عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 71 - (بابُ صلاَةِ القاعِدِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَلَاة الْقَاعِد،
وَإِنَّمَا أطلق التَّرْجَمَة لتتناول صَلَاة المتنفل
قَاعِدا لعذر ولغير عذر، وَصَلَاة المفترض عِنْد الْعَجز،
وَسَوَاء كَانَ الْمُصَلِّي، إِمَامًا أَو مَأْمُوما أَو
مُنْفَردا.
3111 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ عنْ مالِكٍ عنْ
هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهَا أنَّهَا قالَتْ صلَّى رسولُ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بَيْتِهِ وَهْوَ شاكٍ فَصَلَّى
جالِسا وصَلَّى وَرَاءَهُ قَوْمٌ قِيَاما فأشَارَ
إلَيْهِمْ أنِ اجْلِسُوا فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ إنَّمَا
جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فإذَا رَكَعَ فارْكَعُوا
وإذَا رَفَعَ فارْفَعُوا.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، والْحَدِيث بِهَذَا
الْإِسْنَاد قد مر فِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم
بِهِ، غير أَنه أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن يُوسُف عَن
مَالك، وَهَهُنَا: عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن مَالك،
وَهُنَاكَ بعد قَوْله: (فارفعوا، وَإِذا قَالَ: سمع الله
لمن حَمده، فَقولُوا: رَبنَا وَلَك الْحَمد، وَإِذا صلى
جَالِسا فصلوا جُلُوسًا أَجْمَعُونَ.
قَوْله: (وَهُوَ شَاك) ، جملَة حَالية أَي: وَهُوَ مَرِيض
كَأَنَّهُ يشكو عَن مزاجه أَنه انحرف عَن الِاعْتِدَال،
وَلَفظ: شَاك، بِالتَّنْوِينِ أَصله: شاكي، فأعل إعلال:
قاضٍ، وَقد اسْتَوْفَيْنَا الْكَلَام هُنَاكَ.
4111 - حدَّثنا أبُو نُعَيْمٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ
عُيَيْنَةَ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ أنَسٍ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ قَالَ سقَطَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم مِنْ فَرَسٍ فَخُدِشَ أوْ فَجُحِشَ شِقُّهُ
الأيْمَنُ فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ فَحَضَرَتِ
الصَّلاَةُ فَصَلَّى قاعِدا فَصَلَّيْنَا قُعُودا وَقَالَ
إنَّمَا جُعِلَ الإمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فإذَا كَبَّرَ
فَكَبِّرُوا وَإذَا رَفَعَ فَارْفَعُوا وَإذَا قَالَ
سَمِعَ الله لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا رَبَّنَا ولَكَ
الحَمْدُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأَبُو نعيم الْفضل بن
دُكَيْن وَابْن عُيَيْنَة هُوَ سُفْيَان، وَالزهْرِيّ هُوَ
مُحَمَّد بن مُسلم. وَأخرج البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث
أَيْضا فِي: بَاب إِنَّمَا جعل الإِمَام ليؤتم بِهِ، عَن
عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن أنس،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً. قَوْله: (فَخدش) ، بِضَم
الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره شين. قَوْله: (أَو فجحش)
، شكّ من الرَّاوِي بِضَم الْجِيم وَكسر الْحَاء
الْمُهْملَة وَفِي آخِره شين مُعْجمَة، ومعناهما وَاحِد.
قَالَ ابْن الْأَثِير: فجحش، أَي: انخدش جلده، وانسجح وخدش
الْجلد قشره بِعُود، خدشه يخدشه خدشا وخدوشا.
5111 - حدَّثنا إسْحَاقُ بنُ مَنْصُورٍ قَالَ أخبرنَا
رَوْحُ بنُ عُبَادَةَ قَالَ أخبرنَا حُسَيْنٌ عنْ عَبْدِ
الله بنِ بُرَيْدَةَ عنْ عِمْرَانَ بنِ حُصَيْنٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ أنَّهُ سألَ نَبيَّ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم (ح) أخبرنَا إسْحَاقُ قَالَ أخبرنَا عبْدُ
الصَّمَدِ. قَالَ سَمِعْتُ أبي قالَ حدَّثنا الحُسَيْنُ
عنْ ابْن بُرَيْدَةَ قَالَ حدَّثني عِمْرَانُ بنُ حُصَيْنٍ
وكانَ مَبْسُورا قَالَ سألْتُ رسولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَنْ صَلاَةِ الرَّجُلِ قَاعِدا فقالَ إنْ
صَلَّى
(7/157)
قائِما فَهْوَ أفْضَلُ ومَنْ صَلَّى قاعِدا
فَلَهُ نِصْفُ أجْرِ القَائِمِ وَمَنْ صَلَّى نائِما
فَلَهُ نِصْفُ أجْرِ القَاعِدَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم ثَمَانِيَة: الأول: إِسْحَاق بن مَنْصُور
بن بهْرَام الكوسج أَبُو يَعْقُوب. الثَّانِي: روح،
بِفَتْح الرَّاء: ابْن عبَادَة، بِضَم الْعين وَتَخْفِيف
الْبَاء الْمُوَحدَة، مر فِي: بَاب اتِّبَاع الْجَنَائِز
من الْإِيمَان. الثَّالِث: حُسَيْن ابْن ذكْوَان الْمعلم.
الرَّابِع: عبد الله بن بُرَيْدَة، بِضَم الْبَاء
الْمُوَحدَة: ابْن حصيب، مر فِي آخر كتاب الْحيض.
الْخَامِس: إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم، نَص عَلَيْهِ
الكلاباذي والمزي فِي (الْأَطْرَاف) وَلَيْسَ هَذَا
بِإسْحَاق بن مَنْصُور الَّذِي مر فِي أول الْإِسْنَاد
كَمَا زَعمه بَعضهم. السَّادِس: عبد الصَّمد بن عبد
الْوَارِث. السَّابِع: أَبوهُ عبد الْوَارِث بن سعيد
التنوري. الثَّامِن: عمرَان بن حُصَيْن.
ذكر لطائف إِسْنَاده فِي طريقي الحَدِيث فِيهِ: التحديث
بِصِيغَة الْجمع فِي خَمْسَة مَوَاضِع والإخبار كَذَلِك
فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: السُّؤَال فِي
موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: أَن شَيْخه مروزي ثمَّ
انْتقل إِلَى نيسابور وَابْن بُرَيْدَة أَيْضا مروزي
وَهُوَ قَاضِي مرو. وَفِيه: الْبَقِيَّة بصريون. وَفِيه:
إسحاقان أَحدهمَا مَذْكُور بنسبته إِلَى أَبِيه وَالْآخر،
بِلَا نِسْبَة. وَفِيه: حُسَيْن بِلَا نِسْبَة فِي
الْمَوْضِعَيْنِ، ذكر الأول بِدُونِ الْألف وَاللَّام،
وَالثَّانِي بِالْألف وَاللَّام، وهما للمح الوصفية كَمَا
فِي الْعَبَّاس، لِأَن الْأَعْلَام لَا يدْخل فِيهَا
الْألف وَاللَّام. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن الْأَب.
وَفِي الطَّرِيق الثَّانِي: وَحدثنَا إِسْحَاق: أخبرنَا
عبد الصَّمد، هَكَذَا هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي
رِوَايَة الْكشميهني: وَزَاد إِسْحَاق أخبرنَا عبد
الصَّمد. وَفِيه: حَدثنَا عمرَان بن حُصَيْن. وَفِيه:
التَّصْرِيح بِسَمَاع عبد الله بن بُرَيْدَة عَن عمرَان.
