عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 06 - (بابُ مَا يُذْكَرُ فِي الصَّدَقَةِ
لِلنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الحكم الَّذِي يذكر فِي
الصَّدَقَة لأجل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَعْنِي
فِي حَقه، وَفِي حق آله، وَقد مر تَفْسِير الْآل، وَفِي
بعض النّسخ: من الصَّدَقَة، عوض: فِي الصَّدَقَة،
وَإِنَّمَا أبهم الحكم لكَونه مَشْهُورا.
1941 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ زِيَادٍ قَالَ سَمِعْتُ أبَا
هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ أخَذَ
الحَسَنُ بنُ عَلِيٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا
تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فجَعَلَهَا فِي فِيهِ
فَقَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَخْ كَخْ
لِيَطْرَحَهَا ثُمَّ قالَ أمَا شَعَرْتَ أنَّا لَا نَأكُلُ
الصَّدَقَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِنَّا لَا نَأْكُل
الصَّدَقَة) ، والْحَدِيث مضى بأتم مِنْهُ فِي: بَاب أَخذ
صَدَقَة التَّمْر عِنْد صرام النّخل، وَقد ذكرنَا هُنَاكَ
مَا يتَعَلَّق بِهِ وَهنا زِيَادَة، وَهِي قَوْله: (كخ كخ)
، بِفَتْح الْكَاف وَكسرهَا وتسكين الْخَاء الْمُعْجَمَة
وَيجوز كسرهَا مَعَ التَّنْوِين، فَتَصِير سِتّ لُغَات،
وَإِنَّمَا كرر للتَّأْكِيد، وَهِي كلمة تزجر بهَا
الصّبيان عِنْد مناولة مَا لَا يَنْبَغِي الْإِتْيَان
بِهِ، قيل: هِيَ عَرَبِيَّة، وَقيل: أَعْجَمِيَّة. وَقَالَ
الدَّاودِيّ: هِيَ معربة، وَقد أوردهَا البُخَارِيّ فِي:
بَاب من تكلم بِالْفَارِسِيَّةِ، وَالْمعْنَى هُنَا: اتركه
وارمِ بِهِ. قَوْله: (أما شَعرت؟) هَذِه اللَّفْظَة تقال
فِي الشَّيْء الْوَاضِح التَّحْرِيم وَنَحْوه، وَإِن لم
يكن الْمُخَاطب عَالما بِهِ أَي: كَيفَ خَفِي عَلَيْك مَعَ
ظُهُور تَحْرِيمه، وَهَذَا أبلغ فِي الزّجر عَنهُ بقوله:
لَا تَفْعَلهُ فَإِن قلت: روى أَحْمد من رِوَايَة حَمَّاد
بن سَلمَة عَن مُحَمَّد
(9/86)
ابْن زِيَاد: (فَنظر إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ
يلوك تَمْرَة، فحرك خَدّه، وَقَالَ: ألقها يَا بني ألقها
يَا بني) . فَمَا التَّوْفِيق بَينه وَبَين قَوْله: (كخ
كخ؟) قلت: هُوَ أَنه كلمة أَولا بِهَذَا، فَلَمَّا تَمَادى
قَالَ: كخ كخ إِشَارَة إِلَى استقذار ذَلِك، وَقد ذكرنَا
الْحِكْمَة فِي تَحْرِيمهَا عَلَيْهِم أَنَّهَا مطهرة
للملاك ولأموالهم، قَالَ تَعَالَى: {خُذ من أَمْوَالهم
صَدَقَة تطهرهُمْ} (التَّوْبَة: 301) . فَهِيَ كغسالة
الأوساخ، وَأَن آل مُحَمَّد منزهون عَن أوساخ النَّاس
وغسالاتهم، وَثَبت عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم:
(الصَّدَقَة أوساخ النَّاس) ، كَمَا رَوَاهُ مُسلم، وَأما
إِن أَخذهَا مذلة، وَالْيَد السُّفْلى، وَلَا يَلِيق بهم
الذل والافتقار إِلَى غير الله تَعَالَى، وَلَهُم الْيَد
الْعليا وَأما أَنَّهَا لَو أخذوها لطال لِسَان
الْأَعْدَاء بِأَن مُحَمَّدًا يَدْعُونَا إِلَى مَا
يَدْعُونَا إِلَيْهِ ليَأْخُذ أَمْوَالنَا ويعطيها لأهل
بَيته. قَالَ تَعَالَى: {قل، لَا أَسأَلكُم عَلَيْهِ أجرا}
(الْأَنْعَام: 09، الشورى: 32) . وَلِهَذَا أَمر أَن تصرف
إِلَى فقرائهم فِي بلدهم. قَوْله: (إنَّا لَا نَأْكُل
الصَّدَقَة) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم: (إِنَّا لَا تحل لنا
الصَّدَقَة) وَفِي رِوَايَة معمر: (إِن الصَّدَقَة لَا تحل
لآل مُحَمَّد) ، وَفِي رِوَايَة الطَّحَاوِيّ: (إِنَّا آل
مُحَمَّد لَا تحل لنا الصَّدَقَة) .
16 - (بابُ الصَّدَقَةِ عَلَى مَوَالِي أزْوَاجِ النبيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الصَّدَقَة على موَالِي
أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: على
عتائقهن. قيل: لم يترجم لِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَلَا موَالِي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده فِيهِ شَيْء؟ قلت: روى
الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن
حبَان وَغَيره عَن أبي رَافع مَرْفُوعا: (إِنَّا لَا تحل
لنا الصَّدَقَة وَأَن موَالِي الْقَوْم من أنفسهم) .
وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو حنيفَة وَأحمد وَابْن الْمَاجشون
الْمَالِكِي، وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الشَّافِعِيَّة،
وَقَالَ غَيرهم: يجوز لَهُم لأَنهم لَيْسُوا مِنْهُم
حَقِيقَة، فَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك مَا كَانَ
يَنْبَغِي الإعتذار عَن البُخَارِيّ فِي تَركه
التَّرْجَمَة لِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَلَا لمواليه بقوله لِأَنَّهُ لم يثبت عِنْده فِيهِ شَيْء
لِأَن البُخَارِيّ لم يلْتَزم أَن يذكر كل صَحِيح عِنْده
أَو عِنْد غَيره، وَقيل: إِنَّمَا أورد البُخَارِيّ هَذِه
التَّرْجَمَة ليحقق أَن الْأزْوَاج لَا يدخلن وَلَا تحرم
عَلَيْهِنَّ الصَّدَقَة، وَكَذَا قَالَ ابْن بطال: إِن
الْأزْوَاج لَا يدخلن فِي ذَلِك بِاتِّفَاق الْفُقَهَاء،
فَإِذا لم يدخلن هن فمواليهن أَحْرَى بِعَدَمِ الدُّخُول.
قلت: روى الْخلال من طَرِيق ابْن أبي مليكَة (عَن
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: إِنَّا آل
مُحَمَّد لَا تحل لنا الصَّدَقَة) ، ذكره ابْن قدامَة،
وَقَالَ: هَذَا يدل على تَحْرِيمهَا، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن
أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) حَدثنَا وَكِيع عَن شريك عَن ابْن
أبي مليكَة أَن خَالِد بن سعيد بن الْعَاصِ أرسل إِلَى
عَائِشَة شَيْئا من الصَّدَقَة، فَردته فَقَالَت: إِنَّا
آل مُحَمَّد لَا تحل لنا الصَّدَقَة.
