عمدة القاري شرح صحيح البخاري

بِسم الله الرحمان الرَّحِيم

52 - (كِتَابُ الحَجِّ)

هَذَا كتاب فِي بَيَان الْحَج، وَقد ذكرنَا أول الْكتاب أَن الْكتاب يشْتَمل الْأَبْوَاب، والأبواب تَشْمَل الْفُصُول، وَلم يَقع فِي تَرْتِيب البُخَارِيّ الْفُصُول، وَإِنَّمَا يُوجد فِي بعض الْمَوَاضِع لَفْظَة: بَاب، مُجَردا وَيُرِيد بِهِ الْفَصْل عَمَّا قبله، لكنه من جنسه كَمَا ستقف عَلَيْهِ فِي أثْنَاء الْكتاب.
وَالْكَلَام هُنَا على أَنْوَاع.
الأول: ذكر كتاب الْحَج عقيب كتاب الزَّكَاة، وَكَانَ الْمُنَاسب ذكر كتاب الصَّوْم عقيب كتاب الزَّكَاة، كَمَا قدمه ابْن بطال على كتاب الْحَج كَمَا وَقع فِي الْخمس الَّذِي بني الْإِسْلَام عَلَيْهَا، وَلَكِن لما كَانَ لِلْحَجِّ اشْتِرَاك مَعَ الزَّكَاة فِي كَونهمَا عبَادَة مَالِيَّة ذكره عقيب الزَّكَاة. فَإِن قلت: فعلى هَذَا كَانَ يَنْبَغِي أَن يذكر الصَّوْم عقيب الصَّلَاة لِأَن كلا مِنْهُمَا عبَادَة بدنية. قلت: نعم، كَانَ الْقيَاس يَقْتَضِي ذَلِك وَلَكِن ذكرت الزَّكَاة عقيب الصَّلَاة لِأَنَّهَا ثَانِيَة الصَّلَاة وثالثة الْإِيمَان فِي الْكتاب وَالسّنة.
النَّوْع الثَّانِي: أَنه قد وَقع فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ: كتاب الْمَنَاسِك، كَمَا وَقع هَكَذَا فِي (صَحِيح مُسلم) وَوَقع فِي كتاب الطَّحَاوِيّ: كتاب مَنَاسِك الْحَج، وَهُوَ جمع منسك، بِفَتْح السِّين وَكسرهَا وَهُوَ المتعبد، وَيَقَع على الْمصدر وَالزَّمَان وَالْمَكَان، ثمَّ سميت أُمُور الْحَج كلهَا مَنَاسِك، والمنسك: المذبح، وَقد نسك ينْسك نسكا إِذا ذبح، والنسيكة الذَّبِيحَة، وَجَمعهَا نسك، والنسك أَيْضا الطَّاعَة وَالْعِبَادَة، وكل مَا تقرب بِهِ إِلَى الله، عز وَجل، والنسك مَا أمرت بِهِ الشَّرِيعَة والورع وَمَا نهت عَنهُ. والناسك العابد، وَسُئِلَ ثَعْلَب عَن الناسك مَا هُوَ؟ فَقَالَ: هُوَ مَأْخُوذ من النسيكة، وَهِي سبيكة الْفضة المصفاة، كَأَن الناسك صفي نَفسه لله تَعَالَى.
النَّوْع الثَّالِث فِي معنى الْحَج لُغَة وَشرعا أما لغةٍ: فَمَعْنَاه الْقَصْد، من حججْت الشَّيْء أحجه حجا إِذا قصدته. وَقَالَ الْأَزْهَرِي: وأصل الْحَج من قَوْلك: حججْت فلَانا أحجه حجا إِذا عدت إِلَيْهِ مرّة بعد أُخْرَى. فَقيل: حج الْبَيْت، لِأَن النَّاس يأتونه كل سنة، وَمِنْه قَول المخبل السَّعْدِيّ:
(واشهد من عَوْف حلولاً كَثِيرَة ... يحجون سبّ الزبْرِقَان المزعفرا)

يَقُول: يأتونه مرّة بعد أُخْرَى لسؤدده وسبه: عمَامَته، وَقَالَ صَاحب (الْعين) : السب الثَّوْب الرَّقِيق، وَقيل: غلالة رقيقَة يمنية، والزبرقان، بِكَسْر الزَّاي وَسُكُون الْبَاء الْمُوَحدَة وَكسر الرَّاء وبالقاف المخففة وَفِي آخِره نون: وَهُوَ فِي الأَصْل اسْم الْقَمَر، ولقب بِهِ الْحصين لصفرة عمَامَته. وَأما شرعا: الْحَج قصد إِلَى زِيَارَة الْبَيْت الْحَرَام على وَجه التَّعْظِيم بِأَفْعَال مَخْصُوصَة، وَسَببه الْبَيْت، لِأَنَّهُ يُضَاف إِلَيْهِ، وَلِهَذَا لَا يجب فِي الْعُمر إلاَّ مرّة وَاحِدَة لعدم تكْرَار السب، وَالْحج، بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا. وَقَالَ الزّجاج:

(9/121)


