عمدة القاري شرح صحيح البخاري

62 - (بابٌ إذَا لَمْ يُوجَدْ إلاَّ ثَوْبٌ وَاحِدٌ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ، إِذا لم يُوجب للميث إلاَّ ثوب وَاحِد، فَالْحكم فِيهِ أَن يقْتَصر عَلَيْهِ، وَلَا ينْتَظر شَيْء آخر.

5721 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ مُقَاتِلٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا شُعْبَةُ عنْ سَعْدِ بنِ إبْرَاهِيمَ عنْ أبِيهِ إبْراهِيمَ أنَّ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ عَوْفٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أُتِيَ بِطَعَامٍ وكانَ صَائِما فَقَالَ قُتِلَ مُصْعَبُ ابنُ عُمَيْرٍ وَهْوَ خَيْرٌ مِنِّي كُفِّنَ فِي بُرْدَةٍ إنْ غُطِّيَ رَأْسُهُ بَدَتْ رِجْلاَهُ وَإنْ غُطِّيَ رِجْلاَهُ بَدَا رَأْسُهُ وَأُرَاهُ قَالَ وَقُتِلَ حَمْزَةُ وَهْوَ خَيرٌ مِنِّي ثُمَّ بُسِطَ لَنَا مِنَ الدُّنْيَا مَا بُسِطَ أوْ قَالَ أُعْطِينَا مِنَ الدُّنْيَا مَا أُعْطِينَا وَقَدْ خَشِينَا أنْ تَكُون حَسَنَاتُنَا عُجِّلَتْ لَنَا ثُمَّ جعل يَبْكِي حَتَّى تَرَكَ الطَّعَامَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كفن فِي بردة) ، وَهُوَ ثوب وَاحِد، وَقد كفن حَمْزَة فِي بردة وَمصْعَب فِي أُخْرَى وَلم يكن غَيرهَا، وَهُوَ مُطَابق للتَّرْجَمَة وَفِي قَوْله: (إِذا لم يُوجد إلاَّ ثوب وَاحِد) ، والْحَدِيث بِعَيْنِه مضى فِي الْبَاب السَّابِق، غير أَنه روى ذَاك: عَن أَحْمد الْمَكِّيّ عَن إِبْرَاهِيم بن سعيد، وَهَذَا: عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد الله بن الْمُبَارك عَن شُعْبَة عَن سعد بن إِبْرَاهِيم. وَفِيه زِيَادَة، وَهِي قَوْله: (وَكَانَ صَائِما) ، أَي: كَانَ عبد الرَّحْمَن يَوْمئِذٍ صَائِما. وَقَوله أَيْضا: (إِن غطى رَأسه بَدَت رِجْلَاهُ

(8/59)


وَإِن غطى رِجْلَاهُ بدا رَأسه) أَي: ظهر. وَقَوله: (وَأرَاهُ) ، بِضَم الْهمزَة أَي: أَظُنهُ. وَقَوله: (حَتَّى ترك الطَّعَام) ، أَي: فِي وَقت الْإِفْطَار. والتكفين فِي الثَّوْب الْوَاحِد كفن الضَّرُورَة، وَحَالَة الضَّرُورَة مُسْتَثْنَاة فِي الشَّرْع. وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَلَو كفنوه فِي ثوب وَاحِد فقد أساءوا لِأَن فِي حَيَاته تجوز صلَاته فِي إِزَار وَاحِد مَعَ الْكَرَاهَة، فَكَذَا بعد الْمَوْت إلاَّ عِنْد الضَّرُورَة بِأَن لم يُوجد غَيره، وَمَسْأَلَة حَمْزَة وَمصْعَب من بَاب الضَّرُورَة.

72 - (بابٌ إذَا لَمْ يَجِدْ كَفَنا إلاَّ مَا يُوَارِى رَأْسَهُ أوْ قَدَمَيْهِ غَطَّى بِهِ رَأْسَهُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا لم يجد ... إِلَى آخِره، أَي: إِذا لم يجد من يتَوَلَّى أَمر الْمَيِّت كفنا إلاَّ مَا يواري، أَي: إلاَّ مَا يستر رَأسه أَو يستر قَدَمَيْهِ غطي بِهِ، أَي: بذلك الْكَفَن رَأسه، وَالْمعْنَى: لَا يجد كفنا إلاَّ مَا يواري رَأسه مَعَ بَقِيَّة جسده أَو مَا يواري قَدَمَيْهِ مَعَ بَقِيَّة جسده، وَمعنى حَدِيث الْبَاب يُفَسر كَذَلِك لِأَنَّهُ إِذا لم يوارِ إلاَّ رَأسه أَو إلاَّ قَدَمَيْهِ فَقَط كَانَ لتغطية عَوْرَته أَحَق.

6721 - حدَّثنا عُمَرُ بنُ حَفْصِ بنِ غِيَاثٍ قَالَ حدَّثنا أبي قَالَ حدَّثنا الأعْمَشُ قَالَ حدَّثنا شَقِيقٌ قَالَ حدَّثنا خَبَّابٌ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ هاجَرْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَلْتَمِسُ وَجْهَ الله فَوَقَعَ أجْرُنَا عَلَى الله فَمِنَّا منْ ماتَ لَمْ يَأْكُلْ مِنْ أجْرِهِ شَيْئا مِنْهُمْ مُصْعَبُ بنُ عُمَيْرٍ وَمِنَّا مَنْ أيْنَعَتْ لَهُ ثَمَرَتُهُ فَهْوَ يَهْدِبُهَا قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ فَلَمْ نَجِدْ مَا نُكَفِّنُهُ إلاَّ بُرْدَةً إذَا غَطَّيْنَا بِهَا رَأْسَهُ خَرَجَتْ رِجْلاَهُ وَإذَا غَطَّيْنَا رِجْلَيْهِ خَرَجَ رَأْسُهُ فأمَرنَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ نُغَطِّيَ رَأْسَهُ وَأنْ نَجْعَلَ علَى رِجْلَيْهِ مِنَ الإْذْخَرِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عمر بن حَفْص بن غياث بن طلق بن مُعَاوِيَة أَبُو حَفْص النَّخعِيّ. الثَّانِي: أَبوهُ حَفْص بن غياث. الثَّالِث: سُلَيْمَان الْأَعْمَش. الرَّابِع: شَقِيق، بِفَتْح الشين وبالقافين ابْن سَلمَة الْأَسدي أَبُو وَائِل. الْخَامِس: خباب، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وَفِي آخِره بَاء أُخْرَى ابْن الْأَرَت، بِفَتْح الْهمزَة والراي وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق: أَبُو يحيى، وَيُقَال: أَبُو عبد الله.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي خَمْسَة مَوَاضِع، وَهَذَا السَّنَد كُله بِالتَّحْدِيثِ، وَهُوَ عَزِيز الْوُجُود. وَفِيه: القَوْل فِي خَمْسَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم كوفيون. وَفِيه: رِوَايَة الإبن عَن الْأَب. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصَّحَابِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْهِجْرَة وَفِي الرقَاق عَن الْحميدِي وَعَن مُحَمَّد بن كثير، وَفِي الْهِجْرَة أَيْضا عَن مُسَدّد، وَفِي الْمَوْضِعَيْنِ من المغاوي عَن أَحْمد بن يُونُس عَن زُهَيْر بن مُعَاوِيَة. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن عبد الله بن نمير وَأبي كريب، أربعتهم عَن أبي مُعَاوِيَة وَعَن عُثْمَان ابْن أبي شيبَة وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعَن منْجَاب بن الْحَارِث وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَمُحَمّد بن يحيى بن أبي عمر كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْوَصَايَا عَن مُحَمَّد بن كثير بِهِ مُخْتَصرا، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي المناقب عَن مَحْمُود بن غيلَان وَعَن هناد بن السّري، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْجَنَائِز عَن عبيد الله بن سعيد وَإِسْمَاعِيل بن مَسْعُود.
ذكر مَعْنَاهُ: قولهنلتمس وَجه الله) أَي: ذَات الله تَعَالَى، أَي: جِهَة الله تَعَالَى لَا جِهَة الدُّنْيَا، وَهَذِه الْجُمْلَة محلهَا النصب على الْحَال. قَوْله (فَوَقع أجرنا على الله) أَي حق شرعا لَا وجوبا عقلياً وَفِي رِوَايَة وَجب أجرنا على الله أَي بِمَا وعد بقوله الصدْق لِأَنَّهُ لَا يجب على الله شَيْء وَله: (لم يَأْكُل من أجره شَيْئا) يَعْنِي: لم يكْسب من الدُّنْيَا شَيْئا وَلَا اقتناه، وَقصر نَفسه عَن شهواتها لينالها موفرة فِي الْآخِرَة. قَوْله: (أينعت لَهُ ثَمَرَته) ، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح النُّون: يُقَال، ينع الثَّمر ينع وينع ينعا وينعا وينوعا، فَهُوَ يَانِع. مَعْنَاهُ: أدْرك، وَكَذَلِكَ: أينع، مَعْنَاهُ: أدْرك ونضج، وتمر ينيع. وَقَالَ الْفراء: أينع أَكثر من ينع. وَقَالَ الْقَزاز: يونع إيناعا فَهُوَ مونع. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جمع اليانع ينع، مثل: صَاحب وَصَحب. قَوْله: (يهدبها) بِفَتْح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَسُكُون الْهَاء وَكسر الدَّال الْمُهْملَة وَضمّهَا أَي: يجتنيها، وَقَالَ ابْن سَيّده: هدب الثَّمَرَة يهدبها هدبا: اجتناها. قَوْله: (قتل يَوْم أحد) ، أَي: قتل مُصعب بن عُمَيْر يَوْم أحد، وَالَّذِي قَتله عبد الله بن قميئة، عَن نَيف وَأَرْبَعين سنة، وَهَذِه

(8/60)


