عمدة القاري شرح صحيح البخاري

56 - (بابُ مَا يُسْتَخْرَجُ منَ البَحْرِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِي بَيَان حكم مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر، وَفِيه حذف تَقْدِيره: هَل تجب فِيهِ الزَّكَاة أم لَا؟ والمحذوف فِي نفس الْأَمر خبر، لِأَن كلمة: (مَا) ، مَوْصُولَة. (ويستخرج) صلتها. وَكلمَة (من) بَيَانِيَّة، وَلَا بُد للموصول من عَائِد، وَهُوَ صفة لشَيْء مَحْذُوف تَقْدِيره:

(9/95)


بَاب فِي بَيَان حكم الشَّيْء الَّذِي يسْتَخْرج من الْبَحْر: هَل تجب فِيهِ الزَّكَاة؟ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
وَقَالَ ابنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا لَيْسَ العَنْبَرُ بِرِكازٍ هُوَ شَيءٌ دَسَرَهْ البَحْرُ
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي كَون العنبر مِمَّا يسْتَخْرج من الْبَحْر، والعنبر بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون النُّون وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ضرب من الطّيب، وَهُوَ غير العبير، بِفَتْح الْعين وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، فَإِنَّهُ أخلاط تجمع بالزعفران. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الظَّاهِر أَن العنبر زبد الْبَحْر، وَقيل: هُوَ رَوْث دَابَّة بحريّة. وَقيل: إِنَّه شَيْء ينْبت فِي قَعْر الْبَحْر فيأكله بعض الدَّوَابّ، فَإِذا امْتَلَأت مِنْهُ قَذَفته رجيعا. وَقَالَ ابْن سينا: هُوَ نبع عين فِي الْبَحْر. وَقيل: إِنَّه من كور النّخل يخرج فِي السنبل بِبَعْض الجزاير، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي كتاب السّلم من الْأُم: أَخْبرنِي عدد مِمَّن أَثِق بِخَبَرِهِ: أَنه نَبَات يخلقه الله تَعَالَى فِي جنبات الْبَحْر. وَحكى ابْن رستم عَن مُحَمَّد بن الْحسن أَنه ينْبت فِي الْبَحْر بِمَنْزِلَة الْحَشِيش فِي الْبر. وَقيل: إِنَّه شجر ينْبت فِي الْبَحْر فينكسر فيلقيه الموج إِلَى السَّاحِل. وَقَالَ ابْن سينا: وَمَا يحْكى من أَنه رَوْث دَابَّة أَو قيؤها أَو من زبد الْبَحْر بعيد. قَوْله: (بركاز) الرِّكَاز، بِكَسْر الرَّاء وَتَخْفِيف الْكَاف وَفِي آخِره زَاي، وَهُوَ يُقَال للمعدن والكنز جَمِيعًا، والمعدن خَاص لما يكون فِي بَاطِن الأَرْض خلقَة، والكنز خَاص لما يكون مَدْفُونا. والركاز يصلح لَهما، كَمَا قُلْنَا. وَفِي (مجمع الغرائب) : الرِّكَاز الْمَعَادِن وَقيل: هُوَ كنوز الْجَاهِلِيَّة. وَفِي (النِّهَايَة) لِابْنِ الْأَثِير: كنوز الأَرْض الْجَاهِلِيَّة المدفونة فِي الأَرْض، وَهِي المطالب فِي الْعرف عِنْد أهل الْحجاز، وَهُوَ الْمَعَادِن عِنْد أهل الْعرَاق، وَالْقَوْلَان تحتملهما اللُّغَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: الرِّكَاز بِمَعْنى المركوز، كالكتاب بِمَعْنى الْمَكْتُوب. قلت: من ركز فِي الأَرْض إِذا اثْبتْ أَصله، والكنز يركز فِي الأَرْض كَمَا يركز الرمْح. قَوْله: (دسره) أَي: دَفعه وَرمى بِهِ إِلَى السَّاحِل. ثمَّ هَذَا التَّعْلِيق رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق يَعْقُوب بن سُفْيَان: حَدثنَا الْحميدِي وَابْن قعنب وَسَعِيد قَالُوا: حَدثنَا سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار عَن أذينة، قَالَ: سَمِعت ابْن عَبَّاس قَالَ: لَيْسَ العنبر بركاز. وَفِي (المُصَنّف) : حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان بن سعيد عَن عَمْرو بن دِينَار عَن أذينة عَن ابْن عَبَّاس: لَيْسَ فِي العنبر زَكَاة، إِنَّمَا هُوَ شَيْء دسره الْبَحْر، وأذينة مصغر أذن تَابِعِيّ ثِقَة. فَإِن قلت: روى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن الثَّوْريّ عَن ابْن طَاوُوس عَن أَبِيه عَن ابْن عَبَّاس، سُئِلَ فِي العنبر فَقَالَ: إِن كَانَ فِيهِ شَيْء فَفِيهِ الْخمس. قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ: علق القَوْل فِيهِ فِي هَذِه الرِّوَايَة، وَقطع بِأَن لَا زَكَاة فِيهِ فِي الرِّوَايَة الأولى، وَالْقطع أولى. وَقَالَ ابْن التِّين: قَول ابْن عَبَّاس قَول أَكثر الْعلمَاء. فَإِن قلت: رُوِيَ عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أَخذ الْخمس من العنبر؟ قلت: هُوَ مَحْمُول على الْجَيْش، يدْخلُونَ أَرض الْحَرْب فيصيبون العنبر فِي ساحلها وَفِيه الْخمس لِأَنَّهُ غنيمَة.
وَقَالَ الحَسَنُ: فِي العَنْبَرِ وَاللّؤْلُؤِ الخُمُس
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن معَاذ بن معَاذ عَن أَشْعَث عَن الْحسن أَنه كَانَ يَقُول: فِي العنبر الْخمس، وَكَذَلِكَ كَانَ يَقُول: فِي اللُّؤْلُؤ، واللؤلؤ مطر الرّبيع يَقع فِي الصدف فعلى هَذَا أَصله مَاء، وَلَا شَيْء فِي المَاء. وَقيل: إِن الصدف حَيَوَان يخلق فِيهِ اللُّؤْلُؤ. وَفِي (كتاب الْأَحْجَار) لأبي الْعَبَّاس التيغاشي: إِن حَيَوَان الْجَوْهَر الَّذِي يتكون فِيهِ مِنْهُ الْكَبِير وَيُسمى الدّرّ، وَمِنْه الصَّغِير وَيُسمى اللُّؤْلُؤ. وَهَذَا الْحَيَوَان يُسمى باليونانين: أرسطورس، يَعْلُو لحم ذَلِك الْحَيَوَان صدفتان ملتصقتان بجسمه، وَالَّذِي يَلِي الصدفتين من لَحْمه أسود، وَله فَم وأذنان وشحم من داخلها إِلَى غَايَة الصدفتين، وَالْبَاقِي رغوة وزبد وَمَاء. وَقيل: إِن الْبَحْر الْمُحِيط يلْحق آخِره أول الْبَحْر المسلوك، وَإِن الرِّيَاح تصفق الَّذِي فِيهِ الدّرّ فِي وَقت ريح الشمَال، فَيصير لموجه رشاش فيلتقمه الصدف عِنْد ذَلِك إِلَى قَعْر الْبَحْر، فيتغرس هُنَاكَ وَيضْرب بعروق فيتشعب مثل الشّجر وَيصير نباتا بعد أَن كَانَ حَيَوَانا ذَا نفس، فَإِذا تركت هَذِه الصدفة حَتَّى يطول مكثها تَغَيَّرت وفسدت. واللؤلؤ: بهمزتين وبواوين، وَيُقَال: الثَّانِي بِالْوَاو، وَالْأول بِالْهَمْز، وَبِالْعَكْسِ قَالَ النَّوَوِيّ: أَربع لُغَات. قلت: لَا يُقَال لتخفيف الْهمزَة لُغَة، وَقَالَ ابْن قدامَة: وَلَا زَكَاة فِي الْمُسْتَخْرج من الْبَحْر كَاللُّؤْلُؤِ والمرجان والعنبر وَنَحْوه فِي ظَاهر قَول الْخرقِيّ، وَرُوِيَ نَحْو ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز وَعَطَاء وَمَالك وَالثَّوْري وَابْن أبي ليلى وَالْحسن بن صَالح وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد وَأَبُو ثَوْر وَأَبُو عبيد، وَعَن أَحْمد رِوَايَة أُخْرَى: أَن فِيهِ الزَّكَاة، لِأَنَّهُ خَارج من مَعْدن التبر، وَبِه قَالَ

(9/96)


أَبُو يُوسُف وَإِسْحَاق. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ: أَن وجد عنبرة فِي صفة الْبَحْر خمست، وَإِن غاص عَلَيْهَا فِي مثل بَحر الْهِنْد فَلَا شَيْء فِيهَا لَا خمس وَلَا نفل وَلَا غَيره، وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع عَن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل عَن أبي الزبير عَن جَابر قَالَ: لَيْسَ فِي العنبر زَكَاة، وَإِنَّمَا هُوَ غنيمَة لمن أَخذه.
إنَّما جعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرِّكازِ الخُمُسَ لَيْسَ فِي الَّذِي يُصَابُ فِي المَاءِ
هَذَا من كَلَام البُخَارِيّ، يُرِيد بِهِ الرَّد على الْحسن، وَوَجهه أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِنَّمَا جعل الْخمس فِي الرِّكَاز لَا فِي الشَّيْء الَّذِي يصاب فِي المَاء، وَيَأْتِي الحَدِيث مَوْصُولا عَن قريب، وَقد لفظ فِي الرِّكَاز للحصر. قَوْله: (يصاب) أَي: يُوجد فِي المَاء كالسمك.

8941 - وَقَالَ اللَّيْثُ حدَّثني جَعْفَرُ بنُ رَبِيعَةَ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ سَألَ بَعْضَ بَنِي إسْرَائِيلَ بِأنْ يُسْلِفَهُ ألْفَ دِينَارٍ فدَفَعَهَا إلَيْهِ فخَرَجَ فِي البَحْرِ فَلَمْ يَجِدْ مَركَبا فأخذَ خَشَبةً فنَقَرهَا فأدْخَلَ فِيهَا ألْفَ دِينَارٍ فرَمَى بِهَا فِي البَحْرِ فخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كانَ أسْلَفَهُ فإذَا بِالخَشَبةِ فأخَذَهَا لأِهْلِهِ حطَبا فذَكَر الحدِيثَ فلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ المَالَ..
الْكَلَام فِي هَذَا الحَدِيث على أَنْوَاع.
الأول: فِي وَجه إِيرَاده هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب، فَقَالَ الْإِسْمَاعِيلِيّ: لَيْسَ فِي هَذَا الحَدِيث شَيْء يُنَاسب التَّرْجَمَة، رجل اقْترض قرضا فارتجع قرضه، وَكَذَا قَالَ الدَّاودِيّ: حَدِيث الْخَشَبَة لَيْسَ من هَذَا الْبَاب فِي شَيْء، وَأجَاب عَن ذَلِك من ساعده وَوجه كَلَامه مِنْهُم عبد الْملك فَقَالَ: إِنَّمَا أَدخل البُخَارِيّ هَذَا الحَدِيث فِي هَذَا الْبَاب لِأَنَّهُ يُرِيد أَن كل مَا أَلْقَاهُ الْبَحْر جَازَ الْتِقَاطه وَلَا خمس فِيهِ إِذا لم يعلم أَنه من مَال الْمُسلمين، وَأما إِذا علم أَنه مِنْهُ فَلَا يجوز أَخذه لِأَن الرجل إِنَّمَا أَخذ خَشَبَة على الْإِبَاحَة ليملكها، فَوجدَ فِيهَا المَال، وَلَو وَقع هَذَا الْيَوْم كَانَ كاللقطة لِأَنَّهُ مَعْلُوم أَن الله تَعَالَى لَا يخلق الدَّنَانِير المضروبة فِي الْخَشَبَة. قلت: يَنْبَغِي أَن يُقيد عَادَة، لِأَن قدرَة الله تَعَالَى صَالِحَة لكل شَيْء عقلا، وَمِنْهُم ابْن الْمُنِير، فَقَالَ: مَوضِع الاستشهاد إِنَّمَا هُوَ أَخذ الْخَشَبَة على أَنَّهَا حطب، فَدلَّ على إِبَاحَة مثل ذَلِك مِمَّا يلفظه الْبَحْر، أما مِمَّا ينشأ فِيهِ كالعنبر أَو مِمَّا سبق فِيهِ ملك وعطب وَانْقطع ملك صَاحبه مِنْهُ على اخْتِلَاف بَين الْعلمَاء فِي تمْلِيك هَذَا مُطلقًا أَو مفصلا، وَإِذا جَازَ تمْلِيك الْخَشَبَة، وَقد تقدم عَلَيْهَا ملك متملك، فنحو العنبر الَّذِي لم يتَقَدَّم عَلَيْهِ ملك أولى. قلت: التَّرْجَمَة مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر، والْحَدِيث يدل على مَا يسْتَخْرج من الْبَحْر، فالمطابقة فِي مُجَرّد الاستخراج من الْبَحْر مَعَ قطع النّظر عَن غَيره، وَأدنى الملابسة فِي التطابق كَاف.
النَّوْع الثَّانِي: أَنه ذكر هَذَا الحَدِيث هُنَا مُعَلّقا مُخْتَصرا، وَوَقع فِي بعض نسخه عَقِيبه: حَدثنِي بذلك عبد الله بن صَالح، قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث، ذكره الْحَافِظ الْمزي، قَالَ: وَهُوَ ثَابت فِي عدَّة أصُول من كتاب الْبيُوع من الْجَامِع من رِوَايَة أبي الْوَقْت عَن الدَّاودِيّ عَن أبي حمويه عَن الْفربرِي عَنهُ، وَقَالَ الطرقي: أخرجه مُحَمَّد فِي خَمْسَة مَوَاضِع من الْكتاب، فَقَالَ: قَالَ اللَّيْث) قلت: أخرجه هُنَا أَعنِي فِي الزَّكَاة وَفِي الْكفَالَة وَفِي الاستقراض وَفِي اللّقطَة وَفِي الشُّرُوط وَفِي الاسْتِئْذَان، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة، وَقَالَ فِي: بَاب التِّجَارَة فِي الْبَحْر، فِي الْبيُوع. وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل خرج فِي الْبَحْر فَقضى حَاجته) ، وسَاق الحَدِيث. حَدثنِي عبد الله ابْن صَالح، قَالَ: حَدثنِي اللَّيْث بِهَذَا، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي اللّقطَة عَن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ عَن دَاوُد بن مَنْصُور عَن اللَّيْث نَحوه.
أما الَّذِي أخرجه فِي الْكفَالَة فَهُوَ فِي: بَاب الْكفَالَة فِي الْقَرْض والديون، وَلَفظه: قَالَ أَبُو عبد الله، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز (عَن أبي هُرَيْرَة عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل سَأَلَ بعض بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه ألف دِينَار، فَقَالَ: إيتني بِالشُّهَدَاءِ أشهدهم، فَقَالَ: كفى بِاللَّه شَهِيدا. قَالَ: فَاتَنِي بالكفيل، قَالَ: كفى بِاللَّه كَفِيلا، قَالَ: صدقت، فَدَفعهَا إِلَيْهِ إِلَى أجل مُسَمّى، فَخرج فِي االبحر فَقضى حَاجته ثمَّ التمس مركبا