يقْرَأ بِفَتْح الْحَاء وَكسرهَا، يَعْنِي: فِي الْقُرْآن، وَالْأَصْل الْفَتْح. قلت: قرىء بهما فِي السَّبْعَة وَأَكْثَرهم على الْفَتْح. وَفِي (أمالي الهجري) أَكثر الْعَرَب يكسرون الْحَاء فَقَط، وَقَالَ ابْن السّكيت: بِفَتْح الْحَاء: الْقَصْد، وبالكسر: الْقَوْم الْحجَّاج، وَالْحجّة، بِالْفَتْح: الفعلة من الْحَج، وبكسر الْحَاء: التَّلْبِيَة والإجابة. قلت: يُقَال فِي الفعلة بِالْفَتْح الْمرة، وبالكسر الْحَالة، والهيأة، والحاج الَّذِي يحجّ، وَرُبمَا يظهرون التَّضْعِيف فِي ضَرُورَة الشّعْر قَالَ:
(بِكُل شيخ عَامر أَو حاجج)

وَيجمع على: حجج، بِالضَّمِّ نَحْو: بازل وبزل، وعائذ وعوذ.
النَّوْع الرَّابِع: فِي وَقت ابْتِدَاء فَرْضه، فَذكر الْقُرْطُبِيّ أَن الْحَج فرض سنة خمس من الْهِجْرَة، وَقيل: سنة تسع، قَالَ: وَهُوَ الصَّحِيح. وَذكر الْبَيْهَقِيّ أَنه كَانَ سنة سِتّ، وَفِي حَدِيث ضمام بن ثَعْلَبَة ذكر الْحَج، وَذكر مُحَمَّد بن حبيب أَن قدومه كَانَ سنة خمس من الْهِجْرَة، وَقَالَ الطرطوشي: وَقد رُوِيَ أَن قدومه على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ فِي سنة تسع، وَذكر الْمَاوَرْدِيّ أَنه فرض سنة ثَمَان، وَقَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: سنة تسع أَو عشر، وَقيل: سنة سبع، وَقيل: كَانَ قبل الْهِجْرَة وَهُوَ شَاذ.

1 - (بابُ وُجوبِ الحَجِّ وَفَضْلِهِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب الْحَج وَبَيَان فَضله، قد ذكرنَا أَن الْكتاب يجمع الْأَبْوَاب، فَهَذَا هُوَ شُرُوع فِي بَيَان أَفعَال الْحَج وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَبْوَاب، فَذكر بَابا بَابا بِحَسب قَصده بالتناسب، والبسملة مَذْكُورَة فِي رِوَايَة أبي ذَر، وَفِي رِوَايَة غَيره لم تذكر، وَكَذَا لم يذكر لفظ: الْبَاب.
وَقَوْلِ الله تَعَالَى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إلَيْهِ سَبِيلاً ومَنْ كَفَرَ فإنَّ الله غَنِيٌّ عنِ العَالِمِينَ} (آل عمرَان: 79) .

وَقع فِي بعض النّسخ: بَاب وجوب الْحَج وفضله، وَقَوله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت} (آل عمرَان: 79) . وَهَذَا أوجه، وَأَشَارَ بِذكر هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة إِلَى أَن وجوب الْحَج قد ثَبت بِهَذِهِ الْآيَة، هَذَا عِنْد الْجُمْهُور، وَقيل: ثَبت وُجُوبه بقوله تَعَالَى {وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله} (الْبَقَرَة: 691) . وَالْأول أظهر. وَقد وَردت الْأَحَادِيث المتعددة بِأَنَّهُ أحد أَرْكَان الْإِسْلَام ودعائمه وقواعده، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على ذَلِك إِجْمَاعًا ضَرُورِيًّا. وَقَالَ الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا يزِيد بن هَارُون حَدثنَا الرّبيع بن مُسلم الْقرشِي عَن مُحَمَّد بن زِيَاد (عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: خَطَبنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس قد فرض عَلَيْكُم الْحَج فحجوا. فَقَالَ رجل: أكل عَام يَا رَسُول الله؟ فَسكت حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَو قلت نعم لَوَجَبَتْ، وَلما اسْتَطَعْتُم. ثمَّ قَالَ: ذروني مَا تركتكم فَإِنَّمَا هلك من كَانَ قبلكُمْ بِكَثْرَة سُؤَالهمْ وَاخْتِلَافهمْ على أَنْبِيَائهمْ، وَإِذا أَمرتكُم بِشَيْء فاتوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُم، وَإِذا نَهَيْتُكُمْ عَن شَيْء فَدَعوهُ) . رَوَاهُ مُسلم. وَفِي رِوَايَته: (فَقَامَ الْأَقْرَع بن حَابِس، فَقَالَ: يَا رَسُول الله أَفِي كل عَام؟) الحَدِيث. وَعَن أَحْمد فِي رِوَايَته: (عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لما نزلت: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . قَالُوا: يَا رَسُول الله فِي كل عَام؟) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (عَن أنس بن مَالك، قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُول الله الْحَج فِي كل عَام؟ قَالَ: لَو قلت: نعم لَوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبت لم تقوموا بهَا، وَلَو لَو تقوموا بهَا لعذبتم) . وَفِي (الصَّحِيحَيْنِ) من حَدِيث جَابر (أَن سراقَة بن مَالك، قَالَ: يَا رَسُول الله متعتُنا هَذِه لِعَامِنَا أم لِلْأَبَد؟ قَالَ: بل لِلْأَبَد؟ قَالَ: بل لِلْأَبَد) . قَوْله: (حج الْبَيْت) مَرْفُوع على الِابْتِدَاء، وَخَبره مقدما، قَوْله: (وَللَّه على النَّاس) أَي: وَللَّه فرض وَاجِب {على النَّاس حج الْبَيْت} (آل عمرَان: 79) . لِأَن: اللَّام، لَام الْإِيجَاب. قَوْله: {من اسْتَطَاعَ} (آل عمرَان: 79) . بدل: من النَّاس، فِي مَحل الْجَرّ، وَالتَّقْدِير: وَللَّه على من اسْتَطَاعَ من النَّاس حج الْبَيْت، والإستطاعة هِيَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة وتخلية الطَّرِيق، وَعَن أنس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: (السَّبِيل: الزَّاد والرحلة) ، رَوَاهُ الْحَاكِم، ثمَّ قَالَ: صَحِيح على شَرط مُسلم، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر قَالَ: (قَامَ رجل إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: من الْحَاج يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الشعث الثّقل، فَقَامَ آخر فَقَالَ: أَي الْحَج أفضل يَا رَسُول الله؟ فَقَالَ العج والثج، فَقَامَ آخر، فَقَالَ: مَا السَّبِيل يَا رَسُول الله؟ قَالَ: الزَّاد والرحلة) . وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم، وَقد رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس وَأنس وَالْحسن وَمُجاهد وَعَطَاء وَسَعِيد بن جُبَير وَالربيع بن أنس وَقَتَادَة نَحْو ذَلِك، وَقد روى ابْن

