
(بضجنان) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْجِيم
وَبعدهَا نون وَبعد الْألف نون أُخْرَى: وَهُوَ جبل على
بريد من مَكَّة، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: بَينه وَبَين
مَكَّة خَمْسَة وَعِشْرُونَ ميلًا، وَبَينه وَبَين مر
تِسْعَة أَمْيَال. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: ويدلك أَن
بَين ضجنَان وقديد لَيْلَة، قَول معبد الْخُزَاعِيّ:
(قد نفرت من رفقتي مُحَمَّد ... تهوي على دين أَبِيهَا
الأتلد)
(قد جعلت مَاء قديد موعدي ... وَمَاء ضجنَان لنا ضحى
الْغَد.)
وَهُوَ على وزن: فعلان، غير منصرف. قَوْله: (وَأخْبرنَا)
عطف على قَوْله: أذن، قَوْله: (ثمَّ يَقُول) عطف على
قَوْله: (يُؤذن) . قَوْله: (على إثره) ، بِكَسْر الْهمزَة
وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتحهَا: مَا بَقِي من
رسم الشَّيْء. قَوْله: (فِي اللَّيْلَة الْبَارِدَة) ، ظرف
لقَوْله: (كَانَ يَأْمر) وَقَوله: (ثمَّ يَقُول) يشْعر
بِأَن القَوْل بِهِ كَانَ بعد الْأَذَان. فَإِن قلت: قد
تقدم فِي بَاب الْكَلَام فِي الْأَذَان أَنه كَانَ فِي
أثْنَاء الْأَذَان؟ قلت: يجوز كِلَاهُمَا، وَهُوَ نَص
الشَّافِعِي أَيْضا فِي (الْأُم) . وَلَكِن الأولى أَن
يُقَال: بعد الْأَذَان. وَقَوله: (أَلاَ) كلمة تَنْبِيه
وتحضيض، وَقد مر تَفْسِير (الْمَطِيرَة) وَكلمَة: أَو،
فِيهِ للتنويع لَا للشَّكّ. وَفِي (صَحِيح أبي عوَانَة) :
لَيْلَة بَارِدَة أَو ذَات مطر أَو ذَات ريح. وَهَذَا يدل
على أَن كل وَاحِد من هَذِه الثَّلَاثَة عذر فِي
التَّأَخُّر عَن الْجَمَاعَة. وَنقل ابْن بطال فِيهِ
الْإِجْمَاع، لَكِن الْمَعْرُوف عِنْد الشَّافِعِيَّة أَن
الرّيح عذر فِي اللَّيْل فَقَط. وَظَاهر الحَدِيث
اخْتِصَاص الثَّلَاثَة بِاللَّيْلِ، وَلَكِن جَاءَ فِي
(السّنَن) من طَرِيق ابْن إِسْحَاق عَن نَافِع فِي هَذَا
الحَدِيث: (فِي اللَّيْلَة الْمَطِيرَة والغداة القرة) .
633 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا جَعْفَرُ بنُ عَوْنٍ
قَالَ حدَّثنا أبْو العُمَيْسِ عنْ عوْن ابنِ أبي
جُحَيْفَةَ عَنْ أبِيهِ قَالَ رَأَيْتُ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِالأبْطَحِ فَجَاءَهُ بِلاَلٌ
فآذَنَهُ بِالصَّلاَةِ ثُمَّ خَرَجَ بِلالٌ بِالْعَنَزَةِ
حَتَّى رَكَزَهَا بَيْنَ يَدَيْ رسولِ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالأبْطَحِ وأقَامَ الصَّلاَةَ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ الْأَذَان
وَالْإِقَامَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ
أَصْحَابه فِي السّفر. والْحَدِيث قد مر فِي: بَاب ستْرَة
الإِمَام ستْرَة لمن خَلفه، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ أَنه
أخرجه فِي مَوَاضِع من كتاب الطَّهَارَة وَكتاب الصَّلَاة.
قَوْله: (إِسْحَاق) وَقع فِي رِوَايَة أبي الْوَقْت أَنه
إِسْحَاق بن مَنْصُور، وَبِذَلِك جزم خلف فِي الْأَطْهَار،
وَتردد الكلاباذي: هَل هُوَ ابْن إِبْرَاهِيم أَو ابْن
مَنْصُور؟ وَرجح الجياني أَنه ابْن مَنْصُور، وَاسْتدلَّ
على ذَلِك بِأَن مُسلما أخرج هَذَا الحَدِيث بِهَذَا
الْإِسْنَاد عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. قلت: فِيهِ نظر لَا
يخفى، وَأَبُو العميس، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح
الْمِيم وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين
مُهْملَة، وَأَبُو جُحَيْفَة، بِضَم الْجِيم وَفتح الْحَاء
الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح
الْفَاء، واسْمه: وهب بن عبد الله السوَائِي. قَوْله:
(بِالْأَبْطح) وَهُوَ مَوضِع مَعْرُوف خَارج مَكَّة،
(والعنزة) ، بِفَتْح النُّون أطول من الْعَصَا، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ وَفِي غَيره مُسْتَوفى.
19 - (بابٌ هَل يُتْبِعُ المُؤَذِّنُ فاهُ هَهنا وهَهُنا
وهَلْ يَلْتَفِتُ فِي الأَذَانِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: هَل يتبع الْمُؤَذّن ...
إِلَى آخِره. قَوْله: (يتبع) ، بِضَم الْيَاء آخر
الْحُرُوف وَإِسْكَان التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق
(5/146)
وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة: من الإتباع،
وَهُوَ رِوَايَة الإصيلي، و: الْمُؤَذّن، مَرْفُوع
لِأَنَّهُ فَاعل: يتبع، و: فَاه، مَنْصُوب على أَنه مفعول.
وَفِي رِوَايَة غَيره: يتتبع، بِفَتْح الْيَاء وبالتائين
المثناتين من فَوق وَالْبَاء الْمُوَحدَة الْمَفْتُوحَة،
من: التتبع من بَاب: التفعل. وَقد تكلّف الْكرْمَانِي
وَقَالَ: لفظ: الْمُؤَذّن، بِالنّصب مُوَافق لقَوْله:
(فَجعلت أتتبع فَاه) . فَإِن قلت: مَا فَاعله؟ قلت:
الشَّخْص. فَإِن قلت: فَمَا وَجه نصب فَاه؟ قلت: بدل عَن
الْمُؤَذّن. انْتهى. قلت: الْمُوَافقَة الَّتِي ذكرهَا
لَيست بلازمة، فَجعل غير اللَّازِم لَازِما تعسف. قَوْله:
(هَهُنَا وَهَهُنَا) يَعْنِي يَمِينا وَشمَالًا، وهما ظرفا
مَكَان. وَفِي (صَحِيح مُسلم) من حَدِيث أبي جُحَيْفَة:
(فَجعلت أتتبع فَاه هَهُنَا وَهَهُنَا، يَقُول يَمِينا
وَشمَالًا: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح) . وَعند
أبي دَاوُد: (فَلَمَّا بلغ: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على
الْفَلاح، لوى عُنُقه يَمِينا وَشمَالًا وَلم يستدر) .