2941 - حدَّثنا سَعِيدُ بنُ عُفَيْرٍ قَالَ حدَّثنا ابنُ
وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ حدَّثني
عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ وَجَدَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم شَاة مَيِّتَةً أعْطَيْتها مَوْلاَةٌ
لِمَيْمُونَةَ مِنَ الصَّدَقَةِ قَالَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم هَلاَّ انْتَفَعْتُمْ بِجِلْدِهَا قَالُوا
إنَّهَا مَيْتَةٌ قَالَ إنَّمَا حَرُمَ أكْلُهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (أُعطيتها مولاة لميمونة
من الصَّدَقَة) ، فَإِن مولاة مَيْمُونَة أُعطيت صَدَقَة
فَلم يُنكر عَلَيْهَا، فَدلَّ على أَن موَالِي أَزوَاج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تحل لَهُم الصَّدَقَة،
وَبِهَذَا علم أَن مُرَاد البُخَارِيّ من هَذِه
التَّرْجَمَة التَّنْبِيه على ذَلِك، لَا مَا قَالَه
الْإِسْمَاعِيلِيّ: هَذِه التَّرْجَمَة مُسْتَغْنى
عَنْهَا، فَإِن تَسْمِيَة الْمولى لغير فَائِدَة،
وَإِنَّمَا هُوَ لسوق الحَدِيث على وَجهه فَقَط.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: سعيد بن عفير، بِضَم
الْعين الْمُهْملَة وَفتح الْفَاء، مر فِي بَاب من يرد
الله بِهِ خيرا. الثَّانِي: عبد الله ابْن وهب. الثَّالِث:
يُونُس ين يزِيد. الرَّابِع: مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب
الزُّهْرِيّ. الْخَامِس: عبيد الله، بِضَم الْعين: ابْن
عبد الله، بِفَتْح الْعين: ابْن عتبَة بن مَسْعُود أحد
الْفُقَهَاء السَّبْعَة. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه:
العنعنة فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه
مَنْسُوب إِلَى جده لِأَنَّهُ سعيد بن كثير بن عفير وَأَنه
وَابْن وهب مصريان، وَأَن يُونُس أيلي وَأَن ابْن شهَاب
وَعبيد الله مدنيان، وَقَالَ
(9/87)
أَبُو عمر: روى هَذَا الحَدِيث غير وَاحِد
عَن مَالك عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله بن عبد الله عَن
النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مُرْسلا، وَالصَّحِيح
اتِّصَاله، كَذَا رَوَاهُ معمر وَيُونُس والزبيدي وَعقيل،
كلهم عَن ابْن شهَاب عَن عبيد الله عَن ابْن عَبَّاس عَن
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْبيُوع، وَفِي الذَّبَائِح عَن زُهَيْر بن
حَرْب. وَأخرجه مُسلم فِي الطَّهَارَة عَن أبي الطَّاهِر
وحرملة، وَعَن الْحسن بن عَليّ وَعبد بن حميد وَعَن يحيى
بن يحيى وَعَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي
اللبَاس عَن عُثْمَان بن أبي شيبَة وَمُحَمّد بن أَحْمد،
وَعَن مُسَدّد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الذَّبَائِح عَن
مُحَمَّد بن مسلمة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن عبد الْملك
بن شُعَيْب وروى مُسلم من حَدِيث عَطاء: (عَن ابْن عَبَّاس
عَن مَيْمُونَة أخْبرته: أَن داجنا كَانَت لبَعض أَزوَاج
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَمَاتَتْ، فَقَالَ
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَلا أَخَذْتُم
إهابها فاستمتعتم بِهِ؟) وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (مر
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِرِجَال من قُرَيْش
يجرونَ شَاة، فَقَالَ: لَو أَخَذْتُم إهابها؟ قَالُوا:
إِنَّهَا ميتَة. قَالَ: يطهره المَاء والقرظ) . وَفِي
رِوَايَة لِأَحْمَد (عَن ابْن عَبَّاس: مَاتَت شَاة لسودة
بنت زَمعَة، فَقَالَت: يَا رَسُول الله مَاتَت فلَان،
يَعْنِي الشَّاة، فَقَالَ: لَوْلَا أَخَذْتُم مسكها؟
فَقَالَت: تَأْخُذ مسك شَاة قد مَاتَت؟ فَقَالَ: إِنَّكُم
لَا تطعمونه تنتفعون بِهِ. قَالَ: فَأرْسلت إِلَيْهَا
فسلخت مسكها فدبغته واتخذت مِنْهُ قربَة حَتَّى تخرقت
عِنْدهَا) . وَعند البُخَارِيّ (عَن سَوْدَة: مَاتَت لنا
شَاة فدبغنا مسكها) الحَدِيث مَوْقُوف، وَعند مُسلم عَنهُ
مَرْفُوعا (إِذا دبغ الإهاب فقد طهر) ، وَفِي لفظ: (دباغه
طهوره) ، وَعند ابْن شاهين سُئِلَ عَن جُلُود الْميتَة
فَقَالَ: طهورها دباغها، وَفِي لفظ مَرْفُوع:
(اسْتَمْتعُوا بجلود الْميتَة إِذا دبغت تُرَابا كَانَ أَو
رَمَادا أَو ملحا أَو مَا كَانَ، بعد أَن يزِيد صَلَاحه) .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: فِي إِسْنَاده مَعْرُوف بن حسان
مُنكر الحَدِيث، وَفِي كتاب ابْن سعد: قَالَ مُحَمَّد بن
الْأَشْعَث لعَائِشَة: أَلا نجْعَل لَك فروا تلبسيه
فَإِنَّهُ أدفأ لَك؟ قَالَت: إِنِّي لأكْره جُلُود
الْميتَة. فَقَالَ: أَنا أقوم عَلَيْهِ وَلَا أجعله إلاَّ
ذكيا، فَجعله لَهَا فَكَانَت تلبسه، رَوَاهُ معن ومطرف،
قَالَا: حَدثنَا مَالك عَن نَافِع عَن الْقَاسِم بن
مُحَمَّد بِهِ، وروى أَبُو دَاوُد بِسَنَد جيد من حَدِيث
قَتَادَة عَن الْحسن عَن الجون بن قَتَادَة (عَن سَلمَة بن
المحبق أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مر
بِبَيْت بفنائه قربَة معلقَة، فَاسْتَسْقَى فَقيل:
إِنَّهَا ميتَة، فَقَالَ: زَكَاة الْأَدِيم دباغه) . وَفِي
رِوَايَة: فِي غَزْوَة تَبُوك. وَقَالَ الْحَاكِم: صَحِيح
الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ، وَعند أَحْمد بِسَنَد جيد (عَن
جَابر: كُنَّا نصيب مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، فِي مغانمنا من الْمُشْركين الأسقية والأوعية
فنقسمها وَكلهَا ميتَة) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث
أم سَلمَة: أَنَّهَا مَاتَت لَهَا شَاة، فَقَالَ النَّبِي،
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَفلا انتفعتم بإهابها؟
فَقَالُوا: إِنَّهَا ميتَة. فَقَالَ: إِن دباغتها يحل
كَمَا يحل الْخمر الْملح. قَالَ: تفرد بِهِ الْفرج بن
فضَالة وَهُوَ ضَعِيف، وَرَوَاهُ أَيْضا من حَدِيث يُوسُف
بن السّفر، قَالَ: وَهُوَ مَتْرُوك، وَمن حَدِيث أبي قيس
الأودي عَن هزيل بن شُرَحْبِيل عَن أم سَلمَة أَو زَيْنَب
أَو غَيرهمَا من أَزوَاج النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم: (إِن مَيْمُونَة مَاتَت لَهَا شَاة) الحَدِيث.
فَإِن قلت: جَاءَت أَحَادِيث تخَالف الْأَحَادِيث
الْمَذْكُورَة. مِنْهَا: حَدِيث رَوَاهُ أَحْمد فِي
(مُسْنده) من حَدِيث حبيب بن أبي ثَابت عَن رجل عَن أم
سلمَان الأشجعية أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَتَاهَا وَهِي فِي قبَّة، فَقَالَ: مَا أحسن هَذِه إِن لم
يكن فِيهَا ميتَة؟ قَالَت: فَجعلت أتتبعها. وَمِنْهَا:
حَدِيث رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَن عبد الله بن
عكيم، قَالَ: (كتب إِلَيْنَا رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قبل مَوته بِشَهْر: أَن لَا تنتفعوا من
الْميتَة بإهاب وَلَا عصب) ، ثمَّ قَالَ: ذكر الْبَيَان
بِأَن ابْن عكيم شهد قِرَاءَة كتاب النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم بِأَرْض جُهَيْنَة، ثمَّ ذكر عَنهُ، قَالَ:
قرىء علينا كتاب النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلما
رَوَاهُ أَحْمد فِي مُسْنده قَالَ: مَا أصلح إِسْنَاده.
وَمِنْهَا: حَدِيث رَوَاهُ أَبُو حَفْص بن شاهين من حَدِيث
ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نهى
أَن ينْتَفع من الْميتَة بعصب أَو إهَاب. وَمِنْهَا:
حَدِيث جَابر رَوَاهُ ابْن شاهين أَيْضا من حَدِيث أبي
الزبير عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه
قَالَ: (لَا ينْتَفع من الْميتَة بِشَيْء) وَرَوَاهُ ابْن
جرير الطَّبَرِيّ أَيْضا. وَمِنْهَا: حَدِيث رَوَاهُ أَبُو
دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَصَححهُ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم نهى عَن جُلُود السبَاع أَن تفترش.
قلت: حَدِيث أم سلمَان مَحْمُول على أَنه لم يكن مدبوغا.
وَحَدِيث ابْن عكيم مَعْلُول بِأُمُور ثَلَاثَة: الأول:
أَنه مُضْطَرب سندا ومتنا وَقد بَيناهُ فِي شرحنا للهداية.
وَالثَّانِي: الِاخْتِلَاف فِي صحبته، فَقَالَ
الْبَيْهَقِيّ وَغَيره لَا صُحْبَة لَهُ. وَالثَّالِث:
أَنه روى عَنهُ أَنه سمع من النَّاس الداخلين عَلَيْهِ وهم
مَجْهُولُونَ، وَلَئِن صَحَّ فَلَا
(9/88)
يُقَاوم حَدِيث ابْن عَبَّاس. وَحَدِيث
ابْن عمر أَن عَامَّة من فِي إِسْنَاده مَجْهُولُونَ.