(9/122)


جرير عَن ابْن عَبَّاس فِي قَوْله: {من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . قَالَ: من ملك ثَلَاثمِائَة دِرْهَم فقد اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) . وَعَن عِكْرِمَة مَوْلَاهُ، قَالَ: (من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا: السَّبِيل: الصِّحَّة) . وَعَن الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس. (قَالَ: من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) قَالَ: الزَّاد وَالْبَعِير، قَوْله: {وَمن كفر فَإِن الله غَنِي عَن الْعَالمين} (آل عمرَان: 79) . قَالَ ابْن عَبَّاس وَمُجاهد وَغير وَاحِد: أَي: وَمن جحد فَرضِيَّة الْحَج فقد كفر، وَالله غَنِي عَنهُ. وَقيل: من لم يرج ثَوَابه وَلم يخف عِقَابه تَركه، وَقيل: إِذا أمكنه الْحَج وَلم يحجّ حَتَّى مَاتَ، وروى ابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث الْحَارِث عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من ملك زادا وراحلة وَلم يحجّ بَيت الله فَلَا يضرّهُ مَاتَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا، وَذَلِكَ بِأَن الله تَعَالَى قَالَ: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . إِلَى آخِره. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ أَيْضا، وَقَالَ: هَذَا حَدِيث غَرِيب، وَفِي إِسْنَاده مقَال، وهلال مَجْهُول يَعْنِي فِي رِوَايَة الْحَارِث يضعف فِي الحَدِيث، وروى الْإِسْمَاعِيلِيّ الْحَافِظ من حَدِيث عبد الرَّحْمَن بن غنم، سمع عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول: (من أطَاق الْحَج فَلم يحجّ فَسَوَاء عَلَيْهِ يَهُودِيّا مَاتَ أَو نَصْرَانِيّا) . وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح إِلَى عمر، قَالَه ابْن كثير فِي تَفْسِيره. قَوْله: {غَنِي عَن الْعَالمين} (آل عمرَان: 79) . أَي: لَا يَنْفَعهُ إِيمَانهم وَلَا يضرّهُ كفرهم.

