عمدة القاري شرح صحيح البخاري

125 - (بابُ فَضْلِ اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل قَول: (اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد) . وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (رَبنَا وَلَك الْحَمد) بِالْوَاو، وَلَيْسَ فِيهِ لفظ: بَاب، فِي رِوَايَة أبي ذَر والأصيلي.

796 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ سُمَيٍّ عنْ أبِي صالِحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّ رَسولَ الله قالَ إذَا قالَ الإِمامُ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَكَ الحَمْدُ فإنَّهُ منْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ المَلاَئِكَةِ غُفِرُ لَهُ مَا تقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ (الحَدِيث 796 طرفه فِي: 3228) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَال هَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه قد مروا فِي: بَاب جهر الإِمَام بآمين غير أَن هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك، وَهنا: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَأَبُو صَالح هُوَ: ذكْوَان السمان، ومباحثه قد تقدّمت هُنَاكَ. وَقَالَ بَعضهم: اسْتدلَّ بقوله: (إِذا قَالَ الإِمَام) على أَن الإِمَام لَا يَقُول: رَبنَا لَك الْحَمد، وعَلى أَن الْمَأْمُوم لَا يَقُول: (سمع الله لمن حَمده) لكَون ذَلِك لم يذكر فِي هَذِه الرِّوَايَة، كَذَا حَكَاهُ الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ قَول مَالك وَأبي حنيفَة، وَفِيه نظر، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَا يدل على النَّفْي. قلت: لَا نسلم ذَلِك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قسم التسميع والتحميد، فَجعل التسميع للْإِمَام والتحميد للْمَأْمُوم، فالقسمة تنَافِي الشّركَة. فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كَانَ يكبر فِي كل صَلَاة) الحَدِيث، وَفِيه: (ثمَّ يكبر حِين يرْكَع، ثمَّ يَقُول: سمع الله لمن حَمده، ثمَّ يَقُول: رَبنَا وَلَك الْحَمد. .) الحَدِيث. قلت: هَذَا كَانَ قنوتا، وَقد فعله ثمَّ تَركه، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه كَانَ قنوتا لِأَن فِيهِ: اللَّهُمَّ أنجِ الْوَلِيد بن الْوَلِيد، وَسَلَمَة بن هِشَام، وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة، وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ ... إِلَى آخِره. فَإِن قلت: روى البُخَارِيّ أَيْضا من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَالَ: سمع الله لمن حَمده، قَالَ: اللَّهُمَّ رَبنَا وَلَك الْحَمد) الحَدِيث، فَهَذَا صَرِيح فِي أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يجمع بَينهمَا، لَا لعِلَّة قنوت وَلَا لغيره. قلت: يُمكن أَن يكون هَذَا من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مُنْفَرد، فَافْهَم. وَقَالَ الْكرْمَانِي إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قالهما جَمِيعًا، وَالْمَأْمُوم مَأْمُور بمتابعته، لقَوْله: (صلوا

(6/71)


كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي) ، قلت: قَوْله: (قالهما جَمِيعًا) يحْتَمل أَن يكون ذَلِك وَهُوَ مُنْفَرد، كَمَا ذكرنَا، وَأَبُو حنيفَة أَيْضا حمله على حَالَة الإنفراد، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِم، لأَنهم يَقُولُونَ: الْمَأْمُوم مَأْمُور بمتابعة الإِمَام، ثمَّ يَقُولُونَ: الإِمَام إِذا ظهر مُحدثا يتم الْمَأْمُوم صلَاته، فَأَيْنَ وجدت الْمُتَابَعَة؟

126 - (بابٌ)

لم تقع لَفْظَة: بَاب، فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، وعَلى رِوَايَته شرح ابْن بطال، وَوَقع فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، لَكِن بِلَا تَرْجَمَة. وَقَالَ بَعضهم: وَالرَّاجِح إثْبَاته لِأَن الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة فِيهِ لَا دلَالَة فِيهَا على فضل: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد، إلاّ بتكلف، فَالْأولى أَن يكون بِمَنْزِلَة الْفَصْل من الْبَاب الَّذِي قبله. انْتهى. قلت: لَا نسلم دَعْوَى التَّكَلُّف فِي دلَالَة الْأَحَادِيث الْمَذْكُورَة بعد لَفْظَة بَاب مُجَردا عَن التَّرْجَمَة على فضل: اللَّهُمَّ رَبنَا لَك الْحَمد، لِأَنَّهُ لَا يلْزم أَن تكون الدّلَالَة صَرِيحَة، لِأَن الْموضع الَّذِي يكون فِيهِ لفظ: بَاب، بِمَعْنى الْفَصْل يكون حكمه حكم الْفَصْل، وَحكم الْفَصْل أَن تكون الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة بعده من جنس الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة فِيمَا قبله، وَلَا يلْزم أَن يكون التطابق بَينهمَا ظَاهرا صَرِيحًا، بل وجوده بحيثية من الحيثيات يَكْفِي فِي ذَلِك، وَهَهُنَا كَذَلِك، لِأَن الْمَذْكُور بعد قَوْله: بَاب، ثَلَاثَة أَحَادِيث: الأول: حَدِيث أبي هُرَيْرَة، وَالْأَصْل فِيهِ أَنه صَلَاة كَانَ فِيهَا قنوت، وَالصَّلَاة الَّتِي فِيهَا الْقُنُوت قد ذكر فِيهَا التسميع والتحميد مَعًا، وَيدل ذكر التَّحْمِيد فِيهِ على فَضله، لِأَن الْموضع كَانَ مَوضِع الدُّعَاء، فَدلَّ هَذَا الحَدِيث الْمُخْتَصر من الأَصْل على فَضِيلَة التَّحْمِيد من حَيْثُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بيَّنهما فِي الدُّعَاء، وَالَّذِي يدل على الْفضل فِي الأَصْل صَرِيحًا يدل على الْمُخْتَصر مِنْهُ دلَالَة. الثَّانِي: حَدِيث أنس الَّذِي يدل على أَن الْقُنُوت كَانَ فِي الْمغرب وَالْفَجْر، وَالْكَلَام فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة. الثَّالِث: حَدِيث رِفَاعَة بن رَافع، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَفِيه الدّلَالَة على فَضِيلَة التَّحْمِيد صَرِيحًا، لِأَن ابتدار الْمَلَائِكَة إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب ذكر الرجل إِيَّاه. فَإِن قلت: لفظ: بَاب، هَذَا هَل هُوَ مُعرب أم مَبْنِيّ؟ قلت: الْإِعْرَاب لَا يكون إِلَّا بعد العقد والتركيب، فَلَا يكون معربا، بل حكمه حكم أعداد الْأَسْمَاء من غير تركيب. فَافْهَم.

797 - حدَّثنا مُعَاذُ بنُ فَضَالَةَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيَى عنْ أبِي سَلَمَةَ عنْ أبي هُرَيْرَةَ قَالَ لأُقَرِّبَ صَلاَةَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكانَ أبُو هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ يَقْنُتُ فِي الرَّكْعةِ الأخْرَى مِنْ صَلاَةِ الظهْرِ وصَلاَةِ العِشَاءِ وصَلاَةِ الصُّبْحِ بَعْدَ مَا يَقُولُ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَيَدْعُوا لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَلْعَنُ الكُفَّارَ.

وَجه ذكر هَذَا الحَدِيث قد مضى ذكره الْآن.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: معَاذ بن فضَالة، بِفَتْح الْفَاء: أَبُو زيد الْبَصْرِيّ، مر ذكره فِي: بَاب النَّهْي عَن الِاسْتِنْجَاء بِالْيَمِينِ. الثَّانِي: هِشَام الدستوَائي. الثَّالِث: يحيى بن أبي كثير. الرَّابِع: أَبُو سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: عَن أبي سَلمَة وَفِي رِوَايَة مُسلم: من طَرِيق معَاذ بن هِشَام عَن أَبِيه عَن يحيى: حَدثنِي أَبُو سَلمَة. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ودستوائي ويماني ومدني.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن دَاوُد بن أُميَّة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن سُلَيْمَان بن مُسلم الْبَلْخِي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لأقربن صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لأقربن لكم) ، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ (إِنِّي لأقربكم صَلَاة برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (إِنِّي لأقربكم شبها بِصَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: (لأقربن) أَي: وَالله لأقربكم إِلَى صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو لأَقْرَب صلَاته إِلَيْكُم. قلت: (لأقربن) بِالْبَاء الْمُوَحدَة وبنون التَّأْكِيد، وَمَعْنَاهُ: لآتينكم بِمَا يشبهها وَمَا يقرب مِنْهَا. وَفِي نُسْخَة من نسخ أبي دَاوُد: (لأقرئن، من الْقِرَاءَة) ، وَلم يظْهر لي وَجههَا. وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: (لأرينكم صَلَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . قَوْله: (فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة) إِلَى آخِره، قيل: الْمَرْفُوع من هَذَا

(6/72)


الحَدِيث وجود الْقُنُوت لَا وُقُوعه فِي الصَّلَوَات الْمَذْكُورَة، فَإِنَّهُ مَوْقُوف على أبي هُرَيْرَة، وَالظَّاهِر أَن جَمِيعه مَرْفُوع، يدل عَلَيْهِ: (لأقربن صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) وَفِي رِوَايَة مُسلم: (لأقربن لكم صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، ثمَّ إِنَّه فسر ذَلِك بقوله: (فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَة) إِلَى آخِره، و: الْفَاء فِيهِ تفسيرية. قَوْله: (فِي الرَّكْعَة الْآخِرَة) ، هَذِه رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (فِي الرَّكْعَة الْأُخْرَى) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ من يرى بِالْقُنُوتِ فِي الصَّلَوَات الْمَذْكُور، وَعند الظَّاهِرِيَّة: الْقُنُوت فعل حسن فِي جَمِيع الصَّلَوَات، وَعند ابْن سِيرِين وَابْن أبي ليلى وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق: الْقُنُوت فِي الْفجْر بعد الرُّكُوع، وَحَكَاهُ ابْن الْمُنْذر عَن أبي بكر الصّديق وَعمر وَعُثْمَان وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِي قَول، وَعند مَالك وَابْن أبي ليلى وَأحمد فِي رِوَايَة: هُوَ قبل الرُّكُوع. وَعند أبي حنيفَة: الْقُنُوت فِي الْوتر خَاصَّة قبل الرُّكُوع. وَحكى ابْن الْمُنْذر كَذَلِك عَن عمر وَعلي وَابْن مَسْعُود وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ والبراء بن عَازِب وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَأنس وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَعبيدَة السَّلمَانِي وَحميد الطَّوِيل وَعبد الله بن الْمُبَارك. وَحكى ابْن الْمُنْذر أَيْضا التَّخْيِير قبل الرُّكُوع وَبعده عَن أنس وَأَيوب ابْن أبي نميمة وَأحمد بن حَنْبَل. وَقَالَ أَبُو دَاوُد، قَالَ أَحْمد: كل مَا روى البصريون عَن عمر فِي الْقُنُوت فَهُوَ بعد الرُّكُوع، وروى الْكُوفِيُّونَ قبل الرُّكُوع. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: لَا يقنت فِي الْفجْر إِلَّا عِنْد نازلة تنزل بِالْمُسْلِمين، فَإِذا نزلت نازلة فللإمام أَن يَدْعُو لجيوش الْمُسلمين. وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ: إِن قنت فِي الْفجْر فَحسن، وَإِن لم يقنت فَحسن، وَاخْتَارَ أَن لَا يقنت، وَلم ير ابْن الْمُبَارك الْقُنُوت فِي الْفجْر. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا ابْن أبي دَاوُد حَدثنَا الْمقدمِي حَدثنَا أَبُو معشر حَدثنَا أَبُو حَمْزَة عَن إِبْرَاهِيم عَن عَلْقَمَة عَن ابْن مَسْعُود، قَالَ: (قنت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شهرا يَدْعُو على عصية وذكوان، فَلَمَّا ظهر عَلَيْهِم ترك الْقُنُوت) . وَكَانَ ابْن مَسْعُود لَا يقنت فِي صلَاته. ثمَّ قَالَ: فَهَذَا ابْن مَسْعُود يخبر أَن قنوت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الَّذِي كَانَ يقنته إِنَّمَا كَانَ من أجل من كَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَأَنه قد كَانَ ترك ذَلِك فَصَارَ الْقُنُوت مَنْسُوخا، فَلم يكن هُوَ من بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقنت. وَكَانَ أحد من روى عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا عبد الله بن عمر، ثمَّ أخبر أَن الله عز وَجل نسخ ذَلِك حِين أنزل على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم فَإِنَّهُم ظَالِمُونَ} (آل عمرَان: 128) . فَصَارَ ذَلِك عِنْد ابْن عمر مَنْسُوخا أَيْضا، فَلم يكن هُوَ يقنت بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ يُنكر على من كَانَ يقنت، وَكَانَ أحد من روى عَنهُ الْقُنُوت عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، فَأخْبر فِي حَدِيثه بِأَن مَا كَانَ يقنت بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دُعَاء على من كَانَ يَدْعُو عَلَيْهِ، وَأَن الله عز وَجل نسخ ذَلِك بقوله: {لَيْسَ لَك من الْأَمر شَيْء أَو يَتُوب عَلَيْهِم أَو يعذبهم} (آل عمرَان: 128) . الْآيَة فَفِي ذَلِك أَيْضا وجوب وجوب ترك الْقُنُوت فِي الْفجْر. فَإِن قلت: قد ثَبت عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يقنت فِي الصُّبْح بعد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف تكون الْآيَة ناسخة لجملة الْقُنُوت؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون نزُول هَذِه الْآيَة لم يكن أَبُو هُرَيْرَة علمه، فَكَانَ يعْمل على مَا علم من فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقنوته إِلَى أَن مَاتَ، لِأَن الْحجَّة لم تثبت عِنْده بِخِلَاف ذَلِك، ألاَ ترى إِلَى أَن عبد الله بن عمر وَعبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، لما علما بنزول هَذِه الْآيَة وعلما كَونهَا ناسخة لما كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يفعل تركا الْقُنُوت.
186 - (حَدثنَا عبد الله بن أبي الْأسود قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل عَن خَالِد الْحذاء عَن أبي قلَابَة عَن أنس رَضِي الله عَنهُ قَالَ كَانَ الْقُنُوت فِي الْمغرب وَالْفَجْر) قد ذكرنَا وَجه إِيرَاد هَذَا الحَدِيث هُنَا فِي أول بَاب مُجَردا. (ذكر رِجَاله) وهم خَمْسَة. الأول عبد الله بن مُحَمَّد ابْن أبي الْأسود وَاسم أبي الْأسود حميد بن الْأسود أَبُو بكر الْبَصْرِيّ مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي إِسْمَاعِيل بن علية. الثَّالِث خَالِد بن مهْرَان الْحذاء. الرَّابِع أَبُو قلَابَة بِكَسْر الْقَاف عبد الله بن زيد بن عَمْرو الْجرْمِي. الْخَامِس أنس بن مَالك رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه القَوْل فِي موضِعين وَفِيه أَن رُوَاته كلهم بصريون وَفِيه أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده والْحَدِيث أخرجه

(6/73)


البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْوتر عَن مُسَدّد عَن ابْن علية قَوْله " كَانَ الْقُنُوت " يَعْنِي فِي أول الْأَمر وَاحْتج بِهَذَا على أَن قَول الصَّحَابِيّ كُنَّا نَفْعل كَذَا لَهُ حكم الرّفْع وَإِن لم يُقَيِّدهُ بِزَمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَالَه الْحَاكِم. ثمَّ اعْلَم أَن عبارَة كَلَام أنس تدل على أَن الْقُنُوت كَانَ فِي صَلَاة الْمغرب وَالْفَجْر ثمَّ ترك وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد حَدثنَا حَمَّاد بن سَلمَة عَن أنس بن سِيرِين عَن أنس بن مَالك " أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قنت شهرا ثمَّ تَركه " انْتهى وَقَوله " ثمَّ تَركه " يدل على أَن الْقُنُوت كَانَ فِي الْفَرَائِض ثمَّ نسخ (فَإِن قلت) قَالَ الْخطابِيّ معنى قَوْله " ثمَّ تَركه " أَي ترك الدُّعَاء على هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل الْمَذْكُورَة فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس أَو ترك الْقُنُوت فِي الصَّلَوَات الْأَرْبَع وَلم يتْركهُ فِي صَلَاة الْفجْر (قلت) هَذَا كَلَام متحكم متعصب بِلَا دَلِيل فَإِن الضَّمِير فِي تَركه يرجع إِلَى الْقُنُوت الَّذِي يدل عَلَيْهِ لفظ قنت وَهُوَ عَام يتَنَاوَل جَمِيع الْقُنُوت الَّذِي كَانَ فِي الصَّلَوَات وَتَخْصِيص الْفجْر من بَينهَا بِلَا دَلِيل فِي اللَّفْظ يدل عَلَيْهِ بَاطِل وَقَوله " أَي ترك الدُّعَاء " لَا يَصح لِأَن الدُّعَاء لم يمض ذكره فِي هَذَا الحَدِيث وَلَئِن سلمنَا فالدعاء هُوَ عين الْقُنُوت وَمَا ثمَّ شَيْء غَيره فَيكون قد ترك الْقُنُوت وَالتّرْك بعد الْعَمَل نسخ (فَإِن قلت) روى عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه أخبرنَا أَبُو جَعْفَر الرَّازِيّ عَن الرّبيع بن أنس عَن أنس بن مَالك " قَالَ مازال رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقنت فِي الْفجْر حَتَّى فَارق الدُّنْيَا " وَمن طَرِيق عبد الرَّزَّاق رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي سنَنه وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه فِي مُسْنده (قلت) قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي الْعِلَل المتناهية هَذَا حَدِيث لَا يَصح فَإِن أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ اسْمه عِيسَى بن ماهان وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ كَانَ يخلط وَقَالَ يحيى كَانَ يخطىء وَقَالَ أَحْمد لَيْسَ بِالْقَوِيّ فِي الحَدِيث وَقَالَ أَبُو زرْعَة كَانَ يتهم كثيرا وَقَالَ ابْن حبَان كَانَ ينْفَرد بِالْمَنَاكِيرِ عَن الْمَشَاهِير انْتهى. وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي شرح الْآثَار وَسكت عَنهُ إِلَّا أَنه قَالَ وَهُوَ معَارض بِمَا رُوِيَ عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِنَّمَا قنت شهرا يَدْعُو على أَحيَاء من الْعَرَب ثمَّ تَركه وروى الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز حَدثنَا شَيبَان بن فروخ حَدثنَا غَالب بن فرقد الطَّحَّان قَالَ كنت عِنْد أنس بن مَالك شَهْرَيْن فَلم يقنت فِي صَلَاة الْغَدَاة انْتهى فَهَذَا يدل على أَن الْقُنُوت كَانَ ثمَّ نسخ إِذْ لَو لم ينْسَخ لم يكن أنس يتْركهُ (فَإِن قلت) قَالَ صَاحب التَّنْقِيح على التَّحْقِيق هَذَا الحَدِيث أَعنِي حَدِيث عبد الرَّزَّاق الْمَذْكُور آنِفا أَجود أَحَادِيثهم وَذكر جمَاعَة وثقوا أَبَا جَعْفَر الرَّازِيّ (قلت) قَالَ هُوَ أَيْضا وَإِن صَحَّ فَهُوَ مَحْمُول على أَنه مازال يقنت فِي النَّوَازِل أَو على أَنه مازال يطول فِي الصَّلَاة فَإِن الْقُنُوت لفظ مُشْتَرك بَين الطَّاعَة وَالْقِيَام والخشوع وَالسُّكُوت وَغير ذَلِك قَالَ الله تَعَالَى {إِن إِبْرَاهِيم كَانَ أمة قَانِتًا لله حَنِيفا} وَقَالَ {أَمن هُوَ قَانِت آنَاء اللَّيْل} وَقَالَ {وَمن يقنت مِنْكُم لله وَرَسُوله} وَقَالَ {يَا مَرْيَم اقنتي} وَقَالَ {وَقومُوا لله قَانِتِينَ} وَقَالَ {وكل لَهُ قانتون} وَفِي الحَدِيث " أفضل الصَّلَاة الْقُنُوت "
799 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ نُعَيْمِ بنِ عَبْدِ الله المُجْمِرِ عنْ عَلِيِّ بنِ يَحْيَى بنِ خَلاَّدٍ الزُّرَقِيِّ عنْ أبِيِهِ عنْ رِفَاعَةَ بنِ رَافِعٍ الزُّرَقِي قالَ كُنَّا يَوْما نُصَلِّي وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ قالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ قالَ رَجُلٌ وَرَاءَهُ رَبَّنَا وَلَكَ الحَمْدُ حَمْدا كَثِيرا طَيِّبا مُبَارَكا فِيهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قالَ مَن المُتَكَلِّمُ قَالَ أَنا قَالَ رَأَيْتُ بِضْعَةً وثَلاَثِينَ ملَكا يَبْتَدِرُونَهَا أيُّهُمْ يَكْتُبُهَا أوَّلُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد بَيناهُ فِي أول الْبَاب.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: مَالك بن أنس. الثَّالِث: نعيم، بِضَم النُّون، ابْن عبد الله المجمر، بِلَفْظ الْفَاعِل من الإجمار، وَقد مر ذكره فِي: بَاب فضل الْوضُوء، وَهُوَ صفة لنعيم ولأبيه أَيْضا. الرَّابِع: عَليّ بن يحيى بن خَلاد، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد اللَّام وبالدال الْمُهْملَة: الزرقي، بِضَم الزَّاي وَفتح الرَّاء وبالقاف: الْأنْصَارِيّ الْمدنِي: مَاتَ سنة تسع وَعشْرين وَمِائَة. الْخَامِس: أَبوهُ يحيى بن خَلاد بن رَافع، حنكه النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. السَّادِس: عَمه رِفَاعَة، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْفَاء وَبعد الْألف عين مُهْملَة:

(6/74)


ابْن رَافع، بالراء وبالفاء: ابْن مَالك الزرقي، شهد الْمشَاهد، رُوِيَ لَهُ أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ حَدِيثا، للْبُخَارِيّ ثَلَاثَة، مَاتَ زمن مُعَاوِيَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: عَن عَليّ بن يحيى، وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة: أَن عَليّ بن يحيى حَدثهُ. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الأكابر عَن الأصاغر، لِأَن نعيما أكبر سنا من عَليّ بن يحيى، وأقدم سَمَاعا مِنْهُ. وَفِيه: رِوَايَة ثَلَاثَة من التَّابِعين فِي نسق وَاحِد، وهم من بَين مَالك والصحابي. وَفِيه: من وَجه رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ، لِأَن يحيى بن خَلاد مَذْكُور فِي الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن مسلمة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ قَوْله: (يَوْمًا) ، يَعْنِي: فِي يَوْم من الْأَيَّام. قَوْله: (قَالَ رجل وَرَاءه) أَي: وَرَاء النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَفظ: وَرَاءه، فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَلَيْسَ بموجود فِي رِوَايَة غَيره، وَالْمرَاد بِهَذَا الرجل هُوَ: رِفَاعَة بن رَافع رَاوِي الْخَبَر، قَالَه ابْن بشكوال، وَاحْتج فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره: عَن قُتَيْبَة عَن رِفَاعَة بن يحيى الزرقي عَن عَم أَبِيه معَاذ بن رِفَاعَة عَن أَبِيه، قَالَ: (صليت خلف النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعطست فَقلت: الْحَمد لله حمدا كثيرا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ، مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يحب ربُّنا ويرضى. فَلَمَّا صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، انْصَرف فَقَالَ: من الْمُتَكَلّم فِي الصَّلَاة؟ فَلم يكلمهُ أحد، ثمَّ قَالَهَا الثَّانِيَة: من الْمُتَكَلّم فِي الصَّلَاة؟ فَقَالَ رِفَاعَة بن رَافع: أَنا يَا رَسُول الله. قَالَ: كَيفَ قلت؟ قَالَ: الْحَمد لله حمدا كثيرا طيبا مُبَارَكًا فِيهِ مُبَارَكًا عَلَيْهِ كَمَا يحب رَبنَا ويرضى، فَقَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لقد رَأَيْت بضعَة وَثَلَاثِينَ ملكا أَيهمْ يصعد بهَا) . انْتهى. قيل: هَذَا التَّفْسِير فِيهِ نظر لاخْتِلَاف الْقِصَّة؟ وَأجِيب بِأَنَّهُ لَا تعَارض بَين الْحَدِيثين لاحْتِمَال أَنه وَقع عطاسه عِنْد رفع رَأس النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر نَفسه فِي حَدِيث الْبَاب لقصد إخفاء عمله وَطَرِيق التَّجْرِيد، وَيجوز أَن يكون بعض الروَاة نسي اسْمه وَذكره بِلَفْظ الرجل، وَأما الزِّيَادَة الَّتِي فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ فلاختصار الرَّاوِي إِيَّاهَا، فَلَا يضر ذَلِك. فَإِن قلت: مَا هَذِه الصَّلَاة الَّتِي ذكرهَا رِفَاعَة بقوله: (كُنَّا نصلي يَوْمًا) ؟ قلت: بَين ذَلِك بشر بن عمر الزهْرَانِي فِي رِوَايَته عَن رِفَاعَة أَن هَذِه الصَّلَاة كَانَت صَلَاة الْمغرب. قَوْله: (حمدا) ، مَنْصُوب بِفعل مُضْمر دلّ عَلَيْهِ. قَوْله: (لَك الْحَمد) . قَوْله: (طيبا) أَي: خَالِصا عَن الرِّيَاء والسمعة. قَوْله: (مُبَارَكًا فِيهِ) ، أَي: كثير الْخَيْر. وَأما قَوْله فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (مُبَارَكًا عَلَيْهِ) ، فَالظَّاهِر أَنه تَأْكِيد للْأولِ:. وَقيل: الأول بِمَعْنى الزِّيَادَة وَالثَّانِي بِمَعْنى الْبَقَاء. قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) أَي: من صلَاته. قَوْله: (قَالَ: من الْمُتَكَلّم؟) أَي: قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الْمُتَكَلّم بِهَذِهِ الْكَلِمَات؟ قَوْله: (بضعَة وَثَلَاثِينَ ملكا) ، ويروى: بضعا وَثَلَاثِينَ) ، والبضع، بِكَسْر الْبَاء وَفتحهَا: هُوَ مَا بَين الثَّلَاث وَالتسع. تَقول بضع سِنِين، وَبضْعَة عشر رجلا وَقَالَ الْجَوْهَرِي، إِذا جَاوَزت الْعشْرَة ذهب الْبضْع، لَا تَقول: بضع وَعِشْرُونَ. قلت: الحَدِيث يرد عَلَيْهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفْصح الفصحاء، وَقد تكلم بِهِ. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تَخْصِيص هَذَا الْعدَد بِهَذَا الْمِقْدَار؟ قلت قد استفتح عَليّ هَهُنَا من الْفَيْض الإلهي أَن حُرُوف هَذِه الْكَلِمَات أَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ حرفا، فَأنْزل الله تَعَالَى بِعَدَد حروفها مَلَائِكَة، فَتكون أَرْبَعَة وَثَلَاثِينَ ملكا فِي مُقَابلَة كل حرف ملك، تَعْظِيمًا لهَذِهِ الْكَلِمَات، وَقس على هَذَا مَا وَقع فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ الَّتِي ذَكرنَاهَا الْآن، وعَلى هَذَا أَيْضا مَا وَقع فِي حَدِيث مُسلم من رِوَايَة أنس: (لقد رَأَيْت اثْنَي عشر ملكا يبتدرونها) . وَفِي حَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد الطَّبَرَانِيّ: (ثَلَاثَة عشر) ، فَإِن قلت: هَؤُلَاءِ الْمَلَائِكَة غير الْحفظَة أم لَا؟ قلت: الظَّاهِر أَنهم غَيرهم، وَيدل عَلَيْهِ حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم عَنهُ مَرْفُوعا: (ان لله مَلَائِكَة يطوفون فِي الطَّرِيق ويلتمسون أهل الذّكر) ، وَقد يسْتَدلّ بِهَذَا أَن بعض الطَّاعَات قد يَكْتُبهَا غير الْحفظَة. قَوْله: (قَالَ: أَنا) ، أَي: قَالَ الرجل: أَنا الْمُتَكَلّم يَا رَسُول الله. فَإِن قلت: كرر صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُؤَاله فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ كَمَا مر، والإجابة كَانَت وَاجِبَة عَلَيْهِ، بل وعَلى غَيره أَيْضا مِمَّن سمع رِفَاعَة، فَإِن سُؤَاله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن لمُعين. قلت: لما لم يكن سُؤَاله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لمُعين لم تتَعَيَّن الْمُبَادرَة بِالْجَوَابِ، لَا من الْمُتَكَلّم وَلَا من غَيره، فكأنهم انتظروا من يُجيب مِنْهُم. فَإِن قلت:

(6/75)


مَا حملهمْ على ذَلِك؟ قلت: خشيَة أَن يَبْدُو فِي حَقه شَيْء، ظنا مِنْهُم أَنه أَخطَأ فِيمَا فعل، ورجاء أَن يَقع الْعَفو عَنهُ، وَالدَّلِيل على ظنهم ذَلِك مَا جَاءَ فِي رِوَايَة ابْن قَانِع، من حَدِيث سعيد بن عبد الْجَبَّار: عَن رِفَاعَة بن يحيى قَالَ رِفَاعَة: (فوددت أَنِّي أخرجت من مَالِي وَأَنِّي لم أشهد مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تِلْكَ الصَّلَاة) . قَوْله: (يبتدرونها) أَي: يسعون فِي الْمُبَادرَة. يُقَال: ابتدروا الصّلاح أَي: سارعوا إِلَى أَخذه، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (أَيهمْ يصعد بهَا أول) . وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ، من حَدِيث أبي أَيُّوب: أَيهمْ، يرفعها. قَوْله: (أَيهمْ) ، بِالرَّفْع على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره هُوَ قَوْله: (يَكْتُبهَا) ، وَيجوز فِي: أَيهمْ، النصب على تَقْدِير: ينظرُونَ أَيهمْ يَكْتُبهَا. وَأي: مَوْصُولَة عِنْد سِيبَوَيْهٍ، وَالتَّقْدِير: يبتدرون الَّذِي هُوَ يَكْتُبهَا أول. قَوْله: (أول) ، مَبْنِيّ على الضَّم بِأَن حذف الْمُضَاف إِلَيْهِ مِنْهُ، تَقْدِيره: أَوَّلهمْ، يَعْنِي: كل وَاحِد مِنْهُم يسْرع ليكتب هَذِه الْكَلِمَات قبل الآخر ويصعد بهَا إِلَى حَضْرَة الله تَعَالَى لعظم قدرهَا. ويروى: (أول) بِالْفَتْح وَيكون حَالا. فَإِن قلت: مَا الْفرق بَين: يَكْتُبهَا أول، وَبَين: يصعد بهَا؟ قلت: يحمل على أَنهم يكتبونها ثمَّ يصعدون بهَا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أصل أول أَو: آل، على وزن أفعل مَهْمُوز الْوسط، فقلبت الْهمزَة واوا وأدغمت الْوَاو فِي الْوَاو، وَقيل: أَصله: وول، على فوعل، فقلبت الْوَاو الأولى همزَة، وَإِذا جعلته صفة لم تصرفه، تَقول: لَقيته عَاما أول، وَإِذا لم تَجْعَلهُ صفة صرفته نَحْو: رَأَيْته أَولا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: ثَوَاب التَّحْمِيد لله وَالذكر لَهُ. وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز رفع الصَّوْت بِالذكر مَا لم يشوش على من مَعَه. وَفِيه: دَلِيل على أَن الْعَاطِس فِي الصَّلَاة يحمد الله بِغَيْر كَرَاهَة، لِأَنَّهُ لم يتعارف جَوَابا، وَلَكِن لَو قَالَ لَهُ آخر: يَرْحَمك الله وَهُوَ فِي الصَّلَاة فَسدتْ صلَاته، لِأَنَّهُ يجْرِي فِي مخاطبات النَّاس، فَكَانَ من كَلَامهم. وَبَعْضهمْ خصص الحَدِيث بالتطوع وَهُوَ غير صَحِيح لما بَينا أَنه كَانَ صَلَاة الْمغرب، وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَن الْعَاطِس يحمد الله فِي نَفسه وَلَا يُحَرك لِسَانه، وَلَو حرك تفْسد صلَاته، كَذَا فِي (الْمُحِيط) : وَالصَّحِيح خلاف، هَذَا كَمَا ذكرنَا. وَفِيه: دَلِيل على أَن من كَانَ فِي الصَّلَاة فَسمع عطسة رجل لَا يتَعَيَّن عَلَيْهِ تشميته، وَلِهَذَا قُلْنَا لَو شمته تفْسد صلَاته.