وَحَدِيث جَابر فِي إِسْنَاده زَمعَة وَهُوَ مِمَّن لَا
يعْتَمد على نَقله. وَأما النَّهْي عَن جُلُود السبَاع فقد
قيل: إِنَّهَا كَانَت تسْتَعْمل قبل الدّباغ. وَقَالَ ابْن
شاهين: هَذِه الْأَحَادِيث لَا يُمكن ادِّعَاء نسخ شَيْء
مِنْهَا بِالْآخرِ. فَإِن قلت: حَدِيث ابْن عكيم قبل
الْوَفَاة بِشَهْر؟ قلت: يُمكن أَن يُقَال: يجوز أَن يكون
الْأَمر قبل أَن يَمُوت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بجمعة، وَالْأولَى هُنَا هُوَ الْأَخْذ بِالْحَدِيثين
جَمِيعًا وَهُوَ أَن يحمل الْمَنْع على مَا قبل الدّباغ
وَالْأَخْبَار بِالطَّهَارَةِ بعده على أَن الإهاب فِي
قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إيما إهَاب دبغ فقد طهر)
، اسْم للجلد الَّذِي لم يدبغ، فَبعد الدّباغ لَا يُسمى
إهابا، وَإِنَّمَا يُسمى أديما أَو جلدا أَو جرابا.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (مولاة) ، أَي: عتيقة وارتفاعها
على أَنَّهَا مفعول مَا لم يسم فَاعله للإعطاء،
ومَيْمُونَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
ولميمونة صفة لمولاة. قَوْله: (من الصَّدَقَة) ، يتَعَلَّق
بأعطيت أَو صفة لشاة. قَوْله: (إِنَّمَا حرم أكلهَا) اتّفق
معمر وَمَالك وَيُونُس على قَوْله: (إِنَّمَا حرم أكلهَا)
، إِلَّا أَن معمرا قَالَ: لَحمهَا وَلم يذكر وَاحِد
مِنْهُم زِيَادَة دباغ أَهلهَا طهورها وَكَانَ ابْن
عُيَيْنَة يَقُول: لم أسمع أحدا يَقُول: (إِنَّمَا حرم
أكلهَا) إلاَّ الزُّهْرِيّ، وَاتفقَ الزبيدِيّ وَعقيل
وَسليمَان بن كثير وَالْأَوْزَاعِيّ على ذكر الدّباغ فِي
هَذَا الحَدِيث عَن الزُّهْرِيّ، وَكَانَ ابْن عُيَيْنَة
مرّة يذكرهُ وَمرَّة لَا يذكرهُ، وَقَالَ مُحَمَّد بن يحيى
النَّيْسَابُورِي: لست أعْتَمد فِي هَذَا الحَدِيث على
ابْن عُيَيْنَة لاضطرابه فِيهِ، وَأما ذكر الدّباغ فَلَا
يُوجد إلاَّ عَن يحيى بن أَيُّوب عَن عقيل، وَمن رِوَايَة
بَقِيَّة عَن الزبيدِيّ، وَيحيى وَبَقِيَّة ليسَا
بالقويين، وَلم يذكر مَالك وَلَا يُونُس الدّباغ، وَهُوَ
الصَّحِيح فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ، وَبِه كَانَ يُفْتِي،
وَأما من غير رِوَايَة الزُّهْرِيّ فَصَحِيح مَحْفُوظ عَن
ابْن عَبَّاس، وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: كَيفَ
طابق الْجَواب السُّؤَال يَعْنِي فِي قَوْله: (إِنَّمَا
هُوَ حرَام أكلهَا) قلت: الْأكل غَالب فِي اللَّحْم،
فَكَأَنَّهُ قَالَ: اللَّحْم حرَام لَا الْجلد. قلت: لَو
اطلع الْكرْمَانِي على مَا ذكرنَا الْآن لما احْتَاجَ
إِلَى هَذَا السُّؤَال وَلَا إِلَى الْجَواب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احتجت بِالْحَدِيثِ
الْمَذْكُور جمَاعَة كَثِيرَة من الصَّحَابَة
وَالتَّابِعِينَ على أَن جلد الْميتَة يطهر بالدباغ،
فَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك ابْن مَسْعُود وَابْن الْمسيب
وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَالْحسن وَالشعْبِيّ
وَالنَّخَعِيّ وَسَالم وَابْن جُبَير وَقَتَادَة
وَالضَّحَّاك وَيحيى الْأنْصَارِيّ وَاللَّيْث
وَالْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَعبد الله بن الْمُبَارك
وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالشَّافِعِيّ وَأَصْحَابه
وَإِسْحَاق. وَفِيه: دَلِيل على بطلَان قَول من قَالَ: إِن
الْجلد من الْميتَة لَا ينْتَفع بِهِ بعد الدّباغ، وَبَطل
أَيْضا قَول من قَالَ إِن جلد الْميتَة وَإِن لم يدبغ
يسْتَمْتع بِهِ وَينْتَفع بِهِ، وَهُوَ قَول مَرْوِيّ عَن
ابْن شهَاب وَاللَّيْث بن سعد، وَهُوَ مَشْهُور عَنْهُمَا
على أَنه قد روى عَنْهُمَا خِلَافه، قَالَ معمر: وَكَانَ
الزُّهْرِيّ يُنكر الدّباغ، وَيَقُول: مستمتع بِهِ على كل
حَال، قَالَ أَبُو عبد الله الْمروزِي: مَا علمت أحدا
قَالَ ذَلِك قبل الزُّهْرِيّ، وَكَانَ الزُّهْرِيّ يذهب
إِلَى ظَاهر الحَدِيث فِي قَوْله: (إِنَّمَا حرَام أكلهَا)
، قَالَ الطَّحَاوِيّ: قَالَ اللَّيْث: لَا بَأْس بِبيع
جُلُود الْميتَة قبل الدّباغ لِأَن النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أذن فِي الِانْتِفَاع بهَا، وَالْبيع من
الِانْتِفَاع، قَالَ أَبُو جَعْفَر: لم يُحكَ عَن أحدِ من
الْفُقَهَاء جَوَاز بيع جلد الْميتَة قبل الدّباغ إلاَّ
عَن اللَّيْث. قَالَ ابْن عمر: يَعْنِي من الْفُقَهَاء
أَئِمَّة الْفَتْوَى بالأمصار بعد التَّابِعين، لِأَن ابْن
شهَاب ذَاك عَنهُ صَحِيح، وَقد ذكر ابْن عبد الحكم عَن
مَالك مَا يشبه مَذْهَب ابْن شهَاب فِي ذَلِك، قَالَ: من
اشْترى جلد ميتَة فدبغه فَقَطعه نعالاً فَلَا يَبِيعهُ
حَتَّى ييبس، فَهَذَا يدل على أَن مذْهبه يجوز بيع جلد
الْميتَة قبل الدّباغ وَبعده، وَهُوَ ظَاهر مَذْهَب مَالك
وَغَيره. وَفِي (التَّوْضِيح) : ومجموع مَا ذكر فِي دباغ
جلد الْميتَة وطهارتها سَبْعَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنه
يطهر بِهِ جَمِيع جُلُود الْميتَة إلاَّ الْكَلْب
وَالْخِنْزِير، وَالْفرع ظَاهرا وَبَاطنا، وَيسْتَعْمل فِي
الْيَابِس والمائع، وَسَوَاء مَأْكُول اللَّحْم وَغَيره،
وَبِه قَالَ عَليّ وَابْن مَسْعُود وَهُوَ مَذْهَب
الشَّافِعِي. ثَانِيهَا: لَا يطهر مِنْهَا شَيْء بِهِ،
رُوِيَ عَن جمَاعَة من السّلف، قيل: مِنْهُم عمر بن
الْخطاب وَابْنه عبد الله وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، وَهِي أشهر الرِّوَايَتَيْنِ عَن أَحْمد،
وَرِوَايَة عَن مَالك. ثَالِثهَا: يطهر بِهِ جلد مَأْكُول
اللَّحْم دون غَيره، وَهُوَ مَذْهَب الْأَوْزَاعِيّ وَابْن
الْمُبَارك وَأبي ثَوْر، رَابِعهَا: يطهر جَمِيعهَا إلاَّ
الْخِنْزِير، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة. خَامِسهَا: يطهر
الْجَمِيع إلاَّ أَنه يطهر ظَاهره دون بَاطِنه وَيسْتَعْمل
فِي اليابسات دون الْمَائِعَات، وَيصلى عَلَيْهِ لَا
فِيهِ، وَهُوَ مَشْهُور مَذْهَب مَالك، رَحمَه الله
تَعَالَى، فِيمَا حَكَاهُ عَنهُ أَصْحَابه. سادسها: يطهر
الْجَمِيع وَالْكَلب وَالْخِنْزِير ظَاهرا وَبَاطنا،
وَهُوَ مَذْهَب دَاوُد وَأهل الظَّاهِر، وَحكي عَن أبي
يُوسُف.