3151 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بنِ يَسَارٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ كَانَ الفَضْلُ رَدِيفَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَجاءَتْ امْرَأةٌ مِنْ خَثْعَمْ فجعَلَ الفَضْلُ يَنْظُرُ إليْهَا وتَنْظُرُ إلَيْهِ وجَعَلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَصْرِفُ وَجْهَ الفَضْلِ إلَى الشِّقِّ الآخَرِ فقالَتْ يَا رسولَ الله إنَّ فَرِيضَةَ الله عَلَى عِبَادِهِ فِي الحَجِّ أدْرَكَتْ أبي شَيْخا كَبِيرا لاَ يَثْبُتُ عَلَى الرَّاحِلَةِ أفأحُجُّ عَنْهُ قَالَ نَعَمْ وَذالِكَ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تدْرك بدقة النّظر، وَذَلِكَ أَن الحَدِيث يدل على تَأْكِيد الْأَمر بِالْحَجِّ حَتَّى إِن الْمُكَلف لَا يعْذر بِتَرْكِهِ عِنْد عَجزه عَن الْمُبَاشرَة بِنَفسِهِ، بل يلْزمه أَن يَسْتَنِيب غَيره، وَهَذَا يدل على أَن فِي مُبَاشَرَته فضلا عَظِيما، فَمن هَذَا تُؤْخَذ الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة والْحَدِيث، وَسَيَأْتِي بَاب مُسْتَقل فِي فضل الْحَج، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَسليمَان ابْن يسَار ضد الْيَمين تقدم فِي الْوضُوء.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن القعْنبِي عَن مَالك، وَعَن مُوسَى بن إِسْمَاعِيل فِي الْمَغَازِي، وَقَالَ مُحَمَّد بن يُوسُف: حَدثنَا الْأَوْزَاعِيّ، وَفِيه وَفِي الاسْتِئْذَان عَن أبي الْيَمَان عَن شُعَيْب، كلهم عَن الزُّهْرِيّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي بِهِ، وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع عَن روح بن عبَادَة وَلَيْسَ فِيهِ صدر الحَدِيث وَأخرجه النَّسَائِيّ عَن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين وَعَن قُتَيْبَة وَعَن أبي دَاوُد الْحَرَّانِي وَعَن عُثْمَان بن عبد الله وَعَن مُجَاهِد بن مُوسَى وَعَن مَحْمُود بن خَالِد. وَأخرجه ابْن مَاجَه عَن عبد الرَّحْمَن ابْن إِبْرَاهِيم الدِّمَشْقِي عَن الْوَلِيد بن مُسلم عَن الْأَوْزَاعِيّ ... الحَدِيث.
ذكر مَا قيل فِي هَذَا الحَدِيث: قَالَ أَبُو الْعَبَّاس الطرقي: مدَار هَذَا الحَدِيث على ابْن شهَاب، وَقد اخْتلف عَنهُ فِي إِسْنَاده، رَوَاهُ ابْن جريج عَنهُ عَن سُلَيْمَان بن يسَار عَن عبد الله بن عَبَّاس عَن الْفضل بن عَبَّاس وَهُوَ الصَّحِيح عِنْدِي، والْحَدِيث حَدِيث الْفضل لِأَنَّهُ كَانَ رَدِيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدَاة النَّحْر من الْمزْدَلِفَة إِلَى منى، وَعبد الله بن عَبَّاس قدمه النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي ضعفة أَهله من جمع بلَيْل، وَرُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: مشيت على رجْلي فِي سِيَاق إِلَى منى، فقد دلّ غير شَاهد وَاحِد على أَن عبد الله لم يحضر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي تِلْكَ الْحَالة، وَإِنَّمَا سمع ذَلِك من الْفضل، كَمَا جَاءَ فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس حِين دفعُوا عَشِيَّة عَرَفَة: عَلَيْكُم بِالسَّكِينَةِ، قَالَ عبد الله: وَأَخْبرنِي الْفضل أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يزل يُلَبِّي حَتَّى رمى جَمْرَة الْعقبَة، وَكَذَلِكَ روى مُسلم قَالَ: حَدثنِي عَليّ بن خشرم، قَالَ: أخبرنَا عِيسَى عَن ابْن جريج عَن ابْن شهَاب، قَالَ: حَدثنَا سُلَيْمَان بن يسَار عَن ابْن عَبَّاس عَن الْفضل: أَن امْرَأَة من خثعم قَالَت: يَا رَسُول الله إِن أبي شيخ كَبِير عَلَيْهِ فَرِيضَة الله فِي الْحَج، وَهُوَ لَا يَسْتَطِيع أَن يَسْتَوِي على ظهر بعيره، فَقَالَ النَّبِي

(9/123)


صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فحجي عَنهُ. وَأخرج مُسلم أَيْضا عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك نَحْو رِوَايَة البُخَارِيّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: قَالَ: فَسَأَلت مُحَمَّدًا عَن هَذِه الرِّوَايَات فَقَالَ: أصح شَيْء فِي هَذَا مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس عَن الْفضل ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ مُحَمَّد: وَيحْتَمل أَن يكون ابْن عَبَّاس سَمعه من الْفضل وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ثمَّ روى هَكَذَا فَأرْسلهُ وَلم يذكر الَّذِي سَمعه مِنْهُ، قَالَ أَبُو عِيسَى: وَقد صَحَّ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي هَذَا الْبَاب غير حَدِيث. قيل: قَول التِّرْمِذِيّ: وَرُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس عَن سِنَان بن عبد الله الْجُهَنِيّ عَن عمته عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِيهِ نظر من حَيْثُ إِن الْمَوْجُود بِهَذَا الْإِسْنَاد هُوَ حَدِيث آخر فِي الْمَشْي إِلَى الْكَعْبَة لَا عَن الْكَبِير الْعَاجِز، رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ من رِوَايَة عبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان عَن مُحَمَّد بن كريب عَن كريب عَن ابْن عَبَّاس عَن سِنَان بن عبد الله الْجُهَنِيّ، أَن عمته حدثته أَنَّهَا أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَت: يَا رَسُول الله توفيت أُمِّي وَعَلَيْهَا مشي إِلَى الْكَعْبَة نذرا، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَل تستطيعين أَن تمشين عَنْهَا؟ قَالَت: نعم، قَالَ: فامشي عَن أمك. قَالَت: أَو يجزيء ذَلِك عَنْهَا؟ قَالَ: نعم، أَرَأَيْت لَو كَانَ عَلَيْهَا دين ثمَّ قضيتيه عَنْهَا هَل كَانَ يقبل مِنْك؟ قَالَت: نعم، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَالله أَحَق بذلك) . وَأجِيب عَنهُ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَن يبين الِاخْتِلَاف فِي هَذَا الحَدِيث عَن ابْن عَبَّاس فِي الْمَتْن والإسناد مَعًا، وَهَذَا اخْتِلَاف فِي مَتنه. وَقَالَ التِّرْمِذِيّ فِي (الْعِلَل الْكَبِير) عَن مُحَمَّد: الصَّحِيح الزُّهْرِيّ عَن سُلَيْمَان عَن ابْن عَبَّاس عَن الْفضل. قلت: كَانَ عبد الله يرويهِ عَن الْفضل وَعَن حُصَيْن بن عَوْف قَالَ: أَرْجُو أَن يكون صَحِيحا، وَيحْتَمل أَن يكون عبد الله روى هَذَا عَن غير وَاحِد وَلم يذكر الَّذِي سَمعه مِنْهُ، وَيحْتَمل أَن يكون كُله صَحِيحا قلت: حَدِيث حُصَيْن رَوَاهُ ابْن مَاجَه عَن ابْن نمير عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن مُحَمَّد بن كريب عَن أَبِيه (عَن ابْن عَبَّاس أَخْبرنِي حُصَيْن، قلت: يَا رَسُول الله إِن أبي أدْركهُ الْحَج وَلَا يَسْتَطِيع أَن يحجّ إلاَّ مُعْتَرضًا. فَصمت سَاعَة، ثمَّ قَالَ: حج عَن أَبِيك) .
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (كَانَ الْفضل) هُوَ الْفضل بن عَبَّاس بن عبد الْمطلب بن هَاشم الْقرشِي الْهَاشِمِي أَبُو عبد الله، وَيُقَال: أَبُو مُحَمَّد، وَيُقَال: أَبُو الْعَبَّاس الْمدنِي ابْن عَم رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأمه أم الْفضل لبَابَة الْكُبْرَى بنت الْحَارِث ابْن حزن الْهِلَالِيَّة، وَكَانَ شَقِيق عبد الله بن عَبَّاس رَوَاهُ عَنهُ أَخُوهُ عبد الله بن عَبَّاس وَغَيره، وَقيل: لم يسمع مِنْهُ سوى أَخِيه عبد الله وَأبي هُرَيْرَة وَمن عداهما، فروايته عَنهُ مُرْسلَة، قتل يَوْم اليرموك فِي عهد أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَقيل: قتل يَوْم مرج الصفر سنة ثَلَاث عشرَة، وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْنِ وَعشْرين سنة. وَقَالَ أَبُو دَاوُد: قتل بِدِمَشْق، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: مَاتَ بِالشَّام فِي طاعون عمواس سنة ثَمَانِي عشرَة، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ اسن ولد عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، خرج إِلَى الشَّام مُجَاهدًا فَمَاتَ بِنَاحِيَة الْأُرْدُن فِي طاعون عمواس فِي سنة ثَمَانِي عشرَة من الْهِجْرَة فِي خلَافَة عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (رَدِيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَهُوَ الَّذِي يركب وَرَاء الرَّاكِب، وَقد جمع ابْن مَنْدَه الْأَصْفَهَانِي كتابا فِيهِ أَسمَاء من أردفه سيدنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، مَعَه على الدَّابَّة فَبلغ بهم نيفا وَثَلَاثِينَ رجلا. قَوْله: (فَجَاءَت امْرَأَة من خثعم) بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَسُكُون الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَفتح الْعين الْمُهْملَة، وَهِي قَبيلَة بِالْيمن، وَفِي رِوَايَة: (وَقَالَت امْرَأَة من جُهَيْنَة) ، وَهَاتَانِ القبيلتان لَا تجتمعان لِأَن جُهَيْنَة هُوَ ابْن زيد بن لَيْث بن الْأسود بن أسلم بن ألحاف بن قضاعة. وخثعم هُوَ ابْن أَنْمَار بن أراش بن عَمْرو بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن زيد بن كهلان. وَفِي (التَّوْضِيح) : هَذِه الْمَرْأَة يجوز أَن تكون غاثية أَو غايثة، بالغين الْمُعْجَمَة فيهمَا. وَاعْلَم أَنه قد اخْتلفت طرق الْأَحَادِيث فِي السَّائِل عَن ذَلِك: هَل هُوَ امْرَأَة أَو رجل؟ وَفِي المسؤول عَنهُ أَن يحجّ عَنهُ أَيْضا: هَل هُوَ أَب أَو أم أَو أَخ؟ فَأكْثر طرق الْأَحَادِيث الصَّحِيحَة دَالَّة على أَن السَّائِل امْرَأَة، وَأَنَّهَا سَأَلت عَن أَبِيهَا، كَمَا هُوَ فِي أَكثر طرق حَدِيث الْفضل، وَأكْثر طرق عبد الله بن عَبَّاس، وَكَذَلِكَ فِي حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: قَالَ: (وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة) الحَدِيث، وَفِيه: (فاستفتته جَارِيَة شَابة من خثعم. فَقَالَت: إِن أبي شيخ كَبِير) الحَدِيث. وَفِي رِوَايَة للنسائي فِي حَدِيث الْفضل أَن السَّائِل رجل سَأَلَ عَن أمه، وَفِي (صَحِيح ابْن حبَان) فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: أَن السَّائِل رجل سَأَلَ عَن أَبِيه، وَعند النَّسَائِيّ أَيْضا: أَن امْرَأَة سَأَلته عَن أَبِيهَا مَاتَ وَلم يحجّ، وَفِي حَدِيث بُرَيْدَة أخرجه التِّرْمِذِيّ: أَن امْرَأَة سَأَلت عَن أمهَا، وَفِي حَدِيث حُصَيْن بن عَوْف