وَفِيه: اسْتغْنَاء عَن تكلّف ابْن حبَان فِيهِ حَيْثُ
قَالَ فِي (صَحِيحه) : هَذَا إِسْنَاد قد توهم من لم يحكم
صناعَة الْأَخْبَار وَلَا تفقه فِي صَحِيح الْآثَار أَنه
مُنْفَصِل غير مُتَّصِل، وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن عبد الله
بن بُرَيْدَة ولد فِي السّنة الثَّالِثَة من خلَافَة عمر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَلَمَّا وَقعت فتْنَة
عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، خرج بُرَيْدَة
بابنيه وهما: عبد الله وَسليمَان، وَسكن الْبَصْرَة،
وَبهَا إِذْ ذَاك عمرَان بن حُصَيْن وَسمرَة بن جُنْدُب
فَسمع مِنْهُمَا.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرج البُخَارِيّ
هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب عَن إِسْحَاق بن
مَنْصُور، وَفِي الْبَاب الَّذِي يَلِيهِ عَن أبي معمر،
وَفِي الْبَاب الَّذِي يَلِي الْبَاب الثَّانِي: عَن
عَبْدَانِ. وَأخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا مُسَدّد حَدثنَا
يحيى عَن حُسَيْن الْمعلم عَن عبد الله بن بريد (عَن
عمرَان بن حُصَيْن: أَنه سَأَلَ النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن صَلَاة الرجل قَاعِدا؟ فَقَالَ:
(صلَاته قَائِما أفضل من صلَاته قَاعِدا، وَصلَاته قَاعِدا
على النّصْف من صلَاته قَائِما، وَصلَاته نَائِما على
النّصْف من صلَاته قَاعِدا) . حَدثنَا مُحَمَّد بن
سُلَيْمَان الْأَنْبَارِي حَدثنَا وَكِيع عَن إِبْرَاهِيم
بن طهْمَان عَن حُسَيْن الْمعلم عَن ابْن بُرَيْدَة (عَن
عمرَان بن حُصَيْن قَالَ: كَانَ بِي الْبَاسُور، فَسَأَلت
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: صل قَائِما
فَإِن لم تستطع فقاعدا، فَإِن لم تستطع فعلى الْجنب) .
وَأخرجه التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا عَليّ بن حجر أخبرنَا
عِيسَى بن يُونُس حَدثنَا الْحُسَيْن الْمعلم عَن عبد الله
بن بُرَيْدَة (عَن عمرَان بن حُصَيْن قَالَ: سَأَلت رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَلَاة الرجل وَهُوَ
قَاعد؟ قَالَ: من صلاهَا قَائِما فَهُوَ أفضل، وَمن صلاهَا
قَاعِدا فَلهُ نصف أجر الْقَائِم، وَمن صلاهَا نَائِما
فَلهُ نصف أجر الْقَاعِد) . قَالَ التِّرْمِذِيّ: وَقد روى
هَذَا الحَدِيث عَن إِبْرَاهِيم بن طهْمَان بِهَذَا
الْإِسْنَاد، إلاّ أَنه يَقُول: (عَن عمرَان بن حُصَيْن،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سَأَلت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَن صَلَاة الْمَرِيض؟ فَقَالَ: صل
قَائِما، فَإِن لم تستطع فقاعدا، فَإِن لم تستطع فعلى جنب)
. حَدثنَا بذلك هناد حَدثنَا وَكِيع عَن إِبْرَاهِيم بن
طهْمَان عَن حُسَيْن الْمعلم بِهَذَا الحَدِيث. وَأخرجه
النَّسَائِيّ: حَدثنَا حميد بن مسْعدَة عَن سُفْيَان
وَهُوَ ابْن حبيب عَن حُسَيْن بن ذكْوَان الْمعلم عَن عبد
الله ابْن بُرَيْدَة (عَن عمرَان بن حُصَيْن، قَالَ:
سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الَّذِي
يُصَلِّي قَاعِدا؟ فَقَالَ: من صلى قَائِما فَهُوَ أفضل،
وَمن صلى قَاعِدا فَلهُ نصف أجر الْقَائِم، وَمن صلى
نَائِما فَلهُ نصف أجر الْقَاعِد) . وَأخرجه ابْن مَاجَه:
حَدثنَا عَليّ بن مُحَمَّد، قَالَ: حَدثنَا وَكِيع عَن
إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن حُسَيْن الْمعلم عَن ابْن
بُرَيْدَة (عَن عمرَان بن الْحصين، قَالَ: كَانَ بِي
الْبَاسُور فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن
الصَّلَاة؟ فَقَالَ: صل قَائِما فَإِن لم تستطع فقاعدا
فَإِن لم تستطع فعلى الْجنب) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَحدثنَا إِسْحَاق) ، هَكَذَا فِي
هُوَ رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني:
وَزَاد إِسْحَاق أخبرنَا عبد الصَّمد. قَوْله: (حَدثنَا
عمرَان) ، يُصَرح بِسَمَاع عبد الله بن بُرَيْدَة عَن
عمرَان، وَفِيه اكْتِفَاء عَن تكلّف ابْن حبَان فِي
إِقَامَة
(7/158)
الدَّلِيل على أَن عبد الله بن بُرَيْدَة
عاصر عمرَان، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. قَوْله: (وَكَانَ
ميسورا) ، بِسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا سين
مُهْملَة، أَي: كَانَ معلولاً بالباسور، وَهُوَ عِلّة تحدث
فِي المقعدة. وَفِي (التَّلْوِيح) : الْبَاسُور، بِالْبَاء
الْمُوَحدَة مثل: الناسور بالنُّون، وَهُوَ الْجرْح الفاذ،
أعجمي، يُقَال: تنسر الْجرْح تنفض وانتشرت مدَّته،
وَيُقَال: ناسور وناصور عربيان، وَهُوَ القرحة الْفَاسِدَة
الْبَاطِن الَّتِي لَا تقبل الْبُرْء مَا دَامَ فِيهَا
ذَلِك الْفساد، حَيْثُ كَانَت فِي الْبدن، فَأَما
الْبَاسُور بِالْبَاء الْمُوَحدَة فَهُوَ ورم المقعدة
وباطن الْأنف. قلت: الْبَاسُور وَاحِد البواسير، وَهُوَ
فِي عرف الْأَطِبَّاء نفاطات تحدث على نفس المقعدة ينزل
مِنْهَا كل وَقت مَادَّة. قَوْله: (قَاعِدا) فِي
الْمَوْضِعَيْنِ، (وَقَائِمًا) و (نَائِما) : أَحْوَال.
