عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 157 - (بابُ مكْثِ الإمامِ فِي مُصَلاَّهُ
بَعْدَ السَّلاَمِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مكث الإِمَام، أَي: تَأَخره
فِي مُصَلَّاهُ، أَي: فِي مَوْضِعه الَّذِي صلى فِيهِ
الْفَرْض بعد السَّلَام، أَي: بعد فَرَاغه من الصَّلَاة
بِالسَّلَامِ، ثمَّ الْمكْث أَعم من أَن يكون بِذكر أَو
دُعَاء أَو تَعْلِيم علم للْجَمَاعَة أَو لوَاحِد مِنْهُم
أَو صَلَاة نَافِلَة. وَلم يبين البُخَارِيّ حكم هَذَا
الْمكْث: هَل هُوَ مُسْتَحبّ أَو مَكْرُوه؟ لأجل
الِاخْتِلَاف بَين السّلف على مَا نبينه، إِن شَاءَ الله
تَعَالَى.
848 - وقالَ لَنَا آدَمُ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أيُّوبَ
عَنْ نافِعٍ قَالَ كانَ ابنُ عُمَرَ يُصَلِّي فِي
مَكَانِهِ الَّذِي صلَّى فِيِ الفَرِيضَةَ
قَالَ الْكرْمَانِي: قَالَ لنا آدم، وَلم يقل: حَدثنَا
آدم، لِأَنَّهُ لم يذكرهُ لَهُم نقلا وتحميلاً، بل مذاكرة
ومحاورة، ومرتبته أحط دَرَجَة من مرتبَة التحديث. وَقَالَ
بَعضهم: هُوَ مُحْتَمل لكنه لَيْسَ بمطرد، لِأَنِّي وجدت
كثيرا مِمَّا قَالَ فِيهِ: قَالَ لنا، فِي (الصَّحِيح) قد
أخرجه فِي تصانيف أُخْرَى بِصِيغَة: حَدثنَا. انْتهى. قلت:
الصَّوَاب مَا ذكره الْكرْمَانِي، أَنه من بَاب المذاكرة،
وَهَكَذَا قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : إِنَّه من بَاب
المذاكرة، والكرماني مَا ادّعى الاطراد فِيهِ حَتَّى يكون
هَذَا مُحْتملا، بل الظَّاهِر مِنْهُ أَنه غير مَوْصُول
وَلَا مُسْند، وَلَا يلْزم من قَوْله: لِأَنِّي وجدت
كثيرا. . إِلَى آخِره، أَن يكون قد أسْند أثر ابْن عمر
هَذَا فِي تصنيف آخر غَيره بِصِيغَة التحديث، وَلِهَذَا
قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ
ابْن أبي شيبَة عَن ابْن علية عَن أَيُّوب عَن نَافِع عَن
ابْن عمر أَنه كَانَ يُصَلِّي سبحته مَكَانَهُ.
وَقد اخْتلف الْعلمَاء فِي هَذَا الْبَاب، فأكثرهم، كَمَا
نَقله ابْن بطال عَنْهُم، على كَرَاهَة مكث الإِمَام إِذا
كَانَ إِمَامًا راتبا، إلاّ إِن يكون مكثه لعِلَّة، كَمَا
فعله الشَّارِع. قَالَ: وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد.
وَقَالَ أَبُو حنيفَة: كل صَلَاة يتَنَفَّل بعْدهَا يقوم،
وَمَا لَا يتَنَفَّل بعْدهَا كالعصر وَالصُّبْح فَهُوَ
مُخَيّر، وَهُوَ قَول أبي مجلز: لَاحق بن أبي حميد.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّد من الْمَالِكِيَّة: ينْتَقل فِي
الصَّلَوَات كلهَا ليتَحَقَّق الْمَأْمُوم أَنه لم يبْق
عَلَيْهِ شَيْء من سُجُود السَّهْو وَلَا غَيره، وَحكى
الشَّيْخ قطب الدّين الْحلَبِي فِي (شَرحه) هَكَذَا: عَن
مُحَمَّد بن الْحسن، وَذكره ابْن التِّين أَيْضا، وَذكر
ابْن أبي شيبَة عَن ابْن مَسْعُود وَعَائِشَة،
(6/138)
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَا:
(كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا سلم لم
يقْعد إلاّ مِقْدَار مَا يَقُول: اللَّهُمَّ أَنْت
السَّلَام ومنك السَّلَام تَبَارَكت يَا ذَا الْجلَال
وَالْإِكْرَام) . وَقَالَ ابْن مَسْعُود أَيْضا: (كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قضى صلَاته انْتقل
سَرِيعا إِمَّا أَن يقوم وَإِمَّا أَن ينحرف) . وَقَالَ
سعيد بن جُبَير: (شَرق أَو غرب وَلَا يسْتَقْبل الْقبْلَة)
. وَقَالَ قَتَادَة: (كَانَ الصّديق إِذا سلم كَانَ على
الرضف حَتَّى ينْهض) ، وَقَالَ ابْن عمر: الإِمَام إِذا
سلم قَامَ. وَقَالَ مُجَاهِد: قَالَ عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: جُلُوس الإِمَام بعد السَّلَام بِدعَة.
وَذهب جمَاعَة من الْفُقَهَاء إِلَى أَن الإِمَام إِذا سلم
قَامَ، وَمن صلى خَلفه من الْمَأْمُومين يجوز لَهُم
الْقيام قبل قِيَامه إلاّ رِوَايَة عَن الْحسن
وَالزهْرِيّ، ذكره عبد الرَّزَّاق. وَقَالَ: لَا تنصرفوا
حَتَّى يقوم الإِمَام. قَالَ الزُّهْرِيّ: إِنَّمَا جعل
الإِمَام ليؤتم بِهِ، وَجَمَاعَة النَّاس على خلافهما.
وروى ابْن شاهين فِي كتاب (الْمَنْسُوخ) من حَدِيث
سُفْيَان عَن سماك: (عَن جَابر: كَانَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم إِذا صلى الْغَدَاة لم يبرح من مَجْلِسه
حَتَّى تطلع الشَّمْس حسناء) . وَمن حَدِيث ابْن جريج عَن
عَطاء (عَن ابْن عَبَّاس: صليت مَعَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ سَاعَة يسلم يقوم، ثمَّ صليت مَعَ
أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ إِذا سلم وثب
من مَكَانَهُ، وَكَأَنَّهُ يقوم عَن رضفة) . ثمَّ حمل ابْن
شاهين الأول على صَلَاة لَا يعقبها نَافِلَة، وَالثَّانِي
على مُقَابِله.
ثمَّ إعلم أَن الْجُمْهُور على أَن الإِمَام لَا يتَطَوَّع
فِي مَكَانَهُ الَّذِي صلى فِيهِ الْفَرِيضَة، وَذكر ابْن
أبي شيبَة عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: لَا
يتَطَوَّع الإِمَام حَتَّى يتَحَوَّل من مَكَان أَو يفصل
بَينهمَا بِكَلَام، وَكَرِهَهُ ابْن عمر للْإِمَام، وَلم
ير بِهِ بَأْسا لغيره، وَعَن عبد الله بن عمر وَمثله،
وَعَن الْقَاسِم: أَن الإِمَام إِذا سلم فواسع أَن يتنقل
فِي مَكَانَهُ. قَالَ ابْن بطال: وَلم أجد لغيره من
الْعلمَاء. قلت: ذكر ابْن التِّين أَنه قَول أَشهب.
وفَعَلَهُ القاسِمُ
أَي: فعل الصَّلَاة النَّفْل فِي الْمَكَان الَّذِي صلى
فِيهِ الْفَرِيضَة الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر
الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَهَذَا
التَّعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة: (عَن مُعْتَمر عَن عبيد
الله بن عمر قَالَ: رَأَيْت الْقَاسِم وسالما يصليان
الْفَرِيضَة ثمَّ يتطوعان فِي مكانهما) .
ويُذْكَرُ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ لاَ يَتَطَوَّعُ
الإمَامُ فِي مَكَانِهِ ولَمْ يَصِحَّ
إِنَّمَا قَالَ: يذكر، بِصِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع
لِأَنَّهُ صِيغَة التَّعْلِيق التمريضي. قَوْله: (رَفعه) ،
مُضَاف إِلَى الْفَاعِل، وَهُوَ الضَّمِير الرَّاجِع إِلَى
أبي هُرَيْرَة، وَهُوَ مَرْفُوع بِأَنَّهُ مفعول مَا لم
يسم فَاعله. قَوْله: (لَا يتَطَوَّع الإِمَام) ، جملَة فِي
مَحل النصب لِأَنَّهَا مفعول الْمصدر الْمَذْكُور، أَعنِي
قَوْله: (رَفعه) . وَذكر أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه هَذَا
بِالْمَعْنَى، فَقَالَ أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد
أخبرنَا حَمَّاد وَعبد الْوَارِث عَن لَيْث عَن الْحجَّاج
بن عبيد عَن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل عَن أبي
هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (أَيعْجزُ أحدكُم؟ قَالَ عَن عبد الْوَارِث، أَن
يتَقَدَّم أَو يتَأَخَّر أَو عَن يمينة أَو عَن شِمَاله؟)
زَاد حَمَّاد: فِي الصَّلَاة، يَعْنِي فِي السبحة. انْتهى.
يَعْنِي فِي التَّطَوُّع، وَبِهَذَا اسْتدلَّ أَصْحَابنَا
أَن الرجل لَا يتَطَوَّع فِي مَكَان الْفَرْض، واليه ذهب
ابْن عَبَّاس وَابْن الزبير وَأَبُو سعيد وَعَطَاء
وَالشعْبِيّ وَقَالَ صَاحب الْمُحِيط وَلَا يتَطَوَّع فِي
مَكَان الْفَرْض لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(أَيعْجزُ أحدكُم إِذا فرغ من صلَاته أَن يتَقَدَّم أَو
يتَأَخَّر بسبحته؟) وَلِأَنَّهُ رُبمَا يشْتَبه حَاله على
الدَّاخِل فيحسب أَنه فِي الْفَرْض فيقتدي بِهِ فِي
الْفَرْض، وَأَنه لَا يجوز. قَوْله: (وَلم يَصح) من كَلَام
البُخَارِيّ، أَي: لم يثبت هَذَا الحَدِيث لضعف إِسْنَاده،
لِأَن فِيهِ إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل. قَالَ أَبُو
حَاتِم: هُوَ مَجْهُول، وَتفرد بِهِ لَيْث بن أبي سليم
وَهُوَ ضَعِيف، وَاخْتلف عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَكِن أَبَا
دَاوُد لما رَوَاهُ سكت عَنهُ وسكوته دَلِيل رِضَاهُ بِهِ.