(9/97)


يركبهَا يقدم عَلَيْهِ للأجل الَّذِي أَجله فَلم يجد مركبا، فَأخذ خَشَبَة فنقرها فأحل فِيهَا ألف دِينَار وصحيفة مِنْهُ إِلَى صَاحبه ثمَّ زجج موضعهَا ثمَّ أَتَى بِهِ إِلَى الْبَحْر، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّك تعلم أَنِّي كنت تسلفت فلَانا ألف دِينَار، فَسَأَلَنِي كَفِيلا فَقلت: كفى بِاللَّه كَفِيلا، فَرضِي بك، وسألني شَهِيدا، فَقلت: كفى بِاللَّه شَهِيدا، فَرضِي بك، وَإِنِّي جهدت أَن أجد مركبا أبْعث إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ، فَلم أقدر، وَإِنِّي أستودعتكها. فَرمى بهَا فِي الْبَحْر حَتَّى ولجت فِيهِ، ثمَّ انْصَرف وَهُوَ فِي ذَلِك يلْتَمس مركبا يخرج إِلَى بَلَده، فَخرج الرجل الَّذِي كَانَ أسلفه ينظر لَعَلَّ مركبا قد جَاءَ بِمَالِه، فَإِذا بالخشبة الَّتِي فِيهَا المَال فَأَخذهَا لأَهله حطبا، فَلَمَّا نشرها وجد المَال والصحيفة، ثمَّ قدم الَّذِي كَانَ أسلفه، فَأتى بِالْألف دِينَار، فَقَالَ: وَالله مَا زلت جاهدا فِي طلب مركب لآتيك بِمَالك فَمَا وجدت مركبا قبل الَّذِي أتيت فِيهِ، قَالَ: هَل كنت بعثت إِلَيّ بِشَيْء؟ قَالَ: أَخْبَرتك إِنِّي لم أجد مركبا قبل الَّذِي جِئْت فِيهِ. قَالَ: فَإِن الله قد أدّى عَنْك الَّذِي بعثت فِي الْخَشَبَة، فَانْصَرف بِالْألف دِينَار راشدا.
وَأما الَّذِي فِي الاستقراض فَأخْرجهُ مُخْتَصرا فِي: بَاب إِذا أقْرضهُ إِلَى أجل مُسَمّى، فَقَالَ: وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ (عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل سَأَلَ بعض بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه، فَدَفعهَا إِلَيْهِ إِلَى أجل مُسَمّى) فَذكر الحَدِيث.
وَأما الَّذِي فِي اللّقطَة، فَأخْرجهُ فِي: بَاب إِذا وجد خَشَبَة فِي الْبَحْر أَو سَوْطًا أَو نَحوه، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز (عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل) ، وسَاق الحَدِيث (فَخرج ينظر لَعَلَّ مركبا قد جَاءَ بِمَالِه فَإِذا هُوَ بالخشبة، فَأَخذهَا لأَهله حطبا فَلَمَّا نشرها وجد المَال والصحيفة.
وَأما الَّذِي فِي الشُّرُوط فَأخْرجهُ فِي: بَاب الشُّرُوط فِي الْفَرْض مُخْتَصرا، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز (عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه ذكر رجلا سَأَلَ بعض بني إِسْرَائِيل أَن يسلفه ألف دِينَار فَدَفعهَا إِلَيْهِ إِلَى أجل مُسَمّى) .
وَأما الَّذِي فِي الاسْتِئْذَان فَأخْرجهُ فِي: بَاب بِمن يبْدَأ فِي الْكتاب، وَقَالَ اللَّيْث: حَدثنِي جَعْفَر بن ربيعَة عَن عبد الرَّحْمَن بن هُرْمُز الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: أَنه ذكر رجلا من بني إِسْرَائِيل أَخذ خَشَبَة فنقرها فَأدْخل فِيهَا ألف دِينَار، وصحيفة مِنْهُ إِلَى صَاحبه) ، وَقَالَ عمر ابْن أبي سَلمَة (عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: نجر خَشَبَة فَجعل المَال فِي جوفها وَكتب إِلَيْهِ صحيفَة من فلَان إِلَى فلَان) .
النَّوْع الثَّالِث: فِي مَعَاني الحَدِيث، فَقَوله: (أَن يسلفه) ، بِضَم الْيَاء، من أسلف إسلافا، يُقَال: سلفت تسليفا وأسلفت إسلافا، وَالِاسْم السّلف، وَهُوَ فِي الْمُعَامَلَات على وَجْهَيْن: أَحدهمَا الْقَرْض الَّذِي لَا مَنْفَعَة فِيهِ للمقرض غير الْأجر وَالشُّكْر، وعَلى الْمُقْتَرض رده، وَالْعرب تسمي الْقَرْض سلفا. وَالثَّانِي: هُوَ أَن يُعْطي مَالا فِي سلْعَة إِلَى أجل مَعْلُوم بِزِيَادَة فِي السّعر الْمَوْجُود عِنْد السّلف، وَذَلِكَ مَنْفَعَة للمسلف، وَيُقَال لَهُ: سلم، وَالْمرَاد هَهُنَا هُوَ الْمَعْنى الأول. قَوْله: (فَلم يجد مركبا) ، أَي: سفينة يركب عَلَيْهَا وَيَجِيء إِلَى صَاحبه أَو يبْعَث فِيهَا شَيْئا إِلَيْهِ لقَضَاء دينه. قَوْله: (فَأخذ خَشَبَة) والخشبة وَاحِدَة الْخشب. قَوْله: (فنقرها) أَي: قوَّرها. قَوْله: (وَرمى بهَا) ، أَي: الْخَشَبَة المنقورة قَاصِدا وصولها إِلَى صَاحب المَال. قَوْله: (فَإِذا بالخشبة) أَي: فَإِذا هُوَ مفاجىء بالخشبة. قَوْله: (حطبا) ، نصب على أَن أَخذ من أَفعَال المقاربة، فَيعْمل عمل كَانَ، وَيجوز أَن يكون مَنْصُوبًا بمقدر تَقْدِيره فَأَخذهَا يَجْعَلهَا حطبا، يَعْنِي: يستعملها اسْتِعْمَال الْحَطب فِي الوقيد. قَوْله: (بِالشُّهَدَاءِ) ، جمع شَهِيد بِمَعْنى: شَاهد، قَوْله: (يقدم) ، بِفَتْح الدَّال من قدم يقدم من: بَاب فعل يفعل بِكَسْر الْعين فِي الْمَاضِي، وَفتحهَا فِي الغابر. قَوْله: (فأحل فِيهَا) من الْإِحْلَال، وَهُوَ الْإِنْزَال وَالْمرَاد وضع فِي الْخَشَبَة المنقورة ألف دِينَار. قَوْله: (وصحيفة) بِالنّصب عطف على ألف دِينَار، وَالْمرَاد مِنْهَا الْمَكْتُوب. قَوْله: (ثمَّ زجج موضعهَا) ، أَي: أصلح مَوضِع النقرة وسواه، قيل: لَعَلَّه من تزجيج الحواجب وَهُوَ الْتِقَاط زَوَائِد الشّعْر الْخَارِج عَن الْخَدين، وَإِن أَخذ من الزج وَهُوَ سِنَان الرمْح فَيكون النقر قد وَقع فِي طرف من الْخَشَبَة فسد عَلَيْهِ رَجَاء أَن يمسِكهُ ويحفظ مَا فِي بَطْنه. قَوْله: (تسلفت) ، من بَاب التفعل مَعْنَاهُ: افترضت. قَوْله: (جهدت) من بَاب: فعل يفعل، بِالْفَتْح فيهمَا أَي: تحملت الْمَشَقَّة. قَوْله: (ولجت) ، من الولوج وَهُوَ: الدُّخُول. قَوْله: (فَلَمَّا نشرها) أَي: قطعهَا بِالْمِنْشَارِ. قَوْله: (بِالْألف دِينَار) ، هُوَ جَائِز على رَأْي الْكُوفِيّين. قَوْله: (راشدا) نصب على الْحَال من فَاعل: انْصَرف.

(9/98)


ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْخطابِيّ: لفظ: (أجل) فِيهِ دَلِيل على جَوَاز دُخُول الْآجَال فِي الْقَرْض. وَفِيه: فِي قَوْله: (أَخذهَا لأَهله حطبا) دَلِيل على أَن مَا يُوجد فِي الْبَحْر من مَتَاع الْبَحْر وَغَيره أَنه لَا شَيْء فِيهِ، وَهُوَ لمن وجده حَتَّى يسْتَحق مَا لَيْسَ من مَتَاع الْبَحْر من الْأَمْوَال كالدنانير وَالثيَاب وَشبه ذَلِك، فَإِذا اسْتحق رد إِلَى مُسْتَحقّه، وَمَا لَيْسَ لَهُ طَالب وَلم يكن لَهُ كثير قيمَة، وَحكم بِغَلَبَة الظَّن بانقطاعه كَانَ لمن وجده ينْتَفع بِهِ، وَلَا يلْزمه تَعْرِيفه إلاَّ أَن يُوجد فِيهِ دَلِيل يسْتَدلّ بِهِ على مَالِكه: كاسم رجل مَعْلُوم أَو عَلامَة، فيجتهد ملتقطها فِي أَمر التَّعْرِيف لَهُ، قَالَه الْمُهلب. وَفِيه: أَن من توكل على الله فَإِنَّهُ ينصره، فَالَّذِي نقر الْخَشَبَة وتوكل حفظ الله تَعَالَى مَاله، وَالَّذِي أسلفه وقنع بِاللَّه كَفِيلا أوصل الله تَعَالَى مَاله إِلَيْهِ. وَفِيه: جَوَاز ركُوب الْبَحْر بأموال النَّاس وَالتِّجَارَة. وَفِيه: أَن الله تَعَالَى متكفل بعون من أَرَادَ أَدَاء الْأَمَانَة، وَأَن الله يجازي أهل الإرفاق بِالْمَالِ بحفظه عَلَيْهِم مَعَ أجر الْآخِرَة، كَمَا حفظه على المسلف.

66 - (بابٌ فِي الرِّكَازِ الخُمُسُ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ فِي الرِّكَاز الْخمس، وَالْخمس مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ، وَفِي الرِّكَاز مقدما خَبره، وَقد مر تَفْسِير الرِّكَاز.
وَقَالَ مالِكٌ وَابنُ إدْرِيسَ الرِّكَازُ دِفْنُ الجَاهِلِيَّةِ فِي قَلِيلِهِ وكَثِيرِهِ الخُمُسُ ولَيْسَ المَعْدَنُ بِرِكَازٍ

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة وَمَالك هُوَ ابْن أنس صَاحب الْمَذْهَب الْمَشْهُور، وَابْن إِدْرِيس هُوَ مُحَمَّد بن إِدْرِيس، فَقَالَ ابْن التِّين: قَالَ أَبُو ذَر: يُقَال: هُوَ مُحَمَّد بن إِدْرِيس الشَّافِعِي، يَعْنِي صَاحب الْمَذْهَب، وَيُقَال: عبد الله بن إِدْرِيس الأودي الْكُوفِي، وَهُوَ الْأَشْبَه، وَقد جزم أَبُو زيد الْمروزِي أحد الروَاة عَن الْفربرِي بِأَنَّهُ الشَّافِعِي، يَعْنِي صَاحب الْمَذْهَب. وَتَابعه الْبَيْهَقِيّ وَجُمْهُور الْأَئِمَّة. قيل: يُؤَيّد ذَلِك أَنه وجد فِي عبارَة الشَّافِعِي دون الأودي، فروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) من طَرِيق الرّبيع، قَالَ: قَالَ الشَّافِعِي: والركاز الَّذِي فِيهِ الْخمس دفن الْجَاهِلِيَّة مَا وجد فِي غير ملك لأحد، وَأما فِي قَلِيله وكثيرة الْخمس فَهُوَ قَوْله فِي الْقَدِيم، كَمَا نَقله ابْن الْمُنْذر عَنهُ، وَاخْتَارَهُ. وَأما فِي الْجَدِيد فَقَالَ: لَا يجب فِيهِ الْخمس حَتَّى يبلغ نِصَاب الزَّكَاة، وَالتَّعْلِيق عَن مَالك رَوَاهُ أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال) : حَدثنِي يحيى بن عبد الله بن بكير عَن مَالك، قَالَ: الْمَعْدن بِمَنْزِلَة الزَّرْع تُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة كَمَا تُؤْخَذ من الزَّرْع تُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة كَمَا تُؤْخَذ من الزَّرْع حِين يحصد. قَالَ: وَهَذَا لَيْسَ بركاز، وَإِنَّمَا الرِّكَاز دفن الْجَاهِلِيَّة الَّذِي يُوجد من غير أَن يطْلب بِمَال وَلَا يتَكَلَّف لَهُ كثير عمل. انْتهى. قَوْله: (دفن الْجَاهِلِيَّة) ، بِكَسْر الدَّال، بِمَعْنى: المدفون. قَوْله: (فِي قَلِيله) ، هُوَ الَّذِي لَا يبلغ نِصَابا، وَفِي كَثِيره مَا بلغ نِصَابا، قَوْله: (وَلَيْسَ الْمَعْدن بركاز) فَيجب فِيهِ ربع العُشر لَا الْخمس لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى عمل ومعالجة واستخراج، بِخِلَاف الرِّكَاز، وَقد جرت السّنة أَن مَا غلظت مُؤْنَته خفف عَنهُ فِي مِقْدَار الزَّكَاة، وَمَا خفف زيد فِيهِ، وَسمي الْمَعْدن لإِقَامَة التبر فِيهِ، لِأَنَّهُ من العدن وَهُوَ الْإِقَامَة.
وقَدْ قَالَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي المَعْدِنِ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ

هَذَا من جملَة كَلَام مَالك وَابْن إِدْرِيس فِيمَا ذَهَبا إِلَيْهِ، أَرَادَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرق بَين الْمَعْدن والركاز، فَجعل الْمَعْدن جبارا وَأوجب فِي الرِّكَاز الْخمس، وَهَذَا التَّعْلِيق أسْندهُ فِي هَذَا الْبَاب، فَعَن قريب يَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى، والجبار، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ الهدر لَيْسَ فِيهِ شَيْء.
وَأخَذَ عُمَرُ بنُ عَبْدِ العَزِيزِ مِنَ المَعَادِنِ مِنْ كْلِّ مِائَتَيْنِ خَمْسَةً
أَي: خَمْسَة دَرَاهِم وَهُوَ ربع الْعشْر، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله أَبُو عبيد فِي (كتاب الْأَمْوَال) من طَرِيق الثَّوْريّ عَن عبد الله بن أبي بكر بن عَمْرو بن حزم نَحوه، وروى الْبَيْهَقِيّ من طَرِيق سعيد بن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة أَن عمر بن عبد الْعَزِيز جعل الْمَعْدن بِمَنْزِلَة الرِّكَاز يُؤْخَذ مِنْهُ الْخمس، ثمَّ عقب بِكِتَاب آخر فَجعل فِيهِ الزَّكَاة، قَالَ: وروينا عَن عبد الله بن أبي بكر أَن عمر بن عبد الْعَزِيز

(9/99)


أَخذ من الْمَعَادِن من كل مِائَتي دِرْهَم خَمْسَة دَرَاهِم، وَعَن أبي الزِّنَاد قَالَ: جعل عمر بن عبد الْعَزِيز فِي الْمَعَادِن أَربَاع الْعشْر إلاَّ أَن يكون ركزه، فَإِذا كَانَ ركزه فَفِيهَا الْخمس.
وَقَالَ الحَسَنُ مَا كانَ مِنْ رِكَازٍ فِي أرْضِ الحَرْبِ فَفِيهِ الخُمُسُ ومَا كانَ منْ أرْضِ السِّلْمِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ
الْحسن هُوَ الْبَصْرِيّ، قَوْله: (السّلم) بِكَسْر السِّين وَسُكُون اللَّام، وَهُوَ: الصُّلْح، وَهَذِه التَّفْرِقَة لم تعرف عَن غَيره، وَوصل هَذَا التَّعْلِيق ابْن أبي شيبَة من طَرِيق عَاصِم الْأَحول عَنهُ بِلَفْظ: (إِذا وجد الْكَنْز فِي أَرض الْعَدو فَفِيهِ الْخمس، وَإِذا وجد فِي أَرض الْعَرَب فَفِيهِ الزَّكَاة) .
وإنْ وَجَدْتَ اللقَطَةَ فِي أرْضِ العَدُوِّ فَعَرِّفْهَا وَإنْ كَانَتْ مِنَ العَدُوِّ فَفِيهَا الخُمُسُ
هَذَا من تَتِمَّة كَلَام الْحسن، وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا عباد بن الْعَوام عَن هِشَام عَن الْحسن: الرِّكَاز الْكَنْز العادي وَفِيه الْخمس، واللقطة، بِفَتْح الْقَاف وسكونها، لَكِن الْقيَاس أَن يُقَال بِالْفَتْح للاّقط، وبسكون الْقَاف للملقوط، وَإِن كَانَت اللّقطَة مَال الْعَدو فَلَا حَاجَة إِلَى التَّعْرِيف، بل يملكهَا وَيجب فِيهَا الْخمس، وَلَا يكون لَهَا حكم اللّقطَة بِخِلَاف مَا لَو كَانَت فِي أَرض الْعَدو والمحتملة لكَونهَا للْمُسلمين.
وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ المَعْدَنُ رِكَازٌ مِثْلُ دِفْنِ الجِاهِلِيَّةِ لأنَّهُ يُقَالُ أرْكَزَ المَعْدِنُ إذَا خَرَجَ مِنْهُ شَيءٌ قِيلَ لَهُ قَدْ يُقَالُ لِمَنْ وُهِبَ لَهُ شَيءٌ أوْ رَبِحَ رِبْحا كَثِيرا أوْ كَثُرَ ثَمَرُهُ أرْكَزْتَ ثُمَّ نَاقَضَ وَقَالَ لاَ بَأسَ أنْ يَكْتُمَهُ فَلاَ يُؤَدِّيَ الخُمُسَ
قَالَ ابْن التِّين: المُرَاد بِبَعْض النَّاس هُوَ أَبُو حنيفَة. قلت: جزم ابْن التِّين بِأَن المُرَاد بِهِ هُوَ أَبُو حنيفَة من أَيْن أَخذه فَلم لَا يجوز أَن يكون مُرَاده هُوَ سُفْيَان الثَّوْريّ من أهل الْكُوفَة، وَالْأَوْزَاعِيّ من أهل الشَّام، فَإِنَّهُمَا قَالَا مثل مَا قَالَ أَبُو حنيفَة: أَن الْمَعْدن كالركاز وَفِيه الْخمس فِي قَلِيله وَكَثِيره، على ظَاهر قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (وَفِي الرِّكَاز الْخمس) ، وَلَكِن الظَّاهِر أَن ابْن التِّين لما وقف على مَا قَالَه البُخَارِيّ فِي (تَارِيخه) فِي حق أبي حنيفَة مِمَّا لَا يَنْبَغِي أَن يذكر فِي حق أحد من أَطْرَاف النَّاس، فضلا أَن يُقَال فِي حق إِمَام هُوَ أحد أَرْكَان الدّين، صرح بِأَن المُرَاد بِبَعْض النَّاس أَبُو حنيفَة، وَلَكِن لَا يرْمى إلاَّ شجر فِيهِ ثَمَر، وَهَذَا ابْن بطال قَالَ: ذهب أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَغَيرهمَا إِلَى أَن الْمَعْدن كالركاز، وَاحْتج لَهُم بقول الْعَرَب: أركز الرجل إِذا أصَاب ركازا، وَهِي قطع من الذَّهَب تخرج من الْمَعَادِن، وَهَذَا قَول صَاحب الْعين، وَأبي عبيد. وَفِي (مجمع الغرائب) : الرِّكَاز الْمَعَادِن. وَفِي (النِّهَايَة) : لِابْنِ الْأَثِير: الْمَعْدن والركاز وَاحِد، فَإِذا علم ذَلِك بَطل التشنيع على أبي حنيفَة.
قَوْله: (مثل دفن الْجَاهِلِيَّة) بِكَسْر الدَّال كَمَا ذكرنَا عَن قريب بِمَعْنى: المدفون. قَوْله: (لِأَنَّهُ يُقَال، أركز الْمَعْدن إِذا خرج مِنْهُ شَيْء) ، وَالضَّمِير فِي: لِأَنَّهُ، ضمير الشَّأْن، وَأَشَارَ بِهِ إِلَى تَعْلِيل من يَقُول: إِن الْمَعْدن هُوَ الرِّكَاز، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَنَّهُ لم ينْقل عَنْهُم وَلَا عَن الْعَرَب أَنهم قَالُوا: أركز الْمَعْدن، وَإِنَّمَا قَالُوا: أركز الرجل، فَإِذا لم يكن هَذَا صَحِيحا فَكيف يتَوَجَّه الْإِلْزَام بقول الْقَائِل: قد يُقَال لمن وهب لَهُ ... إِلَى آخِره؟ أَرَادَ أَنه يلْزم أَن يُقَال: كل وَاحِد من الْمَوْهُوب وَالرِّبْح وَالثَّمَر ركاز، فَيجب فِيهِ الْخمس، وَلَيْسَ كَذَلِك بل الْوَاجِب فِيهِ العُشر، وَمعنى: أركز الرجل صَار لَهُ ركاز من قطع الذَّهَب، كَمَا ذكرنَا، وَلَا يلْزم مِنْهُ أَنه أذا إِذا وهب لَهُ شَيْء أَن يُقَال لَهُ: أركزتَ، بِالْخِطَابِ، وَكَذَلِكَ إِذا ربح ربحا كثيرا أَو كثر ثمره، وَلَو علم الْمُعْتَرض أَن معنى: أفعل، هَهُنَا مَا هُوَ، وَلما اعْترض وَلَا أفحش فِيهِ، وَمعنى: أفعل، هُنَا للصيرورة يَعْنِي: لصيرورة الشَّيْء مَنْسُوبا إِلَى مَا اشتق مِنْهُ الْفِعْل، كأغدَّ الْبَعِير. أَي: صَار ذَا غُدَّة. وَمعنى: أركز الرجل، صَار لَهُ ركاز من قطع الذَّهَب، كَمَا ذَكرْنَاهُ، وَلَا يُقَال إلاَّ بِهَذَا الْقَيْد، أَعنِي من قطع الذَّهَب، وَلَا يُقَال: أركز الرجل مُطلقًا. قَوْله: (ثمَّ نَاقض) أَي:

(9/100)


نَاقض هَذَا الْقَائِل قَوْله، وَجه هَذِه المناقضة على زَعمه أَنه قَالَ، أَولا: الْمَعْدن يجب فِيهِ الْخمس، لِأَنَّهُ ركاز، وَقَالَ ثَانِيًا: إِنَّه لَا يُؤدى الْخمس فِي الرِّكَاز، وَهُوَ متناول للمعدن. قَوْله: (أَن يَكْتُمهُ) أَي: عَن السَّاعِي حَتَّى لَا يُطَالب بِهِ. قلت: هَذَا لَيْسَ بمناقضة لِأَنَّهُ فهم من كَلَام هَذَا الْقَائِل غير مَا أَرَادَهُ فصدر هَذَا عَنهُ بِلَا تَأمل وَلَا ترو.
بَيَان ذَلِك أَن الطَّحَاوِيّ حكى عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ: من وجد ركازا فَلَا بَأْس أَن يُعْطي الْخمس للْمَسَاكِين وَإِن كَانَ مُحْتَاجا جَازَ لَهُ أَن يَأْخُذهُ لنَفسِهِ، قَالَ: وَإِنَّمَا أَرَادَ أَبُو حنيفَة أَنه تَأَول أَن لَهُ حَقًا فِي بَيت المَال، ونصيبا فِي الْفَيْء، فَلذَلِك لَهُ أَن يَأْخُذ الْخمس لنَفسِهِ عوضا من ذَلِك، وَلَقَد صدق الشَّاعِر:
(وَكم من عائب قولا صَحِيحا ... وآفته من الْفَهم السقيم)

والكرماني أَيْضا مَشى فِي مشيهم، وَلكنه اعْترف أَن النَّقْض تعسف، حَكَاهُ عَن ابْن بطال، وَرَضي بِهِ. وَقَالَ بَعضهم: نقل الطَّحَاوِيّ عَن أبي حنيفَة أَيْضا أَنه: لَو وجد فِي دَاره معدنا فَلَيْسَ عَلَيْهِ شَيْء، ثمَّ قَالَ: وَبِهَذَا يتَّجه اعْتِرَاض الطَّحَاوِيّ. قلت: مَعْنَاهُ: لَا يجب عَلَيْهِ شَيْء فِي الْحَال إلاَّ إِذا حَال الْحول وَكَانَ نِصَابا يجب فِيهِ الزَّكَاة، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يجب الْخمس فِي الْحَال، وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ: الزَّكَاة فِي الْحَال، وَهَذَا مُخَالف لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا زَكَاة فِي مَال حَتَّى يحول عَلَيْهِ الْحول) ، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَالْفرق بَين الْمَعْدن والركاز أَن الْمَعْدن يحْتَاج إِلَى عمل ومؤونة ومعالجة، بِخِلَاف الرِّكَاز. قلت: هَذَا شَيْء عَجِيب لِأَنَّهُ لَيْسَ بِهَذَا يعرف حَقِيقَة كل وَاحِد مِنْهُمَا مَا هِيَ، وَالْفرق بَين الْأَشْيَاء بِبَيَان ماهياتها وحقائقها، وَالَّذِي ذكره هَذَا من اللوازم الخارجية عَن الْمَاهِيّة.