قَوْله: (وَمن صلى نَائِما) بالنُّون من النّوم أَي:
مُضْطَجعا على هَيْئَة النَّائِم، يدل عَلَيْهِ قَوْله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم: (فَإِن لم تستطع فعلى جنب) ، وَترْجم
لَهُ النَّسَائِيّ: بَاب صَلَاة النَّائِم، وَيدل عَلَيْهِ
أَيْضا مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) : حَدثنَا عبد
الْوَهَّاب الْخفاف عَن سعيد عَن حُسَيْن الْمعلم، قَالَ:
وَقد سمعته عَن حُسَيْن عَن عبد الله ابْن بُرَيْدَة (عَن
عمرَان بن حُصَيْن، قَالَ: كنت رجلا ذَا أسقام كَثِيرَة،
فَسَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن صَلَاتي
قَاعِدا؟ فَقَالَ: صَلَاتك قَاعِدا على النّصْف من صَلَاتك
قَائِما، وَصَلَاة الرجل مُضْطَجعا على النّصْف من صلَاته
قَاعِدا) انْتهى. هَذَا يُفَسر أَن معنى قَوْله: (نَائِما)
بالنُّون يَعْنِي: مُضْطَجعا، وَأَنه فِي حق من بِهِ سقم
بِدلَالَة قَوْله: (كنت رجلا ذَا أسقام كَثِيرَة) ، وَأَن
ثَوَاب من يُصَلِّي قَاعِدا نصف ثَوَاب من يُصَلِّي
قَائِما، وثواب من يُصَلِّي مُضْطَجعا نصف ثَوَاب من
يُصَلِّي قَاعِدا. وَقَالَ الْخطابِيّ: وَأما قَوْله:
(وَمن صلى نَائِما فَلهُ نصف أجر الْقَاعِد) ، فَإِنِّي
لَا أعلم أَنِّي سمعته إلاّ فِي هَذَا الحَدِيث، وَلَا
أحفظ من أحد من أهل الْعلم أَنه رخص فِي صَلَاة
التَّطَوُّع نَائِما، كَمَا رخصوا فِيهَا قَاعِدا، فَإِن
صحت هَذِه اللَّفْظَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَلم يكن من كَلَام بعض الروَاة أدرجه فِي الحَدِيث
وقاسه على صَلَاة الْقَاعِد أَو اعْتَبرهُ بِصَلَاة
الْمَرِيض نَائِما إِذا لم يقدر على الْقعُود، فَإِن
التَّطَوُّع مُضْطَجعا للقادر على الْقعُود جَائِز، كَمَا
يجوز أَيْضا للْمُسَافِر إِذا تطوع على رَاحِلَته، فَأَما
من جِهَة الْقيَاس فَلَا يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي
مُضْطَجعا، كَمَا يجوز لَهُ أَن يُصَلِّي قَاعِدا، لِأَن
الْقعُود شكل من أشكال الصَّلَاة وَلَيْسَ الِاضْطِجَاع
فِي شَيْء من أشكال الصَّلَاة، وَادّعى ابْن بطال أَن
الرِّوَايَة: (من صلى بإيماء) ، على أَنه جَار ومجرور
وَأَن الْمَجْرُور مصدر: أَوْمَأ، قَالَ: وَقد غلط
النَّسَائِيّ فِي حَدِيث عمرَان بن حُصَيْن وصحفه وَترْجم
لَهُ: بَاب صَلَاة النَّائِم، فَظن أَن قَوْله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (من صلى بإيماء) ، إِنَّمَا هُوَ من صلى
نَائِما. قَالَ: والغلط فِيهِ ظَاهر لِأَنَّهُ قد ثَبت عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه أَمر الْمُصَلِّي
إِذا غَلبه النّوم أَن يقطع الصَّلَاة ثمَّ بَين صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم معنى ذَلِك، فَقَالَ: (لَعَلَّه لم
يسْتَغْفر فيسب نَفسه) ، فَكيف يَأْمُرهُ بِقطع الصَّلَاة
وَهِي مُبَاحَة لَهُ؟ وَله عَلَيْهَا نصف أجر الْقَاعِد؟
قَالَ: وَالصَّلَاة لَهَا ثَلَاثَة أَحْوَال: أَولهَا
الْقيام، فَإِن عجز عَنهُ فالقعود، ثمَّ إِن عجز عَنهُ
فالإيماء، وَلَيْسَ النّوم من أَحْوَال الصَّلَاة. انْتهى.
وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: أما نفي الْخطابِيّ وَابْن
بطال للْخلاف فِي صِحَة التَّطَوُّع مُضْطَجعا للقادر
فمردود، فَإِن فِي مَذْهَبنَا وَجْهَيْن: الْأَصَح
مِنْهُمَا الصِّحَّة، وَعند الْمَالِكِيَّة فِيهِ ثَلَاثَة
أوجه حَكَاهَا القَاضِي عِيَاض فِي (الْإِكْمَال) :
أَحدهَا الْجَوَاز مُطلقًا فِي الاضطراار، وَالِاخْتِيَار
للصحيح وَالْمَرِيض لظَاهِر الحَدِيث، وَهُوَ الَّذِي صدر
بِهِ القَاضِي كَلَامه. وَالثَّانِي: مَنعه مُطلقًا لَهما،
إِذْ لَيْسَ فِي هَيْئَة الصَّلَاة. وَالثَّالِث:
إِجَازَته لعدم قُوَّة الْمَرِيض فَقَط، وَقد روى
التِّرْمِذِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ
جَوَازه حَيْثُ قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بشار حَدثنَا
ابْن أبي عدي عَن أَشْعَث بن عبد الْملك (عَن الْحسن،
قَالَ: إِن شَاءَ الرجل صلى صَلَاة التَّطَوُّع قَائِما
أَو جَالِسا أَو مُضْطَجعا) فَكيف يَدعِي مَعَ هَذَا
الْخلاف الْقَدِيم والْحَدِيث الِاتِّفَاق؟ وَأما مَا
ادَّعَاهُ ابْن بطال عَن النَّسَائِيّ من أَنه صحفه
فَقَالَ: نَائِما، وَإِنَّمَا الرِّوَايَة: بإيماء، على
الْجَار وَالْمَجْرُور، فَلَعَلَّ التَّصْحِيف من ابْن
بطال: وَإِنَّمَا أَلْجَأَهُ إِلَى ذَلِك حمل قَوْله:
(نَائِما) على النّوم حَقِيقَة الَّذِي أَمر الْمُصَلِّي
إِذا وجده أَن يقطع الصَّلَاة، وَلَيْسَ المُرَاد هَهُنَا
إلاّ الِاضْطِجَاع لمشابهته لهيئة النَّائِم، وَحكى
القَاضِي عِيَاض فِي الْإِكْمَال) : أَن فِي بعض
الرِّوَايَات: مُضْطَجعا، مَكَان: نَائِما، وَبِه فسره
أَحْمد بن خَالِد الْوَهْبِي، فَقَالَ: نَائِما، يَعْنِي:
مُضْطَجعا. وَقَالَ شَيخنَا: وَبِه فسره البُخَارِيّ فِي
(صَحِيحه) فَقَالَ، بعد إِيرَاده للْحَدِيث: قَالَ أَبُو
عبد الله: نَائِما عِنْدِي مُضْطَجعا، وَقَالَ أَيْضا:
وَقد بوب عَلَيْهِ النَّسَائِيّ: فضل صَلَاة الْقَاعِد على
النَّائِم، وَلم أر فِيهِ: بَاب صَلَاة النَّائِم، كَمَا
نَقله ابْن بطال.