وَفِي (صَحِيح مُسلم) مَا يشده، وَهُوَ: أَن مُعَاوِيَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رأى السَّائِب بن يزِيد ابْن
أُخْت نمر صلى بعد الْجُمُعَة فِي الْمَقْصُورَة. قَالَ:
فَلَمَّا سلم الإِمَام قُمْت فِي مقَامي فَصليت، فَأرْسل
إِلَيّ: لَا تعد لما فعلت، إِذا صليت الْجُمُعَة فَلَا
تصلها بِصَلَاة حَتَّى تَتَكَلَّم أَو تخرج، فَإِن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أمرنَا بذلك.
849 - حدَّثنا أبوُ الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ
بنُ سَعْدٍ قَالَ حدَّثنا الزُّهْرِيُّ عنْ هِنْدٍ بِنْتَ
الحارثِ عنْ أمِّ سلَمَةَ أنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا سَلَّمَ يَمْكُثُ فِي مكَانِهِ
يَسِيرا. قالَ ابنُ شُهَابٍ
(6/139)
فَنُرَى وَالله أعْلَمُ لِكَيْ يَنْفُذَ
مَنْ يَنْصَرِفُ مِنَ النِّسَاءِ. .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَهِي فِي قَوْله: (كَانَ
إِذا سلم يمْكث فِي مَكَانَهُ يَسِيرا) .
ذكر رِجَاله: وهم قد ذكرُوا غير مرّة، وَالزهْرِيّ هُوَ
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَهِنْد بنت
الْحَارِث، بالثاء الْمُثَلَّثَة: تقدّمت فِي: بَاب
التَّسْلِيم، وَقَبله فِي: بَاب الْعلم والعظة
بِاللَّيْلِ. والْحَدِيث أَيْضا مضى فِي: بَاب
التَّسْلِيم. قَوْله: (قَالَ ابْن شهَاب) ، هُوَ
الزُّهْرِيّ، وَهُوَ مَوْصُول بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور،
قَوْله: (فنرى) ، بِضَم النُّون أَي: نظن أَن مكثه، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَكَانَهُ كَانَ لأجل أَن ينْفد
النِّسَاء المنصرفات من الصَّلَاة إِلَى مساكنهن.
850 - وَقَالَ ابنُ أبِي مَرْيَمَ أخبرنَا نافِعُ بنُ
يَزِيد قَالَ أَخْبرنِي جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ أنَّ
شهَابٍ كتَبَ إلَيْهِ. قَالَ حدَّثَتْنِي هِنْدُ بِنْتُ
الحَارِثِ الفِرَاسِيَّةُ عنْ أمِّ سَلَمَةَ زَوْجِ
النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكانَتْ منْ
صَوَاحِبَاتهَا قالَتْ كانَ يُسلِّمُ فَيَنْصَرِفُ
النِّسَاءُ فَيَدْخُلْنَ بُيُوتَهُنَّ قَبْلَ أنْ منْ
يَنْصَرِفَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. .
هَذَا طَرِيق آخر فِي الحَدِيث الْمَذْكُور، وَهُوَ
مُعَلّق وَصله مُحَمَّد بن يحيى الذهلي فِي (الزهريات) .
قَالَ: حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم فَذكره إِلَى آخِره.
قَوْله: (الفراسية) ، بِكَسْر الْفَاء وَتَخْفِيف الرَّاء
وَكسر السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف: نِسْبَة إِلَى بني فراس، وهم بطن من كنَانَة،
وفراس هُوَ ابْن غنم بن ثَعْلَبَة بن مَالك بن كنَانَة.
قَالَ ابْن دُرَيْد: فراس مُشْتَقّ من الْفرس، وَهُوَ دق
الْعُنُق، وَهَذَا كَمَا رَأَيْت ذكرهَا البُخَارِيّ فِي
الطَّرِيق الأول الْمَوْصُول بِلَا نِسْبَة حَيْثُ قَالَ:
عَن هِنْد بنت الْحَارِث عَن أم سَلمَة، وَهنا الَّذِي
هُوَ الطَّرِيق الثَّانِي الْمُعَلق ذكرهَا بنسبتها إِلَى
بني فراس، وَذكرهَا فِي الطَّرِيق الثَّالِث: عَن ابْن وهب
عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، كَذَلِك: الفراسية، وَذكرهَا
فِي الطَّرِيق الرَّابِع: عَن عُثْمَان بن عمر عَن يُونُس
عَن الزُّهْرِيّ: القرشية فِي بعض الرِّوَايَات، وَفِي
أُخْرَى الفراسية، وَذكرهَا فِي الطَّرِيق الْخَامِس: عَن
الزبيدِيّ عَن الزُّهْرِيّ: الفراسية، وَفِي بَعْضهَا:
القرشية مَعَ زِيَادَة ذكر فِي وصفهَا على مَا يَأْتِي.
وَذكرهَا فِي الطَّرِيق السَّادِس: عَن شُعَيْب عَن
الزُّهْرِيّ: القرشية. وَقد ذكرهَا الفراسية فِي الطَّرِيق
السَّابِع: عَن ابْن أبي عَتيق عَن الزُّهْرِيّ. وَذكرهَا
فِي الطَّرِيق الثَّامِن: عَن اللَّيْث عَن يحيى بن سعيد
عَن ابْن شهَاب عَن امْرَأَة من قُرَيْش، وَأَشَارَ
البُخَارِيّ بِهَذَا إِلَى بَيَان الِاخْتِلَاف فِي
نِسْبَة هِنْد بنت الْحَارِث الْمَذْكُورَة، وَالْحَاصِل
أَن مِنْهُم من قَالَ: الفراسية، وَمِنْهُم من قَالَ:
القرشية، والتوفيق بَينهمَا من حَيْثُ قَالَ: إِن كنَانَة
جماع قُرَيْش فَلَا مُغَايرَة بَين النسبتين، وَمن قَالَ:
إِن جماع قُرَيْش فهر بن مَالك فَيحمل على أَن اجْتِمَاع
النسبتين لهِنْد يكون إِحْدَاهمَا بطرِيق الْأَصَالَة،
وَالْأُخْرَى بطرِيق المحالفة، وَقَالَ الدَّاودِيّ:
وَلَيْسَ هَذَا الِاخْتِلَاف بمانع من أَن تكون: فراسية من
بني فراس، ثمَّ من بني فَارس، ثمَّ من بني قُرَيْش، فنسبت
مرّة إِلَى أَب من آبائها، وَمرَّة إِلَى أَب آخر، وَمرَّة
إِلَى غَيره من آبائها، كَمَا يُقَال فِي جَابر بن عبد
الله السّلمِيّ والأنصاري، وَسعد بن سَاعِدَة السَّاعِدِيّ
والأنصاري، وَاعْترض ابْن التِّين على قَول الدَّاودِيّ
ثمَّ من بني فَارس، وَقَالَ: مَا علمت لَهُ وَجها لِأَن
فَارس أعجمي، وفراس وقريش عرب، وَلَيْسَ فِي البُخَارِيّ
ذكر فَارس، ثمَّ ذكر عَن أبي عمر أَنه قَالَ: جعلت قرشية
لما حالفها زَوجهَا. قَوْله: (من صواحباتها) الصواحبات
جمع: صَوَاحِب، وَهُوَ جمع الْجمع، وَلَيْسَ بِجمع:
صَاحِبَة، كَمَا قَالَ بَعضهم. قَوْله: (كَانَ يسلم) أَي:
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
وَقَالَ ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عَنِ ابنِ شِهَابٍ
أخْبَرَتْنِي هِنْدُ الفِرَاسِيَّةُ
(6/140)
هَذَا التَّعْلِيق وَصله النَّسَائِيّ عَن
مُحَمَّد بن سَلمَة عَن عبد الله بن وهب عَن يُونُس بن
يزِيد ... إِلَى آخِره، وَلَفظه: (أَن النِّسَاء كن إِذا
سلمن قمن، وَثَبت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَمن صلى من الرِّجَال مَا شَاءَ الله، فَإِذا قَامَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَامَ الرِّجَال) .
وَقَالَ عُثْمَانُ بنُ عُمَرَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ
الزُّهْرِيِّ حدَّثَتْنِي هِنْدُ الفِرَاسِيَّةُ
هَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب خُرُوج
النِّسَاء إِلَى الْمَسَاجِد بِاللَّيْلِ والغلس، وَهُوَ
الْبَاب الْخَامِس بعد هَذَا الْبَاب، رَوَاهُ عَن عبد
الله بن مُحَمَّد عَن عُثْمَان بن عمر عَن يُونُس عَن
الزُّهْرِيّ إِلَى آخِره، فَفِي رِوَايَة ابْن وهب عَن
يُونُس عَن ابْن شهَاب: أَخْبَرتنِي، وَفِي رِوَايَة
عُثْمَان: عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ: حَدَّثتنِي، وَقد
ذكرنَا الْفرق بَين اللَّفْظَيْنِ مستقصًى فِي أَوَائِل
الْكتاب.
وَقَالَ الزُّبَيْدِيُّ أَخْبرنِي الزُّهْرِيُّ أنَّ
هِنْدَ بِنْتَ الحَارِثِ القُرَشِيَّةَ أخبَرَتْهُ وكانَتْ
تَحْتَ معْبَد بنِ المِقْدَادِ وَهْوَ حَلِيفُ بَنِي
زُهْرَةَ وكانَتْ تَدْخُلُ عَلَى أزْوَاجِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم.
الزبيدِيّ، بِضَم الزَّاي وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف: نِسْبَة إِلَى زبيد،
وَهُوَ: مُنَبّه بن صَعب، وَهُوَ: زبيد الْأَكْبَر،
وَإِلَيْهِ ترجع قبائل زبيد. وَمن وَلَده مُنَبّه بن
ربيعَة وَهُوَ زبيد الْأَصْغَر مِنْهُم: مُحَمَّد بن
الْوَلِيد الزبيدِيّ هَذَا وَهُوَ صَاحب الزُّهْرِيّ.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الطَّبَرَانِيّ فِي (مُسْند
الشاميين) من طَرِيق عبد الله بن سَالم عَنهُ. وَفِيه:
(أَن النِّسَاء كن يشهدن الصَّلَاة مَعَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فَإِذا سلم قَامَ النِّسَاء فانصرفن
إِلَى بُيُوتهنَّ قبل أَن يقوم الرِّجَال) . قَوْله: (معبد
بن الْمِقْدَاد) معبد، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْعين
الْمُهْملَة وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره دَال
مُهْملَة. والمقداد، بِكَسْر الْمِيم: ابْن الْأسود
الصَّحَابِيّ. قَوْله: (وَهُوَ حَلِيف) أَي: معبد هُوَ
حَلِيف لبني زهرَة، وَكَانَ الْمِقْدَاد حليفا لكندة.