(9/89)
سابعها: أَنه ينْتَفع بجلود الْميتَة وَإِن
لم تدبغ، وَيجوز اسْتِعْمَالهَا فِي الْمَائِعَات
واليابسات، وَهُوَ وَجه شَاذ لبَعض الشَّافِعِيَّة.
3941 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ
حدَّثنا الحَكَمُ عنْ إبْرَاهِيمَ عنِ الأسْوَدِ عنْ
عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها أرادَتْ أنْ
تَشْتَرِيَ بَرِيرَةَ لِلْعِتْقِ وأرَادَ مَوَالِيهَا إنْ
يَشْتَرِطُوا وَلاءَهَا فذَكَرَتْ عائِشَةُ لِلنَّيِيِّ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَهَا النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم اشْتَرِيهَا فإنَّما الوَلاءُ لِمَنْ
أعْتَقَ قالَتْ وأُتِيَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
بِلَحْمٍ فَقُلْتُ هاذا مَا تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى
بَرِيرَةَ فقالَ هُوَ صَدَقَةٌ ولَنَا هَدِيَّةٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (هَذَا مَا تصدق بِهِ
على بَرِيرَة) إِلَى آخِره، والترجمة فِي الصَّدَقَة على
موَالِي أَزوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وبريرة
من جملَة مواليات عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَتصدق عَلَيْهَا بِصَدقَة فَأخْبر صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم أَنَّهَا كَانَت لَهَا صَدَقَة وَلَهُم
هَدِيَّة، لِأَنَّهَا تحولت عَن معنى الصَّدَقَة بِملك
الْمُتَصَدّق عَلَيْهِ بهَا، وانتقلت إِلَى معنى
الْهَدِيَّة الْحَلَال لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، وَقد ذكر الحَدِيث فِي أَوَائِل كتاب الصَّلَاة
فِي: بَاب ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي
الْمَسْجِد رَوَاهُ عَن عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان
عَن يحيى عَن عمْرَة عَن يحيى عَن عَائِشَة، قَالَت: أتتها
بَرِيرَة ... الحَدِيث، غير أَنه لم يذكر فِيهِ قَوْله:
قَالَت عَائِشَة، وَأتي النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
... إِلَى آخِره، وَهنا رَوَاهُ عَن آدم بن أبي إِيَاس عَن
شُعْبَة عَن ابْن الْحجَّاج عَن الحكم بِفتْحَتَيْنِ ابْن
عتبَة عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ عَن الْأسود بن يزِيد
عَن عَائِشَة.
وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي كَفَّارَة الْإِيمَان عَن
سُلَيْمَان بن حَرْب، وَفِي الطَّلَاق عَن عبد الله بن
رَجَاء وَفِيه أَيْضا عَن آدم وَفِي الْفَرَائِض عَن حَفْص
بن عمر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة عَن عَمْرو بن
يزِيد وَفِي الصَّلَاة عَن عَمْرو بن عَليّ وَفِي
الْفَرَائِض عَن بِنِدَاء عَن غنْدر، الْكل عَن شُعْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَرِيرَة) ، بِفَتْح الْبَاء
الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء الأولى. قَوْله: (مواليها) أَي:
ساداتها، وَكَانَت لعتبة بن أبي لَهب، وَقَالَ أَبُو عمر:
كَانَت مولاة لبَعض بني هِلَال فكاتبوها ثمَّ باعوها من
عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقَالَ
الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْمولى جَاءَ بِمَعْنى
الْمُعْتق والعتيق والناصر وَابْن الْعم وَالْجَار والحليف
لَا بِمَعْنى السَّيِّد؟ قلت: جَاءَ أَيْضا بِمَعْنى
الْمولى والمتصرف فِي الْأَمر. انْتهى. قلت: لَا وَجه
لهَذَا السُّؤَال، لِأَن لفظ الْمولى مُشْتَرك بَين
الْمولى الْأَعْلَى وَالْمولى الْأَسْفَل، وبريرة مولاة
سفلى ومواليها موَالِي عليا. قَوْله: (اشتريها) أَي: بِمَا
يُرِيدُونَ، أَي: من الِاشْتِرَاط بِكَوْن الْوَلَاء
لَهُم. قَوْله: (تصدق) ، بِلَفْظ الْمَجْهُول، قَالَ
الْكرْمَانِي: وَالْفرق بَين الصَّدَقَة وَالْهِبَة أَن
الصَّدَقَة هبة لثواب الْآخِرَة، والهدية هبة تنقل إِلَى
الْمُتَّهب إِكْرَاما لَهُ قلت: الصَّدَقَة قد تكون هبة،
وَالْهِبَة قد تكون صَدَقَة، وَإِن الصَّدَقَة على
الْغَنِيّ هبة، وَالْهِبَة للْفَقِير صَدَقَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ بعض الْمَالِكِيَّة
على أَن عَائِشَة اشترتها شِرَاء فَاسِدا فأنفذ الشَّارِع
عتقهَا، وَمَعْلُوم أَن شَرط الْوَلَاء لغير الْمُعْتق
يُوجب فَسَاد العقد، ثمَّ أنفذ الشَّارِع الْعتْق. قلت:
الَّذِي كَانَ من أهل بَرِيرَة فِي هَذَا الحَدِيث لم يكن
شرطا فِي بيع، لَكِن فِي أَدَاء عَائِشَة إِلَيْهِم عَن
بَرِيرَة، وهم توَلّوا عقد تِلْكَ الْكِتَابَة، وَلم
يتَقَدَّم ذَلِك الْأَدَاء من عَائِشَة ملك، فَذكرت ذَلِك
لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: لَا
يمنعك ذَلِك مِنْهَا، أَي: لَا تَرْجِعِي بِهَذَا
الْمَعْنى عَمَّا كنت نَوَيْت عتاقها من الثَّوَاب،
اشتريها فأعتقيها فَإِنَّمَا الْوَلَاء لمن أعتق، وَكَانَ
ذَلِك الشِّرَاء هُنَا ابْتِدَاء من رَسُول الله، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، لَيْسَ مَا كَانَ قبل ذَلِك بَين عَائِشَة
وَبَين أهل بَرِيرَة فِي شَيْء، وَفِي (التَّوْضِيح) :
وَاسْتدلَّ بِهِ بعض أَصْحَاب أبي حنيفَة، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، على أَنَّهَا ملكت بِالْقَبْضِ ملكا
تَاما، وَهُوَ بعيد لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
فِي هَذَا الحَدِيث وَغَيره أَمر عَائِشَة بِالشِّرَاءِ
وَلم يكن ليأمر بفاسد. قلت: جَوَاب هَذَا يفهم مِمَّا قبله
مِمَّا ذكرنَا على أَن بعض أَصْحَابنَا قَالُوا: إِنَّهَا
خصت بذلك كَمَا خص غَيرهَا بخصائص قيل: هَذَا بعيد، لِأَن
ذَلِك لَو وَقع لنقل. قلت: قَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا من
خَصَائِص عَائِشَة وَلَا عُمُوم لَهَا. فَإِن قلت: فِيهِ
صُورَة المخادعة؟ قلت: لم يكن هَذَا إلاَّ للزجر والتوبيخ،
لِأَنَّهُ كَانَ بيَّن لَهُم حكم الْوَلَاء، وَأَن هَذَا
الشَّرْط لَا يحل، فَلَمَّا ألحوا فِي اشْتِرَاطه
وَمُخَالفَة الْأَمر، قَالَ لعَائِشَة هَذَا بِمَعْنى: لَا
تبالي سَوَاء شرطته أم لَا،
(9/90)
فَإِنَّهُ شَرط بَاطِل لِأَنَّهُ قد سبق
بَيَان ذَلِك لَهُم وَلَيْسَ لفظ: اشترطي، هُنَا
للْإِبَاحَة، وَقد تكلمنا فِي هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب
ذكر البيع وَالشِّرَاء على الْمِنْبَر فِي الْمَسْجِد، فِي
أَوَائِل كتاب الصَّلَاة، واستقصينا الْكَلَام فِيهِ.
26 - (بابٌ إِذا تَحَوَّلَتِ الصَّدَقَةُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا تحولت الصَّدَقَة
يَعْنِي: إِذا خرجت من كَونهَا صَدَقَة بِأَن دخلت فِي ملك
الْمُتَصَدّق بِهِ عَلَيْهِ، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: إِذا
حولت الصَّدَقَة، على بِنَاء الْمَجْهُول، وَجَوَاب: إِذا،
مَحْذُوف تَقْدِيره: إِذا حولت الصَّدَقَة يجوز للهاشمي
تنَاولهَا.
4941 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا
يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا خالدٌ عنْ حَفْصَةَ
بِنْتِ سِيرِينَ عنْ أم عَطِيَّةَ الأنْصَارِيَّةَ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ دَخَلَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم عَلَى عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا فقالَ هَل عنْدَكُمْ شَيْءٌ فقَالَتْ لاَ ألاَّ
شَيءٌ بَعَثَتْ بِهِ إلَيْنَا نُسَيْبَةُ مِنَ الشَّاةِ
الَّتِي بَعَثَتْ بِهَا مِنَ الصَّدَقةِ فَقَالَ إنَّها
قَدْ بَلَغَتْ مَحِلَّهَا.