وَعند النَّسَائِيّ: (فَجعل يَقُول فِي أَذَانه هَكَذَا،
ينحرف يَمِينا وَشمَالًا) . وَعند الطَّبَرَانِيّ: (فَجعل
يَقُول بِرَأْسِهِ هَكَذَا وَهَكَذَا يَمِينا وَشمَالًا
حَتَّى فرغ من أَذَانه) . وَعند التِّرْمِذِيّ مصححا، من
حَدِيث عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا سُفْيَان عَن عون عَن
أَبِيه. قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤذن ويدور ويتتبع فَاه
يَمِينا وَشمَالًا، هَهُنَا وَهَهُنَا) . وَفِي رِوَايَة
أبي عوَانَة فِي (صَحِيحه) : فَجعل يتبع بِفِيهِ يَمِينا
وَشمَالًا) . وَفِي رِوَايَة وَكِيع عَن سُفْيَان عِنْد
الْإِسْمَاعِيلِيّ: (رَأَيْت بِلَالًا يُؤذن يتتبع
بِفِيهِ) . وَوصف سُفْيَان يمِيل بِرَأْسِهِ يَمِينا
وَشمَالًا، وَالْحَاصِل أَن بِلَالًا كَانَ يتتبع بِفِيهِ
الناحيتين، وَكَانَ أَبُو جُحَيْفَة ينظر إِلَيْهِ، فَكل
مِنْهُمَا متتبع بِاعْتِبَار. قَوْله: (وَهل يلْتَفت) أَي:
هَل يلْتَفت الْمُؤَذّن فِي الْأَذَان؟ نعم يلْتَفت، يدل
عَلَيْهِ رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ الْمَذْكُورَة،
وَرِوَايَة أبي دَاوُد أَيْضا تدل عَلَيْهِ، وَالْمرَاد من
الِالْتِفَات أَن يلوي عُنُقه وَلَا يحول صَدره عَن
الْقبْلَة، وَلَا يزِيل قَدَمَيْهِ عَن مكانهما، وَسَوَاء
المنارة وَغَيرهَا، وَبِه قَالَ الثَّوْريّ
وَالْأَوْزَاعِيّ وَأَبُو ثَوْر وَأحمد فِي رِوَايَة:
وَقَالَ ابْن سِيرِين: يكره الِالْتِفَات، وَهُوَ قَول
مَالك، إلاَّ أَن يُرِيد إسماع النَّاس. وَقَالَ صَاحب
(التَّوْضِيح) من الشَّافِعِيَّة: الِالْتِفَات فِي
الحيعلتين سنة ليعم النَّاس بأسماعه، وَخص بذلك لِأَنَّهُ
دُعَاء، وَفِي وَجه: يلْتَفت يَمِينا وَشمَالًا فيحيعل،
ثمَّ يسْتَقْبل ثمَّ يلْتَفت فيحيعل، وَكَذَلِكَ الشمَال.
قَالَ: ويلتفت فِي الْإِقَامَة أَيْضا على الْأَصَح، ثمَّ
ذكر أَبُو دَاوُد فِي روايه، وَلم يستدر، وَتَمَامه:
قَالَ: حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا قيس يَعْنِي
ابْن الرّبيع وَحدثنَا مُحَمَّد بن سُلَيْمَان
الْأَنْبَارِي حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان جَمِيعًا عَن
عون بن أبي جُحَيْفَة عَن أَبِيه، قَالَ: (أتيت النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة وَهُوَ فِي قبَّة
حَمْرَاء من أَدَم، فَخرج بِلَال فَأذن، فَكنت اتتبع فَمه
هَهُنَا وَهَهُنَا، قَالَ: ثمَّ خرج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، وَعَلِيهِ حلَّة حَمْرَاء برود يَمَانِية
قطري) ، وَقَالَ مُوسَى: قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا خرج
إِلَى الأبطح فَأذن، فَلَمَّا بلغ: حَيّ على الصَّلَاة
حَيّ على الْفَلاح، لوى عُنُقه يَمِينا وَشمَالًا وَلم
يستدر، ثمَّ دخل فَأخْرج العنزة) . وسَاق حَدِيثه. وَأخرج
التِّرْمِذِيّ مصححا من حَدِيث عبد الرَّزَّاق: حَدثنَا
سُفْيَان عَن عون عَن أَبِيه، قَالَ: (رَأَيْت بِلَالًا
يُؤذن ويدور ويتتبع فَاه هَهُنَا وَهَهُنَا) . وَفِي
رِوَايَة ابْن مَاجَه، قَالَ: (أتيت النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِالْأَبْطح وَهُوَ فِي قبَّة حَمْرَاء،
فَخرج بِلَال فَأذن فَاسْتَدَارَ فِي أَذَانه وَجعل إصبعيه
فِي أُذُنَيْهِ) . وَاعْترض الْبَيْهَقِيّ، فَقَالَ:
الاستدارة فِي الْأَذَان لَيست فِي الطّرق الصَّحِيحَة فِي
حَدِيث أبي جُحَيْفَة، وَنحن نتوهم أَن سُفْيَان رَوَاهُ
عَن الْحجَّاج بن أَرْطَأَة عَن عون، وَالْحجاج غير
مُحْتَج بِهِ، وَعبد الرَّزَّاق وهم فِي إدراجه ثمَّ أسْند
عَن عبد الله بن مُحَمَّد بن الْوَلِيد عَن سُفْيَان بِهِ،
وَلَيْسَ فِيهِ الإستدارة. وَقد روينَاهُ من حَدِيث قيس بن
الرّبيع عَن عون، وَفِيه: (وَلم يستدر) ، وَقَالَ الشَّيْخ
فِي الإِمَام: أما كَونه غير مخرج فِي الصَّحِيح فَلَيْسَ
بِلَازِم، وَقد صَححهُ التِّرْمِذِيّ وَهُوَ من أَئِمَّة
الشان. وَأما عبد الرَّزَّاق وهم فِيهِ فقد تَابعه مُؤَمل،
كَمَا أخرجه أَبُو عوَانَة فِي (صَحِيحه) عَن مُؤَمل عَن
سُفْيَان بِهِ نَحوه، وَتَابعه أَيْضا عبد الرَّحْمَن بن
مهْدي أخرجه أَبُو نعيم فِي (مستخرجه) على كتاب
البُخَارِيّ، وَقد جَاءَت الاستدارة من غير جِهَة
الْحجَّاج، أخرجه الطَّبَرَانِيّ عَن زِيَاد بن عبد الله
عَن إِدْرِيس الْأَزْدِيّ عَن عون بن أبي جُحَيْفَة عَن
أَبِيه، قَالَ: (بَينا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَحَضَرت الصَّلَاة، فَقَامَ بِلَال فَأذن وَجعل
إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَجعل يستدير يَمِينا وَشمَالًا) .