الْجُمْلَة استئنافية. قَوْله: (مَا نكفنه) وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (مَا نكفنه بِهِ) . قَوْله: (من الاذخر) بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَكسر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَفِي آخِره رَاء، قيل: هُوَ نبت بِمَكَّة. قلت: لَيْسَ بمخصوص بِمَكَّة وَيكون بِأَرْض الْحجاز طيب الرَّائِحَة ينْبت فِي السهول والحزون، وَإِذا جف ابيض، وَذكر أَبُو حنيفَة فِي (كتاب النَّبَات) : أَن لَهُ أصلا مندفنا وَله قضبان دقاق ذفر الرّيح وَهُوَ مثل الأسل، أسل الكولان، يَعْنِي الَّذِي يعْمل مِنْهُ الْحصْر إلاَّ أَنه أعرض وأصغر كعوبا، وَله ثَمَرَة كَأَنَّهَا مكاسع الْقصب إِلَّا أَنه أرق وأصغر وَله كعوب كَثِيرَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: أَن الثَّوْب إِذا ضَاقَ فتغطية رَأس الْمَيِّت أولى من رجلَيْهِ لِأَنَّهُ أفضل. وَفِيه: بَيَان مَا كَانَ عَلَيْهِ صدر هَذِه الْأمة. وَفِيه: أَن الصَّبْر على مكابدة الْفقر وصعوبته من منَازِل الْأَبْرَار ودرجات الأخيار. وَفِيه: أَن الثَّوْب إِذا ضَاقَ عَن تَغْطِيَة رَأسه وعورته غطيت بذلك عَوْرَته وَجعل على سائره من الْإِذْخر، لِأَن ستر الْعَوْرَة وَاجِب فِي حَال الْحَيَاة وَالْمَوْت، وَالنَّظَر إِلَيْهَا ومباشرتها بِالْيَدِ محرم إلاَّ من حل لَهُ من الزَّوْجَيْنِ، كَذَا قَالَه الْمُهلب قلت: هَذَا عِنْد من يَقُول: إِن الْكَفَن يكون ساترا لجَمِيع الْبدن، وَإِن الْمَيِّت يصير كُله عَورَة، ومذهبنا أَن الآدم كُله مُحْتَرم حَيا وَمَيتًا، فَلَا يحل للرِّجَال غسل النِّسَاء وَلَا للنِّسَاء غسل الرِّجَال الْأَجَانِب بعد الْوَفَاة، وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة: أَن الْمَيِّت يؤزر بإزار سابغ، كَمَا يَفْعَله فِي حَال حَيَاته إِذا أَرَادَ الِاغْتِسَال، وَفِي ظَاهر الرِّوَايَة: يشق عَلَيْهِم غسل مَا تَحت الْإِزَار فيكتفي بستر الْعَوْرَة الغليظة بِخرقَة. وَفِي (الْبَدَائِع) تغسل عَوْرَته تَحت الْخِرْقَة بعد أَن يلف على يَدَيْهِ خرقَة وينجي عِنْد أبي حنيفَة، كَمَا كَانَ يَفْعَله فِي حَيَاته، وَعِنْدَهُمَا: لَا يُنجى. وَفِي (الْمُحِيط) و (الرَّوْضَة) : لَا يُنجى عِنْد أبي يُوسُف، وَفهم من هَذَا كُله أَن الْمَيِّت لَا يصير كُله عَورَة، وَإِنَّمَا يعْتَبر حَاله بِحَال حَيَاته، وَفِي حَال حَيَاته عَوْرَته من السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة، وَالركبَة عَورَة عندنَا، وَهَذَا هُوَ الأَصْل فِي الْمَيِّت أَيْضا، وَلَكِن يَكْتَفِي بستر الْعَوْرَة الغليظة وَهِي الْقبل والدبر تَخْفِيفًا، وَهُوَ الصَّحِيح من الْمَذْهَب، وَبِه قَالَ مَالك ذكره فِي (الْمُدَوَّنَة) .

82 - (بابُ مَنِ اسْتَعَدَّ الكَفَنَ فِي زَمَنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان من استعد الْكَفَن أَي: أعده وَلَيْسَت السِّين للطلب. قَوْله: (فَلم يُنكر عَلَيْهِ) ، على صِيغَة الْمَجْهُول ويروى على صِيغَة الْمَعْلُوم، وَيكون الْفَاعِل هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَقيل: يرْوى: (فَلم يُنكره بهَا) ، أَي: فَلم يُنكر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الرجل الَّذِي طلب الْبردَة الَّتِي أهديت إِلَيْهِ، وَكَانَ طلبه إِيَّاهَا مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل أَن يُكفن فِيهَا. وَكَانَت الصَّحَابَة أَنْكَرُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَالَ: إِنَّمَا طلبتها لأكفن فِيهَا أعذروه فَلم ينكروا ذَلِك عَلَيْهِ. وَأَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى تِلْكَ الْقَضِيَّة. واستفيد من ذَلِك جَوَاز تَحْصِيل مَا لَا بُد للْمَيت مِنْهُ من كفن وَنَحْوه فِي حَال حَيَاته، لِأَن أفضل مَا ينظر فِيهِ الرجل فِي الْوَقْت المهمل وفسحة الْأَجَل الِاعْتِدَاد للمعاد. وَقد قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أفضل الْمُؤمنِينَ إِيمَانًا أَكْثَرهم للْمَوْت ذكرا وَأَحْسَنهمْ لَهُ اسْتِعْدَادًا) . وَقَالَ الضميري لَا يسْتَحبّ الْإِنْسَان أَن يعد لنَفسِهِ كفنا لِئَلَّا يُحَاسب عَلَيْهِ، وَهُوَ صَحِيح إلاَّ إِذا كَانَ من جِهَة يقطع بحلها أَو من أثر أهل الْخَيْر والصلحاء، فَإِنَّهُ حسن، وَهل يلْحق بذلك حفر الْقَبْر فِي حَيَاته؟ فَقَالَ ابْن بطال: قد حفر جمَاعَة من الصَّالِحين قُبُورهم قبل الْمَوْت بِأَيْدِيهِم ليتمثلوا حُلُول الْمَوْت فِيهِ، ورد عَلَيْهِ بَعضهم بِأَن ذَلِك لم يَقع من أحد من الصَّحَابَة، وَلَو كَانَ مُسْتَحبا لكثر فيهم. قلت: لَا يلْزم من عدم وُقُوعه من أحد من الصَّحَابَة عدم جَوَازه، لِأَن مَا رَآهُ الْمُؤْمِنُونَ حسنا فَهُوَ عِنْد الله حسن، وَلَا سِيمَا إِذا فعله قوم من الصلحاء الأخيار.

7721 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ قَالَ حدَّثنا ابنُ أبي حازِمٍ عنْ أبِيِهِ عنْ سَهْلِهٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ امْرَأةً جاءَتْ النبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِبُرْدَةٍ مَنْسُوجَةٍ فِيهَا حاشِيَتُهَا أتَدْرُونَ مَا البُرْدَةُ قالُوا الشَّمْلَةُ قَالَ نَعَمْ قالَتْ نَسَجْتُهَا بِيَدِي فَجِئْتُ لأِكْسُوكَهَا فأخَذَها النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاجا إلَيْهَا فَخَرَجَ إلَيْنَا وَإنَّهَا إزَارُهُ فَحَسَّنَهَا فُلانٌ فقالَ اكْسُنِيهَا مَا أحْسَنَهَا قَالَ القَوْمُ مَا أحْسَنْتَ لَبِسَهَا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاجا إلَيْهَا ثُمَّ

(8/61)