وَقَالَ شُعَيْبٌ عنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَتْنِي هِنْدُ
القُرَشِيَّةُ
شُعَيْب هُوَ ابْن أبي حَمْزَة، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله
مُحَمَّد بن يحي فِي (الزهريات) .
وَقَالَ ابنُ عَتِيقٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ هِنْدَ
الفِرَاسِيَّةِ
عَتيق، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة: هُوَ مُحَمَّد بن عبد
الله بن أبي عتيقة، وَهَذَا التَّعْلِيق أَيْضا مَوْصُول
فِي (الزهريات) ، وَهَهُنَا يروي الزُّهْرِيّ بالعنعنة.
وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ
عنِ ابنِ شِهَابٍ عنِ امْرَأَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ حَدَّثَتْهُ
عنِ النَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
هَذَا غير مَوْصُول لِأَن هِنْد بنت الْحَارِث تابعية،
وَلَيْسَت بصحابية، وَفِيه: رِوَايَة يحيى بن سعيد
الْأنْصَارِيّ عَن ابْن شهَاب من رِوَايَة الأقران.
قَوْله: (عَن امْرَأَة) هِيَ، هِنْد بنت الْحَارِث، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: (أَن امْرَأَة من قُرَيْش) .
158 - (بابُ مَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَذَكَرَ حاجَةً
فَتَخَطَّاهُمْ)
أَي: هَذَا بَاب تَرْجَمته: من صلى بِالنَّاسِ. . إِلَى
آخِره، أَشَارَ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن المُرَاد
من الْمكْث فِي الْمصلى بعد السَّلَام فِي الْبَاب الَّذِي
قبله إِنَّمَا هُوَ إِذا لم تكن حَاجَة تَدْعُو إِلَى
الْقيام عقيب السَّلَام على الْفَوْر، وَأما إِذا كَانَت
حَاجَة تَدْعُو إِلَى الْقيام من غير مكث يتْرك الْمكْث
كَمَا فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث
هَذَا الْبَاب.
851 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ عُبَيْدٍ قَالَ حدَّثنا
عِيسَى بنُ يُونُسَ عنْ عُمَرَ بنِ سَعِيدٍ قَالَ
أَخْبرنِي ابنُ أبي مُلَيْكَةَ عنْ عُقْبَةَ قَالَ
صَلَّيْتُ وَرَاءَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِالمَدِينَةِ العَصْرَ فسَلَّمَ ثُمَّ قامَ مُسْرِعا
فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ
فَفَزعَ النَّاسُ منْ سُرْعَتِهِ فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ
فَرَأى أنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ فَقَالَ
ذَكَرْتُ شَيْئا مِنْ تِبْرٍ عَنْدَنَا فَكَرِهْتُ أنْ
يَحْبِسَنِي فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فتخطى رِقَاب النَّاس)
.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن عبيد، بِضَم
الْعين:
(6/141)
ابْن مَيْمُون، وَهُوَ الْمَشْهُور
بِمُحَمد بن أبي عباد، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة:
الْقرشِي: الثَّانِي: عِيسَى بن يُونُس بن أبي إِسْحَاق
السبيعِي أحد الْأَعْلَام، كَانَ يحجّ سنة ويغزو سنة،
مَاتَ سنة سبع وَثَمَانِينَ وَمِائَة بِالْحَدَثِ، بِفَتْح
الْحَاء وَالدَّال الْمُهْمَلَتَيْنِ وَفِي آخِره ثاء
مُثَلّثَة: وَهِي ثغر بِنَاحِيَة الشَّام. قلت: هُوَ
بَلْدَة بِالْقربِ من مرعش. الثَّالِث: عمر بن سعيد بن أبي
حُسَيْن الْمَكِّيّ. الرَّابِع: عبد الله بن أبي مليكَة،
الْخَامِس: عقبَة بن الْحَارِث النَّوْفَلِي، وَهُوَ أَبُو
سروعة، بِكَسْر السِّين وَفتحهَا، وَيُقَال بِالْفَتْح
وَضم الرَّاء: أسلم قبل يَوْم الْفَتْح، وَهُوَ الَّذِي
تولى قتل خبيب.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شيخ البُخَارِيّ من
أَفْرَاده. وَفِيه: ابْن أبي مليكَة عَن عقبَة، وَفِي
رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الزَّكَاة من رِوَايَة أبي
عَاصِم: عَن عمر بن سعيد أَن عقبَة بن الْحَارِث حَدثهُ.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين كُوفِي ومكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الزَّكَاة وَفِي الاسْتِئْذَان عَن أبي عَاصِم
النَّبِيل، وَفِي الصَّلَاة أَيْضا عَن إِسْحَاق بن
مَنْصُور، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة عَن أَحْمد
بن بكار الْحَرَّانِي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَسلم ثمَّ قَامَ) ، هَكَذَا هُوَ
فِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة غَيره: (فَسلم
فَقَامَ) . قَوْله: (مسرعا) ، نصب على الْحَال. قَوْله:
(فتخطى) أَي: فَتَجَاوز، يُقَال: تخطيت رِقَاب النَّاس
إِذا تجاوزت عَلَيْهِم، وَلَا يُقَال: تخطأت،
بِالْهَمْزَةِ. قَوْله: (فَفَزعَ النَّاس) بِكَسْر الزَّاي
أَي: خَافُوا، وَكَانَت تِلْكَ عَادَتهم إِذا رَأَوْا
مِنْهُ غير مَا يعهدون خشيَة أَن ينزل فيهم شَيْء يسوؤهم.
قَوْله: (ذكرت شَيْئا من تبر) ، فِي رِوَايَة روح عَن عمر
بن سعيد فِي أَوَاخِر الصَّلَاة: (ذكرت وَأَنا فِي
الصَّلَاة) ، وَفِي رِوَايَة أبي عَاصِم: (تبرا من
الصَّدَقَة) ، والتبر، بِكَسْر التَّاء الْمُثَنَّاة من
فَوق وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة: مَا كَانَ من الذَّهَب
غير مَضْرُوب. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: التبر هُوَ الذَّهَب
كُله، وَقيل: هُوَ من الذَّهَب وَالْفِضَّة وَجَمِيع
جَوَاهِر الأَرْض مَا استخرج من الْمَعْدن قبل أَن يصاغ
وَيسْتَعْمل. وَقيل: هُوَ الذَّهَب المكسور، ذكره ابْن
سَيّده. وَفِي كتاب (الِاشْتِقَاق) لأبي بكر بن السراج:
أمْلى علينا ثَعْلَب عَن الْفراء عَن الْكسَائي، فَقَالَ:
هَذَا تبر، لِلذَّهَبِ المكسور وَالْفِضَّة الْمَكْسُورَة،
وَلكُل مَا كَانَ مكسورا من الصفر والنحاس وَالْحَدِيد،
وَإِنَّمَا سمي: ذهب الْمَعْدن تبرا، لِأَنَّهُ هُنَاكَ
بِمَنْزِلَة التبرة، وَهِي عروق تكون بَين ظَهْري الأَرْض
مثل النورة وفيهَا صلابة، وَزعم أَصْحَاب الْمَعْدن: أَن
الذَّهَب فِي الْمَعْدن بِهَذِهِ الْمنزلَة، كَذَا حُكيَ
عَن الْأَصْمَعِي والمبرد. وَقَالَ الْقَزاز: وَقيل: يُسمى
تبرا من التبير، وَهُوَ الْهَلَاك والتبار، فَكَأَنَّهُ
قيل لَهُ ذَلِك لافتراقه فِي أَيدي النَّاس وتبديده
عِنْدهم. وَقيل: سمي بذلك لِأَن صَاحبه يلْحقهُ من
التَّغْرِير مَا يُوجب هَلَاكه، وَقيل: هُوَ فعل من التبار
وَهُوَ الْهَلَاك. وَفِي (الصِّحَاح) : لَا يُقَال تبرٌ
إلاّ لِلذَّهَبِ، وَبَعْضهمْ يَقُول لِلْفِضَّةِ أَيْضا.
قَوْله: (يحبسني) أَي: يشغلني التفكر فِيهِ عَن
التَّوَجُّه والإقبال على الله تَعَالَى. قَوْله: (فَأمرت
بقسمته) فِي رِوَايَة أبي عَاصِم: (فقسمته) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: إِبَاحَة التخطي رِقَاب
النَّاس من أجل الضَّرُورَة الَّتِي لَا غنى للنَّاس
عَنْهَا، كرعاف وحرقة بَوْل أَو غَائِط وَمَا أشبه ذَلِك.
وَفِيه: السرعة للْحَاجة المهمة. وَفِيه: أَن التفكر فِي
الصَّلَاة فِي أَمر لَا يتَعَلَّق بهَا لَا يُفْسِدهَا
وَلَا ينقص من كمالها. وَفِيه: جَوَاز الِاسْتِنَابَة مَعَ
الْقُدْرَة على الْمُبَاشرَة. وَفِيه: أَن من حبس صَدَقَة
الْمُسلمين من وَصِيَّة أَو زَكَاة أَو شبههما يخَاف
عَلَيْهِ أَن يحبس فِي الْقِيَامَة لقَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (فَكرِهت أَن يحبسني) ، يَعْنِي: فِي
الْآخِرَة وَمِنْه قَالَ ابْن بطال: إِن تَأْخِير
الصَّدَقَة يحبس صَاحبهَا يَوْم الْقِيَامَة. وَفِيه: أَنه
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ لَا يملك شَيْئا من
الْأَمْوَال غير الرباع، قَالَه الدَّاودِيّ.
159 - (بابُ الإنْفِتَالِ وِالإنْصِرَافِ عنِ اليَمِينِ
والشِّمَالِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الانفتال فِي آخر
الصَّلَاة، وَهُوَ أَنه إِذا فرغ من الصَّلَاة يَنْفَتِل
عَن يمينة إِن شَاءَ أَو عَن شِمَاله، وَلَا يتَقَيَّد
بِوَاحِد مِنْهُمَا، كَمَا دلّ عَلَيْهِ أثر أنس رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، يُقَال: فتلت الرجل عَن وَجهه
فَانْفَتَلَ أَي: صرفته فَانْصَرف، فَقَالَ الْجَوْهَرِي:
هُوَ قلب: لفت، وَقَالَ: صرفت الرجل عني فَانْصَرف،
وَالَّذِي يفهم من الِاسْتِعْمَال أَن الِانْصِرَاف أَعم
من الانفتال،
(6/142)
لِأَن فِي الانفتال لَا بُد من لفتة
بِخِلَاف الِانْصِرَاف، فَإِنَّهُ يكون بلفتة وبغيرها،
وَالْألف وَاللَّام فِي: الْيَمين وَالشمَال، عوض عَن
الْمُضَاف إِلَيْهِ، أَي: عَن يَمِين الْمُصَلِّي وَعَن
شِمَاله.