وَفِي (سنَن الدَّارَقُطْنِيّ) من حَدِيث كَامِل بن أبي
الْعَلَاء: عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: أَمر أَبُو
مَحْذُورَة أَن يستدير فِي أَذَانه.
ويُذْكَرُ عَنْ بِلاَلٍ أنَّهُ جَعَلَ إصْبَعَيْه فِي
أُذُنَيْهِ
ذكر هَذَا التَّعْلِيق بِصِيغَة التمريض، وَقد ذكرناالآن
عَن ابْن مَاجَه حَدِيثه، وَفِيه جعل يَعْنِي بِلَال
إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ.
(5/147)
وَكَذَا فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ
الْمَذْكُورَة الْآن. وَفِي كتاب أبي الشَّيْخ، من حَدِيث
عبد الرَّحْمَن بن سعد بن عمار: حَدثنِي أبي عَن أَبِيه
عَن جده: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر
بِلَالًا أَن يَجْعَل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ) . وَمن
حَدِيث ابْن كاسب: حَدثنَا عبد الرَّحْمَن بن سعد عَن عبد
الرَّحْمَن بن مُحَمَّد وَعُمَيْر وعمار ابْني حَفْص عَن
آبَائِهِم عَن أجدادهم عَن بِلَال: (أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: إِذا أَذِنت فَاجْعَلْ إصبعيك فِي
أذنيك، فَإِنَّهُ أرفع لصوتك) . وَذكر ابْن الْمُنْذر فِي
كتاب (الْأَشْرَاف) : أَن أَبَا مَحْذُورَة (جعل إصبعيه
فِي أُذُنَيْهِ) زَاد فِي (شرح الْهِدَايَة) : ضم
أَصَابِعه الْأَرْبَع ووضعها على أُذُنَيْهِ، وَفِي
(المُصَنّف) لِابْنِ أبي شيبَة: عَن ابْن سِيرِين أَنه
كَانَ إِذا أذن اسْتقْبل الْقبْلَة وَأرْسل يَدَيْهِ،
فَإِذا بلغ: الصَّلَاة والفلاح، أَدخل إصبعيه فِي
أُذُنَيْهِ، وَفِي الصَّلَاة لأبي نعيم عَن سهل بن سعد،
قَالَ: (من السّنة أَن تدخل إصبعيك فِي أذنيك) . وَكَانَ
سُوَيْد بن غَفلَة يَفْعَله، وَكَذَا ابْن جُبَير، وَأمر
بِهِ الشّعبِيّ وَشريك. قَالَ ابْن الْمُنْذر: وَبِه قَالَ
الْحسن، وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد بن
سِيرِين، وَقَالَ مَالك: ذَلِك وَاسع. وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: عَلَيْهِ الْعَمَل عِنْد أهل الْعلم فِي
الْأَذَان. وَقَالَ بعض أهل الْعلم: وَفِي الْإِقَامَة
أَيْضا، وَهُوَ قَول الْأَوْزَاعِيّ. وَقَالَ ابْن بطال:
وَهُوَ مُبَاح عِنْد الْعلمَاء، وروى أَبُو يُوسُف عَن أبي
حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن جعل إِحْدَى
يَدَيْهِ على أُذُنَيْهِ فَحسن، وَبِه قَالَ أَحْمد.
قَوْله: (جعل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ) مجَاز عَن
الْأُنْمُلَة من بَاب إِطْلَاق الْكل وَإِرَادَة الْجُزْء،
وَالْحكمَة فِيهِ أَنه يُعينهُ على رفع صَوته، وَلِهَذَا
قَالَ فِي حَدِيث ابْن كاسب الْمَذْكُور: (فَإِنَّهُ أرفع
لصوتك) . وَيُقَال: إِنَّه رُبمَا لَا يسمع صَوته من بِهِ
صمم، فيستدل بِوَضْع إصبعيه على أُذُنَيْهِ على ذَلِك،
وَلم يبين فِي الحَدِيث مَا هِيَ الإصبع، وَنَصّ
النَّوَوِيّ على أَنَّهَا: المسبحة، وَلَو كَانَ فِي
إِحْدَى يَدَيْهِ عِلّة جعل الإصبع الْأُخْرَى فِي صماخه،
وَصرح الرَّوْيَانِيّ: أَن ذَلِك لَا يسْتَحبّ فِي
الْإِقَامَة لفقد الْمَعْنى الَّذِي علل بِهِ، وَعَن
بَعضهم: أَنه يسْتَحبّ فِي الْإِقَامَة أَيْضا، كَمَا
ذَكرْنَاهُ عَن قريب.
وَكَانَ ابنُ عُمَرَ لاَ يَجْعَلُ إصْبَعَيْهِ فِي
أُذُنَيْهِ
ذكر هَذَا التَّعْلِيق بِصِيغَة التَّصْحِيح، فَكَأَن ميله
إِلَيْهِ. وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا
سُفْيَان عَن نسير قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يُؤذن على
بعير، قَالَ سُفْيَان: فَقلت لَهُ: رَأَيْته يَجْعَل
أَصَابِعه فِي أُذُنَيْهِ؟ قَالَ: لَا. ونسير، بِضَم
النُّون وَفتح السِّين الْمُهْملَة: ابْن ذعلوق، بِضَم
الذَّال الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَضم
اللَّام وَفِي آخِره قَاف: أَبُو طعمة.
وَقَالَ إبْرَاهِيمُ: لاَ بَأسَ أنْ يُؤَذِّن عَلَى غَيرِ
وُضُوءٍ
إِبْرَاهِيم هُوَ: النَّخعِيّ، وروى هَذَا التَّعْلِيق
ابْن ابي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن جرير عَن مَنْصُور عَن
إِبْرَاهِيم أَنه قَالَ: لَا بَأْس أَن يُؤذن على غير
وضوء، ثمَّ ينزل فيتوضأ. وَحدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن
مَنْصُور عَن إِبْرَاهِيم: لَا بَأْس أَن يُؤذن على غير
وضوء. وَعَن قَتَادَة وَعبد الرَّحْمَن بن الْأسود
وَحَمَّاد: لَا بَأْس أَن يُؤذن الرجل وَهُوَ على غير
وضوء، وَعَن الْحسن: لَا بَأْس أَن يُؤذن غير طَاهِر،
وَيُقِيم وَهُوَ طَاهِر. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) من
أَصْحَابنَا: وَيَنْبَغِي أَن يُؤذن وَيُقِيم على طهر،
لِأَن الْأَذَان وَالْإِقَامَة ذكر شرِيف، فَيُسْتَحَب
فِيهِ الطَّهَارَة، فَإِن أذن على غير وضوء جَازَ، وَبِه
قَالَ الشَّافِعِي وَأحمد وَعَامة أهل الْعلم، وَعَن
مَالك: أَن الطَّهَارَة شَرط فِي الْإِقَامَة دون
الْأَذَان. وَقَالَ عَطاء وَالْأَوْزَاعِيّ وَبَعض
الشَّافِعِيَّة: تشْتَرط فيهمَا. وَقَالَ أَصْحَابنَا:
وَيكرهُ أَن يُقيم على غير وضوء لما فِيهِ من الْفَصْل
بَين الْإِقَامَة وَالصَّلَاة، بالاشتغال بأعمال الْوضُوء.