(انْظُر الحَدِيث 6441 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن نسيبة أرسل إِلَى
عَائِشَة من الشَّاة الَّتِي أرسلها إِلَيْهَا النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من الصَّدَقَة، فَلَمَّا قبلتها
نسيبة دخلت فِي ملكهَا وَخرجت من كَونهَا صَدَقَة، فَهَذَا
معنى التَّحَوُّل، كَمَا ذكرنَا.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عَليّ بن عبد الله
الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: يزِيد من
الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع، مصغر زرع ضد الجدب، وَقد مر
فِي: بَاب الْجنب يخرج. الثالت: خَالِد الْحذاء.
الرَّابِع: حَفْصَة بنت سِيرِين أُخْت مُحَمَّد بن سِيرِين
سيدة التابعيات. الْخَامِس: أم عَطِيَّة، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَاسْمهَا: نسيبة، بِضَم النُّون وَفتح
السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح
الْبَاء الْمُوَحدَة، وَقد مر ذكرهَا غير مرّة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه:
أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن
الصحابية. وَفِيه: رِوَايَة الحَدِيث لصحابية مَذْكُورَة
بكنيتها.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الزَّكَاة عَن أَحْمد بن يُونُس عَن أبي شهَاب
الحناط، وَفِي الْهِبَة عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن خَالِد
بن عبد الله. وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن زُهَيْر بن
حَرْب عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن خَالِد الْحذاء.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (هَل عنْدكُمْ شَيْء) أَي: من
الطَّعَام. قَوْله: (فَقَالَت: لَا) أَي: لَا شَيْء.
(إلاَّ شَيْء) ، والمستثنى مِنْهُ مَحْذُوف وَهُوَ اسْم:
لَا، الَّتِي لنفي الْجِنْس، أَي: لَا شَيْء من الطَّعَام
إلاَّ شَيْء كَذَا. قَوْله: (بعثت بِهِ نسيبة) ، جملَة من
الْفِعْل وَالْفَاعِل صفة لقَوْله: شَيْء، وَكلمَة: من،
فِي: من الشَّاة، للْبَيَان مَعَ الدّلَالَة على
التَّبْعِيض. قَوْله: (بعثت بهَا) على صِيغَة الْمُخَاطب
أَي: الَّتِي بعثت بهَا أَنْت إِلَيْهَا قَوْله:
(إِنَّهَا) أَي: إِن الصَّدَقَة (قد بلغت محلهَا) ،
بِكَسْر الْحَاء من حل إِذا وَجب، قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ
فِي {حَتَّى يبلغ الْهَدْي مَحَله} (الْبَقَرَة: 691) .
أَي: مَكَانَهُ الَّذِي يجب فِيهِ نَحوه، وَقَالَ
التَّيْمِيّ: بلغت محلهَا، أَي: حَيْثُ يحل أكلهَا فَهُوَ
مفعل من حل الشَّيْء حَلَالا، وَقَالَ: مَعْنَاهُ أَنه صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بعث إِلَى أم عَطِيَّة شَاة من
الصَّدَقَة فَبعثت هِيَ من تِلْكَ الشَّاة إِلَى عَائِشَة
هَدِيَّة، وَهَذَا معنى قَول البُخَارِيّ: إِذا تحولت
الصَّدَقَة، إِذْ كَانَت عَلَيْهَا صَدَقَة ثمَّ صَارَت
هَدِيَّة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دلَالَة كَمَا قَالَ
الطَّحَاوِيّ على جَوَاز اسْتِعْمَال الْهَاشِمِي،
وَيَأْخُذ جعله على ذَلِك وَقد كَانَ أَبُو يُوسُف يكره
ذَلِك إِذا كَانَت جعالتهم مِنْهَا، قَالَ: لِأَن
الصَّدَقَة تخرج من ملك الْمُتَصَدّق إِلَى غير
الْأَصْنَاف الَّتِي سَمَّاهَا الله تَعَالَى فَيملك
الْمُتَصَدّق بَعْضهَا وَهِي لَا تحل لَهُ، وَاحْتج
بِحَدِيث أبي رَافع فِي ذَلِك، وَخَالفهُ فِيهِ آخَرُونَ،
فَقَالُوا: لَا بَأْس أَن يَجْعَل مِنْهَا للهاشمي
لِأَنَّهُ يَجْعَل على عمله، وَذَلِكَ قد يحل للأغنياء،
فَلَمَّا كَانَ هَذَا لَا يحرم على الْأَغْنِيَاء الَّذين
يحرم عَلَيْهِم غناؤهم الصَّدَقَة، كَانَ ذَلِك أَيْضا فِي
النّظر لَا يحرم ذَلِك على بني هَاشم الَّذين يحرم
عَلَيْهِم نسبهم الصَّدَقَة، فَلَمَّا كَانَ مَا تصدق بِهِ
على بَرِيرَة جَازَ للشارع أكله لِأَنَّهُ إِنَّمَا أكله
بالهدية فَجَاز أَيْضا للهاشمي أَن يجتعل من الصَّدَقَة
لِأَنَّهُ إِنَّمَا يملكهَا بِعَمَلِهِ لَا بِالصَّدَقَةِ،
هَذَا هُوَ النّظر عندنَا، وَهُوَ أصح مِمَّا ذهب إِلَيْهِ
أَبُو يُوسُف. قلت: أَرَادَ الطَّحَاوِيّ بقوله: آخَرُونَ،
مَالِكًا وَالشَّافِعِيّ فِي قَول، وَأحمد فِي رِوَايَة
(9/91)
وَمُحَمّد بن الْحسن فَإِنَّهُم قَالُوا:
لَا بَأْس أَن يكون الْعَامِل هاشميا وَيَأْخُذ عمالته
مِنْهَا، لِأَن ذَلِك على عمله، وَلقَائِل أَن يَقُول:
هَذَا الْقيَاس لَيْسَ بِصَحِيح: لِأَن الْغَنِيّ إِذا
كَانَ عَاملا يكون متفرغا لذَلِك صارفا نَفسه وحابسها لأجل
ذَلِك فَيسْتَحق الْجعَالَة فِي مُقَابلَة هَذَا الْفِعْل،
وَذَلِكَ فِي الْحَقِيقَة يكون لِحَاجَتِهِ إِلَى ذَلِك،
فَيصير كَابْن السَّبِيل تُبَاح لَهُ الصَّدَقَة، وَإِن
كَانَ غَنِيا، بِخِلَاف الْهَاشِمِي فَإِنَّهُ إِنَّمَا
تحرم عَلَيْهِ الصَّدَقَة لكَونهَا أوساخ النَّاس وَلأَجل
لُحُوق الذلة والهوان لشرف نسبه، فَهَذَا الْمَعْنى
مَوْجُود دَائِما سَوَاء كَانَ الَّذِي يَأْخُذهُ من
الصَّدَقَة على وَجه الاعتمال والاجتعال أَو غير ذَلِك.
وَفِيه: دَلِيل على تَحْويل الصَّدَقَة إِلَى هَدِيَّة
لِأَنَّهُ لما كَانَ يجوز التَّصَرُّف للمتصدق عَلَيْهِ
فِيهَا بِالْبيعِ وَالْهِبَة لصِحَّة ملكه لَهَا، حكم
لَهَا بِحكم الْهِبَة، وخروجها عَن معنى الصَّدَقَة
فَصَارَت حَلَالا لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم،
وَإِنَّمَا كَانَ يَأْكُل الْهَدِيَّة دون الصَّدَقَة لما
فِي الْهَدِيَّة من التألف وَالدُّعَاء إِلَى الْمحبَّة،
وَقَالَ: تهادوا تحَابوا) ، وَجَائِز أَن يثبت عَلَيْهَا
وَأفضل مِنْهَا فيرفع الذلة والْمنَّة بِخِلَاف
الصَّدَقَة. وَفِيه: بَيَان أَن الْأَشْيَاء الْمُحرمَة
لعلل مَعْلُومَة إِذا ارْتَفَعت عَنْهَا تِلْكَ الْعِلَل
حلت وَأَن التَّحْرِيم فِي الْأَشْيَاء لَيْسَ لعينها.
5941 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ مُوسى اقال حدَّثنا وَكِيعٌ
قَالَ حَدثنَا شُعْبَةُ عنْ قَتَادَةَ عنْ أنَسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُ أَن النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أُتِيَ بِلَحْمٍ تُصُدِّقَ بِهِ عَلى بَريرَة فَقَالَ هُوَ
عَلَيْها صدقَةٌ وَهْوَ لَنا هَدِيَّةٌ.