وكَانَ أنَسٌ يَنْفَتِلُ عنْ يَمِينِهِ وعنْ يَسَارِهِ
وَيَعِيبُ عَلَى مَنْ يَتَوَخَّى أوْ مَنْ يَعْمَدُ
الانْفِتَالَ عنْ يَمِينِهِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ تَعْلِيق وَصله
مُسَدّد فِي (مُسْنده الْكَبِير) من طَرِيق سعيد عَن
قَتَادَة قَالَ: (كَانَ أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
فَذكره) . وَقَالَ فِيهِ: (ويعيب على من يتوخى ذَلِك أَن
لَا يَنْفَتِل إلاّ عَن يَمِينه، وَيَقُول: يَدُور كَمَا
يَدُور الْحمار) . وَيدل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن مَاجَه
بِسَنَد صَحِيح: عَن عمر بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده:
(رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْفَتِل
عَن يَمِينه وَعَن يسَاره فِي الصَّلَاة) . وَكَذَلِكَ مَا
رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث قبيصَة بن هلب
عَن أَبِيه قَالَ: (أما رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَكَانَ ينْصَرف عَن جانبيه جَمِيعًا) . وَأخرجه
أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه وَالتِّرْمِذِيّ وَقَالَ:
صَحَّ الْأَمْرَانِ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَلَفظ أبي دَاوُد: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد
الطَّيَالِسِيّ حَدثنَا شُعْبَة عَن سماك بن حَرْب عَن
قبيصَة بن هلب، رجل من طي، عَن أَبِيه أَنه صلى مَعَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ ينْصَرف مَعَ
شقيه، يَعْنِي مَعَ جَانِبي، يَعْنِي تَارَة عَن يَمِينه
وَتارَة عَن شِمَاله. وَلَفظ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا
قُتَيْبَة حَدثنَا أَبُو الْأَحْوَص عَن سماك بن حَرْب عَن
قبيصَة بن هلب عَن أَبِيه قَالَ: (كَانَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم يؤمنا فَيَنْصَرِف على جانبيه على
يَمِينه وشماله) وَقَالَ: حَدِيث حسن وَعَلِيهِ الْعَمَل
عِنْد أهل الْعلم أَنه ينْصَرف على أَي جانبيه شَاءَ إِن
شَاءَ عَن يَمِينه وَإِن شَاءَ عَن يسَاره. ويروى عَن
عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه قَالَ: إِن كَانَت
حَاجته عَن يَمِينه أَخذ عَن يَمِينه، وَإِن كَانَت حَاجته
عَن يسَاره أَخذ عَن يسَاره. وهلب، بِضَم الْهَاء وَسُكُون
اللَّام، وَقيل: الصَّوَاب فِيهِ فتح الْهَاء وَكسر
اللَّام، وَذكر بَعضهم فِيهِ: ضم الْهَاء وَفتحهَا
وَكسرهَا، واسْمه: يزِيد بن عدي بن قنافة، وَيُقَال: يزِيد
بن عَليّ بن قنافة، وَفد على رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ أَقرع، فَمسح رَأسه فنبت شعره
فَسُمي: هلبا فَإِن قلت: روى مُسلم عَن أنس من طَرِيق
إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن السّديّ، قَالَ: (سَأَلت
أنسا: كَيفَ انْصَرف إِذا صليت؟ أعن يَمِيني أَو عَن
يساري؟ قَالَ: أما أَنا فَأكْثر مَا رَأَيْت رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ينْصَرف عَن يَمِينه) . فَهَذَا
ظَاهره يُخَالف أثر أنس الْمَذْكُور. قلت: لَا نسلم ذَلِك،
لِأَنَّهُ لَا يدل على منع الِانْصِرَاف عَن الشمَال
أَيْضا. غَايَة مَا فِي الْبَاب أَنه يدل على أَن أَكثر
انْصِرَافه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ عَن يَمِينه،
وعيب أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كَانَ على من يتوخى
ذَلِك، أَي: يقْصد ويتحرى ذَلِك، فَكَأَنَّهُ يرى تحتمه
ووجوبه. وَأما إِذا لم يتوخ ذَلِك فيستوي فِيهِ
الْأَمْرَانِ، وَلَكِن جِهَة الْيَمين تكون أولى. قَوْله:
(يتوخى) ، بتَشْديد الْخَاء الْمُعْجَمَة. قَوْله: (أَو
يعمد) ، شكّ من الرَّاوِي.
852 - حدَّثنا أبُو الوَلِيدِ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ
سُلَيْمَانَ عنْ عُمَارَةَ بنِ عُمَيْرٍ عنِ الأسْوَدِ
قَالَ قَالَ عَبْدُ الله لاَ يَجْعَلَنَّ أحَدُكُمْ
لِلشَّيْطَانِ شَيْئا منْ صَلاَتِهِ يَرَى أنَّ حَقّا
عَلَيْهِ أنْ لاَ يَنْصَرِفَ إلاّ عَنْ يَمِينِهِ لَقَدْ
رَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كثِيرا
يَنْصَرِفُ عَنْ يَسَارِهِ (الحَدِيث رقم (853) فِي صفحة
147) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَنه يدل على جَوَاز
الِانْصِرَاف عقيب السَّلَام من الصَّلَاة من
الْجَانِبَيْنِ، أما من جَانب الْيَسَار فصريح فِي ذَلِك،
وَأما من جَانب الْيَمين فبقوله: (لَا يجعلن أحدكُم. .)
إِلَى آخِره.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: أَبُو الْوَلِيد هِشَام ابْن عبد
الْملك، وَشعْبَة بن الْحجَّاج، وَسليمَان الْأَعْمَش،
وَعمارَة، بِضَم الْعين وَتَخْفِيف الْمِيم: ابْن عُمَيْر،
مصغر عَمْرو، وَالْأسود بن يزِيد النَّخعِيّ، وَعبد الله
بن مَسْعُود.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع. والإخبار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن عمَارَة وَفِي
رِوَايَة أبي دَاوُد الطَّيَالِسِيّ، عَن شُعْبَة عَن
الْأَعْمَش سَمِعت عمَارَة بن عُمَيْر. وَفِيه: ثَلَاثَة
من التَّابِعين وهم: سُلَيْمَان وَعمارَة وَالْأسود كلهم
كوفيون، وَشعْبَة واسطي، وَأَبُو الْوَلِيد شيخ
البُخَارِيّ بَصرِي.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم عَن أبي بكر بن أبي شيبَة
وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن عَليّ بن خشرم،
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن مُسلم بن
إِبْرَاهِيم عَن شُعْبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
عَمْرو بن عَليّ. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن
مُحَمَّد عَن وَكِيع وَعَن أبي بكر بن خَلاد.
(6/143)
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لَا يجعلن) ،
بنُون التَّأْكِيد فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي
رِوَايَة غَيره: (لَا يَجْعَل) ، بِدُونِ النُّون. قَوْله:
(شَيْئا من صلَاته) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (جُزْءا من
صلَاته) . قَوْله: (يرى) بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف
بِمَعْنى: يعْتَقد أَو يرى، بِضَم الْيَاء بِمَعْنى: يظنّ،
وَوجه ارتباط هَذِه الْجُمْلَة بِمَا قبلهَا هُوَ إِمَّا
أَن يكون بَيَانا للجعل، أَو يكون استئنافا تَقْدِيره:
كَيفَ يَجْعَل للشَّيْطَان من صلَاته؟ فَقَالَ: يرى أَن
حَقًا عَلَيْهِ إِلَى آخِره. قَوْله: (حَقًا) مَنْصُوب
لِأَنَّهُ اسْم، أَن، قَوْله: (أَن لَا ينْصَرف) فِي مَحل
الرّفْع على أَنه خبر: أَن، وَالْمعْنَى: يرى أَن وَاجِبا
عَلَيْهِ عدم الِانْصِرَاف إلاّ عَن يَمِينه والكرماني
تكلّف هَهُنَا فَقَالَ: أَن لَا ينْصَرف، معرفَة إِذْ
تَقْدِيره: عدم الِانْصِرَاف، فَكيف وَقع خَبرا لِأَن
واسْمه نكرَة؟ ثمَّ أجَاب بِأَن النكرَة الْمَخْصُوصَة
كالمعرفة، أَو أَنه من بَاب الْقلب، أَي: يرى أَن عدم
الِانْصِرَاف حق عَلَيْهِ انْتهى. قلت: هَذَا تعسف،
وَظَاهر الْإِعْرَاب هُوَ الَّذِي ذكرته. وَقَالَ
الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَات: أَن، بِغَيْر
التَّشْدِيد فَهِيَ إِمَّا مُخَفّفَة من الثَّقِيلَة،
وَحقا، مفعول مُطلق. وَفعله مَحْذُوف أَي: قد حق حَقًا.
وَأَن لَا ينْصَرف، فَاعل الْفِعْل الْمُقدر. وَإِمَّا
مَصْدَرِيَّة. قلت: لم تصح رِوَايَة التَّخْفِيف حَتَّى
يُوَجه بِهَذَا التَّوْجِيه. قَوْله: (كثيرا ينْصَرف عَن
يسَاره) انتصاب كثير على أَنه صفة لصدر رَأَيْت محذوفا.
وَقَوله: (ينْصَرف) جملَة حَالية وَفِي رِوَايَة مُسلم:
(أَكثر مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ينْصَرف عَن شِمَاله) . فَإِن قلت: روى مُسلم عَن أنس أَنه
قَالَ: (أما أَنا فَأكْثر مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم ينْصَرف عَن يَمِينه) ، وَبَينهمَا
تعَارض، لِأَن كلا مِنْهُمَا قد عبر بِصِيغَة أفعل. قلت:
قَالَ النَّوَوِيّ: يجمع بَينهمَا بِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يفعل تَارَة هَذَا وَتارَة هَذَا،
فَأخْبر كل مِنْهُمَا بِمَا اعْتقد أَنه الْأَكْثَر،
وَإِنَّمَا كره ابْن مَسْعُود أَن يعْتَقد وجوب
الِانْصِرَاف عَن الْيَمين، وَقد مر الْكَلَام فِي حكم
هَذَا الْبَاب عَن قريب مستقصًى.