سَألْتُهُ وَعَلِمْتَ أنَّهُ لاَ يَرُدُّ. قَالَ إنِّي وَالله مَا سألْتُهُ لأِلْبِسَهَا إنَّمَا سَألْتُهُ لِتَكُونَ كَفَنِي. قَالَ سَهْلٌ فكانَتْ كفَنَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن الرجل الَّذِي سَأَلَ تِلْكَ الْبردَة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أنْكرت الصَّحَابَة عَلَيْهِ سُؤَاله قَالَ: سَأَلته لتَكون تِلْكَ الْبردَة كفني، فَأعْطَاهُ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِيَّاهَا، واستعدها ليكفن فِيهَا، فَكفن فِيهَا. وَأخْبر بذلك سهل حَيْثُ قَالَ: فَكَانَت كَفنه.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: عبد الله بن مسلمة القعْنبِي. الثَّانِي: عبد الْعَزِيز بن أبي حَازِم. الثَّالِث: أَبوهُ أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار الْأَعْرَج القَاضِي من عباد أهل الْمَدِينَة وزهادهم. الرَّابِع: سهل بن سعد بن مَالك السَّاعِدِيّ الْأنْصَارِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن رُوَاته مدنيون، غير أَن عبد الله بن مسلمة سكن الْبَصْرَة وَهُوَ من رباعيات البُخَارِيّ، وَأخرجه ابْن مَاجَه أَيْضا فِي اللبَاس عَن هِشَام بن عمار بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَن امْرَأَة) ، لم يعرف اسْمهَا. قَوْله: (بِبُرْدَةٍ) ، هِيَ: كسَاء كَانَت الْعَرَب تلتحف بِهِ فِيهِ خطوط، وَيجمع على: برد، كغرفة وغرف. وَقَالَ ابْن قرقول: هِيَ النمرة. قَوْله: (حاشيتها) ، مَرْفُوع بقوله: (منسوجة) وَاسم الْمَفْعُول يعْمل عمل فعله كاسم الْفَاعِل، قَالَه الدَّاودِيّ: يَعْنِي أَنَّهَا لم تقطع من ثوب فَتكون بِلَا حَاشِيَة، وَقيل: حَاشِيَة الثَّوْب هدبه، فَكَأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّهَا جَدِيدَة لم تقطع هدبها، وَلم تلبس بعد. وَقَالَ الْقَزاز: حاشيتا الثَّوْب ناحيتاه اللَّتَان فِي طرفيهما الهدب قَالَ. قَالَ الْجَوْهَرِي: الْحَاشِيَة وَاحِدَة حَوَاشِي الثَّوْب، وَهِي جوانبه. قَوْله: (تَدْرُونَ) ، ويروى: (أَتَدْرُونَ؟) ، بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام. ويروى: (هَل تَدْرُونَ؟) ، وعَلى كل حَال هَذِه الْجُمْلَة قَول سُهَيْل بن سعد، بَينه أَبُو غَسَّان عَن أبي حَازِم، كَمَا أخرجه البُخَارِيّ فِي الْأَدَب. وَلَفظه: (فَقَالَ سهل للْقَوْم: أَتَدْرُونَ مَا الْبردَة؟ قَالُوا: الشملة) . انْتهى. والشملة، كسَاء يشْتَمل بِهِ، وَهِي أَعم لَكِن لما كَانَ أَكثر اشتمالهم بهَا اطلقوا عَلَيْهَا اسْمهَا. قَوْله: (تَدْرُونَ) إِلَى قَوْله: (قَالَت: نسجتها) جمل مُعْتَرضَة فِي كَلَام الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة. قَوْله: (فَأَخذهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاجا إِلَيْهَا) أَي: حَال كَونه مُحْتَاجا إِلَى تِلْكَ الْبردَة. ويروى: (مُحْتَاج إِلَيْهَا) ، بِالرَّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ، مَحْذُوف أَي: أَخذهَا وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهَا وَإِن شِئْت تَقول: وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهَا، وَقد علم أَن الْجُمْلَة الإسمية إِذا وَقعت حَالا يجوز فِيهَا الْأَمْرَانِ: الْوَاو وَتركهَا. فَإِن قلت: من أَيْن عرفُوا احْتِيَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى ذَلِك؟ قلت: يُمكن أَن يكون ذَلِك بِصَرِيح القَوْل من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو بِقَرِينَة حَالية دلّت على ذَلِك قَوْله: (فَخرج إِلَيْنَا وَإِنَّهَا إزَاره) أَي: فَخرج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَيْنَا وَإِن الْبردَة الْمَذْكُورَة إزَاره: يَعْنِي متزرا بهَا، يدل على ذَلِك رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ عَن هِشَام بن سعد عَن أبي حَازِم: (فاتزر بهَا ثمَّ خرج) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: عَن هِشَام بن عمار عَن عبد الْعَزِيز: (فَخرج إِلَيْنَا فِيهَا) . قَوْله: (فحسنها فلَان) أَي: نَسَبهَا إِلَى الْحسن، وَهُوَ ماضٍ من التحسين فِي الرِّوَايَات كلهَا. وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي اللبَاس من طَرِيق يَعْقُوب بن عبد الرَّحْمَن عَن أبي حَازِم: (فجسها) بِالْجِيم وَتَشْديد السِّين بِغَيْر نون، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق أُخْرَى عَن ابْن أبي حَازِم، وَقَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: فلَان، هُوَ عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، وَفِي الطَّبَرَانِيّ: عَن قُتَيْبَة هُوَ سعد بن أبي وَقاص. وَقد أخرج البُخَارِيّ فِي اللبَاس وَالنَّسَائِيّ فِي الزِّينَة عَن قُتَيْبَة، وَلم يذكرَا ذَلِك عَنهُ. وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (فجَاء فلَان ابْن فلَان، رجل سَمَّاهُ يَوْمئِذٍ) وَهَذَا يدل على أَن الرَّاوِي سَمَّاهُ وَنسبه، وَفِي رِوَايَة أُخْرَى للطبراني أَن السَّائِل الْمَذْكُور أَعْرَابِي، وَلَكِن فِي سَنَده: زَمعَة بن صَالح، وَهُوَ ضَعِيف. قَوْله: (مَا أحْسنهَا!) كلمة مَا هُنَا للتعجب، وَهُوَ بِنصب النُّون، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (فَقَالَ: يَا رَسُول الله، مَا أحسن هَذِه الْبردَة أكسنيها. قَالَ: نعم، فَلَمَّا دخل طواها وَأرْسل بهَا إِلَيْهِ) . قَوْله: (مَا أَحْسَنت) كلمة: مَا، هُنَا نَافِيَة. قَوْله: (لبسهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاجا إِلَيْهَا) أَي: لبس الْبردَة الْمَذْكُورَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَال كَونه مُحْتَاجا إِلَيْهَا، وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (وَالله مَا أَحْسَنت كساها النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُحْتَاج إِلَيْهَا) . أَي: وَهُوَ مُحْتَاج إِلَيْهَا. قَوْله: (أَنه لَا يرد) أَي: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يرد سَائِلًا، وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة ابْن مَاجَه بتصريح الْمَفْعُول، وَنَحْوه وَقع فِي رِوَايَة يَعْقُوب فِي الْبيُوع، وَفِي رِوَايَة أبي غَسَّان فِي الْأَدَب: (لَا يسْأَل شَيْء

(8/62)


فيمنعه) ، أَي: يُعْطي، كل من طلب مَا يَطْلُبهُ. قَوْله: (مَا سَأَلته لألبسها) أَي: مَا سَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأجل أَن ألبسها، وَأَن الْمقدرَة مَصْدَرِيَّة. وَفِي رِوَايَة أبي غَسَّان: (فَقَالَ: رَجَوْت بركتها حِين لبسهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) . وَفِي رِوَايَة للطبراني عَن زَمعَة بن صَالح أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يصنع لَهُ غَيرهَا، فَمَاتَ قبل أَن تفرغ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: حسن خلق النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وسعة جوده وقبوله الْهَدِيَّة. قَالَ الْمُهلب: وَفِيه: جَوَاز ترك مُكَافَأَة الْفَقِير على هديته. وَفِيه نظر، لِأَن الْمُكَافَأَة كَانَت عَادَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مستمرة، فَلَا يلْزم من السُّكُوت عَنْهَا هُنَا أَن لَا يكون فعلهَا، على أَنه لَيْسَ فِي الحَدِيث الْجَزْم يكون ذَلِك هَدِيَّة لاحْتِمَال عرضهَا إِيَّاهَا عَلَيْهِ لأجل الشِّرَاء، وَلَئِن سلمنَا أَنَّهَا كَانَت هَدِيَّة فَلَا يلْزم أَن تكون الْمُكَافَأَة على الْفَوْر. قَالَ: وَفِيه: جَوَاز الِاعْتِمَاد على الْقَرَائِن، وَلَو تجردت لقَولهم: (فَأَخذهَا مُحْتَاجا إِلَيْهَا) وَفِيه نظر أَيْضا لاحْتِمَال سبق القَوْل مِنْهُ بذلك كَمَا ذَكرْنَاهُ قَالَ وَفِيه التَّرْغِيب فِي الْمَصْنُوع بِالنِّسْبَةِ إِلَى صانعة إِذا كَانَ ماهراً وَفِيه نظر أَيْضا لاحْتِمَال إرادتها بنسبتها إِلَيْهِ إِزَالَة مَا يخْشَى من التَّدْلِيس. وَفِيه: جَوَاز اسْتِحْسَان الْإِنْسَان مَا يرَاهُ على غَيره من الملابس، إِمَّا ليعرفه قدرهَا، وَإِمَّا ليعرض لَهُ بِطَلَبِهِ مِنْهُ حَيْثُ يسوغ لَهُ ذَلِك. وَفِيه: مَشْرُوعِيَّة الْإِنْكَار عِنْد مُخَالفَة الْأَدَب ظَاهرا، وَإِن لم يبلغ الْمُنكر دَرَجَة التَّحْرِيم. وَفِيه: التَّبَرُّك بآثار الصَّالِحين. وَفِيه: جَوَاز إعداد الشَّيْء قبل وَقت الْحَاجة إِلَيْهِ كَمَا قد ذَكرْنَاهُ. وَفِيه: جَوَاز الْمَسْأَلَة بِالْمَعْرُوفِ. وَفِيه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يكن يرد سَائِلًا. وَفِيه: بركَة مَا لبسه مِمَّا يَلِي جسده. وَفِيه: قبُول السُّلْطَان الْهَدِيَّة من الْفَقِير. وَفِيه: جَوَاز السُّؤَال من السُّلْطَان. وَفِيه: مَا كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه يُعْطي حَتَّى لَا يجد شَيْئا فَيدْخل بذلك فِي جملَة المؤثرين على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة.

92 - (بابُ اتِّبَاعِ النِّسَاءِ الجَنَائِزِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز، وَلم يبين كَيْفيَّة الحكم: هَل هُوَ جَائِز أَو غير جَائِز أَو مَكْرُوه؟ لاخْتِلَاف الْعلمَاء فِيهِ، لِأَن قَول أم عَطِيَّة يحْتَمل أَن يكون نهي تَحْرِيم، وَيحْتَمل أَن يكون نهي تَنْزِيه، على أَن ظَاهر قَول أم عَطِيَّة: وَلم يعزم علينا، يَقْتَضِي أَن يكون النَّهْي نهي تَنْزِيه، وَقد ورد فِي هَذَا الْبَاب أَحَادِيث تدل على الْجَوَاز، فلأجل هَذَا الِاخْتِلَاف أطلق البُخَارِيّ التَّرْجَمَة وَلم يقيدها بِحكم. وَفِي بعض النّسخ: بَاب اتِّبَاع النِّسَاء الْجِنَازَة.