وَعَن الْكَرْخِي: لَا تكره الْإِقَامَة بِلَا وضوء،
وَتكره عندنَا أَن يُؤذن وَهُوَ جنب، وَذكر مُحَمَّد فِي
(الْجَامِع الصَّغِير) : إِذا أذن الْجنب أحب إِلَيّ أَن
يُعِيد الْأَذَان، وَإِن لم يعد أَجزَأَهُ. وَقَالَ صَاحب
(الْهِدَايَة) : الْأَشْبَه بِالْحَقِّ أَن يُعَاد أَذَان
الْجنب، وَلَا تُعَاد الْإِقَامَة، لِأَن تكْرَار
الْأَذَان مَشْرُوع فِي الْجُمْلَة.
وَقَالَ عَطَاءٌ الوُضُوءُ حقٌّ وَسُنَّةٌ
أَي: عَطاء بن أبي رَبَاح. قَوْله: حق أَي ثَابت فِي
الشَّرْع قَوْله (وَسنة) أَي: وَسنة للشَّرْع، وَهَذَا
التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج، قَالَ:
قَالَ لي عَطاء: حق وَسنة مسنونة أَن لَا يُؤذن الْمُؤَذّن
إلاَّ متوضأ، هُوَ من الصَّلَاة، هُوَ فَاتِحَة الصَّلَاة،
وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن مُحَمَّد بن عبد
الله الْأَسدي، عَن معقل بن عبيد الله، عَن عَطاء أَنه كره
أَن يُؤذن الرجل وَهُوَ على غير وضوء، وَقد جَاءَت هَذِه
اللَّفْظَة مَرْفُوعَة، وَذكرهَا أَبُو الشَّيْخ عَن أبي
عَاصِم: حَدثنَا هِشَام بن عمار حَدثنَا الْوَلِيد بن
مُسلم عَن مُعَاوِيَة عَن يحيى عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد
بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة أَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: لَا يُؤذن
(5/148)
إِلَّا متوضىء) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ:
كَذَا رَوَاهُ مُعَاوِيَة بن يحيى الصَّدَفِي وَهُوَ
ضَعِيف، وَالصَّحِيح رِوَايَة يُونُس وَغَيره عَن
الزُّهْرِيّ مُرْسلا وَلما ذكر التِّرْمِذِيّ حَدِيث
يُونُس قَالَ: هَذَا أصح، يَعْنِي من الحَدِيث الْمَرْفُوع
الَّذِي عِنْده من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن أبي هُرَيْرَة،
وَعند أبي الشَّيْخ من حَدِيث عبد الْجَبَّار بن وَائِل
عَن أَبِيه قَالَ: حق وَسنة مسنونة أَن لَا يُؤذن إلاَّ
وَهُوَ طَاهِر. وَقَالَهُ عَليّ بن عبد الله بن عَبَّاس،
وَرَوَاهُ عَن أَبِيه أَيْضا مَرْفُوعا، وَعند ابْن أبي
شيبَة أَمر مُجَاهِد مؤذنه أَنه لَا يُؤذن حَتَّى
يتَوَضَّأ.
وقَالَتْ عائِشَةُ كانَ النبِيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَذْكُرُ الله عَلَى كلِّ أحْيَانِهِ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم من حَدِيث عبد الله
الْبَهِي عَنْهَا، وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيّ: حسن
غَرِيب. فَإِن قلت: ذكر البُخَارِيّ هُنَا عَن بِلَال
وَابْن عمر وَإِبْرَاهِيم وَعَطَاء وَعَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم، فَمَا وَجه ذَلِك فِي هَذَا الْبَاب
وَلَيْسَ فِي التَّرْجَمَة، مَا يشْتَمل على شَيْء من
ذَلِك؟ قلت: إِنَّه لما ترْجم هَذَا الْبَاب بِمَا ترْجم
بِهِ، وَذكر فِيهِ الِاسْتِفْهَام فِي موضِعين، وَلم يجْزم
بِشَيْء فيهمَا لأجل الِاخْتِلَاف الَّذِي ذَكرْنَاهُ
فيهمَا، أَشَارَ بِالْخِلَافِ الَّذِي بَين بِلَال وَابْن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إِلَى أَن هَذَا
الَّذِي شَاهد بِلَالًا حِين يتبعهُ فَاه، رَآهُ
بِالضَّرُورَةِ أَنه جعل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَالَّذِي
شَاهد ابْن عمر لم ير مِنْهُ ذَلِك، فَكَانَ لذكر ذَلِك
فِي هَذَا الْبَاب وَجه من هَذِه الْحَيْثِيَّة، ثمَّ
أَشَارَ بِالْخِلَافِ الَّذِي بَين إِبْرَاهِيم وَعَطَاء:
إِلَى أَن هَذَا الْمُؤَذّن الَّذِي يتبع فَاه أَو غَيره
يتبع فَاه كَيفَ حَاله؟ أهوَ فِي الطَّهَارَة أم لَا؟
وَهُوَ أَيْضا وَجه مَا من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فَوجدت
الْمُنَاسبَة فِي ذكر هذَيْن الشَّيْئَيْنِ، وَأدنى
الْمُنَاسبَة كافٍ، لِأَن الْمقَام إقناعي غير برهاني.
وَأما وَجه ذكر مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا، هَهُنَا فَهُوَ لبَيَان عدم صِحَة
إِلْحَاق الْأَذَان بِالصَّلَاةِ، فَإِن مِنْهُم من شَرط
فِيهِ الطَّهَارَة، وَذكر أَن حكمه مُخَالف لحكم
الصَّلَاة، لِأَنَّهُ من جملَة الْأَذْكَار، فَلَا تشْتَرط
فِيهِ الطَّهَارَة كَمَا لَا تشْتَرط فِي سَائِر
الْأَذْكَار، وَأَشَارَ إِلَى ذَلِك بِحَدِيث عَائِشَة
الْمَذْكُور، لِأَن قَوْلهَا: (على كل أحيانه) متناول لحين
الْحَدث، وَأَشَارَ بِهَذَا أيضاإلى أَن قَوْله فِي ذَلِك
هُوَ مثل قَول النَّخعِيّ، وَهُوَ قَول أَصْحَابنَا
أَيْضا. كَمَا ذَكرْنَاهُ.
634 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ عنْ عَوْنِ بنِ أبي جُحَيْفَةَ عنْ أبِيهِ
أنَّهُ رَأى بِلالاً يُؤَذِّنُ فَجَعَلْتُ أتَتَبَّعُ فاهُ
هَهُنَا وهَهُنَا بِالأذَانِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: مُحَمَّد بن يُوسُف
الْفرْيَابِيّ، وسُفْيَان الثَّوْريّ، وَعون، بِفَتْح
الْعين: ابْن أبي جُحَيْفَة، وَأَبوهُ أَبُو جُحَيْفَة،
بِضَم الْجِيم: واسْمه وهب بن عبد الله، وَقد تقدمُوا
كلهم.