160 - (بابُ مَا جاءَ فِي الثُّومِ النَّيءِ والبَصعلِ
والكُرَّاثِ وقَوْلِ النَّبي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ
أكَلَ الثُّومَ أوِ البَصَلِ مِنَ الجُوعِ أوْ غَيْرِهِ
فَلا يَقْرَبَنَّ مَسْجِدَنَا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي أكل الثوم النيء
وَأكل البصل، والكراث. الثوم، بِضَم الثَّاء
الْمُثَلَّثَة. وَقَوله: (النىء) ، بِالْجَرِّ: صفته أَي:
غير النضيج، هُوَ بِكَسْر النُّون بعْدهَا يَاء آخر
الْحُرُوف ثمَّ همزَة. وَقد تُدْغَم الْيَاء. قَوْله:
(والبصل) أَي: وَمَا جَاءَ فِي البصل. قَوْله: (والكراث) ،
أَي: وَمَا جَاءَ فِي الكراث، وَهُوَ بِضَم الْكَاف
وَتَشْديد الرَّاء. قَوْله: (وَقَول النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم) بِالْجَرِّ عطفا على قَوْله: (مَا جَاءَ)
، أَي: وَمَا جَاءَ فِي قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (من أكل البصل. .) إِلَى آخِره، وَهَذَا أَيْضا، من
جملَة التَّرْجَمَة وَلَيْسَ لفظ الحَدِيث هَكَذَا، بل
هَذَا من تصرف البُخَارِيّ وتجويزه، نقل الحَدِيث
بِالْمَعْنَى. فَإِن قلت: لَيْسَ فِي أَحَادِيث الْبَاب
ذكر الكراث فَلِمَ ذكره فِي التَّرْجَمَة؟ قلت: قَالَ
بَعضهم: كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى مَا وَقع فِي بعض
طرق حَدِيث جَابر، وَهَذَا أولى من قَول بَعضهم: إِنَّه
قاسه على البصل. انْتهى. قلت: روى مُسلم فِي (صَحِيحه) من
حَدِيث جَابر قَالَ: (نهى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن أكل البصل والكراث، فغلبتنا الْحَاجة فأكلنا
مِنْهُ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من أكل
من هَذِه الشَّجَرَة المنتنة فَلَا يقربن مَسْجِدنَا) .
وَفِي (مُسْند الْحميدِي) بِإِسْنَاد على شَرط الصَّحِيح:
(سُئِلَ جَابر عَن الثوم فَقَالَ: مَا كَانَ بأرضنا
يَوْمئِذٍ ثوم، إِنَّمَا الَّذِي نهى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَنهُ البصل والكراث) . وَفِي (مُسْند
السراج) : (نهى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
أكل الكراث فَلم ينْتَهوا، ثمَّ لم يَجدوا بدا من أكلهَا
فَوجدَ رِيحهَا، فَقَالَ: ألم أنهكم. .؟) الحَدِيث.
فالكراث إِن لم يذكر صَرِيحًا فِي أَحَادِيث الْبَاب
فَيمكن أَن نقُول: إِنَّه مَذْكُور دلَالَة، فَإِن حَدِيث
جَابر الَّذِي يَأْتِي فِيهِ: (وَأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بِقدر فِيهِ خضرات من بقول فَوجدَ
لَهَا ريحًا. .) الحَدِيث، يدل على أَن من جملَة الخضرات
الَّتِي لَهَا ريح هُوَ الكراث، وَهُوَ أَيْضا من
الْبُقُول، فَحِينَئِذٍ تقع الْمُطَابقَة بَينه وَبَين
قَوْله فِي التَّرْجَمَة: والكراث، وَوُجُود التطابق بَين
التراجم وَالْأَحَادِيث لَا يلْزم أَن يكون صَرِيحًا
دَائِما، يظْهر ذَلِك بِالتَّأَمُّلِ، وَهَذَا التَّوْجِيه
أقرب من قَول هَذَا الْقَائِل، كَأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ
إِلَى مَا وَقع فِي بعض طرق حَدِيث جَابر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَقَوله: هَذَا أولى من قَول بَعضهم، أَنه
قاسه على البصل، أَرَادَ بِهِ صَاحب (التَّوْضِيح)
فَإِنَّهُ قَالَه هَكَذَا، وَهَذَا أبعد من الَّذِي
قَالَه. فَإِن قلت: قَوْله من الْجُوع لم يذكر صَرِيحًا
فِي أَحَادِيث الْبَاب؟ قلت: لِمَ يَقع هَذَا إلاّ فِي
كَلَام الصَّحَابِيّ، وَهُوَ فِي حَدِيث جَابر الَّذِي
ذَكرْنَاهُ الْآن، وَفِيه: (فغلبتنا الْحَاجة) ، وَمن
جملَة الْحَاجة: الْجُوع، وأصرح مِنْهُ مَا وَقع فِي
حَدِيث أبي سعيد: (لم نعدُ أَن فتحت خَيْبَر فوقعنا فِي
هَذِه البقلة وَالنَّاس
(6/144)
جِيَاع) ، الحَدِيث رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ
وَزعم أَنه عِنْد مُسلم. قَوْله: (أَو غَيره) ، أَي: أَو
غير الْجُوع، مثل الْأكل بالتشهي والتأدم بالخبز.
854 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا
أبُو عَاصِمٍ قَالَ أخبرنَا ابنُ جُرَيْجٍ قَالَ أَخْبرنِي
عَطَاءٌ قَالَ سَمِعْتُ جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ
قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَنْ أكَلَ منْ
هاذِهِ الشَّجَرَةِ يُرِيدُ الثُّومَ فَلاَ يَغْشَانِا فِي
مَسَاجِدِنَا قُلْتُ مَا يَعْنِي بِهِ قَالَ مَا أرَاهُ
يَعْنِي إلاَّ نِيِّئَهُ. وَقَالَ مَخْلَدُ بنُ يَزِيدَ
عنِ ابنِ جُرَيْجٍ إلاّ نَتْنَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَا جَاءَ فِي الثوم) .
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن
عبد الله بن جَعْفَر ابْن الْيَمَان أَبُو جَعْفَر
الْجعْفِيّ البُخَارِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي، وَإِنَّمَا
عرف بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ وَقت الطّلب يتتبع الْأَحَادِيث
المسندة وَلَا يرغب فِي المقاطيع والمراسيل، مَاتَ فِي ذِي
الْقعدَة سنة تسع وَعشْرين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي:
أَبُو عَاصِم النَّبِيل، واسْمه الضَّحَّاك بن مخلد.
الثَّالِث: عبد الْملك بن جريج. الرَّابِع: عَطاء ابْن أبي
رَبَاح. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع أَيْضا فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد من الْمَاضِي فِي مَوضِع.
وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع.
وَفِيه: أَن رُوَاته مَا بَين بخاري وبصري ومكي. وَفِيه:
أَن شَيْخه المسندي من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن أَبَا
عَاصِم أَيْضا شَيْخه. فَإِنَّهُ روى عَنهُ بِوَاسِطَة،
ويروي عَنهُ أَيْضا بِلَا وَاسِطَة.
ذكر من أخرجه غَيره: أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة أَيْضا عَن
مُحَمَّد بن حَاتِم، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، وَعَن
مُحَمَّد ابْن رَافع. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي
الْأَطْعِمَة عَن إِسْحَاق بن مَنْصُور. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الصَّلَاة وَفِي الْوَلِيمَة عَن
إِسْحَاق بن مَنْصُور بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن عبد
الْأَعْلَى. وَلما روى التِّرْمِذِيّ حَدِيث جَابر هَذَا
قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن عَمْرو أبي أَيُّوب وَأبي
هُرَيْرَة وَأبي سعيد وَجَابِر بن سَمُرَة وقرة وَابْن
عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. قلت: وَفِي الْبَاب
أَيْضا عَن حُذَيْفَة وَأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي والمغيرة
بن شُعْبَة وَعلي وَأنس وَعبد الله بن زيد، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُم. فَحَدِيث عمر عِنْد مُسلم وَغَيره،
وَحَدِيث أبي أَيُّوب عِنْد التِّرْمِذِيّ، وَحَدِيث أبي
هُرَيْرَة عِنْد مُسلم، وَحَدِيث أبي سعيد عَن مُسلم
أَيْضا، وَحَدِيث جَابر بن سَمُرَة عِنْد التِّرْمِذِيّ،
وَحَدِيث قُرَّة عِنْد الْبَيْهَقِيّ، وَحَدِيث ابْن عمر
عِنْد البُخَارِيّ، وَمُسلم، وَحَدِيث حُذَيْفَة عِنْد
ابْن حبَان، وَحَدِيث أبي ثَعْلَبَة عِنْد الطَّبَرَانِيّ
فِي (الْأَوْسَط) وَحَدِيث الْمُغيرَة عِنْد
التِّرْمِذِيّ، وَحَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، عِنْد أبي نعيم فِي (الْحِلْية) : وَحَدِيث أنس
عِنْد البُخَارِيّ وَغَيره، وَحَدِيث عبد الله بن زيد
عِنْد الطَّبَرَانِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من هَذِه الشَّجَرَة) الشَّجَرَة
وَاحِدَة الشّجر وَالشَّجر النَّبَات الَّذِي لَهُ سَاق،
والنجم النَّبَات الَّذِي ينجم فِي الأَرْض لَا سَاق لَهُ
كالبقول، وَيُقَال عِنْد الْعَرَب: كل شَيْء ينْبت لَهُ
أرومة فِي الأَرْض يخلف مَا قطع من ظَاهرهَا فَهُوَ شجر،
وَمَا لَيْسَ لَهَا أرومة تبقى فَهُوَ نجم، والأرومة
الأَصْل، فَإِن قلت: على مَا ذكر كَيفَ أطلق الشّجر على
الثوم وَنَحْوه؟ قلت: قد يُطلق كل مِنْهُمَا على الآخر،
وَتكلم أفْصح الفصحاء بِهِ من أقوى الدَّلَائِل. وَقَالَ
الْخطابِيّ، فِيهِ: إِنَّه جعل الثوم من جملَة الشّجر،
والعامة إِنَّمَا يسمون الشّجر مَا كَانَ لَهُ سَاق يحمل
أغصانه دون مَا يسْقط على الأَرْض. قَوْله: (فَلَا يغشانا)
من الغشيان، وَهُوَ الْمَجِيء والإتيان أَي: فَلَا يأتنا،
وَإِنَّمَا أَثْبَتَت الْألف لِأَن الأَصْل: فَلَا يغشنا،
كَمَا هُوَ فِي رِوَايَة كَذَا لِأَنَّهُ أجْرى المعتل
مجْرى الصَّحِيح، كَمَا فِي قَول الشَّاعِر:
(إِذا الْعَجُوز غضِبت فَطلق ... وَلَا ترضاها وَلَا تملق)
وَإِمَّا أَن تكون الْألف مولدة من إشباع الفتحة بعد
سُقُوط الْألف الْأَصْلِيَّة بِالْجَزْمِ. قَوْله: (فِي
مَسْجِدنَا) وَفِي رِوَايَة الْكشميهني وَأبي الْوَقْت:
(فِي مَسَاجِدنَا) ، بِصِيغَة الْجمع. قَوْله: (قلت: مَا
يَعْنِي بِهِ؟) أَي: مَا يقْصد الْقَائِل هُوَ عَطاء ابْن
أبي رَبَاح، يَعْنِي قَالَ عَطاء: قلت لجَابِر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ: مَا يَعْنِي رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِهِ، أَي: بالثوم أنضيجا أم نيا؟ قَالَ
جَابر:
(6/145)
مَا أرَاهُ، بِضَم الْهمزَة أَي: مَا
أَظُنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي أَي يقْصد نيه،
أَي: ني الثوم. وَقَالَ بَعضهم: وأظن السَّائِل ابْن جريج
والمسؤول عَطاء. قلت: الَّذِي قُلْنَا هُوَ الْأَقْرَب
وَالْأَوْجه على مَا لَا يخفى، وَبِه جزم الْكرْمَانِي.