127 - (بابُ الإطْمَأْنِينَةِ حِينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الإطمئنان حِين يرفع الْمُصَلِّي رَأسه من الرُّكُوع. قَوْله: (الإطمأنينة) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (بَاب الطمانينة) ، وَهِي الْأَصَح، والموجودة فِي اللُّغَة كَمَا ذكرنَا فِي: بَاب حد إتْمَام الرُّكُوع.
وَقَالَ أبُو حُمَيْدٍ رَفَعَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فاسْتَوَى جالِسا حَتَّى يَعُودَ كُلُّ فَقَارٍ مَكَانَهُ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَاسْتَوَى) ، مَعْنَاهُ: فَاسْتَوَى قَائِما. وَقَوله: (جَالِسا) ، لم يَقع إلاّ فِي رِوَايَة كَرِيمَة، وَلَيْسَ لَهُ وَجه إلاّ إِذا أُرِيد بِالْجُلُوسِ السّكُون، فَيكون من بَاب ذكر الْمَلْزُوم وَإِرَادَة اللَّازِم، ومفعول: رفع، مَحْذُوف تَقْدِيره: رفع رَأسه من الرُّكُوع، والفقار، بِفَتْح الْفَاء وَتَخْفِيف الْقَاف جمع: فقارة الظّهْر، وَهِي خرزاته. وَالْمعْنَى: حَتَّى يعود جَمِيع الفقار مَكَانَهُ، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب سنة الْجُلُوس للتَّشَهُّد، على مَا يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

800 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ ثَابِتٍ قَالَ كانَ أنَسٌ يَنْعَتُ لَنَا صَلاَةَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فكانَ يُصلِّي فإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قامَ حَتَّى نَقُولَ قَدْ نَسِيَ (الحَدِيث 800 طرفه فِي: 821) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَأَبُو الْوَلِيد: هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ. وَهَذَا الحَدِيث تفرد بِهِ البُخَارِيّ، وَسَاقه شُعْبَة عَن ثَابت مُخْتَصرا، وَرَوَاهُ حَمَّاد بن زيد مطولا، كَمَا يَأْتِي فِي: بَاب الْمكْث بَين السَّجْدَتَيْنِ. قَوْله: (ينعَت) ، بِفَتْح الْعين: أَي: يصف. قَوْله: (حَتَّى نقُول) ، بِالنّصب: إِلَى أَن نقُول نَحن قد نسي وجوب الْهوى إِلَى السُّجُود، هَكَذَا فسره الْكرْمَانِي. وَقَالَ بَعضهم: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد أَنه نسي أَنه فِي الصَّلَاة، وأظن أَنه وَقت الْقُنُوت، حَيْثُ كَانَ معتدلاً. أَو التَّشَهُّد حَيْثُ كَانَ جَالِسا. قلت: هَذِه الظنون كلهَا لَا تلِيق فِي حق النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا كَانَ تطويله فِي استوائه قَائِما لأجل الطُّمَأْنِينَة والاعتدال.

(6/76)


801 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنِ الحَكَمِ عَن ابنِ أبي لَيْلَى عنِ البَرَاءِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَ رُكُوعُ النبيِّ وَسُجُودُهُ وَإذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ وبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَرِيبا مِنَ السَّوَاءِ. (انْظُر الحَدِيث 792 وطرفه) .

مطابقه للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه لما كَانَ رُكُوعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَرفع رَأسه مِنْهُ قَرِيبا من السوَاء، وَكَانَ يطمئن فِي رُكُوعه وَكَذَلِكَ كَانَ يطمئن فِي رفع رَأسه من رُكُوعه، طابق التَّرْجَمَة من هَذِه الْحَيْثِيَّة. وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب حد إتْمَام الرُّكُوع والاعتدال، غير أَنه رَوَاهُ هُنَاكَ: عَن بدل بن المحبر عَن شُعْبَة عَن الحكم بن عتيبة عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي ليلى ... إِلَى آخِره. وَهَهُنَا: عَن أبي الْوَلِيد عَن شُعْبَة. . إِلَى آخِره. وَذكر هُنَاكَ. قَوْله: (مَا خلا الْقيام وَالْقعُود) ، وَلم يذكرهُ هَهُنَا. وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء.

802 - حدَّثنا سُلَيْمانُ بنُ حَرْبٍ قالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ أيُّوبَ عنْ أبِي قِلاَبَةَ قَالَ كانَ مالِكٌ بنُ الحُوَيْرِثِ يُرِينَا كَيْفَ كانَ صلاةُ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَذَاكَ فِي غَيْرِ وَقْتِ صَلاَةٍ فقَامَ فَأمْكَنَ القِيَامَ ثُمَّ رَكَعَ فَأمْكَنَ الرُّكُوعَ ثُمَّ رفَعَ رَأْسَهُ فَانْصَبَّ هُنَيَّةً قَالَ فَصَلَّى بِنَا صلاَةَ شَيْخِنَا هَذَا أبي بُرَيْدٍ وَكَانَ أَبُو يزِيد إذَا رَفَعَ رأْسَهُ مِنَ السَّجْدَةِ الآخِرَةِ استَوَى قاعِدا ثُمَّ نَهَضَ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ رفع رَأسه فانصب هنيَّة) . وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي: بَاب من صلى بِالنَّاسِ وَهُوَ لَا يُرِيد إلاّ أَن يعلمهُمْ عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل عَن وهيب عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة، وَهَهُنَا: عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد ابْن زيد عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن أبي قلَابَة عبد الله بن زيد الْجرْمِي، وَلَكِن فِي الْمَتْن اخْتِلَاف كَمَا ترى، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء، وَنَذْكُر هَهُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ للِاخْتِلَاف فِي الْمَتْن.
قَوْله: (فِي غير وَقت الصَّلَاة) ويروى: (فِي غير وَقت صَلَاة) ، بِدُونِ الْألف وَاللَّام. قَوْله: (يرينا) ، بِضَم الْيَاء، من الإراءة. قَوْله: (وَذَاكَ) إِشَارَة إِلَى فعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصَّلَاة فِي غير وَقتهَا، لأجل التَّعْلِيم. قَوْله: (فَأمكن) أَي: مكن، يُقَال: مكنه الله من الشَّيْء وَأمكنهُ بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (فانصب) بِفَتْح الصَّاد الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة. قَالَ بَعضهم: هُوَ من الصب. قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل هُوَ من الإنصاب كَأَنَّهُ كنى عَن رُجُوع أَعْضَائِهِ عَن الانحناء إِلَى الْقيام بالانصباب، وَهَذِه هِيَ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة، وَهِي رِوَايَة الْأَكْثَرين. وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فانصت) ، بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق من: الْإِنْصَات، وَهُوَ السُّكُوت. وَقَالَ الْكرْمَانِي: يَعْنِي: لم يكبر للهوي فِي الْحَال، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر، وَالْأَوْجه أَن يُقَال: هُوَ كِنَايَة عَن سُكُون أَعْضَائِهِ، عبر عَن عدم حركتها بالإنصات، وَذَلِكَ دَال على الطمانينة. انْتهى. قلت: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي هُوَ الْأَوْجه لِأَن تَأْخِير تَكْبِير الْهَوِي دَلِيل على الطمانينة، فَلَا حَاجَة إِلَى جعل هَذَا كِنَايَة عَن سُكُون أَعْضَائِهِ، وَلَا يُصَار إِلَى الْمجَاز إلاّ عِنْد تعذر الْحَقِيقَة، كَمَا عرف فِي مَوْضِعه، وَحكى ابْن التِّين أَن بَعضهم ضَبطه بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاة من فَوق الْمُشَدّدَة، ثمَّ قَالَ: أَصله: انصوت، فأبدل من الْوَاو تَاء، ثمَّ أدغمت التَّاء فِي الْأُخْرَى، وَقِيَاس إعلاله: انصات، فتحركت الْوَاو وَانْفَتح مَا قبلهَا فَانْقَلَبت ألفا. قَالَ: وَمعنى إنصات: اسْتَوَت قامته بعد الانحناء، هَذَا كَلَام من لم يذقْ شَيْئا من الصّرْف. وَقَاعِدَة الصّرْف لَا تَقْتَضِي أَن تبدل من الْوَاو تَاء، بل الْقَاعِدَة فِي مثل: انصوت أَن تقلب: الْوَاو، ألفا لتحركها وانفتاح مَا قبلهَا، وَقد قَالَ الْجَوْهَرِي: وَقد أنصت الرجل إِذا اسْتَوَت قامته بعد الانحناء، كَأَنَّهُ أقبل شبابه. قَالَ الشَّاعِر:
(وَنصر بن دهمان الهنيدة عاشها ... وَتِسْعين أُخْرَى ثمَّ قوَّم فانصاتا)

(وَعَاد سَواد الرَّأْس بعد بياضه ... وراجعه شرخ الشَّبَاب الَّذِي فاتا)

(وراجع أيدا، بعد ضعف وَقُوَّة، ... وَلكنه من بعد ذَا كُله مَاتَا)

وَعَن هَذَا عرفت أَن مَا حَكَاهُ ابْن التِّين تَصْحِيف، وَوَقع فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ: (فانتصب قَائِما) ، وَهَذَا أظهر وَأولى

(6/77)


من الْكل. قَوْله: (هنيَّة) ، بِضَم الْهَاء وَفتح النُّون وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: أَي شَيْئا قَلِيلا، وَقد مر تَحْقِيق هَذِه اللَّفْظَة فِي: بَاب مَا يَقُول بعد التَّكْبِير. قَوْله: (قَالَ) أَي: أَبُو قلَابَة. قَوْله: (صَلَاة شَيخنَا) أَي: كَصَلَاة شَيخنَا هَذَا، وَأَشَارَ بِهِ ألى عَمْرو بن سَلمَة الْجرْمِي، وَلَفظه فِي: بَاب من صلى بِالنَّاسِ وَهُوَ لَا يُرِيد إلاّ أَن يعلمهُمْ. قَالَ: مثل شَيخنَا هَذَا، وَكَانَ الشَّيْخ يجلس إِذا رفع رَأسه من السُّجُود قبل أَن ينْهض فِي الرَّكْعَة الأولى. قَوْله: (أبي بريد) كنيته عمور بن سَلمَة، وَقد ذكره فِي ذَلِك بِلَفْظ الشَّيْخ فَقَط، وَهَهُنَا ذكره بِلَفْظ كنيته، وَلم يذكر فِي ذَاك وَلَا فِي هَذَا اسْمه صَرِيحًا، ثمَّ اخْتلفُوا فِي ضبط هَذِه الكنية، فَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: أبي يزِيد، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف بعْدهَا الزَّاي، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ وكريمة، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الرَّاء، وَكَذَا ضَبطه مُسلم فِي (الكنى) وَقَالَ الغساني: هُوَ بالتحتانية وَالزَّاي، من الزِّيَادَة، وَهَكَذَا رُوِيَ عَن البُخَارِيّ من جَمِيع الطّرق، إلاّ مَا ذكره أَبُو ذَر الْهَرَوِيّ عَن الْحَمَوِيّ عَن الْفربرِي فَإِنَّهُ قَالَ: أبي بريد، بِضَم الْبَاء الْمُوَحدَة. وَقَالَ عبد الْغَنِيّ بن سعيد لم أسمعهُ من أحد، إلاّ بالزاي، لَكِن مُسلم أعلم بأسماء الْمُحدثين. قَوْله: (فَكَانَ أَبُو بريد) ، ويروى: (وَكَانَ) ، بِالْوَاو قَوْله: (قَاعِدا) ، حَال من الضَّمِير الَّذِي فِي (اسْتَوَى) . قَوْله: (ثمَّ نَهَضَ) ، يُقَال: نَهَضَ ينْهض نهضا ونهوضا: قَامَ. ونهض النبت: اسْتَوَى.

128 - (بابٌ يَهْوِي بِالتَّكْبِيرِ حِينَ يَسْجُدُ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: يهوي الْمُصَلِّي بِالتَّكْبِيرِ وَقت سجدته. قَوْله: (يهوي) ، رُوِيَ بِضَم الْيَاء وَفتحهَا، وَمعنى يهوي: ينحط، يُقَال: هوى يهوي هويا، بِالْفَتْح إِذا هَبَط، وَهوى يهوى هويا بِالضَّمِّ إِذا صعد. وَقيل بِالْعَكْسِ، وَفِي صفته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَأَنَّمَا يهوي من صبب أَي ينحط. وَفِي حَدِيث الْبراق: (ثمَّ انْطلق يهوي) أَي: يسْرع، وَهُوَ يهوَى هوى: إِذا أحب.
وَقَالَ نافِعٌ كانَ ابنُ عُمَرَ يَضَعُ يدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ اشتمالها عَلَيْهِ لِأَنَّهَا فِي الْهوى بِالتَّكْبِيرِ إِلَى السُّجُود، فالهوي فعل، وَالتَّكْبِير قَول، فَكَمَا أَن حَدِيث أبي هُرَيْرَة الْمَذْكُور فِي هَذَا الْبَاب يدل على القَوْل، يدل أثر ابْن عمر على الْفِعْل، لِأَن للهوي إِلَى السُّجُود صفتين: صفة قولية وَصفَة فعلية، فأثر ابْن عمر إِشَارَة إِلَى الصّفة الفعلية، وَأثر أبي هُرَيْرَة إِلَى الفعلية والقولية جَمِيعًا، فَهَذَا هُوَ السِّرّ فِي هَذَا الْموضع. وَقَول بَعضهم: إِن أثر ابْن عمر من جملَة التَّرْجَمَة فَهُوَ مترجم بِهِ لَا مترجم لَهُ، غير موجه، بل وَلَا يَصح ذَلِك، لِأَنَّهُ إِذا كَانَ من جملَة التَّرْجَمَة يحْتَاج إِلَى شَيْء يذكرهُ يكون مطابقا لَهَا، وَلَيْسَ ذَلِك بموجود، ثمَّ أَن هَذَا الْأَثر الْمُعَلق أخرجه ابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ والطَّحَاوِي من طَرِيق عبد الْعَزِيز الدَّرَاورْدِي، فَقَالَ الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن الْمُغيرَة، قَالَ: حَدثنَا أصبغ بن الْفرج، قَالَ: حَدثنَا الدَّرَاورْدِي عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع (عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: أَنه إِذا كَانَ سجد بَدَأَ بِوَضْع يَدَيْهِ قبل رُكْبَتَيْهِ، وَكَانَ يَقُول: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك) . ثمَّ قَالَ الْبَيْهَقِيّ: رَوَاهُ ابْن وهب وَأصبغ بن الْفرج عَن عبد الْعَزِيز، وَلَا أرَاهُ إلاّ وهما، فَالْمَشْهُور عَن ابْن عمر مَا رَوَاهُ حَمَّاد بن زيد وَابْن علية عَن أَيُّوب عَن نَافِع. عَنهُ قَالَ: (إِذا سجد أحدكُم فليضع يَدَيْهِ، فَإِذا رفع فليرفعهما فَإِن الْيَدَيْنِ يسجدان كَمَا يسْجد الْوَجْه) . قلت: الَّذِي أخرجه الطَّحَاوِيّ أخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه) وَالْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. والْحَدِيث الَّذِي علله بِهِ فِيهِ نظر، لِأَن كلا مِنْهُمَا مُنْفَصِل عَن الآخر. وَقَالَ الْحَازِمِي: اخْتلف أهل الْعلم فِي هَذَا الْبَاب، فَذهب بَعضهم إِلَى أَن وضع الْيَدَيْنِ قبل الرُّكْبَتَيْنِ أولى، وَبِه قَالَ مَالك وَالْأَوْزَاعِيّ وَالْحسن. وَفِي (المغنى) ، وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد وَبِه قَالَ ابْن حزم وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ وَرَأَوا وضع الرُّكْبَتَيْنِ قبل الْيَدَيْنِ أولى. مِنْهُم: عمر بن الْخطاب وَالنَّخَعِيّ وَمُسلم بن يسَار وسُفْيَان بن سعيد وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَإِسْحَاق وَأهل الْكُوفَة. وَفِي (المُصَنّف) زَاد: أَبَا قلَابَة وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَقَالَ أَبُو إِسْحَاق: كَانَ أَصْحَاب عبد الله أذا انحطوا للسُّجُود وَقعت ركبهمْ قبل أَيْديهم، وَحَكَاهُ الْبَيْهَقِيّ أَيْضا عَن ابْن مَسْعُود، وَحَكَاهُ القَاضِي أَبُو الطّيب عَن عَامَّة الْفُقَهَاء، وَحَكَاهُ ابْن بطال عَن ابْن وهب. قَالَ: وَهِي رِوَايَة ابْن شعْبَان عَن مَالك، وَقَالَ قَتَادَة: يضع أَهْون ذَلِك عَلَيْهِ، وَفِي