وَأخرجه الغساني فِي الصَّلَاة عَن مَحْمُود بن غيلَان عَن
وَكِيع عَنهُ نَحوه، وَرِوَايَة وَكِيع عَن سُفْيَان عِنْد
مُسلم أتم من رِوَايَة البُخَارِيّ فَإِنَّهُ أوردهُ
مُخْتَصرا، وفيهَا: (فَجعلت أتتبع فَاه هَهُنَا وَهَهُنَا
يَمِينا وَشمَالًا يَقُول: حَيّ على الصَّلَاة حَيّ على
الْفَلاح) . وَفِيه تَقْيِيد الِالْتِفَات فِي الْأَذَان
وَأَن مَحَله عِنْد الحيعلتين، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ ابْن
خُزَيْمَة: انحراف الْمُؤَذّن عِنْد قَوْله: حَيّ على
الصَّلَاة حَيّ على الْفَلاح، بفمه لَا بِبدنِهِ كُله.
قَالَ: وَإِنَّمَا يُمكن الانحراف بالفم بانحراف الْوَجْه،
ثمَّ سَاقه من طَرِيق وَكِيع أَيْضا بِلَفْظ: فَجعل يَقُول
فِي أَذَانه هَكَذَا، ويحرف رَأسه يَمِينا وَشمَالًا، وَقد
ذكرنَا اخْتِلَاف الرِّوَايَات فِيهِ فِي أول الْبَاب.
وَالله أعلم.
20 - (بابُ قَوْلِ الرَّجلِ فاتَتْنَا الصلاةُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قَول الرجل: فاتتنا الصَّلَاة،
يَعْنِي: هَل يكره أم لَا؟
وَكَرِهَ ابنُ سِيرِينَ أنْ يَقُولَ فاتَتْنَا الصَّلاَةُ
ولَكِنْ لِيَقُلْ لَمْ نُدْرِكْ
ابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين، بِكَسْر السِّين
الْمُهْملَة، ومطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهَذَا
التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن
أَزْهَر عَن ابْن عون، قَالَ: كَانَ مُحَمَّد يكره أَن
يَقُول: فاتتنا الصَّلَاة، وَيَقُول: لم أدْرك مَعَ بني
فلَان. قَوْله: (أَن يَقُول) ، أَي: الرجل. قَوْله:
(وَليقل) ، ويروى: (وَلَكِن ليقل) .
وَقَوْلُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصَحُّ
(5/149)
(قَول النَّبِي) : كَلَام إضافي مُبْتَدأ
وَقَوله: (أصح) خَبره، وَلَيْسَ المُرَاد مِنْهُ أفعل
التَّفْضِيل، لِأَنَّهُ إِذا أُرِيد بِهِ التَّفْضِيل
يلْزم أَن يكون قَول ابْن سِيرِين صَحِيحا. وَقَول
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصح مِنْهُ، وَلَيْسَ
كَذَلِك، وَإِنَّمَا المُرَاد بالأصح: لِأَنَّهُ قد يذكر
أفعل وَيُرَاد بِهِ التَّوْضِيح لَا التَّفْضِيل. وَهَذَا
الْكَلَام من البُخَارِيّ رد على ابْن سِيرِين، لِأَن
الشَّارِع جوز لفظ الْفَوات، وَابْن سِيرِين كرهه.
635 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا شَيْبَانُ عنْ
عنْ يَحْيَى عنْ عَبْدِ الله ابنِ أبي قَتَادَةَ عنْ
أبِيهِ قالَ بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذْ سَمِعَ جَلَبَةَ الرِّجَالِ
فَلَمَّا صَلَّى قالْ مَا شَأنُكُمْ قالُوا اسْتَعْجَلْنَا
إلَى الصَّلاَةِ قَالَ فَلاَ تَفْعَلُوا إذَا أتَيْتُمُ
الصَّلاَةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسكِينَةِ فَما أدْرَكْتُمْ
فَصَلوا وَما فَاتَكُمْ فأَتِمُّوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَمَا فاتكم فَأتمُّوا)
.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: أَبُو نعيم الْفضل بن
دُكَيْن. الثَّانِي: شَيبَان، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا الْبَاء
الْمُوَحدَة: ابْن عبد الرَّحْمَن النَّحْوِيّ. الثَّالِث:
يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: عبد الله بن أبي قَتَادَة.
الْخَامِس: أَبُو قَتَادَة، واسْمه الْحَارِث بن ربعي
الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه:
أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي وكوفي. وَفِيه: القَوْل فِي
موضِعين.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق
بن مَنْصُور عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَيْنَمَا) أَصله: بَين، فزيدت
فِيهِ: الْمِيم وَالْألف، وَرُبمَا تزاد الْألف فَقَط،
فَيُقَال: بَينا، وهما ظرفا زمَان بِمَعْنى المفاجأة،
ويضافان إِلَى جملَة من فعل وفاعل ومبتدأ وَخبر، ويحتاجان
إِلَى جَوَاب يتم بِهِ الْمَعْنى، والأفصح أَن لَا يكون
إِذْ وَإِذا فِي جوابيهما. تَقول: بَينا زيد جَالس دخل
عَلَيْهِ عَمْرو، وَإِذ دخل عَلَيْهِ عَمْرو، وَإِذا دخل
عَلَيْهِ عَمْرو. وَقَوله: (جلبة الرِّجَال) بِالْألف
وَاللَّام فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة
الْأصيلِيّ: (جلبة رجال) ، بِدُونِ الْألف وَاللَّام،
والجلبة، بالفتحات: الْأَصْوَات، وَذَلِكَ الصَّوْت كَانَ
بِسَبَب حركتهم وَكَلَامهم واستعجالهم. قَوْله: (مَا
شَأْنكُمْ؟) الشَّأْن بِالْهَمْزَةِ وَالتَّخْفِيف أَي:
الْحَال. أَي: مَا حالكم حَيْثُ وَقع مِنْك الجلبة؟
قَوْله: (لَا تَفعلُوا) أَي: لَا تستعجلوا، وَذكر بِلَفْظ
الْفِعْل لَا بِلَفْظ الاستعجال مُبَالغَة فِي النَّهْي
عَنهُ. قَوْله: (بِالسَّكِينَةِ) ، بِفَتْح السِّين وَكسر
الْكَاف: التأني والهينة، ويروى: (فَعَلَيْكُم السكينَة) ،
بِدُونِ حرف الْجَرّ، وَبِالنَّصبِ نَحْو: عَلَيْك زيدا،
أَي: إلزمه، وَيجوز الرّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره
هُوَ قَوْله: (عَلَيْكُم) . قَوْله: (فَمَا أدركتم) أَي:
الْقدر الَّذِي أدركتموه فِي الصَّلَاة مَعَ الإِمَام
فصلوا مَعَه، وَمَا فاتكم مِنْهَا فأتموه.
