عمدة القاري شرح صحيح البخاري

148 - (بابُ التَّشَهُّدِ فِي الآخِرَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّشَهُّد فِي الجلسة الْأَخِيرَة.
217 - (حَدثنَا أَبُو نعيم قَالَ حَدثنَا الْأَعْمَش عَن شَقِيق بن سَلمَة قَالَ قَالَ عبد الله كُنَّا إِذا صلينَا خلف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قُلْنَا السَّلَام على جِبْرِيل وَمِيكَائِيل السَّلَام على فلَان وَفُلَان فَالْتَفت إِلَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ إِن الله هُوَ السَّلَام فَإِذا صلى أحدكُم فَلْيقل التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين فَإِنَّكُم إِذا قُلْتُمُوهَا أَصَابَت كل عبد لله صَالح بالسماء وَالْأَرْض أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله) مطابقته للتَّرْجَمَة لَا تتأتى إِلَّا بِاعْتِبَار تَمام هَذَا الحَدِيث فَإِنَّهُ أخرجه تَمَامه فِي بَاب مَا يتَخَيَّر من الدُّعَاء بعد التَّشَهُّد وَهُوَ قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي آخر الحَدِيث " ثمَّ ليتخير من الدُّعَاء أعجبه إِلَيْهِ فيدعو " وَمَعْلُوم أَن مَحل الدُّعَاء فِي آخر الصَّلَاة وَمَعْلُوم أَن الدُّعَاء لَا يكون إِلَّا بعد التَّشَهُّد وَيعلم من ذَلِك أَن المُرَاد من قَوْله " فَلْيقل التَّحِيَّات لله " إِلَى آخِره هُوَ التَّشَهُّد فِي آخر الصَّلَاة فَحِينَئِذٍ طابق الحَدِيث التَّرْجَمَة بِهَذَا الِاعْتِبَار لَا بِاعْتِبَار مَا قَالَه ابْن رشيد فَإِنَّهُ قَالَ لَيْسَ فِي حَدِيث الْبَاب تعْيين مَحل القَوْل لَكِن يُؤْخَذ ذَلِك من قَوْله " فَإِذا صلى أحدكُم فَلْيقل " فَإِن ظَاهر قَوْله " إِذا صلى " أَي أتم صلَاته لَكِن تعذر الْحمل على الْحَقِيقَة لِأَن التَّشَهُّد لَا يكون إِلَّا بعد السَّلَام فَلَمَّا تعين الْمجَاز كَانَ حمله على آخر جُزْء من الصَّلَاة أولى لِأَنَّهُ هُوَ الْأَقْرَب إِلَى الْحَقِيقَة انْتهى (قلت) لَا نسلم تعذر الْحمل على الْحَقِيقَة فَإِن حَقِيقَة تَمام الصَّلَاة بِالْجُلُوسِ فِي آخرهَا لَا بِالسَّلَامِ حَتَّى إِذا خرج بعد جُلُوسه مِقْدَار التَّشَهُّد من غير السَّلَام لَا تفْسد صلَاته لِأَن السَّلَام مُحَلل وَمَا دَامَ الْمُصَلِّي فِي الْجُلُوس فِي آخر الصَّلَاة فَهُوَ فِي حُرْمَة الصَّلَاة وَالسَّلَام يُخرجهُ عَن هَذِه الْحُرْمَة فَحِينَئِذٍ يكون معنى قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " فَإِذا صلى أحدكُم " أَي فَإِذا أتم صلَاته بِالْجُلُوسِ فِي آخر الثنائية أَو فِي آخر الثلاثية أَو فِي آخر الرّبَاعِيّة فَلْيقل التَّحِيَّات لله إِلَى آخِره فَدلَّ

(6/109)


على أَن التَّشَهُّد فِي آخر الصَّلَاة وَاجِب لقَوْله " فَلْيقل " لِأَن مُقْتَضى الْأَمر الْوُجُوب (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة قد ذكرُوا غير مرّة وَأَبُو نعيم هُوَ الْفضل بن دُكَيْن وَالْأَعْمَش هُوَ سُلَيْمَان وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (ذكر لطائف إِسْنَاده) فِيهِ التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه عَن شَقِيق وَفِي رِوَايَة يحيى الَّتِي تَأتي بعد بَاب عَن الْأَعْمَش حَدثنِي شَقِيق وَرِجَال الْإِسْنَاد كلهم كوفيون. (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن قبيصَة عَن سُفْيَان وَعَن مُسَدّد عَن يحيى وَعَن عَمْرو بن حَفْص بن غياث عَن أَبِيه وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن يحيى بن يحيى عَن أبي مُعَاوِيَة وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد عَن يحيى وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَعَمْرو بن عَليّ وَعَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن وَعَن بشر بن خَالِد وَفِيه وَفِي النعوت عَن قُتَيْبَة وَفِي التَّفْسِير عَن قُتَيْبَة أَيْضا وَأخرجه ابْن ماجة فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر بن خَلاد وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير وَعَن مُحَمَّد بن يحيى الزُّهْرِيّ (ذكر مَعْنَاهُ) قَوْله " كُنَّا إِذا صلينَا " وَفِي رِوَايَة يحيى الْآتِيَة " كُنَّا إِذا كُنَّا مَعَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَاة " وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد عَن مُسَدّد شيخ البُخَارِيّ عَن الْأَعْمَش عَن شَقِيق عَن عبد الله قَالَ " كُنَّا إِذا جلسنا مَعَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الصَّلَاة " الحَدِيث وَمثله للإسماعيلي من رِوَايَة مُحَمَّد بن خَلاد عَن يحيى قَوْله " قُلْنَا السَّلَام على جِبْرِيل " وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد " قُلْنَا السَّلَام على الله قبل عباده " وَكَذَا وَقع للْبُخَارِيّ فِي الاسْتِئْذَان من طَرِيق حَفْص بن غياث عَن الْأَعْمَش وَفِي جِبْرِيل سبع لُغَات. الأولى على وزن تغشليل. الثَّانِيَة جبرئل بِحَذْف الْيَاء. الثَّالِثَة جِبْرِيل بِحَذْف الْهمزَة. الرَّابِعَة بِوَزْن قنديل. الْخَامِسَة جبرءل بلام مُشَدّدَة. السَّادِسَة جِبْرَائِيل بِوَزْن جبراعيل. السَّابِعَة جبرائل بِوَزْن جبراعل. وَمَعْنَاهُ عبد الله وَمنع الصّرْف فِيهِ للتعريف والعجمة فِي مِيكَائِيل خمس لُغَات. الأولى ميكال بِوَزْن قِنْطَار. الثَّانِيَة مِيكَائِيل بِوَزْن ميكاعيل. الثَّالِثَة ميكائل بِوَزْن ميكاعل. الرَّابِعَة ميكئل بِوَزْن ميكعل. الْخَامِسَة ميكئيل بِوَزْن ميكعيل. قَالَ ابْن جني الْعَرَب إِذا نطقت بالأعجمي خلطت فِيهِ قَوْله " السَّلَام على فلَان وَفُلَان " وَفِي رِوَايَة ابْن ماجة عَن عبد الله بن نمير عَن الْأَعْمَش " يعنون الْمَلَائِكَة " وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ عَن عَليّ بن مسْهر " فنعد الْمَلَائِكَة " وَفِي رِوَايَة السراج عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن الْأَعْمَش " فنعد من الْمَلَائِكَة مَا شَاءَ الله " قَوْله " فَالْتَفت إِلَيْنَا رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " ظَاهره أَنه كَلمهمْ بذلك فِي أثْنَاء الصَّلَاة وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة حُصَيْن عَن أبي وَائِل وَهُوَ شَقِيق عِنْد البُخَارِيّ فِي أَوَاخِر الصَّلَاة بِلَفْظ " فَسَمعهُ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَالَ قُولُوا " وَلَكِن بَين حَفْص بن غياث فِي رِوَايَته الْمحل الَّذِي خاطبهم بذلك فِيهِ وَأَنه بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة وَلَفظه " فَلَمَّا انْصَرف النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقبل علينا بِوَجْهِهِ " وَفِي رِوَايَة عِيسَى بن يُونُس أَيْضا " فَلَمَّا انْصَرف من الصَّلَاة قَالَ " قَوْله " إِن الله هُوَ السَّلَام " قَالَ الْكرْمَانِي (فَإِن قلت) هَذَا إِنَّمَا يَصح ردا عَلَيْهِم لَو قَالَ السَّلَام على الله (قلت) هَذَا الحَدِيث مُخْتَصر مِمَّا سَيَأْتِي فِي بَاب مَا يتَخَيَّر من الدُّعَاء بعد التَّشَهُّد وَقَالَ فِيهِ " قُلْنَا السَّلَام على الله فَقَالَ لَا تَقولُوا السَّلَام على الله فَإِن الله هُوَ السَّلَام " وَحَاصِله أَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنكر التَّسْلِيم على الله وعلمهم أَن مَا يَقُولُونَهُ عكس مَا يجب أَن يُقَال فَإِن كل سَلامَة وَرَحْمَة لَهُ وَمِنْه وَهُوَ مَالِكهَا ومعطيها وَقَالَ الْخطابِيّ المُرَاد أَن الله هُوَ ذُو السَّلَام فَلَا تَقولُوا السَّلَام على الله فَإِن السَّلَام مِنْهُ بدىء وَإِلَيْهِ يعود ومرجع الْأَمر فِي إِضَافَة السَّلَام إِلَيْهِ أَنه ذُو السَّلَام من كل نقص وَآفَة وعيب وَيحْتَمل أَن يكون مرجعها إِلَى حَظّ العَبْد فِيمَا يَطْلُبهُ من السَّلامَة عَن الْآفَات والمهالك وَقَالَ النَّوَوِيّ مَعْنَاهُ أَن السَّلَام اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى يَعْنِي السَّالِم من النقائص وَقيل الْمُسلم أولياءه وَقيل الْمُسلم عَلَيْهِم وَقَالَ ابْن الْأَنْبَارِي أَمرهم أَن يصرفوه إِلَى الْخلق لحاجتهم إِلَى السَّلامَة وغناه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْهَا قَوْله " فَإِذا صلى أحدكُم فَلْيقل " بَين حَفْص بن غياث فِي رِوَايَته مَحل القَوْل وَلَفظه " فَإِذا جلس أحدكُم فِي الصَّلَاة " وَفِي رِوَايَة حُصَيْن عَن أبي وَائِل " إِذا قعد أحدكُم عَن الصَّلَاة " وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق أبي الْأَحْوَص عَن عبد الله " كُنَّا لَا نَدْرِي مَا نقُول فِي كل رَكْعَتَيْنِ وَأَن مُحَمَّدًا علم فواتح الْخَيْر وخواتمه فَقَالَ إِذا قعدتم فِي كل رَكْعَتَيْنِ فَقولُوا " وللنسائي من طَرِيق الْأسود عَن عبد الله " فَقولُوا فِي كل جلْسَة " وَفِي رِوَايَة ابْن خُزَيْمَة من وَجه آخر عَن الْأسود عَن

(6/110)


عبد الله " عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي وسط الصَّلَاة وَفِي آخرهَا " وَزَاد الطَّحَاوِيّ من هَذَا الْوَجْه فِي أَوله " أخذت التَّشَهُّد من فِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولقنني كلمة كلمة " وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ فِي الاسْتِئْذَان من طَرِيق أبي معمر عَن ابْن مَسْعُود " عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّشَهُّد وكفي بَين كفيه كَمَا يعلمني السُّورَة من الْقُرْآن " قَوْله " التَّحِيَّات " جمع تَحِيَّة وَمَعْنَاهُ السَّلَام. وَقيل الْبَقَاء. وَقيل العظمة. وَقيل السَّلامَة من الْآفَات وَالنَّقْص. وَقيل الْملك. وَقَالَ الْخطابِيّ التَّحِيَّات كَلِمَات مَخْصُوصَة كَانَت الْعَرَب تحيي بهَا الْمُلُوك نَحْو قَوْلهم أَبيت اللَّعْن وَقَوْلهمْ أنعم الله صباحا وَقَول الْعَجم وزى ده هزار سَأَلَ أَي عش عشرَة آلَاف سنة وَنَحْوهَا من عاداتهم فِي تَحِيَّة الْمُلُوك عِنْد الملاقاة وَهَذِه الْأَلْفَاظ لَا يصلح شَيْء مِنْهَا للثناء على الله تَعَالَى فَتركت أَعْيَان تِلْكَ الْأَلْفَاظ وَاسْتعْمل مِنْهَا معنى التَّعْظِيم فَقيل قُولُوا التَّحِيَّات لله أَي أَنْوَاع التَّعْظِيم لله كَمَا يسْتَحقّهُ وَرُوِيَ عَن أنس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فِي أَسمَاء الله تَعَالَى السَّلَام الْمُؤمن الْمُهَيْمِن الْعَزِيز الْجَبَّار الْأَحَد الصَّمد قَالَ التَّحِيَّات لله بِهَذِهِ الْأَسْمَاء وَهِي الطَّيِّبَات لَا يحيى بهَا غَيره وَاللَّام فِي لله لَام الْملك والتخصيص وَهِي للْأولِ أبلغ وَللثَّانِي أحسن قَوْله " والصلوات " هِيَ الصَّلَوَات الْمَعْرُوفَة وَهِي الْخَمْسَة وَغَيرهَا وَقَالَ الْأَزْهَرِي الصَّلَوَات الْعِبَادَات وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين يحْتَمل أَن يُرَاد بهَا الصَّلَوَات الْمَعْهُودَة وَيكون التَّقْدِير أَنَّهَا وَاجِبَة لله تَعَالَى وَلَا يجوز أَن يقْصد بهَا غَيره أَو يكون ذَلِك إِخْبَارًا عَن قصد إخلاصنا الصَّلَوَات لَهُ أَي صلواتنا مخلصة لَهُ لَا لغيره وَيجوز أَن يُرَاد بالصلوات الرَّحْمَة وَيكون معنى قَوْله " لله " أَي المتفضل بهَا والمعطي هُوَ الله لِأَن الرَّحْمَة التَّامَّة لله لَا لغيره قَوْله " والطيبات " أَي الْكَلِمَات الطَّيِّبَات مِمَّا طَابَ من الْكَلَام وَحسن أَن يثنى بِهِ على الله تَعَالَى دون مَا لَا يَلِيق بصفاته وَقَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين وَأما الطَّيِّبَات فقد فسرت بالأقوال الطَّيِّبَات وَلَعَلَّ تَفْسِيرهَا بِمَا هُوَ أَعم أولى أَعنِي الطَّيِّبَات من الْأَفْعَال والأقوال والأوصاف وَطيب الْأَوْصَاف كَونهَا صفة الْكَمَال وخلوصها عَن شوب النَّقْص وَقَالَ الشَّيْخ حَافظ الدّين النَّسَفِيّ رَحمَه الله التَّحِيَّات الْعِبَادَات القولية والصلوات الْعِبَادَات الفعلية والطيبات الْعِبَادَات الْمَالِيَّة وَقَالَ الْبَيْضَاوِيّ والصلوات والطيبات بِحرف الْعَطف يحْتَمل أَن يَكُونَا معطوفين على التَّحِيَّات وَأَن تكون الصَّلَوَات مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ عَلَيْك والطيبات معطوفة عَلَيْهَا وَالْوَاو الأولى لعطف الْجُمْلَة على الْجُمْلَة وَالثَّانيَِة لعطف الْمُفْرد على الْمُفْرد وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس لم يذكر العاطف أصلا انْتهى (قلت) كل وَاحِدَة من الصَّلَوَات والطيبات مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره والصلوات لله والطيبات لله فَتكون هَاتَانِ الجملتان معطوفتين على الْجُمْلَة الأولى وَهِي التَّحِيَّات لله قَوْله " السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي " قَالَ النَّوَوِيّ يجوز فِي السَّلَام فِي الْمَوْضِعَيْنِ حذف اللَّام وإثباتها وَالْإِثْبَات أفضل (قلت) لم يَقع فِي شَيْء من طرق حَدِيث ابْن مَسْعُود بِحَذْف اللَّام فَإِن كَانَ مُرَاده من الْجَوَاز من جِهَة الْعَرَبيَّة فَلهُ وَجه وَإِن كَانَ من جِهَة مُرَاعَاة لفظ النَّبِي فَلَا وَجه لَهُ نعم اخْتلف فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم وَقَالَ الطَّيِّبِيّ أصل سَلام عَلَيْك سلمت سَلاما عَلَيْك ثمَّ حذف الْفِعْل وأقيم الْمصدر مقَامه وَعدل عَن النصب إِلَى الرّفْع للابتداء للدلالة على ثُبُوت الْمَعْنى واستقراره وَقَالَ التوربشتي السَّلَام بِمَعْنى السَّلامَة كالمقام والمقامة وَالسَّلَام اسْم من أَسمَاء الله تَعَالَى وضع الْمصدر مَوضِع الِاسْم مُبَالغَة وَالْمعْنَى أَنه سَلام من كل عيب وَآفَة وَنقص وَفَسَاد وَمعنى قَوْلنَا السَّلَام عَلَيْك الدُّعَاء أَي سلمت من المكاره وَقيل مَعْنَاهُ اسْم السَّلَام عَلَيْك كَأَنَّهُ يتبرك عَلَيْهِ باسم الله عز وَجل (فَإِن قلت) مَا الْحِكْمَة فِي الْعُدُول عَن الْغَيْبَة إِلَى الْخطاب فِي قَوْله " عَلَيْك أَيهَا النَّبِي " مَعَ أَن لفظ الْغَيْبَة هُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ السِّيَاق كَأَن يَقُول السَّلَام على النَّبِي فَينْتَقل من تَحِيَّة الله إِلَى تَحِيَّة النَّبِي ثمَّ إِلَى تَحِيَّة النَّفس ثمَّ إِلَى تَحِيَّة الصَّالِحين (قلت) أجَاب الطَّيِّبِيّ بِمَا محصله نَحن نتبع لفظ الرَّسُول بِعَيْنِه الَّذِي علمه للصحابة وَيحْتَمل أَن يُقَال على طَريقَة أهل الْعرْفَان أَن الْمُصَلِّين لما استفتحوا بَاب الملكوت بالتحيات أذن لَهُم بِالدُّخُولِ فِي حَرِيم الْحَيّ الَّذِي لَا يَمُوت فقرت أَعينهم بالمناجاة فنبهوا على أَن ذَلِك بِوَاسِطَة نَبِي الرَّحْمَة وبركة مُتَابَعَته فَإِذا التفتوا فَإِذا الحبيب فِي حرم الحبيب حَاضر فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ قائلين السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته (فَإِن قلت) مَا الْألف وَاللَّام فِي السَّلَام عَلَيْك (قلت) قَالَ الطَّيِّبِيّ إِمَّا للْعهد التقديري أَي ذَلِك السَّلَام الَّذِي وَجه إِلَى الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام الْمُتَقَدّمَة موجه إِلَيْك أَيهَا النَّبِي وَالسَّلَام الَّذِي وَجه إِلَى الْأُمَم السالفة من الصلحاء علينا وعَلى إِخْوَاننَا وَإِمَّا للْجِنْس أَي حَقِيقَة السَّلَام الَّذِي يعرفهُ كل أحد أَنه مَا هُوَ وَعَمن يصدر وعَلى

(6/111)


من ينزل عَلَيْك وعلينا وَإِمَّا للْعهد الْخَارِجِي إِشَارَة إِلَى قَول الله تَعَالَى {وَسَلام على عباده الَّذين اصْطفى} وَقَالَ الشَّيْخ حَافظ الدّين النَّسَفِيّ يَعْنِي السَّلَام الَّذِي سلم الله عَلَيْك لَيْلَة الْمِعْرَاج (قلت) فعلى هَذَا تكون الْألف وَاللَّام فِيهِ للْعهد (فَإِن قلت) لم عدل عَن الْوَصْف بالرسالة إِلَى الْوَصْف بِالنُّبُوَّةِ مَعَ أَن الْوَصْف بالرسالة أَعم فِي حق الْبشر (قلت) الْحِكْمَة فِي ذَلِك أَن يجمع لَهُ الوصفين لكَونه وَصفه بالرسالة فِي آخر التَّشَهُّد وَإِن كَانَ الرَّسُول البشري يسْتَلْزم النُّبُوَّة لَكِن التَّصْرِيح بهَا أبلغ وَقيل الْحِكْمَة فِي تَقْدِيم الْوَصْف بِالنُّبُوَّةِ أَنَّهَا كَذَلِك وجدت فِي الْخَارِج لنزول قَوْله تَعَالَى {اقْرَأ باسم رَبك} قبل قَوْله {يَا أَيهَا المدثر قُم فَأَنْذر} قَوْله " وَرَحْمَة الله " الرَّحْمَة عبارَة عَن إنعامه عَلَيْهِ وَهُوَ الْمَعْنى الغائي لِأَن مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ الحنو والعطف فَلَا يجوز أَن يُوصف الله بِهِ قَوْله " وَبَرَكَاته " جمع بركَة وَهُوَ الْخَيْر الْكثير من كل شَيْء واشتقاقه من البرك وَهُوَ صدر الْبَعِير وبرك الْبَعِير ألْقى بركه وَاعْتبر مِنْهُ معنى اللُّزُوم وَسمي محبس المَاء بركَة للُزُوم المَاء فِيهَا وَقَالَ الطَّيِّبِيّ الْبركَة ثُبُوت الْخَيْر الإلهي فِي الشَّيْء سمي بذلك لثُبُوت الْخَيْر فِيهِ ثُبُوت المَاء فِي الْبركَة وَالْمبَارك مَا فِيهِ ذَلِك الْخَيْر وَقَالَ تَعَالَى {وَهَذَا ذكر مبارك} تَنْبِيها على مَا تفيض مِنْهُ الْخيرَات الإلهية وَلما كَانَ الْخَيْر الإلهي يصدر من حَيْثُ لَا يحس وعَلى وَجه لَا يُحْصى قيل لكل مَا يُشَاهد فِيهِ زِيَادَة غير محسوسة هُوَ مبارك أَو فِيهِ بركَة قَوْله " السَّلَام علينا " أَرَادَ بهَا الْحَاضِرين من الإِمَام والمأمومين وَالْمَلَائِكَة عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام قَوْله " وعَلى عباد الله الصَّالِحين " الصَّالح هُوَ الْقَائِم بِمَا عَلَيْهِ من حُقُوق الله تَعَالَى وَحُقُوق الْعباد وَالصَّلَاح هُوَ استقامة الشَّيْء على حَالَة كَمَاله كَمَا أَن الْفساد ضِدّه وَلَا يحصل الصّلاح الْحَقِيقِيّ إِلَّا فِي الْآخِرَة لِأَن الْأَحْوَال العاجلة وَإِن وصفت بالصلاح فِي بعض الْأَوْقَات لَكِن لَا تَخْلُو من شَائِبَة فَسَاد وخلل وَلَا يصفو ذَلِك إِلَّا فِي الْآخِرَة خُصُوصا لزمرة الْأَنْبِيَاء لِأَن الاسْتقَامَة التَّامَّة لَا تكون إِلَّا لمن فَازَ بالقدح الْمُعَلَّى ونال الْمقَام الْأَسْنَى وَمن ثمَّ كَانَت هَذِه الْمرتبَة مَطْلُوبَة للأنبياء وَالْمُرْسلِينَ قَالَ الله تَعَالَى فِي حق الْخَلِيل {وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين} وَحكي عَن يُوسُف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أَنه دَعَا بقوله {توفني مُسلما وألحقني بالصالحين} قَوْله " فَإِنَّكُم إِذا قُلْتُمُوهَا " إِلَى قَوْله " وَالْأَرْض " جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله " وعَلى عباد الله الصَّالِحين " وَبَين قَوْله " أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِي قُلْتُمُوهَا يرجع إِلَى قَوْله " وعَلى عباد الله الصَّالِحين " وَفَائِدَة هَذِه الْجُمْلَة المعترضة الاهتمام بهَا لكَونه أنكر عَلَيْهِم عد الْمَلَائِكَة وَاحِدًا وَاحِدًا وَلَا يُمكن استيعابهم لَهُم مَعَ ذَلِك فعلمهم لفظا يَشْمَل الْجَمِيع مَعَ غير الْمَلَائِكَة من النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ وَالصديقين وَغَيرهم بِغَيْر مشقة وَهَذَا من جَوَامِع الْكَلم الَّتِي أوتيها النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقد وَردت هَذِه الْجُمْلَة فِي بعض الطّرق فِي آخر الْكَلَام بعد سِيَاق التَّشَهُّد متواليا وَالظَّاهِر أَنه من تصرف الروَاة وَالله أعلم قَوْله " فِي السَّمَاء وَالْأَرْض " وَفِي رِوَايَة مُسَدّد عَن يحيى " أَو بَين السَّمَاء وَالْأَرْض " وَالشَّكّ فِيهِ من مُسَدّد وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ بِلَفْظ " من أهل السَّمَاء وَالْأَرْض " قَوْله " أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله " زَاد ابْن أبي شيبَة من رِوَايَة أبي عُبَيْدَة عَن أَبِيه " وَحده لَا شريك لَهُ " وَسَنَد ضَعِيف لَكِن ثبتَتْ هَذِه الزِّيَادَة فِي حَدِيث أبي مُوسَى عِنْد مُسلم وَفِي حَدِيث عَائِشَة الْمَوْقُوف فِي الْمُوَطَّأ وَفِي حَدِيث ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عِنْد الدَّارَقُطْنِيّ إِلَّا أَن سَنَده ضَعِيف وَقد روى أَبُو دَاوُد من وَجه آخر صَحِيح عَن ابْن عمر فِي التَّشَهُّد " أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله قَالَ ابْن عمر زِدْت فِيهَا وَحده لَا شريك لَهُ " وَهَذَا ظَاهره الْوَقْف قَوْله " وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عبد وَرَسُوله " قَالَ أهل اللُّغَة يُقَال رجل مُحَمَّد ومحمود إِذا كثرت خصاله المحمودة وَقَالَ ابْن الْفَارِس وَبِذَلِك سمي نَبينَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مُحَمَّدًا يَعْنِي لعلم الله تَعَالَى بِكَثْرَة خصاله المحمودة (قلت) الْفرق بَين مُحَمَّد وَأحمد أَن مُحَمَّدًا مفعل للتكثير وَأحمد أفعل التَّفْضِيل وَالْمعْنَى إِذا حمدني أحد فَأَنت أَحْمد مِنْهُم وَإِذا حمدت أحدا فَأَنت مُحَمَّد وَالْعَبْد الْإِنْسَان حرا كَانَ أَو رَقِيقا يذهب فِيهِ إِلَى أَنه مربوب لباريه عز وَجل وَجمعه أعبد وَعبيد وَعباد وَعبد وعبدان وعبدان وأعابد جمع أعبد والعبدى والعبدي والعبوداء والعبدة أَسمَاء الْجمع وَجعل بَعضهم الْعباد لله وَغَيره من الْجمع لله وللمخلوقين وَخص بهم بالعبدى العبيد الَّذين ولدُوا فِي الْملك وَالْأُنْثَى عَبدة والعبدل العَبْد ولامه زَائِدَة (ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ) وَهُوَ على وُجُوه. الأول فِيمَا ورد من الِاخْتِلَاف فِي أَلْفَاظ التَّشَهُّد رُوِيَ فِي هَذَا الْبَاب عَن ابْن