قَوْله: (قَالَ مخلد) ، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْخَاء
الْمُعْجَمَة: ابْن يزِيد من الزِّيَادَة أَبُو الْحسن
الْحَرَّانِي، مَاتَ سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَمِائَة.
قَوْله: (عَن ابْن جريج) يَعْنِي: يروي عَن عبد الْملك بن
جريج: (إِلَّا نَتنه) بِفَتْح النونين بَينهمَا تَاء مثناة
من فَوق سَاكِنة، يَعْنِي: قَالَ بدل: نيه نَتنه. وَهُوَ
الرَّائِحَة الكريهة، وَهَذَا التَّعْلِيق يُخَالف مَا
رَوَاهُ جمَاعَة عَن ابْن جريج، فَإِن أَبَا عوَانَة
رَوَاهُ فِي (صَحِيحه) من طَرِيق روح ابْن عبَادَة: عَن
ابْن جريج كَمَا رَوَاهُ أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج،
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج نَحوه،
وَكَذَلِكَ رَوَاهُ أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) من
طَرِيق ابْن أبي عدي عَن ابْن جريج، فَلفظ الْكل: النيء،
لَا النتن.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: كَرَاهَة أكل الثوم
النىء، وَلَا يحرم، أما الْكَرَاهَة فلرائحته الكريهة،
وَلِهَذَا قَالَ: (من أكل من هَذِه الشَّجَرَة فَلَا
يغشانا فِي مَسْجِدنَا) ، وَأما عدم الْحُرْمَة فَلقَوْله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَدِيث جَابر الَّذِي يَأْتِي
فِي هَذَا الْبَاب: (كل فَإِنِّي أُنَاجِي من لَا تناجي) .
وَقَالَ ابْن بطال. قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من
أكل) يدل على إِبَاحَة أكل الثوم، لِأَنَّهُ لفظ يدل على
الْإِبَاحَة، وَتعقب بِأَن هَذِه الصِّيغَة إِنَّمَا
تُعْطِي الْوُجُود لَا الحكم، لِأَن مَعْنَاهُ من وجد
مِنْهُ الْأكل، وَهُوَ أَعم من كَونه مُبَاحا أَو غير
مُبَاح. قلت: فَلَا حَاجَة إِلَى الِاسْتِدْلَال على
الْإِبَاحَة بِهَذِهِ الطَّرِيقَة، فَإِن حَدِيث جَابر يدل
على إِبَاحَته صَرِيحًا، وَكَذَلِكَ حَدِيث أبي أَيُّوب.
رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان
حَدثنَا أَبُو دَاوُد أَنبأَنَا شُعْبَة عَن سماك بن حَرْب
سمع جَابر بن سَمُرَة يَقُول: (نزل رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم على أبي أَيُّوب، وَكَانَ إِذا أكل طَعَاما
بعث إِلَيْهِ بفضله، فَبعث إِلَيْهِ يَوْمًا بِطَعَام وَلم
يَأْكُل مِنْهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فَلَمَّا أَتَى أَبُو أَيُّوب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فَذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: فِيهِ الثوم، فَقَالَ: يَا رَسُول الله
أحرام هُوَ؟ قَالَ: لَا، وَلَكِنِّي أكرهه من أجل رِيحه) .
وَقَالَ التِّرْمِذِيّ أَيْضا: حَدثنَا مُحَمَّد بن حميد
حَدثنَا زيد بن الْخَبَّاب عَن أبي خلدَة عَن أبي
الْعَالِيَة قَالَ: الثوم من طَيّبَات الرزق، وَأَبُو
خلدَة اسْمه: خَالِد بن دِينَار، وَهُوَ ثِقَة عِنْد أهل
الحَدِيث، وَقد أدْرك أنس بن مَالك وَسمع مِنْهُ، وَأَبُو
الْعَالِيَة اسْمه: رفيع وَهُوَ الرباحي، وَهُوَ الَّذِي
ذكرنَا أكله فِي الثوم النىء لأجل رَائِحَته، وَأما الثوم
الْمَطْبُوخ مِنْهُ فَلَا يكره، لما روى أَبُو دَاوُد:
حَدثنَا مُسَدّد قَالَ: حَدثنَا الْجراح أَبُو وَكِيع عَن
أبي إِسْحَاق عَن شريك عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: (نهى عَن أكل الثوم إلاّ مطبوخا) . وروى
أَيْضا عَن حَدِيث مُعَاوِيَة بن قُرَّة عَن أَبِيه: (أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى عَن هَاتين
الشجرتين، وَقَالَ: من أكلهما فَلَا يقربن مَسْجِدنَا،،
وَقَالَ: إِن كُنْتُم لَا بُد آكليهما فأميتوهما طبخا) .
ثمَّ إِن حَدِيث الْبَاب فِي الثوم فَقَط، وَسَيَجِيءُ
حَدِيث جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي هَذَا
الْبَاب: أَن البصل مثل الثوم، وَأَن الخضرات من الْبُقُول
الَّتِي لَهَا رَائِحَة كَذَلِك، وَيدخل فِيهِ الكراث
والفجل أَيْضا، وَنَصّ على الفجل فِي (المعجم الصَّغِير)
للطبراني، وَذكره مَعَ الثوم والكراث، وَنقل ابْن التِّين
عَن مَالك قَالَ: الفجل، إِن كَانَ يظْهر رِيحه فَهُوَ
كالثوم، وَقَيده عِيَاض بالجشاء. وَفِي (التَّوْضِيح) :
وشذ أهل الظَّاهِر فحرموا هَذِه الْأَشْيَاء لإفضائها
إِلَى ترك الْجَمَاعَة، وَهِي عِنْدهم فرض عين،
وَتَقْرِيره أَن يُقَال: صَلَاة الْجَمَاعَة فرض عين،
وَلَا يتم إلاّ بترك أكلهَا. وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إلاّ
بِهِ فَهُوَ وَاجِب، فَترك أكلهَا وَاجِب، فَتكون
حَرَامًا. قلت: صرح ابْن حزم مِنْهُم بِأَن أكلهَا حَلَال
مَعَ قَوْله بِأَن الْجَمَاعَة فرض عين. وَفِيه: ترك
الْإِتْيَان إِلَى الْمَسْجِد عِنْد أكل الثوم وَنَحْوه،
وَهُوَ بِعُمُومِهِ يتَنَاوَل المجامع: كمصلى الْعِيد
والجنازة وَمَكَان الْوَلِيمَة، وَحكم رحبة الْمَسْجِد
حكمه، لِأَنَّهَا مِنْهُ، وَخص القَاضِي عِيَاض
الْكَرَاهَة بِمَا إِذا كَانَ مَعَهم غَيرهم، أما إِذا
كَانَ كلهم أكلوه فَلَا، وَلَكِن يَنْبَغِي احترام
الْمَلَائِكَة، وَلَيْسَ المُرَاد بِالْمَلَائِكَةِ
الْحفظَة. قلت: الْعلَّة أَذَى الْمَلَائِكَة وأذى
الْمُسلمين، فَيخْتَص النَّهْي بالمساجد وَمَا فِي
مَعْنَاهَا، وَلَا يخْتَص بمسجده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
بل الْمَسَاجِد كلهَا سَوَاء عملا بِرِوَايَة:
مَسَاجِدنَا، بِالْجمعِ وشذ من خصّه بمسجده صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم. وَيلْحق بِمَا نَص عَلَيْهِ فِي الحَدِيث
كل مَا لَهُ رَائِحَة كريهة من المأكولات وَغَيرهَا،
وَإِنَّمَا خص الثوم هُنَا بِالذكر، وَفِي غَيره أَيْضا
بالبصل والكراث لِكَثْرَة أكلهم بهَا، وَكَذَلِكَ ألحق
بذلك بَعضهم من بِفِيهِ بخر، أَو بِهِ جرح لَهُ رَائِحَة،
وَكَذَلِكَ القصاب والسماك والمجذوم والأبرص أولى
بالإلحاق، وَصرح بالمجذوم ابْن بطال، وَنقل عَن سَحْنُون،
لَا أرى الْجُمُعَة عَلَيْهِ، وَاحْتج بِالْحَدِيثِ.
وَألْحق بِالْحَدِيثِ: كل من آذَى النَّاس بِلِسَانِهِ فِي
الْمَسْجِد، وَبِه أفتى ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، وَهُوَ أصل فِي نفي كل مَا يتَأَذَّى بِهِ
وَلَا يبعد أَن يعْذر من كَانَ مَعْذُورًا بِأَكْل مَا
لَهُ ريح كريهة، لما روى
(6/146)
ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) : عَن الْمُغيرَة
بن شُعْبَة: (انْتَهَيْت إِلَى رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَوجدَ مني ريح الثوم فَقَالَ من أكل
الثوم؟ قَالَ: فَأخذت يَده فأدخلتها، فَوجدَ صَدْرِي
معصوبا فَقَالَ: إِن لَك عذرا) . وَفِي رِوَايَة
الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) : (اشتكيت صَدْرِي
فأكلته) . وَفِيه: (فَلم يعنفه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
855 - ح دَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ
وِهَبٍ عَنْ يُونُس عنِ ابنِ شِهَابٍ زَعَمَ عَطَاءٌ أنَّ
جابِرَ بنَ عَبْدِ الله زعَمَ أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ منْ أكَلَ ثُوما أوْ بَصَلاً
فلْيَعْتَزِلْنَا أوْ قَالَ فَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا
وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ وَأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أُتِيَ بِقِدْرٍ فيهِ خَضِرَاتٌ مِنْ
بُقُولٍ فَوَجَدَ لَهَا ريحًا فَسَألَ فَأُخْبِرَ بِمَا
فِيها مِنَ البُقُولِ فقالَ قَرِّبُوهَا إلَى بَعْضِ
أصْحَابِهِ كانَ مَعَهُ فلَمَّا رَآهُ كَرِهَ أكلَهَا قالَ
كُلْ فَإنِّي أنَاجِي منْ لاَ تُنَاجِي
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي الثوم والبصل.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: سعيد هُوَ ابْن كثير بن عفير
أَبُو عُثْمَان الْمصْرِيّ، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن
وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس بن يزِيد وَابْن شهَاب هُوَ
مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ وَعَطَاء ابْن أبي
رَبَاح.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: زعم فِي
موضِعين، قَالَ الْخطابِيّ: لم يقل زعم على وَجه
التُّهْمَة، لكنه لما كَانَ أمرا مُخْتَلفا فِيهِ أَتَى
بِلَفْظ: زعم، لِأَن هَذَا اللَّفْظ لَا يكَاد يسْتَعْمل
إلاّ فِي أَمر يرتاب فِيهِ أَو يخْتَلف فِيهِ، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: زعم، أَي: قَالَ، لِأَن الزَّعْم يسْتَعْمل
لِلْقَوْلِ الْمُحَقق، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: عَن
عَطاء، وَفِي رِوَايَة لمُسلم من وَجه آخر: عَن ابْن وهب
حَدثنِي عَطاء، وَفِي رِوَايَة أَحْمد بن صَالح الْآتِيَة
عَن جَابر لم يقل: زعم. قلت: دلّت هَذِه الرِّوَايَات أَن:
زعم، هَهُنَا بِمَعْنى: قَالَ، كَمَا ذكره الْكرْمَانِي.