(9/124)


رَوَاهُ ابْن مَاجَه وَفِي حَدِيث أبي رزين الْعقيلِيّ أخرجه أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَفِي حَدِيث سَوْدَة رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) وَفِي حَدِيث عبد الله بن الزبير أخرجه النَّسَائِيّ: أَن السَّائِل رجل سَأَلَهُ عَن أَبِيه. وَفِي حَدِيث سِنَان بن عبد الله أَن عمته حدثته رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب، وَفِيه: (أَنَّهَا أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَالَت: يَا رَسُول الله توفيت أُمِّي) الحَدِيث. وَالْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات مَا قَالَه شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله: إِن السُّؤَال وَقع مَرَّات: مرّة من امْرَأَة عَن أَبِيهَا، وَمرَّة من امْرَأَة عَن أمهَا، وَمرَّة عَن رجل عَن أمه، وَمرَّة من رجل عَن أَبِيه، وَمرَّة من رجل عَن أَخِيه، وَمرَّة فِي السُّؤَال عَن الشَّيْخ الْكَبِير، وَمرَّة فِي الْحَج عَن الْمَيِّت. فَإِن قلت: هَل يعلم السَّائِل عَن هَذَا رجلا كَانَ أَو امْرَأَة؟ قلت: أما الرجل فقد سمي من السَّائِلين، من ذَلِك حُصَيْن بن عَوْف، كَمَا ذكره ابْن مَاجَه وسمى مِنْهُم: أَبُو رزين لَقِيط بن عَامر، كَمَا هُوَ عِنْد أَصْحَاب السّنَن، وَأما النِّسَاء فَلم يسم مِنْهُنَّ أحد إلاَّ فِي رِوَايَة سِنَان بن عبد الله الْجُهَنِيّ أَن عمته حدثته أَنَّهَا أَتَت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَعَمَّته لم تسم، وَفِي حَدِيث النَّسَائِيّ (إِن أحد النِّسَاء، امْرَأَة سِنَان بن سَلمَة الْجُهَنِيّ، سَأَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن أمهَا مَاتَت) الحَدِيث. والمرأتان ذكرتا فِي الْحَج عَن الْمَيِّت لَا عَن المعضوب، وَهُوَ بِالْعينِ الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة: الزَّمن الَّذِي لَا حراك بِهِ. قَوْله: (فَجعل الْفضل) ، كلمة: جعل، من أَفعَال المقاربة، وَجعل وضع لدنو الْخَبَر على وَجه الشُّرُوع فِيهِ، وَالْأَخْذ فِي فعله. وَقَوله: (الْفضل) اسْم جعل وَقَوله: (ينظر إِلَيْهَا) فِي مَحل النصب خَبره إِلَى الْمَرْأَة المذكرة قَوْله (وَتنظر إِلَيْهِ) أَي تنظر الْمَرْأَة إِلَى الْفضل وَالْكَلَام فِي قَوْله: (وَجعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يصرف) مثل الْكَلَام فِي: (جعل الْفضل) . قَوْله: (إِلَى الشق) أَي: إِلَى الْجنب الآخر، وَهُوَ بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَتَشْديد الْقَاف. قَوْله: (شَيخا) ، نصب على الْحَال وكبيرا صفة شَيخا. وَقَوله: لَا يثبت أَيْضا فِي مَحل النصب على الْحَال، فهما حالان متداخلتان، وَيجوز أَن يكون: لَا يثبت، صفة لشيخا، وَمَعْنَاهُ: وَجب عَلَيْهِ الْحَج بِأَن أسلم وَهُوَ شيخ، وَحصل لَهُ المَال فِي هَذِه الْحَالة. قَوْله: (أفأحج عَنهُ؟) الْهمزَة للاستفهام، وَالْفَاء عاطفة على مُقَدّر بعد الْهمزَة، وَالتَّقْدِير: أنوب عَنهُ فأحج؟ وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن الْهمزَة تَقْتَضِي الصدارة وَالْفَاء تَقْتَضِي عدمهَا. قَوْله: (وَذَلِكَ فِي حجَّة الْوَدَاع) ، بِكَسْر الْحَاء وَفتحهَا، وَسميت بذلك لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودع النَّاس فِيهَا، وَلَيْسَت هَذِه الْإِضَافَة للتَّقْيِيد التمييزي لِأَنَّهُ لم يحجّ بعد الْهِجْرَة إلاَّ حجَّة وَاحِدَة، وَهِي هَذِه الْحجَّة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الإرداف إِذا كَانَت الدَّابَّة مطيقة، والإرداف للسادة والرؤساء سَائِغ، وَلَا سِيمَا فِي الْحَج لتزاحم النَّاس، ومشقة سير الرجالة، وَلِأَن الرّكُوب فِيهِ أفضل كَمَا سَيَجِيءُ إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَفِيه: دلَالَة على أَن الْمَرْأَة تكشف وَجههَا فِي الْإِحْرَام، وَهُوَ إِجْمَاع كَمَا حَكَاهُ أَبُو عمر، وَيحْتَمل كَمَا قَالَ ابْن التِّين: أَنَّهَا سدلت ثوبا على وَجههَا. وَفِيه: فِي نظر الْفضل مغالبة طباع الْبشر لِابْنِ آدم وَضَعفه عَمَّا ركب فِيهِ من الشَّهَوَات. وَفِيه: أَن الْعَالم يُغير مَا أمكنه إِذا رَآهُ وَاسْتدلَّ ابْن الْمُنْذر من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: (كَانَ الْفضل رَدِيف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم عَرَفَة، فَجعل الْفضل يُلَاحظ النِّسَاء وَينظر إلَيْهِنَّ، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا ابْن أخي هَذَا يَوْم، من ملك فِيهِ سَمعه وبصره وَلسَانه غفر لَهُ) . وَلم ينْقل أَنه نهى الْمَرْأَة عَن النّظر إِلَيْهِ، وَكَانَ الْفضل، وسيما، أَي: جميلاً، وَيحْتَمل أَن يكون الشَّارِع اجترأ بنفع الْفضل لما رأى أَنَّهَا تعلم بذلك منع نظرها إِلَيْهِ، لِأَن حكمهمَا وَاحِد، أَو تنبهت لذَلِك، أَو كَانَ ذَلِك الْموضع هُوَ مَحل نظره الْكَرِيم فَلم يصرف نظرها، وَقَالَ الدَّاودِيّ: فِيهِ: احْتِمَال أَن لَيْسَ على النِّسَاء غض أبصارهن عَن وُجُوه الرِّجَال، إِنَّمَا تغضضن عَن عورتهن. وَقَالَ بعض الْمَالِكِيَّة: لَيْسَ على الْمَرْأَة تَغْطِيَة وَجههَا لهَذَا الحَدِيث، وَإِنَّمَا على الرجل غض الْبَصَر، وَقيل: إِنَّمَا لم يأمرها بتغطية وَجههَا لِأَنَّهُ مَحل إحرامها، وَصرف وَجه الْفضل بِالْفِعْلِ أقوى من الْأَمر، وَذهب ابْن عَبَّاس وَابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، إِلَى أَن المُرَاد فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَا يبدين زينتهن إلاَّ مَا ظهر مِنْهَا} (النُّور: 13) . أَي: الْوَجْه والكفان. وَفِيه: جَوَاز الْحَج عَن غَيره إِذا كَانَ معضوبا، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق. وَقَالَ مَالك وَاللَّيْث وَالْحسن بن صَالح: لَا يحجّ أحد عَن أحد إلاَّ عَن ميت لم يحجّ حجَّة الْإِسْلَام، وَحَاصِل مَا فِي مَذْهَب مَالك ثَلَاثَة أَقْوَال مشهورها: لَا يجوز، ثَانِيهَا: يجوز من الْوَلَد. ثَالِثهَا: يجوز إِن أوصى بِهِ، وَعَن النَّخعِيّ وَبَعض السّلف: لَا يَصح الْحَج عَن ميت وَلَا عَن غَيره، وَهِي رِوَايَة