ذكر مَا يستنبط مِنْهُ: قَالَ التِّرْمِذِيّ: هَذَا
الحَدِيث مَحْمُول عِنْد بعض أهل الْعلم على صَلَاة
التَّطَوُّع قلت: كَذَلِك
(7/159)
حمله أَصْحَابنَا على صَلَاة النَّفْل
حَتَّى استدلوا بِهِ فِي جَوَاز صَلَاة النَّفْل قَاعِدا
مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام، وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة)
: وَتصلي النَّافِلَة قَاعِدا مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام
لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (صَلَاة الْقَاعِد على
النّصْف من صَلَاة الْقَائِم) ، وَحكي عَن الْبَاجِيّ من
أَئِمَّة الْمَالِكِيَّة أَنه حمله على الْمُصَلِّي
فَرِيضَة لعذر أَو نَافِلَة لعذر أَو لغير عذر، وَقيل: فِي
حَدِيث عمرَان حجَّة على أبي حنيفَة من أَنه إِذا عجز عَن
الْقعُود سَقَطت الصَّلَاة، حَكَاهُ الْغَزالِيّ عَن أبي
حنيفَة فِي (الْوَسِيط) قلت: هَذَا لم يَصح وَلم ينْقل
هَذَا أحد من أَصْحَابنَا عَن أبي حنيفَة، وَلِهَذَا قَالَ
لرافعي: لَكِن هَذَا النَّقْل لَا يكَاد يلفي فِي كتبهمْ
وَلَا فِي كتب أَصْحَابنَا، وَإِنَّمَا الثَّابِت عَن أبي
حنيفَة إِسْقَاط الصَّلَاة إِذا عجز عَن الْإِيمَاء
بِالرَّأْسِ، وَاسْتدلَّ بِحَدِيث عمرَان من قَالَ: لَا
ينْتَقل الْمَرِيض بعد الْعَجز عَن الصَّلَاة على الْجنب
والإيماء بِالرَّأْسِ إِلَى فرض آخر من الْإِيمَاء بالطرف،
وَحكي ذَلِك عَن أبي حنيفَة وَمَالك إلاّ أَنَّهُمَا
اخْتلفَا، فَأَبُو حنيفَة يَقُول: يقْضِي بعد الْبُرْء،
وَمَالك يَقُول: لَا قَضَاء عَلَيْهِ. وَحكى صَاحب
(الْبَيَان) عَن بعض الشَّافِعِيَّة وَجها مثل مَذْهَب أبي
حنيفَة وَقَالَ جُمْهُور الشَّافِعِيَّة: إِن عجز عَن
الْإِشَارَة بِالرَّأْسِ أَوْمَأ بطرفه، فَإِن لم يقدر على
تَحْرِيك الأجفان أجْرى أَفعَال الصَّلَاة على لِسَانه،
فَإِن اعتقل لِسَانه أجْرى الْقُرْآن والأذكار على قلبه،
وَمَا دَامَ عَاقِلا لَا تسْقط عَنهُ الصَّلَاة، وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَقَالَ سُفْيَان الثَّوْريّ فِي هَذَا
الحَدِيث: (من صلى جَالِسا فَلهُ نصف أجر الْقَائِم) .
قَالَ: هَذَا للصحيح وَلمن لَيْسَ لَهُ عذر، فَأَما من
كَانَ لَهُ عذر من مرض أَو غَيره فصلى جَالِسا فَلهُ مثل
أجر الْقَائِم، وَقَالَ النَّوَوِيّ: إِذا صلى قَاعِدا
صَلَاة النَّفْل مَعَ الْقُدْرَة على الْقيام فَهَذَا لَهُ
نصف ثَوَاب الْقَائِم، وَأما إِذا صلى النَّفْل قَاعِدا
لعَجزه عَن الْقيام فَلَا ينقص ثَوَابه، بل يكون ثَوَابه
كثوابه قَائِما، وَأما الْفَرْض فَإِن صلَاته قَاعِدا مَعَ
الْقُدْرَة على الْقيام لَا تصح، فضلا عَن الثَّوَاب.
وَإِن صلى قَاعِدا لعَجزه عَن الْقيام أَو مُضْطَجعا
لعَجزه عَن الْقعُود، فثوابه كثوابه قَائِما لَا ينقص.
وَفِي (شرح التِّرْمِذِيّ) رَحمَه الله تَعَالَى: إِذا صلى
الْفَرْض قَاعِدا مَعَ قدرته على الْقيام لَا يَصح،
وَقَالَ أَصْحَابنَا وَفِيه: وَإِن استحله يكفر، وَجَرت
عَلَيْهِ أَحْكَام الْمُرْتَدين، كَمَا لَو اسْتحلَّ
الزِّنَا أَو الرِّبَا أَو غَيره من الْمُحرمَات الشائعة
التَّحْرِيم، وَالله المتعال وَإِلَيْهِ الْمَآل.
81 - (بابُ صَلاَةِ القَاعِدِ بِالإيمَاءِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم صَلَاة الْقَاعِد
بِالْإِيمَاءِ.
6111 - حدَّثنا أبُو مَعْمَر قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الوَارِثِ قَالَ حدَّثنا حُسَيْنٌ المُعَلِّمُ عنْ عَبْدِ
الله بنِ بُرَيْدَةَ أنَّ عِمْرَانَ بنَ حُصَيْنٍ وكانَ
رَجُلاً مَيْسُورا. وَقَالَ أبُو مَعْمَرٍ مَرَّةً عنْ
عِمْرَانَ. قَالَ سألْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
عنْ صَلاَةِ الرَّجُلِ وَهْوَ قاعِدٌ فَقَالَ منْ صَلَّى
قائِما فَهْوَ أفْضَلُ وَمَنْ صَلَّى قاعِدا فَلَهُ نِصْفُ
أجْرِ القَائِمِ ومَنْ صَلَّى نائِما فَلَهُ نِصْفُ أجْرِ
القَاعِدِ.
(أنظر الحَدِيث 5111 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّائِم لَا يقدر
على الْإِتْيَان بالأفعال، فَلَا بُد فِيهَا من
الْإِشَارَة إِلَيْهَا فالنوم بِمَعْنى الِاضْطِجَاع
كِنَايَة عَنْهَا. وَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: ترْجم
البُخَارِيّ بِصَلَاة الْقَاعِد بِالْإِيمَاءِ وَلم يَقع
فِي الحَدِيث إلاّ ذكر النّوم، فَكَأَنَّهُ صحف نَائِما من
النّوم، فَظَنهُ بإيماء الَّذِي هُوَ مصدر أَوْمَأ، ورد
عَلَيْهِ بِأَنَّهُ لم يصحف لِأَنَّهُ وَقع فِي رِوَايَة
كَرِيمَة وَغَيرهَا عقيب حَدِيث الْبَاب.
قَالَ أبُو عَبْدِ الله نائِما عِنْدِي مُضْطَجِعا هاهُنَا
قَالَ أَبُو عبد الله يَعْنِي: البُخَارِيّ نَفسه. قَوْله:
(نَائِما عِنْدِي) أَي: (مُضْطَجعا) وَزعم ابْن التِّين
أَن فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ (وَمن صلى بإيماء) ، فَلذَلِك
بوب البُخَارِيّ: بَاب صَلَاة الْقَاعِد بِالْإِيمَاءِ.
قلت: إِن صحت هَذِه الرِّوَايَة فالمطابقة بَين الحَدِيث
والترجمة ظَاهِرَة جدا فَلَا يحْتَاج إِلَى التَّكَلُّف
الْمَذْكُور، وَالْكَلَام فِيهِ قد مر. قَوْله: (وَهُوَ
قَاعد) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا، وَقَائِمًا ونائما
أَحْوَال.