8721 - حدَّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنْ خالِدٍ عنْ أُمِّ الهُذَيْلِ عنْ أُمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ نُهِينَا عنِ اتِّبَاعِ الجَنَائِزِ ولَمْ يُعْزَمْ عَلَيْنَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه بَين مَا أبهمه البُخَارِيّ فِي التَّرْجَمَة فِي إِطْلَاق الحكم بِأَنَّهُ مَنْهِيّ، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ وَأم الْهُذيْل هِيَ: حَفْصَة بنت سِيرِين، وَأم عَطِيَّة هِيَ نسيبة. وَقد تقدم كل الروَاة. وَتقدم الحَدِيث أَيْضا فِي: بَاب الطّيب للْمَرْأَة عِنْد غسلهَا من الْمَحِيض، فِي كتاب الْحيض، من طَرِيق أَيُّوب عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة مطولا، وَفِيه: (وَكُنَّا ننهى عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز) . وَرَوَاهُ هِشَام بن حسان أَيْضا عَن حَفْصَة عَن أم عَطِيَّة عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَأخرج الْإِسْمَاعِيلِيّ هَذَا الحَدِيث من رِوَايَة يزِيد ابْن أبي حَكِيم عَن الثَّوْريّ بِإِسْنَاد هَذَا الْبَاب، وَلَفظه: (نَهَانَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) فَإِن قلت: هَذَا الحَدِيث لَا حجَّة فِيهِ لِأَنَّهُ لم يسم الناهي فِيهِ؟ قلت: الَّذِي أخرجه الْإِسْمَاعِيلِيّ يرد مَا قيل فِيهِ من ذَلِك، وَهَذَا الْبَاب مُخْتَلف فِيهِ، فالجمهور على أَن كل مَا ورد بِهَذِهِ الصِّيغَة حكمه حكم الْمَرْفُوع، وروى الطَّبَرَانِيّ عَن إِسْمَاعِيل بن عبد الرَّحْمَن بن عَطِيَّة عَن جدته أم عَطِيَّة، قَالَت: (لما دخل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْمَدِينَة جمع النِّسَاء فِي بَيت ثمَّ بعث إِلَيْنَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقَالَ: إِنِّي رَسُول رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إلَيْكُنَّ، بَعَثَنِي لأبايعكن على أَن لَا تسرقن. .) الحَدِيث، وَفِي آخِره: (وأمرنا أَن نخرج فِي الْعِيد الْعَوَاتِق، ونهانا أَن نخرج فِي جَنَازَة) . وَهَذَا يدل على أَن حَدِيث الْبَاب مُرْسل. قَوْله: (وَلم يعزم علينا) ، على صِيغَة الْمَجْهُول أَي: لم يُوجب وَلم يفْرض أَو لم يشدد وَلم يُؤَكد علينا فِي الْمَنْع، كَمَا أكد علينا فِي غَيره من المنهيات، فَكَانَ الْمَعْنى: أَنَّهَا قَالَت: كره لنا اتِّبَاع الْجَنَائِز من غير تَحْرِيم. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: ظَاهر الحَدِيث يَقْتَضِي أَن النَّهْي للتنزيه، وَبِه قَالَ جُمْهُور أهل الْعلم، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: روينَا عَن ابْن مَسْعُود وَابْن عمر

(8/63)


وَعَائِشَة وَأبي أُمَامَة أَنهم كَرهُوا ذَلِك للنِّسَاء، وَكَرِهَهُ أَيْضا إِبْرَاهِيم وَالْحسن ومسروق وَابْن سِيرِين وَالْأَوْزَاعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ الثَّوْريّ: اتِّبَاع النِّسَاء الْجَنَائِز بِدعَة، وَعَن أبي حنيفَة: لَا يَنْبَغِي ذَلِك للنِّسَاء، وروى إجَازَة ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَالقَاسِم وَسَالم وَالزهْرِيّ وَرَبِيعَة وَأبي الزِّنَاد، وَرخّص فِيهِ مَالك، وَكَرِهَهُ للشابة، وَعند الشَّافِعِي مَكْرُوه، وَلَيْسَ بِحرَام، وَنقل الْعَبدَرِي عَن مَالك: يكره إلاَّ أَن يكون الْمَيِّت وَلَدهَا أَو والدها أَو زَوجهَا، وَكَانَت مِمَّن يخرج مثلهَا لمثله. وَقَالَ ابْن حزم: لَا يمنعن من اتباعها، وآثار النَّهْي عَن ذَلِك لَا تصح لِأَنَّهَا إِمَّا عَن مَجْهُول أَو مُرْسلَة أَو عَمَّن لَا يحْتَج بِهِ، وأشبه شَيْء فِيهِ حَدِيث الْبَاب، وَهُوَ غير مُسْند لأَنا لَا نَدْرِي من هُوَ الناهي، وَلَعَلَّه بعض الصَّحَابَة، ثمَّ لَو صَحَّ مُسْندًا لم يكن فِيهِ حجَّة، بل كَانَ يكون على كَرَاهَة فَقَط، وَقد صَحَّ خِلَافه. روى ابْن أبي شيبَة من حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي جَنَازَة فَرَأى عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، امْرَأَة فصاح بهَا، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: دعها يَا عمر فَإِن الْعين دامعة وَالنَّفس مصابة والعهد قريب) . قلت: أخرج الْحَاكِم هَذَا، وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ، وَفِيه نظر لِأَن الْبَيْهَقِيّ نَص على انْقِطَاعه، وَفِي سَنَده سَلمَة بن الْأَزْرَق، قَالَ ابْن الْقطَّان: سَلمَة هَذَا لَا يعرف حَاله وَلَا أعرف أحدا من مصنفي الرِّجَال ذكره، وروى الْحَاكِم قَالَ: أخبرنَا أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عبد الله الصفار حَدثنَا أَبُو إِسْمَاعِيل مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل حَدثنَا سعيد بن أبي مَرْيَم أخبرنَا نَافِع بن يزِيد أَخْبرنِي ربيعَة ابْن سيف حَدثنِي أَبُو عبد الرَّحْمَن الحبلي (عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ قَالَ: قبرنا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رجلا، فَلَمَّا رَجعْنَا وحاذينا بَابه إِذا هُوَ بِامْرَأَة لَا نظنه عرفهَا فَقَالَ: يَا فَاطِمَة! من أَيْن جِئْت؟ قَالَت: جِئْت من أهل الْمَيِّت، رحمت إِلَيْهِم ميتهم وعزيتهم، قَالَ: فلعلك بلغت مَعَهم الكدي؟ قَالَت: معَاذ الله أَن أبلغ مَعَهم الكدى، وَقد سَمِعتك تذكر فِيهِ مَا تذكر. قَالَ: لَو بلغت مَعَهم الكدى مَا رَأَيْت الْجنَّة حَتَّى يرى جد أَبِيك) . والكدى: الْمَقَابِر. قَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. قلت: كَيفَ يَقُول على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَرَبِيعَة بن سيف لم يخرج لَهُ أحد مِنْهُمَا؟ وَقَالَ الدَّاودِيّ: قَوْلهَا: (نهينَا عَن اتِّبَاع الْجَنَائِز، أَي: إِلَى أَن نصل إِلَى الْقُبُور) وَقَوْلها: (وَلم يعزم علينا) أَي: لَا نأتي أهل الْمَيِّت فنعزيهم ونترحم على ميتهم من غير أَن نتبع جنَازَته، وَقَالَ بَعضهم: وَفِي أَخذ هَذَا التَّفْصِيل من هَذَا السِّيَاق نظر. قلت: وَفِي نظره نظر، لِأَن الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ الْحَاكِم عَن عبد الله بن عَمْرو الْمَذْكُور يساعده. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون المُرَاد بقولِهَا: (وَلم يعزم علينا) أَي: كَمَا عزم على الرِّجَال بترغيبهم فِي اتباعها بِحُصُول القيراط، وَنَحْو ذَلِك. انْتهى. وَأحسن حالات الْمَرْأَة مَعَ الْجِنَازَة أَنَّهَا لَا تُوجد فِي حُضُورهَا، وَقَالَ الْحَازِمِي: أما بِاتِّبَاع الْجِنَازَة فَلَا رخصَة لَهُنَّ فِيهِ، وَقد رُوِيَ عَن يزِيد بن أبن حبيب أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حضر جَنَازَة رجل فَلَمَّا وضعت ليصلى عَلَيْهَا أبْصر امْرَأَة فَسَأَلَ عَنْهَا، فَقيل: هِيَ أُخْت الْمَيِّت. فَقَالَ لَهَا: إرجعي فَلم يصل عَلَيْهَا حَتَّى تَوَارَتْ. وَقَالَ لامْرَأَة أُخْرَى: إرجعي وإلاَّ رجعت.

03 - (بابْ حَدِّ المَرْأَةِ عَلَى غَيْرِ زَوْجِهَا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إحداد الْمَرْأَة على غير زَوجهَا، والإحداد، بِكَسْر الْهمزَة من: أحدت الْمَرْأَة على زَوجهَا تحد فَهِيَ محدة، إِذا حزنت عَلَيْهِ ولبست ثِيَاب الْحزن وَتركت الزِّينَة، وَكَذَلِكَ حدت الْمَرْأَة من الثلاثي تحد من بَاب: نصر ينصر، وتحد، بِكَسْر الْحَاء من بَاب: ضرب يضْرب، فَهِيَ: حادة. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: أحدت الْمَرْأَة، أَي: امْتنعت من الزِّينَة والخضاب بعد وَفَاة زَوجهَا، وَكَذَلِكَ حدت حدادا، وَلم يعرف الْأَصْمَعِي إلاَّ: أحدت، فَهِيَ محدة. وَفِي بعض النّسخ: بَاب حداد الْمَرْأَة، بِغَيْر همزَة على لُغَة الثلاثي. وَفِي بَعْضهَا: بَاب حد الْمَرْأَة، من مصدر الثلاثي، وأبيح للْمَرْأَة الْحداد لغير الزَّوْج ثَلَاثَة أَيَّام وَلَيْسَ ذَلِك بِوَاجِب، وَقَالَ ابْن بطال: أجمع الْعلمَاء على أَن من مَاتَ أَبوهَا أَو ابْنهَا وَكَانَت ذَات زوج وطالبها زَوجهَا بِالْجِمَاعِ فِي الثَّلَاثَة الْأَيَّام الَّتِي أُبِيح لَهَا الْإِحْدَاد فِيهَا أَنه يقْضِي لَهُ عَلَيْهَا بِالْجِمَاعِ فِيهَا، وَقَوله: (على غير زَوجهَا) يَشْمَل كل ميت غير الزَّوْج سَوَاء كَانَ قَرِيبا أَو أَجْنَبِيّا، وَأما الْحداد لمَوْت الزَّوْج فَوَاجِب عندنَا، سَوَاء كَانَت حرَّة أَو أمة، وَكَذَلِكَ يجب على الْمُطلقَة طَلَاقا بَائِنا مُطلقًا. وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد: لَا يجب، وَلَا يجب على ذِمِّيَّة وَلَا صَغِيرَة عندنَا، خلافًا لَهُم. فَإِن قلت: لم يُقيد فِي التَّرْجَمَة بِالْمَوْتِ؟ قلت: قَالَ بَعضهم: لم يُقَيِّدهُ فِي التَّرْجَمَة بِالْمَوْتِ لِأَنَّهُ مُخْتَصّ بِهِ عرفا، وَظَاهر التَّرْجَمَة يُنَافِي مَا قَالَه، فَكَانَ البُخَارِيّ لَا يرى أَنه مُخْتَصّ بِهِ عِنْده، فَترك التَّقْيِيد بِهِ.