9941 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَعِيدِ بنِ المُسَيَّبِ وعَنْ أبي سلَمَةَ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ العَجْمَاءُ جُبَارٌ وَالبِئْرُ جُبَارٌ والمَعْدَنُ جُبارٌ وَفِي الرِّكَازِ الخُمُسُ..
التَّرْجَمَة هِيَ عين متن الْجُزْء الْأَخير من الحَدِيث، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحُدُود عَن مُحَمَّد بن رَافع عَن إِسْحَاق بن عِيسَى. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الزَّكَاة وَفِي الرِّكَاز عَن قُتَيْبَة. وَأخرجه مُسلم أَيْضا وَأَصْحَاب السّنَن من رِوَايَة ابْن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ، وَأوردهُ البُخَارِيّ فِي الْأَحْكَام وَلَيْسَ فِي رِوَايَته، وَالنَّسَائِيّ من طَرِيق ابْن عُيَيْنَة ذكر لأبي سَلمَة، وَإِنَّمَا هُوَ عَن ابْن الْمسيب فَقَط، وَرَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة الْأسود بن الْعَلَاء عَن أبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ؛ (الْبِئْر جرحها جَبَّار والمعدن جرحه جَبَّار وَفِي الرِّكَاز الْخمس) . وَاتفقَ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ من رِوَايَة مُحَمَّد بن زِيَاد عَن أبي هُرَيْرَة بِلَفْظ: (العجماء عقلهَا جَبَّار) الحَدِيث، وَقد ذكر الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) وَقد سُئِلَ عَن هَذَا الحَدِيث: إِنَّه اخْتلف فِيهِ على الزُّهْرِيّ فِي كَونه عَن ابْن الْمسيب وَأبي سَلمَة، أَو عَن سعيد فَقَط، أَو عَن أبي سَلمَة فَقَط، أَو عَن سعيد بن الْمسيب وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة، أَو عَن عبيد الله وَحده، وَأَنه اخْتلف فِيهِ على اللَّيْث وعَلى مَالك وعَلى ابْن عُيَيْنَة وعَلى يُونُس ابْن يزِيد، فَقيل: عَن اللَّيْث عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَحده، وَرَوَاهُ القعْنبِي وَمصْعَب عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد فَقَط، وَقَالَ ابْن وهب: عَن مَالك عَن الزُّهْرِيّ عَن أبي سَلمَة وَحده، وَرَوَاهُ شبيب بن سعيد عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَأبي سَلمَة وَرَوَاهُ ابْن وهب عَن يُونُس عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَعبيد الله بن عبد الله بن عتبَة عَن أبي هُرَيْرَة، وَرَوَاهُ إِسْحَاق بن رَاشد عَن الزُّهْرِيّ عَن عبيد الله وَحده. قَالَ: وَالصَّحِيح عَن الزُّهْرِيّ عَن سعيد وَأبي سَلمَة. قَالَ: وَحَدِيثه عَن عبيد الله غير مَدْفُوع لِأَنَّهُ قد اجْتمع عَلَيْهِ إثنان، وَلما رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا اللَّيْث بن سعد عَن ابْن شهَاب عَن سعيد بن الْمسيب وَأبي سَلمَة عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (العجماء جَبَّار) الحَدِيث.
قَالَ: وَفِي الْبَاب عَن أنس بن مَالك وَعبد الله بن عَمْرو وَعبادَة بن الصَّامِت وَعَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ وَجَابِر. قلت: وَفِي الْبَاب أَيْضا عَن عبد الله بن مَسْعُود وَعبد الله بن عَبَّاس وَزيد بن أَرقم وَأبي ثَعْلَبَة الْخُشَنِي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وسراء بنت نَبهَان الغنوية. فَحَدِيث أنس عِنْد أَحْمد وَالْبَزَّار مطولا، وَفِيه: (هَذَا ركاز وَفِيه الْخمس) . وَحَدِيث عبد الله بن عمر وَعند

(9/101)


الشَّافِعِي من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فِي كنز وجده رجل فِي خربة جَاهِلِيَّة: (إِن وجدته فِي قَرْيَة مسكونة أَو سَبِيل مَيتا فَعرفهُ، فَإِن وجدته فِي خربة جَاهِلِيَّة أَو فِي قَرْيَة غير مسكونة فَفِيهِ وَفِي الرِّكَاز الْخمس) . وَحَدِيث عبد الله بن الصَّامِت رَوَاهُ ابْن مَاجَه من رِوَايَة إِسْحَاق بن يحيى بن الْوَلِيد عَن عبَادَة بن الصَّامِت، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (قضى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن الْمَعْدن جَبَّار وجرحها جَبَّار) . والعجماء: الْبَهِيمَة من الْأَنْعَام وَغَيرهَا، والجبار هُوَ الهدر لَا يغرم، وَهَذَا مُنْقَطع لِأَن إِسْحَاق لم يدْرك عبَادَة. وَحَدِيث عَمْرو بن عَوْف الْمُزنِيّ رَوَاهُ ابْن مَاجَه أَيْضا من رِوَايَة ابْن كثير بن عبد الله بن عَمْرو بن عَوْف عَن أَبِيه عَن جده، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (العجماء جرحها جَبَّار والمعدن جَبَّار) ، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) بِهَذَا الْإِسْنَاد مُقْتَصرا على قَوْله: (وَفِي الرِّكَاز الْخمس) . وَحَدِيث جَابر رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَزَّار من رِوَايَة مجَالد عَن الشّعبِيّ عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رسو ل الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (السائبة) الحَدِيث، وَفِيه: (فِي الرِّكَاز الْخمس) . وَحَدِيث ابْن مَسْعُود رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي الْكَبِير من رِوَايَة عَلْقَمَة عَن عبد الله بن مَسْعُود عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (العجماء جَبَّار والسائمة جَبَّار وَفِي الرِّكَاز الْخمس) . وَحَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عِنْد ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) من رِوَايَة عِكْرِمَة عَنهُ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ: (قضى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الرِّكَاز الْخمس. وَحَدِيث زيد بن أَرقم رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من رِوَايَة الشّعبِيّ عَن رجل عَن زيد بن أَرقم، قَالَ: (بعث النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عليا عَاملا على الْيمن، فَأتى بركاز فَأخذ مِنْهُ الْخمس وَدفع بَقِيَّته إِلَى صَاحبه، فَبلغ ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأعجبه) وَهَذَا مُنْقَطع لأجل الرجل الَّذِي لم يسم. وَحَدِيث سراء بنت نَبهَان الغنوية رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي (الْكَبِير) من حَدِيث سَاكِنة بنت الْجَعْد عَن سراء بنت نَبهَان الغنوية، قَالَت: (احتفر الْحَيّ فِي دَار كلاب فَأَصَابُوا بهَا كنزا عاديا، فَقَالَت كُلَيْب: دَارنَا، وَقَالَ الْحَيّ: احتفرنا، فنافروهم فِي ذَلِك إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقضى بهم للحي وَأخذ مِنْهُم الْخمس) ، الحَدِيث فِيهِ أَحْمد بن الْحَارِث الغساني، قَالَ البُخَارِيّ فِيهِ نظر، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: مَتْرُوك.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (العجماء) أَي: الْبَهِيمَة، وَسميت العجماء لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّم، وَعَن أبي حَاتِم: يُقَال لكل من لم يبين الْكَلَام من الْعَرَب والعجم وَالصغَار: أعجم ومستعجم، وَكَذَلِكَ من الطير والبهائم كلهَا، وَالِاسْم: العجمة. قَوْله: (جَبَّار) ، بِضَم الْجِيم وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره رَاء: وَهُوَ الهدر، يَعْنِي: لَيْسَ فِيهِ ضَمَان. وَفِي (التَّلْوِيح) : الْجَبَّار الهدر الَّذِي لَا قَوَدَ فِيهِ وَلَا دِيَّةَ، وكل مَا أفسد وَأهْلك جَبَّار، ذكره ابْن سَيّده، وَفِيه حذف لَا بُد من تَقْدِيره، وَهُوَ فعل: العجماء جَبَّار، لِأَن الْمَعْلُوم أَن نفس العجماء لَا يُقَال لَهَا هدر، وَبلا تَقْدِير لَا يرتبط الْخَبَر بالمبتدأ. قَوْله: (والبئر جَبَّار) ، مَعْنَاهُ الرجل يحْفر بِئْرا بفلاة أَو بِحَيْثُ يجوز لَهُ من الْعمرَان فَيسْقط فِيهَا رجل أَو يسْتَأْجر من يحْفر لَهُ بِئْرا فِي ملكه فينهار عَلَيْهِ فَلَا شيى عَلَيْهِ، وَكَذَا الْمَعْدن إِذا اسْتَأْجر من يحفره، وَكَذَا فِي قَوْله: والبئر جَبَّار، حذف تَقْدِيره: وَسُقُوط الْبِئْر على الشَّخْص جَبَّار، أَو: سُقُوط الشَّخْص فِي الْبِئْر، وَكَذَا التَّقْدِير فِي الْمَعْدن، وَالْمَشْهُور فِي الْبِئْر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا همزَة سَاكِنة، وَيجوز تسهيلها. وَقَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: رَوَاهُ بَعضهم: النَّار جَبَّار، وَقَالَ أهل الْيمن يَكْتُبُونَ: النَّار، بِالْبَاء وَمَعْنَاهُ عِنْدهم أَن من استوقد نَارا يما يجوز لَهُ فتعدت إِلَى مَا لَا يجوز فَلَا شَيْء فِيهِ، وَرُوِيَ فِي حَدِيث جَابر، والجب جَبَّار، وَهَذَا يدل على أَن المُرَاد: الْبِئْر لَا النَّار، كَمَا هُوَ فِي الْكتب السِّتَّة الْمَشْهُورَة، وَورد فِي بعض طرق الحَدِيث: الرجل جَبَّار، فاستدل بِهِ من فرق فِي حَالَة كَون راكبها مَعهَا بَين أَن يضْرب بِيَدِهَا أَو يرمح برجلها، فَإِن أفسدت بِيَدِهَا ضمنه، وَإِن رمحت برجلها لَا يضمن. قَوْله: (وَفِي الرِّكَاز الْخمس) أَي: يجب، أَو وَاجِب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه: الأول: مَسْأَلَة العجماء، ظَاهر الحَدِيث مُطلق، وَلكنه مَحْمُول على مَا إِذا اتلفت شَيْئا بِالنَّهَارِ وأتلفت بِاللَّيْلِ من غير تَفْرِيط من مَالِكهَا، أَو أتلفت وَلم يكن مَعهَا أحد، والْحَدِيث مُحْتَمل أَيْضا أَن تكون الْجِنَايَة على الْأَبدَان، أَو على الْأَمْوَال، فَالْأول أقرب إِلَى الْحَقِيقَة، لِأَنَّهُ ورد فِي (صَحِيح مُسلم) وَفِي (البُخَارِيّ) أَيْضا فِي الدِّيات: العجماء جرحها جَبَّار، وَفِي لفظ: (عقلهَا جَبَّار) ، لما مر، وعَلى كل تَقْدِير لم يَقُولُوا بِالْعُمُومِ فِي إهدار كل متْلف من بدن أَو مَال عَن مَا بَين فِي كتب الْفُرُوع، وَالْمرَاد بِجرح العجماء إتلافها، سَوَاء كَانَ بِجرح أَو غَيره، وَقَالَ عِيَاض: أجمع الْعلمَاء على أَن جِنَايَة الْبَهَائِم بِالنَّهَارِ لَا ضَمَان فِيهَا إِذا

(9/102)


لم يكن مَعهَا أحد، فَإِن كَانَ مَعهَا رَاكب أَو سائق أَو قَائِد، فجمهور الْعلمَاء على ضَمَان مَا أتلفت، وَقَالَ دَاوُد وَأهل الظَّاهِر: لَا ضَمَان بِكُل حَال، سَوَاء كَانَ بِرَجُل أَو بقدم لإِطْلَاق النَّص، إلاَّ أَن يحملهَا الَّذِي فَوْقهَا على ذَلِك، أَو يَقْصِدهُ فَيكون حِينَئِذٍ كالآلة، وَكَذَا إِذا تعدى فِي ربطها أَو إرسالها فِي مَوضِع لَا يجب ربطها فِيهِ. وَقَالَت الشَّافِعِيَّة بِالْإِطْلَاقِ، يَعْنِي سَوَاء كَانَ إتلافها بِيَدِهَا أَو رجلهَا أَو فمها، وَنَحْوه، فَإِنَّهُ يجب ضَمَانه فِي مَال الَّذِي هُوَ مَعهَا، سَوَاء كَانَ مَالِكهَا أَو مُسْتَأْجرًا أَو مستعيرا أَو غَاصبا أَو مودعا أَو وَكيلا أَو غَيره، إلاَّ أَن تتْلف آدَمِيًّا فَتجب دِيَته على عَاقِلَة الَّذِي مَعهَا، وَالْكَفَّارَة فِي مَاله. وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ: لَا ضَمَان فِيمَا إِذا أَصَابَته بِيَدِهَا أَو رجلهَا، وَعند أبي حنيفَة أَنه: لَا ضَمَان فِيمَا رمحت برجلها دون يَدهَا لِإِمْكَان التحفظ من الْيَد دون الرجل، وَأما إِذا أتلفت بِالنَّهَارِ وَكَانَت مَعْرُوفَة بالإفساد وَلم يكن مَعهَا أحد، فَإِن مَالِكهَا يضمن، لِأَن عَلَيْهِ ربطها وَالْحَالة هَذِه، وَأما جنايتها بِاللَّيْلِ فَقَالَ مَالك: يضمن صَاحبهَا مَا أتلفته، وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَصْحَابه: إِن فرط فِي حفظهَا ضمن وإلاَّ فَلَا. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: لَا ضَمَان فِيمَا رعته نَهَارا. وَقَالَ اللَّيْث وَسَحْنُون: يضمن، وَقد ورد حَدِيث صَحِيح مَرْفُوع فِي إتلافها بِاللَّيْلِ دون النَّهَار فِي الْمزَارِع، وَإنَّهُ يضمن كَمَا قَالَه مَالك، أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ من حَدِيث حرَام بن محيصة عَن الْبَراء، وَمن حَدِيث حرَام عَن أَبِيه: أَن نَاقَة للبراء بن عَازِب دخلت حَائِط رجل فأفسدته فَقضى رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على أهل الْأَمْوَال حفظهَا بِالنَّهَارِ، وعَلى أهل الْمَوَاشِي حفظهَا بِاللَّيْلِ.
الْوَجْه الثَّانِي: مَسْأَلَة الْبِئْر، وَقد ذَكرْنَاهُ.
الْوَجْه الثَّالِث: مَسْأَلَة الرِّكَاز، وَفِيه وجوب الْخمس وَهُوَ إِجْمَاع الْعلمَاء إلاَّ مَا رُوِيَ عَن الْحسن وَقد ذَكرْنَاهُ. وَقد ذكرنَا أَيْضا أَن الرِّكَاز قطع من الذَّهَب تخرج من الْمَعَادِن. وَقَالَ الْكرْمَانِي: هَل فِي الحَدِيث مَا يدل على أَن الْمَعْدن لَيْسَ بركاز؟ قلت: نعم حَيْثُ عطف الرِّكَاز على الْمَعْدن، وَفرق بَينهمَا بواو فاصلة فصح أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَأَن الْخمس فِي الرِّكَاز لَا فِيهِ. قلت: الْكرْمَانِي حفظ شَيْئا وَغَابَتْ عَنهُ أَشْيَاء، وروى الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) من حَدِيث حبَان بن عَليّ عَن عبد الله بن سعيد بن أبي عَن أَبِيه عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الرِّكَاز الذَّهَب الَّذِي ينْبت بِالْأَرْضِ) ، ثمَّ قَالَ: وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف عَن عبد الله بن سعيد عَن أَبِيه عَن جده عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (فِي الرِّكَاز الْخمس، قيل: وَمَا الرِّكَاز يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الذَّهَب الَّذِي خلقه الله تَعَالَى فِي الأَرْض يَوْم خلقت) . انْتهى. وَهَذَا يُنَادي بِأَعْلَى صَوته أَن الرِّكَاز هُوَ الْمَعْدن، وأصرح مِنْهُ مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (الْعِلَل) وَإِن كَانَ تكلم فِيهِ حَدِيث أبي صَالح عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الرِّكَاز الَّذِي ينْبت على وَجه الأَرْض) ، وَذكر حميد بن زَنْجوَيْه النَّسَائِيّ فِي (كتاب الْأَمْوَال) عَن عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه جعل الْمَعْدن ركازا وَأوجب فِيهِ الْخمس، وَمثله عَن الزُّهْرِيّ، وروى الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مَكْحُول أَن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، جعل الْمَعْدن بِمَنْزِلَة الرِّكَاز فِيهِ الْخمس. فَافْهَم.
الْوَجْه الرَّابِع فِي الْمَعْدن، وَهُوَ أَنْوَاع ثَلَاثَة: مَا يذوب بالنَّار وَلَا ينطبع، كالجص والنورة والكحل والزرنيخ والمغرة. وَمَا يُوجد فِي الْجبَال، كالياقوت والزمرد والبلخش والفيروزج، وَنَحْوهَا. وَمَا يكون مَائِعا: كالقار والنفط وَالْملح المائي وَنَحْوهَا، فالوجوب يخْتَص بالنوع الأول دون النَّوْعَيْنِ الْأَخيرينِ عندنَا، وَأوجب أَحْمد فِي الْجَمِيع، وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة خَاصَّة، وَعُمُوم الحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ.
الْوَجْه الْخَامِس أَنه يجب فِي قَلِيله وَكَثِيره، وَلَا يشْتَرط فِيهِ النّصاب عندنَا، وَاشْترط مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد أَن يكون الْمَوْجُود نِصَابا وَلم يشترطوا الْحول. وَقَالُوا: كم من حول قد مضى عَلَيْهِ؟ وَضعف هَذَا الْكَلَام ظَاهر، لِأَن الْأَحْوَال الَّتِي مَضَت عَلَيْهِ فِي غير ملك الْوَاجِد، فَكيف يحْسب عَلَيْهِ؟ وَاخْتَارَ دَاوُد وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر وَأحمد والمزني وَالشَّافِعِيّ والبويطي اشْتِرَاط النّصاب والحول فِي ذَلِك، وَلنَا النُّصُوص خَالِيَة عَن اشْتِرَاط النّصاب، فَلَا يجوز اشْتِرَاطه بِغَيْر دَلِيل سَمْعِي.
الْوَجْه السَّادِس: فِي مَكَانَهُ إِن وجد الْمُسلم أَو الذِّمِّيّ فِي دَاره معدنا فَهُوَ لَهُ وَلَا شَيْء فِيهِ عِنْد أبي حنيفَة وَأحمد إلاَّ إِذا حَال عَلَيْهِ الْحول وَهُوَ نِصَاب فَفِيهِ الزَّكَاة، وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد: يجب الْخمس فِي الْحَال، وَعند مَالك وَالشَّافِعِيّ: الزَّكَاة فِي الْحَال