(الحَدِيث 5941 طرفه فِي: 7752) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ أَن الصَّدَقَة الَّتِي
تصدق بهَا على بَرِيرَة صَارَت هَدِيَّة لملكها إِيَّاهَا.
وَرِجَاله قد ذكرُوا وَيحيى بن مُوسَى بن عبد ربه أَبُو
زَكَرِيَّا السّخْتِيَانِيّ الْبَلْخِي يُقَال لَهُ: خت،
قد مر فِي آخر كتاب الصَّلَاة، وَهُوَ من أَفْرَاد
البُخَارِيّ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الزّهْد عَن يحيى بن مُوسَى عَن وَكِيع، وَفِي
الْهِبَة عَن بنْدَار عَن غنْدر. وَأخرجه مُسلم فِي
الزَّكَاة عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَأبي كريب كِلَاهُمَا
عَن وَكِيع وَعَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار كلا من غنْدر
وَعَن عبيد الله بن معَاذ عَن أَبِيه، وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِيهِ عَن عَمْرو بن مَرْزُوق. وَأخرجه
النَّسَائِيّ فِي الْعمريّ عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم
عَن وَكِيع.
قَوْله: (هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَة) ، قد لفظ: (عَلَيْهَا)
ليُفِيد الْحصْر أَي: عَلَيْهَا صَدَقَة لَا علينا،
وَحَاصِله أَنَّهَا إِذا قبضهَا الْمُتَصَدّق زَالَ
عَنْهَا وصف الصَّدَقَة وَحكمهَا، فَيجوز للغني شراها
للْفَقِير، وللهاشمي أكله مِنْهَا.
وَقَالَ أبُو داوُدَ أنْبَأنا شُعْبَةُ عنُ قَتَادَةَ
سَمِعَ أنسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبُو دَاوُد هُوَ سُلَيْمَان الطَّيَالِسِيّ الْحَافِظ،
كتب عَنهُ بأصفهان أَرْبَعُونَ ألف حَدِيث، وَلم يكن مَعَه
كتاب، مَاتَ سنة أَربع وَمِائَتَيْنِ بِالْبَصْرَةِ.
وَهَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ أَبُو نعيم فِي
(الْمُسْتَخْرج) فَقَالَ: حَدثنَا عبد الله حَدثنَا يُونُس
حَدثنَا أَبُو دَاوُد يَعْنِي الطَّيَالِسِيّ قَالَ:
أَنبأَنَا شُعْبَة، فَذكره وَفَائِدَته تَصْرِيح قَتَادَة
بِسَمَاعِهِ إِيَّاه من أنس، وَلما كَانَ قَتَادَة مدلسا
قوي الْإِسْنَاد الأول بِهَذَا حَيْثُ قَالَ: سمع أنسا،
إِذْ فِيهِ التَّصْرِيح بِسَمَاعِهِ. قَوْله: (أَنبأَنَا)
أَي: أخبرنَا. قَالَ الْخَطِيب الْبَغْدَادِيّ: دَرَجَة
أَنبأَنَا أحط من دَرَجَة أخبرنَا، وَهُوَ قَلِيل فِي
الِاسْتِعْمَال، وثلاثيه من النبأ وَهُوَ الْخَبَر.
36 - (بابُ أخْذِ الصَّدَقَةِ مِن الأغْنِيَاءِ وتُرَدُّ
فِي الفُقرَاءِ حَيْثُ كَانُوا)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَخذ الصَّدَقَة، أَي:
الزَّكَاة، من الْأَغْنِيَاء، فَإِذا أخذت مَا يكون حكمهَا
أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: (وَترد فِي الْفُقَرَاء) وَترد،
بِنصب الدَّال بِتَقْدِير: أَن، ليَكُون فِي حكم الْمصدر،
وَيكون التَّقْدِير: وَأَن ترد، أَي: وَالرَّدّ فِي
الْفُقَرَاء حَاصله: بَاب فِي أَخذ الصَّدَقَة، وَفِي
ردهَا فِي الْفُقَرَاء حَيْثُ كَانَ الْفُقَرَاء. قَوْله:
(حَيْثُ كَانُوا) ، يشْعر بِأَنَّهُ اخْتَار جَوَاز نقل
الزَّكَاة من بلد إِلَى بلد، وَفِيه خلاف، فَعَن اللَّيْث
بن سعد وَأبي حنيفَة وَأَصْحَابه جَوَازه، وَنَقله ابْن
الْمُنْذر عَن الشَّافِعِي وَاخْتَارَهُ، وَالأَصَح عِنْد
الشَّافِعِيَّة والمالكية ترك النَّقْل، فَلَو نقل
أَجْزَأَ عِنْد الْمَالِكِيَّة على الْأَصَح، وَلم يجزىء
عِنْد الشَّافِعِيَّة على الْأَصَح إلاَّ إِذا فقد
المستحقون لَهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن
غَرَض البُخَارِيّ بَيَان الِامْتِنَاع، أَي: ترد على
فُقَرَاء أُولَئِكَ الْأَغْنِيَاء، أَي: فِي مَوضِع
(9/92)
وجد لَهُم الْفُقَرَاء، وإلاَّ جَازَ
النَّقْل، وَيحْتَمل أَن يكون غَرَضه عَكسه. قلت: لَيْسَ
الظَّاهِر مَا قَالَه، فَإِنَّهُ قَالَ: ترد حَيْثُ
كَانُوا، أَي: الْفُقَرَاء، وَهُوَ أَعم من أَن يَكُونُوا
فِي مَوضِع كَانَ فِيهِ الْأَغْنِيَاء أَو فِي غَيره،
فالعجب مِنْهُ الْعَكْس حَيْثُ جعل الِامْتِنَاع ظَاهرا
وَهُوَ مُحْتَمل، وَجعل الظَّاهِر عكسا. فَافْهَم، وَقد مر
الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي حَدِيث معَاذ فِي أَوَائِل
الزَّكَاة.
6941 - حدَّثنا مُحَمَّدٌ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ
أخبرنَا زَكَرِيَّاءُ بنُ إسْحَاقَ عنْ يَحْيَى بنِ عَبْدِ
الله ابنِ صَيْفِيٍ ّ عنْ أبِي مَعْبَدٍ مَوْلَى ابنِ
عَبَّاسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا. قَالَ قَالَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم لِمُعَاذِ بنِ جَبَلٍ حِينَ بَعثَهُ إِلَى اليَمَنُ
إنَّكَ سَتأتِي قَوْما أهْلَ كِتَابٍ فإذَا جِئْتُهمْ
فادْعُهُمْ إلَى أنْ يَشْهَدُوا أنْ لَا إلاهَ إلاَّ الله
وَأَن مُحَمَّدا رسُولَ الله فإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ
بِذالِكَ فأخْبِرْهُمْ أنَّ الله قَدْ فَرَضَ عَلَيْهِمْ
خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَومٍ ولَيْلَةٍ فإنْ هُمْ
أطَاعُوا لَكَ بِذالِكَ فأخْبِرْهُمْ أنَّ الله قَدْ
فَرَضَ علَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أغْنِيَائهِمْ
فَتُرَدُّ عَلىَ فُقَرَائِهِمْ فإنْ هُمْ أطَاعُوا لَكَ
بِذالِكَ فإيَّاكَ وَكَرَائِمَ أمْوالِهِم وَاتَّقِ
دَعْوَةَ المَظْلُومِ فإنَّهُ ليْسَ بَيْنَهُ وبيْنَ الله
حِجَابٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (تُؤْخَذ من أغنيائهم
فَترد على فقرائهم) ، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي أول:
بَاب وجوب الزَّكَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن أبي
عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد عَن زَكَرِيَّاء بن إِسْحَاق. .
إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه عَن مُحَمَّد بن مقَاتل عَن عبد
الله بن الْمُبَارك ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام
فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً، وَهَهُنَا زِيَادَة، وَهِي قَوْله:
(فإياك وكرائم أَمْوَالهم وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم)
إِلَى آخِره، ولنذكر هُنَا مَا لم نذكرهُ هُنَاكَ.