(8/64)


9721 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا بِشْرُ بنُ المُفَضَّلِ قَالَ حَدثنَا سَلَمَةُ بنُ عَلْقَمَةَ عنْ مُحَمَّدِ بنِ سِيرِينَ قَالَ تُوُفِّيَ ابنٌ لأِمِّ عَطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فلَمَّا كانَ اليَوْمُ الثالِثُ دَعَتْ بِصُفْرَةٍ فَتَمَسَّحَتْ بِهِ وقالَتْ نُهِينَا أنْ نُحِدَّ أكْثَرَ مِنْ ثَلاَثٍ إلاَّ بِزَوْجٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن فِيهِ أَن أم عَطِيَّة أحدث لابنها، فَقَوله فِي التَّرْجَمَة: على غير زَوجهَا، يصدق عَلَيْهِ.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: مُسَدّد تكَرر ذكره. الثَّانِي: بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: ابْن الْمفضل بن لَاحق أَبُو إِسْمَاعِيل، مر فِي: بَاب قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رب مبلغ. الثَّالِث: سَلمَة بن عَلْقَمَة التَّمِيمِي، مر فِي: بَاب من لم يتَشَهَّد فِي سَجْدَتي السَّهْو. الرَّابِع: مُحَمَّد بن سِيرِين، تكَرر ذكره.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن رُوَاته بصريون.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يَوْم الثَّالِث) كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين من بَاب إِضَافَة الْمَوْصُوف إِلَى الصّفة، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي: (فِي الْيَوْم الثَّالِث) على الأَصْل. قَوْله: (بصفرة) الصُّفْرَة فِي الأَصْل لون الْأَصْفَر، وَالْمرَاد هَهُنَا نوع من الطّيب فِيهِ صفرَة. قَوْله: (نهينَا) ، وروى عبد الرَّزَّاق عَن أَيُّوب عَن ابْن سِيرِين بِلَفْظ: (أمرنَا أَن لَا نحد على هَالك فَوق ثَلَاثَة) . وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق قَتَادَة عَن ابْن سِيرِين عَن أم عَطِيَّة. قَالَت: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول ... فَذكر مَعْنَاهُ. قَوْله: (أَن نحد) ، بِضَم النُّون من الْإِحْدَاد، وَكلمَة: أَن، مَصْدَرِيَّة. قَوْله: (إلاَّ بِزَوْج) ، أَي: بِسَبَب زوج، وَهَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (إلاَّ لزوج) بِاللَّامِ، وَوَقع فِي الْعدَد: (إلاَّ على زوج) ، وَالْكل بِمَعْنى التَّسَبُّب.

0821 - حدَّثنا الحمَيْدِي قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ قَالَ حَدثنَا أيُّوبُ بنُ مُوسى اقالَ أَخْبرنِي حُمَيْدُ بنُ نافِعٍ عنْ زَيْنَبَ ابْنَةِ أبِي سَلَمَةَ قالَتْ لَمَّا جاءَ نَعْيُ أبي سُفْيَانَ مِنَ الشامِ دَعَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا بِصُفْرَةٍ فِي اليَوْمِ الثَّالِثِ فَمَسَحَتْ عارِضَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وقالَتْ إنِّي كُنْتُ عنْ هاذَا لَغَنِيَّةً لَوْلاَ أنِّي سَمِعْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤمِنُ بِالله وَاليَوْمِ الآخِرِ أنْ تُحِدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ فإنَّهَا تُحِدُّ عَلَيْهِ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن فِيهِ الْإِحْدَاد على غير الزَّوْج.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحميدِي، بِضَم الْحَاء: عبد الله بن الزبير بن عِيسَى القريشي الْأَسدي أَبُو بكر. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: أَيُّوب بن مُوسَى بن عَمْرو ابْن سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي، أحد الْفُقَهَاء، مَاتَ سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَمِائَة بِمَكَّة. الرَّابِع: حميد الطَّوِيل، بِضَم الْحَاء: بن نَافِع أَبُو أَفْلح، بِالْفَاءِ وَبِالْحَاءِ الْمُهْملَة. الْخَامِس: زَيْنَب بنت أبي سَلمَة، وأسمه: عبد الله بن عبد الْأسد، المخزومية ربيبة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أُخْت عمر بن أبي سَلمَة، أمهما أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زوج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مرت فِي: بَاب الخباء فِي الْعلم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: الثَّلَاثَة الأول من الروَاة مكيون وَالرَّابِع مدنِي. وَفِيه: شَيْخه مَذْكُور بنسبته إِلَى أحد أجداده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله (نعى أَبُو سُفْيَان) بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْعين وَتَخْفِيف الْيَاء، وَهُوَ الْخَبَر بِمَوْت الشَّخْص، ويروى بِكَسْر الْعين وَتَشْديد الْيَاء، وَأَبُو سُفْيَان: هُوَ ابْن حَرْب والدمعاوية. قَوْله: (من الشَّام) قَالَ بَعضهم: فِيهِ نظر لِأَن أَبَا سُفْيَان مَاتَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف بَين أهل الْعلم بالأخبار، وَالْجُمْهُور على أَنه مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ، وَعلل على ذَلِك بقوله: لَيْسَ فِي طرق هَذَا الحَدِيث التَّقْيِيد بذلك إلاَّ فِي رِوَايَة سُفْيَان بن عُيَيْنَة، وأظنها وهما، وأظن أَنه حذف مِنْهُ لفظ: ابْن، لِأَن الَّذِي جَاءَ نعيه من الشَّام وَأم حَبِيبَة فِي الْحَيَاة هُوَ أَخُوهَا يزِيد بن أبي سُفْيَان الَّذِي كَانَ أَمِيرا على الشَّام. قلت: يزِيل هَذَا الظَّن أَن

(8/65)


البُخَارِيّ روى الحَدِيث فِي (الْعدَد) من طَرِيق مَالك وَمن طَرِيق سُفْيَان الثَّوْريّ كِلَاهُمَا عَن عبد الله بن أبي بكر بن حزم عَن حميد بن نَافِع بِلَفْظ: (حِين توفّي أَبوهَا أَبُو سُفْيَان) ، وَفِيه تَصْرِيح بِأَن الَّذِي جَاءَ نعيه هُوَ أَبُو سُفْيَان لَا نعي ابْن سُفْيَان. فَإِن قلت: هما لم يذكرَا فِي روايتهما من الشَّام؟ قلت: لَا يلْزم من عدم ذكرهمَا من الشَّام أَن يكون ذكر سُفْيَان بن عُيَيْنَة من الشَّام وهما، وَهُوَ إِمَام فِي الحَدِيث حجَّة ثَبت، وَعَن الشَّافِعِي: لَوْلَا مَالك وسُفْيَان بن عُيَيْنَة لذهب علم الْحجاز، وَفِي قَول هَذَا الْقَائِل: أَبُو سُفْيَان مَاتَ بِالْمَدِينَةِ بِلَا خلاف، نظر لِأَنَّهُ مُجَرّد دَعْوَى فَافْهَم. قَوْله: (أم حَبِيبَة) هِيَ بنت أبي سُفْيَان الْمَذْكُور، وَاسْمهَا: رَملَة، أم الْمُؤمنِينَ. قَوْله: (بصفرة) ، قد ذكرنَا مَعْنَاهَا عَن قريب، وَفِي رِوَايَة مَالك: (بِطيب فِيهِ صفرَة خلوق) ، وَزَاد فِيهِ: (فدهنت مِنْهُ جَارِيَة ثمَّ مست بعارضيها) . قَوْله: (وَعشرا) ، هَل المُرَاد مِنْهُ الْأَيَّام أَو اللَّيَالِي؟ فَفِيهِ قَولَانِ للْعُلَمَاء: أَحدهمَا، وَهُوَ قَول الْجُمْهُور: أَن المُرَاد الْأَيَّام بلياليها. وَالْآخر: أَن المُرَاد اللَّيَالِي، وَأَنَّهَا تحل فِي الْيَوْم الْعَاشِر، وَهُوَ قَول يحيى بن أبي كثير وَالْأَوْزَاعِيّ، وَذكرنَا الْأَحْكَام الْمُتَعَلّقَة بِالْحَدِيثِ وَالْخلاف فِيهَا فِي: بَاب الطّيب عِنْد الْغسْل من الْمَحِيض.