(6/112)


مَسْعُود وَابْن عَبَّاس وَعمر بن الْخطاب وَعبد الله بن عمر وَعَائِشَة وَعبد الله بن الزبير وَجَابِر بن عبد الله وَأبي سعيد الْخُدْرِيّ وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ وَمُعَاوِيَة وسلمان وَسمرَة وَأبي حميد. أما حَدِيث ابْن مَسْعُود فقد رَوَاهُ السِّتَّة عَنهُ وَلَفظ مُسلم قَالَ " عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّشَهُّد كفي بَين كفيه كَمَا يعلمني السُّورَة من الْقُرْآن فَقَالَ إِذا قعد أحدكُم فِي الصَّلَاة فَلْيقل التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين فَإِذا قَالَهَا أَصَابَت كل عبد صَالح فِي السَّمَاء وَالْأَرْض أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله " انْتهى زادوا فِي رِوَايَة إِلَّا التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه " ليتخير أحدكُم من الدُّعَاء أعجبه إِلَيْهِ فيدعو بِهِ " وَأما حَدِيث ابْن عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَأخْرجهُ الْجَمَاعَة إِلَّا البُخَارِيّ عَن سعيد بن جُبَير وَطَاوُس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعلمنَا التَّشَهُّد كَمَا يعلمنَا السُّورَة من الْقُرْآن وَكَانَ يَقُول التَّحِيَّات المباركات الصَّلَوَات الطَّيِّبَات لله السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله " وَأما حَدِيث عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ حَدثنَا يُونُس بن عبد الْأَعْلَى قَالَ حَدثنَا عبد الله بن وهب قَالَ أَخْبرنِي عَمْرو بن الْحَارِث وَمَالك بن أنس أَن ابْن شهَاب حَدثهمَا عَن عُرْوَة بن الزبير " عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد القارىء أَنه سمع عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يعلم النَّاس التَّشَهُّد على الْمِنْبَر وَهُوَ يَقُول قُولُوا التَّحِيَّات لله الزاكيات لله والصلوات لله السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عبد وَرَسُوله " وَأخرجه أَيْضا ابْن أبي شيبَة وَعبد الرَّزَّاق فِي مصنفيهما (قلت) هَذَا مَوْقُوف وَرَوَاهُ أَبُو بكر بن مرْدَوَيْه فِي كتاب التَّشَهُّد لَهُ مَرْفُوعا وَأما حَدِيث عبد الله بن عمر فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد حَدثنَا نصر بن عَليّ حَدثنَا أبي حَدثنَا شُعْبَة عَن أبي بشر " سَمِعت مُجَاهدًا يحدث عَن ابْن عمر عَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد التَّحِيَّات لله الصَّلَوَات الطَّيِّبَات لله السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته قَالَ ابْن عمر زِدْت فِيهَا وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله " وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَن ابْن أبي دَاوُد عَن نصر بن عَليّ وَقَالَ إِسْنَاده صَحِيح وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير حَدثنَا أَبُو مُسلم الْكشِّي حَدثنَا سهل بن بكار حَدثنَا أبان بن يزِيد عَن قَتَادَة عَن عبد الله بن بَابي " عَن ابْن عمر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد التَّحِيَّات الطَّيِّبَات الصَّلَوَات لله السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله " وَأخرجه الطَّحَاوِيّ وَلَفظه " التَّحِيَّات لله الصَّلَوَات الطَّيِّبَات السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله " إِلَّا أَن يحيى زَاد فِي حَدِيثه " قَالَ ابْن عمر زِدْت فِيهَا وَبَرَكَاته وزدت فِيهَا وَحده لَا شريك لَهُ " وَيحيى بن إِسْمَاعِيل الْبَغْدَادِيّ أحد مَشَايِخ الطَّحَاوِيّ وَأخرجه الْبَزَّار مَرْفُوعا أَيْضا وَأما حَدِيث عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فَأخْرجهُ الْبَيْهَقِيّ فِي سنَنه عَن الْقَاسِم عَنْهَا " قَالَت هَذَا تشهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّحِيَّات لله " إِلَى آخِره وَفِي رِوَايَة عَنْهَا " أَنَّهَا كَانَت تَقول فِي التَّشَهُّد فِي الصَّلَاة فِي وَسطهَا وَفِي آخرهَا قولا وَاحِدًا بِسم الله التَّحِيَّات لله الصَّلَوَات لله الزاكيات لله أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وَبعده لنا بيدَيْهِ عد الْعَرَب " وَأما حَدِيث عبد الله بن الزبير رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير والأوسط من حَدِيث ابْن لَهِيعَة عَن الْحَارِث بن يزِيد سَمِعت أَبَا الْورْد سَمِعت عبد الله بن الزبير يَقُول إِن تشهد النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بِسم الله وَبِاللَّهِ خير الْأَسْمَاء التَّحِيَّات لله الصَّلَوَات الطَّيِّبَات أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرْسلهُ بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا وَأَن السَّاعَة آتِيَة لَا ريب فِيهَا وَأَن الله يبْعَث من فِي الْقُبُور السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين اللَّهُمَّ اغْفِر لي واهدني هَذَا فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأَوليين " قَالَ الطَّبَرَانِيّ تفرد بِهِ ابْن لَهِيعَة (قلت) فِيهِ مقَال

(6/113)


وَأما حَدِيث جَابر بن عبد الله فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ وَابْن ماجة وَالتِّرْمِذِيّ فِي الْعِلَل وَالْحَاكِم من حَدِيث أَيمن بن نائل حَدثنَا أَبُو الزبير عَن جَابر قَالَ " كَانَ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يعلمنَا التَّشَهُّد كَمَا يعلمنَا السُّورَة من الْقُرْآن بِسم الله وَبِاللَّهِ التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات لله السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أسأَل الله الْجنَّة وَأَعُوذ بِاللَّه من النَّار " وَصَححهُ الْحَاكِم وَقَالَ النَّوَوِيّ فِي الْخُلَاصَة وَهُوَ مَرْدُود فقد ضعفه جمَاعَة من الْحفاظ هم أجل من الْحَاكِم وأتقن وَمِمَّنْ ضعفه البُخَارِيّ وَالتِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَالْبَيْهَقِيّ قَالَ التِّرْمِذِيّ سَأَلت البُخَارِيّ عَنهُ فَقَالَ هُوَ خطأ وَأما حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ الطَّحَاوِيّ من حَدِيث أبي المتَوَكل عَنهُ قَالَ " كُنَّا نتعلم التَّشَهُّد كَمَا نتعلم السُّورَة من الْقُرْآن " ثمَّ ذكر مثل تشهد ابْن مَسْعُود وَأما حَدِيث أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ مُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ وَالطَّبَرَانِيّ مطولا وَفِيه " فَإِذا كَانَ عِنْد الْقعدَة فَلْيَكُن من أول قَول أحدكُم أَن يَقُول التَّحِيَّات الطَّيِّبَات الصَّلَوَات لله السَّلَام عَلَيْك أَيهَا النَّبِي وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته السَّلَام علينا وعَلى عباد الله الصَّالِحين أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله " وَأخرجه أَحْمد وَلم يقل وَبَرَكَاته وَلَا قَالَ وَأشْهد قَالَ وَأَن مُحَمَّدًا وَأما حَدِيث مُعَاوِيَة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ عَنهُ " أَنه كَانَ يعلم النَّاس التَّشَهُّد وَهُوَ على الْمِنْبَر عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات " إِلَى آخِره مثل حَدِيث ابْن مَسْعُود. وَأما حَدِيث سلمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ الْبَزَّار فِي مُسْنده وَالطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه أَخْرجَاهُ عَن سَلمَة بن الصَّلْت عَن عَمْرو بن يزِيد الْأَزْدِيّ عَن أبي رَاشد قَالَ " سَأَلت سلمَان الْفَارِسِي عَن التَّشَهُّد فَقَالَ أعلمكُم كَمَا علمنيهن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّحِيَّات لله والصلوات والطيبات " إِلَى آخِره مثل حَدِيث ابْن مَسْعُود لَكِن زَاد لله بعد الطَّيِّبَات وَقَالَ فِي آخِره " قلها فِي صَلَاتك وَلَا تزد فِيهَا حرفا وَلَا تنقص مِنْهَا حرفا " وَإِسْنَاده ضَعِيف وَأما حَدِيث سَمُرَة بن جُنْدُب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَأخْرجهُ أَبُو دَاوُد وَلَفظه " قُولُوا التَّحِيَّات لله الطَّيِّبَات والصلوات وَالْملك لله ثمَّ سلمُوا على النَّبِي وسلموا على أقاربكم وعَلى أَنفسكُم " وَإِسْنَاده ضَعِيف قَالَه بَعضهم وَلَيْسَ كَذَلِك بل صَحِيح على شَرط ابْن حبَان وَأما حَدِيث أبي حميد فَأخْرجهُ الطَّبَرَانِيّ مثل حَدِيث ابْن مَسْعُود وَلَكِن زَاد " الزاكيات لله " بعد " الطَّيِّبَات " وَأسْقط وَاو الطَّيِّبَات وَإِسْنَاده ضَعِيف وَفِي الْبَاب عَن الْحُسَيْن بن عَليّ وَطَلْحَة بن عبيد الله وَأنس وَأبي هُرَيْرَة وَالْفضل بن عَبَّاس وَأم سَلمَة وَحُذَيْفَة وَالْمطلب بن ربيعَة وَابْن أبي أوفى رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم قَالُوا جملَة من روى فِي التَّشَهُّد من الصَّحَابَة أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ صحابيا (الْوَجْه الثَّانِي) فِي تَرْجِيح تشهد ابْن مَسْعُود رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ على جَمِيع رِوَايَات غَيره قَالَ التِّرْمِذِيّ أصح حَدِيث عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي التَّشَهُّد حَدِيث ابْن مَسْعُود وَالْعَمَل عَلَيْهِ عِنْد أَكثر أهل الْعلم من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ ثمَّ أخرج عَن معمر عَن خصيف قَالَ " رَأَيْت النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فِي الْمَنَام فَقلت لَهُ إِن النَّاس قد اخْتلفُوا فِي التَّشَهُّد فَقَالَ عَلَيْك بتشهد ابْن مَسْعُود " وَأخرج الطَّبَرَانِيّ فِي مُعْجَمه عَن بشير بن المُهَاجر عَن أبي بُرَيْدَة عَن أَبِيه قَالَ " مَا سَمِعت فِي التَّشَهُّد أحسن من حَدِيث ابْن مَسْعُود وَذَلِكَ أَنه رَفعه إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - " وَقَالَ الْخطابِيّ أصح الرِّوَايَات وأشهرها رجَالًا تشهد ابْن مَسْعُود وَقَالَ ابْن الْمُنْذر وَأَبُو عَليّ الطوسي قد روى حَدِيث ابْن مَسْعُود من غير وَجه وَهُوَ أصح حَدِيث رُوِيَ فِي التَّشَهُّد عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ أَبُو عمر بتشهد ابْن مَسْعُود أَخذ أَكثر أهل الْعلم لثُبُوت فعله عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ عَليّ بن الْمَدِينِيّ لم يَصح فِي التَّشَهُّد إِلَّا مَا نَقله أهل الْكُوفَة عَن ابْن مَسْعُود وَأهل الْبَصْرَة عَن أبي مُوسَى وبنحوه قَالَه ابْن طَاهِر وَقَالَ النَّوَوِيّ أَشدّهَا صِحَة بِاتِّفَاق الْمُحدثين حَدِيث ابْن مَسْعُود ثمَّ حَدِيث ابْن عَبَّاس وَقَالَ الْبَزَّار أصح حَدِيث فِي التَّشَهُّد حَدِيث ابْن مَسْعُود وروى عَنهُ عَن نَيف وَعشْرين طَرِيقا ثمَّ سرد أَكْثَرهَا قَالَ وَلَا أعلم فِي التَّشَهُّد أثبت مِنْهُ وَلَا أصح أَسَانِيد وَلَا أشهر رجَالًا (قلت) هَذَا الطَّحَاوِيّ الجهبذ أخرج حَدِيث ابْن مَسْعُود فِي كِتَابه شرح مَعَاني آثَار من اثنى عشر طَرِيقا وسرد الْجَمِيع ثمَّ قَالَ فِي آخر الْبَاب فَلهَذَا الَّذِي ذكرنَا استحسنا مَا رُوِيَ عَن عبد الله بتشديده فِي ذَلِك ولإجماعهم عَلَيْهِ إِذْ كَانُوا قد اتَّفقُوا على أَنه

(6/114)


لَا يَنْبَغِي أَن يتَشَهَّد إِلَّا بخاص من التَّشَهُّد يَعْنِي كلهم اتَّفقُوا على أَن التَّشَهُّد لَا يكون إِلَّا بِأَلْفَاظ مَخْصُوصَة وَلَا يكون بِأَيّ لفظ كَانَ فَإِذا كَانَ كَذَلِك فالمتفق عَلَيْهِ أولى من الْمُخْتَلف فِيهِ فَصَارَ كَونه مُتَّفقا عَلَيْهِ دون غَيره من مرجحاته لِأَن الروَاة عَنهُ من الثِّقَات لم يَخْتَلِفُوا فِي أَلْفَاظه بِخِلَاف غَيره وَأَن ابْن مَسْعُود تَلقاهُ عَن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تلقيا فروى الطَّحَاوِيّ من طَرِيق الْأسود بن يزِيد عَنهُ قَالَ " أخذت التَّشَهُّد من فِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولقننيه كلمة كلمة " وَفِي رِوَايَة أبي معمر عَنهُ " عَلمنِي رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - التَّشَهُّد وكفي بَين كفيه " وَمن المرجحات ثُبُوت الْوَاو فِي الصَّلَوَات والطيبات وَهِي تَقْتَضِي الْمُغَايرَة بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ فَتكون كل جملَة ثَنَاء مُسْتقِلّا بِخِلَاف مَا إِذا حذفت فَإِنَّهَا تكون صفة لما قبلهَا وتعدد الثَّنَاء فِي الأول صَرِيح فَيكون أولى وَلَو قيل أَن الْوَاو مقدرَة فِي الثَّانِي. وَمِنْهَا أَنه ورد بِصِيغَة الْأَمر بِخِلَاف غَيره فَإِنَّهُ مُجَرّد حِكَايَة وَمِنْهَا أَن فِي رِوَايَة أَحْمد أَن رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - علمه التَّشَهُّد وَأمره أَن يُعلمهُ النَّاس وَلم ينْقل ذَلِك لغيره فَفِيهِ دَلِيل على مزيته وَقَالَ الْكرْمَانِي ذهب الشَّافِعِي إِلَى أَن تشهد ابْن عَبَّاس أفضل لزِيَادَة لَفْظَة المباركات فِيهِ وَهِي مُوَافقَة لقَوْل الله تَعَالَى {تَحِيَّة من عِنْد الله مباركة طيبَة} . وَقَالَ مَالك تشهد عمر بن الْخطاب أفضل لِأَنَّهُ علمه النَّاس على الْمِنْبَر وَلم ينازعه أحد فَدلَّ على تفضيله (قلت) وَذهب بَعضهم إِلَى عدم التَّرْجِيح مِنْهُم ابْن خُزَيْمَة وَالْجَوَاب عَن تَرْجِيح الشَّافِعِي حَدِيث ابْن عَبَّاس بِالزِّيَادَةِ أَنَّهَا مُخْتَلف فِيهَا وَحَدِيث ابْن مَسْعُود مُتَّفق عَلَيْهِ كَمَا ذكرنَا وَحَدِيث ابْن عَبَّاس مَذْكُور مَعْدُود فِي أَفْرَاد مُسلم وَأَعْلَى دَرَجَة الصَّحِيح عِنْد الْحفاظ مَا اتّفق عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ وَلَو فِي أَصله فَكيف إِذا اتفقَا على لَفظه فَلم يكن مَا ذكره سَببا للترجيح على أَن ابْن مَسْعُود قد أنكر على من زَاد على مَا رَوَاهُ من لفظ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَكَونه مُوَافقا لما فِي الْقُرْآن وَجه من التَّرْجِيح فَلَا يفضل بذلك على الَّذِي لَهُ وُجُوه من التَّرْجِيح وَالْجَوَاب عَن تَرْجِيح مَالك تشهد عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أَنه مَوْقُوف عَلَيْهِ فَلَا يلْحق الْمَرْفُوع إِلَى النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَقَالَ برهَان الدّين صَاحب الْهِدَايَة الْأَخْذ بتشهد ابْن مَسْعُود أولى لِأَن فِيهِ الْأَمر وَأقله الِاسْتِحْبَاب وَالْألف وَاللَّام وهما للاستغراق وَزِيَادَة الْوَاو لتجديد الْكَلَام كَمَا فِي الْقسم وتأكيد التَّعْلِيم وَمِمَّا رُوِيَ فِي إِنْكَار الزِّيَادَة مَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْأَوْسَط من حَدِيث الْعَلَاء بن الْمسيب عَن أَبِيه قَالَ كَانَ ابْن مَسْعُود يعلم رجلا التَّشَهُّد فَقَالَ عبد الله أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله فَقَالَ الرجل وَحده لَا شريك لَهُ فَقَالَ عبد الله هُوَ كَذَلِك وَلَكِن يَنْتَهِي إِلَى مَا علمنَا وَفِي رِوَايَة الْبَزَّار فَقَالَ عبد الله وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فَقَالَ الرجل وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ عبد الله مرَارًا كل ذَلِك يَقُول وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله وَالرجل يَقُول وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله فَقَالَ عبد الله كَذَا علمنَا وَقَالَ ابْن أبي شيبَة فِي مُصَنفه حَدثنَا وَكِيع عَن إِسْحَاق بن يحيى عَن الْمسيب بن رَافع سمع ابْن مَسْعُود رجلا يَقُول فِي التَّشَهُّد بِسم الله فَقَالَ إِنَّمَا يُقَال هَذَا على الطَّعَام (الْوَجْه الثَّالِث) فِي التَّشَهُّد هَل هُوَ وَاجِب أم سنة فَقَالَ الشَّافِعِي وَطَائِفَة التَّشَهُّد الأول سنة وَالْآخر وَاجِب وَقَالَ جُمْهُور الْمُحدثين هما واجبان وَقَالَ أَحْمد الأول وَاجِب وَالثَّانِي فرض وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام فِيهِ فِي بَاب من لم ير التَّشَهُّد الأول وَاجِبا. (الْوَجْه الرَّابِع) فِي أَن السّنة فِي التَّشَهُّد الْإخْفَاء لما روى التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ إِلَى عبد الله بن مَسْعُود من السّنة أَن يخفي التَّشَهُّد وَقَالَ حسن غَرِيب وَعند الْحَاكِم عَن عبد الله من السّنة أَن يخفي التَّشَهُّد وَقَالَ صَحِيح على شَرط مُسلم وَأخرج ابْن خُزَيْمَة فِي صَحِيحه عَن عَائِشَة قَالَت نزلت هَذِه الْآيَة فِي التَّشَهُّد {وَلَا تجْهر بصلاتك وَلَا تخَافت بهَا} وَقَالَ الْحَاكِم صَحِيح على شَرط مُسلم -
149 - (بابُ الدُّعَاءِ قَبْلَ السَّلاَمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الدُّعَاء قبل أَن يسلم الْمُصَلِّي، يَعْنِي: التَّشَهُّد قبل السَّلَام.

832 - حدَّثنا أبُو اليَمَانِ قَالَ أخبرنَا شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أخبرنَا عُرْوَةُ بنُ الزُّبَيْرِ عنْ عائِشَةَ زوْجِ النَّبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أخْبَرْتُهُ أنَّ رسولَ الله كانَ يَدْعُو فِي الصَّلاَةِ اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ

(6/115)


بِكَ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ وأعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ وأعُوذُ بِكَ مِن فِتْنَةِ المَحْيَا وَفِتْنَةِ المَمَاتِ اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ المَأْثَمِ والمَغْرَمِ فقالَ لَهُ قائِلٌ مَا أكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنَ المَغْرَمِ فَقَالَ إنَّ الرَّجُلَ إذَا غَرَمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ ووعَدَ فأخْلَفَ. قَالَ مُحَمَّدُ بنُ يُوسُف سَمِعْتُ خَلَفَ بنَ عَامِرٍ يَقُولُ فِي المَسِيحِ وَالمَسِيحِ مُشَدَّدٌ لَيْسَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ وَهُمَا واحِدٌ أحَدُهُمَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ والآخَرُ الدَّجَّالُ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة من وَجْهَيْن: أَحدهمَا: بِالْقَرِينَةِ، وَهِي الَّتِي ذكرهَا الْكرْمَانِي من حَيْثُ إِن لكل مقَام ذكرا مَخْصُوصًا، فَتعين أَن يكون مقَامه بعد الْفَرَاغ من الْكل، وَهُوَ آخر الصَّلَاة. قلت: بَيَان ذَلِك أَن للصَّلَاة قيَاما وركوعا وسجودا وقعودا، فالقيام مَحل قِرَاءَة الْقُرْآن وَالرُّكُوع، وَالسُّجُود لَهما دعاءان مخصوصان، وَالْقعُود مَحل التَّشَهُّد، فَلم يبْق للدُّعَاء مَحل إلاّ بعد التَّشَهُّد قبل السَّلَام، وَبِهَذَا التَّقْرِير ينْدَفع قَول بَعضهم عقيب نَقله كَلَام الْكرْمَانِي: وَفِيه نظر، لِأَن هَذَا هُوَ مَحل التَّرْتِيب للْبُخَارِيّ، لكنه مطَالب بِدَلِيل اخْتِصَاص هَذَا الْمحل بِهَذَا الذّكر، وَلَو أمعن هَذَا الْقَائِل فِي تَأمل مَا ذكرنَا لما طلب الْكرْمَانِي بِمَا ذكره. وَالْوَجْه الآخر: أَن الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا. وَقد رُوِيَ فِي بعض الطّرق تعْيين مَحل الدُّعَاء، فَأخْرج ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق ابْن جريج: أَخْبرنِي عبد الله بن طَاوُوس عَن أَبِيه أَنه: كَانَ يَقُول بعد التَّشَهُّد كَلِمَات يعظمهن جدا، قلت: فِي الْمثنى كليهمَا؟ قَالَا: بل فِي التَّشَهُّد الْأَخير: قلت: مَا هِيَ؟ قَالَ: أعوذ بِاللَّه من عَذَاب الْقَبْر. .) الحَدِيث. قَالَ ابْن جريج: أخبرنيه عَن أَبِيه عَن عَائِشَة مَرْفُوعا. وَرُوِيَ من طَرِيق مُحَمَّد ابْن أبي عَائِشَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مَرْفُوعا: (إِذا تشهد أحدكُم فَلْيقل. .) فَذكر نَحوه، هَذِه رِوَايَة وَكِيع عَن الْأَوْزَاعِيّ عَنهُ، وَأخرجه أَيْضا من رِوَايَة الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ بِلَفْظ: (إِذا فرغ أحدكُم من التَّشَهُّد الْأَخير. .) فَذكره، وَفِي رواي ابْن مَاجَه: (إِذا فرغ أحدكُم من التَّشَهُّد الْأَخير فليتعوذ من أَربع. .) الحَدِيث.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة كلهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَشُعَيْب بن أبي حَمْزَة، وَالزهْرِيّ مُحَمَّد بن مُسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد، وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي موضِعين، وبالإفراد من الْمَاضِي فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين، وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: التَّصْرِيح بِأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: أَن الْإِثْنَيْنِ الْأَوَّلين من الروَاة حمصيان والآخران مدنيان.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أبي الْيَمَان فِي الاستقراض. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي بكر عَن إِسْحَاق الصَّاغَانِي عَن أبي الْيَمَان بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن عَمْرو بن عُثْمَان عَن بَقِيَّة عَن شُعَيْب بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاة) أَي: فِي آخر الصَّلَاة بعد التَّشَهُّد قبل السَّلَام، بالقرائن الَّتِي ذَكرنَاهَا. قَوْله: (من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال) الْفِتْنَة عبارَة عَن الِابْتِلَاء والامتحان، يُقَال: فتنته أفتنته فتنا وفتونا: إِذا امتحنته. وَيُقَال فِيهَا: افتنه أَيْضا، وَهُوَ قَلِيل. وَقد كثر اسْتِعْمَالهَا فِيمَا أخرجه الاختبار للمكروه، ثمَّ كثر حَتَّى اسْتعْمل بِمَعْنى الْإِثْم وَالْكفْر والقتال والإحراق والإزالة وَالصرْف عَن الشَّيْء والمسيح، بِفَتْح الْمِيم وَكسر السِّين الْمُهْملَة المخففة وَفِي آخِره حاء مُهْملَة: يُطلق على عِيسَى ابْن مَرْيَم، وعَلى الدَّجَّال أَيْضا، وَلكنه يفرق بالتقييد، وَسمي الدَّجَّال بالمسيح لِأَن الْخَيْر مسح مِنْهُ، فَهُوَ مسيح الضَّلَالَة. وَقيل: سمي بِهِ لِأَن عينه الْمُوَحدَة ممسوحة، وَيُقَال: رجل مَمْسُوح الْوَجْه ومسيح، وَهُوَ أَن لَا يبْقى على أحد شقي وَجهه عين وَلَا حَاجِب إِلَّا اسْتَوَى. وَقيل: لِأَنَّهُ يمسح الأَرْض، أَي: يقطعهَا إِذا خرج. وَقَالَ أَبُو الْهَيْثَم: إِنَّه مسيح على وزن: سكيت، وَهُوَ الَّذِي مسح خلقه أَي شوه، فَكَأَنَّهُ هرب من الالتباس بالمسيح بن مَرْيَم، عَلَيْهِمَا السَّلَام، وَلَا التباس، لِأَن عِيسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام إِنَّمَا سمي مسيحا لِأَنَّهُ كَانَ لَا يمسح بِيَدِهِ الْمُبَارَكَة ذَا عاهة إلاّ برىء. وَقيل: لِأَنَّهُ كَانَ أَمسَح