(6/78)


الأسبيجاني عَن أبي حنيفَة: من آدَاب الصَّلَاة وضع الرُّكْبَتَيْنِ قبل الْيَدَيْنِ، وَالْيَدَيْنِ قبل الْجَبْهَة، والجبهة قبل الْأنف، فَفِي الْوَضع يقدم الْأَقْرَب إِلَى الأَرْض، وَفِي الرّفْع يقدم الْأَقْرَب إِلَى السَّمَاء: الْوَجْه ثمَّ اليدان ثمَّ الركبتان، وَإِن كَانَ لابس خف يضع يَدَيْهِ أَولا.

803 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ حدَّثنا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي أبُو بكْرِ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ الحَارِثِ بنِ هِشَامٍ وَأبُو سَلَمَةَ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كانَ يُكَبِّرُ فِي كلِّ صَلاَةٍ مِن المَكْتُوبَةِ وغيْرِهَا فِي رَمَضَانَ وغَيْرِهِ فيُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْكَعُ ثُمَّ يَقُولُ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ يَقُولُ رَبَّنَا ولَكَ الحَمْدُ قَبْلَ أنْ يَسْجُدَ ثُمَّ يَقُولُ الله أكبَرُ حِينَ يَهْوِي ساجِدا ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَرْفَعُ رَأسَهُ مِنَ السُّجُودِ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَسْجُدُ ثُمَّ يُكَبِّرُ حينَ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ ثُمَّ يُكَبِّرُ حِينَ يَقُومُ مِنَ الجُلُوسِ فِي الاثْنَتَيْنِ ويَفْعَلُ ذلِكَ فِي كلِّ رَكْعَةٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنَ الصَّلاةِ ثُمَّ يَقُولُ حِينَ يَنْصَرِفُ والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنِّي لأَقْرَبُكُمْ شَبَها بِصَلاةِ رَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنْ كانتْ هذِهِ لَصَلاتَهُ حَتَّى فارَقَ الدُّنْيا. قَالَا وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حِين يرفع رَأسه يَقُول سمع الله لمن حَمده رَبنَا وَلَك الْحَمد يَدْعُو لرجال فيسميهم بِأَسْمَائِهِمْ فَيَقُول اللَّهُمَّ أَنْج الْوَلِيد ابْن الْوَلِيد وَسَلَمَة بن هِشَام وَعَيَّاش بن أبي ربيعَة وَالْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر وَاجْعَلْهَا عَلَيْهِم سِنِين كَسِنِي يُوسُف وَأهل الْمشرق يَوْمئِذٍ من مُضر مخالفون لَهُ) مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله " ثمَّ يَقُول الله أكبر حِين يهوي سَاجِدا " (ذكر رِجَاله) وهم سِتَّة كلهم ذكرُوا غيرَة مرّة وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع والإخبار بِصُورَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه ثَلَاثَة بالكنى وَفِيه الزُّهْرِيّ يرْوى عَن اثْنَيْنِ وَفِيه أَن رُوَاته مَا بَين حمصيين ومدنيين والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن أَبِيه وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن نصر بن عَليّ وسوار بن عبد الله (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " أَن أَبَا هُرَيْرَة كَانَ يكبر " وَزَاد النَّسَائِيّ من طَرِيق يُونُس عَن الزُّهْرِيّ حِين اسْتَخْلَفَهُ مَرْوَان على الْمَدِينَة قَوْله " ثمَّ يَقُول الله أكبر " إِنَّمَا قَالَ هُنَا " الله أكبر " بِالْجُمْلَةِ الاسمية وَفِي سَائِر الْمَوَاضِع " ثمَّ يكبر " بِالْجُمْلَةِ الفعلية المضارعية لِأَن سِيَاق الْكَلَام يدل على مَا يدل عَلَيْهِ عقد الْبَاب على هَذَا التَّكْبِير فَأَرَادَ أَن يُصَرح بِمَا هُوَ الْمَقْصُود نصا على لَفْظَة قَوْله " حِين ينْصَرف " أَي من الصَّلَاة قَوْله " إِن كَانَت هَذِه لصلاته " كلمة إِن هَذِه مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة وَأَصلهَا أَنه أَي أَن الشَّأْن وَقَوله " هَذِه " اسْم كَانَت إِشَارَة إِلَى الصَّلَاة الَّتِي صلاهَا أَبُو هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَوله " لصلاته " خبر كَانَت وَاللَّام فِيهِ للتَّأْكِيد وَهِي مَفْتُوحَة وَقَالَ أَبُو دَاوُد فِي سنَنه بعد أَن روى هَذَا الحَدِيث هَذَا الْكَلَام الْأَخير يَجعله مَالك والزبيدي وَغَيرهمَا عَن الزُّهْرِيّ عَن عَليّ بن الْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَعْنِي يَجعله مُرْسلا قَالَه بَعضهم (قلت) هُوَ قسم من أَقسَام المدرج وَلَكِن لَا يلْزم من ذَلِك أَن لَا يكون الزُّهْرِيّ رَوَاهُ أَيْضا عَن أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث وَغَيره عَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَعلي بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب الْقرشِي الْهَاشِمِي أَبُو الْحُسَيْن رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أَو أَبُو الْحسن الْمدنِي وَهُوَ زين العابدين رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَقَالَ أَحْمد بن عبد الله هُوَ تَابِعِيّ ثِقَة توفّي بِالْمَدِينَةِ سنة أَربع وَتِسْعين روى لَهُ الْجَمَاعَة قَوْله " قَالَا " يَعْنِي أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن وَأَبا سَلمَة الْمَذْكُورين وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ

(6/79)


الْمَذْكُور إِلَيْهِمَا قَوْله " يَدْعُو " قَالَ الْكرْمَانِي هُوَ خبر آخر أَو هُوَ عطف على بقول بِدُونِ حرف الْعَطف (قلت) الْأَوْجه أَن يكون حَالا من الضَّمِير الَّذِي فِي يَقُول من الْأَحْوَال الْمقدرَة قَوْله " الرِّجَال " أَي من الْمُسلمين وَاللَّام تتَعَلَّق بقوله " يَدْعُو " قَوْله " فيسميهم " الْفَاء فِيهِ للتفسير قَوْله " أَنْج " بِفَتْح الْهمزَة أَمر من أنجى يُنجي إنجاء وَالْأَمر فِي مثل هَذَا التمَاس وَطلب قَوْله " الْوَلِيد " بِفَتْح الْوَاو وَكسر اللَّام فِي اللَّفْظَيْنِ والوليد بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة بن عبد الله المَخْزُومِي أَخُو خَالِد بن الْوَلِيد أسر يَوْم بدر كَافِرًا فَلَمَّا أفدي أسلم فَقيل لَهُ هلا أسلمت قبل أَن تفتدى فَقَالَ كرهت أَن يظنّ بِي أَنِّي أسلمت جزعا فحبس بِمَكَّة ثمَّ أفلت من أسارتهم بِدُعَاء رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَلحق برَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ الذَّهَبِيّ أسره عبد الله بن جحش يَوْم بدر وذهبوا بِهِ إِلَى مَكَّة فَأسلم فحبسوه بِمَكَّة وَكَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَدْعُو لَهُ فِي الْقُنُوت ثمَّ أَنه نجا فتوصل إِلَى الْمَدِينَة فَمَاتَ بهَا فِي حَيَاة رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قَوْله " وَسَلَمَة بن هِشَام " بِالنّصب عطفا على مَا قبله أَي أَنْج سَلمَة بن هِشَام بن الْمُغيرَة الْمَذْكُور آنِفا أَخُو أبي جهل وَكَانَ قديم الْإِسْلَام وعذب فِي الله ومنعوه أَن يُهَاجر إِلَى الْمَدِينَة قَالَ الذَّهَبِيّ هَاجر إِلَى الْحَبَشَة ثمَّ قدم مَكَّة فمنعوه من الْهِجْرَة وعذبوه ثمَّ هَاجر بعد الخَنْدَق وَشهد مُؤْتَة وَاسْتشْهدَ بمرج الصُّفْرَة وَقيل بأجنادين قَوْله " وَعَيَّاش " بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف شين مُعْجمَة ابْن أبي ربيعَة وَاسم أبي ربيعَة عَمْرو بن الْمُغيرَة الْمَذْكُور وَهُوَ أَخُو أبي جهل أَيْضا لأمه أسلم قَدِيما وأوثقه أَبُو جهل بِمَكَّة قتل يَوْم اليرموك بِالشَّام وَهَؤُلَاء الثَّلَاثَة أَسْبَاط الْمُغيرَة كل وَاحِد مِنْهُم ابْن عَم الآخر قَوْله " وَالْمُسْتَضْعَفِينَ " أَي وأنج الْمُسْتَضْعَفِينَ من الْمُؤمنِينَ وَهُوَ من قبيل عطف الْعَام على الْخَاص عكس قَوْله " وَمَلَائِكَته وَجِبْرِيل " قَوْله " اشْدُد " بِضَم الْهمزَة أَمر من شدّ قَوْله " وطأتك " بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة وَفتح الْهمزَة من الْوَطْء وَهُوَ الدوس بالقدم فِي الأَصْل وَمَعْنَاهُ هَهُنَا خذهم أخذا شَدِيدا وَمِنْه قَول الشَّاعِر
(ووطئتنا وطأ على حنق ... وطأ الْمُقَيد ثَابت الْهَرم)
وَكَانَ حَمَّاد بن سَلمَة يرويهِ اللَّهُمَّ اشْدُد وطأتك على مُضر الوطأ الْإِثْبَات والغمز فِي الأَرْض وَمُضر بِضَم الْمِيم وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة ابْن نزار بن معد بن عدنان وَهُوَ شعب عَظِيم فِيهِ قبائل كَثِيرَة كقريش وهذيل وَأسد وَتَمِيم وضبة ومزبنة والضباب وَغَيرهم وَمُضر شعب رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - واشتقاقه من اللَّبن المضير وَهُوَ الحامض قَالَه ابْن دُرَيْد قَوْله " اجْعَلْهَا " أَي الْوَطْأَة قَوْله " كَسِنِي يُوسُف " أَي كالسنين الَّتِي كَانَت فِي زمن يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام مقحطة وَوجه الشّبَه امتداد زمَان المحنة وَالْبَلَاء وَالْبُلُوغ غَايَة الشدَّة وَالضَّرَّاء وَجمع السّنة بِالْوَاو وَالنُّون شَاذ من جِهَة أَنه لَيْسَ لِذَوي الْعُقُول وَمن جِهَة تغير مفرده بِكَسْر أَوله وَلِهَذَا جعل بَعضهم حكمه كَحكم الْمُفْردَات وَجعل نونه متعقب الْإِعْرَاب كَقَوْل الشَّاعِر
(دَعَاني من نجد فَإِن سنينه ... لعبن بِنَا شيبا وشيبننا مردا)
(ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) فِيهِ إِثْبَات التَّكْبِير فِي كل خفض وَرفع إِلَّا فِي رَفعه من الرُّكُوع يَقُول سمع الله لمن حَمده. وَفِيه فِي قَوْله " ثمَّ يكبر حِين يرْكَع " إِلَى آخِره دَلِيل على مُقَارنَة التَّكْبِير لهَذِهِ الحركات وَبسطه عَلَيْهَا فَيبْدَأ بِالتَّكْبِيرِ حِين يسْرع فِي الِانْتِقَال إِلَى الرُّكُوع ويمده حَتَّى يصل إِلَى حد الراكعين ثمَّ يشرع فِي تَسْبِيح الرُّكُوع وَيبدأ بِالتَّكْبِيرِ حِين يشرع فِي الْهوى إِلَى السُّجُود ويمده حَتَّى يضع جَبهته على الأَرْض ثمَّ يشرع فِي تَسْبِيح السُّجُود. وَفِيه يبْدَأ فِي قَوْله سمع الله لمن حَمده حَتَّى يشرع فِي الرّفْع من الرُّكُوع ويمده حَتَّى ينْتَصب قَائِما. ثمَّ هَل يجمع بَين التسميع والتحميد قد ذكرنَا الْخلاف فِيهِ وَظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنه يجمع بَينهمَا وَعند أبي حنيفَة يَكْتَفِي بالتسميع إِن كَانَ إِمَامًا وَقد مر وَجهه. وَفِيه أَنه يشرع فِي التَّكْبِير للْقِيَام من التَّشَهُّد الأول ويمده حَتَّى ينْتَصب قَائِما هَذَا مَذْهَب الْعلمَاء كَافَّة إِلَّا مَا رُوِيَ عَن عمر بن عبد الْعَزِيز أَنه كَانَ لَا يكبر للْقِيَام من الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى يَسْتَوِي قَائِما وَبِه قَالَ مَالك وَقَالَ الْخطابِيّ فِيهِ إِثْبَات الْقُنُوت وَأَن مَوْضِعه عِنْد الرّفْع من الرُّكُوع وَقد قُلْنَا أَن هَذَا مَنْسُوخ وَبينا وَجهه. وَقَالَ وَفِيه أَن تَسْمِيَة الرِّجَال بِأَسْمَائِهِمْ فِيمَا يدعى لَهُم وَعَلَيْهِم لَا تفْسد الصَّلَاة قُلْنَا النّسخ شَمل الْكل

(6/80)