1821 - حدَّثنا إسْمَاعِيلُ قَالَ حدَّثني مالِكٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ أبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عمْرِو بنِ حَزْمٍ عنْ حُمَيْدِ بنِ نافِعٍ عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أبِي سَلَمَةَ أخْبرَتْهُ قالَتْ دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّه واليَوْمِ الآخِرِ تحِدُّ علَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا. ثمَّ دَخَلْتُ عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ حِينَ تُوُفِّيَ أخُوهَا فَدَعَتْ بِطِيبٍ فَمَسَّتْ ثُمَّ قالَتْ مَال بِالطِّيبِ مِنْ حَاجَةٍ غَيْرَ أنِّي سَمِعْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى المِنْبَرِ يَقُولُ لاَ يَحِلُّ لامْرَأةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّه وَالْيَوْمِ الآخِرِ تُحِدُّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ إلاَّ عَلَى زَوْجٍ أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وَعَشْرا.
(2821 طرفه فِي: 5335) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْمَاعِيل هُوَ ابْن أويس ابْن أُخْت مَالك.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الطَّلَاق عَن عبد الله بن يُوسُف وَعَن مُحَمَّد بن كثير عَن سُفْيَان الثَّوْريّ وَعَن آدم بن أبي إِيَاس عَن شُعْبَة. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّلَاق عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن عَمْرو النَّاقِد وَابْن أبي عمر، كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة بِهِ، وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن مُحَمَّد بن جَعْفَر وَعبد الله بن معَاذ عَن أَبِيه عَن شُعْبَة بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الطَّلَاق عَن القعْنبِي عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي النِّكَاح عَن إِسْحَاق بن مُوسَى عَن معن عَن مَالك بِهِ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن الْحَارِث بن مِسْكين، وَفِيه وَفِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن سَلمَة، وَفِي التَّفْسِير أَيْضا عَن عَمْرو بن مَنْصُور وَعَن هناد وَعَن وَكِيع.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ثمَّ دخلت عَليّ زَيْنَب بنت جحش) ، فَاعل: دخلت، هُوَ زَيْنَب بنت أم سَلمَة، وَكَذَلِكَ فِي رِوَايَة مُسلم وَالنَّسَائِيّ: (ثمَّ دخلت) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ: (فَدخلت) ، بِالْفَاءِ، وَقَالَ بَعضهم: وَوَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (وَدخلت) ، بِالْوَاو، قلت: مَا وجدت فِي نسخ أبي دَاوُد إلاَّ بِالْفَاءِ، مثل رِوَايَة التِّرْمِذِيّ، وَالْفرق بَين هَذِه الرِّوَايَات الثَّلَاث على تَقْدِير كَون رِوَايَة أبي دَاوُد بِالْوَاو، أَن كلمة: ثمَّ، للْعَطْف على التَّرَاخِي والمهلة والتشريك فِي الحكم وَالتَّرْتِيب، وَكلمَة: الْفَاء، للْعَطْف على التعقيب، وَكلمَة: الْوَاو، الْعَطف على الْجمع.
فَإِن قلت: على مَا ذكرت معنى: ثمَّ، يَقْتَضِي أَن تكون قصَّة زَيْنَب هَذِه بعد قصَّة أم حَبِيبَة، وَلَا يَصح ذَلِك، لِأَن زَيْنَب مَاتَت قبل أبي سُفْيَان بِأَكْثَرَ من عشر سِنِين على الصَّحِيح. قلت: فِي دلَالَة: ثمَّ، على التَّرْتِيب خلاف، وَلَئِن سلمنَا ضعف الْخلاف فَإِن: ثمَّ، هَهُنَا لترتيب الْإِخْبَار لَا لترتيب الحكم، وَذَلِكَ كَمَا يُقَال: بَلغنِي مَا صنعت الْيَوْم ثمَّ مَا صنعت أمس أعجب، أَي: ثمَّ أخْبرك أَن الَّذِي صَنعته أمس أعجب. وَأما: الْفَاء، فَإِن الْفراء قَالَ: لَا تفِيد التَّرْتِيب مُطلقًا، وَلَئِن سلمنَا، فَنَقُول: التَّرْتِيب ذكري لَا معنوي، وَأما: الْوَاو، فَإِنَّهَا لَا تفِيد التَّرْتِيب أصلا، فَإِن صحت رِوَايَة: الْوَاو، فَلَا إِشْكَال أصلا. فَافْهَم. فَإِنَّهُ مَوضِع دَقِيق لم يُنَبه عَلَيْهِ أحد من الشُّرَّاح. قَوْله: (حِين توفّي أَخُوهَا) ، قَالَ شَيخنَا زين الدّين، فِيهِ إِشْكَال، لِأَن لِزَيْنَب ابْنة جحش ثَلَاثَة إخْوَة: عبد الله وَعبيد الله مُصَغرًا وَأَبُو أَحْمد، مَشْهُور بكنيته، واسْمه عبد على الصَّحِيح، وَقيل: عبد الله، وَلَا جَائِز أَن يكون عبد الله مكبرا

(8/66)


لِأَنَّهُ قتل بِأحد قبل أَن يتَزَوَّج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَيْنَب بنت جحش، وَلَا جَائِز أَن يكون عبيد الله فَإِنَّهُ مَاتَ بِالْحَبَشَةِ نَصْرَانِيّا، أما فِي سنة خمس أَو فِي سنة سِتّ فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تزوج أم حَبِيبَة بنت أبي سُفْيَان بعده فَإِنَّهُ مَاتَ عَنْهَا بِأَرْض الْحَبَشَة، وَكَانَ تزوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا إِمَّا فِي سنة سِتّ أَو سبع على الْخلاف الْمَعْرُوف فِيهِ، وَزَيْنَب بنت أبي سَلمَة كَانَت حِينَئِذٍ صَغِيرَة، وَإِن أمكن أَن تعقل ذَلِك وَهِي صَغِيرَة على بعد فِيهِ، وَلَا جَائِز أَيْضا أَن يكون أَبَا أَحْمد، فَإِنَّهَا توفيت قبله وَتَأَخر بعْدهَا، كَمَا جزم بِهِ ابْن عبد الْبر وَغَيره، وَأقرب الِاحْتِمَالَات أَن يكون: عبيد الله، الَّذِي مَاتَ نَصْرَانِيّا على بعد فِيهِ. فَإِن قلت: مثلهَا لَا يحزن على من مَاتَ كَافِرًا فِي بَيت النُّبُوَّة قلت: ذَاك الْحزن بالجبلة والطبع فَتعذر فِيهِ وَلَا تلام بِهِ، وَقد بَكَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما رأى قبر أمه توجعا لَهَا. وَقيل: يحْتَمل أَن يكون أَخا لِزَيْنَب بنت جحش من أمهَا أَو من الرَّضَاع. قَوْله: (فمست بِهِ) أَي: شَيْئا من جَسدهَا، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي الْعدَد: (فمست مِنْهُ) .
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اسْتدلَّ بِهِ بعض الْحَنَفِيَّة على وجوب إحداد الْمَرْأَة على الزَّوْج، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: فِي الِاسْتِدْلَال بِهِ نظر لِأَن الِاسْتِثْنَاء من النَّفْي إِثْبَات للمنفي، وَإِنَّمَا هُوَ عدم الْحل على غير الزَّوْج بعد الثَّلَاث، فَيكون الِاسْتِثْنَاء إِثْبَاتًا لحل الْإِحْدَاد لَا لوُجُوبه قلت: أُجِيب بِأَن ظَاهر اللَّفْظ، وَإِن كَانَ هَكَذَا، وَلَكِن حمل على الْوُجُوب لإِجْمَاع الْعلمَاء عَلَيْهِ. فَإِن قلت: الْحسن الْبَصْرِيّ لَا يرى وجوب الْإِحْدَاد؟ قلت: لَا يَصح هَذَا عَن الْحسن، قَالَه ابْن الْعَرَبِيّ. فَإِن قلت: روى أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث أَسمَاء بنت عُمَيْس، قَالَت: (دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْيَوْم الثَّالِث من قتل جَعْفَر فَقَالَ: لَا تحدي بعد يَوْمك هَذَا. وَفِيه: لَا يجب الْإِحْدَاد بعد الْيَوْم الثَّالِث بل فِيهِ أَنه لَا يجوز لظَاهِر النَّهْي (قلت) هَذَا الحَدِيث مُخَالف الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة فِي الأحداد فَهُوَ شَاذ لَا عمل عَلَيْهِ للْإِجْمَاع إِلَى خِلَافه، وَأَيْضًا أَن جَعْفَر بن أبي طَالب كَانَ قتل شَهِيدا، وَالشُّهَدَاء أَحيَاء عِنْد رَبهم، فَلذَلِك نهى زَوجته عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِ بعد الثَّلَاث، وَهَذَا الْجَواب فِيهِ نظر لَا يخفى، وَهُوَ أَن الشَّهِيد حَيّ فِي حق الْآخِرَة لَا فِي حق الدُّنْيَا، إِذْ لَو كَانَ حَيا فِي حق الدُّنْيَا لما كَانَ يجوز تزوج نِسَائِهِ، وَلَا كَانَ تقسم تركته. فَإِن قلت: جَعْفَر مَقْطُوع لَهُ بِالشَّهَادَةِ لقَوْل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّه رَآهُ يطير فِي الْجنَّة بجناحين، فقطعنا بِأَنَّهُ حَيّ بِخِلَاف عُمُوم من قتل فِي حَرْب الْكفَّار، لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا تَقولُوا: فلَان مَاتَ شَهِيدا، قلت: قد أخبر عَن جمَاعَة بِأَنَّهُم شُهَدَاء وَلم ينْه نِسَاءَهُ عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِم: كَعبد الله بن حرَام وَالِد جَابر بن عبد الله، وَقَالَ فِي حمزه: إِنَّه سيد الشُّهَدَاء، وَمَعَ هَذَا فَلم ينْقل أَنه نهى نِسَاءَهُمْ عَن الْإِحْدَاد عَلَيْهِم. وَفِيه: دلَالَة لأبي حنيفَة وَأبي ثَوْر أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد على الزَّوْجَة الذِّمِّيَّة، لِأَنَّهُ قيد ذَلِك بقوله: (لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه) . وَفِيه: دلَالَة على أَن الْإِحْدَاد لَا يجب على الصبية لِأَنَّهُ لَا تسمى امْرَأَة إلاَّ بعد الْبلُوغ.

13 - (بابُ زِيَارَةِ القُبُورِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم زِيَارَة الْقُبُور، وَلم يُصَرح بالحكم لما فِيهِ من الْخلاف بَين الْعلمَاء، وَيَأْتِي بَيَانه عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

3821 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا ثابِتٌ عنْ أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ مرَّ النبيُّ بامْرَأةٍ تَبْكِي عِنْدَ قَبْرٍ فقالَ اتَّقِي الله واصْبِرِي قالَتْ إلَيْكَ عَنِّي فإنَّكَ لَمْ تُصَبْ بِمُصِيبَتِي وَلَمْ تَعْرِفْهُ فَقِيلَ لَهَا إنَّهُ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأتَتْ بابَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَمْ تَجِدْ عِنْدَهُ بَوَّابِينَ فقَالَتْ لَمْ أعْرِفْكَ فَقَالَ إنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأوُلَى..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم ينْه الْمَرْأَة الْمَذْكُورَة عَن زيارتها قبر ميتها، وَإِنَّمَا أمرهَا بِالصبرِ، فَدلَّ على الْجَوَاز من هَذِه الْحَيْثِيَّة، فلعدم التَّصْرِيح بِهِ لم يُصَرح البُخَارِيّ أَيْضا بالحكم. وَقد مر هَذَا الحَدِيث بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد فِي: بَاب قَول الرجل للْمَرْأَة عِنْد الْقَبْر: (اصْبِرِي) ، غير أَن هُنَا زِيَادَة من قَوْله: (قَالَت إِلَيْك عني. .) إِلَى آخِره.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع.