(6/116)


الرجل لَا أَخْمص لَهُ. وَقيل: لِأَنَّهُ خرج من بطن أمه ممسوحا بدهن. وَقيل: الْمَسِيح الصّديق، وَقيل: هُوَ بالعبرانية مشيحا، فعرب. وَأما تَسْمِيَة الدَّجَّال بِهَذَا اللَّفْظ فَلِأَنَّهُ، خداع ملبس من الدجل، وَهُوَ الْخَلْط، وَيُقَال الطلي والتغطية، وَمِنْه الْبَعِير المدجل أَي: المدهون بالقطران، ودجلة نهر بِبَغْدَاد سميت بذلك لِأَنَّهَا تغطي الأَرْض بِمَائِهَا، وَهَذَا الْمَعْنى أَيْضا فِي الدَّجَّال لِأَنَّهُ يُغطي الأَرْض بِكَثْرَة أَتْبَاعه، أَو يُغطي الْحق بباطله. وَقيل: لِأَنَّهُ مطموس الْعين من قَوْلهم: دجل الْأَثر إِذا عفى ودرس، وَقيل: من دجل أَي: كذب، والدجال: الْكذَّاب. قَوْله: (من فتْنَة الْمحيا وفتنة الْمَمَات) ، والمحيا وَالْمَمَات كِلَاهُمَا مصدران ميميان بِمَعْنى: الْحَيَاة وَالْمَوْت، وَيحْتَمل زمَان ذَلِك، لِأَن مَا كَانَ مُعْتَلًّا من الثلاثي فقد يَأْتِي مِنْهُ الْمصدر وَالزَّمَان وَالْمَكَان بِلَفْظ وَاحِد. أما فتْنَة الْحَيَاة فَهِيَ الَّتِي تعرض للْإنْسَان مُدَّة حَيَاته من الافتتان بالدنيا والشهوات والجهالات، وأشدها وَأَعْظَمهَا، وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى، أَمر الخاتمة عِنْد الْمَوْت، وَأما فتْنَة الْمَوْت فَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقيل: فتْنَة الْقَبْر، وَقيل: يحْتَمل أَن يُرَاد بالفتنة عِنْد الاحتضار أضيفت إِلَى الْمَوْت لقربها مِنْهُ. فَإِن قلت: إِذا كَانَ المُرَاد من قَوْله: (وفتنة الْمَمَات) فتْنَة الْقَبْر، يكون هَذَا مكررا، لِأَن قَوْله: (من عَذَاب الْقَبْر) يدل على هَذَا؟ قلت: لَا تكْرَار، لِأَن الْعَذَاب يزِيد على الْفِتْنَة، والفتنة سَبَب لَهُ، وَالسَّبَب غير الْمُسَبّب. قَوْله: (من المأثم) أَي: الْإِثْم الَّذِي يجر إِلَى الذَّم والعقوبة، أَو المُرَاد هُوَ الْإِثْم نَفسه، وضعا للمصدر مَوضِع الإسم. قَوْله: (والمغرم) أَي: الدّين، يُقَال: غرم الرجل، بِالْكَسْرِ إِذا أدان. وَقيل: الْغرم والمغرم، مَا يَنُوب الْإِنْسَان فِي مَاله من ضَرَر بِغَيْر جِنَايَة مِنْهُ، وَكَذَلِكَ مَا يلْزمه أَدَاؤُهُ، وَمِنْه الغرامة، والغريم: الَّذِي عَلَيْهِ الدّين، وَالْأَصْل فِيهِ: الغرام، وَهُوَ الشَّرّ الدَّائِم وَالْعَذَاب. قَوْله: (فَقَالَ لَهُ قَائِل) أَي: قَالَ للنَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَائِل سَائِلًا عَن وَجه الْحِكْمَة فِي كَثْرَة استعاذته من المغرم، فَقَالَ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إِن الرجل إِذا عزم يَعْنِي إِذا لحقه دين حدث فكذب بِأَن يحْتَج بِشَيْء فِي وَفَاء مَا عَلَيْهِ، وَلم يقم بِهِ، فَيصير كَاذِبًا، ووعد فأخلف بِأَن قَالَ لصَاحب الدّين: أوفيك دينك فِي يَوْم كَذَا، أَو فِي شهر كَذَا، أَو فِي وَقت كَذَا، وَلم يوف فِيهِ، فَيصير مُخَالفا لوعده، وَالْكذب وَخلف الْوَعْد من صِفَات الْمُنَافِقين، كَمَا ورد فِي الحَدِيث الْمَشْهُور، فلولا هَذَا الدّين عَلَيْهِ لما ارْتكب هَذَا الْإِثْم الْعَظِيم، وَلما اتّصف بِصِفَات الْمُنَافِقين. وَكلمَة: مَا، فِي قَوْله: (مَا أَكثر مَا تستعيذ) للتعجب، و: مَا، الثَّانِيَة مَصْدَرِيَّة يَعْنِي: مَا أَكثر استعاذتك من المغرم، و: مَا تستعيذ، فِي مَحل النصب. قَوْله: (حدث) ، بِالتَّشْدِيدِ: جَزَاء الشَّرْط. قَوْله: (وَكذب) . بِالتَّخْفِيفِ عطف عَلَيْهِ. قَوْله: (ووعد) عطف على: حدث. قَوْله: (أخلف) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ، وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين: (فأخلف) ، بِالْفَاءِ.
فَإِن قلت: قَوْله: (فتْنَة الْمحيا وَالْمَمَات) يَشْمَل جَمِيع مَا ذكر، فلأي شَيْء خصصت هَذِه الْأَشْيَاء الْأَرْبَعَة بِالذكر؟ قلت: لعظم شَأْنهَا وَكَثْرَة شَرها، وَلَا شكّ أَن تَخْصِيص بعض مَا يَشْمَلهُ الْعَام من بَاب الاعتناء بأَمْره لشدَّة حكمه، وَفِيه أَيْضا عطف الْعَام على الْخَاص، وَذَلِكَ لفخامة أَمر الْمَعْطُوف عَلَيْهِ وَعظم شَأْنه، وَفِيه اللف والنشر الْغَيْر الْمُرَتّب، لِأَن عَذَاب الْقَبْر دَاخل تَحت فتْنَة الْمَمَات، وفتنة الدَّجَّال تَحت فتْنَة الْمحيا. فَإِن قلت: مَا فَائِدَة تعوذه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من هَذِه الْأُمُور الَّتِي قد عصم مِنْهَا؟ قلت: إِنَّمَا ذَلِك ليلتزم خوف الله تَعَالَى، ولتقتدي بِهِ الْأمة، وليبين لَهُم صفة الدُّعَاء. فَإِن قلت: سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن مَا فَائِدَة تعوذه من فتْنَة الْمَسِيح الدَّجَّال، مَعَ علمه بِأَنَّهُ مُتَأَخّر عَن ذَلِك الزَّمَان بِكَثِير؟ قلت: فَائِدَته أَن ينتشر خَبره بَين الْأمة من جيل إِلَى جيل، وَجَمَاعَة إِلَى جمَاعَة، بِأَنَّهُ كَذَّاب مُبْطل مفتر ساعٍ على وَجه الأَرْض بِالْفَسَادِ، مموه سَاحر، حَتَّى لَا يلتبس على الْمُؤمنِينَ أمره عِنْد خُرُوجه، عَلَيْهِ اللَّعْنَة، ويتحققوا أمره ويعرفوا أَن جَمِيع دعاويه بَاطِلَة، كَمَا أخبر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَيجوز أَن يكون هَذَا تَعْلِيما مِنْهُ لأمته أَو تعوذا مِنْهُ لَهُم. فَإِن قلت: يُعَارض التَّعَوُّذ بِاللَّه عَن المغرم مَا رَوَاهُ جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن أَبِيه عَن عبد الله بن جَعْفَر، يرفعهُ: (إِن الله تَعَالَى مَعَ الدَّائِن حَتَّى يقْضِي دينه مَا لم يكن فِيمَا يكرههُ الله تَعَالَى) ، وَكَانَ ابْن جَعْفَر يَقُول لِخَادِمِهِ: إذهب فَخذ لي بدين، فَإِنِّي أكره أَن أَبيت اللَّيْلَة، إلاّ وَالله معي. قَالَ الطَّبَرَانِيّ: وكلا الْحَدِيثين صَحِيح. قلت: المغرم الَّذِي استعاذ مِنْهُ إِمَّا أَن يكون فِي مُبَاح، وَلَكِن لَا وَجه عِنْده لقضائه، فَهُوَ متعرض لهلاك مَال أَخِيه، أَو يستدين وَله إِلَى الْقَضَاء سَبِيل غير أَنه يرى ترك الْقَضَاء، وَهَذَا لَا يَصح إلاّ أذا نزل كَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على التَّعْلِيم، لأمته، أَو يستدين من غير حَاجَة طَمَعا فِي مَال أَخِيه وَنَحْو ذَلِك، وَحَدِيث جَعْفَر فِيمَن يستدين لاحتياجه، احتياجا شَرْعِيًّا وَنِيَّته الْقَضَاء، وَإِن لم يكن لَهُ سَبِيل إِلَى الْقَضَاء

(6/117)


فِي ذَلِك الْوَقْت، لِأَن الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَنِيَّة الْمُؤمن خير من عمله.
قَوْله: (قَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف) هُوَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن يُوسُف إِبْنِ مطرف الْفربرِي، أحد الروَاة عَن البُخَارِيّ، يحْكى البُخَارِيّ عَنهُ أَنه قَالَ: سَمِعت خلف بن عَامر، يَعْنِي الْهَمدَانِي، أحد الْحفاظ أَنه لم يفرق بَين الْمَسِيح بِالتَّخْفِيفِ والمسيح بِالتَّشْدِيدِ، وَذكرنَا عَن أبي الْهَيْثَم أَنه فرق بَينهمَا، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِثْبَات عَذَاب الْقَبْر ردا على الْمُعْتَزلَة وَمن أنكرهُ من غَيرهم. وَفِيه: إِثْبَات وجود الدَّجَّال وَإِثْبَات خُرُوجه. وَفِيه: الِاسْتِعَاذَة من الْفِتَن والشرور، وَالسُّؤَال من الله تَعَالَى دَفعهَا عَنهُ. وَفِيه: بشاعة الدّين وشدته وتأديته الدَّائِن إِلَى ارْتِكَاب الْكَذِب وَالْخلف فِي الْوَعْد اللَّذين هما من صِفَات الْمُنَافِقين. وَفِيه: وجوب الِاسْتِعَاذَة من الدّين لِأَنَّهُ يشين فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَعَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (الدّين راية الله فِي الأَرْض، فَإِذا أَرَادَ الله أَن يذل عبدا وَضعه فِي عُنُقه) . رَوَاهُ الْحَاكِم، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم.

833 - حدَّثنا وعَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي عُرْوَةُ أنَّ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْتَعِيذُ فِي صَلاتِهِ مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ. .

هَذَا عطف على قَوْله: (شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ) ، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الزُّهْرِيّ روى الحَدِيث الْمَذْكُور مطولا ومختصرا، فالمطول هُوَ الَّذِي سبق قبله الَّذِي استعاذ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِاللَّه فِيهِ من الْأَشْيَاء الْمَذْكُورَة، وَهَهُنَا اقْتصر على الِاسْتِعَاذَة من فتْنَة الدَّجَّال، وَهَهُنَا زِيَادَة ذكر السماع عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ثمَّ إعلم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِيمَا يَدْعُو بِهِ الْإِنْسَان فِي صلَاته. فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأحمد: لَا يجوز الدُّعَاء إلاّ بالأدعية المأثورة أَو الْمُوَافقَة لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس، إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) . رَوَاهُ مُسلم، وَذكره ابْن أبي شيبَة عَن أبي هُرَيْرَة وطاووس وَمُحَمّد بن سِيرِين. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك: يجوز أَن يَدْعُو فِيهَا بِكُل مَا يجوز الدُّعَاء بِهِ فِي خَارج الصَّلَاة من أُمُور الدُّنْيَا وَالدّين، مِمَّا يشبه كَلَام النَّاس، وَلَا تبطل صلَاته بِشَيْء من ذَلِك عِنْدهمَا. وَقَالَ ابْن حزم بفرضية التَّعَوُّذ الَّذِي فِي حَدِيث عَائِشَة، لما ذكر مُسلم عَن طَاوُوس أَنه أَمر ابْنه بِإِعَادَة صلَاته الَّتِي لم يدع بهَا فِيهَا.

834 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سعِيدٍ قَالَ حدَّثنا اللَّيْثُ عنْ يَزِيدَ بنِ أبي حَبِيبٍ عَن أبي الخَيْرِ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَمْرٍ وَعَن أبِي بَكْرِ الصِّدِّيقِ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ قَالَ لِرَسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلِّمْنِي دُعَاءً أدْعُو بِهِ فِي صَلاتِي قَالَ قُلِ اللَّهُمَّ إنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي ظُلْما كَثِيرا ولاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ أنْتَ فاغْفِرْ لِي مَغْفِرَةً مِنْ عِنْدِكَ وَارْحَمْنِي إنَّكَ أنْتَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ الْوَجْه الَّذِي ذَكرْنَاهُ فِي الحَدِيث السَّابِق.
وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَأَبُو الْخَيْر: مرْثَد بن عبد الله الْيَزنِي الْمصْرِيّ، ومرثد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفِي آخِره دَال مُهْملَة، ويزن، بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالزَّاي وَفِي آخِره نون: بطن من حمير، وَتقدم ذكره فِي: بَاب إطْعَام الطَّعَام من الْإِسْلَام.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رجال إِسْنَاده كلهم سوى طَرفَيْهِ مصريون. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ: فالتابعيان هما: يزِيد بن أبي حبيب وَأَبُو الْخَيْر. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ: وَهُوَ عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الدَّعْوَات عَن عبد الله بن يُوسُف. وَأخرجه مُسلم فِي الدَّعْوَات عَن مُحَمَّد بن رمح وقتيبة، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي

(6/118)


الْقُنُوت عَن قُتَيْبَة بِهِ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الدُّعَاء عَن مُحَمَّد بن رمح بِهِ، وَرَوَاهُ غير وَاحِد فَجعله من مُسْند عبد الله بن عَمْرو ابْن الْعَاصِ مِنْهُم: عَمْرو بن الْحَارِث، خَالف اللَّيْث فَجعله من مُسْند عبد الله بن عَمْرو، وَلَفظه: (عَن أبي الْخَيْر أَنه سمع عبد الله ابْن عَمْرو يَقُول: إِن أَبَا بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) هَكَذَا رَوَاهُ ابْن وهب عَن عَمْرو بن الْحَارِث. وَأما مُقْتَضى رِوَايَة اللَّيْث بن سعيد عَن يزِيد ابْن أبي حبيب عَن أبي الْخَيْر عَن عبد الله بن عَمْرو عَن أبي بكر إِلَى آخِره: أَن الحَدِيث من مُسْند أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وأوضح من ذَلِك رِوَايَة أبي الْوَلِيد الطَّيَالِسِيّ عَن اللَّيْث، فَإِن لَفظه: عَن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله ... أخرجه الْبَزَّار من طَرِيقه، وَلَا يقْدَح هَذَا الِاخْتِلَاف فِي صِحَة هَذَا الحَدِيث. وَقد أخرج البُخَارِيّ طَرِيق عَمْرو معلقَة فِي الدَّعْوَات، وموصولة فِي التَّوْحِيد عَن يحيى بن سلمَان عَن عَمْرو، وَكَذَا أخرج مُسلم الطَّرِيقَيْنِ طَرِيق اللَّيْث وَطَرِيق ابْن وهب، وَزَاد مَعَ عَمْرو بن الْحَارِث رجلا مُبْهما، وَبَين ابْن خُزَيْمَة فِي رِوَايَته أَنه: عبد الله بن لَهِيعَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ادعو بِهِ) ، جملَة فِي مَحل النصب لِأَنَّهَا صفة لقَوْله: (دَعَاهُ) الَّذِي هُوَ مَنْصُوب على أَنه مفعول ثَان لقَوْله: (عَلمنِي) . قَوْله: (فِي صَلَاتي) ، ظَاهره وَعُمُوم جَمِيع الصَّلَاة، وَلَكِن المُرَاد فِي حَالَة الْقعُود بعد التَّشَهُّد قبل الْإِسْلَام، كَمَا حققنا هَكَذَا فِيمَا مضى، وَقد قَالَ الشَّيْخ تَقِيّ الدّين: لَعَلَّه يتَرَجَّح كَونه فِيمَا بعد التَّشَهُّد لظُهُور الْعِنَايَة بتعليم دُعَاء مَخْصُوص فِي هَذَا الْمحل، ونازعه بَعضهم فَقَالَ: الأولى الْجمع بَينهمَا فِي المحلين الْمَذْكُورين أَي: السُّجُود وَالتَّشَهُّد. قلت: لَا دَلِيل لَهُ على دَعْوَى الْأَوْلَوِيَّة: بل الدَّلِيل الصَّرِيح قَامَ على أَن مَحَله فِي الجلسة، وَقد مضى بَيَانه فِي أول الْبَاب الَّذِي قبله. قَوْله: (ظلمت نَفسِي) يَعْنِي بإتيان مَا يُوجب الْعقُوبَة. قَوْله: (ظلما كثيرا) بالثاء الْمُثَلَّثَة، ويروى بِالْبَاء الْمُوَحدَة، وَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة مُسلم. وَقَالَ النَّوَوِيّ: فَيَنْبَغِي إِن يَقُول: ظلما كَبِيرا كثيرا. قَوْله: (وَلَا يغْفر الذُّنُوب إلاّ أَنْت) جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: (ظلمت نَفسِي ظلما كثيرا) وَبَين قَوْله: (فَاغْفِر لي مغْفرَة) . وَفَائِدَة هَذِه الْجُمْلَة الْإِشَارَة إِلَى الْإِقْرَار بِأَن الله هُوَ الَّذِي يغْفر الذُّنُوب، وَلَيْسَ ذَلِك لغيره. وَفِي الْحَقِيقَة: هُوَ إِقْرَار أَيْضا بالوحدانية، لِأَن مَن صفته غفران الذُّنُوب هُوَ الْمَوْصُوف بالوحدانية، والتنوين فِي قَوْله: (مغْفرَة) يدل على أَنه غفران لَا يكتنه كنهه. قَوْله: (من عنْدك) إِشَارَة إِلَى مزِيد ذَلِك التَّعْظِيم، لِأَن مَا يكون من عِنْده لَا يُحِيط بِهِ وصف الواصفين. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ: هُوَ طلب مغْفرَة متفضل بهَا لَا يقتضيها سَبَب من جِهَة العَبْد من عمل صَالح وَغَيره، وَحَاصِله: هَب لي الْمَغْفِرَة وَإِن لم أكن أَهلا لَهَا بعملي، وكمل الْكَلَام وختمه بقوله: (وارحمني إِنَّك أَنْت الغفور الرَّحِيم) . وَفِي هَاتين الصفتين مُقَابلَة حَسَنَة لِأَن قَوْله: (الغفور) مُقَابل لقَوْله: (اغْفِر لي) وَقَوله: (الرَّحِيم) مُقَابل لقَوْله: (ارْحَمْنِي) ، وَلنَا أَن نقُول: فِيهِ لف وَنشر مُرَتّب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: طلب التَّعْلِيم من الْعَالم فِي كل مَا فِيهِ خير، خُصُوصا الدَّعْوَات الَّتِي فِيهَا جَوَامِع الْكَلم. وَفِيه: الِاعْتِرَاف بالتقصير وَنسبَة الظُّلم إِلَى نَفسه. وَفِيه: الِاعْتِرَاف بِأَن الله سُبْحَانَهُ هُوَ المتفضل الْمُعْطِي من عِنْده رَحْمَة على عباده من غير مُقَابلَة عمل حسن. وَفِيه: اسْتِحْبَاب قِرَاءَة الْأَدْعِيَة فِي آخر الصَّلَاة من الدَّعْوَات المأثورة أَو المشابهة لألفاظ الْقُرْآن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالَت الشَّافِعِيَّة: يجوز الدُّعَاء فِي الصَّلَاة بِمَا شَاءَ من أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة مَا لم يكن إِثْمًا قَالَ ابْن عمر: لأدعو فِي صَلَاتي حَتَّى بشعير حماري وملح بَيْتِي. انْتهى. وَقد ذكرنَا فِيمَا مضى أَنه لَا يَدْعُو إلاّ بالأدعية المأثورة، أَو بِمَا يشبه أَلْفَاظ الْقُرْآن، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِن صَلَاتنَا هَذِه لَا يصلح فِيهَا شَيْء من كَلَام النَّاس إِنَّمَا هُوَ التَّسْبِيح وَالتَّكْبِير وَقِرَاءَة الْقُرْآن) ، وَهُوَ من أَفْرَاد مُسلم.

150 - (بابُ مَا يُتَخَيَّرُ مِنَ الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ ولَيْسَ بِوَاجِبٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا يتَخَيَّر الْمُصَلِّي من الدُّعَاء بعد فَرَاغه من التَّشَهُّد، يَعْنِي: قِرَاءَة التَّحِيَّات، وَالْحَال أَنه لَيْسَ بِوَاجِب. أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن حَدِيث الْبَاب الَّذِي فِيهِ الْأَمر وَهُوَ قَوْله: (ثمَّ ليتخير من الدُّعَاء أعجبه إِلَيْهِ) لَيْسَ للْوُجُوب

(6/119)


وَإِنَّمَا هُوَ للاستحباب. فَإِن قلت: الْمَأْمُور بِهِ هُوَ التخير، وَهُوَ لَا يُنَافِي وجوب أصل الدُّعَاء؟ قلت: من الدَّلِيل فِي عدم وجوب أصل الدُّعَاء حَدِيث مسيء الصَّلَاة، لِأَنَّهُ لم ينْقل عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه أمره بذلك.

151 - (بابُ مَنْ لَمْ يَمْسَحْ جَبْهَتَهُ وأنْفَهُ حَتَّى صَلَّى)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: من لم يمسح. . إِلَى آخِره، يَعْنِي: لم يمسح جَبهته وَأَنْفه من المَاء والطين اللَّذين أصابا جَبهته وَأَنْفه، وَهُوَ فِي الصَّلَاة حَتَّى صلى صلَاته، وَلَكِن هَذَا مَحْمُول على أَن ذَلِك كَانَ قَلِيلا لَا يمْنَع التَّمَكُّن من السُّجُود، فَإِذا لم يمْنَع السُّجُود يسْتَحبّ أَن يتْركهُ إِلَى أَن يفرغ من صلَاته، لِأَن ذَلِك من بَاب التَّوَاضُع لله تَعَالَى، وَحَدِيث الْبَاب يشْهد بذلك.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله رَأيْتُ الحمَيْدِيَّ يَحْتَجُّ بهَذَا الحَدِيثِ أنْ لاَ يَمْسَحَ الجَبْهَةَ فِي الصَّلاةِ
أَبُو عبد الله هُوَ البُخَارِيّ نَفسه، والْحميدِي، بِضَم الْحَاء: شَيْخه، وَهُوَ: عبد الله بن الزبير بن عِيسَى بن عبد الله الزبير بن عبيد الله بن حميد الْحميدِي الْقرشِي الْمَكِّيّ، روى عَنهُ البُخَارِيّ فِي أول كِتَابه: الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ، وَفِي غير مَوضِع. قَوْله: (بِهَذَا الحَدِيث) أَشَارَ بِهِ إِلَى حَدِيث الْبَاب، وَكَأن البُخَارِيّ أَرَادَ بإيراده مَا نَقله عَن الْحميدِي أَنه يرى فِي ذَلِك مَا رَآهُ الْحميدِي، وَإِلَيْهِ ذهب جمَاعَة من الْعلمَاء.

836 - حدَّثنا مُسْلِمُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا هِشَامٌ عنْ يَحْيى عنْ أبِي سلَمَةَ قَالَ سألْتُ أَبَا سَعِيدٍ الخُدْرِيَّ فَقَالَ رأيْتُ رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسْجُدُ فِي الماءِ والطِّينِ حَتَّى رَأيْتُ أثَرَ الطِّينِ فِي جَبْهَتِهِ.

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الحَدِيث دلّ على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سجد فِي المَاء والطين وَلم يمسحهما حَتَّى رأى أَبُو سعيد

(6/120)


أثر الطين فِي جَبهته، وَقد مر الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث مُسْتَوفى بِجَمِيعِ تعلقاته فِي: بَاب السُّجُود على الْأنف فِي الطين، وَهِشَام هُوَ الدستوَائي، وَيحيى هُوَ ابْن أبي كثير.