وَفِيه: أَن الْإِثْنَيْنِ الْأَوَّلين من الروَاة مصريان،
وَالثَّالِث وَالرَّابِع مدنيان وَالْخَامِس مكي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الِاعْتِصَام عَن عَليّ بن عبد الله وَعَن
أَحْمد بن صَالح. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن أبي
الطَّاهِر وحرملة بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
الْأَطْعِمَة عَن أَحْمد بن صَالح. وَأخرجه النَّسَائِيّ
فِي الْوَلِيمَة عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَو قَالَ: فليعتزل مَسْجِدنَا)
شكّ من الرَّاوِي، وَهُوَ الزُّهْرِيّ، وَلم تخْتَلف
الروَاة عَنهُ فِي ذَلِك. قَوْله: (وليقعد) بواو الْعَطف،
وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (أَو ليقعد) ، بِالشَّكِّ وَهُوَ
أخص من الاعتزال، لِأَنَّهُ أَعم من أَن يكون فِي الْبَيْت
أَو غَيره. قَوْله: (وَأَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم) ، عطف على الْإِسْنَاد الْمَذْكُور، وَالتَّقْدِير:
وَحدثنَا سعيد بن عفير بِإِسْنَادِهِ أَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. . فَيكون هَذَا حَدِيثا آخر، وَقَالَ
بَعضهم: وَقد تردد البُخَارِيّ فِيهِ، هَل مَوْصُول أَو
مُرْسل؟ قلت: على التَّقْدِير الَّذِي ذكرنَا لَا تردد
فِيهِ أَنه مَوْصُول، لِأَن الْمَعْطُوف فِي حكم
الْمَعْطُوف عَلَيْهِ. قَوْله: (أُتِي بِقدر) ، بِكَسْر
الْقَاف، وَهُوَ الْقدر الَّذِي يطْبخ فِيهِ الطَّعَام،
وَيجوز فِيهِ التَّذْكِير والتأنيث. وَقَالَ
(6/147)
بَعضهم: والتأنيث أشهر، لَكِن الضَّمِير
فِي قَوْله: (فِيهِ خضرات) يعود إِلَى الطَّعَام الَّذِي
فِي الْقدر، فالتقدير: أُتِي بِقدر من طَعَام فِيهِ خضرات،
وَلِهَذَا لما أعَاد الضَّمِير على الْقدر أَعَادَهُ
بالتأنيث حَيْثُ قَالَ: (فَأخْبر بِمَا فِيهَا) ، وَحَيْثُ
قَالَ: (قربوها) انْتهى. قلت: هَذَا تصرف فِيهِ تعسف فَلَا
يحْتَاج إِلَى تَطْوِيل الْكَلَام، وَلما جَازَ فِي الْقدر
التَّذْكِير والتأنيث أعَاد الضَّمِير إِلَيْهِ تَارَة
بالتذكير وَتارَة بالتأنيث نظرا إِلَى جَوَاز
الْوَجْهَيْنِ. قَوْله: (خضرات) ، بِضَم الْخَاء وَفتح
الضَّاد المعجمتين: جمع خضرَة، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة
أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره بِفَتْح أَوله وَكسر
ثَانِيه، وَقَالَ ابْن التِّين: روينَاهُ بِفَتْح الْخَاء
وَكسر الضَّاد، وَقَالَ ابْن قرقول: ضَبطه الْأصيلِيّ
بِضَم الْخَاء وَفتح الضَّاد، وَالْمَعْرُوف الأول.
قَوْله: (من يَقُول) كلمة: من، فِيهِ بَيَانِيَّة، وَيجوز
أَن تكون للتَّبْعِيض. قَوْله: (فَوجدَ) أَي: النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَذكر تعدد مَوْضِعه وَمن
أخرجه غَيره: فَأخْبر) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: أخبر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَا فِي الْقدر.
قَوْله: (قربوها) الضَّمِير فِيهِ يجوز أَن يرجع إِلَى
الخضرات، وَيجوز أَن يرجع إِلَى الْقدر، وَيجوز أَن يرجع
إِلَى الْبُقُول. قَوْله: (إِلَى بعض أَصْحَابه) . وَقَالَ
الْكرْمَانِي: هَذَا اللَّفْظ نقل بِالْمَعْنَى، إِذْ
الرَّسُول، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يقل بِهَذِهِ
الْعبارَة، بل قَالَ: قربوها إِلَى فلَان، مثلا أَو فِيهِ
مَحْذُوف، أَي: قَالَ قربوها مُشِيرا أَو أَشَارَ إِلَى
بعض أَصْحَابه. انْتهى. وَقَالَ بَعضهم: وَالْمرَاد
بِالْبَعْضِ أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ فَفِي (صَحِيح
مُسلم) من حَدِيث أبي أَيُّوب فِي قصَّة نزُول النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (فَكَانَ يصنع للنَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَعَاما فَإِذا جِيءَ بِهِ
إِلَيْهِ. .) أَي بعد أَن يَأْكُل النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مِنْهُ، (سَأَلَ عَن مَوضِع أَصَابِع
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَصنعَ ذَلِك مرّة،
فَقيل لَهُ: لم تَأْكُل،، وَكَانَ الطَّعَام فِيهِ ثوم،
فَقَالَ: أحرام هُوَ يَا رَسُول الله؟ قَالَ: لَا وَلَكِن
أكرهه) . قلت: لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَن المُرَاد من
الْبَعْض أَبُو أَيُّوب، لمَ لَا يجوز أَن يكون غَيره من
أَصْحَابه؟ بل الظَّاهِر أَنه غَيره، لِأَن رد طَعَامه
إِلَيْهِ فِيهِ مَا فِيهِ. فَإِن قلت: قَوْله: (كل) ، خطاب
لأبي أَيُّوب، فَذا يدل على أَن المُرَاد من الْبَعْض
أَبُو أَيُّوب. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَنَّهُ يجوز أَن
يَأْمر بالتقريب إِلَى غَيره، وَيَأْمُر بِالْأَكْلِ
مَعَه. على أَنه جَاءَ فِي حَدِيث أم أَيُّوب، (قَالَت:
نزل علينا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فتكلفنا لَهُ
طَعَاما فِيهِ بعض الْبُقُول) فَذكر الحَدِيث نَحوه.
وَقَالَ وَفِيه: (فَكُلُوا فَإِنِّي لست كَأحد مِنْكُم،
أَخَاف أَن أوذي صَاحِبي) ، فههنا أَمر بِالْأَكْلِ
للْجَمَاعَة، وَأَبُو أَيُّوب مِنْهُم، وَلَيْسَ بمتعين.
قَوْله: ((فَإِنِّي أُنَاجِي من لَا تناجي) أَي:
الْمَلَائِكَة، ويوضح ذَلِك مَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة
وَابْن حبَان من وَجه آخر: (أَن رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أرسل إِلَيْهِ بِطَعَام من خضرات فِيهِ بصل
أَو كراث، فَلم ير فِيهِ أثر رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فَأبى أَن يَأْكُل فَقَالَ لَهُ: مَا
مَنعك؟ قَالَ: لم أر أثر يدك. قَالَ: أستحي من مَلَائِكَة
الله وَلَيْسَ بِمحرم) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: من ذَلِك أَن الْبَعْض
اسْتدلَّ بِهِ على أَن إِقَامَة الْفَرْض بِالْجَمَاعَة
لَيست بِفَرْض، لِأَن أكل الثوم وَنَحْوه جَائِز، وَمن
لوازمه الشَّرْعِيَّة ترك الصَّلَاة بِالْجَمَاعَة، وَترك
الْجَمَاعَة فِي حق آكله جَائِز، ولازم الْجَائِز جَائِز.
وَفِيه: مَا يدل على أَن أكل الثوم وَنَحْوه من
الْأَعْذَار المرخصة فِي ترك حُضُور الْجَمَاعَة. فَإِن
قلت: لِمَ لَا يجوز أَن يكون النَّهْي خرج مخرج الزّجر عَن
أكل هَذِه الْأَشْيَاء، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِك أَن يكون
عذرا فِي ترك الْجَمَاعَة إلاّ أَن تَدْعُو إِلَى أكلهَا
ضَرُورَة، وَعَن هَذَا قَالَ الْخطابِيّ: توهم بَعضهم أَن
أكل الثوم عذر فِي التَّخَلُّف عَن الْجَمَاعَة،
وَإِنَّمَا هُوَ عُقُوبَة لَا يحكم على فَاعله إِذا حرم
فضل الْجَمَاعَة. قلت: قَوْله: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
(قربوها إِلَى بعض أَصْحَابه) يَنْفِي الزّجر. فَإِن قلت:
الزّجر مُتَأَخّر عَن الْأَمر بالتقريب بِمدَّة كَثِيرَة،
لِأَن الْأَمر بالتقريب كَانَ حِين قدم النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة، وَمن جملَة أَحَادِيث الزّجر
حَدِيث ابْن عمر، وَهُوَ كَانَ فِي غَزْوَة خَيْبَر فِي
سنة سِتّ قلت: سلمنَا ذَلِك، وَلَكِن قَوْله: صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (وليقعد فِي بَيته) صَرِيح على أَن كل
هَذِه الْأَشْيَاء عذر فِي التخليف عَن الْجَمَاعَة،
وَأَيْضًا هَهُنَا عِلَّتَانِ: إِحْدَاهمَا: أَذَى
الْمُسلمين. وَالثَّانيَِة: أَذَى الْمَلَائِكَة، فبالنظر
إِلَى الْعلَّة الأولى يعْذر فِي ترك الْجَمَاعَة وَحُضُور
الْمَسْجِد، وبالنظر إِلَى الثَّانِيَة يعْذر فِي ترك
حُضُور الْمَسْجِد، وَلَو كَانَ وَحده. وَمِنْه: مَا
اسْتدلَّ بِهِ الْمُهلب، وَهُوَ قَوْله: (فَإِنِّي
أُنَاجِي من لَا تناجي) : على أَن الْمَلَائِكَة أفضل من
الْبشر، وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح، لِأَنَّهُ لَا يلْزم من
تَفْضِيل بعض أَفْرَاد الشَّيْء على بعضه تَفْضِيل
الْجِنْس على الْجِنْس، وَقد علم فِي مَوْضِعه. وَمِنْه:
مَا اسْتدلَّ بِهِ بَعضهم على أَن أكل الثوم وَنَحْوه
كَانَ حَرَامًا على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَلَيْسَ ذَلِك بِصَحِيح، لِأَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم فِي حَدِيث أبي أَيُّوب الْمَذْكُور: (وَلَيْسَ
بِمحرم) ، يدل بِعُمُومِهِ على عدم التَّحْرِيم مُطلقًا.