(7/160)
91 - (بابٌ إِذا لَمْ يُطِقْ قَاعِدا
صَلَّى عَلَى جَنْبٍ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يطق الْمُصَلِّي أَن
يُصَلِّي قَاعِدا صلى على جنب.
وَقَالَ عَطَاءٌ إنْ لَمْ يَقْدِرْ أنْ يَتَحَوَّلَ إلَى
القِبْلَةِ صَلَّى حَيْثُ كَانَ وَجْهُهُ
مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن
الْعَاجِز عَن أَدَاء فرض ينْتَقل إِلَى فرض دونه، وَلَا
يتْرك، بَيَان ذَلِك أَن التَّرْجَمَة تدل على أَن
الْمُصَلِّي إِذا عجز عَن الصَّلَاة قَاعِدا يُصَلِّي على
جنبه، والأثر يدل على أَنه إِذا عجز عَن التَّحَوُّل إِلَى
الْقبْلَة يُصَلِّي إِلَى أَي جِهَة كَانَ وَجهه، وَأثر
عَطاء بن أبي رَبَاح هَذَا وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن
جريج عَنهُ بِمَعْنَاهُ، وَقَالَ بَعضهم: فِيهِ حجَّة على
من زعم أَن الْعَاجِز عَن الْقعُود فِي الصَّلَاة سَقَطت
عَنهُ الصَّلَاة، وَقد حَكَاهُ الْغَزالِيّ عَن أبي حنيفَة
قلت: لَيْسَ هَذَا بِأول مَا قَالَ الْغَزالِيّ فِي أبي
حنيفَة، وَهُوَ غير صَحِيح، وَلَا هُوَ مَنْقُول عَن أبي
حنيفَة، وَقد مر هَذَا عَن قريب.
7111 - حدَّثنا عَبْدَانُ عنْ عَبْدِ الله بنِ المُبَارَكِ
عنْ إبْرَاهِيمَ بنِ طَهْمَان قَالَ حدَّثني الحُسَيْنُ
المُكْتِبُ عنِ ابنِ بُرَيْدَةَ عَنْ عِمْرَانَ بنِ
حُصَيْنٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ كانَتْ بِي
بَوَاسِيرْ فسألْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنِ
الصَّلاَةِ فَقَالَ صَلِّ قائِما فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ
فَقَاعِدا فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ.
(أنظر الحَدِيث 5111 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَهُوَ الطَّرِيق
الثَّالِث لحَدِيث عمرَان، كَمَا ذكرنَا، وَهُوَ من
أَفْرَاد البُخَارِيّ، وعبدان لقب عبد الله ابْن عُثْمَان
الْمروزِي.
قَوْله: (عَن عبد الله بن الْمُبَارك) ، قد مر غير مرّة
وَلَيْسَ فِي رِوَايَة أبي زيد الْمروزِي. وَذكر ابْن
الْمُبَارك، وَالْمَذْكُور هُوَ: عبد الله بِلَا نِسْبَة.
قَوْله: (الْمكتب) ، اسْم فَاعل من التكتيب، وَهُوَ صفة
الْحُسَيْن بن ذكْوَان، وَقد مر ذكره فِي الْبَاب الَّذِي
قبله، وَلَكِن الْمَذْكُور هُنَاكَ: حُسَيْن الْمعلم،
لِأَنَّهُ مَشْهُور بالمكتب، والمعلم وَابْن بُرَيْدَة
هُوَ عبد الله، وَقد مر. قَوْله: (عَن الصَّلَاة) أَي: عَن
صَلَاة الَّذِي بِهِ عِلّة، وَفِي رِوَايَة وَكِيع: (عَن
إِبْرَاهِيم بن طهْمَان، سَأَلت عَن صَلَاة الْمَرِيض؟)
أخرجه التِّرْمِذِيّ وَغَيره. قَوْله: (فعلى جنب) ، أَي:
فعلى جَنْبك، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خَاطب
لعمران بقوله: (فَإِن لم تستطع) وَقَالَ أَولا فِي
جَوَابه: (صل قَائِما) ، وَلَكِن لم يبين فِيهِ على أَي
جنب، وَهُوَ بِظَاهِرِهِ يتَنَاوَل الْجنب الْأَيْمن
والأيسر، وَبِه جزم الرَّافِعِيّ، وَقَالَ: إلاّ أَنه لَو
اضْطجع على جنبه الْأَيْسَر ترك السّنة، وَكَأَنَّهُ
أَشَارَ بِهَذَا إِلَى مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من
حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَإِن لم يسْتَطع فعلى جنبه
الْأَيْمن مُسْتَقْبل الْقبْلَة بِوَجْهِهِ) ، الحَدِيث،
وَاسْتدلَّ بَعضهم على اسْتِحْبَاب كَونه على الْجنب
الْأَيْمن بِالْحَدِيثِ الصَّحِيح الْمُتَّفق عَلَيْهِ من
حَدِيث الْبَراء بن عَازِب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
قَالَ: (قَالَ لي رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
إِذا أتيت مضجعك فَتَوَضَّأ وضوءك للصَّلَاة ثمَّ اضْطجع
على شقك الْأَيْمن، وَقل: اللَّهُمَّ أسلمت نَفسِي
إِلَيْك. .) الحَدِيث. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه
الله، وَفِي قَوْله: (فَإِن لم يسْتَطع فعلى جنبه) حجَّة
لأصح الْوَجْهَيْنِ لِأَصْحَابِنَا أَو الْقَوْلَيْنِ
للشَّافِعِيّ أَنه: يضطجع على جنبه الْأَيْمن مُسْتَقْبل
الْقبْلَة، وَهُوَ قَول أَحْمد بن حَنْبَل، كَمَا يُوَجه
الْمَيِّت فِي اللَّحْد، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
فِي أثْنَاء حَدِيث الْبَيْت الْحَرَام: (قبلتكم أَحيَاء
وأمواتا) . وَالْوَجْه الثَّانِي: أَنه يستلقي على ظَهره
وَيجْعَل رجلَيْهِ إِلَى الْقبْلَة ويومىء بِالرُّكُوعِ
وَالسُّجُود إِلَى الْقبْلَة، وَهُوَ قَول أبي حنيفَة.