فَقَوله: (عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لِمعَاذ حِين بَعثه إِلَى الْيمن) ،
هَكَذَا هُوَ فِي جَمِيع الطّرق إلاَّ مَا أخرجه مُسلم عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة، وَأبي كريب وَإِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم ثَلَاثَتهمْ عَن وَكِيع، فَقَالَ فِيهِ: عَن
ابْن عَبَّاس (عَن معَاذ بن جبل، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَى الْيمن) فعلى هَذَا
فَهُوَ من مُسْند معَاذ، وَسَائِر الرِّوَايَات غير هَذِه
من مُرْسل ابْن عَبَّاس. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ عَن أبي
كريب عَن وَكِيع عَن ابْن عَبَّاس أَن رَسُول الله، صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، بعث معَاذًا، وَكَذَا أخرجه إِسْحَاق
بن رَاهَوَيْه عَن وَكِيع نَحوه، وَكَذَا رَوَاهُ أَحْمد
فِي (مُسْنده) عَن وَكِيع، وَأخرجه عَنهُ أَبُو دَاوُد،
وَأخرجه البُخَارِيّ فِي الْمَظَالِم عَن يحيى بن مُوسَى
عَن وَكِيع كَذَلِك. وَأخرجه ابْن خُزَيْمَة فِي (صَحِيحه)
عَن مُحَمَّد بن عبد الله المَخْزُومِي، وجعفر بن مُحَمَّد
الثَّعْلَبِيّ والإسماعيلي من طَرِيق أبي خَيْثَمَة،
ومُوسَى بن المسندي وَالدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق يَعْقُوب
بن إِبْرَاهِيم الدَّوْرَقِي، وَإِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم
الْبَغَوِيّ، كلهم عَن وَكِيع كَذَلِك، وَلَا يستبعد
حُضُور ابْن عَبَّاس لذَلِك لِأَنَّهُ كَانَ فِي أَوَاخِر
حَيَاة النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ إِذْ
ذَاك مَعَ أَبَوَيْهِ.
قَوْله: (ستأتي قوما) تَوْطِئَة للْوَصِيَّة ليقوي همته
عَلَيْهَا لكَون أهل الْكتاب أهل علم فِي الْجُمْلَة
فَلذَلِك خصهم بِالذكر تَفْضِيلًا لَهُم على غَيرهم.
قَوْله: (أهل كتاب) ، بدل لَا صفة، وَكَانَ فِي الْيمن أهل
الذِّمَّة وَغَيرهم. وَحكى ابْن إِسْحَاق فِي أول
(السِّيرَة) : إِن أصل دُخُول الْيَهُود فِي الْيمن فِي
زمن أسعد أبي كرب، وَهُوَ تبع الْأَصْفَر. قَوْله: (فَإِذا
جئتهم) إِنَّمَا ذكر لَفْظَة: إِذا، دون: أَن، تفاؤلاً
بِحُصُول الْوُصُول إِلَيْهِم. قَوْله: (فادعهم إِلَى
شَهَادَة أَن لَا إلاهَ إلاَّ الله وَأَن مُحَمَّدًا
رَسُول الله) ، كَذَا فِي رِوَايَة زَكَرِيَّا بن إِسْحَاق
لم يخْتَلف عَلَيْهِ فِيهَا، وَفِي رِوَايَة روح بن
الْقَاسِم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة: (فَأول مَا تدعوهم
إِلَيْهِ عبَادَة الله تَعَالَى، فَإِذا عرفُوا الله) .
وَفِي رِوَايَة الْفضل بن الْعَلَاء عَنهُ: (إِلَى أَن
يوحدوا الله، وَإِذا عرفُوا ذَلِك) . قَوْله: (فَإِن هم
أطاعوا لَك بذلك) أَي: شهدُوا وانقادوا، وَفِي رِوَايَة
ابْن خُزَيْمَة: (فَإِن هم أجابوا لذَلِك) ، وَفِي
رِوَايَة الْفضل ابْن الْعَلَاء: (فَإِذا عرفُوا ذَلِك) ،
وَإِنَّمَا عدى: أطاعوا، بِاللَّامِ وَإِن كَانَ يتَعَدَّى
بِنَفسِهِ لتَضَمّنه معنى: انقادوا قَوْله (فإياك) كلمة
تحذير (وكرائم) مَنْصُوب بِفعل مُضْمر لَا يجوز إِظْهَاره
قَالَ ابْن قُتَيْبَة وَلَا يجوز حذف
(9/93)
الْوَاو، أما عدم جَوَاز إِظْهَار الْفِعْل
فللقرينة الدَّالَّة عَلَيْهِ ولطول الْكَلَام، وَقيل:
لِأَن مثل هَذَا يُقَال عِنْد تَشْدِيد الْخَوْف، وَأما
عدم جَوَاز حذف الْوَاو لِأَنَّهَا حرف عطف، فيختل
الْكَلَام بحذفه، والكرائم جمع: كَرِيمَة وَهِي النفيسة.
قَوْله: (وَاتَّقِ دَعْوَة الْمَظْلُوم) أَي: تجنب الظُّلم
لِئَلَّا يَدْعُو عَلَيْك الْمَظْلُوم، وَقيل: هُوَ تذييل
لاشْتِمَاله على الظُّلم الْخَاص وَهُوَ أَخذ الكرائم
وعَلى غَيره. قَوْله: (فَإِنَّهُ) أَي: فَإِن الشان،
وَهُوَ تَعْلِيل للاتقاء، وتمثيل للدعوة كمن يقْصد إِلَى
السُّلْطَان متظلما فيمَ يحجب عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: عظة الإِمَام وتخويفه من
الظُّلم قَالَ تَعَالَى: {أَلا لعنة الله على الظَّالِمين}
(هود: 81) . ولعنة الله إبعاده من رَحمته، وَالظُّلم محرم
فِي كل شَرِيعَة، وَقد جَاءَ: (إِن دَعْوَة الْمَظْلُوم
لَا ترد وَإِن كَانَت من كَافِر) . وروى أَحْمد فِي
(مُسْنده) ، من حَدِيث أبي هُرَيْرَة رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ مَرْفُوعا: (دَعْوَة الْمَظْلُوم مستجابة وَإِن
كَانَ فَاجِرًا، ففجوره على نَفسه) . وَمعنى ذَلِك أَن
الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا يرضى ظلم الْكَافِر كَمَا
لَا يرضى ظلم الْمُؤمن، وَأخْبر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى
أَنه لَا يظلم النَّاس شَيْئا، فَدخل فِي عُمُوم هَذَا
اللَّفْظ جَمِيع النَّاس من مُؤمن وَكَافِر، وحذر معَاذًا،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، من الظُّلم مَعَ علمه وفضله
وورعه، وَأَنه من أهل بدر وَقد شهد لَهُ بِالْجنَّةِ، غير
أَنه لَا يَأْمَن أحدا، بل يشْعر نَفسه بالخوف، وفوائده
كَثِيرَة ذَكرنَاهَا فِي حَدِيث معَاذ، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، فِي أول الزَّكَاة.
46 - (بابُ صَلاَةِ الإمامِ وَدُعَائِهِ لِصَاحِبِ
الصَّدَقَةِ وقَوْلِهِ {خُذْ مِنْ أمْوَالِهِم صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُم وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ
إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} )
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صَلَاة الإِمَام ودعائه لصَاحب
الصَّدَقَة، وَالْمرَاد من الصَّلَاة الدُّعَاء لِأَن
مَعْنَاهَا اللّغَوِيّ ذَلِك، وَإِنَّمَا عطف لفظ
الدُّعَاء على الصَّلَاة لِئَلَّا يفهم أَن الدُّعَاء
بِلَفْظ الصَّلَاة مُتَعَيّن، بل إِذا دعِي بِلَفْظ
يُؤَدِّي معنى الثَّنَاء وَالْخَيْر فَإِنَّهُ يَكْفِي،
مثل أَن يَقُول: آجرك فِيمَا أَعْطَيْت وَبَارك لَك فِيمَا
أبقيت أَو يَقُول: اللَّهُمَّ اغْفِر لَهُ وَتقبل مِنْهُ،
وَنَحْو ذَلِك، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ
النَّسَائِيّ من حَدِيث وَائِل بن حجر أَنه صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي رجل بعث بِنَاقَة حَسَنَة فِي
الزَّكَاة: اللَّهُمَّ بَارك فِيهِ وَفِي إبِله. قيل:
إِنَّمَا ذكر لفظ الإِمَام فِي التَّرْجَمَة ردا لشُبْهَة
أهل الرِّدَّة فِي قَوْلهم لأبي بكر الصّديق: إِنَّمَا
قَالَ الله عز وَجل لرَسُوله: {وصل عَلَيْهِم إِن صَلَاتك
سكن لَهُم} (التَّوْبَة: 301) . وَادعوا خُصُوصِيَّة ذَلِك
بالرسول، فَأَرَادَ أَن كل إِمَام دَاخل فِيهِ، وَلِهَذَا
ذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة حَيْثُ قَالَ فِيهِ:
وَقَوله، بِالْجَرِّ عطف على مَا قبله من الْمَجْرُور
أَعنِي: لفظ الصَّلَاة وَالدُّعَاء، أَمر الله تَعَالَى
رَسُوله أَن يَأْخُذ من أَمْوَالهم صَدَقَة تطهرهُمْ
وتزكيهم بهَا، وَأمره أَن يُصَلِّي عَلَيْهِم بقوله: {وصل
عَلَيْهِم} (التَّوْبَة: 301) . أَي: ادْع لَهُم واستغفر
لَهُم، كَمَا يَأْتِي فِي حَدِيث الْبَاب: (عَن عبد الله
ابْن أبي أوفى قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِذا أَتَى بِصَدقَة قوم صلى عَلَيْهِم، فَأَتَاهُ
أبي بِصَدقَة فَقَالَ: اللَّهُمَّ صلِّ على آل أبي أوفى) .