152 - (بابُ التَّسْلِيمِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التَّسْلِيم فِي آخر الصَّلَاة، وَإِنَّمَا لم يشر إِلَى حكمه: هَل هُوَ وَاجِب أم سنة؟ لوُقُوع الِاخْتِلَاف فِيهِ، لتعارض الْأَدِلَّة. وَقَالَ بَعضهم: وَيُمكن إِن يُؤْخَذ الْوُجُوب من حَدِيث الْبَاب حَيْثُ جَاءَ فِيهِ: كَانَ إِذا سلم، لِأَنَّهُ يشْعر بتحقيق مواظبته على ذَلِك. قلت: قَامَ الدَّلِيل على أَن التَّسْلِيم فِي آخر الصَّلَاة غير وَاجِب، وَأَن تَركه غير مفْسدَة للصَّلَاة، وَهُوَ (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر خمْسا، فَلَمَّا سلم أخبر بصنيعه، فَثنى رجله فَسجدَ سَجْدَتَيْنِ) ، رَوَاهُ عبد الله بن مَسْعُود، وَأخرجه الْجَمَاعَة بطرق مُتعَدِّدَة، وألفاظ مُخْتَلفَة. قَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: فَفِي هَذَا الحَدِيث أَنه أَدخل فِي الصَّلَاة رَكْعَة من غَيرهَا قبل التَّسْلِيم، وَلم ير ذَلِك مُفْسِدا للصَّلَاة، فَدلَّ ذَلِك أَن السَّلَام لَيْسَ من صلبها، وَلَو كَانَ وَاجِبا كوجوب السَّجْدَة فِي الصَّلَاة لَكَانَ حكمه أَيْضا كَذَلِك، وَلكنه بِخِلَافِهِ، فَهُوَ سنة. انْتهى. قلت: اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا، فَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وأصحابهم: إِذا انْصَرف الْمُصَلِّي من صلَاته بِغَيْر لفظ التَّسْلِيم فَصلَاته بَاطِلَة، حَتَّى قَالَ النَّوَوِيّ: وَلَو اخْتَلَّ بِحرف من حُرُوف: السَّلَام عَلَيْكُم، لم تصح صلَاته، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بقوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (تحليلها التَّسْلِيم) . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا عُثْمَان بن أبي شيبَة، قَالَ: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن ابْن عقيل عَن مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (مِفْتَاح الصَّلَاة الطّهُور، وتحريمها التَّكْبِير، وتحليلها التَّسْلِيم) . وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَابْن مَاجَه أَيْضا. وَأخرجه الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) وَقَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا الحَدِيث أصح شَيْء فِي هَذَا الْبَاب وَأحسن. قلت: اخْتلفُوا فِي صِحَّته بِسَبَب ابْن عقيل، وَهُوَ: عبد الله بن مُحَمَّد بن عقيل، فَقَالَ مُحَمَّد بن سعد: هُوَ من الطَّبَقَة الرَّابِعَة من أهل الْمَدِينَة وَكَانَ مُنكر الحَدِيث لَا يحتجون بحَديثه، وَكَانَ كثير الْعلم، وَقَالَ ابْن الْمَدِينِيّ، عَن بشر بن عمر الزهْرَانِي: كَانَ مَالك لَا يروي عَنهُ، وَكَانَ يحيى بن سعيد لَا يروي عَنهُ، وَعَن يحيى بن معِين: لَيْسَ حَدِيثه بِحجَّة، وَعنهُ: ضَعِيف الحَدِيث، وَعنهُ. لَيْسَ بذلك. وَقَالَ الْعجلِيّ: تَابِعِيّ مدنِي جَائِز الحَدِيث. وَقَالَ النَّسَائِيّ: ضَعِيف. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: صَدُوق، وَقد تكلم فِيهِ بعض أهل الْعلم من قبل حفظه، وعَلى تَقْدِير صِحَّته أجَاب الطَّحَاوِيّ عَنهُ بِمَا محصله أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (من رابه إِذا رفع رَأسه من آخر سَجْدَة فقد تمت صلَاته) ، فَدلَّ على أَن معنى الحَدِيث الْمَذْكُور لم يكن على أَن الصَّلَاة لَا تتمّ إلاّ بِالتَّسْلِيمِ، إِذا كَانَت تتمّ عِنْده بِمَا هُوَ قبل التَّسْلِيم، فَكَانَ معنى: تحليلها التَّسْلِيم، التَّحْلِيل الَّذِي يَنْبَغِي أَن تحل بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، وَجَوَاب آخر: إِن الحَدِيث الْمَذْكُور من أَخْبَار الْآحَاد فَلَا يثبت بِهِ الْفَرْض. فَإِن قلت: كَيفَ أثبت فَرضِيَّة التَّكْبِير بِهِ وَلم يثبت فَرضِيَّة التَّسْلِيم؟ قلت: أصل فَرضِيَّة التَّكْبِير فِي أول الصَّلَاة بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَذكر اسْم ربه فصلى} (الْأَعْلَى: 15) . وَقَوله: {وَرَبك فَكبر} (المدثر: 3) . غَايَة مَا فِي الْبَاب: يكون الحَدِيث بَيَانا لما يُرَاد بِهِ من النَّص، وَالْبَيَان بِهِ يَصح كَمَا فِي مسح الراس، وَذهب عَطاء ابْن أبي رَبَاح وَسَعِيد بن الْمسيب وَإِبْرَاهِيم وَقَتَادَة وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَابْن جرير الطَّبَرِيّ بِهَذَا إِلَى: أَن التَّسْلِيم لَيْسَ بِفَرْض حَتَّى لَو تَركه لَا تبطل صلَاته.

837 - حدَّثنا مُوسَى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنِ هِنْدَ بِنْتَ الحَارِثِ أنَّ أُمَّ سلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ كَانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا سلَّمَ قامَ النِّساءُ حِينَ يَقْضِي تَسْلِيمَهُ ومَكَثَ يَسِيرا قَبْلَ أنْ يَقُومَ قَالَ ابنُ شِهَابٍ فَأُرَي. وَالله أعْلَمُ أنَّ مُكْثَهُ لِكَيْ ينْفُذَ النِّسَاءُ قَبْلَ أنْ يُدْرِكَهُنَّ مَنِ انْصَرَفَ مِنَ القَوْمِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سلم) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: مُوسَى بن إِسْمَاعِيل الْمنْقري التَّبُوذَكِي، وَإِبْرَاهِيم ابْن عبد الرَّحْمَن بن سعد بن إِبْرَاهِيم بن عَوْف، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَهِنْد بنت الْحَارِث، تقدّمت فِي: بَاب الْعلم والعظة

(6/121)


بِاللَّيْلِ، وَأم سَلمَة هِنْد بنت أبي أُميَّة، زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون مَا خلا شيخ البُخَارِيّ فَإِنَّهُ بَصرِي. وَفِيه: رِوَايَة تَابِعِيّ عَن تابعية عَن صحابية.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن أبي الْوَلِيد وَيحيى بن قزعة وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُحَمَّد بن يحيى وَمُحَمّد بن رَافع، وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن مسلمة عَن ابْن وهب، وَأخرجه فِيهِ عَن أبي بكر ابْن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (حَتَّى يقْضِي تَسْلِيمه) ، ويروى: (حِين يقْضِي تَسْلِيمه) ، أَي: حِين يتم تَسْلِيمه ويفرغ مِنْهُ. قَوْله: (فَأرى) بِضَم الْهمزَة أَي: اظن أَن مكث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يَسِيرا لأجل نَفاذ النِّسَاء وذهابهن قبل تفرق الرِّجَال لِئَلَّا يدركهن بعض المتفرقين من الصَّلَاة. قَوْله: (وَالله أعلم) جملَة مُعْتَرضَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: خُرُوج النِّسَاء إِلَى الْمَسَاجِد وسبقهن بالانصراف، والاختلاط بِهن مَظَنَّة الْفساد، وَيمْكث الإِمَام فِي مُصَلَّاهُ وَالْحَالة هَذِه، فَإِن لم يكن هُنَاكَ نسَاء فالمستحب للْإِمَام أَن يقوم من مُصَلَّاهُ عقيب صلَاته، كَذَا قَالَه الشَّافِعِي فِي (الْمُخْتَصر) وَفِي (الْأَحْيَاء) للغزالي: إِن ذَلِك فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَصَححهُ ابْن حبَان فِي غير (صَحِيحه) . وَقَالَ النَّوَوِيّ: وعللوا قَول الشَّافِعِي بعلتين: إِحْدَاهمَا: لِئَلَّا يشك من خَلفه هَل سلم أم لَا. الثَّانِيَة: لِئَلَّا يدْخل غَرِيب فيظنه بعد فِي الصَّلَاة فيقتدى بِهِ. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : لَكِن ظَاهر حَدِيث الْبَراء بن عَازِب: (رمقت صَلَاة لنَبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَوجدت قِيَامه فركعته فاعتداله بعد رُكُوعه فسجدته فجلسته بَين السَّجْدَتَيْنِ فسجدته فجلسته مَا بَين التَّسْلِيم والانصراف قَرِيبا من السوَاء) . رَوَاهُ مُسلم، يَعْنِي: أَنه لم يكن يثبت سَاعَة مَا يسلم، بل كَانَ يجلس بعد السَّلَام جلْسَة قريبَة من السُّجُود. وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأُم) : وللمأموم أَن ينْصَرف إِذا قضى الإِمَام السَّلَام قبل قيام الإِمَام، وَإِن أخر ذَلِك حَتَّى ينْصَرف بعد الإِمَام أَو مَعَه كَانَ ذَلِك أحب إِلَيّ. وَفِي (الذَّخِيرَة) : إِذا فرغ من صلَاته أَجمعُوا أَنه لَا يمْكث فِي مَكَانَهُ مُسْتَقْبل الْقبْلَة، وَجَمِيع الصَّلَوَات فِي ذَلِك سَوَاء، فَإِن لم يكن بعْدهَا تطوع إِن شَاءَ انحرف عَن يَمِينه أَو يسَاره وَإِن شَاءَ اسْتقْبل النَّاس بِوَجْهِهِ، لَا إِذا لم يكن أَمَامه من يُصَلِّي، وَإِن كَانَ بعد الصَّلَاة سنَن يقوم إِلَيْهَا، وَبِه نقُول. وَيكرهُ تَأْخِيرهَا عَن أَدَاء الْفَرِيضَة فيتقدم أَو يتَأَخَّر أَو ينحرف يَمِينا أَو شمالاً. وَعَن الْحلْوانِي من الْحَنَفِيَّة: جَوَاز تَأْخِير السّنَن بعد الْمَكْتُوبَة، وَالنَّص: أَن التَّأْخِير مَكْرُوه، وَيَدْعُو فِي الْفجْر وَالْعصر لِأَنَّهُ لَا صَلَاة بعدهمَا، فَيجْعَل الدُّعَاء بدل الصَّلَاة، وَيسْتَحب أَن يَدْعُو بعد السَّلَام، وَقَالَ فِي (التَّوْضِيح) أَيْضا إِذا أَرَادَ الإِمَام أَن ينْتَقل فِي الْمِحْرَاب وَيقبل على النَّاس للذّكر وَالدُّعَاء جَازَ أَن ينْتَقل كَيفَ شَاءَ، وَأما الْأَفْضَل فَأن يَجْعَل يَمِينه إِلَيْهِم ويساره إِلَى الْمِحْرَاب. وَقيل: عَكسه، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة.
وَمن فَوَائِد الحَدِيث: وجوب غض الْبَصَر، وَمكث الإِمَام فِي مَوْضِعه. وَمكث الْقَوْم فِي أماكنهم.

153 - (بابٌ يُسَلِّمُ حِينَ يُسَلِّمُ الإمامُ)

أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: يسلم الْمَأْمُوم حِين يسلم الإِمَام، وَأَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن لَا يتَأَخَّر الْمَأْمُوم فِي سَلَامه بعد الإِمَام متشاغلاً بِدُعَاء وَنَحْوه، دلّ عَلَيْهِ أثر ابْن عمر الْمَذْكُور هُنَا، وَفِي هَذَا عَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ، فِي رِوَايَة: يسلم مَعَ الإِمَام كالتكبير، وَفِي رِوَايَة: يسلم بعد سَلام إِمَامه. وَقَالَ الشَّافِعِي: الْمُصَلِّي الْمُقْتَدِي يسلم بعد فرَاغ الإِمَام من التسليمة الأولى، فَلَو سلم مُقَارنًا بسلامه إِن قُلْنَا: نِيَّة الْخُرُوج بِالسَّلَامِ شَرط، لَا يجْزِيه، كَمَا لَو كبر مَعَ الإِمَام لَا تَنْعَقِد لَهُ صَلَاة الْجَمَاعَة، فعلى هَذَا تبطل صلَاته. وَإِن قُلْنَا: إِن نِيَّة الْخُرُوج غير وَاجِبَة، فيجزيه كَمَا لَو ركع مَعَه، وَفِي نِيَّة الْخُرُوج عَن الصَّلَاة بِالسَّلَامِ وَجْهَان: أَحدهمَا: تجب، وَالثَّانِي لَا تجب، كَذَا فِي تتمتهم. وَذكر فِي (الْمَبْسُوط) : الْمُقْتَدِي يخرج من الصَّلَاة بِسَلام الإِمَام. وَقيل: هُوَ قَول مُحَمَّد. أما عِنْدهمَا يخرج بِسَلام نَفسه، وَتظهر ثَمَرَة الْخلاف فِي انْتِقَاض الْوضُوء بِسَلام الإِمَام قبل سَلام نَفسه بالقهقهة، فَعنده لَا ينْتَقض خلافًا لَهما.
وَكَانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَسْتَحِبُّ إذَا سَلَّمَ الإمامُ أنْ يُسلِّمَ منْ خَلْفَهُ

(6/122)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. وَقيل: غير ظَاهِرَة، لِأَن الْمَفْهُوم من التَّرْجَمَة أَن يسلم الْمَأْمُوم مَعَ الإِمَام، لِأَن سَلَامه إِذا كَانَ حِين سَلام الإِمَام يكون مَعَه بِالضَّرُورَةِ، وَالْمَفْهُوم من الْأَثر أَن يسلم الْمَأْمُوم عقيب صَلَاة الإِمَام، لِأَن كلمة: إِذا، للشّرط، والمشروط يكون عَقِيبه. قلت: لَا نسلم أَن: إِذا، هَهُنَا للشّرط، بل هِيَ هَهُنَا على بَابهَا لمُجَرّد الظّرْف، على أَنه هُوَ الأَصْل، فَحِينَئِذٍ يحصل التطابق بَين التَّرْجَمَة والأثر. فَافْهَم.

838 - حدَّثنا حبَّانُ بنُ مُوسَى قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيُّ عنْ مَحْمُودِ بنِ الرَّبِيعِ عنْ عِتْبَانَ قَالَ صَلَّيْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: حبَان، بِكَسْر الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن مُوسَى أَبُو مُحَمَّد الْمروزِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك الْمروزِي. الثَّالِث: معمر بن رَاشد الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: مَحْمُود بن الرّبيع أَبُو مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ الْحَارِثِيّ، عقل مجة مجها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي وَجهه من دنو فِي دَارهم وَهُوَ ابْن خمس سِنِين، وَهُوَ ختن عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّادِس: عتْبَان، بِكَسْر الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة، تقدم ذكره فِي: بَاب، إِذا دخل بَيْتا يُصَلِّي.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: من رُوَاته أَولا مروزيان ثمَّ بَصرِي ثمَّ مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ، يروي عَن الصَّحَابِيّ.
وَقد ذكرنَا فِي: بَاب إِذا دخل بَيْتا يُصَلِّي، أَن البُخَارِيّ أخرج هَذَا الحَدِيث فِي (صَحِيحه) فِي أَكثر من عشرَة مَوَاضِع ذَكرنَاهَا هُنَاكَ، وَذكرنَا أَيْضا من أخرجه غَيره.

154 - (بابُ مَنْ لَمْ يَرُدُّ السَّلاَمَ عَلَى الإمَامِ واكْتَفَى بِتَسْلِيمِ الصَّلاَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من لم يرد السَّلَام على الإِمَام، يَعْنِي بِتَسْلِيمَة ثَالِثَة بَين التسليمتين، وَاكْتفى بِتَسْلِيم الصَّلَاة وَهُوَ التسليمتان، ويروى: من لم يردد السَّلَام، من الترديد، وَهُوَ تَكْرِير السَّلَام. وَالْحَاصِل من هَذِه التَّرْجَمَة أَن البُخَارِيّ يرد بذلك على من يسْتَحبّ تَسْلِيمَة ثَالِثَة على الإِمَام بَين التسليمتين، وهم طَائِفَة من الْمَالِكِيَّة، وَقَالَ ابْن التِّين: يُرِيد البُخَارِيّ أَن من كَانَ خلف الإِمَام إِنَّمَا يسلم وَاحِدَة يَنْوِي بهَا الْخُرُوج من الصَّلَاة، وَلم يرد على الإِمَام وَلَا على من فِي يسَاره. وَفِيه نظر. وَإِنَّمَا أَرَادَ البُخَارِيّ مَا ذَكرْنَاهُ، وَالدَّلِيل على ذَلِك أَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ لَا يرد على الإِمَام. وَعَن النَّخعِيّ: إِن شَاءَ رد وَإِن شَاءَ لم يرد. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَمَالك يرى أَنه يرد، وَبِه قَالَ ابْن عمر فِي أحد قوليه، وَالشعْبِيّ وَسَالم وَسَعِيد بن الْمسيب وَعَطَاء. وَقَالَ ابْن بطال: أَظن البُخَارِيّ أَنه قصد الرَّد على من أوجب التسليمة الثَّانِيَة. قلت: فِيهِ نظر، وَالصَّوَاب مَا ذَكرْنَاهُ.
وَاخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب، فَذهب عمر بن عبد الْعَزِيز وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَمُحَمّد بن سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ وَمَالك: إِلَى أَن التَّسْلِيم فِي آخر الصَّلَاة مرّة وَاحِدَة، ويحكى ذَلِك عَن ابْن عمر وَأنس وَسَلَمَة بن الْأَكْوَع وَعَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِحَدِيث سعد ابْن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يسلم من الصَّلَاة بِتَسْلِيمَة وَاحِدَة: السَّلَام عَلَيْكُم) . رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي (شرح مَعَاني الْآثَار) وَأَبُو عمر بن عبد الْبر فِي (الاستذكار) ، وَذهب نَافِع بن عبد الْحَارِث وعلقمة وَأَبُو عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ وَعَطَاء ابْن أبي رَبَاح وَالشعْبِيّ وَالثَّوْري وَالنَّخَعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر: إِلَى أَن التَّسْلِيم فِي آخر الصَّلَاة ثِنْتَانِ، مرّة عَن يمينة وَمرَّة عَن يسَاره، ويحكى ذَلِك عَن أبي بكر الصّديق، وَعلي ابْن أبي طَالب وَعبد الله بن مَسْعُود وعمار، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَأخرج الطَّحَاوِيّ حَدِيث التسليمتين عَن ثَلَاثَة عشر من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وهم: سعد وَعلي وَابْن مَسْعُود وعمار بن يَاسر وَعبد الله بن عمر وَجَابِر بن سَمُرَة والبراء بن عَازِب وَوَائِل بن حجر وعدي بن عميرَة الْحَضْرَمِيّ وَأَبُو مَالك الْأَشْعَرِيّ وطلق بن عَليّ وَأَوْس ابْن أبي أَوْس وَأَبُو رمثة. قلت: وَفِي

(6/123)


الْبَاب أَيْضا: عَن جَابر بن عبد الله وَأَبُو سعيد الْخُدْرِيّ وَسَهل بن سعد وَحُذَيْفَة بن الْيَمَان والمغيرة بن شُعْبَة وَوَائِلَة بن الْأَسْقَع وَعبد الله بن زيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم فَهَؤُلَاءِ عشرُون صحابيا رووا عَن رَسُول الله ت أَن الْمُصَلِّي يسلم فِي آخر صلَاته تسليمتين: تَسْلِيمَة عَن يمينة صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وتسليمة عَن يسَاره. وَأجَاب ابْن عمر عَن حَدِيث سعد ابْن أبي وَقاص: أَنه وهم، وَإِنَّمَا الحَدِيث كَمَا رَوَاهُ ابْن الْمُبَارك بِسَنَدِهِ عَنهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: كَانَ يسلم عَن يَمِينه وَعَن يسَاره. وَأجَاب الطَّحَاوِيّ مثله بِمَا محصله: أَن رِوَايَة التسليمة الْوَاحِدَة هِيَ رِوَايَة الدَّرَاورْدِي، وَأَن عبد الله بن الْمُبَارك وَغَيره خالفوه فِي ذَلِك، وَرووا عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه كَانَ يسلم تسليمتين.
ثمَّ اخْتلفُوا فِي السَّلَام: هَل هُوَ وَاجِب أم سنة؟ فَعَن أبي حنيفَة أَنه وَاجِب، وَعنهُ أَنه سنة. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : ثمَّ إِصَابَة لفظ السَّلَام وَاجِبَة، عندنَا، وَلَيْسَت بِفَرْض، خلافًا للشَّافِعِيّ. وَفِي (الْمُغنِي) : لِابْنِ قدامَة: التَّسْلِيم وَاجِب لَا يقوم غَيره مقَامه، وَالْوَاجِب تَسْلِيمَة وَاحِدَة وَالثَّانيَِة سنة، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع الْعلمَاء على أَن صَلَاة من اقْتصر على تَسْلِيمَة وَاحِدَة جَائِزَة. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ الْحسن بن حر: هما واجبتان، وَهِي رِوَايَة عَن أَحْمد. وَبِه قَالَ بعض أَصْحَاب مَالك. وَقَالَ الثَّوْريّ: لَو أخل بِحرف من حُرُوف: السَّلَام عَلَيْكُم، لم تصح صلَاته. وَفِي (الْمُغنِي) : السّنة أَن يَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله، وَإِن قَالَ: وَبَرَكَاته، أَيْضا فَحسن، وَالْأول أحسن. وَإِن قَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم، وَلم يزدْ فَظَاهر كَلَام أَحْمد أَنه يجْزِيه، وَقَالَ ابْن عقيل: الْأَصَح أَنه لَا يجْزِيه وَإِن نكس السَّلَام فَقَالَ: وَعَلَيْكُم السَّلَام، وَلم يجزه. وَقَالَ القَاضِي: فِيهِ وَجه أَنه يجْزِيه، وَهُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي. وَقَالَ ابْن حزم: الأولى فرض، وَالثَّانيَِة سنة حَسَنَة لَا يَأْثَم تاركها.

8339 - حدَّثنا عَبْدَانُ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا مَعْمَرٌ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ أَخْبرنِي مَحْمُودُ بنُ الرَّبِيعِ وزَعَمَ أنَّهُ عَقَلَ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وعَقَلَ مَجَّةً مجَّهَا مِنْ دَلْوٍ كانَ فِي دَارِهِمْ.

840 - قَالَ سَمِعْتُ عِتْبَانَ بنَ مالِكٍ الأنْصَارِيَّ ثُمَّ أحَدَ بَنِي سَالِمٍ قالَ كُنْتُ أُصَلِّي لِقَوْمِي بَنِي سالِمٍ فأتَيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقُلْتُ إنِّي أنْكَرْتُ بَصَرِي وإنَّ السُّيُولَ تَحُولُ بَيْنِي وبَيْنَ مَسْجِدِ قَوْمِي فَلَوَدِدْتُ أنَّكَ جِئْتَ فَصَلَّيْتَ فِي بَيْتِي مكَانا حَتَّى أتَّخِذَهُ مَسْجِدا فَقَالَ أفْعَلُ إنْ شَاءَ الله فَغَدا علَيَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وأبُو بَكْرٍ مَعَهُ بَعْدَ مَا اشْتَدَّ النَّهارُ فاسْتَأذَنَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأذِنْتُ لَهُ فَلَمْ يَجْلِسْ حَتَّى قَالَ أيْنَ تُحِبُّ أنْ أُصَلِّي مِنْ بَيْتِكَ فأشَارَ ألَيْهِ مِنَ المَكَانِ الَّذِي أحبَّ أنْ يُصَلِّيَ فيهِ فقَامَ فَصَفَفْنَا خَلْفَهُ ثُمَّ سَلَّمَ وسَلَّمْنَا حِينَ سَلَّمَ.