(9/103)


والحانوت والمنزل كَالدَّارِ، وَالذَّهَب وَالْفِضَّة والعنبر واللؤلؤ يسْتَخْرج من الْبَحْر لَا خمس فِيهَا وَلَا زَكَاة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد، بل جَمِيعهَا للواجد، وَبِه قَالَ مَالك، كَذَا فِي الْجَوَاهِر لِابْنِ شَاس. وَعَن أبي يُوسُف: يجب فِيهَا الْخمس، وَعند الشَّافِعِي وَأحمد: تجب الزَّكَاة، لَكِن عِنْد الشَّافِعِي فِي الذَّهَب وَالْفِضَّة خَاصَّة وَإِن وجده فِي الفلاة وَالْجِبَال والموات فَفِيهِ الْخمس وَبَاقِيه للواجد، وَإِن كَانَ فِي العامر وَكَانَ الإِمَام اختطه للغازي فَفِيهِ الْخمس وَأَرْبَعَة أَخْمَاس لصَاحب الخطة أَو لوَرثَته أَو وَرَثَة ورثته إِن عرفُوا وإلاَّ يُعْطي أقْصَى مَالك الأَرْض أَو ورثته، وَإِن لم يعرفوا، فلبيت المَال. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: للواجد، وَهُوَ اسْتِحْسَان وَإِن لم يكن مَمْلُوكا لأحد كالجبال والمفاوز وَنَحْوهمَا فَأَرْبَعَة أخماسه للواجد اتِّفَاقًا.
الْوَجْه السَّابِع فِي الْوَاجِد، وَيَسْتَوِي عندنَا مُسلما كَانَ أَو ذِمِّيا أَو مستأمنا أَو امْرَأَة أَو مكَاتبا أَو عبدا إلاَّ الْحَرْبِيّ: قَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع كل من أحفظ عَنهُ على وجوب الْخمس فِيمَا وجده ذمِّي، مِنْهُم الشَّافِعِي ورده أَصْحَابه، وَالْكَافِر لَا تُؤْخَذ مِنْهُ الزَّكَاة، نصوا على هَذَا فِي كتبهمْ.
الْوَجْه الثَّامِن: فِي مصرفه، ومصرفه مصرف خمس الْغَنِيمَة والفيء عندنَا، وَبِه قَالَ مَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، والمزني وَأَبُو حَفْص بن الْوَكِيل من الشَّافِعِيَّة، وَعَن مُحَمَّد: يصرف مِنْهُ إِلَى حَملَة الْقُرْآن ودواء المرضى وكتبة الْأُمَرَاء ودواب الْبرد، وَعند الشَّافِعِي: يصرف فِي مصارف الزَّكَاة وَإِن تصدق بِنَفسِهِ أَمْضَاهُ الإِمَام لِأَنَّهُ لم يدْخل فِي جبايته، وَبِه قَالَ أَحْمد وَابْن الْمُنْذر، وَقَالَ أَبُو ثَوْر: بضمنة الإِمَام لَو فعل، وللمحتاج أَن يصرفهُ إِلَى نَفسه. وَقَالَ فِي (التُّحْفَة) : إِذا لم يغنه أَرْبَعَة الْأَخْمَاس، ورده عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، على واجده، رَوَاهُ أَحْمد وَابْن الْمُنْذر، وَاخْتَارَهُ القَاضِي وَابْن عقيل من الْحَنَابِلَة، وَلم يجوزه الشَّافِعِي لكَونه زَكَاة على أَصله، وَيجوز صرفه إِلَى من شَاءَ من أَوْلَاده وآبائه المحتاجين، بِخِلَاف الزَّكَاة وَالْعشر وَصدقَة الْفطر وَالْكَفَّارَات وَالنُّذُور، ذكرهَا الاسبيجابي، رَحمَه الله، وَفِي (الْمَبْسُوط) : وَلَا يسْقط عَن الرِّكَاز والمعدن وَإِن كَانَ الْوَاحِد مدنيا أَو فَقِيرا لأطلاق النَّص، وَلَا فرق بَين أَرض العنوة وَأَرْض الصُّلْح وَأَرْض الْعَرَب. وَهُوَ قَول الشَّافِعِي وَأحمد. وَقَالَ مَالك: الرِّكَاز فِي أَرض الْعَرَب للواجد بعد الْخمس، وَفِي أَرض الصُّلْح لأهل تِلْكَ الْبِلَاد، وَلَا شَيْء فِيهِ للواجد، وَمَا يُوجد فِي أَرض العنوة لمن افتتحها بعد الْخمس، وَأما مَا يُوجد من الْجَوْهَر وَالْحَدِيد والرصاص وَنَحْوه فَإِنَّهُ كَانَ يَقُول: فِيهِ الْخمس، ثمَّ رَجَعَ عَنهُ فَقَالَ: لَا شَيْء فِيهِ.

76 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {والعَامِلينَ عَلَيْهَا} (التَّوْبَة: 06) . ومُحَاسَبَةِ المُصَّدِّقِينَ مَعَ الإِمَامِ)

أَي: هَذَا بَاب قَول الله تَعَالَى: {والعاملين عَلَيْهَا} (التَّوْبَة: 06) . أَي: على الصَّدقَات، وَهَذَا مَذْكُور فِي آيَة الصَّدقَات. ذكره لِأَنَّهُ روى فِي هَذَا الْبَاب حَدِيث أبي حميد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَفِيه: محاسبة الإِمَام مَعَ الْمُصدق، وَأَشَارَ إِلَيْهِ بقوله، ومحاسبة المصدقين، بِلَفْظ الْفَاعِل جمع مُصدق بِالتَّشْدِيدِ، وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذ الصَّدقَات، وَهُوَ السَّاعِي الَّذِي يعيّنه الإِمَام بقبضها.

0051 - حدَّثنا يُوسُفُ بنُ مُوسى اقال حدَّثنا أبُو أُسَامَةَ قَالَ أخبرنَا هِشَامُ بنُ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ عنْ أبِي حُمَيْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ اسْتَعْمَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَجُلاً مِنَ الأَسْدِ عَلَى صَدَقَاتِ بَنِي سُلَيْمٍ يُدْعى ابنَ اللُتْبِيَّةَ فلَمَّا جَاءَ حاسَبَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لِأَن ابْن اللتبية كَانَ عَاملا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما جَاءَ من عمله أَخذ عَنهُ الْحساب وَأَبُو أُسَامَة اسْمه حَمَّاد بن أُسَامَة، وَأَبُو حميد بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة، قيل: اسْمه عبد الرَّحْمَن، وَقيل: الْمُنْذر، وَقيل: إِنَّه عَم سهل بن سعد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرج البُخَارِيّ طرفا مِنْهُ فِي كتاب الْجُمُعَة فِي: بَاب من قَالَ فِي الْخطْبَة بعد التَّشَهُّد أما بعد. حَدثنَا أَبُو الْيَمَان، قَالَ: أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ، قَالَ: أَخْبرنِي عُرْوَة (عَن أبي حميد السَّاعِدِيّ أخبرهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَامَ عَشِيَّة بعد الصَّلَاة فَتشهد وأثني على الله بِمَا هُوَ أَهله ثمَّ قَالَ: أما بعد. .) . وَأخرجه فِي الْهِبَة عَن عبد الله بن مُحَمَّد، وَفِي الْأَحْكَام عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِي النذور عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، وَفِي الْجُمُعَة كَذَلِك، وَفِي ترك الْحِيَل عَن عبيد الله بن إِسْمَاعِيل وَفِي الْأَحْكَام عَن مُحَمَّد بن عَبدة. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَغَازِي عَن أبي بكر بن أبي شيبَة وَعَمْرو بن مُحَمَّد النَّاقِد وَابْن أبي عمر وَعَن

(9/104)


إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَعبد بن حميد وَعَن ابْن أبي شيبَة عَن عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان وَعَن أبي كريب وَعَبدَة بن سُلَيْمَان وَعبد الله ابْن نمير وَأبي مُعَاوِيَة وَعَن ابْن أبي عَمْرو عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْخراج عَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح وَمُحَمّد ابْن أَحْمد كِلَاهُمَا عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن الزُّهْرِيّ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من الْأسد) بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة، قَالَ التَّيْمِيّ: الاسد والأزد يتعاقبان. قَالَ الرشاطي: الْأَسدي بِسُكُون السِّين فِي كهلان هُوَ الْأسد بن الْغَوْث بن نبت بن ملكان بن زيد بن كهلان، وَقَالَ أَيْضا: الْأَزْدِيّ فِي كهلان ينْسب إِلَى الأزد بن الْغَوْث. ثمَّ قَالَ: يُقَال لَهُ الأزد، بالزاي، والاسد بِالسِّين. قَوْله: (يدعى ابْن اللتيبة) ، بِضَم اللَّام وَسُكُون التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق بعْدهَا الْبَاء الْمُوَحدَة: واسْمه عبد الله وَكَانَ من بني لتب، حَيّ من الأزد. وَقَالَ ابْن دُرَيْد: قيل: إِن اللتيبة كَانَت أمه فَعرف بهَا، وَقيل: اللتيبة، بِفَتْح اللَّام. وَفِي (التَّوْضِيح) : وَيُقَال لَهُ: ابْن الأتيبة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: اتّفق الْعلمَاء على أَن الْعلمَاء على الصَّدقَات هم السعاة المتولون فِي قبض الصَّدقَات، وَأَنَّهُمْ لَا يسْتَحقُّونَ على قبضهَا جزأ مِنْهَا مَعْلُوما: سبعا أَو ثمنا، وَإِنَّمَا لَهُ أجر عمله على حسب احتهاد الإِمَام. وَفِيه: من الْفِقْه جَوَاز محاسبة المؤتمن، وَأَن المحاسبة تصحح أَمَانَته، وَهُوَ أصل فعل عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِي محاسبة الْعمَّال، وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لما رأى مَا قَالُوهُ من كَثْرَة الأرباح، وَعلم أَن ذَلِك من أجل سلطانهم، وسلطانهم إِنَّمَا كَانَ بِالْمُسْلِمين، فَرَأى مقاسمة أَمْوَالهم واقتدى بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَفلا جلس فِي بَيت أَبِيه وَأمه فَيرى أيهدى لَهُ شَيْء أم لَا؟) . وَمَعْنَاهُ: لَوْلَا الْإِمَارَة لم يهدَ لَهُ شَيْء، وَهَذَا اجْتِهَاد من عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَإِنَّمَا أَخذ مِنْهُم مَا أَخذ لبيت مَال الْمُسلمين لَا لنَفسِهِ. وَفِيه: أَيْضا: أَن الْعَالم إِذا رأى متأولاً أَخطَأ فِي تَأْوِيله يعم النَّاس ضَرَره أَن يعلم النَّاس كَافَّة بِموضع خطئه، ويعرفهم بِالْحجَّةِ القاطعة لتأويله كَمَا فعل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِابْن اللتيبة فِي خطبَته للنَّاس. وَفِيه: توبيخ المخطىء وَتَقْدِيم الأدنون إِلَى الْإِمَارَة وَالْأَمَانَة وَالْعَمَل، وَثمّ من هُوَ أَعلَى مِنْهُ وأفقه، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم ابْن اللتيبة وثمة من صحابته من هُوَ أفضل مِنْهُ. قَالَ ابْن بطال: وَفِيه: أَن لمن شغل بِشَيْء من أَعمال الْمُسلمين أَخذ الرزق على عمله.