805 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ غَيْرَ مَرَّةٍ عَن الزُّهْرِيّ قَالَ سَمِعْتُ أنَسَ بنَ مَالِكٍ يَقُولُ سَقَطَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ فَرَسٍ ورُبَّمَا قَالَ سُفْيَانُ مِنْ فَرَسٍ فَجُحِشَ شَقُّهُ الأيْمَنُ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتِ الصَّلاَةْ فَصَلَّى بِنَا قاعَدا وقَعَدْنا. وَقَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً صليْنَا قُعُودا فَلَمَّا قَضَى الصَّلاةَ قَالَ إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإذَا كَبَّرَ فَكَبِّرُوا وإذَا رَكَعَ فارْكَعُوا وإذَا رَفعَ فارْفَعْوا وإذَا قالَ سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنا ولكَ الحَمْدُ وإذَا سجَدَ فاسْجُدوا قَالَ سُفيانُ كَذا جاءَ بهِ مَعْمَرٌ قُلْتُ نَعَمْ قَالَ لَقدْ حَفِظَ كذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ ولَكَ الحمْدُ حَفِظْتُ مِنْ شِقِّهِ الأيْمَنُ فلَمَّا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ الزُّهْرِيِّ قَالَ ابنُ جُرَيْجٍ وأنَا عِنْدَهُ فَجُحِشَ سَاقُهُ الأَيْمَنُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ بالتعسف، لِأَن قَوْله: (وَإِذا سجد فاسجدوا) يَقْتَضِي أَن يسْجد الْقَوْم حِين يسْجد الإِمَام، وَلَا يكون ذَلِك إلاّ بالهوي، وَقد ذكرنَا فِي أول الْبَاب أَن للهوي صفتين: قولية وفعلية، وَحَدِيث أنس هَذَا يدل على الصّفة الفعلية، وَحَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، السَّابِق يدل عَلَيْهِمَا جَمِيعًا، وَكِلَاهُمَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقد علم أَن هوي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى السُّجُود كَانَ مُشْتَمِلًا على الْفِعْل وَالْقَوْل، وَحَدِيث أنس هَذَا أَيْضا يدل عَلَيْهِمَا بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، لِأَنَّهُ يرْوى عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الصَّلَاة وأمورها. فَافْهَم.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عَليّ بن عبد الله بن جَعْفَر أَبُو الْحسن الْمدنِي، يُقَال لَهُ: ابْن الْمَدِينِيّ الْبَصْرِيّ، وَقد مر غير مرّة. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: تَأْكِيد رِوَايَة سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بقوله: غير مرّة، لِأَنَّهُ يدل على التّكْرَار. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بَصرِي ومكي ومدني.
وَقد روى البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن أنس. وَأخرجه أَيْضا عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي هَذَا الْبَاب، وَقد ذكرنَا فِيهِ مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء الَّتِي يحْتَاج إِلَيْهَا، وَنَذْكُر هَهُنَا مَا لم نذْكر هُنَاكَ.
فَقَوله: (رُبمَا) ، كلمة: رُبمَا، فِي الأَصْل للتقليل، وَلَكِن تسْتَعْمل كثيرا للتكثير. قَوْله: (من فرس) يَعْنِي بِلَفْظ: من، لَا بِلَفْظ: عَن، وَفِيه إِشَارَة إِلَى مُحَافظَة عَليّ بن عبد الله على الْإِتْيَان بِأَلْفَاظ الحَدِيث، وتنبيه على تثبته فِي هَذَا الْبَاب. قَوْله: (فجحش) ، بِضَم الجم وَكسر الْحَاء الْمُهْملَة أَي: خدش، وَوَقع فِي قصر الصَّلَاة عَن ابْن عُيَيْنَة بِلَفْظ: (جحش أَو خدش) على الشَّك. قَوْله: (نعوده) ، جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (قعُودا) ، يجوز أَن يكون مصدرا بِمَعْنى: قَاعِدين، وَيجوز أَن يكون جمع قَاعد، كالركوع جمع رَاكِع، وَالسُّجُود جمع ساجد. وعَلى كل حَال انتصابه على الحالية. قَوْله: (قَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (معمر) ، بِفَتْح الميمين ابْن رَاشد الْبَصْرِيّ، أَي: قَالَ سُفْيَان سَائِلًا: من ابْن الْمَدِينِيّ عَليّ بن عبد الله الْمَذْكُور مثل الَّذِي رويته أَنا؟ أوردهُ معمر أَيْضا، وهمزة الِاسْتِفْهَام مقدرَة قبل قَوْله: كَذَا، قَوْله: (قلت: نعم) الْقَائِل عَليّ بن عبد الله. قَوْله: (قَالَ: لقد حفظ) أَي: قَالَ سُفْيَان: وَالله لقد حفظ معمر عَن الزُّهْرِيّ حفظا صَحِيحا مضبوطا. قَوْله: (كَذَا قَالَ الزُّهْرِيّ) أَي: كَمَا قَالَ معمر قَالَ الزُّهْرِيّ: (وَلَك الْحَمد) أَي: بِالْوَاو، وَهَذَا تَفْسِير وَبَيَان لقَوْله: (كَذَا قَالَ) أَي: حفظ كَمَا قَالَ الزُّهْرِيّ بِالْوَاو، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن بعض أَصْحَاب الزُّهْرِيّ لم يذكرُوا الْوَاو فِي: وَلَك الْحَمد، كَمَا وَقع فِي رِوَايَة اللَّيْث وَغَيره عَن الزُّهْرِيّ، وَقد تقدم ذَلِك فِي: بَاب أيجاب التَّكْبِير. قَوْله: (حفظت) ، أَي: قَالَ سُفْيَان: حفظت من الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ فجحش من شقَّه الْأَيْمن، (فَلَمَّا خرجنَا من عِنْد الزُّهْرِيّ قَالَ ابْن جريج) ، وَهُوَ عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج: قَوْله: (وَأَنا عِنْده) أَي: وَأَنا كنت عِنْد الزُّهْرِيّ، فَقَالَ: فجحش سَاقه الْأَيْمن، بِلَفْظ السَّاق بدل الشق، وَقَالَ الْكرْمَانِي: (وَأَنا عِنْده) عطف على مُقَدّر، أَو هُوَ جملَة حَالية من فَاعل قَالَ مُقَدرا، إِذْ تَقْدِيره: قَالَ

(6/81)


الزُّهْرِيّ: وَأَنا عِنْده. وَيحْتَمل أَن يكون هُوَ مقول سُفْيَان لَا مقول ابْن جريج، وَالضَّمِير حِينَئِذٍ رَاجع إِلَى ابْن جريج لَا إِلَى الزُّهْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قلت: يجوز الْوَجْهَانِ، وَلَكِن الْوَجْه الثَّانِي هُوَ الْأَوْجه، ومقول ابْن جريج هُوَ قَوْله: (جحش) إِلَى آخِره.

129 - (بابُ فَضْلِ السُّجُودِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل السُّجُود.

806 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرَنا شُعَيْبٌ عنُ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي سَعيدُ بنُ المُسيَّبِ وعَطَاءُ بنُ يَزِيدَ اللَّيْثِيُّ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ أخْبَرَهُمَا أنَّ النَّاسَ قالُوا يَا رسُولَ الله هَلْ نَرَى رَبَّنا يَوْمَ القِيَامَةِ قَالَ هَل تُمَارُونَ فِي القَمَرِ لَيْلَةَ البَدْرِ لَيْسَ دُونَهُ سَحَابٌ قالُوا لَا يَا رَسولَ الله قَالَ فَهَلْ تُمَارُونَ فِي الشَّمْسِ ليْسَ دُونَهَا سَحَابٌ قَالُوا لاَ قَالَ فَإنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِكَ يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيَقُولُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ شَيْئا فَلِيَتَّبِعْ فَمِنْهُمْ منْ يَتَّبِعُ الشَّمْسَ ومِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ القَمَرَ ومِنْهُمْ مَنْ يَتَّبِعُ الطَّوَاغِيتَ وتَبْقَى هَذِهِ الأُمَّةُ فِيهَا مُنَافِقُوهَا فَيَأْتِيهِمُ الله فَيَقُولُ أنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ هَذَا مَكَانُنَا حَتَّى يَأْتِينَا رَبُّنَا فإذَا جاءَ رَبُّنَا عَرَفْنَاهُ فَيَأتِيهِمُ الله فَيَقُولُ أنَا رَبُّكُمْ فَيَقُولُونَ أنْتَ رَبُّنا فَيَدْعُوهُمْ فَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ جَهَنَّمَ فأكُونُ أوَّلَ مَنْ يَجُوزُ منَ الرُّسُلِ بِأمَّتِهِ وَلا يتَكَلَّمُ يَوْمَئذٍ أحَدٌ إلاّ الرُّسُلُ وكَلامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ وَفي جَهَنَّمَ كَلاَلِيبَ مِثْلَ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأيْتُمْ شَوكَ السَّعْدَانِ قالُوا نَعَمْ قالَ فإنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إلاّ الله تَخْطُفُ النَّاسَ بِأعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ منْ يُوبَقُ بعَمَلِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُخَرْدَلُ ثُمَّ يَنْجُو حَتَّى إذَا أرَادَ الله رَحْمَةَ مَنْ أرَادَ منْ أهْلِ النَّارِ أمَرَ الله المَلاَئِكَةَ أنْ يُخْرِجُوا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ الله فَيُخْرِجُونهُمْ ويَعْرِفُونَهُمْ بِآثَارِ السُّجُودِ وحَرَّمَ الله عَلَى النَّارِ أنْ تَأكُلَ أثَرع السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ فَكُلُّ ابنِ آدَمَ تَأكُلُهُ النَّارُ إلاَّ أثَرَ السُّجُودِ فَيَخْرُجُونَ مِنَ النَّارِ قَدِ امْتَحَشُوا فَيُصَبُّ عَلَيْهِمْ ماءُ الحَيَاةِ فَيَنْبُتُونَ كَما تَنْبُتُ الحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ثُمَّ يَفْرُغُ الله مِنَ القَضَاءِ بَيْنَ العِبَادِ ويَبْقَى رَجُلٌ بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ وَهْوَ آخِرُ أهْلِ النَّارِ دُخُولاً الجَنَّةَ مقْبِلاً بِوَجْهِهِ قِبَلَ النَّارِ فَيَقُولُ يَا رَبِّ اصْرِفْ وَجْهِي عَن النَّارِ قَد قَشَبَنِي رِيحُهَا وأحْرَقَنِي ذَكاؤها فَيَقُولُ هَلْ عسَيْتَ إنْ فُعِلَ ذَلِكَ بِكَ أنْ تَسْألَ غَيْرَ ذَلِكَ فَيَقُولُ لاَ وَعِزَّتِكَ فَيُعْطِي الله مَا يَشَاءُ مِنْ عَهْدٍ ومِيثَاقٍ فَيَصْرِفُ الله وَجْهَهُ عنِ النَّارِ فإذَا أقْبَلَ بِهِ عَلَى الجَنَّةِ رَأي بَهْجَتَهَا سَكَتَ مَا شاءَ الله أنْ يَسْكُتَ ثُمَّ قَالَ يَا رَبِّ قَدِّمْنِي عِنْدَ بَابِ الجَنَّةِ فَيَقُولُ الله لَهُ ألَيْسَ قَدْ أعْطَيْتَ العُهُودَ والمِيثَاقَ أنْ لَا تَسْألَ غَيْرَ الَّذِي كُنْتَ سَألْتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ أكُونُ أشْقَى خَلْقِكَ فَيَقُولُ فَمَا عَسِيتَ إنْ اعْطِيتَ ذَلِكَ أنْ لاَ تَسْألَ غَيْرُهُ فَيَقُولِ لاَ وَعِزَّتِكَ لاَ أسْألُ

(6/82)


غَيْرَ ذَلِكَ فَيُعْطِي رَبَّهُ مَا شَاءَ مِنْ عَهْدٍ وَمِيثَاقٍ فَيُقَدِّمُهُ إلَى بَابِ الجَنَّةِ فَإذَا بَلَغَ بابَهَا فَرَأى زَهْرَتَهَا وَمَا فِيهَا مِنَ النَّضْرَةِ والسُّرُورِ فَيَسْكُتُ مَا شاءَ الله أنْ يَسْكُتَ فَيقُولُ يَا رَبِّ أدْخِلْنِي الجَنَّةَ فَيَقُولُ الله تَعَالَى ويْحَكَ يَا ابنَ آدَمَ مَا أغْدَرَكَ ألَيْسَ قَدْ أعْطَيْتَ العُهُودَ والمِيثَاقَ أنْ لاَ تَسْألَ غَيْرَ الَّذي أُعْطِيتَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لاَ تَجْعَلْنِي أشْقَى خَلْقِكَ فَيَضْحَكُ الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْهُ ثُمَّ يَأذَنُ لَهُ فِي دُخُولِ الجَنَّةِ فَيَقُولُ لَهُ تَمَنَّ فَيَتَمَنَّى حَتَّى إِذا انْقَطَعَتْ أُمْنِيَّتُهُ قَالَ الله عزَّ وجلَّ زِدْ مِن كذَا وكَذا أقْبَلَ يُذَكِّرُهُ رَبُّهُ عزَّ وجلَّ حَتَّى إِذا انْتهَتْ بهِ الأمَانِيُّ قَالَ الله تعالَى لكَ ذَلِكَ وَمِثْلُهُ معَهُ. قالَ أبُو سَعِيدٍ الخُدَرِيُّ لأِبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: قَالَ الله عزَّ وجلَّ لَك ذَلِكَ وعَشرَةَ أمْثالِهِ قالَ أبُو هُرَيْرةَ لَمْ أحفَظْ مِنْ رَسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاّ قَولَهُ لكَ ذَلِكَ وَمِثلُهُ مَعهُ. قَالَ أبُو سعِيدٍ الخُدْرِيُّ إنِّي سَمِعْتُهُ يَقُولُ ذَلِكَ لكَ وَعَشَرَةُ أمْثَالِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَحرم الله على النَّار أَن تَأْكُل أثر السُّجُود) إِلَى قَوْله: فَيخْرجُونَ) .
الصَّلَاة جُزْء 6 حَتَّى ص 83
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان: الحكم بن نَافِع، وَالزهْرِيّ: مُحَمَّد بن مُسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين حمصيين ومدنيين. وَفِيه: ثَلَاثَة من التَّابِعين، وهم: الزُّهْرِيّ وَسَعِيد وَعَطَاء.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي صفة الْجنَّة عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الدَّارمِيّ عَن أبي الْيَمَان بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ وَإِعْرَابه: قَوْله: (هَل نرى) ، أَي: هَل نبصر، إِذْ لَو كَانَ بِمَعْنى الْعلم لاحتاج إِلَى مفعول آخر، وَلما كَانَ للتَّقْيِيد بِيَوْم الْقِيَامَة فَائِدَة. قَوْله: (هَل تمارون) ، بِضَم التَّاء وَالرَّاء، من المماراة من بَاب المفاعلة، وَهِي: المجادلة على مَذْهَب الشَّك والريبة. وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ، بِفَتْح التَّاء وَالرَّاء، وَأَصله: تتمارون من التماري من بَاب التفاعل، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ كَمَا فِي: {نَارا تلظى} (اللَّيْل: 14) . أَصله: تتلظى، وَمعنى التماري: الشَّك، من المرية بِكَسْر الْمِيم وَضمّهَا، وقرىء بهما فِي قَوْله تَعَالَى: {فَلَا تَكُ فِي مرية مِنْهُ} (هود: 17) . قَالَ ثَعْلَب: هما لُغَتَانِ، وثلاثي هَذَا اللَّفْظ: مرىء معتل اللَّام اليائي، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: واشتقاقه من: مرى النَّاقة، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: مريت النَّاقة مريا إِذا مسحت ضرْعهَا لندر، وَأمرت النَّاقة إِذا أدر لَبَنًا. قَوْله: (فَإِنَّكُم تَرَوْنَهُ) أَي: ترَوْنَ الله كَذَلِك، أَي: بِلَا مرية ظَاهرا جليا، وَلَا يلْزم مِنْهُ المشابهة فِي الْجِهَة والمقابلة وَخُرُوج الشعاع ونحوهه. لِأَنَّهَا أُمُور لَازِمَة للرؤية عَادَة لَا عقلا. قَوْله: (يحْشر النَّاس) ، ابْتِدَاء كَلَام مُسْتَقل بِذَاتِهِ. قَوْله: (فَيَقُول) ، أَي: فَيَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى، أَو: فَيَقُول الْقَائِل. قَوْله: (فليتبعه) ، ويروى: (فَليتبعْ) ، بِلَا ضمير الْمَفْعُول. قَوْله: (الطواغيت) ، جمع طاغوت، قَالَ ابْن سَيّده: الطاغوت مَا عبد من دون الله عز وَجل، فَيَقَع على الْوَاحِد وَالْجمع والمذكر والمؤنث، ووزنه: فعلوت، وَإِنَّمَا هُوَ: طغيوت، قدمت الْيَاء قبل الْغَيْن وَهِي مَفْتُوحَة وَقبلهَا فَتْحة فقلبت ألفا. انْتهى. قلت: يُعَكر عَلَيْهِ. قَوْله: (فَمنهمْ من يتبع الشَّمْس وَمِنْهُم من يتبع الْقَمَر) ، وَوجه ذَلِك أَنه يلْزم التّكْرَار، وَقَالَ الْقَزاز: هُوَ فاعول من: طغوت، وَأَصله: طاغوه، فحذفوا وَجعلُوا التَّاء كَأَنَّهَا عوض عَن الْمَحْذُوف، فَقَالُوا: طاغوت، وَإِنَّمَا جَازَ فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث لِأَن الْعَرَب تسمي الكاهن والكاهنة طوغوتا، وَسُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيمَا رَوَاهُ جَابر بن عبد الله عَن الطاغوت الَّتِي كَانُوا يتحاكمون إِلَيْهَا، فَقَالَ: كَانَت فِي جُهَيْنَة وَاحِدَة، وَفِي أسلم وَاحِدَة، وَفِي كل حَيّ وَاحِدَة. وَقيل: الطاغوت الشَّيْطَان. وَقيل: كل معبود من حجر أَو غَيره فَهُوَ جبت وطاغوت. وَفِي (الغريبين) : الطاغوت الصَّنَم. وَفِي (الصِّحَاح) : هُوَ كل رَأس فِي الضلال. وَفِي (المغيث) : هُوَ الشَّيْطَان أَو مَا زين الشَّيْطَان لَهُم أَن يعبدوه، وَفِي (تَفْسِير الطَّبَرِيّ) :