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ سلم وَسلمنَا حِين سلم) ، وَذَلِكَ من حَيْثُ إِنَّه لَيْسَ فِيهِ الرَّد على الإِمَام، لِأَن الَّذِي يَقْتَضِي مَعْنَاهُ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سلم وَسلم الْقَوْم أَيْضا حِين سلم، فَيكون سلامهم بعد تَمام سَلَامه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَو بعد تقدمه بِلَفْظ بعض السَّلَام. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وغرض البُخَارِيّ أَن يبين أَن السَّلَام لَا يلْزم أَن يكون بعد سَلام الإِمَام حَتَّى لَو سلم مَعَ الإِمَام لَا تبطل صلَاته، نعم، لَو تقدم عَلَيْهِ تبطل، إلاّ أَنه يَنْوِي الْمُفَارقَة. قلت: هَذَا الَّذِي قَالَه لَا يُطَابق التَّرْجَمَة، وَإِنَّمَا مُرَاده أَن الْمَأْمُوم لَا يرد على الإِمَام بِتَسْلِيمَة ثَالِثَة بَين التسليمتين، كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي حَدِيث الْبَاب الَّذِي قبله.
وَهَذَا الحَدِيث أخرجه البُخَارِيّ فِي: بَاب الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت، بأطول مِنْهُ: عَن سعيد بن عفير عَن اللَّيْث عَن عقيل عَن ابْن شهَاب. . إِلَى آخِره، وَهَهُنَا: عَن عَبْدَانِ وَهُوَ لقب عبد الله بن عُثْمَان بن جبلة الْأَزْدِيّ أَبُو عبد الرَّحْمَن الْمروزِي عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن معمر بن رَاشد عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ ... إِلَى آخِره.
قَوْله: (وَزعم) ، المُرَاد من الزَّعْم هَهُنَا: القَوْل المخقق، فَإِنَّهُ قد يُطلق عَلَيْهِ وعَلى الْكَذِب وعَلى الْمَشْكُوك فِيهِ، وَينزل فِي كل مَوضِع على مَا يَلِيق بِهِ. قَوْله: (مجة مجها من دلو) . من: مج لعابه: إِذا قذفه، وَقيل: لَا يكون مجة حَتَّى يباعد بهَا، وانتصاب: مجة، على أَنَّهَا مفعول: عقل. وَقَوله: (مجها من دلو) جملَة فِي مَحل النصب على أَنَّهَا صفة لمجة، وَكلمَة: (من) ، بَيَانِيَّة. قَوْله: (كَانَت) ، صفة مَوْصُوف مَحْذُوف أَي: من بِئْر كَانَت فِي دَارهم، والدلو دَلِيل عَلَيْهِ،

(6/124)


قَالَه الْكرْمَانِي. وَقَالَ بَعضهم: الدَّلْو، يذكر وَيُؤَنث، فَلَا يحْتَاج إِلَى تَقْدِير قلت: التَّقْدِير لَا بُد مِنْهُ لِأَن الدَّلْو لَا يكون فِيهِ مَاء إلاّ من بِئْر وَنَحْوه. قلت: كَانَت، بالتأنيث رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة، جَاءَت: كَانَ، بالتذكير، فعلى هَذَا لَا حَاجَة إِلَى التَّقْدِير.
قَوْله: (الْأنْصَارِيّ) ، بِالنّصب لِأَنَّهُ صفة: عتْبَان، الْمَنْصُوب بقوله: (سَمِعت) . قَوْله: (ثمَّ أحد) بِالنّصب أَيْضا عطفا على الْأنْصَارِيّ، وَالتَّقْدِير: الْأنْصَارِيّ ثمَّ السالمي، لِأَنَّهُ من بني سَالم أَيْضا. قَالَ بَعضهم: هَذَا الَّذِي يكَاد من لَهُ أدنى ممارسة بِمَعْرِِفَة الرِّجَال أَن يقطع بِهِ، ثمَّ قَالَ: وَقَالَ الْكرْمَانِي: يحْتَمل أَن يكون عطفا على عتْبَان، يَعْنِي سَمِعت عتْبَان ثمَّ سَمِعت أحد بني سَالم أَيْضا. قَالَ: وَالْمرَاد بِهِ فِيمَا يظْهر: الْحصين بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ، فَكَأَن مَحْمُودًا سمع من عتْبَان وَمن الْحصين. قَالَ: وَهُوَ بِخِلَاف مَا تقدم فِي: بَاب الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت، أَن الزُّهْرِيّ هُوَ الَّذِي سمع مَحْمُودًا، وَالْحصين، وَلَا مُنَافَاة بَينهمَا لاحْتِمَال أَن الزُّهْرِيّ ومحمودا سمعا جَمِيعًا من الْحصين، وَلَو وَقع بِرَفْع أحد، بِأَن يكون عطفا على: مَحْمُود، لساغ وَوَافَقَ الرِّوَايَة الأولى، يَعْنِي: فَيصير التَّقْدِير: قَالَ الزُّهْرِيّ: أَخْبرنِي مَحْمُود بن الرّبيع ثمَّ أَخْبرنِي أحد بني سَالم، أَي: الْحصين. انْتهى. قَالَ: وَكَانَ الْحَامِل لَهُ على ذَلِك كُله قَول الزُّهْرِيّ فِي الرِّوَايَة السَّابِقَة: ثمَّ سَأَلت الْحصين بن مُحَمَّد الْأنْصَارِيّ، وَهُوَ أحد بني سَالم، هُنَاكَ. فَكَأَنَّهُ ظن أَن المُرَاد بقوله: أحد بني سَالم هُنَا، هُوَ المُرَاد بقوله: أحد بني سَالم هُنَاكَ، وَلَا حَاجَة لذَلِك، فَإِن عتْبَان من بني سَالم أَيْضا، وَهُوَ: عتْبَان بن مَالك بن عَمْرو بن العجلان بن زِيَاد بن غنم بن سَالم بن عَوْف، وعَلى الِاحْتِمَال الَّذِي ذكره إِشْكَال آخر، لِأَنَّهُ يلْزم مِنْهُ أَن يكون الْحصين بن مُحَمَّد هُوَ صَاحب الْقِصَّة الْمَذْكُورَة، أَو أَنَّهَا تعدّدت لَهُ ولعتبان، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الْحصين الْمَذْكُور لَا صُحْبَة لَهُ، وَقد ذكره ابْن أبي حَاتِم فِي (الْجرْح وَالتَّعْدِيل) وَلم يذكر لَهُ شَيخا غير عتْبَان. انْتهى كَلَامه.
قلت: هَذَا الْقَائِل ذكر أَولا شَيْئا، وَهُوَ حط على الْكرْمَانِي فِي الْبَاطِن، ثمَّ أظهره بعد ذَلِك بِمَا لَا يجديه من وُجُوه: الأول: أَنه غيَّر غَالب عبارَة الْكرْمَانِي فِي النَّقْل لتمشية كَلَامه، يتأمله من يقف عَلَيْهِ. الثَّانِي: أَن الْكرْمَانِي مَا جزم بِمَا ذكره، بل إِنَّمَا قَالَ بِالِاحْتِمَالِ، وَبَاب الِاحْتِمَال مَفْتُوح،. الثَّالِث: أَن قَوْله: فَكَأَنَّهُ ظن. . إِلَى آخِره، لَا يتَوَجَّه الرَّد بِهِ، فَإِنَّهُ مَحل الظَّن ظَاهر، أَو الْعبارَة تُؤدِّي إِلَى ذَلِك ظَاهرا، ثمَّ تَوْجِيهه الرَّد بقوله: فَإِن عتْبَان من بني سَالم أَيْضا غير موجه، لِأَن كَون عتْبَان من بني سَالم لَا يُنَافِي كَون الْحصين من بني سَالم أَيْضا، وَلَا يمْنَع إِخْبَار الزُّهْرِيّ عَنهُ أَيْضا. الرَّابِع: أَن قَوْله يلْزم مِنْهُ أَن يكون الْحصين بن مُحَمَّد هُوَ صَاحب الْقِصَّة الْمَذْكُورَة لَيْسَ كَذَلِك، لِأَن الْمُلَازمَة مَمْنُوعَة، لِأَن كَون الْحصين غير صَحَابِيّ لَا يَقْتَضِي الْمُلَازمَة الَّتِي ذكرهَا، لِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الْحصين قد سمع الْقِصَّة الْمَذْكُورَة من صَحَابِيّ، والراوي طوى ذكره اكْتِفَاء بِذكر عتْبَان. الْخَامِس: أَن تأييد مَا أدعاه بِمَا ذكره عَن ابْن أبي حَاتِم غير سديد وَلَا مَحل لَهُ، لِأَن عدم ذكر ابْن أبي حَاتِم للحصين شَيخا غير عتْبَان لَا يسْتَلْزم أَن لَا يكون لَهُ شيخ آخر أَو أَكثر، وَهَذَا ظَاهر.
قَوْله: (فَلَوَدِدْت) أَي: فوَاللَّه لَوَدِدْت. قَوْله: (اتَّخذهُ) ، قَالَ الْكرْمَانِي بِالرَّفْع وبالجزم، لِأَنَّهُ وَقع جَوَابا للمودة المفيدة لِلتَّمَنِّي. قَوْله: (اشْتَدَّ النَّهَار) أَي: ارْتَفَعت الشَّمْس. قَوْله: (فَأَشَارَ إِلَيْهِ) قَالَ الْكرْمَانِي: (فَأَشَارَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْمَكَان الَّذِي هُوَ المحبوب أَن يُصَلِّي فِيهِ، وَيحْتَمل أَن تكون: من، للتَّبْعِيض، وَلَا يُنَافِي مَا تقدم أَيْضا ثمَّة أَنه قَالَ: فأشرت، لِإِمْكَان وُقُوع الإشارتين مِنْهُ وَمن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِمَّا مَعًا وَإِمَّا مُتَقَدما ومتأخرا. وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر أَن فَاعل: أَشَارَ، هُوَ: عتْبَان، لَكِن فِيهِ الْتِفَات، إِذْ ظَاهر السِّيَاق أَن يَقُول: فأشرت ... إِلَى آخِره، وَبِهَذَا تتوافق الرِّوَايَتَانِ. قلت: الَّذِي قَالَه الْكرْمَانِي أولى وَأَحْرَى، لِأَن فِيهِ إِظْهَار معْجزَة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حَيْثُ أَشَارَ إِلَى الْمَكَان الَّذِي كَانَ فِي قلب عتْبَان أَن يُصَلِّي فِيهِ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ قبل أَن يُعينهُ عتْبَان.
وَبَقِيَّة الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث ذَكرنَاهَا فِي: بَاب الْمَسَاجِد فِي الْبيُوت.

155 - (بابُ الذِّكْرِ بَعْدَ الصَّلاَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الذّكر عقيب الْفَرَاغ من الصَّلَاة.

841 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ نَصْرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ أخْبَرَنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أخْبَرَني عَمْرٌ وأنَّ أَبَا مَعْبَدٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ أخْبَرَهُ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أخبَرَهُ أنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ

(6/125)


بالذِّكْرِ حِينَ يَنْصَرِفُ النَّاسُ مِنَ المَكْتُوبَةِ كانَ علَى عَهْدِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ كُنتُ أعْلَمُ إذَا انْصَرَفُوا بِذَلِكَ إذَا سَمِعْتُهُ.

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: إِسْحَاق بن نصر وَهُوَ إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر أَبُو إِبْرَاهِيم السَّعْدِيّ البُخَارِيّ، فَالْبُخَارِي يروي عَنهُ تَارَة بنسبته إِلَى أَبِيه وَيَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم بن نصر، وَتارَة ينْسبهُ إِلَى جده وَيَقُول: حَدثنَا إِسْحَاق بن نصر. الثَّانِي: عبد الرَّزَّاق بن همام. الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، بِضَم الْجِيم. الرَّابِع: عَمْرو بن دِينَار. الْخَامِس: أَبُو معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره دَال مُهْملَة: واسْمه نَافِذ، بالنُّون وبكسر الْفَاء وَفِي آخِره ذال مُعْجمَة. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري ويماني ومكي ومدني. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبد الرَّزَّاق: وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن يحيى بن مُوسَى الْبَلْخِي عَن عبد الرَّزَّاق.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: على زَمَانه، وَمثل هَذَا يحكم لَهُ بِالرَّفْع عِنْد الْجُمْهُور خلافًا لمن شَذَّ فِي ذَلِك. قَوْله: (قَالَ ابْن عَبَّاس) هُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الأول كَمَا فِي رِوَايَة مُسلم عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور عَن عبد الرَّزَّاق بِهِ، قَوْله: (كنت أعلم) فِيهِ إِطْلَاق الْعلم على الْأَمر الْمُسْتَند إِلَى الظَّن الْغَالِب. قَوْله: (بذلك) أَي: بِرَفْع الصَّوْت إِذا سمعته، أَي: الذّكر، وَالْمعْنَى: كنت أعلم انصرافهم بِسَمَاع الذّكر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ بعض السّلف على اسْتِحْبَاب رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ وَالذكر عقيب الْمَكْتُوبَة، وَمِمَّنْ استحبه من الْمُتَأَخِّرين: ابْن حزم، وَقَالَ ابْن بطال: أَصْحَاب الْمذَاهب المتبعة وَغَيرهم متفقون على عدم اسْتِحْبَاب رفع الصَّوْت بِالتَّكْبِيرِ، وَالذكر، حاشا ابْن حزم، وَحمل الشَّافِعِي هَذَا الحَدِيث على أَنه جهر ليعلمهم صفة الذّكر، لَا أَنه كَانَ دَائِما. قَالَ: وَاخْتَارَ للْإِمَام وَالْمَأْمُوم أَن يذكر الله بعد الْفَرَاغ من الصَّلَاة، ويخفيان ذَلِك، إلاّ أَن يقْصد التَّعْلِيم فيعلما ثمَّ يسرا. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: فِيهِ الْبَيَان على صِحَة فعل من كَانَ يفعل ذَلِك من الْأُمَرَاء والولاة، يكبر بعد صلَاته وَيكبر من خَلفه، وَقَالَ غَيره: لم أجد أحدا من الْفُقَهَاء قَالَ بِهَذَا إِلَّا ابْن حبيب فِي (الْوَاضِحَة) : كَانُوا يستحبون التَّكْبِير فِي العساكر والبعوث إِثْر صَلَاة الصُّبْح وَالْعشَاء، وروى ابْن الْقَاسِم عَن مَالك أَنه مُحدث، وَعَن عُبَيْدَة، وَهُوَ بِدعَة. وَقَالَ ابْن بطال: وَقَول ابْن عَبَّاس: كَانَ على عهد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ دلَالَة أَنه لم يكن يفعل حِين حدث بِهِ، لِأَنَّهُ لَو كَانَ يفعل لم يكن لقَوْله معنى، فَكَانَ التَّكْبِير فِي إِثْر الصَّلَوَات لم يواظب الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَلَيْهِ طول حَيَاته، وَفهم أَصْحَابه أَن ذَلِك لَيْسَ بِلَازِم فَتَرَكُوهُ خشيَة أَن يظنّ أَنه مِمَّا لَا تتمّ الصَّلَاة إلاّ بِهِ، فَذَلِك كرهه من كرهه من الْفُقَهَاء. وَفِيه: دلَالَة أَن ابْن عَبَّاس كَانَ يُصَلِّي فِي أخريات الصُّفُوف لكَونه صَغِيرا. قلت: قَوْله: (إِذا انصرفوا) ظَاهره أَنه لم يكن يحضر الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة فِي بعض الْأَوْقَات لصغره.

842 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حدَّثنا عَمْرٌ وَقَالَ أخبَرني أبُو مَعْبَدٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كُنْتُ أعْرِفُ انْقِضَاءَ صلاَةِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالتَّكْبِيرِ (انْظُر الحَدِيث 841) .

عَليّ هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار، وَوَقع فِي رِوَايَة الْحميدِي عَن سُفْيَان بِصِيغَة الْحصْر وَلَفظه: (مَا كُنَّا نَعْرِف انْقِضَاء صَلَاة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلاّ بِالتَّكْبِيرِ) ، وَكَذَا أخرجه مُسلم عَن ابْن أبي عمر عَن سُفْيَان. وَاخْتلف فِي كَون ابْن عَبَّاس قَالَ ذَلِك، فَقَالَ عِيَاض: الظَّاهِر أَنه لم يكن يحضر الْجَمَاعَة، لِأَنَّهُ كَانَ صَغِيرا مِمَّن لَا يواظب على ذَلِك، وَلَا يلْزم بِهِ، فَكَانَ يعرف انْقِضَاء الصَّلَاة بِمَا ذكره. وَقَالَ غَيره: يحْتَمل أَن يكون حَاضرا فِي أَوَاخِر الصُّفُوف، فَكَانَ لَا يعرف انقضاءها بِالتَّسْلِيمِ، وَإِنَّمَا كَانَ يعرفهُ بِالتَّكْبِيرِ. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: يُؤْخَذ مِنْهُ أَنه لم يكن هُنَاكَ مبلغ جهير الصَّوْت يسمع من بعد. قَوْله:

(6/126)


(كنت أعرف) وَفِي الحَدِيث السَّابِق: (كنت أعلم) ، وَبَين الْمعرفَة وَالْعلم فرق، وَهُوَ أَن الْمعرفَة تسْتَعْمل فِي الجزئيات وَالْعلم فِي الكليات، وَلَكِن: أعلم، هُنَا بِمَعْنى: أعرف، وَلَا يطْلب الْفرق. فَافْهَم. قَوْله: (التَّكْبِير) وَفِي الحَدِيث الأول: بِالذكر، فالذكر أَعم من التَّكْبِير، وَالتَّكْبِير أخص، فَيحْتَمل أَن يكون قَوْله: (بِالتَّكْبِيرِ) تَفْسِيرا لقَوْله: بِالذكر، وَمن هَذَا قَالَ الْكرْمَانِي: بِالتَّكْبِيرِ أَي: بِذكر الله.
قَالَ علِيُّ حَدثنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍ وَقَالَ كانَ أبْو مَعْبَدٍ أصْدَقَ مَوَالِي ابنِ عَبَّاسٍ قَالَ عَلِيُّ وَاسْمُهُ نافِذٌ
أَشَارَ البُخَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِمَا نَقله عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار الْمَذْكُورين قبله أَن حَدِيث أبي معبد هَذَا لَا يقْدَح فِي صِحَّته لأجل مَا روى أَحْمد فِي (مُسْنده) هَذَا الحَدِيث. ثمَّ قَالَ: وَإنَّهُ يَعْنِي: أَبَا معبد قَالَ بِالتَّكْبِيرِ، ثمَّ سَاقه بِهِ. قَالَ عَمْرو: قد ذكرت لأبي معبد فَأنكرهُ، وَقَالَ: لم أحَدثك بِهَذَا. قَالَ عَمْرو: فقد أخبرنيه قبل ذَلِك، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة مُسلم: قَالَ عَمْرو: ذكرت ذَلِك لأبي معبد بعد وَأنْكرهُ، وَقَالَ: لم أحَدثك بِهَذَا. قَالَ عَمْرو: وَقد أخبرنيه قبل ذَلِك، قَالَ الشَّافِعِي، بعد أَن رَوَاهُ عَن سُفْيَان: كَأَنَّهُ نَسيَه بعد أَن حَدثهُ بِهِ. انْتهى. فَهَذَا يدل على أَن مُسلما كَانَ يرى صِحَة الحَدِيث، وَلَو أنكرهُ رَاوِيه، إِذا كَانَ النَّاقِل عَنهُ عدلا، وَلَا شكّ أَن عَمْرو بن دِينَار كَانَ عدلا، وَكَذَا لَا شكّ أَن أَبَا معبد كَانَ عدلا، فَلذَلِك قَالَ عَمْرو، فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ البُخَارِيّ بِوَاسِطَة عَليّ وسُفْيَان: كَانَ أَبُو معبد أصدق موَالِي ابْن عَبَّاس. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الصدْق هُوَ مُطَابقَة الْكَلَام للْوَاقِع على الصَّحِيح، وَذَلِكَ لَا يقبل الزِّيَادَة وَالنُّقْصَان؟ قلت: الزِّيَادَة إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى أَفْرَاد الْكَلَام، يَعْنِي إِفْرَاد كَلَامه الصدْق أَكثر من إِفْرَاد كَلَام سَائِر الموَالِي. وَاعْلَم أَن قَوْله: وَقَالَ عَليّ. . إِلَى آخِره، زِيَادَة لم تثبت إلاّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والكشميهني، وَاعْلَم أَيْضا أَن الرَّاوِي إِذا أنكر رِوَايَته لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون إِنْكَار جحود وَتَكْذيب للفرع بِأَن قَالَ: كذبت عَليّ، لم يعْمل بِهَذَا الْخَبَر بِلَا خلاف بَين الْأَئِمَّة، أَو يكون إِنْكَار توقف لَا إِنْكَار تَكْذِيب وجحود، بِأَن قَالَ: لَا أذكر أَنِّي رويت ذَلِك، هَذَا أَو لَا أعرفهُ، فقد اخْتلف فِيهِ، فَذهب أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَأحمد فِي رِوَايَة إِلَى: أَنه يسْقط الْعَمَل بِهِ، كالوجه الأول، وَهُوَ مُخْتَار الْكَرْخِي وَالْقَاضِي أبي زيد وفخر الْإِسْلَام، وَذهب مُحَمَّد وَمَالك وَالشَّافِعِيّ إِلَى: أَنه لَا يسْقط الْعَمَل بِهِ، ونسيان الأَصْل لَا يقْدَح فِيهِ كَمَا لَو جن أَو مَاتَ. وَقيل: عدم الرِّوَايَة بإنكار الْمَرْوِيّ عَنهُ قَول أبي يُوسُف. وَقَالَ مُحَمَّد: لَا تسْقط الرِّوَايَة بإنكاره، وَهَذَا الْخلاف بَينهمَا فرغ اخْتِلَافهمَا فِي شَاهِدين شَهدا على القَاضِي بقضية، وَالْقَاضِي لَا يذكر قَضَاءَهُ، فَإِنَّهُ يقبل عِنْد مُحَمَّد، وَلَا يقبل عِنْد أبي يُوسُف. وَذكر الإِمَام فَخر الدّين فِي (الْمَحْصُول) فِي هَذِه الْمَسْأَلَة تقسيما حسنا، وَهُوَ أَن رواي الْفَرْع إِمَّا أَن يكون جَازِمًا بالرواية أَو لَا، فَإِن كَانَ جَازِمًا فَالْأَصْل إِمَّا أَن يكون جَازِمًا بالإنكار أَو لَا، فَإِن كَانَ الأول فقد تَعَارضا، فَلَا يقبل الحَدِيث، وَإِن كَانَ الثَّانِي فإمَّا أَن يكون الْأَغْلَب على الظَّن إِنِّي رويته، أَو الْأَغْلَب أَنِّي مَا رويته، أَو الْأَمْرَانِ على السوَاء، أَو لَا يَقُول شَيْئا من ذَلِك، فالأشبه أَن يكون الْخَبَر مَقْبُولًا فِي جَمِيع هَذِه الْأَقْسَام، وَإِن كَانَ الْفَرْع غير جازم بل يَقُول: أَظن أَنِّي سَمِعت مِنْك، فَإِن جزم الأَصْل: بِأَنِّي مَا رويته لَك، تعين الرَّد، وَإِن قَالَ: أَظن إِنِّي مَا رويته لَك تَعَارضا، وَإِن ذهب إِلَى سَائِر الْأَقْسَام، فالأشبه قبُوله، وَالضَّابِط أَنه إِذا كَانَ قَول الأَصْل معادلاً لقَوْل الْفَرْع تَعَارضا، وَإِذا ترجح أَحدهمَا على الآخر فالمعتير الرَّاجِح.

843 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا مُعْتَمِرٌ عنْ عُبَيْدِ الله عنْ سُمَيٍّ عَن أبي صالحٍ عنْ أبي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ جاءَ الفُقَراءُ إِلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالُوا ذهَبَ أهْلُ الدُّثُورِ مِنَ الأمْوَالِ بالدَّرَجَاتِ العُلاَ والنَّعِيمِ المُقِيمِ يُصَلُّونَ كمَا نُصَلِّي ويَصُومُونَ كَمَا نَصُومُ ولَهُمْ فَضْلٌ مِنْ أمْوَالٍ يَحُجُّونَ بِهَا ويَعْتَمِرُونَ وَيُجَاهِدُونَ ويتَصَدَّقُونَ قَالَ ألاَ أُحَدِّثُكُمْ بِمَا إنُ أخَذْتُمْ بهِ أدْرَكْتُمْ منْ سَبَقَكُمْ ولَمْ يُدْرِكُكُمْ أحَدٌ بَعْدَكُمْ وكُنْتُمْ خَيْرَ مَنْ أنْتُمْ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِ إلاَّ مَنْ عَمِلَ مِثْلَهُ تُسَبِّحُونَ

(6/127)


وتَحْمَدُونَ وتُكَبِّرُونَ خَلْفَ كلِّ صَلاَةٍ ثَلاثا وثَلاَثِينَ فاخْتَلَفْنَا بَيْنَنَا فقالَ بَعْضُنَا نُسَبِّحُ ثَلاثا وثَلاثِينَ ونَحْمَدُ ثَلاثا وثلاَثِينَ ونُكَبِّرُ أرْبَعا وثَلاثِينَ فرَجعْتُ إليهِ فَقَالَ تَقُولُ سُبْحَانَ الله وَالحَمْدُ لله وَالله أكبرُ حَتَّى يَكُونَ كُلِّهنَّ ثَلاثا وثَلاثِينَ. (الحَدِيث 843 طرفه فِي: 6329) .