وَفِي الْمَسْأَلَة. وَجه ثَالِث، حَكَاهُ الرَّافِعِيّ
وَضَعفه، وَصفته: أَنه يضطجع على جنبه الْأَيْمن وأخمصاه
إِلَى الْقبْلَة. قلت: اخْتلفت الرِّوَايَات عَن
أَصْحَابنَا فِي الْقعُود إِذا عجز عَن الْقيام كَيفَ
يقْعد؟ فروى مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة أَنه إِذا افْتتح
الصَّلَاة يجلس كَيفَ مَا شَاءَ، وروى الْحسن عَن أبي
حنيفَة أَنه يتربع، وَإِذا ركع يفترش رجله الْيُسْرَى
وَيجْلس عَلَيْهَا، وَعَن أبي يُوسُف أَنه يتربع فِي
جَمِيع صلَاته، وَعَن زفر أَنه يفترش رجله الْيُسْرَى فِي
جَمِيع صلَاته، وَالصَّحِيح رِوَايَة مُحَمَّد لِأَن عذر
الْمَرَض يسْقط الْأَركان عَنهُ، فَلِأَن يسْقط عَنهُ
الهيئات أولى، وَيجْعَل سُجُوده أَخفض من رُكُوعه، وَلَا
يرفع إِلَى وَجهه شَيْئا يسْجد عَلَيْهِ، وَإِن فعل ذَلِك
وَهُوَ يخْفض رَأسه أَجزَأَهُ، وَيكون مسيئا. وَفِي
(الْيَنَابِيع) : إِن وجد مِنْهُ تَحْرِيك رَأسه يجوز
وإلاّ لَا، ثمَّ اخْتلفُوا: هَل يعد هَذَا سجودا أَو
إِيمَاء؟ قيل: هُوَ إِيمَاء وَهُوَ الْأَصَح، وَإِن لم
يسْتَطع الْقعُود
(7/161)
اسْتلْقى على ظَهره وَجعل رجلَيْهِ إِلَى
الْقبْلَة، وَأَوْمَأَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود. وَقَالَ
الشَّيْخ حميد الدّين الضريري، رَحمَه الله: تُوضَع
وسَادَة تَحت رَأسه حَتَّى يكون شبه الْقَاعِد ليتَمَكَّن
من الْإِيمَاء بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُود. إِذْ حَقِيقَة
الاستلقاء تمنع الأصحاء عَن الْإِيمَاء، فَكيف المرضى؟
وَاخْتلفت الرِّوَايَات عَن أَصْحَابنَا فِي كَيْفيَّة
الاستلقاء، فَفِي ظَاهر الرِّوَايَة يُصَلِّي مُسْتَلْقِيا
على قَفاهُ وَرجلَاهُ إِلَى الْقبْلَة، وروى ابْن كاس
عَنْهُم أَنه: يُصَلِّي على جنبه الْأَيْمن وَوَجهه إِلَى
الْقبْلَة، فَإِن عجز عَن ذَلِك اسْتلْقى على قَفاهُ
وَهُوَ قَول الشَّافِعِي، وَقَول مَالك وَأحمد كظاهر
الرِّوَايَة الْمَذْكُورَة.
02 - (بابٌ إذَا صَلَّى قاعِدا ثُمَّ صَحَّ أوْ وَجَدَ
خِفَّةً تَمَّمَ مَا بَقِيَ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا صلى شخص قَاعِدا لأجل
عَجزه عَن الْقيام ثمَّ صَحَّ فِي أثْنَاء صلَاته بِأَن
حصلت لَهُ عَافِيَة أَو وجد خفَّة فِي مَرضه بِحَيْثُ
إِنَّه قدر على الْقيام، تمم صلَاته وَلَا يسْتَأْنف فِي
الْوَجْهَيْنِ، وَهَذِه التَّرْجَمَة بِهَذَيْنِ
الْوَجْهَيْنِ أَعم، من أَن تكون فِي الْفَرِيضَة أَو
النَّفْل، لَا كَمَا قَالَه الْبَعْض: إِن قَوْله: ثمَّ
صَحَّ، يتَعَلَّق بالفريضة، وَقَوله: أَو وجد خفَّة
يتَعَلَّق بالنافلة، لِأَن هَذِه دَعْوَى بِلَا برهَان،
لِأَن الَّذِي حمله على هَذَا لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون
لبَيَان أَن حكم الْفَرْض فِي هَذَا خلاف حكم النَّفْل،
وَإِمَّا لأجل الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين
حَدِيثي الْبَاب، فَإِن كَانَ الْوَجْه الأول فَلَيْسَ
فِيهِ خلاف عِنْد الْجُمْهُور، مِنْهُم: أَبُو حنيفَة
وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو يُوسُف أَن الْمَرِيض إِذا
صلى قَاعِدا ثمَّ صَحَّ أَو وجد قُوَّة مِقْدَار مَا يقوم
بهَا على الْقيام فَإِنَّهُ يتم صلَاته قَائِما، خلافًا
لمُحَمد بن الْحسن فَإِنَّهُ قَالَ: يسْتَأْنف صلَاته.
فَإِن قلت: أَلَيْسَ هَذَا بِنَاء الْقوي على الضَّعِيف؟
قلت: لَا، لِأَن تحريمته لم تَنْعَقِد للْقِيَام لعدم
الْقُدْرَة عَلَيْهِ وَقت الشُّرُوع فِي الصَّلَاة، وَإِن
كَانَ الْوَجْه الثَّانِي فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى
التَّفْرِقَة لبَيَان وَجه الْمُطَابقَة بِأَن يُقَال: إِن
الشق الثَّانِي من التَّرْجَمَة يُطَابق حَدِيث الْبَاب،
لِأَنَّهُ فِي النَّفْل، وَيُؤْخَذ مَا يتَعَلَّق بالشق
الأول بِالْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَهَذَا كُله تعسف، وَمَا
أوقع الشُّرَّاح فِي هَذِه التعسفات إلاّ قَول ابْن بطال:
إِن هَذِه التَّرْجَمَة تتَعَلَّق بالفريضة، وَحَدِيث
عَائِشَة يتَعَلَّق بالنافلة، وَتَقْيِيد ابْن بطال
الْمُطلق بِلَا دَلِيل تحكم، بل التَّرْجَمَة على عمومها،
وَإِن كَانَ حَدِيث الْبَاب فِي النَّفْل، لأَنا قد ذكرنَا
غير مرّة أَن أدنى شَيْء يلائم بَين التَّرْجَمَة
والْحَدِيث كَاف، بَيَان ذَلِك أَن الْقيام فِي حق المتنفل
غير متأكد، وَله أَن يتْركهُ من غير عذر، وَالدَّلِيل
عَلَيْهِ مَا روته عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا:
(أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا
طَويلا قَائِما وَلَيْلَة طَوِيلَة قَاعِدا) ، رَوَاهُ
مُسلم وَالْأَرْبَعَة، وَفِي حق الْمَرِيض الْعَاجِز عَن
الْقيام يكون كَذَلِك لِأَن تحريمته لَا تَنْعَقِد لذَلِك،
كَمَا ذكرنَا، فَيكون المتنفل والمفترض الْعَاجِز سَوَاء
فِي ذَلِك، فتتناولهما التَّرْجَمَة من هَذِه
الْحَيْثِيَّة.
وَقَالَ الحسَنُ إنْ شاءَ المَرِيضُ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
قاعِدا ورَكْعَتَيْنِ قائِما
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، قَالَ بَعضهم: وَهَذَا الْأَثر
وَصله ابْن أبي شيبَة بِمَعْنَاهُ قلت: الَّذِي ذكره ابْن
أبي شيبَة لَيْسَ بِمَعْنَاهُ وَلَا قَرِيبا مِنْهُ
لِأَنَّهُ قَالَ: حَدثنَا هشيم عَن مُغيرَة وَعَن يُونُس
عَن الْحسن (أَنَّهُمَا قَالَا: يُصَلِّي الْمَرِيض على
الْحَالة الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا) انْتهى. وَمَعْنَاهُ:
إِن كَانَ عَاجِزا عَن الْقيام يُصَلِّي قَاعِدا، وَإِن
كَانَ عَاجِزا عَن الْقعُود يُصَلِّي على جنبه، كَمَا فِي
الحَدِيث الَّذِي رُوِيَ عَن عمرَان، وحالته لَا تَخْلُو
عَن ذَلِك، وَالَّذِي ذكره البُخَارِيّ عَنهُ هُوَ، أَن:
يُصَلِّي الْمَرِيض إِن شَاءَ رَكْعَتَيْنِ قَاعِدا
وَرَكْعَتَيْنِ قَائِما، فَالَّذِي يظْهر مِنْهُ أَنه إِذا
صلى رَكْعَتَيْنِ قَاعِدا لعَجزه عَن الْقيام، ثمَّ قدر
على الْقيام يُصَلِّي الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ
بَقِيَتَا قَائِما، وَلَا يسْتَأْنف صلَاته. فَحِينَئِذٍ
تظهر الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين هَذَا
الْأَثر. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هَذَا
التَّعْلِيق، يَعْنِي الَّذِي ذكره عَن الْحسن، رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ فِي (جَامعه) : عَن مُحَمَّد بن بشار
حَدثنَا ابْن أبي عدي عَن أَشْعَث بن عبد الْملك عَن
الْحسن: إِن شَاءَ الرجل صلى صَلَاة التَّطَوُّع قَائِما
وجالسا ومضطجعا. انْتهى. قلت: هَذَا أَيْضا غير قريب
مِمَّا ذكره البُخَارِيّ، وَلَا يخفى ذَلِك على المتأمل.