وَفِي حَدِيث آخر: (إِن امْرَأَة قَالَت: يَا رَسُول الله،
صل عَليّ وعَلى زَوجي! فَقَالَ: صلى الله عَلَيْك وعَلى
زَوجك) . قَوْله: {إِن صَلَاتك سكن لَهُم} (التَّوْبَة:
301) . قَالَ ابْن عَبَّاس: أَي سكن لَهُم، وَقَالَ
قَتَادَة: وقار وقرىء: {إِن صلواتك} على الْجمع. قَوْله:
{وَالله سميع عليم} (التَّوْبَة: 301) . أَي: سميع لدعائك
عليم من يسْتَحق ذَلِك مِنْك، وَمن هُوَ أهل لَهُ. وَقَالَ
ابْن بطال: مَعْنَاهُ صل عَلَيْهِم إِذا مَاتُوا صَلَاة
الْجِنَازَة لِأَنَّهَا فِي الشَّرِيعَة مَحْمُولَة على
الصَّلَاة أَي: الْعِبَادَة المفتتحة بِالتَّكْبِيرِ
المختتمة بِالتَّسْلِيمِ، أَو أَنه من خَصَائِص النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهُ لم ينْقل أحد أَنه أَمر
السعاة بذلك، وَلَو كَانَ وَاجِبا لأمرهم بِهِ ولعلمهم
كيفيته، وبالقياس على اسْتِيفَاء سَائِر الْحُقُوق إِذْ
لَا يجب الدُّعَاء فِيهِ. انْتهى. قلت: لم ينْحَصر معنى
قَوْله تَعَالَى: {وصل عَلَيْهِم} (التَّوْبَة: 301) . على
مَا ذكره ابْن بطال من الصَّلَاة على الْجِنَازَة، بل
جُمْهُور الْمُفَسّرين فسروا قَوْله: {وصل عَلَيْهِم}
(التَّوْبَة: 301) . مثل مَا ذكرنَا، وَعَن هَذَا قَالَ
الْخطابِيّ: أصل الصَّلَاة فِي اللُّغَة الدُّعَاء إلاَّ
أَن الدُّعَاء يخْتَلف بِحَسب الْمَدْعُو لَهُ، فَصلَاته
عَلَيْهِ السَّلَام لأمته دُعَاء لَهُم بالمغفرة، وَصَلَاة
الْأمة لَهُ دُعَاء لَهُ بِزِيَادَة الْقرْبَة والزلفة،
وبظاهر الْآيَة أَخذ أهل الظَّاهِر، وَقَالُوا: الدُّعَاء
وَاجِب، وَخَالفهُم جَمِيع الْعلمَاء، وَقَالُوا: إِنَّه
مُسْتَحبّ لِأَنَّهَا تقع الْموقع وَإِن لم يدع، وَلَو
كَانَ وَاجِبا، لأمر السعاة بِهِ، كَمَا ذكرنَا.
7941 - حدَّثنا حَفْصُ بنُ عُمَرَ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ
عنْ عَمْرٍ وعنْ عَبْدِ الله بنِ أبي أوْفَى قَالَ
(9/94)
كانَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أتاهُ قَوْمٌ
بِصَدَقَتِهِمْ قَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى آلِ فُلاَنٍ
فأتاهُ أبي بِصَدَقَتِهِ فَقَالَ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى
آلِ أبِي أوْفَى..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَنَّهُ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يُصَلِّي على من يَأْتِي
بِصَدَقَتِهِ أَي: زَكَاته، والترجمة فِي صَلَاة الإِمَام
لصَاحب الصَّدَقَة.
ذكر رِجَاله وهم: أَرْبَعَة: الأول: حَفْص بن عمر بن
الْحَارِث أَبُو حَفْص الحوضي. الثَّانِي: شُعْبَة بن
الْحجَّاج. الثَّالِث: عَمْرو بن مرّة، بِضَم الْمِيم
وَتَشْديد الرَّاء: ابْن عبد الله بن طَارق الْمرَادِي،
وَقد مر فِي تَسْوِيَة الصُّفُوف. الرَّابِع: عبد الله بن
أبي أوفى، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْوَاو وَفتح
الْفَاء وبالقصر: واسْمه عَلْقَمَة بن خَالِد بن الْحَارِث
الْأَسْلَمِيّ الْمدنِي من أَصْحَاب بيعَة الرضْوَان،
رُوِيَ لَهُ خَمْسَة وَتسْعُونَ حَدِيثا للْبُخَارِيّ
خَمْسَة عشر، وَهُوَ آخر من بَقِي من أَصْحَابه
بِالْكُوفَةِ، مَاتَ سنة سبع وَثَمَانِينَ وَهُوَ أحد
الصَّحَابَة السَّبْعَة الَّذين أدركهم أَبُو حنيفَة سنة
ثَمَانِينَ، وَكَانَ عمره سبع سِنِين، سنّ التَّمْيِيز
والإدراك من الْأَشْيَاء. وَقيل: مولده سنة إِحْدَى
وَسِتِّينَ، وَقيل سنة سبعين، وَالْأول أصح وَأشهر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل
فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: عَن عَمْرو عَن عبد الله وَفِي
الْمَغَازِي عَن عَمْرو: وَسمعت ابْن أبي أوفى، وَكَانَ من
أَصْحَاب الشَّجَرَة. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده
وَهُوَ كُوفِي وَشعْبَة واسطي وَعَمْرو بن مرّة كُوفِي
تَابِعِيّ صَغِير لم يسمع من الصَّحَابَة إلاَّ من ابْن
أبي أوفى، وَقَالَ: شُعْبَة كَانَ لَا يُدَلس.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْمَغَازِي عَن آدم، وَفِي الدَّعْوَات عَن
مُسلم ابْن إِبْرَاهِيم وَسليمَان بن حَرْب فرقهما.
وَأخرجه مُسلم فِي الزَّكَاة عَن يحيى بن يحيى وَأبي بكر
بن أبي شيبَة وَعَمْرو النَّاقِد وَإِسْحَاق بن
إِبْرَاهِيم، أربعتهم عَن وَكِيع، وَعَن عبد الله بن معَاذ
عَن أَبِيه وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير عَن عبد
الله بن إِدْرِيس. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن حَفْص
بن عمر وَأبي الْوَلِيد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
عَمْرو بن يزِيد عَن بهز بن أَسد. وَأخرجه ابْن مَاجَه
فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد عَن وَكِيع كلهم عَن شُعْبَة
بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (إِذا أُتِي بِصَدقَة) ، أَي:
بِزَكَاة. قَوْله: (صلِّ على آل فلَان) ، كَذَا فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: (صل على
فلَان) . قَوْله: (صلِّ على آل أبي أوفى) ، يُرِيد بِهِ:
أَبَا أوفى، وَأما لفظ آل، فمقحم، وَأما إِن المُرَاد بِهِ
ذَات أبي أوفى لِأَن الْآل يذكر وَيُرَاد بِهِ ذَات
الشَّيْء، كَمَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي قصَّة
أبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ: (لقد أُوتِيَ مِزْمَارًا من
مَزَامِير آل دَاوُد) . يُرِيد بِهِ دَاوُد عَلَيْهِ
السَّلَام، وَقيل: لَا يُقَال ذَلِك، إلاَّ فِي حق الرجل
الْجَلِيل الْقَدِير، كآل أبي بكر وَآل عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقيل: آل الرجل: أَهله، وَالْفرق
بَين الْآل والأهل: أَن الْآل قد خص بالأشراف، فَلَا
يُقَال آل الحائك وَلَا آل الْحجام. فَإِن قلت: كَيفَ قيل:
آل فِرْعَوْن؟ قلت: لتصوره بِصُورَة الْأَشْرَاف، وَفِي
الصِّحَاح: أصل آل: أول، وَقيل: أهل، وَلِهَذَا يُقَال فِي
تصغيره: أهيل.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِالْحَدِيثِ
الْمَذْكُور من جوز الصَّلَاة على غير الْأَنْبِيَاء،
عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام، بالاستقلال وَهُوَ قَول
أَحْمد أَيْضا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَالْأَكْثَرُونَ: إِنَّه لَا يُصَلِّي على
غير الْأَنْبِيَاء، عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام
اسْتِقْلَالا، فَلَا يُقَال: اللَّهُمَّ صل على آل أبي بكر
وَلَا على آل عمر أَو غَيرهمَا، وَلَكِن يصلى عَلَيْهِم
تبعا. وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن هَذَا حَقه، عَلَيْهِ
الصَّلَاة وَالسَّلَام، لَهُ أَن يُعْطِيهِ لمن شَاءَ،
وَلَيْسَ لغيره ذَلِك. وَفِيه: جَوَاز أَن يُقَال: آل
فلَان، يُرِيد بِهِ فلَانا، وَفِيه: اسْتِحْبَاب الدُّعَاء
للمتصدق، كَمَا ذَكرْنَاهُ مشروحا. |