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي فِي قَوْله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون خلف كل صَلَاة ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد ابْن أبي بكر بن عَليّ بن عَطاء بن مقدم، أَبُو عبد الله الْمَعْرُوف بالمقدمي الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: مُعْتَمر بن سُلَيْمَان بن طرخان الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: عبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْمدنِي. الرَّابِع: سمي، بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: مولى ابي بكر بن عبد الرَّحْمَن. الْخَامِس: أَبُو صَالح ذكْوَان الزيات الْمدنِي. السَّادِس: أَبُو هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: الْأَوَّلَانِ من رِجَاله بصريان والبقية مدنيون. وَفِيه: عبيد الله تَابِعِيّ صَغِير وَلَا يعرف لسمي رِوَايَة عَن أحد من الصَّحَابَة، فَهُوَ من رِوَايَة الْكَبِير عَن الصَّغِير.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم أَيْضا فِي الصَّلَاة عَن عَاصِم ابْن النَّضر، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى، كِلَاهُمَا عَن مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ الْفُقَرَاء) ، وَهُوَ جمع فَقير، وَلم يعلم عَددهمْ هُنَا، وَجَاء فِي رِوَايَة أبي دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد ابْن أبي عَائِشَة: عَن أبي هُرَيْرَة أَن أَبَا ذَر مِنْهُم، وَأخرجه الْفرْيَابِيّ فِي (كتاب الذّكر) لَهُ من حَدِيث أبي ذَر نَفسه، وَجَاء فِي رِوَايَة النَّسَائِيّ وَغَيره: أَن أَبَا الدَّرْدَاء مِنْهُم، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث مُجَاهِد وَعِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (جَاءَ الْفُقَرَاء إِلَى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إِن الْأَغْنِيَاء يصلونَ كَمَا نصلي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُوم، وَلَهُم أَمْوَال يعتقون وَيَتَصَدَّقُونَ. قَالَ: فَإِذا صليتم فَقولُوا: سُبْحَانَ الله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مرّة، وَالْحَمْد لله ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مرّة، وَالله أكبر أَرْبعا وَثَلَاثِينَ مرّة، وَلَا إِلَه إلاّ الله عشر مَرَّات، فَإِنَّكُم تدركون بِهِ من سبقكم، وَلَا يسبقكم من بعدكم) . قَوْله: (ذهب أهل الدُّثُور) ، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة والثاء الْمُثَلَّثَة جمع: دثر، بِفَتْح الدَّال وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة: وَهُوَ المَال الْكثير. قَالَ ابْن سَيّده: لَا يثنى وَلَا يجمع. وَقيل: هُوَ الْكثير من كل شَيْء. وَقَالَ أَبُو عمر الْمُطَرز: إِنَّه يثني وَيجمع، وَوَقع عِنْد الْخطابِيّ: أهل الدّور، جمع: دَار. وَقَالَ ابْن قرقول: وَقع فِي رِوَايَة الْمروزِي: أهل الدّور، يَعْنِي: مثل مَا وَقع فِي رِوَايَة الْخطابِيّ. قَالَ: وَهُوَ تَصْحِيف، وَكلمَة: من، فِي: من الْأَمْوَال، بَيَانِيَّة تبين الدُّثُور، وَيجوز أَن تكون: من الْأَمْوَال، تَأْكِيدًا، وَيجوز أَن تكون وَصفا. قَوْله: (العُلى) بِضَم الْعين جمع: العلياء، وَهِي تَأْنِيث: الْأَعْلَى. قَوْله: (وَالنَّعِيم الْمُقِيم) النَّعيم: مَا يتنعم بِهِ، والمقيم: الدَّائِم، وَذكر الْمُقِيم تَعْرِيض بالنعيم العاجل، فَإِنَّهُ قَلما يصفو، وَإِن صفا فَهُوَ فِي صدد الزَّوَال وَسُرْعَة الِانْتِقَال. وَفِي رِوَايَة مُحَمَّد بن أبي عَائِشَة عَن أبي هُرَيْرَة: (ذهب أَصْحَاب الدُّثُور بِالْأُجُورِ) . وَكَذَا فِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه من رِوَايَة بشر بن عَاصِم عَن أَبِيه: (عَن أبي ذَر قَالَ: قيل: يَا رَسُول الله، وَرُبمَا قَالَ سُفْيَان: قلت: يَا رَسُول الله ذهب أهل الْأَمْوَال والدثور بِالْأُجُورِ، يَقُولُونَ كَمَا نقُول، وينفقون وَلَا ننفق. قَالَ لي: أَلا أخْبركُم بِأَمْر إِذا فعلتموه أدركتم من قبلكُمْ وفتم من بعدكم؟ تحمدون الله فِي دبر كل صَلَاة، وتسبحون وتكبرون ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وأربعا وَثَلَاثِينَ. قَالَ سُفْيَان: لَا أَدْرِي أيتهن أَربع!) وروى الْبَزَّار من رِوَايَة مُوسَى بن عُبَيْدَة عَن عبد الله بن دِينَار عَن ابْن عمر، قَالَ: (اشْتَكَى فُقَرَاء الْمُؤمنِينَ إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَا فضل بِهِ أغنياؤهم، فَقَالُوا: يَا رَسُول الله إِخْوَاننَا صدقُوا تصديقنا، وآمنوا إيمَاننَا، وصاموا صيامنا، وَلَهُم أَمْوَال يتصدقون مِنْهَا وَيصلونَ مِنْهَا الرَّحِم وينفقونها فِي سَبِيل الله، وَنحن مَسَاكِين لَا نقدر على ذَلِك. فَقَالَ: أَلا أخْبركُم بِشَيْء إِذا فعلتموه أدركتم مثل فَضلهمْ؟ قُولُوا: الله أكبر فِي دبر كل صَلَاة إِحْدَى عشرَة مرّة، وَالْحَمْد لله مثل ذَلِك، وَلَا إِلَه إلاّ الله مثل ذَلِك، تدركون مثل فَضلهمْ. فَفَعَلُوا ذَلِك، فَذكرُوا للأغنياء، فَفَعَلُوا مثل ذَلِك، فَرجع الْفُقَرَاء إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَذكرُوا ذَلِك، فَقَالُوا: هَؤُلَاءِ إِخْوَاننَا فعلوا مثل مَا نقُول، فَقَالَ: {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء} (الْمَائِدَة: 54، الْحَدِيد: 21، وَالْجُمُعَة: 4) . يَا معشر الْفُقَرَاء، أَلا يسركم أَن فُقَرَاء الْمُسلمين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِنصْف يَوْم، خَمْسمِائَة عَام؟ وتلا مُوسَى بن عُبَيْدَة:

(6/128)


{وَإِن يَوْمًا عِنْد رَبك كألف سنة مِمَّا تَعدونَ} (الْحَج: 47) . وروى أَبُو دَاوُد من رِوَايَة مُحَمَّد ابْن أبي عَائِشَة عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: (قَالَ أَبُو ذَر: يَا رَسُول الله ذهب أَصْحَاب الدُّثُور بِالْأُجُورِ. .) الحَدِيث، وَذكر التَّكْبِير والتحميد وَالتَّسْبِيح ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَزَاد: (ويختمها بِلَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ، لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على شَيْء قدير، غفرت لَهُ ذنُوبه وَلَو كَانَت مثل زبد الْبَحْر) . وروى النَّسَائِيّ فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من رِوَايَة عبد الْعَزِيز بن رفيع عَن أبي صَالح: (عَن أبي الدَّرْدَاء، قَالَ: قلت: يَا رَسُول الله ذهب أهل الْأَمْوَال بالدنيا وَالْآخِرَة، يصلونَ كَمَا نصلي، وَيَصُومُونَ كَمَا نَصُوم، ويذكرون كَمَا نذْكر، ويجاهدون كَمَا نجاهد، وَلَا نجد مَا نتصدق بِهِ. قَالَ: أَلا أخْبرك بِشَيْء إِذا أَنْت فعلته أدْركْت من كَانَ قبلك وَلم يلحقك من كَانَ بعْدك إلاّ من قَالَ مثل مَا قلت؟ تسبح الله دبر كل صَلَاة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وتكبر أَرْبعا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَة) . قَوْله: (يحجون بهَا) ، فَإِن قلت: وَقع فِي رِوَايَة جَعْفَر الْفرْيَابِيّ من حَدِيث أبي الدَّرْدَاء: (ويحجون كَمَا نحج) . قلت: اشتراكهم فِي الْحَج كَانَ فِي الْمَاضِي، وَأما المتوقع فَلَا يقدر عَلَيْهِ إلاَّ أَصْحَاب الْأَمْوَال غَالِبا، فَإِن جَاءَت رِوَايَة: ويحجون بهَا، بِضَم الْيَاء من الإحجاج أَي: يعينون غَيرهم على الْحَج بِالْمَالِ، فَلَا إِشْكَال، وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي قَوْله: (ويجاهدون) ، هَهُنَا فِي الدَّعْوَات من رِوَايَة وَرْقَاء عَن سمي: (وَجَاهدُوا كَمَا جاهدنا) . قَوْله: (وَيَتَصَدَّقُونَ) ، وَوَقع فِي رِوَايَة مُسلم من رِوَايَة ابْن عجلَان عَن سمي: (وَيَتَصَدَّقُونَ وَلَا نتصدق، ويعتقون وَلَا نعتق) . قَوْله: (أَلاَ) كلمة تَنْبِيه وتحضيض. قَوْله: (بِمَا إِن أَخَذْتُم بِهِ؟) أَي: بِشَيْء إِن أخذتموه أدركتم من سبقكم من أهل الْأَمْوَال فِي الدَّرَجَات العلى؟ وَلَيْسَت كلمة: (بِمَا) ، فِي أَكثر الرِّوَايَات، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ بِدُونِ: بِمَا، وَلَفظه: (أَلا أحدثكُم بِأَمْر إِن أَخَذْتُم. .) وَكَذَا فِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ. قَوْله: (بِهِ) ، الضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى قَوْله: (بِمَا) ، لِأَن: مَا، بِمَعْنى: شَيْء كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَسَقَطت أَيْضا هَذِه اللَّفْظَة فِي أَكثر الرِّوَايَات. قَوْله: (أدركتم) ، جَوَاب: إِن، وَقَوله: (من سبقكم) فِي مَحل النصب لِأَنَّهُ مفعول: أدركتم، وَالْمعْنَى: أدركتم من سبقكم من أهل الْأَمْوَال الَّذين امتازوا عَلَيْكُم بِالصَّدَقَةِ والسبقية. وَقَالَ الْكرْمَانِي: كَيفَ يُسَاوِي قَول هَذِه الْكَلِمَات مَعَ سهولتها وَعدم مشقتها الْأُمُور الشاقة الصعبة من الْجِهَاد وَنَحْوه، وَأفضل الْعِبَادَات أحمزهما؟ قلت: أَدَاء هَذِه الْكَلِمَات حَقّهَا الْإِخْلَاص، سِيمَا الْحَمد فِي حَال الْفقر من أفضل الْأَعْمَال وأشقها، ثمَّ إِن الثَّوَاب لَيْسَ بِلَازِم أَن يكون على قدر الْمَشَقَّة، أَلاَ ترى فِي التَّلَفُّظ بِكَلِمَة الشَّهَادَة من الثَّوَاب مَا لَيْسَ فِي كثير من الْعِبَادَات الشاقة؟ وَكَذَا الْكَلِمَة المتضمنة لتمهيد قَاعِدَة خير عَام، وَنَحْوهَا؟ قَالَ الْعلمَاء: إِن إِدْرَاك صُحْبَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَحْظَة خير وفضيلة لَا يوازيها عمل، وَلَا تنَال درجتها بِشَيْء، ثمَّ إِن كَانَت نيتهم، لَو كَانُوا أَغْنِيَاء لعملوا مثل عَمَلهم وَزِيَادَة، (وَنِيَّة الْمُؤمن خير من عمله) ، فَلهم ثَوَاب هَذِه النِّيَّة وَهَذِه الْأَذْكَار. قَوْله: (لم يدرككم) ، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: لِمَ لَا يحصل لمن بعدهمْ ثَوَاب ذَلِك؟ قلت: إلاّ من عمل اسْتثِْنَاء مِنْهُ أَيْضا، كَمَا هُوَ مَذْهَب الشَّافِعِي فِي أَن الِاسْتِثْنَاء المتعقب للجمل عَائِد إِلَى كلهَا. قَوْله: (بَين ظهرانيهم) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة وَأبي الْوَقْت: (بَين ظهرانيه) ، بِالْإِفْرَادِ، وَمَعْنَاهُ: أَنهم اقاموا بَينهم على سَبِيل الِاسْتِظْهَار والاستناد إِلَيْهِم، وزيدت فِيهِ الْألف وَالنُّون الْمَفْتُوحَة تَأْكِيدًا، وَمَعْنَاهُ: إِن ظهرا مِنْهُم قدامه، وظهرا وَرَاءه، فَهُوَ مَكْنُون من جانبيه، وَمن جوانبه إِذا قيل: بَين أظهرههم، ثمَّ كثر حَتَّى اسْتعْمل فِي الْإِقَامَة بَين الْقَوْم. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: قَالَ أَولا: (أدركتم من سبقكم) يَعْنِي: تساوونهم، وَثَانِيا: كُنْتُم خير من أَنْتُم بَينهم) ، يَعْنِي تَكُونُونَ أفضل مِنْهُم، فتلزم الْمُسَاوَاة وَعدم الْمُسَاوَاة على تَقْدِير عدم عَمَلهم مثله؟ قلت: لَا نسلم أَن الْإِدْرَاك يسْتَلْزم الْمُسَاوَاة، فَرُبمَا يدركهم ويتجاوز عَنْهُم. قَوْله: (إلاّ من عمل مثله) أَي: إلاّ الْغَنِيّ الَّذِي يسبح، فَإِنَّكُم لم تَكُونُوا خيرا مِنْهُم، بل هُوَ خير مِنْكُم أَو مثلكُمْ نعم، إِذا قُلْنَا الِاسْتِثْنَاء يرجع إِلَى الْجُمْلَة الأولى أَيْضا، يلْزم قطعا كَون الْأَغْنِيَاء أفضل، إِذْ مَعْنَاهُ: إِن أَخَذْتُم أدركتم إلاّ من عمل مثله، فَإِنَّكُم لَا تدركونه. فَإِن قلت: فالأغنياء إِذا سبحوا يترجحون فَيبقى بِحَالهِ مَا شكا الْفُقَرَاء مِنْهُ، وَهُوَ رجحانهم من جِهَة الْجِهَاد وإخواته. قلت: مَقْصُود الْفُقَرَاء مِنْهُ تَحْصِيل الدَّرَجَات العلى وَالنَّعِيم الْمُقِيم لَهُم أَيْضا، لَا نفي زيادتهم مُطلقًا، قَوْله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون) كَذَا وَقع فِي أَكثر الْأَحَادِيث تَقْدِيم التَّسْبِيح على التَّحْمِيد وَتَأْخِير التَّكْبِير، وَفِي رِوَايَة ابْن عجلَان: تَقْدِيم التَّكْبِير على التَّحْمِيد خَاصَّة، وَفِي حَدِيث ابْن مَاجَه: تَقْدِيم التَّحْمِيد على التَّسْبِيح، فَدلَّ هَذَا الِاخْتِلَاف على أَن لَا تَرْتِيب فِيهَا، وَيدل عَلَيْهِ الحَدِيث الَّذِي فِيهِ الْبَاقِيَات الصَّالِحَات: (لَا يَضرك

(6/129)


بأيهن بدأت) ، وَلَكِن يُمكن أَن يُقَال: الأولى الْبدَاءَة بالتسبيح لِأَنَّهُ يتَضَمَّن نفي النقائص عَن الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، ثمَّ التَّحْمِيد لِأَنَّهُ يتَضَمَّن إِثْبَات الْكَمَال لله تَعَالَى، لِأَن جَمِيع المحامد لَهُ، ثمَّ التَّكْبِير لِأَنَّهُ تَعْظِيم، وَمن كَانَ منزها عَن النقائص، ومستحقا لجَمِيع المحامد يجب تَعْظِيمه، وَذَلِكَ بِالتَّكْبِيرِ، ثمَّ يخْتم ذَلِك كُله بالتهليل الدَّال على وحدانيته وانفراده تَعَالَى وتقدس، وَقَوله: (تسبحون وتحمدون وتكبرون) ثَلَاثَة أَفعَال تنازعت فِي ظرف، أَعنِي، قَوْله: (خلف كل صَلَاة) قَوْله: (خلف كل صَلَاة) وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الدَّعْوَات: (دبر كل صَلَاة) ، وَفِي حَدِيث أبي ذَر: (إِثْر كل صَلَاة) ، وَيُمكن أَن يكون لفظ: (دبر) ، تَفْسِيرا للفظ: (خلف) ، قَوْله: (صَلَاة) يَشْمَل الْفَرْض وَالنَّفْل، وَلَكِن حمله أَكثر الْعلمَاء على الْفَرْض، لِأَنَّهُ وَقع فِي حَدِيث كَعْب بن عجْرَة عِنْد مُسلم التَّقْيِيد بالمكتوبة، فكأنهم حملُوا الْمُطلق على الْمُقَيد. قَوْله: (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) ، هَذَا اللَّفْظ يحْتَمل أَن يكون لمجموع هَذَا الْمِقْدَار بِحَيْثُ إِنَّه يكون كل وَاحِد مِنْهَا أحد عشر، وَأَن يكون كل وَاحِد يبلغ هَذَا الْعدَد فَهُوَ مُجمل، وَتَمام هَذَا الحَدِيث مُبين أَن الْمَقْصُود هُوَ الثَّانِي. قَوْله: (فاختلفنا بَيْننَا) أَي: فِي كل وَاحِد ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ؟ أَو الْمَجْمُوع؟ أَو أَن تَمام الْمِائَة بِالتَّكْبِيرِ؟ أَو بِغَيْرِهِ؟ فَإِن قلت: هَذَا الِاخْتِلَاف وَقع بَين من وَمن؟ قلت: ظَاهر العباراة أَنه وَقع بَين الصَّحَابَة، وَأَن الْقَائِل: (فاختلفنا) هُوَ أَبُو هُرَيْرَة، وَكَذَا الضَّمِير فِي: (رجعت) يرجع إِلَى أبي هُرَيْرَة، وَالضَّمِير فِي (إِلَى) يرجع إِلَيْهِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلَكِن بيّن مُسلم فِي رِوَايَته عَن ابْن عجلَان عَن سمي أَن الْقَائِل: (فاختلفنا) هُوَ: سمي، وَأَن الضَّمِير فِي (رجعت) يرجع إِلَيْهِ، وَالضَّمِير فِي (إِلَيْهِ) يرجع إِلَى أبي صَالح، وَأَن الْمُخَالف لَهُ بعض أَهله، وَلَفظه: (قَالَ سمي: فَحدثت بعض أَهلِي هَذَا الحَدِيث، فَقَالَ: وهمت) . فَذكر كَلَامه. قَالَ: (فَرَجَعت إِلَى أبي صَالح) ، وَالَّذِي ذكره مُسلم أقرب، لِأَن الْأَحَادِيث يُفَسر بَعْضهَا بَعْضًا، فَلذَلِك اقْتصر صَاحب (الْعُمْدَة) على هَذَا، لَكِن مُسلما لم يُوصل هَذِه الزِّيَادَة، فَإِنَّهُ أخرج الحَدِيث: عَن قُتَيْبَة عَن اللَّيْث ابْن عجلَان، ثمَّ قَالَ: زَاد غير قُتَيْبَة فِي هَذَا الحَدِيث عَن اللَّيْث، فَذكرهَا. قيل: يحْتَمل أَن يكون هَذَا الْغَيْر شُعَيْب بن اللَّيْث، فَإِن أَبَا عوَانَة أخرجه فِي (مستخرجه) : عَن الرّبيع بن سُلَيْمَان عَن شُعَيْب، وَيحْتَمل أَن يكون سعيد بن أبي مَرْيَم، فَإِن الْبَيْهَقِيّ أخرجه من طَرِيق سعيد؟ قلت: يحْتَمل أَن يكون غَيرهمَا، وَقد روى ابْن حبَان هَذَا الحَدِيث من طَرِيق الْمُعْتَمِر بن سُلَيْمَان بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور فَلم يذكر. قَوْله: (واختلفنا) إِلَى آخِره. قَوْله: (أَرْبعا) ، ويروى: (أَرْبَعَة) ، وَإِذا كَانَ الْمُمَيز غير مَذْكُور يجوز فِي الْعدَد التَّذْكِير والتأنيث. قَوْله: (مِنْهُنَّ كُلهنَّ) ، بِكَسْر اللَّام، لِأَنَّهُ تَأْكِيد للضمير الْمَجْرُور. قَوْله: (ثَلَاث وَثَلَاثُونَ) ، بِالْوَاو عَلامَة الرّفْع، وَهُوَ اسْم: كَانَ، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة والأصيلي وَأبي الْوَقْت: (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) ، على أَنه خبر: كَانَ، واسْمه مَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: حَتَّى يكون الْعدَد مِنْهُنَّ كُلهنَّ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ. فَإِن قلت: مَا الْحِكْمَة فِي تعْيين هَذَا الْعدَد؟ أَعنِي: ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ؟ قلت: هُنَا قد تعين هَذَا الْعدَد، وَقد اخْتلفت الْأَعْدَاد فِي الْأَحَادِيث الْوَارِدَة فِي هَذَا الْبَاب على وُجُوه مُخْتَلفَة، فورد فِيهِ كَونه ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، كَمَا فِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة فِي هَذَا الْبَاب، وَكَونه خمْسا وَعشْرين، كَمَا فِي حَدِيث زيد بن ثَابت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه النَّسَائِيّ من رِوَايَة كثير بن أَفْلح عَن زيد بن ثَابت، قَالَ: (أمروا أَن يسبحوا دبر كل صَلَاة ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، ويحمدوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، ويكبروا أَرْبعا وَثَلَاثِينَ، فَأتي رجل من الْأَنْصَار فِي مَنَامه، قيل: أَمركُم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن تسبحوا دبر كل صَلَاة ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وتحمدوا ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وتكبروا أَرْبعا وَثَلَاثِينَ؟ قَالَ: نعم، فاجعلوها خمْسا وَعشْرين، فاجعلوا فِيهَا التهليل، فَلَمَّا أصبح أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَذكر ذَلِك لَهُ، فَقَالَ: إجعلوها كَذَلِك) . وَكَونه إِحْدَى عشرَة، كَمَا فِي بعض طرق حَدِيث ابْن عمر، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن الْبَزَّار، وَكَونه عشرا كَمَا فِي حَدِيث أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة عِكْرِمَة بن عمار عَن إِسْحَاق بن عبد الله ابْن أبي طَلْحَة: (عَن أنس بن مَالك، قَالَ: جَاءَت أم سليم إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله! عَلمنِي كَلِمَات أَدْعُو بِهن فِي صَلَاتي. فَقَالَ: سبحي الله عشرا. واحمديه عشرا، وكبريه عشرا، ثمَّ سَلِي حَاجَتك، يَقُول: نعم نعم) . رَوَاهُ الْبَزَّار وَأَبُو يعلى فِي (مسنديهما) وَفِيه: نعم نعم نعم، ثَلَاثًا، وَكَذَلِكَ

(6/130)


فِي حَدِيث عبد الله بن عمر، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَمْرو، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (خصلتان لَا يحصيهما رجل مُسلم إلاّ دخل الْجنَّة) الحَدِيث. وَفِيه: (يسبح الله أحدكُم فِي دبر كل صَلَاة عشرا، ويحمد عشرا، وَيكبر عشرا) . الحَدِيث فَهِيَ خَمْسُونَ وَمِائَة بِاللِّسَانِ، وَألف وَخَمْسمِائة فِي الْمِيزَان، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث سعد بن أبي وَقاص، أخرجه النَّسَائِيّ فِي عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من رِوَايَة مُوسَى الْجُهَنِيّ: عَن مُصعب بن سعد عَن سعد قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يمْنَع أحدكُم أَن يسبح دبر كل صَلَاة عشرا، وَيكبر عشرا ويحمد عشرا؟) وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَحْمد فِي رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب عَن أَبِيه (عَن عَليّ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما زوجه فَاطِمَة) الحَدِيث، وَفِيه: (تسبحان لله فِي دبر كل صَلَاة عشرا، وتحمدان عشرا، وتكبران عشرا) ، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث أم مَالك الْأَنْصَارِيَّة، أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة عَطاء بن السَّائِب: عَن يحيى بن جعدة عَن رجل حَدثهُ، (عَن أم مَالك الْأَنْصَارِيَّة: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَنِيئًا لَك يَا أم مَالك بركَة عجل الله ثَوَابهَا، ثمَّ علمهَا فِي دبر كل صَلَاة: سُبْحَانَ الله عشرا، وَالْحَمْد لله عشرا، وَالله أكبر عشرا) . وَكَونه سِتا، كَمَا فِي حَدِيث أنس فِي بعض طرقه، وَمرَّة وَاحِدَة، كَمَا فِي بعض طرق حَدِيثه، أَيْضا، وَكَونه سبعين مرّة كَمَا فِي حَدِيث زميل الْجُهَنِيّ أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة أبي مشجعَة بن ربعي الْجُهَنِيّ: (عَن زميل الْجُهَنِيّ، قَالَ: كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا صلى الصُّبْح قَالَ، وَهُوَ ثَان رجله: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ، واستغفر الله، إِنَّه كَانَ تَوَّابًا، سبعين مرّة، ثمَّ يَقُول: سبعين بسبعمائة. .) الحَدِيث. وَكَونه مائَة مرّة كَمَا فِي بعض طرق حَدِيث أبي هُرَيْرَة، أخرجه النَّسَائِيّ فِي عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة، من رِوَايَة يَعْقُوب بن عَطاء: عَن عَطاء ابْن أبي عَلْقَمَة عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من سبح فِي دبر كل صَلَاة مَكْتُوبَة مائَة، وَكبر مائَة وَحمد مائَة غفرت لَهُ ذنُوبه، وَإِن كَانَت أَكثر من زبد الْبَحْر) .
ثمَّ الْجَواب عَن وَجه الْحِكْمَة فِي تعْيين هَذِه الْأَعْدَاد أَنه: يجب علينا أَولا: أَن نتمثل فِي ذَلِك وَإِن خَفِي علينا وَجهه، لِأَن كَلَام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَخْلُو عَن حكم. وَثَانِيا: نقُول بِمَا أوقع الله تَعَالَى فِي قُلُوبنَا من أنواره الَّتِي يتجلى بهَا فِي الغوامض، وَهُوَ أَن الِاخْتِلَاف فِي هَذِه الْأَعْدَاد الظَّاهِر أَنه بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحْوَال والأزمان والأشخاص، فَيمكن أَن يُقَال: فِي الذّكر مرّة، إِنَّهَا أدنى مَا يُقَال، لِأَنَّهَا مَا تحتهَا شَيْء. وَفِي السِّت: إِن الْأَيَّام سِتَّة، فَمن ذكر سِتّ مَرَّات فَكَأَنَّهُ ذكر فِي كل يَوْم مِنْهَا مرّة، فتستغرق أَيَّامه ببركة الذّكر. وَفِي الْعشْر: كل حَسَنَة بِعشر أَمْثَالهَا بِالنَّصِّ. وَفِي إِحْدَى عشرَة كَذَلِك، وَلَكِن زِيَادَة الْوَاحِدَة عَلَيْهَا للجزم بتحقق الْعشْرَة. وَفِي خمس وَعشْرين إِن سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار أَربع وَعِشْرُونَ سَاعَة، فَمن ذكر خمْسا وَعشْرين فَكَأَنَّمَا ذكر فِي كل سَاعَة من سَاعَات اللَّيْل وَالنَّهَار، وَالْوَاحد الزَّائِد للجزم بتحققها. وَفِي ثَلَاث وَثَلَاثِينَ إِنَّهَا إِذا ضوعفت ثَلَاث مَرَّات تكون تسعا وَتِسْعين، فَمن ذكر بِثَلَاث وَثَلَاثِينَ فَكَأَنَّمَا ذكر الله بأسمائه التِّسْعَة وَالتسْعين الَّتِي ورد بهَا الحَدِيث. وَفِي سبعين إِنَّه إِذا ذكر الله بِهَذَا الْعدَد يحصل لَهُ سَبْعمِائة ثَوَاب، لكل وَاحِد مِنْهَا عشرَة، وَقد صرح بذلك فِي حَدِيث زميل الْجُهَنِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ. وَفِي مائَة: الْقَصْد فِيهَا الْمُبَالغَة فِي التكثير، لِأَنَّهَا الدرجَة الثَّالِثَة للأعداد.
فَإِن قلت: إِذا نقص من هَذِه الْأَعْدَاد الْمعينَة أَو زَاد، هَل يحصل لَهُ الْوَعْد الَّذِي وعد لَهُ فِيهِ؟ قلت: ذكر شَيخنَا زين الدّين فِي (شرح التِّرْمِذِيّ) قَالَ: كَانَ بعض مَشَايِخنَا يَقُول: إِن هَذِه الْأَعْدَاد الْوَارِدَة عقيب الصَّلَوَات أَو غَيرهَا من الْأَذْكَار الْوَارِدَة فِي الصَّباح والمساء وَغير ذَلِك، إِذا كَانَ ورد لَهَا عدد مَخْصُوص مَعَ ثَوَاب مَخْصُوص، فَزَاد الْآتِي بهَا فِي أعدادها عمدا لَا يحصل لَهُ ذَلِك الثَّوَاب الْوَارِد على الْإِتْيَان بِالْعدَدِ النَّاقِص، فَلَعَلَّ لتِلْك الْأَعْدَاد حِكْمَة، وخاصة تفوت بمجاوزة تِلْكَ الْأَعْدَاد وتعديها، وَلذَلِك نهى عَن الاعتداء فِي الدُّعَاء. انْتهى. قَالَ الشَّيْخ: فِيمَا قَالَه نظر، لِأَنَّهُ قد أَتَى بالمقدار الَّذِي رتب على الْإِتْيَان بِهِ ذَلِك الثَّوَاب، فَلَا تكون الزِّيَادَة مزيلة لذَلِك الثَّوَاب بعد حُصُوله عِنْد الْإِتْيَان بذلك الْعدَد. انْتهى. قلت: الصَّوَاب هُوَ الَّذِي قَالَه الشَّيْخ، لِأَن هَذَا لَيْسَ من الْحُدُود الَّتِي نهى عَن اعتدائها ومجاوزة أعدادها، وَالدَّلِيل على ذَلِك مَا رَوَاهُ مُسلم من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من قَالَ حِين يصبح وَحين يُمْسِي: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ مائَة مرّة، لم يَأْتِ أحد يَوْم الْقِيَامَة بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ، إلاّ أحد قَالَ مثل مَا قَالَ أَو زَاد عَلَيْهِ. فَإِن قلت: الشَّرْط فِي هَذَا أَن يَقُول: الذّكر الْمَنْصُوص عَلَيْهِ بِالْعدَدِ مُتَتَابِعًا أم لَا؟ وَالشّرط أَن يكون فِي مجْلِس وَاحِد أم لَا؟ قلت: كل مِنْهُمَا لَيْسَ بِشَرْط، وَلَكِن الْأَفْضَل أَن يَأْتِي بِهِ مُتَتَابِعًا، وَأَن يُرَاعِي الْوَقْت الَّذِي عين فِيهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك يتَعَلَّق بِهَذَا الحَدِيث الْمَسْأَلَة المشهودة فِي التَّفْضِيل بَين الْغَنِيّ الشاكر وَالْفَقِير الصابر، فَذهب الْجُمْهُور من الصُّوفِيَّة إِلَى تَرْجِيح الْفَقِير الصابر، لِأَن مدَار الطَّرِيق على تَهْذِيب النَّفس ورياضتها، وَذَلِكَ مَعَ الْفقر أَكثر