86 - (بابُ اسْتِعْمَالِ إبِلِ الصَّدَقَةِ وَألْبَانِهَا لأِبْنَاءِ السَّبِيلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان اسْتِعْمَال إبل الصَّدَقَة وَاسْتِعْمَال أَلْبَانهَا، وَالْمرَاد من اسْتِعْمَال أَلْبَانهَا شربهَا، وكلا الاستعمالين لأبناء السَّبِيل. قَالَ ابْن بطال: غَرَض البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب إِثْبَات وضع الصَّدَقَة فِي صنف وَاحِد من الْأَصْنَاف الثَّمَانِية خلافًا للشَّافِعِيّ الَّذِي لَا يجوز الْقِسْمَة إلاَّ على الثَّمَانِية، وَالْحجّة قَاطِعَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أفرد أَبنَاء السَّبِيل بِالِانْتِفَاعِ بِإِبِل الصَّدَقَة وَأَلْبَانهَا دون غَيرهم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: لَيْسَ حجَّة قَاطِعَة وَلَا غير قَاطِعَة إِذْ الصَّدَقَة لم تكن منحصرة عَلَيْهَا بِالِانْتِفَاعِ، إِذْ الرَّقَبَة تكون لغَيرهم، وَلَا الِانْتِفَاع بِتِلْكَ الْمدَّة وَنَحْوهَا. قلت: لَا وَجه لدفع كَلَام ابْن بطال لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما أفرد هَؤُلَاءِ العرنيين بِالِانْتِفَاعِ بِإِبِل الصَّدَقَة وَشرب أَلْبَانهَا فقد أفرد صنفا وَاحِدًا من الثَّمَانِية. فَدلَّ على جَوَاز الِاقْتِصَار على صنف وَاحِد. وَقَالَ بَعضهم عقيب كَلَام ابْن بطال: وَفِيمَا قَالَه نظر لاحْتِمَال أَن يكون مَا أَبَاحَ لَهُم من الِانْتِفَاع إلاَّ بِمَا هُوَ قدر حصتهم. قلت: سُبْحَانَ الله، هَذَا نظر عَجِيب، هَل كَانَت هَهُنَا قسْمَة بَين هَؤُلَاءِ وَغَيرهم من الْأَصْنَاف الثَّمَانِية حَتَّى أَبَاحَ لَهُم مَا يخصهم؟

1051 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا يَحْيى عنْ شُعْبَةَ قَالَ حدَّثنا قَتَادَةُ عنْ أنَسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ أنَّ نَاسا مِنْ عُرَيْنَةَ اجْتَوَوْا المَدِينَةَ فرَخَّصَ لَهُمْ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يأتُوا إبِلَ الصَّدَقَةِ فيَشْرَبُوا مِنْ ألْبَانِهَ وَأبْوَالِهَا فقَتَلُوا الرَّاعِي وَاسْتَاقُوا الذَّوْدَ فأرْسَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأُتِيَ بِهِمْ فقَطَّعَ أيْدِيَهُمْ وِأرّجُلَهُمْ وسَمَرَ أعْيُنَهُمْ وتَرَكَهُمْ بِالحَرَّةِ يَعَضُّونَ الحِجَارَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رخص لَهُم من شرب ألبان إبل الصَّدَقَة وَأَبْوَالهَا، والْحَدِيث قد مضى فِي كتاب الطَّهَارَة فِي: بَاب أَبْوَال الْإِبِل وَالدَّوَاب فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن سُلَيْمَان بن حَرْب عَن حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن

(9/105)


أبي قلَابَة (عَن أنس قَالَ: قدم أنَاس من عكل أَو عرينة) الحَدِيث، وَهَهُنَا أخرجه عَن مُسَدّد عَن يحيى الْقطَّان إِلَى آخِره، وَقد مضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (اجتووا) بِالْجِيم من بَاب الافتعال، يُقَال: اجتويت الْبَلَد إِذا كرهت الْمقَام فِيهِ. قَوْله: (الذود) بِفَتْح الذَّال الْمُعْجَمَة وَهُوَ الْإِبِل. قَوْله: (بِالْحرَّةِ) ، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَتَشْديد الرَّاء: أَرض ذَات حِجَارَة سود كَأَنَّهَا احترقت بالنَّار. قَوْله: (يعضون) ، بِفَتْح الْعين من بَاب فعل يفعل بِكَسْر الْعين فِي الْمَاضِي، وَفتحهَا فِي المغابر. وَقيل: هُوَ من بَاب نصر ينصر، ولغة الْقُرْآن مثل الأول: {وَيَوْم بعض الظَّالِم على يَدَيْهِ} (الْفرْقَان: الْآيَة: 72) .
تابَعَهُ أبُو قِلاَبَةَ وَحُمَيْدٌ وثَابِتٌ عنْ أنَسٍ

أَي: تَابع أَبُو قلَابَة، بِكَسْر الْقَاف: عبد الله بن زيد الحرمي، وَحميد الطَّوِيل، وثابت، بالثاء الْمُثَلَّثَة: الْبنانِيّ قَتَادَة فِي رواياتهم عَن أنس. أما مُتَابعَة أبي قلَابَة فقد مرت فِي كتاب الطَّهَارَة، وَأما مُتَابعَة حميد فوصلها مُسلم وَالنَّسَائِيّ وَابْن خُزَيْمَة، وَأما مُتَابعَة ثَابت فوصلها البُخَارِيّ فِي كتاب الطِّبّ.

96 - (بابُ وَسْمِ الإمَامُ إبِلَ الصَّدَقَةِ بِيَدِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر وسم الإِمَام، وَهُوَ الإِمَام الْأَعْظَم، والوسم بِفَتْح الْوَاو وَهُوَ: التَّأْثِير بعلامة نَحْو: كَيَّة وَقطع الْأذن، وَأَصله من السمة وَهِي الْعَلامَة، كَذَا قَالَه الْكرْمَانِي. قلت: كَيفَ يكون الوسم من السمة وَكِلَاهُمَا مصدر؟ يُقَال: وسم يسم وسما وسمة. أَصله وسمة. فَلَمَّا حذفت الْوَاو مِنْهُ اتبَاعا لفعله، لِأَن أصل يسم يوسم حذفت الْوَاو لوقوعها بَين الْيَاء والكسرة فحذفت فِي سمة أَيْضا وعوضت عَنْهَا التَّاء، كَمَا فعل هَكَذَا فِي بَاب: وعد يعد عدَّة؟ قَوْله: (وَقطع الْأذن) فِيهِ نظر، لِأَن قطع الْأذن من الْمثلَة وَلَا يُسمى وسما، يُقَال: وسمه، إِذا أثر فِيهِ بكي.

2051 - حدَّثنا إبْراهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا الوَلِيدُ قَالَ حدَّثنا أبُو عَمْرٍ والأوْزَاعِيُّ قَالَ حدَّثني إسْحَاقُ بنُ عَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَةَ قَالَ حدَّثني أنَسُ بنُ مَالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ غَدَوْتُ إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَبْدِ الله بنِ أبي طَلْحَة لِيُحنكِّهُ فَوَافَيْتُهُ فِي يَدِهِ المِيسَمُ يَسِمُ إبِلَ الصَّدَقَةِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون النُّون وَكسر الذَّال الْمُعْجَمَة: من الْإِنْذَار ضد الإبشار، وكنيته أَبُو إِسْحَاق الْحزَامِي، بالزاي: الْقرشِي الْأَسدي. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم، أَبُو الْعَبَّاس الْأمَوِي الْقرشِي مَوْلَاهُم. مَاتَ سنة خمس وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: أَبُو عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ، واسْمه عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو. الرَّابِع: إِسْحَاق بن عبد الله بن أبي طَلْحَة، واسْمه: زيد بن سهل الْأنْصَارِيّ ابْن أخي أنس بن مَالك، يكنى أَبَا يحيى. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع وبصيغة الْإِفْرَاد فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده، وَأَنه ذكر مَنْسُوبا إِلَى جده، وَاسم أَبِيه: عبد الله بن الْمُنْذر، وَأَنه وَإِسْحَاق مدنيان وَأَن الْوَلِيد وَالْأَوْزَاعِيّ دمشقيان. وَفِيه: أحد الروَاة مَذْكُور بكنيته ونسبته وَهُوَ الْأَوْزَاعِيّ. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن عَمه وَهُوَ إِسْحَاق.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم أَيْضا فِي اللبَاس عَن هَارُون بن مَعْرُوف وَفِي بعض النّسخ: عَن هُرْمُز بن مَعْرُوف.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (غَدَوْت) من الغدو، وَهُوَ الرواح من أول النَّهَار. قَوْله: (ليحنكه) ، من التحنيك، وَهُوَ أَن يمضغ التمرة ويجعلها فِي فَم الصَّبِي وَيحك بهَا فِي حنكه بسبابته حَتَّى يتَحَلَّل فِي حنكه، والحنك أَعلَى دَاخل الْفَم. قَوْله: (فوافيته) ، من الموافاة: وَهُوَ الْإِتْيَان. يُقَال: وافيته إِذا أَتَيْته. قَوْله: (الميسم) بِكَسْر الْمِيم وَفتح السِّين الْمُهْملَة، وَهُوَ المكوى، وَهُوَ الْآلَة الَّتِي يكوى بهَا وَقيل بالشين الْمُعْجَمَة والمهملة، وَقيل بَينهمَا فرق، فبالمهملة يكون الكي فِي الْوَجْه، وبالمعجمة فِي سَائِر الْجَسَد.

(9/106)


وَفِي (الْجَامِع) : الميسم: الحديدة الَّتِي يوسم بهَا، وَالْجمع: مواسم، وأصل ميسم: موسم، قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، وَهَذِه قَاعِدَة مطردَة، وَلم يبين فِي هَذِه الرِّوَايَة الْموضع الَّذِي كَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يسم فِيهِ إبل الصَّدَقَة، وبيَّن ذَلِك فِي رِوَايَة أُخْرَى فَإِذا هُوَ فِي مربد الْغنم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة الكي فِي الْحَيَوَان. وَقَالَ قوم من الشَّافِعِيَّة: الكي مُسْتَحبّ فِي نعم الزَّكَاة والجزية وَجَائِز فِي غَيرهَا، وَالْمُسْتَحب أَن يسم الْغنم فِي آذانها وَالْإِبِل وَالْبَقر فِي أصُول أفخاذها، وَفِي رِوَايَة لِأَحْمَد وَابْن مَاجَه: يسم الْغنم فِي آذانها، ووسم الْآدَمِيّ حرَام، وَغير الْآدَمِيّ فِي الْوَجْه مَنْهِيّ عَنهُ، وَفَائِدَته تَمْيِيز الْحَيَوَان بعضه من بعض، وليرده من أَخذه وَمن التقطه يعرّفه، وَإِذا تصدق بِهِ لَا يعود إِلَيْهِ، وَيسْتَحب أَن يكْتب فِي مَاشِيَة الزَّكَاة: زَكَاة أَو صَدَقَة، وَنقل ابْن الصّباغ وَغَيره إِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك، وَقَالَ بَعضهم: وَفِي حَدِيث الْبَاب حجَّة على من كره الوسم من الْحَنَفِيَّة بالميسم لدُخُوله فِي عُمُوم النَّهْي عَن الْمثلَة، وَقد ثَبت ذَلِك من فعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَدلَّ على أَنه مَخْصُوص من الْعُمُوم الْمَذْكُور للْحَاجة، كالختان فِي الْآدَمِيّ. قلت: ذكر أَصْحَابنَا فِي كتبهمْ: لَا بَأْس بكي الْبَهَائِم للعلامة، لِأَن فِيهِ مَنْفَعَة، وَكَذَا لَا بَأْس بكي الصّبيان إِذا كَانَ لداء أَصَابَهُم، لِأَن ذَاك مداواة. وَقَالَ الْمُهلب وَغَيره فِي هَذَا الحَدِيث: إِن للْإِمَام أَن يتَّخذ مبسما وَلَيْسَ للنَّاس أَن يتخذوا نَظِيره. وَهُوَ كالخاتم. وَفِيه: اعتناء الإِمَام بأموال الصَّدَقَة وتوليها بِنَفسِهِ. وَفِيه: جَوَاز إيلام الْحَيَوَان للْحَاجة. وَفِيه: قصد أهل الْفضل وَالصَّلَاح لتحنيك الْمَوْلُود لأجل الْبركَة. وَفِيه: مُبَاشرَة أَعمال المهنة وَترك الاستطابة فِيهَا للرغبة فِي زِيَادَة الْأجر وَنفي الْكبر.
بِسْمِ الله الرحمان الرَّحِيم