(6/83)


الطاغوت السَّاحر، قَالَه أَبُو الْعَالِيَة وَمُحَمّد بن سِيرِين، وَعَن سعيد بن جُبَير وَابْن جريج: هُوَ الكاهن. وَفِي (الْمعَانِي) للزجاج: الطاغوت مَرَدَة أهل الْكتاب. وَفِي (ديوَان الْأَدَب) : تاؤه غير أَصْلِيَّة. قَوْله: (وَتبقى هَذِه الْأمة فِيهَا منافقوها) أَي: تبقى أمة مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْحَال أَن فيهم منافقيها، فَهَذَا يدل على أَن الْمُنَافِقين يتبعُون مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما انْكَشَفَ لَهُم من الْحَقِيقَة رَجَاء مِنْهُم أَن ينتفعوا بذلك، لأَنهم كَانُوا فِي الدُّنْيَا متسترين بهم فتستروا أَيْضا فِي الْآخِرَة، واتبعوهم زاعمين الِانْتِفَاع بهم حَتَّى ضرب بَينهم بسور لَهُ بَاب، بَاطِنه فِيهِ الرَّحْمَة وَظَاهره من قبله الْعَذَاب. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظن المُنَافِقُونَ أَن تسترهم بِالْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَة يَنْفَعهُمْ كَمَا نفعهم فِي الدُّنْيَا جهلا مِنْهُم، فاختلطوا مَعَهم فِي ذَلِك الْيَوْم، وَيحْتَمل أَن يَكُونُوا حشروا مَعَهم لما كَانُوا يظهرون من الْإِسْلَام، فحفظ ذَلِك عَلَيْهِم حَتَّى ميز الله الْخَبيث من الطّيب، وَيحْتَمل أَنه لما قيل: ليتبع كل أمة لما كَانَت تعبد، والمنافقون لم يعبدوا شَيْئا، فبقوا هُنَالك حيارى حَتَّى ميزوا. وَقيل: هم المطرودون عَن الْحَوْض الْمَقُول فيهم: سحقا سحقا. قَوْله: (فيأتيهم الله عز وَجل) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (فيأتيهم فِي غير الصُّورَة الَّتِي يعْرفُونَ فَيَقُولُونَ: نَعُوذ بِاللَّه مِنْك) . الْإِتْيَان هُنَا إِنَّمَا هُوَ كشف الْحجب الَّتِي بَين أبصارنا وَبَين رُؤْيَة الله عز وَجل، لِأَن الْحَرَكَة والانتقال لَا تجوز على الله تَعَالَى، لِأَنَّهَا صِفَات الْأَجْسَام المتناهية، وَالله تَعَالَى لَا يُوصف بِشَيْء من ذَلِك، فَلم يكن معنى الْإِتْيَان إلاّ ظُهُوره عز وَجل إِلَى أبصار لم تكن ترَاهُ وَلَا تُدْرِكهُ، وَالْعَادَة أَن من غَابَ عَن غَيره لَا يُمكنهُ رُؤْيَته إلاّ بالإتيان، فَعبر بِهِ عَن الرُّؤْيَة مجازآ، لِأَن الْإِتْيَان مُسْتَلْزم للظهور على المأتي إِلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: التَّسْلِيم الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ السّلف أسلم. وَقَالَ عِيَاض: إِن الْإِتْيَان فعل من أَفعَال الله تَعَالَى، سَمَّاهُ إتيانا، وَقيل: يَأْتِيهم بعض مَلَائكَته. قَالَ القَاضِي: وَهَذَا الْوَجْه عِنْدِي أشبه بِالْحَدِيثِ، قَالَ: وَيكون هَذَا الْملك الَّذِي جَاءَهُم فِي الصُّورَة الَّتِي أنكروها من سمات الْحُدُوث الظَّاهِرَة عَلَيْهِ، أَو يكون مَعْنَاهُ: يَأْتِيهم فِي صُورَة لَا تشبه صِفَات الإل هية ليختبرهم، وَهُوَ آخر امتحان الْمُؤمنِينَ، فَإِذا قَالَ لَهُم، هَذَا الْملك أَو هَذِه الصُّورَة: أَنا ربكُم، وَرَأَوا عَلَيْهِ من عَلَامَات الْمَخْلُوق مَا ينكرونه ويعلمون أَنه لَيْسَ رَبهم، فيستعيذون بِاللَّه تَعَالَى مِنْهُ، وَقَالَ الْخطابِيّ: الرُّؤْيَة هِيَ ثَوَاب الْأَوْلِيَاء وكرامات لَهُم فِي الْجنَّة غير هَذِه الرُّؤْيَة، وَإِنَّمَا تعريضهم هَذِه الرُّؤْيَة امتحان من الله تَعَالَى ليَقَع التَّمْيِيز بَين من عبد الله وَبَين من عبد الشَّمْس وَنَحْوهَا، فَيتبع كل من الْفَرِيقَيْنِ معبوده، وَلَيْسَ يُنكر أَن يكون الامتحان إِذْ ذَاك بعد قَائِما، وَحكمه على الْخلق جَارِيا حَتَّى يفرغ من الْحساب، وَيَقَع الْجَزَاء بالثواب وَالْعِقَاب، ثمَّ يَنْقَطِع إِذا حققت الْحَقَائِق. واستقرت أُمُور الْمعَاد، وَأما ذكر الصُّورَة فَإِنَّهَا تَقْتَضِي الْكَيْفِيَّة وَالله منزه عَن ذَلِك، فيأول إِمَّا بِأَن تكون الصُّورَة بِمَعْنى الصّفة، كَقَوْلِك: صُورَة هَذَا الْأَمر كَذَا، تُرِيدُ صفته. وَإِمَّا بِأَنَّهُ خرج على نوع من الْمُطَابقَة، لِأَن سَائِر المعبودات الْمَذْكُورَة لَهَا صُورَة: كَالشَّمْسِ وَغَيرهَا. قَوْله: (هَذَا مَكَاننَا) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر، إِنَّمَا قَالُوا: هَذَا مَكَاننَا من أجل أَن مَعَهم من الْمُنَافِقين الَّذين لَا يسْتَحقُّونَ الرُّؤْيَة وهم عَن رَبهم محجوبون، فَلَمَّا تميزوا عَنْهُم ارْتَفع الْحجاب، فَقَالُوا عِنْدَمَا رَأَوْهُ: أَنْت رَبنَا، وَإِنَّمَا عرفُوا أَنه رَبهم حَتَّى قَالُوا: أَنْت رَبنَا، إِمَّا بِخلق الله تَعَالَى فيهم علما بِهِ، وَإِمَّا بِمَا عرفُوا من وصف الْأَنْبِيَاء لَهُم فِي الدُّنْيَا، وَإِمَّا بِأَن جَمِيع الْعُلُوم يَوْم الْقِيَامَة تصير ضَرُورِيَّة. قَوْله: (فيأتيهم الله، عز وَجل، فَيَقُول: أَنا ربكُم) ، إِنَّمَا كرر هَذَا اللَّفْظ لِأَن الأول: ظُهُور غير وَاضح لبَقَاء بعض الْحجب مثلا، وَالثَّانِي: ظُهُور وَاضح فِي الْغَايَة، أبهم أَولا ثمَّ فسره ثَانِيًا بِزِيَادَة بَيَان قَوْلهم، وَذكر الْمَكَان ودعوتهم إِلَى دَار السَّلَام. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَو يُرَاد من الأول إتْيَان الْملك فَفِيهِ إِضْمَار. وَقَالَ: فَإِن قلت: الْملك مَعْصُوم، فَكيف يَقُول: أَنا ربكُم، وَهُوَ كذب؟ قلت: قيل: لَا نسلم عصمته من مثل هَذِه الصَّغِيرَة، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَجَاز لامتحان الْمُؤمنِينَ. وَقَالَ: فَإِن قلت: المُنَافِقُونَ لَا يرَوْنَ الله، فَمَا تَوْجِيه الحَدِيث؟ قلت: لَيْسَ فِيهِ التَّصْرِيح برؤيتهم، وَإِنَّمَا فِيهِ أَن الْأمة ترَاهُ، وَهَذَا لَا يقتي أَن يرَاهُ جَمِيعهَا، كَمَا يُقَال: قَتله بَنو تَمِيم، وَالْقَاتِل وَاحِد مِنْهُم، ثمَّ لَو ثَبت التَّصْرِيح بِهِ عُمُوما فَهُوَ مُخَصص بِالْإِجْمَاع، وَسَائِر الْأَدِلَّة، أَو خُصُوصا فَهُوَ معَارض بِمِثْلِهَا، وَهَذَا من المتشابهات فِي أَمْثَالهَا. وَالْأمة طَائِفَتَانِ: مفوضة يفوضون الْأَمر فِيهَا إِلَى الله تَعَالَى جازمين بِأَنَّهُ منزه عَن النقائص، ومأولة يأولونها على مَا يَلِيق بِهِ. قَوْله: (فيدعوهم) أَي: فيدعوهم الله تَعَالَى. قَوْله: (فَيضْرب الصِّرَاط) ، ويروى: (وَيضْرب الصِّرَاط) بِالْوَاو، وَفِي بعض النّسخ: (ثمَّ يضْرب الصِّرَاط) ، والصراط: جسر مَمْدُود على متن جَهَنَّم أدق من الشّعْر وأحدّ من السَّيْف، عَلَيْهِ مَلَائِكَة يحبسون الْعباد فِي سبع مَوَاطِن ويسألونهم عَن سبع خِصَال: فِي الأول عَن الْإِيمَان، وَفِي الثَّانِي عَن الصَّلَاة، وَفِي الثَّالِث عَن الزَّكَاة، وَفِي الرَّابِع عَن شهر رَمَضَان، وَفِي الْخَامِس

(6/84)


عَن الْحَج وَالْعمْرَة، وَفِي السَّادِس عَن الْوضُوء، وَفِي السَّابِع عَن الْغسْل من الْجَنَابَة. قَوْله: (بَين ظهراني جَهَنَّم) ، كَذَا فِي رِوَايَة العذري، وَفِي رِوَايَة غَيره: (بَين ظَهْري جَهَنَّم) . وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: أَي على وَسطهَا، يُقَال: نزلت بَين ظهريهم وظهرانيهم، بِفَتْح النُّون أَي: فِي وَسطهمْ متمسكا بَينهم لَا فِي أَطْرَافهم، وَالْألف وَالنُّون زيدتا للْمُبَالَغَة. وَقيل: لفظ الظّهْر مقحم وَمَعْنَاهُ: يمد الصِّرَاط عَلَيْهَا. قَوْله: (فَأَكُون أول من يُجِيز من الرُّسُل بأمته) ، بِضَم الْيَاء وَكسر الْجِيم، ثمَّ زَاي بِمَعْنى: أول من يمْضِي عَلَيْهِ ويقطعه، يُقَال: أجزت الْوَادي وجزته: لُغَتَانِ بِمَعْنى، وَقَالَ الْأَصْمَعِي: أجزته قطعته، وجزته مشيت عَلَيْهِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: إِذا كَانَ رباعيا مَعْنَاهُ: لَا يجوز أحد على الصِّرَاط حَتَّى يجوز صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأمته، فَكَأَنَّهُ يُجِيز النَّاس. وَفِي (الْمُحكم) : جَازَ الْموضع جوزا وجوزا وجوازا ومجازا، وجاوزه وَأَجَازَ جَوَازًا وَأَجَازَهُ وَأَجَازَ غَيره، وَقيل: جازه سَار فِيهِ، وَأَجَازَهُ خَلفه وقطعه، وَأَجَازَهُ: أنفذه. قَوْله: (وَلَا يتَكَلَّم يَوْمئِذٍ أحد) أَي: لشدَّة الْأَهْوَال، وَالْمرَاد: لَا يتَكَلَّم فِي حَال الْإِجَازَة وإلاّ فَفِي يَوْم الْقِيَامَة مَوَاطِن يتَكَلَّم النَّاس فِيهَا. وتجادل كل نفس عَن نَفسهَا. قَوْله: (سلم سلم) ، هَذَا من الرُّسُل لكَمَال شفقتهم ورحمتهم لِلْخلقِ. قَوْله: (كلاليب) ، جمع كَلوب، بِفَتْح الْكَاف وَضم اللَّام الْمُشَدّدَة. وَفِي (الْمُحكم) : الْكلاب والكلوب: السفود، لِأَنَّهُ يعلق الشواء، ويتحلله هَذِه عَن اللحياني، وَالْكلاب والكلوب: حَدِيدَة مقطوفة كالخطاف. وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي: الكلوب: المنشال. والخطاف، وَكَذَلِكَ الْكلاب. قَوْله: (مثل شوك السعدان) ، قَالَ أَبُو حنيفَة فِي (كتاب النَّبَات) : واحده سعدانة، وَقَالَ أَبُو زِيَاد فِي (الْأَحْرَار) : السعدان ضرب الْمثل بِهِ: مرعى وَلَا كالسعدان. وَهِي غبراء اللَّوْن حلوة يأكلها كل شَيْء، وَلَيْسَت كَبِيرَة، وَلها إِذا يَبِسَتْ شَوْكَة مفلطحة كَأَنَّهَا دِرْهَم، وَهِي شَوْكَة ضَعِيفَة. ومنابت السعدان السهول، وَقيل: للسعدان شوك كحسك القطب مفلطح كالفلكة، وَقَالَ الْمبرد: هُوَ نبت كثير الحسك، وَقَالَ الْأَخْفَش: لَا سَاق لَهُ. وَفِي (الْجَامِع) للقزاز: شوك وحسك عريض. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ نبت لَهُ شوك عَظِيم من كل الجوانب مثل الحسك، وَهُوَ أفضل مرَاعِي الْإِبِل وَيُقَال: مرعى وَلَا كالسعدان. قَوْله: (لَا يعلم قدر عظمها إلاّ الله) وَفِي بعض النّسخ: (لَا يعلم مَا قدر عظمها إلاّ الله) . وتوجيهه على هَذَا مَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ،. وَهُوَ: أَن يكون لفظ: قدر، مَرْفُوعا على أَنه مُبْتَدأ، وَلَفظ: مَا، استفهاما مقدما خَبره: قَالَ: وَيجوز أَن تكون: مَا، زَائِدَة وَيكون: قدر، مَنْصُوبًا على أَنه مفعول: لَا يعلم. قَوْله: (تخطف النَّاس) ، قَالَ ثَعْلَب فِي (الفصيح) : خطف بِكَسْر الْعين فِي الْمَاضِي، وَفتحهَا فِي الْمُسْتَقْبل وَحكى غُلَامه والقزاز عَنهُ: خطف، بِكَسْر الْعين فِي الْمَاضِي وَكسرهَا فِي الْمُسْتَقْبل، وحكاها الْجَوْهَرِي عَن الْأَخْفَش. وَقَالَ: هِيَ قَليلَة رَدِيئَة لَا تكَاد تعرف. قَالَ: وَقد قَرَأَ بهما يُونُس فِي قَوْله تَعَالَى: {يخطف أبصاركم} (الْبَقَرَة: 20) . وَفِي (الواعي) : الخطف الْأَخْذ بِسُرْعَة على قدر ذنوبهم. قَوْله: (من يوبق) ، قَالَ ابْن قرقول: بباء مُوَحدَة عِنْد العذري، وَمَعْنَاهُ: يهْلك، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول من: وبق الرجل إِذا هلك، وأوبقه الله إِذا أهلكه، وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ: بثاء مُثَلّثَة من الوثاق، قَوْله: (من يخردل) أَي: يقطع، يُقَال: خردات اللَّحْم بِالدَّال والذال: أَي قطعته قطعا صغَارًا. وَقَالَ ابْن قرقول: يخردل، كَذَا هُوَ لكافة الروَاة، وَهُوَ الصَّوَاب إلاّ الْأصيلِيّ فَإِنَّهُ ذكره بِالْجِيم، وَمَعْنَاهُ: الإشراف على السُّقُوط والهلكة. وَفِي (الْمُحكم) : خَرْدَل اللَّحْم قطع أعضاءه وأفراه. وَقيل: خَرْدَل اللَّحْم وقطعه وفرقه، والذال فِيهِ لُغَة، وَلحم خراديل، والمخردل المصروع. وَفِي (الصِّحَاح) : خَرْدَل اللَّحْم أَي: قطعه صغَارًا، وَعند أبي عبيد الْهَرَوِيّ: المخردل المرمى المصروع، وَالْمعْنَى أَنه تقطعه كلاليب الصلاط حَتَّى يهوي إِلَى النَّار. وَقَالَ اللَّيْث وَأَبُو عبيد: خردلت اللَّحْم إِذا فصلت أعضاءه، وَزَاد أَبُو عبيد: وخردلته بِالدَّال والذال: قطعته وفرقته. قَوْله: (مَن أَرَادَ) كلمة: من، مَوْصُولَة: أَي: إِذا أَرَادَ الله تَعَالَى رَحْمَة الَّذِي أَرَادَهُم من أهل النَّار وهم الْمُؤْمِنُونَ الخلص، إِذْ الْكَافِر لَا ينجو أبدا من النَّار وَيبقى خَالِدا فِيهَا. قَوْله: (بآثار السُّجُود) ، اخْتلف فِي المُرَاد بهَا، فَقيل: هِيَ الْأَعْضَاء السَّبْعَة، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر، وَقَالَ عِيَاض: المُرَاد الْجَبْهَة خَاصَّة، وَيُؤَيّد هَذَا مَا فِي رِوَايَة مُسلم: أَن قوما يخرجُون من النَّار يحترقون فِيهَا ألاّ دارات وُجُوههم. قَوْله: (فَكل ابْن آدم) أَي: فَكل أَعْضَاء ابْن آدم. قَوْله: (إلاّ أثر السُّجُود) أَي: مَوَاضِع أَثَره. قَوْله: (قد امتحشوا) ، بتاء مثناة من فَوق مَفْتُوحَة وحاء مُهْملَة وشين مُعْجمَة، وَمَعْنَاهُ: احترقوا ويروى بِضَم التَّاء وَكسر الْحَاء، وَفِي بعض الرِّوَايَات صَارُوا حمما. وَفِي (الْمُحكم) : المحش: تنَاول من لَهب يحرق الْجلد ويبدي الْعظم. وَفِي (الْجَامِع) : محشته النَّار تمحشه محشا: إِذا أحرقته.