وَقَالَ أحْمَدُ بنُ صَالِحٍ عنِ ابنِ وَهْبٍ أُتِيَ
بِبَدْرٍ قَالَ ابنُ وَهَبٍ يعْنِي طَبَقا فِيهِ خَضِرَات
(6/148)
ٌ ولَمْ يَذْكُرُ اللَّيْثُ وأبُو صَفْوَان
عنْ يُونُسَ قِصَّةَ القدْرِ فَلاَ أدْرِي هُوَ مِنْ
قَوْلِ الزْهْرِيِّ أوْ فِي الحَدِيثَ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن أَحْمد بن صَالح الْمصْرِيّ
وَهُوَ أحد مشايخه، وَمن الْأَفْرَاد قد خَالف سعيد بن
عفير شَيْخه الَّذِي روى عَنهُ الحَدِيث الْمَذْكُور فِي
لَفظه: قدر، بِالْقَافِ حَيْثُ روى عَن عبد الله بن وهب،
وَقَالَ: أُتِي ببدر، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة
وَسُكُون الدَّال وَفِي آخِره رَاء، ومخالفته إِيَّاه فِي
هَذِه اللَّفْظَة فَقَط، وَوَافَقَهُ فِي بَقِيَّة
الحَدِيث عَن ابْن وهب.
وَقد أخرجه البُخَارِيّ فِي الِاعْتِصَام وَقَالَ: حَدثنَا
أَحْمد بن صَالح، وَذكر قَول ابْن وهب يَعْنِي طبقًا فِيهِ
خضرات وَكَذَا أخرجه أَبُو دَاوُد، وَلَكِن أخر تَفْسِير
ابْن وهب، فَذكره بعد فرَاغ الحَدِيث. وَقَالَ: حَدثنَا
أَحْمد بن صَالح، قَالَ: حَدثنَا ابْن وهب، قَالَ:
أَخْبرنِي يُونُس عَن ابْن شهَاب، قَالَ: حَدثنِي عَطاء بن
أبي رَبَاح أَن جَابر بن عبد الله، قَالَ: إِن رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (من أكل ثوما أَو بصلاً
فليعتزلنا، أَو فليعتزل مَسْجِدنَا، أَو ليقعد فِي بَيته،
وَأَنه أَتَى ببدر فِيهِ خضرات من الْبُقُول فَوجدَ لَهَا
ريحًا، فَسَأَلَ، فَأخْبر بِمَا فِيهَا من الْبُقُول،
فَقَالَ: قربوها، إِلَى بعض أَصْحَابه كَانَ مَعَه،
فَلَمَّا رَآهُ كره أكلهَا، قَالَ: فَإِنِّي أُنَاجِي من
لَا تناجي) ، قَالَ أَحْمد ابْن صَالح: ببدر، وَفَسرهُ
ابْن وهب: بطبق. انْتهى. وَرجح جمَاعَة من الشُّرَّاح
رِوَايَة أَحْمد بن صَالح لكَون عبد الله بن وهب فسر
الْبَدْر بالطبق، فَدلَّ على أَنه حدث بِهِ كَذَلِك، وَزعم
بَعضهم أَن لَفْظَة: بِقدر، بِالْقَافِ تَصْحِيف،
لِأَنَّهَا تشعر بالطبخ، وَقد ورد الْإِذْن بِأَكْل
الْبُقُول مطبوخة، بِخِلَاف الطَّبَق فَظَاهره أَن
الْبُقُول كَانَت فِيهِ نِيَّة. قلت: أخرجه مُسلم عَن أبي
الطَّاهِر وحرملة، كِلَاهُمَا عَن ابْن وهب، فَقَالَ:
بِقدر، بِالْقَافِ وَالِاسْتِدْلَال على التَّصْحِيف
بِلَفْظ: الطَّبَق، لَا يتم لِأَنَّهُ يُمكن أَن مَا كَانَ
فِيهِ كَانَ مطبوخا، فَإِنَّهُ لَا مَانع من ذَلِك.
فَافْهَم. وَسمي الطَّبَق بالبدر لاستدارته، تَشْبِيها
بالقمر عِنْد كَمَاله.
قَوْله: (وَلم يذكر اللَّيْث وَأَبُو صَفْوَان عَن يُونُس
قصَّة الْقدر) أَشَارَ بِهَذَا إِلَى أَن اللَّيْث بن سعد
وَأَبا صَفْوَان عبد الله بن سعيد بن عبد الله بن مَرْوَان
الْأمَوِي رويا هَذَا الحَدِيث عَن يُونُس بن يزِيد عَن
عَطاء عَن جَابر، وَلم يذكرَا قصَّة الْقدر، وَأما
رِوَايَة اللَّيْث فَإِن الذهلي وَصلهَا فِي (الزهريات)
وَأما رِوَايَة أبي صَفْوَان فوصلها البُخَارِيّ فِي
الْأَطْعِمَة عَن عَليّ بن الْمَدِينِيّ عَنهُ، واقتصرا
على الحَدِيث الأول. قَوْله: (وَلَا أَدْرِي) هُوَ من قَول
الزُّهْرِيّ، أَو فِي الحَدِيث، أَشَارَ بِهَذَا الْكَلَام
إِلَى أَن ذكر قصَّة الْقدر هَل هُوَ من قَول الزُّهْرِيّ،
بِأَن يكون مدرجا؟ أَو هُوَ مَرْوِيّ فِي الحَدِيث
الْمَذْكُور؟ وَقَالَ الْكرْمَانِي: لفظ: (لَا أَدْرِي)
يحْتَمل أَن يكون قَول ابْن وهب أَو البُخَارِيّ أَو سعيد
بن عفير شيخ البُخَارِيّ. وَقَالَ بَعضهم: هُوَ كَلَام
البُخَارِيّ، وَوهم من زعم أَنه كَلَام أَحْمد بن صَالح.
قلت: إِن كَانَ مُرَاده من هَذَا الزاعم هُوَ الْكرْمَانِي
فَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن الْكرْمَانِي ردد فِي القَوْل
بَين الثَّلَاثَة الْمَذْكُورين، وَلم يذكر أَحْمد بن
صَالح إلاّ عِنْد قَوْله: وَلم يذكر، قَالَ: وَلَعَلَّه
قَول أَحْمد، وَإِن كَانَ مُرَاده غير الْكرْمَانِي من
الشُّرَّاح فَهُوَ مَحل الِاحْتِمَال، وَلَيْسَ مَحل
الزَّعْم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا معنى
كَونه قَول الزُّهْرِيّ: أَو كَونه فِي الحَدِيث؟ قلت:
مَعْنَاهُ أَن الزُّهْرِيّ نَقله مُرْسلا عَن النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلِهَذَا لم يروه يُونُس عَن
اللَّيْث وَأبي صَفْوَان، أَو مُسْندًا كَمَا فِي
الحَدِيث، وَلِهَذَا نَقله ابْن وهب عَن يُونُس عَن
الزُّهْرِيّ.
856 - حدَّثنا أبُو مَعْمَرٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوَارِثِ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ سألَ رَجُلٌ أنسا
مَا سَمِعْتَ نَبِيَّ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
يَقُولُ فِي الثُّومِ فَقَالَ قَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم منْ أكَلَ مِنْ هاذِهِ الشَّجَرَةِ فَلاَ
يَقْرَبَنَّ أوْ لاَ يُصَلِّيَنَّ مَعَنَا. (الحَدِيث 856
طرفه فِي: 5451) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَبُو معمر، بِفَتْح
الميمين: عبد الله بن عَمْرو بن أبي الْحجَّاج المقعد
الْبَصْرِيّ. الثَّانِي: عبد الْوَارِث بن سعيد
الْعَنْبَري الْبَصْرِيّ. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن
صُهَيْب الْبنانِيّ الْبَصْرِيّ. الرَّابِع: أنس بن مَالك،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:
السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل
(6/149)
فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رِجَاله كلهم بصريون.
وَفِيه: ذكر رجل لم يعرف اسْمه.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَطْعِمَة عَن مُسَدّد.
وَأخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن شَيبَان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مَا سَمِعت؟) بِلَفْظ الْخطاب،
وَكلمَة: مَا، استفهامية. قَوْله: (يَقُول فِي الثوم)
ويروى: (يذكر فِي الثوم) . قَوْله: (هَذِه الشَّجَرَة) ،
قد ذكرنَا وَجه إِطْلَاق الشَّجَرَة على الثوم. قَوْله:
(فَلَا يقربن) ، بِفَتْح الرَّاء وَالْبَاء الْمُوَحدَة
وبنون التَّأْكِيد الْمُشَدّدَة. قَوْله: (وَلَا يصلين) ،
عطف عَلَيْهِ بنُون التَّأْكِيد الْمُشَدّدَة أَيْضا.
قَوْله: (مَعنا) ، بِسُكُون الْعين وَفتحهَا، وَمَعْنَاهُ
مصاحبا لنا.
وَيُسْتَفَاد مِنْهُ: أَن آكل الثوم لَا يقرب أحدا حَتَّى
لَا يتَأَذَّى برائحته، سَوَاء فِي الصَّلَاة أَو
خَارِجهَا. وَيُسْتَفَاد من قَوْله: (وَلَا يصلين مَعنا)
جَوَاز ترك الْجَمَاعَة فِي الْمَسْجِد وَغَيره، وَلَيْسَ
فِيهِ تَقْيِيد النَّهْي بِالْمَسْجِدِ، وَلَا تَخْصِيص
مَسْجِد النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك. |