(أبْوَابُ صَدَقَةِ الفِطْرِ)
أَي: هَذِه أَبْوَاب صَدَقَة الْفطر، وَفِي بعض النّسخ: صَدَقَة الْفطر، بِدُونِ قَوْله: أَبْوَاب، وَالتَّقْدِير فِيهِ أَيْضا: أَبْوَاب صَدَقَة الْفطر، أَو: بَاب صَدَقَة الْفطر، وَإِضَافَة الصَّدَقَة إِلَى الْفطر من إِضَافَة الشَّيْء إِلَى شَرطه، كحجة الْإِسْلَام. وَقيل: أضيفت الصَّدَقَة إِلَى الْفطر لكَونهَا تجب بِالْفطرِ من رَمَضَان، وَقَالَ ابْن قُتَيْبَة: المُرَاد بِصَدقَة الْفطر صَدَقَة النُّفُوس، مَأْخُوذ من الْفطْرَة الَّتِي هِيَ أصل الْخلقَة، وَالْأول أظهر، وَيُؤَيِّدهُ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي بعض طرق الحَدِيث: (زَكَاة الْفطر من رَمَضَان) ثمَّ أعلم أَن هَذَا الْبَاب يحْتَاج إِلَى خَمْسَة عشرَة معرفَة.
الأولى: معرفَة صَدَقَة الْفطر لُغَة وَشرعا. فَقَالَ النَّوَوِيّ: هِيَ لَفْظَة مولدة لَا عَرَبِيَّة وَلَا معربة بل هِيَ اصطلاحية للفقهاء. كَأَنَّهَا من الْفطْرَة الَّتِي هِيَ النُّفُوس والخلقة. أَي: زَكَاة الْخلقَة، ذكرهَا صَاحب (الْحَاوِي) وَالْمُنْذِرِي. قلت: وَلَو قيل: لَفْظَة إسلامية كَانَ ولى لِأَنَّهَا مَا عرفت إلاَّ فِي الْإِسْلَام، وَيُؤَيّد هَذَا مَا ذكره ابْن الْعَرَبِيّ: هُوَ اسْمهَا على لِسَان صَاحب الشَّرْع، وَيُقَال لَهَا: صَدَقَة الْفطر وَزَكَاة الْفطر وَزَكَاة رَمَضَان وَزَكَاة الصَّوْم، وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، صَدَقَة الصَّوْم، وَفِي حَدِيث أبي هُرَيْرَة: (صَدَقَة رَمَضَان) ، وَتسَمى أَيْضا صَدَقَة الرؤوس وَزَكَاة الْأَبدَان سَمَّاهَا الإِمَام مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، أما شرعا فَإِنَّهَا اسْم لما يعْطى من المَال بطرِيق الصِّلَة ترحما مُقَدرا، بِخِلَاف الْهِبَة فَإِنَّهَا تُعْطى صلَة تكرما لَا ترحما، ذكره فِي (الْمُحِيط) . الثَّانِيَة: معرفَة وُجُوبهَا، فبأحاديث الْبَاب على مَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّالِثَة: معرفَة سَبَب وُجُوبهَا، فَهُوَ رَأس يمونه مؤونة تَامَّة ويلي عَلَيْهِ ولَايَة تَامَّة لما فِي الحَدِيث: (عَمَّن تمونون) . الرَّابِعَة: معرفَة شَرط وُجُوبهَا، فالإسلام وَالْحريَّة والغنى على مَا يَأْتِي بِالْخِلَافِ فِيهِ. الْخَامِسَة: معرفَة ركنها، فالتمليك. السَّادِس: معرفَة شَرط جَوَازهَا بِكَوْن الْمصرف إِلَيْهِ فَقِيرا. السَّابِعَة: معرفَة من تجب عَلَيْهِ، فَتجب على الْأَب عَن أَوْلَاده الصغار الْفُقَرَاء، وعَلى السَّيِّد عَن عَبده ومدبره ومدبرته وَأم وَلَده. الثَّامِنَة: معرفَة الَّذِي تجب من أَجله، فأولاده الصغار ومماليكه للْخدمَة دون مكَاتبه وَزَوجته. التَّاسِعَة: معرفَة مِقْدَار الْوَاجِب فِيهَا، فَنصف صَاع من بر أَو صَاع من شعير أَو تمر، على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الْعَاشِرَة: معرفَة الْكَيْل الَّذِي تجب بِهِ، فَهُوَ الصَّاع، وَسَنذكر الِاخْتِلَاف فِيهِ. الْحَادِيَة عشرَة: معرفَة وَقت وُجُوبهَا، فوقته طُلُوع الْفجْر الثَّانِي من يَوْم الْفطر، وَفِيه

(9/107)


الْخلاف على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. الثَّانِيَة عشر: معرفَة كَيْفيَّة وُجُوبهَا، فَتجب وجوبا موسعا على الْأَصَح. الثَّالِثَة عشر: معرفَة وَقت اسْتِحْبَاب أَدَائِهَا، فقد اتّفقت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة فِي اسْتِحْبَاب أَدَائِهَا بعد فجر يَوْم الْفطر، قبل الذّهاب إِلَى صَلَاة الْعِيد. الرَّابِعَة عشر: معرفَة جَوَاز تَقْدِيمهَا على يَوْم الْفطر، فَعِنْدَ أبي حنيفَة: يجوز تَقْدِيمهَا لسنة وسنتين، وَعَن خلف ابْن أَيُّوب: يجوز لشهر، وَقيل: بِيَوْم أَو يَوْمَيْنِ. الْخَامِسَة عشر: معرفَة وَقت أَدَائِهَا، فَيوم الْفطر من أَوله إِلَى آخِره وَبعده، يجب الْقَضَاء عِنْد بعض أَصْحَابنَا، وَالأَصَح أَن يكون أَدَاء.

07 - (بابُ فَرْض صَدَقَةِ الْفِطْرِ)

أَي: هَذَا بَاب بَيَان فرض صَدَقَة الْفطر، وَفِي بعض النّسخ: هَذَا الْمِقْدَار مَوْجُود وَمَا قبله غير مَوْجُود إلاَّ فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي.
ورَأى أبُو العَالِيَةِ وعَطَاءٌ وابنُ سيرِينَ صَدَقَةَ الفِطْرِ فَرِيضَةً

أَبُو الْعَالِيَة من الْعُلُوّ على وزن: فاعلة اسْمه رفيع بن مهْرَان الريَاحي، بِالْيَاءِ آخر الْحُرُوف، وَعَطَاء بن أبي رَبَاح، وَابْن سِيرِين هُوَ مُحَمَّد بن سِيرِين. قَوْله: وَرَأى، ويروى: وَرُوِيَ عَن أبي الْعَالِيَة، فتعليق أبي الْعَالِيَة وَابْن سِيرِين رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) عَن وَكِيع عَن عَاصِم عَن أبي الْعَالِيَة وَابْن سِيرِين أَنَّهُمَا قَالَا: صَدَقَة الْفطر فَرِيضَة، وَتَعْلِيق عَطاء وَصله عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء.
ثمَّ اعْلَم أَن الْعلمَاء اخْتلفُوا فِي صَدَقَة الْفطر: هَل هِيَ فرض أَو وَاجِبَة أَو سنة أَو فعل خير مَنْدُوب إِلَيْهِ، فَقَالَت طَائِفَة: هِيَ فرض وهم الثَّلَاثَة المذكورون هُنَا: الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد، وَقَالَ أَصْحَابنَا: هِيَ وَاجِبَة، وَقَالَت طَائِفَة: هِيَ سنة، وَهُوَ قَول مَالك فِي رِوَايَة ذكرهَا صَاحب الذَّخِيرَة، وَقَالَ بَعضهم: هِيَ فعل خير قد كَانَت وَاجِبَة ثمَّ نسخت، وَاسْتَدَلُّوا على هَذَا بِحَدِيث قيس بن سعد بن عبَادَة: (قَالَ: أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَدقَة الْفطر قبل أَن تنزل الزَّكَاة، فَلَمَّا نزلت لم يَأْمُرنَا وَلم ينهنا وَنحن نفعله) . رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَابْن مَاجَه وَالْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من رِوَايَة أبي عمار الْهَمدَانِي عَن قيس، وَاسم أبي عمار عريب بن حميد، كُوفِي ثِقَة. قَالَه أَحْمد وَابْن معِين، وَبِحَدِيث قيس بن سعد أَيْضا من وَجه آخر أخرجه الْحَاكِم من حَدِيث الْقَاسِم بن مخيمرة عَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل (عَن قيس بن سعد بن عبَادَة، قَالَ: كُنَّا نَصُوم عَاشُورَاء ونؤدي صَدَقَة الْفطر، فَلَمَّا نزلت رَمَضَان وَنزلت الزَّكَاة لم نؤمر بِهِ وَلم ننه عَنهُ، وَنحن نفعله) . وَقَالَ: صَحِيح على شَرط الشَّيْخَيْنِ وَلم يخرجَاهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِن هَذَا لَا يدل على سُقُوط فرضيتها، لِأَن نزُول فرض لَا يُوجب سُقُوط آخر، وَقد أجمع أهل الْعلم على وجوب زَكَاة الْفطر، وَإِن اخْتلفُوا فِي تَسْمِيَتهَا فرضا فَلَا يجوز تَركهَا، وَقد نقل ابْن الْمُنْذر الْإِجْمَاع على فَرضِيَّة صَدَقَة الْفطر. قلت: فِيهِ نظر لما ذكرنَا من الِاخْتِلَاف فِيهَا.

3051 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ مُحَمَّدِ بنِ السَّكَنِ قَالَ حدَّثنا محَمَّدُ بنُ جَهْضَمٍ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ عُمَرَ بنِ نَافِعٍ عنْ أبِيهِ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ فَرَضَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكاةَ الفِطْرِ صَاعا مِنْ تَمْرٍ أوْ صَاعا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى العَبْدِ وَالحُرِّ وَالذَّكَرِ وَالأُنْثَى وَالصَّغِيرِ وَالكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ وَأمَرَ بِهَا أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الصَّلاَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) .
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: يحيى بن مُحَمَّد بن السكن، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْكَاف وَفِي آخِره نون: ابْن حبيب أَبُو عبيد الله الْبَزَّار، بالزاي ثمَّ بالراء: الْقرشِي. الثَّانِي: مُحَمَّد بن جَهْضَم، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْهَاء وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن عبد الله أَبُو جَعْفَر الثَّقَفِيّ. الثَّالِث: إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر بن كثير أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: عمر بن نَافِع، مولى عبد الله بن عمر. الْخَامِس: أَبوهُ نَافِع. السَّادِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب.

(9/108)


ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه مُحَمَّد بن جَهْضَم بصريان وَمُحَمّد هَذَا يمامي ثمَّ خراساني، ثمَّ سكن الْبَصْرَة فعد من أَهلهَا، وَعمر وَأَبوهُ مدنيان، وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: أَن عمر لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ سوى هَذَا الحَدِيث وَآخر فِي النَّهْي عَن الْفَزع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور باسم أَبِيه وَاسم جده.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ عَن يحيى بن مُحَمَّد شيخ البُخَارِيّ. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا حَمَّاد بن زيد عَن أَيُّوب عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: قَالَ: فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صَدَقَة الْفطر على الذّكر وَالْأُنْثَى وَالْحر والمملوك صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير. قَالَ: فَعدل النَّاس إِلَى نصف صَاع من بر) ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن صَحِيح. وَقَالَ أَيْضا: حَدثنَا إِسْحَاق بن مُوسَى الْأنْصَارِيّ حَدثنَا معن عَن مَالك عَن نَافِع (عَن عبد الله ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض زَكَاة الْفطر من رَمَضَان صَاعا من تمر أَو صاعآ من شعير على كل حر أَو عبد، ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين) وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فرض رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) قَالَ أَبُو عمر: قَوْله: (فرض) ، يحْتَمل وَجْهَيْن أَحدهمَا وَهُوَ الْأَظْهر: فرض بِمَعْنى أوجب، وَالْآخر: فرض بِمَعْنى قدر. كَمَا تَقول: فرض القَاضِي نَفَقَة الْيَتِيم أَي: قدرهَا، وَالَّذِي أذهب إِلَيْهِ أَن لَا يزَال قَوْله: (فرض) عَن معنى الْإِيجَاب إلاَّ بِدَلِيل الْإِجْمَاع، وَذَلِكَ مَعْدُوم، فَإِن القَوْل بِأَنَّهَا غير وَاجِبَة شذوذ أَو فِي معنى الشذوذ. وَقَالَ أَصْحَابنَا: بِأَنَّهَا وَاجِبَة على حَقِيقَتهَا الاصطلاحية، وَهِي أَن تكون بَين الْفَرْض وَالسّنة. وَقَالَ الشَّافِعِي: فرض بِنَاء على أَصله أَنه لَا فرق بَين الْوَاجِب وَالْفَرِيضَة. وَقَالَ تَاج الشَّرِيعَة من أَصْحَابنَا: هِيَ وَاجِبَة حَتَّى لَا يكفر جاحدها، وَهُوَ الْفرق بَين الْفَرِيضَة وَالْوَاجِب. وَقَالَ ابْن دَقِيق الْعِيد: أصل معنى الْفَرْض فِي اللُّغَة التَّقْدِير، وَلَكِن نقل فِي عرف الشَّرْع إِلَى الْوُجُوب، فالحمل عَلَيْهِ أولى، يَعْنِي: من الْحمل على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ، وَقد ذكرنَا أَن بَعضهم ذَهَبُوا إِلَى أَنه سنة لأَنهم قَالُوا: معنى فرض فِي الْأَحَادِيث الَّتِي وَردت قدر، وَحَمَلُوهُ على مَعْنَاهُ الْأَصْلِيّ. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْمَفْهُوم من لفظ: فرض، بِحَسب عرف الشَّرْع: الْوُجُوب، وَلَا يجوز للراوي أَن يعبر بِالْفَرْضِ عَن الْمَنْدُوب مَعَ علمه بِالْفرقِ بَينهمَا. قلت: يرد عَلَيْهِم أَنهم لم يفرقُوا بَين الْفَرْض وَالْوَاجِب مَعَ علمهمْ بِالْفرقِ بَينهمَا بِحَسب اللُّغَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: وَهُوَ على وُجُوه:
الأول: أَن صَدَقَة الْفطر من التَّمْر وَالشعِير صَاع، وَمذهب دَاوُد وَمن تبعه أَنه: لَا يجوز إلاَّ من التَّمْر وَالشعِير، وَلَا يجزىء عِنْده قَمح وَلَا دقيقه وَلَا دَقِيق شعير وَلَا سويق وَلَا خبز وَلَا زبيب وَلَا غير ذَلِك، وَاحْتج فِي ذَلِك بِهَذَا الحَدِيث، قَالَ: لِأَنَّهُ ذكر فِيهِ ابْن عمر التَّمْر وَالشعِير وَلم يذكر غَيرهمَا. وَقَالَ أَبُو عمر: أجمع الْعلمَاء على أَن الشّعير وَالتَّمْر لَا يجزىء من أَحدهمَا إلاَّ صَاع كَامِل أَرْبَعَة أَمْدَاد.
الثَّانِي: قَوْله: (على العَبْد) تعلق بِهِ دَاوُد فِي وُجُوبهَا على العَبْد وَأَن السَّيِّد يجب عَلَيْهِ أَن يُمكنهُ من كسبها كَمَا يُمكنهُ من صَلَاة الْفَرْض، وَمذهب الْجَمَاعَة وُجُوبهَا على السَّيِّد حَتَّى لَو كَانَ للتِّجَارَة، وَهُوَ مَذْهَب مَالك وَاللَّيْث وَالْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَابْن الْمُنْذر. وَقَالَ عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَالثَّوْري والحنفيون: إِذا كَانَ للتِّجَارَة لَا تلْزمهُ فطرته، وَأما الْمكَاتب فالجمهور أَنَّهَا لَا تجب عَلَيْهِ، وَعَن مَالك قَولَانِ: يُخرجهَا عَن نَفسه، وَقيل: سَيّده، وَلَا تجب على السَّيِّد عِنْد أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد، وَقَالَ مَيْمُون بن مهْرَان وَعَطَاء وَأَبُو ثَوْر: يُؤَدِّي عَنهُ سَيّده، وَاسْتدلَّ لمن قَالَ: لَا تجب على السَّيِّد بِمَا رَوَاهُ الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن طهْمَان عَن مُوسَى بن عقبَة عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُؤَدِّي زَكَاة الْفطر عَن كل مَمْلُوك لَهُ فِي أرضه وَأَرْض غَيره، وَعَن كل إِنْسَان يعوله من صَغِير وكبير، وَعَن رَقِيق امْرَأَته وَكَانَ لَهُ مكَاتب بِالْمَدِينَةِ فَكَانَ لَا يُؤَدِّي عَنهُ. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: وَفِي رِوَايَة الثَّوْريّ عَن مُوسَى: كَانَ لِابْنِ عمر مكاتبان فَلَا يُعْطي عَنْهُمَا الزَّكَاة يَوْم الْفطر، وَرَوَاهُ ابْن أبي شيبَة عَن حَفْص عَن الضَّحَّاك بن عُثْمَان عَن نَافِع.
الثَّالِث: قَوْله: (وَالْأُنْثَى) ظَاهره وُجُوبهَا على الْمَرْأَة، سَوَاء كَانَ لَهَا زوج أَو لَا، وَأما الْمَرْأَة الْمُزَوجَة فَلَا تجب فطرتها على زَوجهَا عِنْد أبي حنيفَة وَالثَّوْري وَابْن الْمُنْذر وَمَالك. وَقَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي (الصَّحِيح) وَإِسْحَاق: تلْزم على الزَّوْج، مستدلين بقول ابْن عمر: (أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِصَدقَة الْفطر عَن الصَّغِير وَالْكَبِير مِمَّن تمونون) . وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ: إِسْنَاده غير قوي.
الرَّابِع: قَوْله: (وَالصَّغِير) ، جُمْهُور