(8/67)


ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره: أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار عَن غنْدر وَفِي الْأَحْكَام عَن إِسْحَاق ابْن مَنْصُور. وَأخرجه مُسلم فِي الْجَنَائِز عَن بنْدَار عَن غنْدر وَعَن أبي مُوسَى وَعَن عقبَة بن مكرم وَعَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم وَزُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أبي مُوسَى مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن بنْدَار بِهِ مُخْتَصرا. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن عَمْرو بن عَليّ عَن غنْدر بِهِ وَفِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة عَن عَمْرو بن عَليّ عَن أبي دَاوُد عَنهُ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بِامْرَأَة) ، لم يُوقف على اسْمهَا. قَوْله: (عِنْد قبر) ، وَلَفظ مُسلم: (أَتَى على امْرَأَة تبْكي على صبي لَهَا فَقَالَ لَهَا: اتقِي الله واصبري، فَقَالَت: وَمَا تبالي؟ مصيبتي. فَلَمَّا ذهب قيل لَهَا: إِنَّه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَأَخذهَا مثل الْمَوْت فَأَتَت بَابه فَلم تَجِد على بَابه بوابين، فَقَالَت: يَا رَسُول الله لم أعرفك، فَقَالَ: إِنَّمَا الصَّبْر عِنْد أول صدمة. أَو قَالَ: عِنْد أول الصدمة) . وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق: (قد أُصِيبَت بِوَلَدِهَا) . قَوْله: اتقِي الله) قَالَ الْقُرْطُبِيّ: الظَّاهِر أَنَّهَا كَانَت تنوح وَهِي تبْكي، فَلهَذَا أمرهَا بالتقوى، وَهُوَ الْخَوْف من الله تَعَالَى، وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: (اتقِي الله) تَوْطِئَة لقَوْله: (واصبري) كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا: خافي غضب الله إِن لم تصبري وَلَا تجزعي ليحصل لَك الثَّوَاب، وَفِي رِوَايَة أبي نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) : (فَقَالَ: يَا أمة الله اتقِي الله) . قَوْله: (إِلَيْك) من أَسمَاء الْأَفْعَال وَمَعْنَاهَا: تَنَح عني وَأبْعد. قَوْله: (فَإنَّك لم تصب) ، على صِيغَة الْمَجْهُول، وَفِي لفظ للْبُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام من وَجه آخر عَن شُعْبَة: (فَإنَّك خلو من مصيبتي) ، والخلو بِكَسْر الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون اللَّام. وَفِي لفظ لمُسلم: (مَا تبالي مصيبتي) . وَفِي رِوَايَة أبي يعلى الْموصِلِي من حَدِيث أبي هُرَيْرَة أَنَّهَا قَالَت: (يَا عبد الله أَنا الحراء الثكلاء، وَلَو كنت مصابا عذرتني) ، وَفِي بعض النّسخ بعد قَوْله: (فَإنَّك لم تصب بمصيبتي، وَلم تعرفه) . الْوَاو فِيهِ للْحَال أَي: قَالَت للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هَذَا القَوْل وَالْحَال أَنَّهَا لم تعرف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذْ لَو عَرفته لما خاطبته بِهَذَا الْخطاب. قَوْله: (فَقيل لَهَا) أَي: للْمَرْأَة الْمَذْكُورَة، فَكَأَن الْقَائِل لَهَا وَاحِد مِمَّن كَانَ هُنَاكَ، وَفِي رِوَايَة الْأَحْكَام: (فَمر بهَا رجل فَقَالَ لَهَا: إِنَّه رَسُول الله) . وَفِي رِوَايَة أبي يعلى: (قَالَ: فَهَل تعرفينه؟ قَالَت: لَا) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من طَرِيق عَطِيَّة عَن أنس أَن الَّذِي سَأَلَهَا هُوَ الْفضل بن عَبَّاس، وَقد مر فِي رِوَايَة مُسلم: (فَأَخذهَا مثل الْمَوْت) أَي: من شدَّة الكرب الَّذِي أَصَابَهَا لما عرفت أَنه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خجلاً مِنْهُ ومهابة. قَوْله: (فَلم تَجِد عِنْده) أَي: لم تَجِد هَذِه الْمَرْأَة عِنْد النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (بوابين) يمْنَعُونَ النَّاس، وَفِي رِوَايَة الْأَحْكَام: (بوابا) بِالْإِفْرَادِ. قَالَ الطَّيِّبِيّ: فَائِدَة هَذِه الْجُمْلَة أَنه لما قيل لَهَا: إِنَّه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم استشعرت خوفًا وهيبة فِي نَفسهَا، فتصورت أَنه مثل الْمُلُوك لَهُ صَاحب أَو بواب يمْنَع النَّاس من الْوُصُول إِلَيْهِ، فَوجدت الْأَمر بِخِلَاف مَا تصورته. قَوْله: (فَقَالَت: لم أعرفك) ، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة (فَقَالَت: وَالله مَا عرفتك) . قَوْله: (إِنَّمَا الصَّبْر) أَي: إِنَّمَا الصَّبْر الْكَامِل، ليَصِح معنى الْحصْر على الصدمة الأولى، وَفِي رِوَايَة الْأَحْكَام: (عِنْد أول صدمة) . وأصل الصدم لُغَة: الضَّرْب فِي الشَّيْء الصلب، ثمَّ استعير لكل أَمر مَكْرُوه، وَحَاصِل الْمَعْنى: أَن الصَّبْر الَّذِي يكون عِنْد الصدمة الأولى هُوَ الَّذِي يكون صبرا على الْحَقِيقَة، وَأما السّكُون بعد فَوَات الْمُصِيبَة رُبمَا لَا يكون صبرا، بل قد يكون سلواه، كَمَا يَقع لكثير من أهل المصائب، بِخِلَاف أول وُقُوع الْمُصِيبَة، فَإِنَّهُ يصدم الْقلب بَغْتَة فَلَا يكون السّكُون عِنْد ذَلِك، والرضى بالمقدور إلاَّ صبرا على الْحَقِيقَة. وَقَالَ الْخطابِيّ: الْمَعْنى أَن الصَّبْر الَّذِي يحمد عَلَيْهِ صَاحبه مَا كَانَ عِنْد مفاجأة الْمُصِيبَة، بِخِلَاف مَا بعد ذَلِك، فَإِنَّهُ على الْأَيَّام يسلو. وَقيل: إِن الْمَرْء لَا يُؤجر على الْمُصِيبَة لِأَنَّهَا لَيست من صنعه، وَإِنَّمَا يُؤجر على حسن نِيَّته وَجَمِيل صبره، وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ أَن لَا يجْتَمع عَلَيْهَا مُصِيبَة الْهَلَاك وفقد الْأجر.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: فِيهِ: مَا كَانَ عَلَيْهِ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من التَّوَاضُع والرفق بالجاهل، وَترك مُؤَاخذَة الْمُصَاب وَقبُول اعتذاره. وَفِيه: إِن الْحَاكِم لَا يَنْبَغِي لَهُ أَن يتَّخذ من يَحْجُبهُ عَن حوائج النَّاس. وَفِيه: أَن من أَمر بِمَعْرُوف يَنْبَغِي لَهُ أَن يقبل وَإِن لم يعرف الْآمِر. وَفِيه: أَن الْجزع من المنهيات لأَمره، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَهَا بالتقوى مَقْرُونا بِالصبرِ. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي احْتِمَال الْأَذَى عِنْد بذل النَّصِيحَة وَنشر الموعظة. وَفِيه: أَن المواجهة بِالْخِطَابِ إِذا لم تصادف الْمَنوِي لَا أثر لَهَا. وَبنى عَلَيْهِ بَعضهم مَا إِذا قَالَ: يَا هِنْد أَنْت طَالِق، فصادف عمْرَة أَن عمْرَة لَا تطلق. وَفِيه: جَوَاز زِيَارَة الْقُبُور مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الزائر رجلا أَو امْرَأَة، وَسَوَاء كَانَ المزور مُسلما أَو كَافِرًا لعدم الْفَصْل فِي ذَلِك. وَقَالَ النَّوَوِيّ: وبالجواز قطع الْجُمْهُور، وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: لَا يجوز زِيَارَة قبر الْكَافِر، مستدلاً بقوله تَعَالَى: وَلَا تقم على قَبره} (التَّوْبَة: 48) . وَهَذَا غلط. وَفِي الِاسْتِدْلَال

(8/68)


بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَة نظر لَا يخفى.
وَاعْلَم أَن النَّاس اخْتلفُوا فِي زِيَارَة الْقُبُور، فَقَالَ الْحَازِمِي: أهل الْعلم قاطبة على الْإِذْن فِي ذَلِك للرِّجَال. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: الْإِبَاحَة فِي زِيَارَة الْقُبُور إِبَاحَة عُمُوم، كَمَا كَانَ النَّهْي عَن زيارتها نهي عُمُوم، ثمَّ ورد النّسخ فِي الْإِبَاحَة على الْعُمُوم، فَجَائِز للرِّجَال وَالنِّسَاء زِيَارَة الْقُبُور، وروى فِي الْإِبَاحَة أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: حَدِيث بُرَيْدَة أخرجه مُسلم قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروها. .) الحَدِيث، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا وَلَفظه: (قد كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فقد أذن لمُحَمد فِي زِيَارَة قبر أمه فزوروها فَإِنَّهَا تذكر بِالآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن مَسْعُود أخرجه ابْن مَاجَه عَنهُ: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور، فزوروا الْقُبُور، فَإِنَّهَا تذكر فِي الدُّنْيَا وتذكر الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث أنس أخرجه ابْن أبي شيبَة عَنهُ، قَالَ: (نهى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، عَن زِيَارَة الْقُبُور، ثمَّ قَالَ: زوروها وَلَا تَقولُوا هجرا) يَعْنِي سوأً. وَمِنْهَا: حَدِيث أبي هُرَيْرَة أخرجه أَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ: (زار النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبر أمه فَبكى وأبكى من حوله، فَقَالَ: اسْتَأْذَنت رَبِّي فِي أَن اسْتغْفر لَهَا فَلم يَأْذَن لي واستأذنته فِي أَن أزورها فَأذن لي، فزوروا الْقُبُور فَإِنَّهَا تذكر الْمَوْت) . وَرَوَاهُ أَيْضا مُخْتَصرا. وَمِنْهَا: حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أخرجه ابْن مَاجَه عَنْهَا: (أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رخص فِي زِيَارَة الْقُبُور) . وَمِنْهَا: حَدِيث حَيَّان الْأنْصَارِيّ أخرجه الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) قَالَ: (خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم خَيْبَر. .) الحَدِيث، وَفِيه: (وَأحل لَهُم ثَلَاثَة أَشْيَاء كَانَ ينهاهم عَنْهَا: أحل لَهُم لُحُوم الْأَضَاحِي وزيارة الْقُبُور والأوعية) . وَمِنْهَا: حَدِيث أبي ذَر، أخرجه الْحَاكِم عَنهُ قَالَ: (قَالَ لي رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: زر الْقُبُور تذكر بهَا الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخرجه أَحْمد عَنهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (إِنِّي كنت نَهَيْتُكُمْ عَن زِيَارَة الْقُبُور فزوروها فَإِنَّهَا تذكركم الْآخِرَة) . وَمِنْهَا: حَدِيث ابْن عَبَّاس، أخرجه أَحْمد عَنهُ: (مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بقبور فَأقبل عَلَيْهِم بِوَجْهِهِ فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْكُم) . وَمِنْهَا: حَدِيث مجمع بن جَارِيَة، أخرجه ابْن أبي الدُّنْيَا: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم انْتهى إِلَى الْمقْبرَة، فَقَالَ: السَّلَام على أهل الْقُبُور. .) الحَدِيث، وَفِيه: إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش.
وَعَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، (أَنه أَتَى الْمقْبرَة فَسلم عَلَيْهِم، وَقَالَ رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسلم عَلَيْهِم) وَعند ابْن عبد الْبر، بِسَنَد صَحِيح: (مَا من أحد يمر بِقَبْر أَخِيه الْمُؤمن كَانَ يعرفهُ فِي الدُّنْيَا فَيسلم عَلَيْهِ إلاَّ عرفه ورد عَلَيْهِ السَّلَام) . وَلما أخرج التِّرْمِذِيّ حَدِيث بُرَيْدَة، قَالَ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أهل الْعلم: لَا يرَوْنَ بزيارة الْقُبُور بَأْسا. وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَلما روى حَدِيث أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: لعن الله زوارات الْقُبُور) ، قَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح، ثمَّ قَالَ: وَقد رأى بعض أهل الْعلم أَن هَذَا كَانَ قبل أَن يرخص النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي زِيَارَة الْقُبُور، فَلَمَّا رخص دخل فِي رخصته الرِّجَال وَالنِّسَاء، وَقَالَ بَعضهم: إِنَّمَا تكره زِيَارَة الْقُبُور للنِّسَاء لقلَّة صبرهن وَكَثْرَة جزعهن. وروى أَبُو دَاوُد عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: (لعن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زائرات الْقُبُور والمتخذين عَلَيْهَا الْمَسَاجِد والسرج) ، وَاحْتج بِهَذَا الحَدِيث قوم، فَقَالُوا: إِنَّمَا اقْتَضَت الْإِبَاحَة فِي زِيَارَة الْقُبُور للرِّجَال دون النِّسَاء، وَقَالَ ابْن عبد الْبر: يُمكن أَن يكون هَذَا قبل الْإِبَاحَة. قَالَ: وتوقي ذَلِك للنِّسَاء المتجملات أحب إِلَيّ، وَإِمَّا الشواب فَلَا يُؤمن من الْفِتْنَة عَلَيْهِنَّ وبهن حَيْثُ خرجن، وَلَا شَيْء للْمَرْأَة أحسن من لُزُوم قَعْر بَيتهَا. وَلَقَد كره أَكثر الْعلمَاء خروجهن إِلَى الصَّلَوَات فَكيف إِلَى الْمَقَابِر؟ وَمَا أَظن سُقُوط فرض الْجُمُعَة عَلَيْهِنَّ إلاَّ دَلِيلا على إمساكهن عَن الْخُرُوج فِيمَا عَداهَا. قَالَ: وَاحْتج من أَبَاحَ زِيَارَة الْقُبُور للنِّسَاء، بِحَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، رَوَاهُ فِي (التَّمْهِيد) من رِوَايَة بسطَام بن مُسلم عَن أبي التياح (عَن عبد الله بن أبي مليكَة: أَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أَقبلت ذَات يَوْم من الْمَقَابِر، فَقلت لَهَا: يَا أم الْمُؤمنِينَ، من أَيْن أَقبلت؟ قَالَت: من قبر أخي عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَقلت لَهَا: أَلَيْسَ كَانَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ينْهَى عَن زِيَارَة الْقُبُور؟ قَالَت: نعم، كَانَ ينْهَى عَن زيارتها ثمَّ أَمر بزيارتها) ، وَفرق قوم بَين قَوَاعِد النِّسَاء وَبَين شبابهن، وَبَين أَن ينفردن بالزيارة أَو يخالطن الرِّجَال، فَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أما الشواب فَحَرَام عَلَيْهِنَّ الْخُرُوج، وَأما الْقَوَاعِد فمباح لَهُنَّ ذَلِك، قَالَ: وَجَائِز ذَلِك لجميعهن إِذا انفردن بِالْخرُوجِ عَن الرِّجَال. قَالَ: وَلَا يخْتَلف فِي هَذَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ أَيْضا: حمل بَعضهم حَدِيث التِّرْمِذِيّ فِي الْمَنْع على من يكثر

(8/69)


الزِّيَارَة لِأَن زوارات للْمُبَالَغَة، وَيُمكن أَن يُقَال: إِن النِّسَاء إِنَّمَا يمنعن من إكثار الزِّيَارَة لما يُؤَدِّي إِلَيْهِ الْإِكْثَار من تَضْييع حُقُوق الزَّوْج والتبرج والشهرة والتشبه بِمن يلازم الْقُبُور لتعظيمها، وَلما يخَاف عَلَيْهَا من الصُّرَاخ وَغير ذَلِك من الْمَفَاسِد، وعَلى هَذَا يفرق بَين الزائرات والزوارات.
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَحَدِيث بُرَيْدَة صَرِيح فِي نسخ نهي زِيَارَة الْقُبُور، وَالظَّاهِر أَن الشّعبِيّ وَالنَّخَعِيّ لم يبلغهما أَحَادِيث الْإِبَاحَة.
وَكَانَ الشَّارِع يَأْتِي قُبُور الشُّهَدَاء عِنْد رَأس الْحول فَيَقُول: السَّلَام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ، فَنعم عُقبى الدَّار، وَكَانَ أَبُو بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يَفْعَلُونَ ذَلِك، وزار الشَّارِع قبر أمه، يَوْم الْفَتْح فِي ألف مقنع ذكره ابْن أبي الدُّنْيَا، وَذكر ابْن أبي شيبَة عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود وَأنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إجَازَة الزِّيَارَة، وَكَانَت فَاطِمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تزور قبر حَمْزَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، كل جُمُعَة. وَكَانَ عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يزور قبر أَبِيه فيقف عَلَيْهِ وَيَدْعُو لَهُ، وَكَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تزور قبر أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن وقبره بِمَكَّة، ذكره أجمع عبد الرَّزَّاق. وَقَالَ ابْن حبيب: لَا بَأْس بزيارة الْقُبُور وَالْجُلُوس إِلَيْهَا وَالسَّلَام عَلَيْهَا عِنْد الْمُرُور بهَا، وَقد فعل ذَلِك رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَسُئِلَ مَالك عَن زِيَارَة الْقُبُور؟ فَقَالَ: قد كَانَ نهى عَنهُ ثمَّ أذن فِيهِ، فَلَو فعل ذَلِك إِنْسَان وَلم يقل إلاَّ خيرا لم أر بذلك بَأْسا. وَفِي (التَّوْضِيح) أَيْضا: وَالْأمة مجمعة على زِيَارَة قبر نَبينَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأبي بكر وَعمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. وَكَانَ ابْن عمر إِذا قدم من سفر أُتِي قَبره المكرم فَقَالَ: السَّلَام عَلَيْك يَا رَسُول الله، السَّلَام عَلَيْك يَا أَبَا بكر، السَّلَام عَلَيْك يَا أبتاه. وَمعنى النَّهْي عَن زِيَارَة الْقُبُور إِنَّمَا كَانَ فِي أول الْإِسْلَام عِنْد قربهم بِعبَادة الْأَوْثَان واتخاذ الْقُبُور مَسَاجِد، فَلَمَّا استحكم الْإِسْلَام وَقَوي فِي قُلُوب النَّاس وَأمنت عبَادَة الْقُبُور وَالصَّلَاة إِلَيْهَا نسخ النَّهْي عَن زيارتها لِأَنَّهَا تذكر الْآخِرَة وتزهد فِي الدُّنْيَا وَعَن طَاوُوس: كَانُوا يستحبون أَن لَا يتفرقوا عَن الْمَيِّت سَبْعَة أَيَّام لأَنهم يفتنون ويحاسبون فِي قُبُورهم سَبْعَة أَيَّام، وَحَاصِل الْكَلَام من هَذَا كُله أَن زِيَارَة الْقُبُور مَكْرُوهَة للنِّسَاء، بل حرَام فِي هَذَا الزَّمَان، وَلَا سِيمَا نسَاء مصر لِأَن خروجهن على وَجه فِيهِ الْفساد والفتنة، وَإِنَّمَا رخصت الزِّيَارَة لتذكر أَمر الْآخِرَة وللاعتبار بِمن مضى وللتزهد فِي الدُّنْيَا.