(6/131)


مِنْهُ مَعَ الْغنى، فَكَانَ أفضل بِمَعْنى أشرف. وَذكر الْقُرْطُبِيّ: أَن فِي هَذِه الْمَسْأَلَة خَمْسَة أَقْوَال: فَمن قَائِل بتفضيل الْغَنِيّ، من قَائِل بتفضيل الْفَقِير. وَمن قَائِل بتفضيل الكفاف. وَمن قَائِل برد هَذَا إِلَى اعْتِبَار أَحْوَال النَّاس فِي ذَلِك. وَمن قَائِل بِالْوَقْفِ لِأَنَّهَا مَسْأَلَة لَهَا غور، وفيهَا أَحَادِيث متعارضة. قَالَ: وَالَّذِي يظْهر لي أَن الْأَفْضَل مَا اخْتَارَهُ الله لنَبيه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ولجمهور صحابته، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَهُوَ الْفقر غير المدقع، وَيَكْفِيك من هَذَا أَن فُقَرَاء الْمُسلمين يدْخلُونَ الْجنَّة قبل أغنيائهم بِخَمْسِمِائَة عَام، وَأَصْحَاب الْأَمْوَال محبوسون على قنطرة بَين الْجنَّة وَالنَّار يسْأَلُون عَن فضول أَمْوَالهم. وَقَالَ ابْن بطال عَن الْمُهلب فِي هَذَا الحَدِيث: فضل الْغَنِيّ نصا لَا تَأْوِيلا إِذا اسْتَوَت أَعمال الْغَنِيّ وَالْفَقِير فِيمَا افْترض الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا، فللغني حِينَئِذٍ فضل عمل الْبر من الصَّدَقَة وَنَحْوهَا، مِمَّا لَا سَبِيل للْفَقِير إِلَيْهِ. قَالَ: وَرَأَيْت بعض الْمُتَكَلِّمين ذهب إِلَى أَن الْفضل الْمُرَتّب على الذّكر يخص الْفُقَرَاء دون غَيرهم، قَالَ: وغفل عَن قَوْله: (إلاّ من عمل مثله) ، فَخص الْفضل لقائله كَائِنا من كَانَ، وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: ظَاهر الحَدِيث الْقَرِيب من النَّص أَنه فضل الْغَنِيّ وَبَعض النَّاس، تَأَوَّلَه بِتَأْوِيل مستكره، قَالَ: وَالَّذِي يَقْتَضِيهِ النّظر أَنَّهُمَا إِن تَسَاويا وفضلت الْعِبَادَة الْمَالِيَّة أَن يكون الْغَنِيّ أفضل، وَهَذَا لَا شكّ فِيهِ، وَإِنَّمَا النّظر إِذا تَسَاويا وَانْفَرَدَ كل مِنْهُمَا بمصلحة مَا هُوَ فِيهِ، أَيهمَا أفضل؟ إِن فسر الْفضل بِزِيَادَة الثَّوَاب فَالْقِيَاس يَقْتَضِي أَن الْمصَالح المتعدية أفضل من القاصرة، فيترجح الْغَنِيّ، وَإِن فسر بالأشرف بِالنِّسْبَةِ إِلَى صِفَات النَّفس، فَالَّذِي يحصل لَهَا من التَّطْهِير بِحَسب الْفقر أشرف، فيترجح الْفقر، وَمن ثمَّة ذهب جُمْهُور الصُّوفِيَّة إِلَى تَرْجِيح الْفَقِير الصابر.
وَمن فَوَائِد الحَدِيث الْمَذْكُور: أَن الْعَالم إِذا سُئِلَ عَن مَسْأَلَة يَقع فِيهَا الْخلاف أَن يُجيب بِمَا يلْحق بِهِ الْمَفْضُول دَرَجَة الْفَاضِل، وَلَا يُجيب بِنَفس الْفَاضِل، لِئَلَّا يَقع الْخلاف. أَلاَ ترى أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أجَاب بقوله: (أَلا أدلكم على أَمر تساوونهم فِيهِ) وَعدل عَن قَوْله: نعم هُوَ أفضل مِنْكُم بذلك. وَمِنْهَا: الْمُسَابقَة إِلَى الْأَعْمَال المحصلة للدرجات الْعَالِيَة لمبادرة الْأَغْنِيَاء إِلَى الْعَمَل بِمَا بَلغهُمْ، وَلم يُنكر عَلَيْهِم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فيستنبط مِنْهُ أَن قَوْله: (إلاّ من عمل) ، عَام للْفُقَرَاء والأغنياء، والتأويل بِغَيْر ذَلِك يرد. وَمِنْهَا: فضل الذّكر عقيب الصَّلَوَات لِأَنَّهَا أَوْقَات فاضلة ترتجي فِيهَا إِجَابَة الدُّعَاء. وَمِنْهَا: أَن الْعَمَل الْقَاصِر قد يُسَاوِي الْمُتَعَدِّي، خلافًا لمن قَالَ: إِن الْمُتَعَدِّي أفضل مُطلقًا قلت: وَمِمَّا يُؤَيّدهُ أَن الثَّوَاب الَّذِي يُعْطِيهِ الله تَعَالَى لَا يسْتَحقّهُ الْإِنْسَان بِحَسب الْأَذْكَار، وَلَا بِحَسب إِعْطَاء الْأَمْوَال، إِنَّمَا هُوَ {فضل الله يؤتيه من يَشَاء} (الْمَائِدَة: 54، الْحَدِيد: 21، وَالْجُمُعَة: 4) . أَلا ترى إِلَى مَا رُوِيَ فِي (الصَّحِيحَيْنِ) : عَن أبي هُرَيْرَة من رِوَايَة سمي عَن أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة: (أَن فُقَرَاء الْمُهَاجِرين أَتَوا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .) الحَدِيث. وَفِيه: (قَالَ أَبُو صَالح: فَرجع فُقَرَاء الْمُهَاجِرين إِلَى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالُوا: سمع إِخْوَاننَا إهل الْأَمْوَال مَا فعلنَا فَفَعَلُوا مثله، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم {ذَلِك فضل الله يؤتيه من يَشَاء} (الْمَائِدَة: 54، الْحَدِيد: 21، وَالْجُمُعَة: 4) . وَمِنْهَا: يفهم مِنْهُ أَنه لَا بَأْس أَن يغبط الرجل الرجل على مَا يَفْعَله من أَعمال الْبر، وَأَنه يتَمَنَّى أَن لَو فعل مثل مَا فعله، ويتسبب فِي تَحْصِيله لذَلِك أَو لما يقوم مقَامه من أَعمال الْبر، وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح: (لَا حسد إلاّ فِي اثْنَتَيْنِ. .) الحَدِيث. وَأطلق هُنَا الْحَسَد وَأَرَادَ بِهِ الْغِبْطَة، فَأَما حَقِيقَة الْحَسَد فمذموم، وَهُوَ: تمني زَوَال نعْمَة الْمَحْسُود، كحسد إِبْلِيس لآدَم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، على تَفْضِيل الله لَهُ عَلَيْهِ، وَأما قَوْله تَعَالَى: {وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فضل الله بَعْضكُم على بعض} (الْمَائِدَة: 54) . فَهُوَ تمني مَا لَا يُمكن حُصُوله مِمَّا خص الله غَيره بِهِ، كتمني النِّسَاء مَا خص الله بِهِ الرِّجَال من الْإِمَامَة وَالْأَذَان، وَجعل الطَّلَاق إلَيْهِنَّ، وكتمني أحد من هَذِه الْأمة أَن يكون نَبيا بَعْدَمَا أخبر الله تَعَالَى أَن نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خَاتم الْأَنْبِيَاء.

844 - ح دثنا مُحَمَّد بنُ يُوسُفَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عَنْ عَبْدِ المَلِكِ بنِ عُمَيْرٍ عنْ وَرَّادٍ كاتِبِ المُغِيرَةِ بنِ شُعْبَةَ قالَ أمْلَى عَلَيَّ المُغِيرَةُ بنُ شعْبَة فِي كِتَابٍ إِلَى مُعاوِيةَ إنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَقُولُ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ لَا إلَهَ إلاَّ الله وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ لَهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ وَهْوَ علَى كُلِّ شيءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ لاَ مَانِعَ لِمَا أعْطَيْتَ ولاَ مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ وَلاَ يَنْفَعُ ذَا الجَدِّ مِنْكَ الجَدُّ. .

(6/132)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن يُوسُف الْفرْيَابِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان الثَّوْريّ. الثَّالِث: عبد الْملك بن عُمَيْر، بِضَم الْعين، تقدم فِي: بَاب أهل الْعلم أَحَق بِالْإِمَامَةِ. الرَّابِع: وراد، بِفَتْح الْوَاو وَتَشْديد الرَّاء وَفِي آخِره دَال مُهْملَة. الْخَامِس: الْمُغيرَة بن شُعْبَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رجال إِسْنَاده كلهم كوفيون مَا خلا مُحَمَّد بن يُوسُف. وَفِيه: عَن وراد، وَفِي رِوَايَة مُعْتَمر بن سُلَيْمَان عَن سُفْيَان عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: حَدثنِي وراد.

ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن مُوسَى عَن أبي عوَانَة، وَفِي الرقَاق عَن عَليّ بن مُسلم وَفِي الْقدر عَن مُحَمَّد بن سِنَان وَفِي الدَّعْوَات عَن قُتَيْبَة وَفِي الصَّلَاة، وَقَالَ الْحَاكِم: عَن الْقَاسِم. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن أبي بكر وَأبي كريب وَأحمد بن سِنَان وَعَن مُحَمَّد بن حَاتِم وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن حَامِد بن عَمْرو عَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن مَنْصُور وَعَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن مُحَمَّد بن قدامَة وَعَن الْحسن بن إِسْمَاعِيل.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أمْلى عَليّ الْمُغيرَة) ، وَكَانَ الْمُغيرَة إِذْ ذَاك أَمِيرا على الْكُوفَة من قبل مُعَاوِيَة، وَعند أبي دَاوُد: (كتب مُعَاوِيَة إِلَى الْمُغيرَة: أَي شَيْء كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول إِذا سلم من الصَّلَاة؟ فَكتب إِلَيْهِ الْمُغيرَة. .) . وَعند ابْن خُزَيْمَة: (يَقُول عِنْد انْصِرَافه من الصَّلَاة: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير، ثَلَاث مَرَّات) . وَعند السراج: حَدثنَا زِيَاد بن أَيُّوب حَدثنَا مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن عُثْمَان بن حَكِيم سَمِعت مُحَمَّد بن كَعْب الْقرظِيّ سَمِعت مُعَاوِيَة يَقُول: (سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول فِي دبر كل صَلَاة، إِذا انْصَرف: اللَّهُمَّ لَا مَانع لما أَعْطَيْت وَلَا معطي لما منعت وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد) . وَفِي لفظ: (إِن الله لَا مُؤخر لما قدم، وَلَا مقدم لما أخر، وَلَا معطي لما منع وَلَا مَانع لما أعْطى، وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد، وَمن يرد الله بِهِ خيرا يفقهه فِي الدّين) . وَفِي لفظ: (إِنَّه لَا مُؤخر لما قدمت، وَلَا مقدم لما أخرت. .) . الحَدِيث كُله بتاء الْخطاب. فَإِن قلت: إِن مُعَاوِيَة إِذا كَانَ قد سمع هَذَا من رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَكيف يسْأَل عَنهُ؟ قلت: أَرَادَ أَن يستثبت ذَلِك، وَينظر هَل رَوَاهُ غَيره أَو نسي بعض حُرُوفه أَو مَا أشبه ذَلِك؟ كَمَا جرى لجَابِر بن عبد الله فِي سُؤَاله عقبَة بن عَامر عَن حَدِيث سَمعه، وَأَرَادَ أَن ينظر هَل رَوَاهُ غَيره؟ قَوْله: (فِي دبر كل صَلَاة) ، بِضَم الدَّال الْمُهْملَة وَضم الْبَاء الْمُوَحدَة وسكونها أَي: عقيب كل صَلَاة مَكْتُوبَة، أَي: فَرِيضَة، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للْبُخَارِيّ: (كَانَ يَقُولهَا فِي دبر كل صَلَاة) ، وَلم يقل: مَكْتُوبَة. قَوْله: (لَا إِلَه إِلَّا الله. .) إِلَى آخِره، كلمة تَوْحِيد بِالْإِجْمَاع، وَهِي مُشْتَمِلَة على النَّفْي وَالْإِثْبَات. فَقَوله: (لَا إِلَه) ، نفي الألوهية عَن غير الله. وَقَوله (إِلَّا الله) إِثْبَات الألوهية لله تَعَالَى، وبهاتين الصفتين صَار هَذَا كلمة التَّوْحِيد وَالشَّهَادَة. وَقد قيل: إِن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات، وَمن الْإِثْبَات نفي، وَأَبُو حنيفَة يَقُول: الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي لَيْسَ بِإِثْبَات، وَاسْتدلَّ بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا نِكَاح إِلَّا بولِي، وَلَا صَلَاة إِلَّا بِطهُور) ، فَإِنَّهُ لَا يجب تحقق النِّكَاح عِنْد الْوَلِيّ، وَلَا يجب تحقق الصَّلَاة عِنْد الطّهُور، لتوقفه على شَرَائِط أخر. وأوردوا عَلَيْهِ بِأَنَّهُ على هَذَا التَّقْدِير لَا يكون كلمة التَّوْحِيد تَاما لِأَنَّهُ يكون المُرَاد مِنْهَا نفي الألوهية عَن غير الله تَعَالَى، وَلَا يلْزم مِنْهُ إِثْبَات الألوهية لله تَعَالَى، وَهَذَا لَيْسَ بتوحيد. وَالْجَوَاب عَن هَذَا: أَن مُعظم الْكفَّار كَانُوا أشركوا وَفِي عُقُولهمْ وجود الإل هـ ثَابت، فسيق لنفي الْغَيْر، ثمَّ يلْزم مِنْهُ وجوده تَعَالَى.
ثمَّ إعلم أَن: إلاّ، هَهُنَا بِمَعْنى: غير، وَخبر: لَا، الَّتِي لنفي الْجِنْس مَحْذُوف تَقْدِيره: لَا إِلَه مَوْجُود غير الله، وَلِهَذَا لم ينْتَصب إلاّ الله، لِأَن الْمُسْتَثْنى إِنَّمَا ينْتَصب إِمَّا وجوبا، وَإِمَّا جَوَازًا فِي مَوَاضِع مَخْصُوصَة، وَقد عرف فِي مَوْضِعه، وَأما إِذا كَانَت: إلاّ، للصفة لم يجب النصب فَيتبع الْمَوْصُوف، والموصوف هَهُنَا مَرْفُوع وَهُوَ: مَوْجُود، فَيتبع الْمُسْتَثْنى موصوفه. قَوْله: (وَحده) ، نصب على الْحَال، تَقْدِيره: ينْفَرد وَحده، فَإِن قلت: شَرط الْحَال أَن تكون نكرَة وَهَذَا معرفَة؟ قلت: لأجل ذَلِك أول بِمَا ذكرنَا، وَذَلِكَ كَمَا فِي قَوْله: (وأرسلها العراك) أَي: أرسل الْحمار تعترك العراك. قَوْله: (لَا شريك لَهُ) ، تَأْكِيد لقَوْله: (وَحده) ، لِأَن المتصف بالوحدانية لَا شريك لَهُ. قَوْله: (لَهُ الْملك) ، بِضَم الْمِيم بعم، وبكسرها يخص، فَلذَلِك قيل: الْملك من الْملك بِالضَّمِّ، وَالْمَالِك من الْملك بِالْكَسْرِ،

(6/133)


وَقيل: الْمَالِك أبلغ فِي الْوَصْف لِأَنَّهُ يُقَال: مَالك الدَّار وَمَالك الدَّابَّة، وَلَا يُقَال: ملك إِلَّا لملك من الْمُلُوك. وَقيل: ملك أبلغ فِي الْوَصْف لِأَنَّك إِذا قلت: فلَان ملك هَذِه الْبَلدة يكون كِنَايَة عَن الْولَايَة دون الْملك، وَإِذا قلت: فلَان مَالك هَذِه الْبَلدة كل ذَلِك عبارَة عَن الْملك الْحَقِيقِيّ. وَقَالَ قطرب: الْفرق بَينهمَا أَن ملكا الْملك من الْمُلُوك، وَأما مَالك فَهُوَ مَالك الْمُلُوك، وَقد فسر الْملك فِي الْقُرْآن على معَان مُخْتَلفَة، وَالْمعْنَى هَهُنَا: لَهُ جَمِيع أَصْنَاف الْمَخْلُوقَات. قَوْله: (وَله الْحَمد) ، أَي: جَمِيع حمد أهل السَّمَوَات وَالْأَرْض، وَجَمِيع أَصْنَاف المحامد الَّتِي بالأعيان والأعراض، بِنَاء على أَن الْألف وَاللَّام لاستغراق الْجِنْس عندنَا، وَلما كَانَ الله مَالك الْملك كُله اسْتحق أَن تكون جَمِيع المحامد لَهُ دون غَيره، فَلَا يجوز أَن يحمد غَيره. وَأما قَوْلهم: حمدت فلَانا على صَنِيعه كَذَا، أَو حمدت الْجَوْهَرَة على صفائها، فَذَاك حمد للخالق فِي الْحَقِيقَة، لِأَن حمد الْمَخْلُوق على فعل أَو صفة حمد للخالق فِي الْحَقِيقَة. قَوْله: (وَهُوَ على كل شَيْء قدير) ، من بَاب التتميم والتكميل، لِأَن الله تَعَالَى، لما كَانَت الوحدانية لَهُ وَالْملك لَهُ وَالْحَمْد لَهُ، فبالضرورة يكون قَادِرًا على كل شَيْء، وَذكره يكون للتتميم والتكميل، والقدير إسم من أَسمَاء الله تَعَالَى: كالقادر والمقتدر، وَله الْقُدْرَة الْكَامِلَة الباهرة فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض قَوْله: (لما أَعْطَيْت) أَي: الَّذِي أَعْطيته، وَكَذَلِكَ التَّقْدِير فِي قَوْله: (لما منعت) أَي: الَّذِي منعته. قَوْله: (وَلَا ينفع ذَا الْجد) الْجد، بِالْفَتْح: الْغنى، كَمَا فسره الْحسن الْبَصْرِيّ على مَا يَأْتِي ذكره عَن قريب، وَكَذَا قَالَ الْخطابِيّ، وَيُقَال: هُوَ الْحَظ وَالْبخْت وَالْعَظَمَة، وَكلمَة: من، بِمَعْنى الْبَدَل، كَقَوْل الشَّاعِر:
(فليت لنا من مَاء زَمْزَم شربة ... مبردة باتت على الطهيان)

يُرِيد: لَيْت لنا بدل مَاء زَمْزَم، والطهيان اسْم لبرادة. قلت: الطهيان، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَالْهَاء وَالْيَاء آخر الْحُرُوف: خَشَبَة يبرد عَلَيْهَا المَاء، ويروى:
فليت لنا من مَاء حمنان شربة
و: حمنان، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وبالنونين بَينهمَا ألف: اسْم مَوضِع. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: معنى: مِنْك، هُنَا: عنْدك، أَي: لَا ينفع ذَا الْغنى عنْدك غناهُ، إِنَّمَا يَنْفَعهُ الْعَمَل الصَّالح. وَقَالَ ابْن التِّين: الصَّحِيح عِنْدِي أَنَّهَا لَيست للبدل، وَلَا بِمَعْنى: عِنْد، بل هُوَ كَمَا يَقُول: لَا ينفعك مني شَيْء إِن أَنا أردتك بِسوء. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فِي (الْفَائِق) : من، فِيهِ كَمَا فِي قَوْلهم: هُوَ من ذَاك، أَي: بدل ذَاك، وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {لَو نشَاء لجعلنا مِنْهُم مَلَائِكَة} (الزخرف: 60) . أَي: الْمَحْفُوظ لَا يَنْفَعهُ حَظه بدلك أَي بدل طَاعَتك، وَقَالَ التوربشتي: لَا ينفع ذَا الْغنى مِنْك غناء، وَإِنَّمَا يَنْفَعهُ الْعَمَل بطاعتك. فَمَعْنَى: مِنْك، عنْدك، وَقَالَ ابْن هِشَام: من، تَأتي على خَمْسَة عشر معنى، فَذكر الأول وَالثَّانِي وَالثَّالِث وَالرَّابِع، ثمَّ قَالَ: الْخَامِس الْبَدَل نَحْو: {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة} (التَّوْبَة: 38) . {لجعلنا مِنْكُم مَلَائِكَة فِي الأَرْض يخلفون} (الزخرف: 60) . لِأَن الْمَلَائِكَة لَا تكون من الْأنس. ثمَّ قَالَ: (وَلَا ينفع ذَا الْجد مِنْك الْجد) أَي: وَلَا ينفع ذَا الْحَظ حَظه من الدُّنْيَا بدلك، أَي: بدل طَاعَتك، أَو بدل حظك، أَي: بدل حَظه مِنْك. وَقيل: ضمن: ينفع، بِمَعْنى: يمْنَع، وَمَتى علقت من بالجد انعكس الْمَعْنى. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: قَوْله: (مِنْك) ، يجب أَن يتَعَلَّق: بينفع، وَيَنْبَغِي أَن يكون: ينفع، قد ضمن معنى: يمْنَع، وَمَا قاربه، وَلَا يجوز أَن يتَعَلَّق: مِنْك، بالجد. كَمَا يُقَال: حظي مِنْك كثير، لِأَن ذَلِك نَافِع. ثمَّ الْجد، بِفَتْح الْجِيم فِي جَمِيع الرِّوَايَات، وَمَعْنَاهُ: الْغنى، كَمَا ذَكرْنَاهُ. وَحكى الرَّاغِب: قيل: إِن المُرَاد بالجد أَب الْأَب، وَأب الْأُم، أَي: لَا ينفع أحدا نسبه، كَقَوْلِه تَعَالَى: {فَلَا أَنْسَاب بَينهم} (الْمُؤْمِنُونَ: 101) . وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: حُكيَ عَن ابْن عمر والشيباني أَنه رَوَاهُ بِالْكَسْرِ، وَقَالَ: مَعْنَاهُ لَا ينفع ذَا الِاجْتِهَاد اجتهده، وَأنْكرهُ الطَّبَرِيّ، وَقَالَ الْقَزاز فِي تَوْجِيه إِنْكَاره: الِاجْتِهَاد فِي الْعَمَل نَافِع لِأَن الله قد دَعَا الْخلق إِلَى ذَلِك، فَكيف لَا ينفع عِنْده؟ قَالَ: فَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد الِاجْتِهَاد فِي طلب الدُّنْيَا وتضييع أَمر الْآخِرَة. وَقَالَ غَيره: لَعَلَّ المُرَاد إِنَّه: لَا ينفع بِمُجَرَّدِهِ مَا لم يقارنه الْقبُول، وَذَلِكَ لَا يكون إلاّ بِفضل الله وَرَحمته. وَقَالَ النَّوَوِيّ: الْمَشْهُور الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور فتح الْجِيم، وَمَعْنَاهُ: لَا ينفع ذَا الْغنى مِنْك غناهُ، أَو لَا ينجيه حظك مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَنْفَعهُ الْعَمَل الصَّالح.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: اسْتِحْبَاب هَذَا الذّكر عقيب الصَّلَوَات لما اشْتَمَل عَلَيْهِ من أَلْفَاظ التَّوْحِيد، وَنسبَة الْأَفْعَال إِلَى الله تَعَالَى، وَالْمَنْع وَالعطَاء، وَتَمام الْقُدْرَة وروى ابْن خُزَيْمَة من حَدِيث أبي بكر: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يَقُول فِي دبر الصَّلَوَات: اللَّهُمَّ إِنِّي أعوذ بك من الْكفْر والفقر وَعَذَاب الْقَبْر) . وروى