8111 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عَنْ أبِيهِ عنْ عائِشَةَ
أمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهَا
أخْبَرَتْهُ أنَّهَا لَمْ تَرَ رَسُولَ الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي صَلاَةَ اللَّيْلِ قاعِدا قَط
(7/162)
حَتَّى أسَنَّ فَكَانَ يَقْرأ قاعِدا
حَتَّى إذَا أرَادَ أنْ يَرْكَعَ قامَ فَقَرَأَ نَحْوا
مِنْ ثَلاَثِينَ آيَةً أوْ أرْبَعِينَ آيَةً ثُمَّ
رَكَعَ..
وَجه الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة، والْحَدِيث قد
ذَكرْنَاهُ، والْحَدِيث أخرجه أَبُو دَاوُد: حَدثنَا
أَحْمد بن عبد الله بن يُونُس حَدثنَا زُهَيْر حَدثنَا
هِشَام بن عُرْوَة عَن عُرْوَة (عَن عَائِشَة قَالَت: مَا
رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، يقْرَأ فِي
شَيْء من صَلَاة اللَّيْل جَالِسا قطّ، حَتَّى دخل فِي
السن، فَكَانَ يجلس فَيقْرَأ حَتَّى إِذا بَقِي
أَرْبَعُونَ أَو ثَلَاثُونَ آيَة قَامَ فقرأها ثمَّ سجد) .
وَقد رُوِيَ عَن عَائِشَة: صَلَاة النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم جَالِسا فِي التَّطَوُّع جمَاعَة آخَرُونَ
من التَّابِعين. مِنْهُم: الْأسود بن يزِيد، أخرج حَدِيثه
النَّسَائِيّ من رِوَايَة عمر بن أبي زَائِدَة عَن أبي
إِسْحَاق عَن الْأسود (عَن عَائِشَة، قَالَت: مَا كَانَ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمْتَنع من وَجْهي
وَهُوَ صَائِم، وَمَا مَاتَ حَتَّى كَانَ أَكثر صلَاته
قَاعِدا) . وروى مُسلم من رِوَايَة عبد الله بن عُرْوَة
عَن أَبِيه (عَن عَائِشَة قَالَت: لما بدن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وَثقل كَانَ أَكثر صلَاته جَالِسا) .
وَمِنْهُم: عَلْقَمَة بن وَقاص، أخرج حَدِيثه مُسلم
بِلَفْظ: قلت لعَائِشَة: كَيفَ كَانَ رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يصنع فِي الرَّكْعَتَيْنِ وَهُوَ جَالس؟
قَالَت: كَانَ يقْرَأ فيهمَا، فَإِذا أَرَادَ أَن يرْكَع
قَامَ فَرَكَعَ) . وَمِنْهُم: عمْرَة، أخرج حَدِيثهَا
مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة أبي بكر
بن مُحَمَّد عَن عمر (عَن عَائِشَة قَالَت: كَانَ رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقْرَأ وَهُوَ قَاعد، فَإِذا
أَرَادَ أَن يرْكَع قَامَ قدر مَا يقْرَأ الْإِنْسَان
أَرْبَعِينَ آيَة) . قَوْله: (صَلَاة اللَّيْل) ، قيدت
عَائِشَة بهَا لتخرج الْفَرِيضَة. قَوْله: (حَتَّى أسن)
أَي: حَتَّى دخل فِي السن، وَقَالَ ابْن التِّين: إِنَّمَا
قيدت بقولِهَا: (حَتَّى أسن) ليعلم إِنَّه إِنَّمَا فعل
ذَلِك إبْقَاء على نَفسه ليستديم الصَّلَاة، وأفادت أَنه
كَانَ يديم الْقيام، وَإنَّهُ كَانَ لَا يجلس عَمَّا يطيقه
من ذَلِك. قَوْله: (أَو أَرْبَعِينَ) يحْتَمل أَن يكون
هَذَا شكا من الرَّاوِي، وَأَن عَائِشَة قَالَت أحد
الْأَمريْنِ: وَيحْتَمل أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، ذكرت الْأَمريْنِ مَعًا من الثَّلَاثِينَ
وَالْأَرْبَعِينَ بِحَسب وُقُوع ذَلِك مِنْهُ، مرّة كَذَا
وَمرَّة كَذَا، أَو بِحَسب طول الْآيَات وقصرها.
وَمن فَوَائِد هَذَا الحَدِيث: جَوَاز الرَّكْعَة
الْوَاحِدَة بَعْضهَا من قيام وَبَعضهَا من قعُود، وَهُوَ
مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَعَامة
الْعلمَاء، وَسَوَاء فِي ذَلِك: قَامَ ثمَّ قعد أَو قعد
ثمَّ قَامَ، وَمنعه بعض السّلف وَهُوَ غلط، وَلَو نوى
الْقيام ثمَّ أَرَادَ أَن يجلس جَازَ عِنْد الْجُمْهُور،
وَجوزهُ من الْمَالِكِيَّة: ابْن الْقَاسِم، وَمنعه أَشهب.
وَمِنْهَا: تَطْوِيل الْقِرَاءَة فِي صَلَاة اللَّيْل،
وَالأَصَح عِنْد الشَّافِعِيَّة أَن تَطْوِيل الْقيام أفضل
من تَكْثِير الرُّكُوع وَالسُّجُود مَعَ تَقْصِير
الْقِرَاءَة، وَكَذَا عندنَا: تَطْوِيل الْقِرَاءَة أفضل
من كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود، وَقَالَ أَبُو يُوسُف:
إِن كَانَ لَهُ ورد من اللَّيْل فَالْأَفْضَل أَن يكثر عدد
الرَّكْعَات، وإلاّ فطول الْقيام أفضل، وَقَالَ مُحَمَّد:
كَثْرَة الرُّكُوع وَالسُّجُود أفضل لقَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (عَلَيْك بِكَثْرَة السُّجُود) .
وَمِنْهَا: جَوَاز صَلَاة النَّافِلَة قَاعِدا مَعَ
الْقُدْرَة على الْقيام، وَهُوَ مجمع عَلَيْهِ.