(6/85)


وَحكى: أمحشته. وَقَالَ الدَّاودِيّ: امتحشوا: انقبضوا واسودوا. قَوْله: (مَاء الْحَيَاة) هُوَ الَّذِي من شربه أَو صب عَلَيْهِ لم يمت أبدا. قَوْله: (كَمَا تنْبت الْحبَّة) ، بِكَسْر الْحَاء هُوَ: بزور الصَّحرَاء مِمَّا لَيْسَ بقوت، وَوجه الشّبَه فِي سرعَة النَّبَات، وَيُقَال: شبه نَبَاته بنبات الْحبَّة لبياضها ولسرعة نباتها لِأَنَّهَا تنْبت فِي يَوْم وَلَيْلَة، لِأَنَّهَا رويت من المياء وترددت فِي غثاء السَّيْل. قَوْله: (فِي حميل السَّيْل) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَكسر الْمِيم، وَهُوَ مَا جَاءَ بِهِ السَّيْل من طين وَنَحْوه. قَوْله: (ثمَّ يفرغ الله من الْقَضَاء) ، اسناد الْفَرَاغ إِلَى الله لَيْسَ على سَبِيل الْحَقِيقَة، إِذْ الْفَرَاغ هُوَ الْخَلَاص عَن المهام، وَالله تَعَالَى لَا يشْغلهُ شَأْن عَن شَأْن، وَالْمرَاد مِنْهُ إتْمَام الحكم بَين الْعباد بالثواب وَالْعِقَاب. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ كمل خُرُوج الْمُوَحِّدين من النَّار. قَوْله: (دُخُولا) نصب على التَّمْيِيز، وَيجوز أَن يكون حَالا، على أَن يكون: دُخُولا، بِمَعْنى: دَاخِلا. قَوْله: (الْجنَّة) ، بِالنّصب على أَنه مفعول: دُخُولا. قَوْله: (مُقبلا) نصب على أَنه حَال من الْأَحْوَال المترادفة أَو المتداخلة، ويروى: (مقبل) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أَي: هُوَ مقبل بِوَجْهِهِ إِلَى جِهَة النَّار. قَوْله: (قد قشبني) ، بِفَتْح الْقَاف والشين الْمُعْجَمَة المخففة الْمَفْتُوحَة وبالباء الْمُوَحدَة، وَقَالَ السفاقسي: كَذَا هُوَ عِنْد الْمُحدثين، وَكَذَا ضَبطه بَعضهم، وَالَّذِي فِي اللُّغَة الشين وَمَعْنَاهُ سمني، وَقَالَ الفارابي فِي بَاب: فعل، بِفَتْح الْعين من الْمَاضِي وَكسرهَا من الْمُسْتَقْبل، قشبه، أَي: سقَاهُ السم، وقشب طَعَامه أَي: سمه. وَفِي (الْمُنْتَهى) لأبي الْمَعَالِي: القشب أخلاط تخلط للنسر فيأكلها فَيَمُوت، فَيُؤْخَذ ريشه. يُقَال لَهُ: ريش قشيب ومقشوب، وكل مَسْمُوم قشيب، وَقَالَ أَبُو عمر: القشب هُوَ السم، وقشبه سقَاهُ السم، وَفِي (النَّوَادِر) للهجري: وَمعنى القشب هُوَ السم لغير النَّاس، يقشب بِهِ السبَاع وَالطير فيقتلها. وَفِي (الْمُحكم) : القشب والقشيب: السم، وَالْجمع أقشاب، وقشب لَهُ: سقَاهُ السم، وقشب الطَّعَام يقشبه قشبا: إِذا لطخ بالسم. وَفِي (كتاب ابْن طريف) : أقشب الشَّيْء إِذا خالطه بِمَا يُفْسِدهُ من سم أَو غَيره، وَعند أبي حنيفَة القشب: نَبَات يقتل الطير. وَقَالَ الْخطابِيّ: يُقَال قشبه الدُّخان إِذا مَلأ خياشيمه، وَأخذ بكظمه وَهُوَ انْقِطَاع نَفسه، وَأَصله: خلط السم. يُقَال: قشبه إِذا سمه، وَمِنْه حَدِيث عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَنه كَانَ بِمَكَّة فَوجدَ ريح طيب، فَقَالَ: من قشبنا؟ فَقَالَ مُعَاوِيَة: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ دخلت على أم حَبِيبَة فطيبتني) . قَوْله: (وأحرقني ذكاؤها) قَالَ النَّوَوِيّ: كَذَا وَقع فِي جَمِيع الرِّوَايَات فِي هَذَا الحَدِيث: (ذكاؤها) بِالْمدِّ وبفتح الذَّال الْمُعْجَمَة وَمَعْنَاهُ: لهبها واشتعالها وَشدَّة وهجها، وَالْأَشْهر فِي اللُّغَة: ذكاها، مَقْصُورا، وَذكر جماعات أَن الْمَدّ وَالْقصر لُغَتَانِ. انْتهى. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَفِيه نظر. قلت: ذكر وَجه النّظر وَهُوَ أَنه عد كتبا عديدة فِي اللُّغَة وشروح دواوين الشُّعَرَاء، ثمَّ قَالَ: وَكلهمْ نصوا على قصره لَا يذكرُونَ الْمَدّ فِي ورد وَلَا صدر، حاشا مَا وَقع فِي (كتاب النَّبَات) لأبي حنيفَة الدينَوَرِي، فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَوضِع السعار: حر النَّار وذكااؤها، وَفِي آخر: ولهبها ذكاء لهبها، وَفِي مَوضِع آخر: مَعَ ذكاء وقودها، وَفِي آخر: وَقد ضربت الْعَرَب الْمثل بجمر الغضا لذكائه، ورد عَلَيْهِ أَبُو الْقَاسِم عَليّ بن حَمْزَة الْأَصْبَهَانِيّ فَقَالَ: كل هَذَا غلط، لِأَن ذكاء النَّار مَقْصُور يكْتب بِالْألف. لِأَنَّهُ من الواوي من قَوْلهم: ذكت النَّار تذكو وذكو النَّار وذكاكها بِمَعْنى، وَهُوَ التهابها. وَيُقَال أَيْضا: ذكت النَّار تذكو ذكوا وذكوا، فَأَما ذكاء بِالْمدِّ فَلم يَأْتِ عَنْهُم بِالْمدِّ فِي النَّار، وَإِنَّمَا جَاءَ فِي الْفَهم. قَوْله: (هَل عَسَيْت) ، بِفَتْح السِّين ذكره صَاحب (الفصيح) ، وَفِي (الموعب) : لم يعرف الْأَصْمَعِي: عَسَيْت، بِالْكَسْرِ، قَالَ: وَقد ذكره بعض الْقُرَّاء وَهُوَ خطأ، وَعَن الْفراء: لَعَلَّهَا لُغَة نادرة. وَفِي (شرح المطرزي) عَن الْفراء: كَلَام الْعَرَب العالي: عَسَيْت، بِفَتْح السِّين، وَمِنْهُم من يَقُول: عَسَيْت، وَقَالَ ابْن درسْتوَيْه فِي كِتَابه: (تَصْحِيح الفصيل) : الْعَامَّة تَقول: عَسَيْت، بِكَسْر السِّين وَهِي لُغَة شَاذَّة، وَقَالَ ابْن السّكيت فِي كِتَابه: (فعلت وأفعلت) : عَسَيْت، بِالْكَسْرِ لُغَة رَدِيئَة. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: وَيَقُولُونَ: مَا عَسَيْت، وإلأجود الْفَتْح، كَذَا قَالَه ثَابت (فِيمَا يلحن فِيهِ) . وَقَالَ أَبُو عبيد بن سَلام فِي كِتَابه (فِي الْقرَاءَات) : كَانَ نَافِع يقْرَأ عسيتم، بِالْكَسْرِ، وَالْقِرَاءَة عندنَا بِالْفَتْح، لِأَنَّهَا أعرب اللغتين، وَلَو كَانَت: عسيتم، بِالْكَسْرِ لقرىء: عَسى رَبنَا، أَيْضا، وَهَذَا الْحَرْف لَا نعلمهُمْ اخْتلفُوا فِي فَتحه، وَكَذَلِكَ سَائِر الْقُرْآن، ثمَّ إعلم أَن: عَسى، من الْآدَمِيّين يكون للترجي وَالشَّكّ، وَمن الله للْإِيجَاب وَالْيَقِين. قَوْله: (ذَلِك) إِشَارَة إِلَى الصّرْف الَّذِي يدل عَلَيْهِ. قَوْله: (إصرف وَجْهي عَن النَّار) . قَوْله: (فيعطي الله) مَفْعُوله مَحْذُوف أَي: فيعطي الرجل الْمَذْكُور. قَوْله: (مَا شَاءَ) ويروى (مَا يَشَاء) ، بياء المضارعة. قَوْله: (الْعَهْد والميثاق) ، الْعَهْد: يَأْتِي لمعان، بِمَعْنى: الْحفاظ، ورعاية الْحُرْمَة والذمة والأمان وَالْيَمِين وَالْوَصِيَّة، والميثاق، الْعَهْد أَيْضا، وَهُوَ على وزن مفعال، من الوثاق، وَهُوَ فِي

(6/86)