(6/134)


أَيْضا عَن عقبَة بن عَامر، قَالَ: قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: إقرأ المعوذات فِي دبر كل صَلَاة) . وَعند النَّسَائِيّ: (إقرأ المعوذتين) ، وَفِي (كتاب الْيَوْم وَاللَّيْلَة) لأبي نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: (من قَالَ حِين ينْصَرف من صَلَاة الْغَدَاة، قبل أَن يتَكَلَّم: لَا إِلَه إلاّ الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير، عشر مَرَّات، أعطي بِهن سبع خِصَال، وَكتب لَهُ عشر حَسَنَات، ومحي عَنهُ بِهن عشر سيئات، وَرفع لَهُ بِهن عشر دَرَجَات، وَكن لَهُ عدل عشر نسمات، وَكن لَهُ عصمَة من الشَّيْطَان وحرزا من الْمَكْرُوه، وَلَا يلْحقهُ فِي يَوْمه ذَلِك ذَنْب إلاّ الشّرك بِاللَّه وَمن قالهن حِين ينْصَرف من صَلَاة الْمغرب أعطي مثل ذَلِك) وَفِي لفظ (من قَالَ بعد الْفجْر ثَلَاث مَرَّات، وَبعد الْعَصْر: أسْتَغْفر الله الْعَظِيم الَّذِي لَا إِلَه إلاّ هُوَ وَأَتُوب إِلَيْهِ، كفرت ذنُوبه، وَإِن كَانَت مثل زبد الْبَحْر) . وَعَن أبي أُمَامَة: (من قَرَأَ آيَة الْكُرْسِيّ، وَقل هُوَ الله أحد، دبر كل صَلَاة مَكْتُوبَة لم يمنعهُ من دُخُول الْجنَّة إلاّ الْمَوْت) . رَوَاهُ ابْن السّني من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم الذهلي عَن أبي أُمَامَة. وَفِي (كتاب عمل الْيَوْم وَاللَّيْلَة) لأبي نعيم الْحَافِظ من حَدِيث الْقَاسِم عَنهُ: (مَا يفوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي دبر صَلَاة مَكْتُوبَة وَلَا تطوع إلاَّ سمعته يَقُول: اللَّهُمَّ إغفر لي خطاياي كلهَا، اللَّهُمَّ إهدني لصالح الْأَعْمَال والأخلاق إِنَّه لَا يهدي لصالحها وَلَا يصرف بسيئها إِلَّا أَنْت) وروى الثَّعْلَبِيّ فِي (تَفْسِيره) من حَدِيث أنس بن مَالك، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أوحى الله تَعَالَى إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: من داوم على قِرَاءَة آيَة الْكُرْسِيّ دبر كل صَلَاة أَعْطيته أجر الْمُتَّقِينَ وأعمال الصديقين.
فَائِدَة: قد دارت على ألسن النَّاس زِيَادَة لفظ فِي حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ: (وَلَا رادَّ لما قضيت) ، وَهَذِه الزِّيَادَة فِي مُسْند عبد بن حميد، من رِوَايَة معمر عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، لَكِن حذف قَوْله: (وَلَا معطي لما منعت) .
وَقَالَ شُعْبَةُ عنْ عَبْدِ المَلِكِ بِهذَا
أَشَارَ بِهَذَا التَّعْلِيق إِلَى أَن شُعْبَة أَيْضا روى الحَدِيث الْمَذْكُور عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، كَمَا رَوَاهُ سُفْيَان عَنهُ، وَوَصله السراج فِي (مُسْنده) : حَدثنَا معَاذ بن الْمثنى، حَدثنِي أبي عَن شُعْبَة عَن عبد الْملك بن عُمَيْر، قَالَ: سَمِعت ورَّادا. . إِلَى آخِره.
وَقَالَ الحسَنُ الجَدُّ: غنى
أَي: الْحسن الْبَصْرِيّ، أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن الْحسن فسر لفظ. جد، فِي الحَدِيث: بالغنى. قَوْله: (جد) ، بِالرَّفْع بِلَا تَنْوِين على سَبِيل الْحِكَايَة، وَهُوَ مُبْتَدأ وَخَبره قَوْله: (غنى) ، وَوَصله ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق أبي رَجَاء، وَعبد بن حميد من طَرِيق سُلَيْمَان التَّيْمِيّ، كِلَاهُمَا عَن الْحسن فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإنَّهُ تَعَالَى جد رَبنَا} (الْجِنّ: 3) . قَالَ: غنى رَبنَا، وَوَقع فِي رِوَايَة كَرِيمَة: قَالَ الْحسن: الْجد غنى، وَهَذَا الْأَثر لَيْسَ بموجود فِي أَكثر الرِّوَايَات.
وعنِ الحَكَمِ عنِ القَاسِمِ بنِ مُخَيْمِرَة عنْ وَرَّادٍ بِهذَا
هَذَا التَّعْلِيق وَصله السراج وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن حبَان عَن شُعْبَة، قَالَ: حَدثنِي الحكم بن عتيبة عَن الْقَاسِم بن مخيمرة عَن وراد. . إِلَى آخِره كَلَفْظِ عبد الْملك بن عُمَيْر، إلاّ أَنهم قَالُوا فِيهِ: إِذا قضى صلَاته وَسلم قَالَ. . إِلَى آخِره، وَهَذَا التَّعْلِيق وَقع هَكَذَا مُؤَخرا عَن أثر الْحسن. فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة كَرِيمَة بِالْعَكْسِ، لِأَن قَوْله: (عَن الحكم) مَعْطُوف على قَوْله: (عَن عبد الْملك) ، وَقَوله: (قَالَ الْحسن: الْجد غنى) ، معترض بَين الْمَعْطُوف والمعطوف عَلَيْهِ.
156 - بابٌ يَسْتَقْبِلُ الإمَامُ النَّاسَ إذَا سَلَّمَ
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمَة يسْتَقْبل الإِمَام النَّاس إِذا سلم فِي آخر صلَاته.
228 - (حَدثنَا مُوسَى بن إِسْمَاعِيل قَالَ حَدثنَا جرير بن حَازِم قَالَ حَدثنَا أَبُو رَجَاء عَن سَمُرَة بن جُنْدُب. قَالَ كَانَ النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذا صلى صَلَاة أقبل علينا بِوَجْهِهِ)

(6/135)


مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الإقبال إِلَيْهِم بِوَجْهِهِ هُوَ الِاسْتِقْبَال إيَّاهُم (ذكر رِجَاله) وهم أَرْبَعَة كلهم قد ذكرُوا وَأَبُو رَجَاء بخفة الْجِيم وبالمد اسْمه عمرَان بن تيم وَيُقَال ابْن ملْحَان العطاردي وَفِيه التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وَفِيه العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد وَفِيه القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع (ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره) أخرجه البُخَارِيّ مقطعا فِي الصَّلَاة وَفِي الْجِنَازَة وَفِي الْبيُوع وَفِي الْجِهَاد وَفِي بَدْء الْخلق وَفِي صَلَاة اللَّيْل وَفِي الْأَدَب عَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل وَفِي الصَّلَاة وَفِي أَحَادِيث الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِي التَّفْسِير وَفِي التَّعْبِير عَن مُؤَمل بن هِشَام عَن إِسْمَاعِيل بن علية وَأخرجه مُسلم فِي الرُّؤْيَا عَن مُحَمَّد بن بشار عَن بنْدَار عَن وهب بن جرير عَن أَبِيه بِهِ مُخْتَصرا كَمَا هَا هُنَا وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ مُخْتَصرا وَقَالَ حسن صَحِيح وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى وَفِي التَّفْسِير عَن بنْدَار. وَالْحكمَة فِي اسْتِقْبَال الْمَأْمُومين أَن يعلمهُمْ مَا كَانُوا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ كَذَا قيل (قلت) فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يفعل هَذَا من كَانَ حَاله مثل حَال النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من قصد التَّعْلِيم وَالْمَوْعِظَة وَقيل الْحِكْمَة فِيهِ تَعْرِيف الدَّاخِل لِأَن الصَّلَاة انْقَضتْ إِذْ لَو اسْتمرّ الإِمَام على حَاله لأوهم أَنه فِي التَّشَهُّد مثلا -
846 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مَالِكٍ عنْ صالِحِ بنِ كَيْسَانَ عنْ عُبَيْدِ الله بنِ عبْد الله بنِ عُتْبَةَ بنِ مَسْعُودٍ عنْ زيْدِ بنِ خالدٍ الجُهَنِيِّ أنَّهُ قالَ صلَّى لَنَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ علَى إثْرِ سَماءٍ كانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ فلمَّا انْصَرَفَ أقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فقالَ هَلْ تَدْرُونَ ماذَا قَالَ ربُّكُمْ قالُو الله ورسولُهُ أعْلَمُ قَالَ أصْبَحَ مِنْ عِبَادي مُؤْمِنٌ بِي وكافِرٌ فأمَّا منْ قالَ مُطِرْنا بفَضْلِ الله ورَحْمَتِهِ فذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وكافِرٌ بالكوْكَبِ وأمَّا مَنْ قَالَ بنَوْءٍ كَذَا وكذَا فذَلِكَ كافِرٌ بِي ومُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف أقبل على النَّاس) أَي: فَلَمَّا انْصَرف من الصَّلَاة اسْتقْبل النَّاس
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة قد ذكرُوا غير مرّة، وَعبيد الله بن عبد الله بتصغير العَبْد فِي الابْن وتكبيره فِي الْأَب.
وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. غير أَن صَالح بن كيسَان صرح بِسَمَاعِهِ لَهُ من عبيد الله عِنْد أبي عوَانَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الاسْتِسْقَاء عَن إِسْمَاعِيل بن أبي أويس عَن مَالك، وَفِي الْمَغَازِي عَن خَالِد بن مخلد وَفِي التَّوْحِيد عَن مُسَدّد مُخْتَصرا. وَأخرجه مُسلم فِي الْإِيمَان عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطِّبّ عَن القعْنبِي بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن قُتَيْبَة وَعَن مُحَمَّد بن مسلمة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (صلى لنا) أَي: لأجلنا، وَيجوز أَن تكون: اللَّام، بِمَعْنى: الْبَاء، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ صلى بِنَا. قَوْله: (بِالْحُدَيْبِية) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف المخففة عِنْد الْبَعْض وبتشديدها عِنْد أَكثر الْمُحدثين، وَفِي كتاب (الْعِلَل) لعَلي الْمَدِينِيّ: الحجازيون ويخففون الْيَاء والعراقيون من الْمُحدثين يشددونها، وَقَالَ ابْن الْأَثِير: الْحُدَيْبِيَة قَرْيَة قريبَة من مَكَّة سميت ببئر هُنَاكَ، وَهِي مُخَفّفَة، وَكثير من الْمُحدثين يشددونها. قلت: الصَّوَاب بِالتَّخْفِيفِ لِأَنَّهَا تَصْغِير: حدباء، سميت بشجرة هُنَاكَ حدباء بَعْضهَا فِي الْحل وَبَعضهَا فِي الْحرم، وَهِي أبعد أَطْرَاف الْحرم عَن الْبَيْت، وَهِي الْموضع الَّذِي صد فِيهِ الْمُشْركُونَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن زِيَارَة الْبَيْت. وَفِي الْحُدَيْبِيَة كَانَت بيعَة الرضْوَان تَحت الشَّجَرَة. قَالَ الرشاطي: وَفِي كتاب البُخَارِيّ، قَالَ اللَّيْث: عَن يحيى عَن ابْن الْمسيب، قَالَ: وَقعت الْفِتْنَة الأولى يَعْنِي: بقتل عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَلم تبْق من أَصْحَاب بدر وَاحِدًا، ثمَّ وَقعت الثَّانِيَة، يَعْنِي الْحرَّة، فَلم تبقِ من أَصْحَاب الْحُدَيْبِيَة أحدا، ثمَّ وَقعت الثَّالِثَة فَلم ترْتَفع وَلِلنَّاسِ طباخ. قلت: الطباخ، بِفَتْح الطَّاء الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف خاء مُعْجمَة، وأصل الطباخ: الْقُوَّة وَالسمن، ثمَّ اسْتعْمل فِي غَيره، فَقيل: فلَان لَا طباخ لَهُ، أَي: لَا عقل لَهُ وَلَا خير عِنْده، وَالْمعْنَى هَهُنَا، أَن الْفِتْنَة الثَّالِثَة لم تبقِ فِي النَّاس

(6/136)


من الصَّحَابَة أحدا، وَكَانَت غَزْوَة الْحُدَيْبِيَة فِي ذِي الْقعدَة سنة سِتّ من الْهِجْرَة بِلَا خلاف، وَمِمَّنْ نَص على ذَلِك الزُّهْرِيّ وَنَافِع مولى ابْن عمر وَقَتَادَة ومُوسَى بن عقبَة وَمُحَمّد بن إِسْحَاق. قَوْله: (على إِثْر سَمَاء) ، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة على الْمَشْهُور، وَرُوِيَ، بأثر سَمَاء، بِفَتْح الْهمزَة وَفتح الثَّاء أَيْضا، وَهُوَ: مَا يكون عقيب الشَّيْء، وَالْمرَاد من السَّمَاء: الْمَطَر، وَأطلق عَلَيْهَا: سَمَاء، لكَونهَا تنزل من جِهَة السَّمَاء، وكل جِهَة علو تسمى: سَمَاء. قَوْله: (كَانَت من اللَّيْل) ، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي والحموي: (من اللَّيْلَة) بِالْإِفْرَادِ، وَالسَّمَاء تذكر وتؤنث إِذا لم يرد بهَا الْمَطَر. فَإِن قلت: هَهُنَا قد أُرِيد بهَا الْمَطَر، فَكَانَ يَنْبَغِي أَن تذكر؟ قلت: ذَاك على لَفظهَا لَا مَعْنَاهَا. قَوْله: (فَلَمَّا انْصَرف) أَي: من صلَاته. قَوْله: (هَل تَدْرُونَ؟) اسْتِفْهَام على سَبِيل التَّنْبِيه، وَوَقع عِنْد النَّسَائِيّ فِي رِوَايَة سُفْيَان عَن صَالح: (ألم تسمعوا مَا قَالَ ربكُم اللَّيْلَة؟) وَهَذَا من الْأَحَادِيث القدسية. قَوْله: (أصبح من عبَادي) ، هَذِه الْإِضَافَة فِيهِ تدل على الْعُمُوم بِدَلِيل التَّقْسِيم إِلَى مُؤمن وَكَافِر، بِخِلَاف مثل الْإِضَافَة فِي قَوْله: {إِن عبَادي لَيْسَ لَك عَلَيْهِم سُلْطَان} (الْحجر: 42، والإسراء: 65) . فَإِن الْإِضَافَة فِيهِ للتشريف. قَوْله: (مُؤمن بِي وَكَافِر) ، يحْتَمل أَن يكون المُرَاد من الْكفْر كفر الشّرك بِقَرِينَة مُقَابلَته بِالْإِيمَان، وَيُقَوِّي هَذَا مَا رَوَاهُ أَحْمد من رِوَايَة نصر بن عَاصِم اللَّيْثِيّ عَن مُعَاوِيَة اللَّيْثِيّ مَرْفُوعا: (يكون النَّاس مجدبين فَينزل الله عَلَيْهِم رزقا من رزقه، فيصبحون مُشْرِكين يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا) . وَعَن هَذَا قَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَعْنَاهُ الْكفْر الْحَقِيقِيّ، لِأَنَّهُ قابله بِالْإِيمَان حَقِيقَة، وَذَاكَ فِي حق من اعْتقد أَن الْمَطَر من فعل الْكَوَاكِب، وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد بِهِ كفر النِّعْمَة إِذا اعْتقد أَن الله تَعَالَى هُوَ الَّذِي خلق الْمَطَر واخترعه، ثمَّ تكلم بِهَذَا القَوْل، فَهُوَ مخطىء لَا كَافِر، وخطؤه من وَجْهَيْن: الأول: مُخَالفَته للشَّرْع. وَالثَّانِي: تشبهه بِأَهْل الْكفْر فِي قَوْلهم، وَذَلِكَ لَا يجوز، لأَنا أمرنَا بمخالفتهم. فَقَالَ: (خالفوا الْمُشْركين وخالفوا الْيَهُود) ، ونهينا عَن التَّشَبُّه بهم، وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْأَمر بمخالفتهم فِي الْأَفْعَال والأقوال، فَلَو قَالَ: نَظِير هَذَا اللَّفْظ الْمَمْنُوع مِنْهُ يُرِيد الْإِخْبَار عَمَّا أجْرى الله بِهِ سنته جَازَ، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إِذا أنشأت بحريّة ثمَّ تشاءمت فَتلك عين غديقة) . قَوْله: (بِنَوْء كَذَا وَكَذَا) ، النوء، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْوَاو وَفِي آخِره همزَة، قَالَ الْخطابِيّ: النوء: الْكَوْكَب، وَلذَلِك سموا نُجُوم منَازِل الْقَمَر: الأنواء، وَإِنَّمَا سمي النَّجْم نوأ لِأَنَّهُ ينوء طالعا عِنْد مغيب مُقَابِله نَاحيَة الْمغرب. وَقَالَ ابْن الصّلاح: النوء فِي أَصله لَيْسَ نفس الْكَوْكَب، فَإِنَّهُ مصدر: ناء النَّجْم إِذا سقط وَغَابَ، وَقيل: أَي نَهَضَ وطلع. وَقَالَ أَبُو عبيد: الأنواء ثَمَانِيَة وَعِشْرُونَ نجما مَعْرُوفَة الْمطَالع فِي أزمنة السّنة كلهَا، يسْقط مِنْهَا فِي كل ثَلَاث عشرَة لَيْلَة نجم فِي الْمغرب مَعَ طُلُوع الْفجْر، ويطلع آخر مُقَابِله فِي الْمشرق من سَاعَته، وَإِنَّمَا سمي نوأً لِأَنَّهُ إِذا سقط السَّاقِط ناء الطالع، وَذَلِكَ النهوض هُوَ النوء، وانقضاء هَذِه الثَّمَانِية وَالْعِشْرين مَعَ انْقِضَاء السّنة، وَكَانَت الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا سقط مِنْهَا نجم وطلع آخر يَقُولُونَ: لَا بُد أَن يكون عِنْد ذَلِك مطر أَو ريح فَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْء كَذَا، أَي: الْمَطَر كَانَ من أجل أَن الْكَوْكَب ناء، وَأَنه هُوَ الَّذِي هاجه. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: الساقطة مِنْهَا فِي الْمغرب هِيَ: الأنواء، والطالعة مِنْهَا هِيَ: البوارح، وَقَالَ صَاحب (الْمطَالع) : وَقد أجَاز الْعلمَاء أَن يُقَال: مُطِرْنَا فِي نوء كَذَا، وَلَا يُقَال بِنَوْء كَذَا، ويحكى عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كَانَ يَقُول: مُطِرْنَا بِنَوْء الله تَعَالَى، وَفِي رِوَايَة: مُطِرْنَا بِنَوْء الْفَتْح، ثمَّ يَتْلُو: {مَا يفتح الله للنَّاس من رَحْمَة فَلَا مُمْسك لَهَا} (فاطر: 2) . وَفِي (الأنواء الْكَبِير) لأبي حنيفَة: الَّذِي عِنْدِي فِي الحَدِيث أَن الْمَطَر كَانَ من أجل أَن الْكَوْكَب ناء، وَأَنه هُوَ الَّذِي هاجه. وَأما من زعم أَن الْغَيْث يحصل عِنْد سُقُوط الثريا فَهَذَا، وَمَا أشبهه، إِنَّمَا هُوَ إِعْلَام للأوقات والفصول، وَلَيْسَ من وَقت وَلَا زمن إلاّ وَهُوَ مَعْرُوف بِنَوْع من مرافق الْعباد يكون فِيهِ دون غَيره، وَقد قَالَ عمر للْعَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَهُوَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ: يَا عَم رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم! كم بَقِي علينا من نوء الثريا؟ فَإِن الْعلمَاء يَزْعمُونَ أَنَّهَا تعترض بالأفق سبعا. قَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لأمر أَخطَأ الله نوأها، يُرِيد أخطأها الْغَيْث، فَلَو لم يدلك على افْتِرَاق المذهبين فِي ذكر الأنواء، إلاّ هَذَانِ الخبران لكفى بهما دَلِيلا. قَوْله: (مُطِرْنَا بِنَوْء كدا وَكَذَا) قد عرف أَن كَذَا يرد على ثَلَاثَة أوجه: أَحدهَا: أَن تكون كَلِمَتَيْنِ باقيتين على أَصلهمَا وهما: كَاف، التَّشْبِيه. و: ذَا، الإشارية، كَقَوْلِك: رَأَيْت زيدا فَاضلا، وَرَأَيْت عمرا كَذَا، وَيدخل عَلَيْهَا: هَاء التَّنْبِيه كَقَوْلِه تَعَالَى: {هَكَذَا عرشك} (النَّمْل: 42) . الثَّانِي: أَن تكون كلمة وَاحِدَة مركبة من كَلِمَتَيْنِ مكنيا بهَا عَن غير عدد، كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث: أَنه يُقَال للْعَبد يَوْم الْقِيَامَة: (أَتَذكر يَوْم كَذَا وَكَذَا؟ فعلت كَذَا وَكَذَا؟) . وَالثَّالِث: أَن تكون كلمة وَاحِدَة مركبة مكنيا بهَا عَن الْعدَد، وَالَّذِي هَهُنَا من هَذَا الْقسم، وَفِي حَدِيث أبي سعيد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد النَّسَائِيّ

(6/137)


(مُطِرْنَا بِنَوْء المجدح) ، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الْجِيم وَفتح الدَّال بعْدهَا حاء مُهْملَة. وَيُقَال: بِضَم أَوله، وَهُوَ: الدبران، بِفَتْح الدَّال الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا رَاء، سمي بذلك لاستدباره الثريا، وَهُوَ نجم أَحْمَر مُنِير. وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: كل النُّجُوم الْمَذْكُورَة لَهَا نوء، وَغير أَن بَعْضهَا أَحْمَر وأغزر من غَيره، ونوء الدبران غير مَحْمُود عِنْدهم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: طرح الإِمَام الْمَسْأَلَة على أَصْحَابه تَنْبِيها لَهُم أَن يتأملوا مَا فِيهَا من الدقة. وَفِيه: أَن الله تَعَالَى خلق لكل شَيْء سَببا يُضَاف إِلَيْهِ، حكم، وَفِي الْحَقِيقَة الْفَاعِل هُوَ الله تَعَالَى الْقَادِر على كل شَيْء. وَفِيه: أَن النَّاس فِي الِاعْتِقَاد فِي هَذَا الْبَاب على نَوْعَيْنِ، كَمَا قد بَيناهُ. وَفِيه: بَيَان جلالة قدر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أخبر عَن الله عز وَجل بِلَا وَاسِطَة.

847 - حدَّثنا عَبْدُ الله سَمِعَ يَزِيدَ قَالَ أخبرنَا حُمَيْدٌ عنْ أنَسٍ قَالَ أخَّرَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّلاةَ ذَاتَ لَيْلَةٍ إلَى شَطرِ اللَّيْلِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فلمَّا صَلَّى أقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ إنَّ النَّاسَ قدْ صَلُّوا ورَقَدُوا وإنَّكُمْ لَنْ تَزَالُوا فِي صَلاَةٍ مَا انْتظَرْتُمُ الصَّلاَةَ. .

مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا صلى أقبل علينا بِوَجْهِهِ) . وَرِجَاله قد مضوا فِيمَا مضى، وَعبد الله بن الْمُنِير، بِضَم الْمِيم وَكسر النُّون قد مر فِي: بَاب الْغسْل وَالْوُضُوء فِي المخضب، وَفِي بعض النّسخ: مُنِير، بِدُونِ الْألف وَاللَّام، لِأَن الِاسْم إِذا كَانَ فِي الأَصْل صفة يجوز فِيهِ الْوَجْهَانِ. وَقد مر هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب وَقت الْعشَاء إِلَى نصف اللَّيْل، أخرجه عَن عبد الرَّحِيم الْمحَاربي عَن زَائِدَة عَن حميد عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (ذَات لَيْلَة) لفظ: ذَات، مقحم، أَو هُوَ من بَاب إِضَافَة الْمُسَمّى إِلَى اسْمه، وَالْألف وَاللَّام فِي: النَّاس، للْعهد على غير الْحَاضِرين فِي مَسْجِد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فِي صَلَاة) أَي: فِي ثَوَابهَا. قَوْله: (مَا انتظرتم) أَي: مُدَّة انْتِظَار الصَّلَاة. وَالْمعْنَى: أَن الرجل إِذا انْتظر الصَّلَاة فَكَأَنَّهُ فِي نفس الصَّلَاة.