9111 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ يَزِيدَ وَأبِي النضْرِ
مَوْلَى عُمعرَ بنِ عُبَيْدِ الله عنْ أبِي سَلَمَةَ بنِ
عَبْدِ الراحْمانِ عنْ عائِشَةَ أمِّ المُؤْمِنِينَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ رسُولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم كانَ يُصَلِّي جالِسا فَيَقْرَأ وَهْوَ جالِسٌ فإذَا
بَقِيَ مِنْ قِرَاءَتِهِ نَحْوٌ مِنْ ثَلاَثِينَ أوْ
أرْبَعِينَ آيَة قامَ فَقَرَأهَا وَهْوَ قائِمٌ ثُمَّ
رَكَعَ ثُمَّ سَجَدَ يَفْعَلُ فِي الرَّكْعَةِ
الثَّانِيَةِ مِثْلَ ذالِكَ فإذَا قضَى صَلاَتَهُ نَظَرَ
فإنْ كُنْتُ يَقْظَى تَحَدَّثَ مَعِي وَإنْ كُنْتُ نائِمةً
اضْطَجَعَ..
هَذَا طَرِيق آخر من حَدِيث عَائِشَة وَعبد الله بن يزِيد
من الزِّيَادَة المَخْزُومِي الْمدنِي الْأَعْوَر، وَأَبُو
النَّضر، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة:
اسْمه سَالم بن أبي أُميَّة الْقرشِي التَّيْمِيّ
الْمدنِي، مولى عمر بن عبيد الله بن معمر التَّيْمِيّ، مر
فِي بَاب الْمسْح على الْخُفَّيْنِ.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الصَّلَاة عَن يحيى بن يحيى.
وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي، كِلَاهُمَا عَن
مَالك، وَأخرجه
(7/163)
التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ
عَن معن عَن مَالك عَن أبي النَّضر وَحده بِهِ، وَقَالَ:
حسن صَحِيح، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن
سَلمَة الْمرَادِي الْمصْرِيّ عَن عبد الرَّحْمَن بن
الْقَاسِم عَن مَالك بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: عَن
أَحْمد وَإِسْحَاق من أَن حَدِيثي عَائِشَة مَعْمُول بهما،
وَهُوَ قَول الْجُمْهُور وَبَقِيَّة الْأَئِمَّة
الْأَرْبَعَة وَغَيرهم خلافًا لمن منع الِانْتِقَال من
الْقيام إِلَى الْقعُود عِنْد عدم الضَّرُورَة لذَلِك،
وَهُوَ غلط، كَمَا تقدم وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا
وَقَالَ: حَدثنَا أَحْمد بن منيع أخبرنَا خَالِد وَهُوَ
الْحذاء عَن عبد الله ابْن شَقِيق (عَن عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَ: سَأَلتهَا عَن صَلَاة
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن تطوعه؟ قَالَت:
كَانَ يُصَلِّي لَيْلًا طَويلا قَائِما وليلاً طَويلا
قَاعِدا، فَإِذا قَرَأَ وَهُوَ قَائِم ركع وَسجد وَهُوَ
قَائِم، وَإِذا قَرَأَ وَهُوَ جَالس ركع وَسجد وَهُوَ
جَالس) . قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَأخرجه
بَقِيَّة السِّتَّة خلا البُخَارِيّ، فَرَوَاهُ مُسلم عَن
يحيى بن يحيى وَأَبُو دَاوُد عَن أَحْمد بن حَنْبَل، وَفِي
بعض النّسخ عَن أَحْمد بن منيع كِلَاهُمَا عَن هشيم،
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد عَن مُسَدّد وَالنَّسَائِيّ عَن
أبي الْأَشْعَث، كِلَاهُمَا عَن يزِيد بن زُرَيْع عَن
خَالِد الْحذاء، وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة حميد
الطَّوِيل، وروى التِّرْمِذِيّ أَيْضا من حَدِيث حَفْصَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَ: حَدثنَا
الْأنْصَارِيّ حَدثنَا معن حَدثنَا مَالك بن أنس عَن ابْن
شهَاب عَن السَّائِب بن يزِيد عَن الْمطلب بن أبي ودَاعَة
السَّهْمِي (عَن حَفْصَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَنَّهَا قَالَت: مَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم صلى فِي سبحته قَاعِدا حَتَّى كَانَ قبل
وَفَاته بعام، فَإِنَّهُ كَانَ يُصَلِّي فِي سبحته قَاعِدا
وَيقْرَأ بالسورة ويرتلها حَتَّى تكون أطول من أطول
مِنْهَا) . وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح. فَإِن قلت: بَين
حَدِيثي حَفْصَة وَعَائِشَة مُنَافَاة ظَاهرا؟ قلت: لَا،
لِأَن قَول عَائِشَة: كَانَ يُصَلِّي جَالِسا، لَا يلْزم
مِنْهُ أَن يكون صلى جَالِسا قبل وَفَاته بِأَكْثَرَ من
عَام، فَإِن كَانَ لَا يَقْتَضِي الدَّوَام بل وَلَا
التّكْرَار على أحد قولي الْأُصُولِيِّينَ، وعَلى تَقْدِير
أَن يكون صلى فِي تطوعه جَالِسا قبل وَفَاته بِأَكْثَرَ من
عَام فَلَا يُنَافِي حَدِيث حَفْصَة، لِأَنَّهَا إِنَّمَا
نفت رؤيتها، لَا وُقُوع ذَلِك جملَة وَفِي الْبَاب عَن أم
سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرج حَدِيثهَا
النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه من رِوَايَة أبي إِسْحَاق
السبيعِي (عَن أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة قَالَت: وَالَّذِي
نَفسِي بِيَدِهِ، مَا مَاتَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم حَتَّى كَانَ أَكثر صلَاته قَاعِدا إلاّ
الْمَكْتُوبَة) . وَعَن أنس أخرج حَدِيثه أَبُو يعلى
قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن بكار حَدثنَا حَفْص بن عمر
قَاضِي حلب حَدثنَا مُخْتَار بن فلفل (عَن أنس بن مَالك،
أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى على الأَرْض
فِي الْمَكْتُوبَة قَاعِدا، وَقعد فِي التَّسْبِيح فِي
الأَرْض فَأَوْمأ إِيمَاء) وَحَفْص بن عمر ضَعِيف، وَعَن
جَابر ابْن سَمُرَة أخرج حَدِيثه مُسلم من رِوَايَة حسن بن
صَالح عَن سماك بن حَرْب (عَن جَابر بن سَمُرَة: أَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يمت حَتَّى صلى
قَاعِدا) . قَالَ شَيخنَا زين الدّين: هَكَذَا أدخلهُ غير
وَاحِد من المصنفين فِي: بَاب الرُّخْصَة فِي صَلَاة
التَّطَوُّع جَالِسا، وَلَيْسَ صَرِيحًا فِي ذَلِك،
فَلَعَلَّ جَابِرا أخبر عَن صلَاته وَهُوَ قَاعد للمرض،
وَعَن عبد الله بن الشخير أخرج حَدِيثه الطَّبَرَانِيّ فِي
(الْكَبِير) من رِوَايَة زيد بن الْحباب عَن شَدَّاد بن
سعيد عَن غيلَان بن جرير (عَن مطرف بن عبد الله بن الشخير
عَن أَبِيه قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَهُوَ يُصَلِّي قَائِما وَقَاعِدا وَهُوَ يقْرَأ
{أَلْهَاكُم التكاثر} حَتَّى خَتمهَا.
لَيست الْبَسْمَلَة مَذْكُور فِي رِوَايَة أبي ذَر. |