وَفِي هَذِه اللَّفْظَة اخْتِلَاف، فَعِنْدَ أبي نعيم
الْأَصْبَهَانِيّ: (وَمَا فاتكم فاقضوا) ، وَكَذَا ذكرهَا
الْإِسْمَاعِيلِيّ من حَدِيث شَيبَان عَن يحيى، وَفِي
رِوَايَة أبي دَاوُد من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، (فَمَا
أدركتم فصلوا، وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، وَكَذَا هُوَ فِي
أَكثر رِوَايَات مُسلم. وَفِي رِوَايَة: (فَاقْض مَا
سَبَقَك) ، وَفِي رِوَايَة لأبي دَاوُد: (فاقضوا مَا
سبقكم) ، وَعند أَحْمد من حَدِيث ابْن عُيَيْنَة عَن
الزُّهْرِيّ عَن سعيد عَنهُ: (وَمَا فاتكم فاقضوا) . وَفِي
(الْمحلى) : من حَدِيث ابْن جريج عَن عَطاء عَن أبي
هُرَيْرَة أَنه قَالَ: (إِذا كَانَ أحدكُم مُقبلا إِلَى
الصَّلَاة فليمش على رسله، فَإِنَّهُ فِي صَلَاة، فَمَا
أدْرك فَليصل، وَمَا فَاتَهُ فليقض، بعد مَا قَالَ عَطاء:
وَإِنِّي لَا أصنعه) . وَفِي (مُسْند أبي قُرَّة) : عَن
ابْن جريج عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَنهُ بِلَفْظ:
(فاقضوا) . قَالَ: وَذكر سُفْيَان عَن سعد بن إِبْرَاهِيم
حَدثنِي عَمْرو بن أبي سَلمَة عَن أَبِيه عَنهُ، بِلَفْظ:
(وليقض مَا سبقه) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اخْتلف الْعلمَاء فِي
الْقَضَاء والإتمام الْمَذْكُورين: هَل هما بِمَعْنى
وَاحِد أَو بمعنيين؟ وترتب على ذَلِك خلاف فِيمَا
يُدْرِكهُ الدَّاخِل مَعَ الإِمَام: هَل هُوَ فِي أول
صلَاته أَو آخرهَا؟ على أَرْبَعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه
أول صلَاته وَأَنه يكون بانيا عَلَيْهِ فِي الْأَفْعَال
والأقوال، وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَإِسْحَاق
وَالْأَوْزَاعِيّ، وَهُوَ مَرْوِيّ عَن عَليّ وَابْن
الْمسيب وَالْحسن وَعَطَاء وَمَكْحُول، وَرِوَايَة عَن
مَالك وَأحمد، وَاسْتَدَلُّوا بقوله: (وَمَا فاتكم
فَأتمُّوا) ، لِأَن لفظ إلاتمام وَاقع على باقٍ من شَيْء
(5/150)
قد تقدم سائره، وروى الْبَيْهَقِيّ من
حَدِيث عبد الْوَهَّاب: عَن عَطاء عَن إِسْرَائِيل عَن أبي
إِسْحَاق عَن الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ: (مَا أدْركْت فَهُوَ أول صَلَاتك) ، وَعَن ابْن عمر
بِسَنَد جيد مثله.
الثَّانِي: أَنه أول صلَاته بِالنِّسْبَةِ إِلَى
الْأَفْعَال فيبنى عَلَيْهَا، وَآخِرهَا بِالنِّسْبَةِ
إِلَى الْأَقْوَال فيقضيها، وَهُوَ قَول مَالك. وَقَالَ
ابْن بطال عَنهُ: مَا أدْرك فَهُوَ أول صلَاته إلاَّ أَنه
يقْضِي مثل الَّذِي فَاتَهُ من الْقِرَاءَة بِأم الْقُرْآن
وَسورَة، وَقَالَ سَحْنُون: هَذَا الَّذِي لم يعرف خِلَافه
دَلِيله مَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث قَتَادَة:
أَن عَليّ بن أبي طَالب قَالَ: (مَا أدْركْت مَعَ الإِمَام
فَهُوَ أول صَلَاتك، واقض مَا سَبَقَك بِهِ من الْقُرْآن)
.
الثَّالِث: أَن مَا أدْرك فَهُوَ أول صلَاته إلاَّ أَنه
يقْرَأ فِيهَا. بِالْحَمْد وَسورَة مَعَ الإِمَام، وَإِذا
قَامَ للْقَضَاء قضى بِالْحَمْد وَحدهَا، لِأَنَّهُ آخر
صلَاته، وَهُوَ قَول الْمُزنِيّ وَإِسْحَاق وَأهل
الظَّاهِر.
الرَّابِع: أَنه آخر صلَاته وَأَنه يكون قَاضِيا فِي
الْأَفْعَال والأقوال، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَأحمد فِي
رِوَايَة، وسُفْيَان وَمُجاهد وَابْن سِيرِين. وَقَالَ
ابْن الْجَوْزِيّ: الْأَشْبَه بمذهبنا وَمذهب أبي حنيفَة
أَنه آخر صلَاته، وَقَالَ ابْن بطال: رُوِيَ ذَلِك عَن
ابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ
وَالشعْبِيّ وَأبي قلَابَة، وَرَوَاهُ ابْن الْقَاسِم عَن
مَالك، وَهُوَ قَول أَشهب وَابْن الْمَاجشون، وَاخْتَارَهُ
ابْن حبيب، وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بقوله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (وَمَا فاتكم فاقضوا) . وَرَوَاهُ ابْن
أبي شيبَة بِسَنَد صَحِيح عَن أبي ذَر، وَابْن حزم بِسَنَد
مثله عَن أبي هُرَيْرَة، وَالْبَيْهَقِيّ بِسَنَد لَا
بَأْس بِهِ على رَأْي جمَاعَة عَن معَاذ بن جبل، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ.
وَالْجَوَاب عَمَّا اسْتدلَّ بِهِ الشَّافِعِي وَمن تبعه
وَهُوَ قَوْله: (فَأتمُّوا) : أَن صَلَاة الْمَأْمُوم
مرتبطة بِصَلَاة الإِمَام، فَحمل قَوْله: (فَأتمُّوا) على
أَن: من قضى مَا فَاتَهُ فقد أتم لِأَن الصَّلَاة تنقص
بِمَا فَاتَ، فقضاؤه إتْمَام لما نقص. فَإِن قلت: قَالَ
النَّوَوِيّ: وَحجَّة الْجُمْهُور أَن أَكثر الرِّوَايَات:
(وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) . وَأجِيب: عَن رِوَايَة: (واقض
مَا سَبَقَك) بِأَن المُرَاد بِالْقضَاءِ الْفِعْل لَا
الْقَضَاء المصطلح عَلَيْهِ عِنْد الْفُقَهَاء، وَقد كثر
اسْتِعْمَال الْقَضَاء بِمَعْنى الْفِعْل، فَمِنْهُ قَوْله
تَعَالَى: {فقضاهن سبع سموات فِي يَوْمَيْنِ} (فصلت: 12) .
وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا قضيتم مَنَاسِككُم}
(الْبَقَرَة: 200) . وَقَوله تَعَالَى: {فَإِذا قضيت
الصَّلَاة} (الْجُمُعَة: 10) . وَيُقَال: قضيت حق فلَان،
وَمعنى الْجَمِيع: الْفِعْل. قلت: أما الْجَواب عَن
قَوْله: (فَأتمُّوا) فقد ذَكرْنَاهُ آنِفا، وَأما قَوْله:
المُرَاد بِالْقضَاءِ: الْفِعْل، فمشترك الدّلَالَة، لِأَن
الْفِعْل يُطلق على الْأَدَاء وَالْقَضَاء جَمِيعًا،
وَمعنى: {فقضاهن سبع سموات} (فصلت: 12) . قدرهن، وَمعنى
{قضيتم مَنَاسِككُم} (الْبَقَرَة: 200) . فَرَغْتُمْ
عَنْهَا، وَكَذَا معنى {فَإِذا قضيت الصَّلَاة}
(الْجُمُعَة: 10) . وَمعنى: قضيت حق فلَان، انهيت إِلَيْهِ
حَقه، وَلَو سلمنَا أَن الْقَضَاء بِمَعْنى الْأَدَاء
فَيكون مجَازًا، والحقيقة أولى من الْمجَاز، وَلَا سِيمَا
على أصلهم أَن الْمجَاز ضَرُورِيّ لَا يُصَار إِلَيْهِ
إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة والتعذر. فَإِن قلت: حكى
الْبَيْهَقِيّ عَن مُسلم أَنه قَالَ: لَا أعلم هَذِه
اللَّفْظَة يَعْنِي: فاقضوا رَوَاهَا عَن الزُّهْرِيّ
إلاَّ ابْن عُيَيْنَة، وَأَخْطَأ. قلت: تَابعه ابْن أبي
ذِئْب فرواها عَن الزُّهْرِيّ، كَذَلِك، وَكَذَا وَقع فِي
رِوَايَة لمُسلم وَأبي دَاوُد كَمَا ذكرنَا عَن قريب،
وَقَالَ الْكرْمَانِي: (وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، دَلِيل
للشَّافِعِيَّة حَيْثُ قَالُوا: مَا أدْركهُ الْمَسْبُوق
مَعَ الإِمَام فَهُوَ أَولهَا، لِأَن التَّمام لَا يكون
إلاَّ للْآخر، لِأَنَّهُ لَا يَقع على بَاقِي شَيْء تقدم
أَوله، وَعكس أَبُو حنيفَة فَقَالَ: ماأدراك مَعَ الإِمَام
فَهُوَ آخرهَا. انْتهى. قلت: هُوَ عكس حَيْثُ غفل عَن
رِوَايَة: فاقضوا، وَمَا قَالَ فِيهِ الْعلمَاء وَقد
ذَكرْنَاهُ، وَلَو تأدب لأحسن فِي عِبَارَته، وَلَيْسَ
أَبُو حنيفَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِيمَا قَالَه
وَحده، وَقد ذكرنَا أَنه قَول: عبد الله بن مَسْعُود وَعبد
الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَقَول
سُفْيَان وَابْن سِيرِين وَمُجاهد وَالنَّخَعِيّ
وَالشعْبِيّ وَأبي قلَابَة وَآخَرين.
وَمِمَّا يُسْتَفَاد من الحَدِيث: الْحَث فِي الْإِتْيَان
إِلَى الصَّلَاة بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقار، وَسَوَاء
فِيهِ سَائِر الصَّلَوَات، سَوَاء خَافَ فَوت تَكْبِيرَة
الْإِحْرَام أم لَا. وَفِيه: جَوَاز قَول الرجل: فاتتنا
الصَّلَاة، وَأَنه لَا كَرَاهَة فِيهِ عِنْد جُمْهُور
الْعلمَاء، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ، وَالله أعلم.
21 - (بابٌ لاَ يَسْعَى إلَى الصَّلاَةِ وَلْيَأْتِ
بالسَّكِينَةِ والوَقارِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يسْعَى الرجل إِلَى
الصَّلَاة ... إِلَى آخِره، وَسَقَطت هَذِه التَّرْجَمَة
من رِوَايَة الْأصيلِيّ وَمن رِوَايَة أبي ذَر عَن غير
السَّرخسِيّ، وَفِي بعض نسخ السراج: بَاب مَا أدركتم فصلوا
وَمَا فاتكم فَأتمُّوا، قَالَه أَبُو قَتَادَة عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْأَوْجه مَا مشينا
عَلَيْهِ.
وَقَالَ مَا أدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَما فَاتَكُمْ
فَأتِمُّوا قالَهُ أبُو قَتَادَة عنِ النَّبِيِّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم
(5/151)
أَي: قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي: قَالَه، يرجع إِلَى
الْمَذْكُور فِي التَّرْجَمَة، وَهُوَ قَوْله: (مَا أدركتم
فصلوا وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) ، وَالْمعْنَى: قَالَه عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ
البُخَارِيّ فِي الْبَاب السَّابِق.
636 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي ذِئْبٍ قَالَ
حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ عنْ
أبِي هُرَيْرَةَ عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وعنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ
عَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إذَا
سَمِعْتُمُ الإقَامَةَ فَامْشُوا إلَى الصَّلاَةِ
وعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ والوَقَارِ ولاَ تُسْرِعُوا
فَما أدرَكْتُمْ فَصَلوا ومَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا.
(الحَدِيث 636 طرفه فِي: 908) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة قد ذكرُوا غير مرّة. وَأخرجه من
طَرِيقين. الأول: عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن مُحَمَّد بن
عبد الرَّحْمَن بن أبي ذِئْب عَن مُحَمَّد بن مُسلم
الزُّهْرِيّ عَن سعيد بن الْمسيب عَن أبي هُرَيْرَة.