(9/109)


الْعلمَاء على وُجُوبهَا على الصَّغِير وَإِن كَانَ يَتِيما، قَالَ ابْن بزيزة: وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن وَزفر: لَا يجب على الْيَتِيم زَكَاة الْفطر كَانَ لَهُ مَال أَو لم يكن، فَإِن أخرجهَا عَنهُ وَصِيّه ضمن، قَالَ: وأصل مَذْهَب مَالك وجوب الزَّكَاة على الْيَتِيم مُطلقًا، وَذكر صَاحب (الْهِدَايَة) : يخرج عَن أَوْلَاده الصغار فَإِن كَانَ لَهُم مَال أدّى من مَالهم عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف خلافًا لمُحَمد، وَقَالَ ابْن بزيزة: قَالَ الْحسن: هِيَ على الْأَب فَإِن أَعْطَاهَا من مَال الابْن ضمن. قَالَ: وَهل يجب إخْرَاجهَا عَن الْجَنِين أم لَا؟ فالجمهور أَنَّهَا غير وَاجِبَة عَلَيْهِ. قَالَ: وَمن شواذ الْأَقْوَال أَنَّهَا تخرج عَن الْجَنِين، روينَا ذَلِك عَن عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَسليمَان بن يسَار. وَفِي (المُصَنّف) : حَدثنَا عبد الْوَهَّاب الثَّقَفِيّ عَن أَيُّوب عَن أبي قلَابَة قَالَ: كَانُوا يُعْطون حَتَّى عَن الْحمل. قَالَ ابْن بزيزة: قَالَ قوم من سلف الْعلمَاء: إِذا أكمل الْجَنِين فِي بطن أمه مائَة وَعشْرين يَوْمًا قبل انصداع الْفجْر من لَيْلَة الْفطر وَجب إِخْرَاج زَكَاة الْفطر عَنهُ كَأَنَّهُ اعْتمد على حَدِيث ابْن مَسْعُود: (إِن خلق أحدكُم يجمع فِي بطن أمه أَرْبَعِينَ صباحا) الحَدِيث.
الْخَامِس: قَوْله: (من الْمُسلمين) : تكلم الْعلمَاء فِيهِ، قَالَ الشَّيْخ فِي (الإِمَام) : وَقد اشتهرت هَذِه اللَّفْظَة من رِوَايَة مَالك حَتَّى قيل: إِنَّه تفرد بهَا. قَالَ أَبُو قلَابَة: عبد الْملك بن مُحَمَّد لَيْسَ أحد يَقُول فِيهِ من الْمُسلمين غير مَالك، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ بعد تَخْرِيجه لَهُ: زَاد مَالك (من الْمُسلمين) ، وَقد رَوَاهُ غير وَاحِد عَن نَافِع عَن ابْن عمر وَلم يَقُولُوا فِيهِ: من الْمُسلمين، وتبعهما على ذَلِك القَوْل جمَاعَة. قَالَ الشَّيْخ: وَلَيْسَ بِصَحِيح، فقد تَابع مَالِكًا هَذِه اللَّفْظَة من الثِّقَات سَبْعَة، وهم: عمر بن نَافِع رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي هَذَا الْبَاب، وَالضَّحَّاك بن عُثْمَان رَوَاهُ مُسلم عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر من رَمَضَان على كل نفس من الْمُسلمين. .) الحَدِيث، والمعلى بن أَسد رَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر قَالَ: أَمر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم زَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير عَن كل مُسلم) الحَدِيث، وَعبد الله بن عمر رَوَاهُ الْحَاكِم فِي (مُسْتَدْركه) عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض زَكَاة الْفطر صَاعا من تمر أَو صَاعا من بر على كل حر أَو عبد ذكر أَو أُنْثَى من الْمُسلمين، وَصَححهُ) ، وَكثير بن فرقد رَوَاهُ الْحَاكِم أَيْضا عَنهُ عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فرض زَكَاة الْفطر) لحَدِيث وَفِيه: (من الْمُسلمين) وَرَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي (مُشكل الْآثَار) وَالدَّارَقُطْنِيّ فِي (سنَنه) ، وَعبيد الله بن عمر الْعمريّ أخرجه الدَّارَقُطْنِيّ عَنهُ عَن ابْن عمر نَحوه سَوَاء، وَيُونُس بن يزِيد رَوَاهُ الطَّحَاوِيّ فِي (مشكله) عَنهُ أَن نَافِعًا أخبرهُ قَالَ: (قَالَ عبد الله بن عمر: فرض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على النَّاس زَكَاة الْفطر من رَمَضَان صَاعا من تمر أَو صَاعا من شعير على كل إِنْسَان ذكر أَو أُنْثَى حرا أَو عبدا من الْمُسلمين) ، وَبِهَذَا احْتج مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَأَبُو ثَوْر على أَنه لَا تجب صَدَقَة الْفطر على أحد من عَبده الْكَافِر، وَهُوَ قَول سعيد بن الْمسيب وَالْحسن وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه عَلَيْهِ أَن يُؤَدِّي صَدَقَة الْفطر من عَبده الْكَافِر.
وَهُوَ قَول عَطاء وَمُجاهد وَسَعِيد بن جُبَير وَعمر بن عبد الْعَزِيز وَالنَّخَعِيّ، وَرُوِيَ ذَلِك عَن أبي هُرَيْرَة وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أَدّوا صَدَقَة الْفطر عَن كل صَغِير وكبير وَذكر أَو أُنْثَى يَهُودِيّ أَو نَصْرَانِيّ، حر أَو مَمْلُوك، نصف صَاع من بر أَو صَاعا من تمر أَو شعير) . فَإِن قلت: قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: لم يسند هَذَا الحَدِيث غير سَلام الطَّوِيل وَهُوَ مَتْرُوك، وَرَوَاهُ ابْن الْجَوْزِيّ فِي (الموضوعات) وَقَالَ: وَقَالَ زِيَادَة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ فِيهِ مَوْضُوعَة انْفَرد بهَا سَلام الطَّوِيل وَكَأَنَّهُ تعمدها وَاغْلُظْ فِيهِ القَوْل عَن النَّسَائِيّ وَابْن حبَان جازف ابْن الْجَوْزِيّ فِي مقَالَته من غير دَلِيل، وَقد أخرج الطَّحَاوِيّ فِي (مشكله) مَا يُؤَيّد هَذَا: عَن ابْن الْمُبَارك عَن ابْن لَهِيعَة عَن عبيد الله بن أبي جَعْفَر عَن الْأَعْرَج (عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ: كَانَ يخرج صَدَقَة الْفطر عَن كل إِنْسَان يعول من صَغِير وكبير حر أَو عبد وَلَو كَانَ نَصْرَانِيّا مدّين من قَمح أَو صَاعا من تمر) . وَحَدِيث ابْن لَهِيعَة يصلح للمتابعة، سِيمَا رِوَايَة ابْن الْمُبَارك عَنهُ وَلم يتْركهُ أحد، وَيُؤَيِّدهُ أَيْضا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ: عَن عُثْمَان بن عبد الرَّحْمَن عَن نَافِع (عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يخرج صَدَقَة الْفطر عَن كل حر وَعبد صَغِير وكبير ذكر أَو أُنْثَى كَافِرًا أَو مُسلم) الحَدِيث. قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: وَعُثْمَان هَذَا هُوَ الْوَقَّاصِ، وَهُوَ مَتْرُوك. وَأخرج عبد الرَّزَّاق فِي (مُصَنفه) عَن ابْن عَبَّاس (قَالَ: يخرج الرجل زَكَاة الْفطر عَن كل مَمْلُوك لَهُ وَإِن كَانَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا) وَأخرج ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) : عَن إِسْمَاعِيل بن عَيَّاش عَن عمر بن

(9/110)


مهَاجر عَن عمر بن عبد الْعَزِيز، قَالَ: سمعته يَقُول: يُؤَدِّي الرجل الْمُسلم عَن مَمْلُوكه النَّصْرَانِي صَدَقَة الْفطر، حَدثنَا عبد الله ابْن دَاوُد عَن الْأَوْزَاعِيّ، قَالَ: بَلغنِي عَن ابْن عمر أَنه كَانَ يُعْطي عَن مَمْلُوكه النَّصْرَانِي صَدَقَة الْفطر، وروى عَن إِبْرَاهِيم مثله، وَالْجَوَاب عَن قَوْله: (من الْمُسلمين) أَن مَعْنَاهُ من يلْزمه إِخْرَاج الزَّكَاة عَن نَفسه وَعَن غَيره، وَلَا يكون إلاَّ مُسلما. وَأما العَبْد فَلَا يلْزمه فِي نَفسه زَكَاة الْفطر، وَإِنَّمَا يلْزم مَوْلَاهُ الْمُسلم عَنهُ. وَجَوَاب آخر: مَا قَالَه ابْن بزيزة، وَهُوَ: إِن قَوْله: (من الْمُسلمين) زِيَادَة مضطربة من غير شكّ من جِهَة الْإِسْنَاد، وَالْمعْنَى: لِأَن ابْن عمر رَاوِيه كَانَ من مذْهبه إِخْرَاج الزَّكَاة عَن العَبْد الْكَافِر، والراوي إِذا خَالف مَا رَوَاهُ كَانَ تضعيفا لروايته. وَجَوَاب آخر: أَن فِي صَدَقَة الْفطر نصان: أَحدهمَا: جعل الرَّأْس الْمُطلق سَببا، وَهُوَ الرِّوَايَة الَّتِي لَيْسَ فِيهَا: من الْمُسلمين. وَالْآخر: جعل الرَّأْس الْمُسلم سَببا، وَلَا تنَافِي فِي الْأَسْبَاب كَمَا عرف كالملك يبث بِالشِّرَاءِ وَالْهِبَة وَالْوَصِيَّة وَالصَّدَََقَة وَالْإِرْث فَإِذا امْتنعت المزاجمة وَجب الْجمع بإجراء كل وَاحِد من الْمُطلق والمقيد على سنَنه من غير حمل أَحدهمَا على الآخر، فَيجب أَدَاء صَدَقَة الْفطر عَن العَبْد الْكَافِر بِالنَّصِّ الْمُطلق وَعَن الْمُسلم بالمقيد. فَإِن قلت: إِذا لم يحمل الْمُطلق على الْمُقَيد أدّى إِلَى إِلْغَاء الْمُقَيد، فَإِن حكمه يفهم من الْمُطلق، فَإِن حكم العَبْد الْمُسلم يُسْتَفَاد من إِطْلَاق إسم العَبْد فَلم يبْق لذكر الْمُقَيد فَائِدَة؟ قلت: لَيْسَ كَذَلِك، بل فِيهِ فَوَائِد، وَهِي: أَن يكون الْمُقَيد دَلِيلا على الِاسْتِحْبَاب وَالْفضل، أَو على أَنه عَزِيمَة وَالْمُطلق رخصَة، أَو على أَنه أهم وأشرف حَيْثُ نَص عَلَيْهِ بعد دُخُوله تَحت الِاسْم الْمُطلق، كتخصيص صَلَاة الْوُسْطَى وَجِبْرِيل وَمِيكَائِيل، عَلَيْهِمَا السَّلَام، فِي مُطلق الصَّلَوَات، ودخولهما فِي مُطلق اسْم الْمَلَائِكَة، وَقد أمكن الْعَمَل بهما. وَاحْتِمَال الْفَائِدَة قَائِم لَا يجوز إبِْطَال صفة الْإِطْلَاق.
السَّادِس: قَوْله: (وَأمر بهَا أَن تُؤَدّى قبل خُرُوج النَّاس إِلَى الصَّلَاة) ، وَهَذَا أَمر اسْتِحْبَاب، وَهُوَ قَول ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَعَطَاء بن أبي رَبَاح وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَالقَاسِم وَأبي نَضرة وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك وَالْحكم بن عُيَيْنَة ومُوسَى بن وردان وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق وَأهل الْكُوفَة، وَلم يحك فِيهِ خلاف، وَحكى الْخطابِيّ الْإِجْمَاع فِيهِ، وَقَالَ ابْن حزم: الْأَمر فِيهِ للْوُجُوب فَيحرم تَأْخِيرهَا عَن ذَلِك الْوَقْت.