الأَصْل حَبل أَو قيد يشد بِهِ الْأَسير أَو الدَّابَّة. قَوْله: (بهجتها) أَي: حسنها ونضارتها. قَوْله: (لَا أكون أَشْقَى خلقك) قَالَ السفاقسي: كَذَا هُنَا
(لأَكُون) وَفِي رِوَايَة أبي الْحسن: (لاأكونن) ، وَالْمعْنَى: إِن أَنْت أبقيتني على هَذِه الْحَالة وَلَا تدخلني الْجنَّة لأكونن أَشْقَى خلقك الَّذين دخلوها، وَالْألف زَائِدَة يَعْنِي فِي قَوْله: (لَا أكون أَشْقَى خلقك) وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (لَا أكون أَشْقَى خلقك) أَي: كَافِرًا، ثمَّ قَالَ: فَإِن قلت: كَيفَ طابق هَذَا الْجَواب لفظ: (أَلَيْسَ قد أَعْطَيْت العهود) ؟ قلت: كَأَنَّهُ قَالَ: يَا رب أَعْطَيْت، لَكِن كرمك يطمعني إِذْ لَا ييأس من روح الله إلاّ الْقَوْم الْكَافِرُونَ. قَوْله: (فَمَا عَسَيْت إِن أَعْطَيْت ذَلِك) كلمة: مَا استفهامية، وَاسم: عَسى، هُوَ الضَّمِير، وَخَبره هُوَ قَوْله: (أَن تسْأَل) وَقَوله: (إِن أَعْطَيْت) جملَة مُعْتَرضَة، وَهُوَ على صِيغَة الْمَجْهُول، وَقَوله: (ذَلِك) مفعول ثَان: لأعطيت، أَي: إِن أَعْطَيْت الْقَدِيم إِلَى بَاب الْجنَّة. وَقَوله: (غَيره) مفعول (أَن تسْأَل) أَي: غير التَّقْدِيم إِلَى بَاب الْجنَّة. وَكلمَة: (إِن) فِي: (إِن أَعْطَيْت) مَكْسُورَة، وَهِي شَرْطِيَّة وَالَّتِي فِي: (أَن تسْأَل) مَفْتُوحَة مَصْدَرِيَّة ويروى: (أَن لَا تسْأَل) ، بِزِيَادَة لَفْظَة: لَا، ووجهها، إِمَّا أَن تكون زَائِدَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {لِئَلَّا يعلم أهل الْكتاب} (الْحَدِيد: 29) . وَإِمَّا أَن تكون على أَصْلهَا، وَتَكون كلمة: (مَا) فِي قَوْله: (فَمَا عَسَيْت) نَافِيَة، وَنفي النَّفْي إِثْبَات. وَقَالَ الْكرْمَانِي هُنَا فَإِن قلت: كَيفَ يَصح هَذَا من الله تَعَالَى وَهُوَ عَالم بِمَا كَانَ وَمَا يكون؟ قلت: مَعْنَاهُ أَنكُمْ يَا بني آدم لما عهد عَنْكُم نقض الْعَهْد أحقاء بِأَن يُقَال لكم ذَلِك، وَحَاصِله أَن معنى: عَسى، رَاجع إِلَى الْمُخَاطب لَا إِلَى الله تعالي. قَوْله: (فَيَقُول: لَا) أَي: فَيَقُول الرجل: لَا يَا رب لَا أسأَل غَيره وَحقّ عزتك. قَوْله: (فيعطي ربه) أَي: فيعطي الرجل ربه مَا شَاءَ من الْعَهْد والميثاق. قَوْله: (فَإِذا بلغ بَابهَا) أَي: بَاب الْجنَّة. قَوْله: (فَرَأى زهرتها) عطف على: بلغ، وَجَوَاب: إِذا مَحْذُوف تَقْدِيره: فَإِذا بلغ إِلَى آخِره سكت، ثمَّ بَين سُكُوته بقوله: (فيسكت) ، بِالْفَاءِ التفسيرية، ثمَّ إِن سُكُوته بِمِقْدَار مَشِيئَة الله تَعَالَى إِيَّاه، وَهُوَ معنى قَوْله: (فيسكت مَا شَاءَ الله أَن يسكت) وَكلمَة: أَن، هَذِه مَصْدَرِيَّة أَي: مَا شَاءَ الله سُكُوته. وَقَالَ الكلاباذي: إمْسَاك العَبْد عَن السُّؤَال حَيَاء من ربه، عز وَجل، وَالله تَعَالَى يحب سُؤَاله لِأَنَّهُ يحب صَوته، فيباسطه بقوله: لَعَلَّك إِن أَعْطَيْت هَذَا تسْأَل غَيره؟ وَهَذِه حَال المقصر، فَكيف حَال الْمُطِيع، وَلَيْسَ نقض هَذَا العَبْد عَهده وَتَركه أقسامه جهلا مِنْهُ، وَلَا قلَّة مبالاة، بل علما مِنْهُ بِأَن نقض هَذَا الْعَهْد أولى من الْوَفَاء، لِأَن سُؤَاله ربه أولى من إبرار قسمه، لِأَنَّهُ علم قَول نبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من حلف على يَمِين فَرَأى غَيرهَا خيرا مِنْهَا فليكفر عَن يَمِينه وليأت الَّذِي هُوَ خير) . قَوْله: (وَيحك) كلمة رَحْمَة، كَمَا أَن: وَيلك كلمة عَذَاب، وَقيل: هما بِمَعْنى وَاحِد. قَوْله: (ابْن آدم) أَي: يَا ابْن آدم. قَوْله: (مَا أغدرك) ، فعل التَّعَجُّب، والغدر ترك الْوَفَاء. قَوْله: (أَلَيْسَ قد أَعْطَيْت) على صِيغَة الْمَعْلُوم. قَوْله: (غير الَّذِي أَعْطَيْت) على صِيغَة الْمَجْهُول. قَوْله: (فيضحك الله مِنْهُ) ، أَي: من فعل هَذَا الرجل، وَالْمرَاد من الضحك لَازمه، وَهُوَ الرضى مِنْهُ وَإِرَادَة الْخَيْر لَهُ، لِأَن إِطْلَاق حَقِيقَة الضحك على الله تَعَالَى لَا يتَصَوَّر، وأمثال هَذِه الأطلاقات كلهَا يُرَاد بهَا لوازمها. قَوْله: (تمن) أَمر من التَّمَنِّي، ويروى: (تمن كَذَا وَكَذَا) . قَوْله: (حَتَّى إِذا انْقَطع) ويروى: (إِذا انْقَطَعت) ، وَقد علم أَن إِسْنَاد الْفِعْل إِلَى مثل هَذَا الْفَاعِل يجوز فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث. قَوْله: (زد من كَذَا وَكَذَا) أَي: من أمانيك الَّتِي كَانَت لَك قبل أَن أذكرك بهَا. قَوْله: (أقبل) ، فعل مَاض من الإقبال، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى الله تَعَالَى، وَكَذَا الضَّمِير الْمَرْفُوع فِي قَوْله: (يذكرهُ) ، وَقد تنَازع هَذَانِ الفعلان فِي قَوْله: (ربه) . فَإِن قلت: مَا موقع هَاتين الجملتين؟ أَعنِي: (أقبل يذكرهُ؟) قلت: بدل من قَوْله: قَالَ الله عز وَجل: زد قَوْله: (الْأَمَانِي) جمع أُمْنِية. قَوْله: (لَك ذَلِك) أَي: مَا سَأَلته من الْأَمَانِي. قَوْله: (وَمثله مَعَه) جملَة من الْمُبْتَدَأ وَالْخَبَر وَقعت حَالا. قَوْله: (لَك ذَلِك وَعشرَة أَمْثَاله) ، أَي: وَعشرَة أَمْثَال مَا سَأَلته، وَهَذَا فِي خبر أبي سعيد الْخُدْرِيّ، وَوجه الْجمع بَين خَبره وَخبر أبي هُرَيْرَة لِأَن فِي خبر أبي هُرَيْرَة: وَمثله، وَفِي خبر أبي سعيد: وَعشرَة أَمْثَاله، هُوَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أخبر أَولا بِالْمثلِ، ثمَّ اطلع على الزِّيَادَة تكرما، وَلَا يحْتَمل الْعَكْس، لِأَن الْفَضَائِل لَا تنسخ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: أعلم أَولا بِمَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة، ثمَّ تكرم الله فزادها فَأخْبر بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلم يسمعهُ أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِثْبَات الرُّؤْيَة للرب عز وَجل نصا من كَلَام الشَّارِع، وَهُوَ تَفْسِير قَوْله جلّ جَلَاله: {وُجُوه يَوْمئِذٍ ناضرة إِلَى رَبهَا ناظرة} (الْقِيَامَة: 22، 23) . يَعْنِي: مبصرة، وَلَو لم يكن هَذَا القَوْل من الشَّارِع بِالرُّؤْيَةِ نصا لَكَانَ مَا فِي الْآيَة كِفَايَة لمن انصف، وَذَلِكَ أَن النّظر إِذا قرن بِذكر الْوَجْه لم يكن إلاّ نظر الْبَصَر، وَإِذا قرن بِذكر الْقُلُوب كَانَ بِمَعْنى الْيَقِين، فَلَا يجوز

(6/87)


أَن ينْقل حكم الْوُجُوه إِلَى حكم الْقُلُوب.
وَاعْلَم أَن أهل السّنة اتَّفقُوا على أَن الله تَعَالَى يَصح أَن يُرى بِمَعْنى: أَنه ينْكَشف لِعِبَادِهِ وَيظْهر لَهُم بِحَيْثُ تكون نِسْبَة ذَلِك الانكشاف إِلَى ذَاته الْمَخْصُوصَة كنسبة الإبصار إِلَى هَذِه المبصرات المادية، لكنه يكون مُجَردا عَن ارتسام صُورَة المرئي، وَعَن اتِّصَال الشعاع بالمرئي، وَعَن الْمُحَاذَاة والجهة وَالْمَكَان، خلافًا للمعتزلة فِي الرُّؤْيَة مُطلقًا، وللمشبهة والكرامية فِي خلوها عَن المواجهة وَالْمَكَان.
احتجت الْمُعْتَزلَة فِيمَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ بِوُجُوه: الأول: بقوله تَعَالَى: {لَا تُدْرِكهُ الْأَبْصَار وَهُوَ يدْرك الْأَبْصَار} (الْأَنْعَام: 103) . وَالْجَوَاب عَنهُ: إِن معنى الْإِدْرَاك هَهُنَا الْإِحَاطَة، وَنحن نقُول أَيْضا: إِن الْإِحَاطَة ممتنعة. وَقَالَ ابْن بطال: الْآيَة مَخْصُوصَة بِالسنةِ. قلت: فِيهِ نظر، وَالْأولَى مَا قُلْنَا. الثَّانِي: بقوله تَعَالَى: {لن تراني} (الْأَعْرَاف: 143) . فَإِن: لن، نفي للتأييد بِدَلِيل قَوْله: {قل لن تتبعونا} (الْفَتْح: 15) . فَإِذا ثَبت عدم الرُّؤْيَة فِي حق مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، ثَبت فِي حق غَيره أَيْضا لانعقاد الْإِجْمَاع على عدم الْفرق، وَالْجَوَاب عَنهُ: إِنَّا لَا نسلم أَن: لن، تدل على التأييد بِدَلِيل قَوْله: {لن يَتَمَنَّوْهُ أبدا} (الْبَقَرَة: 95) . مَعَ أَنهم يتمنونه فِي الْآخِرَة. الثَّالِث: بقوله تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لبشر أَن يكلمهُ الله إلاّ وَحيا أَو من وَرَاء حجاب أَو يُرْسل رَسُولا} (الشورى: 51) . الْآيَة، فَإِن الْآيَة دلّت على أَن كل من يتَكَلَّم الله تَعَالَى مَعَه، فَإِنَّهُ لَا يرَاهُ، فَإِذن ثَبت عدم الرُّؤْيَة فِي غير وَقت الْكَلَام ضَرُورَة أَنه لَا قَائِل بِالْفَصْلِ، وَالْجَوَاب: أَن الْوَحْي كَلَام يسمع بالسرعة وَلَيْسَ فِيهِ دلَالَة تدل على كَون الْمُتَكَلّم محجوبا عَن نظر السَّامع.
وَفِيه: أَن الصَّلَاة أفضل الْأَعْمَال لما فِيهَا من السُّجُود، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أقرب مَا يكون العَبْد من ربه إِذا سجد) ، وَفِيه: فَضِيلَة السُّجُود، وَالْبَاب مترجم بذلك. وَفِيه: بَيَان كرم أكْرم الأكرمين ولطفه وفضله الْوَاسِع. وَفِيه: أَن الصِّرَاط حق، وَالْجنَّة حق، وَالنَّار حق، والحشر حق، والنشر حق، وَالسُّؤَال حق.

130 - (بابٌ يُبْدِي ضَبْعَيْهِ وَيُجَافِي فِي السُّجُودِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: يُبْدِي الْمُصَلِّي، بِضَم الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: من الإبداء، وَهُوَ الْإِظْهَار، وَفِي الْمغرب: ابداء الضبعين: تفريجهما. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : ويبدي ضبعيه لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وأبدِ ضبعيك) ويروى: (ابدد) من الإبداد وَهُوَ: الْمَدّ قلت: هَذَا الحَدِيث لم يرو هَكَذَا مَرْفُوعا، وَقد بَيناهُ فِي (شرحنا للهداية) قَوْله: ويروى (وأبدد) ، لَيْسَ لَهُ أصل وَلَا وجود فِي كتب الحَدِيث. قَوْله: (ضبعيه) ، بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة تَثْنِيَة: ضبع، وَقيل: يجوز فِي الْبَاء الضَّم أَيْضا، والضبع الْعَضُد، وَقيل: ضبع الرجل وَسطه وبطنه، وَقيل: وسط الْعَضُد من دَاخل، وَقيل: هِيَ لحْمَة تَحت الْإِبِط. قَوْله: (ويجافي) ، مَفْعُوله مَحْذُوف أَي: يُجَافِي بَطْنه، أَي: يباعده، وثلاثيه: جفى، يُقَال: جفى السرج عَن ظهر الْفرس، وأجفيته أَنا إِذا رفعته، ويجافي جنبه عَن الْفراش أَي: يباعد. قَالَ تَعَالَى: {تتجافي جنُوبهم عَن الْمضَاجِع} (السَّجْدَة: 16) . أَي: تتباعد.
وإعلم أَن هَذَا الْبَاب، وَالْبَاب الَّذِي بعده، قد ذكر هُنَا فِي كثير من النّسخ، وسقطا فِي بَعْضهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي وَغَيره: لِأَنَّهُمَا ذكرا مرّة قبل: بَاب اسْتِقْبَال الْقبْلَة قلت: لم يذكر هُنَاكَ إلاّ قَوْله: بَاب يُبْدِي ضبعيه ويجافي جَنْبَيْهِ فِي السُّجُود، وَأما الْبَاب الثَّانِي، فَلم يذكر هُنَاكَ بترجمة، فَلذَلِك قيل: وَالصَّوَاب إِثْبَاتهَا هَهُنَا.

807 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثني بَكْرُ بنُ مُضَرَ عنْ جَعْفَرٍ عَنِ ابنِ هُرْمِزَ عَن عبْدِ الله بنِ مالِكٍ ابنِ بُحيْنَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا صَلَّى فَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ حَتَّى يَبْدُو بَيَاضُ إبْطَيْهِ. (انْظُر الحَدِيث 390 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن تفريج الْمُصَلِّي بَين يَدَيْهِ إِلَى أَن يَبْدُو بَيَاض إبطَيْهِ لَا يكون إلاّ بإبداء ضبعيه والْحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ هُنَاكَ بِهَذَا الْإِسْنَاد بِعَيْنِه، وَبِهَذَا الْمَتْن بِعَيْنِه، غير أَن هُنَاكَ نسب شَيْخه إِلَى جده حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا يحيى بن بكير إِلَى آخِره، وَابْن هُرْمُز هُوَ عبد الرَّحْمَن الْأَعْرَج، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ جَمِيع مَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَشْيَاء. وَقَوله: (ابْن بُحَيْنَة) لَيْسَ صفة لمَالِك بل صفة لعبد الله، لِأَن بُحَيْنَة اسْم أمه، وَقد ذَكرْنَاهُ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ نَحْوَهُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله مُسلم من طَرِيقه بِلَفْظ: (كَانَ إِذا سجد فرج يَدَيْهِ عَن إبطَيْهِ حَتَّى إِنِّي لأرى بَيَاض إبطَيْهِ) .

(6/88)


131 - (بابٌ يَسْتَقْبِلُ القِبْلَةَ بِأطْرَافِ رِجْلَيْهِ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: يسْتَقْبل الْمُصَلِّي الْقبْلَة بأطراف رجلَيْهِ.
قالَهُ أبُو حُمَيْدٍ السَّاعِدِي عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَي: قَالَ: اسْتِقْبَال الْقبْلَة بأطراف رجلَيْهِ، ذكره أَبُو حميد فِي حَدِيثه على مَا يَأْتِي مَوْصُولا فِي: بَاب سنة الْجُلُوس فِي التَّشَهُّد، قَرِيبا. وَأَبُو حميد عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو بن سعد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

132 - (بابٌ إذَا لَمْ يُتِمَّ السُّجُودَ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: إِذا لم يتم الْمُصَلِّي السُّجُود.

808 - حدَّثنا الصلْتُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا مَهْدِيًّ عنْ وَاصِلٍ عنْ أبِي وائِلٍ عنْ حُذَيْفَةَ أنَّهُ رَأى رَجُلاً لاَ يُتِمُّ رُكُوعَهُ ولاَ سُجُودَهُ فلمَّا قَضَى صَلاَتَهُ قَالَ لَهُ حُذَيْفَةُ مَا صَلَّيْتَ قَالَ وأحْسبُهُ قَالَ ولَوْ مُتَّ مُتَّ عَلَى غيْرِ سُنَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. (انْظُر الحَدِيث 389 وطرفه) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد ذكر البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب إِذا لم يتم الرُّكُوع قبل هَذَا الْبَاب بإثني عشر بَابا. وَأخرجه عَن حَفْص بن عمر عَن شُعْبَة عَن سُلَيْمَان، قَالَ: سَمِعت زيد بن وهب، قَالَ: رأى حُذَيْفَة رجلا لَا يتم الرُّكُوع وَالسُّجُود، فَقَالَ: مَا صليت وَلَو مت مت على غير الْفطْرَة الَّتِي فطر الله مُحَمَّدًا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ مَا يتَعَلَّق بِهِ. وَأَبُو وَائِل هُوَ: شَقِيق.