الثَّانِي: عَن آدم أَيْضا عَن ابْن أبي ذِئْب عَن
الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي سَبْعَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن الزُّهْرِيّ حدث عَن شيخين عَن سعيد بن
الْمسيب وَأبي سَلمَة، وَقد جمع البُخَارِيّ بَينهمَا فِي:
بَاب الْمَشْي إِلَى الْجُمُعَة عَن آدم، فَقَالَ فِيهِ:
عَن سعيد وَأبي سَلمَة، كِلَاهُمَا عَن أبي هُرَيْرَة،
وَكَذَلِكَ أخرجه مُسلم من طَرِيق إِبْرَاهِيم بن سعد عَن
الزُّهْرِيّ، عَنْهُمَا. وَالتِّرْمِذِيّ أخرجه من طَرِيق
يزِيد بن زُرَيْع: عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ عَن ابْن أبي
سَلمَة وَحده، وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن
الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَحده، وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم
مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ عسقلاني.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا سَمِعْتُمْ الْإِقَامَة)
أَي: إِقَامَة الصَّلَاة، إِنَّمَا ذكر الْإِقَامَة
تَنْبِيها على مَا سواهَا لِأَنَّهُ إِذا نهى عَن إتيانها
مسرعا فِي حَال الْإِقَامَة مَعَ خوف فَوت بَعْضهَا، فَقبل
الْإِقَامَة أولى. وَيُقَال: الْحِكْمَة فِي التَّقْيِيد
بِالْإِقَامَةِ أَن المسرع إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة يصل
إِلَيْهَا وَقد انبهر، فَيقْرَأ فِي تِلْكَ الْحَالة فَلَا
يحصل لَهُ تَمام الْخُشُوع فِي الترتيل، وَغَيره، بِخِلَاف
من جَاءَ قبل ذَلِك، فَإِن الصَّلَاة قد لَا تُقَام حَتَّى
يستريح. قَوْله: فَعَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ) كَذَا فِي
رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره: (وَعَلَيْكُم
السكينَة) ، بِالنّصب بِلَا: بَاء، وَكَذَا فِي رِوَايَة
مُسلم من طَرِيق يُونُس، وضبطها الْقُرْطُبِيّ الشَّارِح
بِالنّصب على الإغراء، وضبطها النَّوَوِيّ بِالرَّفْع على
أَنَّهَا جملَة فِي مَوضِع الْحَال. وَقيل: دُخُول الْبَاء
لَا وَجه لَهُ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ، كَمَا فِي
قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْكُم أَنفسكُم} (الْمَائِدَة: 105)
ورد بِأَنَّهَا زَائِدَة للتَّأْكِيد، وَلم تدخل للتعدية.
وَجَاء فِي الْأَحَادِيث كثير من ذَلِك نَحْو: (عَلَيْكُم
بِرُخْصَة الله تَعَالَى) ، (فَعَلَيهِ بِالصَّوْمِ
فَإِنَّهُ لَهُ وَجَاء) ، (وَعَلَيْكُم بِقِيَام اللَّيْل)
. وَنَحْو ذَلِك. وَقَالَ بَعضهم: ثمَّ إِن الَّذِي علل
بقوله لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفسِهِ غير موف بمقصوده،
إِذْ لَا يلْزم من كَونه يتَعَدَّى بِنَفسِهِ امْتنَاع
تعديته بِالْبَاء. انْتهى. قلت: هَذَا الْقَائِل لم يشم
شَيْئا من علم التصريف، وَنفى الْمُلَازمَة غير صَحِيح.
قَوْله: (وَالْوَقار) قَالَ عِيَاض والقرطبي: وَهُوَ
بِمَعْنى السكينَة، وَذكر على سَبِيل التَّأْكِيد. وَقَالَ
النَّوَوِيّ: السكينَة: التأني فِي الحركات وَاجْتنَاب
الْعَبَث وَالْوَقار فِي الْهَيْئَة، كغض الْبَصَر وخفض
الصَّوْت وَعدم الِالْتِفَات. قَوْله: (وَلَا تسرعوا) ،
فِيهِ زِيَادَة تَأْكِيد، وَلَا مُنَافَاة بَينه وَبَين
قَوْله تَعَالَى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله}
(الْجُمُعَة: 9) وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ يشْعر بالإسراع،
لِأَن المُرَاد بالسعي الذّهاب، يُقَال: سعيت إِلَى كَذَا
أَي: ذهبت إِلَيْهِ، وَالسَّعْي أَيْضا جَاءَ بِمَعْنى:
الْعَمَل، وَبِمَعْنى: الْقَصْد. وَالْحكمَة فِي منع
الْإِسْرَاع أَنه يُنَافِي الْخُشُوع، وَتَركه أَيْضا
يسْتَلْزم كَثْرَة الخطى، وَهُوَ أَمر مَنْدُوب مَطْلُوب،
وَردت فِيهِ أَحَادِيث: مِنْهَا حَدِيث مُسلم رَوَاهُ عَن
جَابر: (إِن بِكُل خطْوَة دَرَجَة) . قَوْله: (فَمَا
أدركتم) : الْفَاء، فِيهِ جَزَاء شَرط مَحْذُوف، أَي: إِذا
بيّنت لكم مَا هُوَ أولى بكم فَمَا أدركتم فصلوا. قَوْله:
(وَمَا فاتكم فَأتمُّوا) أَي: أكملوا، وَقد بَينا
اخْتِلَاف الْأَلْفَاظ فِيهِ فِي الْبَاب السَّابِق.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الدّلَالَة على حُصُول
فَضِيلَة الْجَمَاعَة بِإِدْرَاك جُزْء من الصَّلَاة.
لقَوْله: (فَمَا أدركتم فصلوا) ، وَلم يفصل بَين الْقَلِيل
وَالْكثير. وَفِيه: اسْتِحْبَاب الدُّخُول مَعَ الإِمَام
فِي أَي: حَالَة وجده عَلَيْهَا. وَفِيه: الْحَث على
التأني وَالْوَقار عِنْد الذّهاب إِلَى الصَّلَاة، وَمِنْه
اسْتدلَّ قوم على أَن من أدْرك الإِمَام رَاكِعا لم تحسب
لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَة لِلْأَمْرِ بإتمام مَا فَاتَهُ،
وَقد فَاتَهُ الْقيام وَالْقِرَاءَة فِيهِ، وَهُوَ أَيْضا
مَذْهَب من ذهب إِلَى وجوب الْقِرَاءَة خلف الإِمَام،
وَهُوَ قَول أبي هُرَيْرَة أَيْضا. وَاخْتَارَهُ ابْن
(5/152)
خُزَيْمَة. وَعند أَصْحَابنَا، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور:
أَنه يكون مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة لحَدِيث أبي بكرَة
حَيْثُ ركع دون الصَّفّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (زادك الله حرصا وَلَا تعد) . وَلم
يَأْمُرهُ بِإِعَادَة تِلْكَ الرَّكْعَة، وروى أَبُو
دَاوُد من حَدِيث مُعَاوِيَة ابْن ابي سُفْيَان قَالَ:
قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا تبادروني
بركوع وَلَا سُجُود، فَإِنَّهُ مهما أسبقكم بِهِ إِذا ركعت
تدركوني بِهِ إِذا رفعت، وَإِنِّي قد بدنت) . وَهَذَا يدل
على أَن الْمُقْتَدِي إِذا لحق الإِمَام وَهُوَ فِي
الرُّكُوع فَلَو شرع مَعَه مَا لم يرفع رَأسه يصير مدْركا
لتِلْك الرَّكْعَة، فَإِذا شرع وَقد رفع رَأسه لَا يكون
مدْركا لتِلْك الرَّكْعَة، وَلَو ركع الْمُقْتَدِي قبل
الإِمَام فَلحقه الإِمَام قبل قِيَامه يجوز عندنَا خلافًا
لزفَر، رَحمَه الله. |