(9/125)


عَن مَالك، وَإِن أوصى بِهِ، وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: لَا يحجّ أحد عَن أحد، وَلَا يصم أحد عَن أحد، وَكَذَا قَالَ إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَالَ الشَّافِعِي وَالْجُمْهُور: يجوز الْحَج عَن الْمَيِّت عَن فَرْضه ونذره، سَوَاء أوصى بِهِ أَو لم يوص، وَهُوَ وَاجِب فِي تركته. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَعِنْدنَا يجوز الِاسْتِنَابَة فِي حجَّة التَّطَوُّع على أصح الْقَوْلَيْنِ، والْحَدِيث حجَّة على الْحسن بن حَيّ فِي قَوْله: إِن الْمَرْأَة لَا يجوز أَن تحج عَن الرجل، وَهُوَ حجَّة لمن أجَازه.
وَقَالَ الْخطابِيّ: فِيهِ: جَوَاز الْحَج عَن غَيره إِذا كَانَ معضوبا، وَلم يجزه مَالك، وَهُوَ رَاوِي الحَدِيث، وَهُوَ حجَّة عَلَيْهِ. وَقَالَ صَاحب (الْهِدَايَة) : الأَصْل أَن الْإِنْسَان لَهُ أَن يَجْعَل ثَوَاب عمله لغيره صَلَاة أَو صَدَقَة أَو صوما أَو غَيرهَا، عِنْد أهل السّنة وَالْجَمَاعَة، لما رُوِيَ عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه ضحى بكبشين أَحدهمَا عَن نَفسه، وَالْآخر عَن أمته.
والعبادات أَنْوَاع: مَالِيَّة مَحْضَة، كَالزَّكَاةِ، وبدنية: كَالصَّلَاةِ، ومركب مِنْهُمَا: كَالْحَجِّ، والنيابة تجزىء فِي النَّوْع الأول وَلَا تجزىء فِي الثَّانِي بِحَال، وتجزيء فِي النَّوْع الثَّالِث عِنْد الْعَجز، وَلَا تجزيء عِنْد الْقُدْرَة، وَالشّرط الْعَجز الدَّائِم إِلَى وَقت الْمَوْت، وَظَاهر الْمَذْهَب أَن الْحَج يَقع عَن المحجوج عَنهُ لحَدِيث الخثعمية، وَعند مُحَمَّد: أَن الْحَج يَقع عَن الْحَاج، وَللْآخر ثَوَاب النَّفَقَة. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا فِي الْمَرِيض يَأْمر بِمن يحجّ عَنهُ، ثمَّ يَصح بعد ذَلِك فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر: لَا يجْزِيه، وَعَلِيهِ أَن يحجّ. وَقَالَ أَحْمد وَإِسْحَاق: يجْزِيه الْحَج عَنهُ، وَكَذَا من مَاتَ من مَرضه وَقد حج عَنهُ، فَقَالَ الْكُوفِيُّونَ وَأَبُو ثَوْر: يجْزِيه عَن حجَّة الْإِسْلَام. وَللشَّافِعِيّ قَولَانِ: أَحدهمَا هَذَا، وَالْآخر: لَا يجزيء عَنهُ وَهُوَ أصح الْقَوْلَيْنِ.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: اخْتلف أهل الْعلم فِي معنى هَذَا الحَدِيث، فَإِن جمَاعَة مِنْهُم ذَهَبُوا إِلَى أَن هَذَا الحَدِيث مَخْصُوص بِهِ أَبُو الخثعمية لَا يجوز أَن يتَعَدَّى بِهِ إِلَى غَيره بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: {من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} وَإِن الأَصْل فِي الِاسْتِطَاعَة هِيَ الْقُوَّة فِي الْبدن قَالَ تَعَالَى (فَمَا اسطاعوا أَن يظهروه وَمَا اسطاعوا لَهُ نقباً (آل عمرَان: 79) . وَكَانَ أَبوهَا مِمَّن لَا يَسْتَطِيع فَلم يكن عَلَيْهِ الْحَج، فَلَمَّا لم يكن عَلَيْهِ لعدم استطاعته كَانَت ابْنَته مَخْصُوصَة بذلك الْجَواب، وَمِمَّنْ قَالَ ذَلِك مَالك وَأَصْحَابه لِأَن الْحَج عِنْدهم من عمل الْبدن فَلَا يَنُوب فِيهِ أحد عَن أحد قِيَاسا على الصَّلَاة، وَذكر ابْن حزم من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد الْعَدوي أَن امْرَأَة قَالَت: إِن أبي شيخ كَبِير، فَقَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: حجي عَنهُ، وَلَيْسَ لأحد بعده، وَكَذَا رَوَاهُ مُحَمَّد بن حبَان الْأنْصَارِيّ أَن امْرَأَة قَالَت ... الحَدِيث، وَفِيه: لَيْسَ لأحد بعده، وَضعفهمَا بِالْإِرْسَال وَغَيره. وَقَالَ ابْن التِّين: الِاسْتِطَاعَة أَن يقدر على الْوُصُول إِلَى الْبَيْت من غير خُرُوج عَن عَادَة، فَمن كَانَ عَادَته السّفر مَاشِيا لزمَه أَن يمشي، وَإِن لم يجد رَاحِلَة، وَمن كَانَ عَادَته تكفف النَّاس وَأمكنهُ التَّوَصُّل بِهِ لزمَه، وَإِن لم يجد زادا، وَمن عَادَته الرّكُوب والغناء عَن النَّاس لم يلْزمه حج إلاَّ بوجدان ذَلِك، وَقَالَ ابْن بطال: وَإِلَى هَذَا ذهب ابْن الزبير وَعِكْرِمَة وَالضَّحَّاك، وَعند أبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ: لَا يلْزم إلاَّ من وجد زادا وراحلة، وَهُوَ قَول الْحسن وَمُجاهد وَسَعِيد بن الْمسيب، وَسَعِيد بن جُبَير وَأحمد وَإِسْحَاق وَعبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة وَسَحْنُون، وَظَاهر قَول ابْن حبيب. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: مَالك وَأَصْحَابه رَأَوْا أَن ظَاهر حَدِيث الخثعمية مُخَالف لقَوْله تَعَالَى: {وَللَّه على النَّاس حج الْبَيْت من اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} (آل عمرَان: 79) . أَي: مَا قدرُوا ولاقووا، فَإِذا قَالَ الْقَائِل: فلَان مستطيع أَو غير مستطيع، فَالظَّاهِر مِنْهُ السَّابِق إِلَى الْفَهم هِيَ الْقُدْرَة وإتيانها، فَلَمَّا عَارض ظَاهر الحَدِيث ظَاهر الْقُرْآن الْعَزِيز رجح مَالك ظَاهر الْقُرْآن، وَالْجَوَاب أَن حَدِيث الزَّاد وَالرَّاحِلَة رُوِيَ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من غير وَجه، مِنْهَا صَحِيح وَمِنْهَا حسن.
فَإِن قلت: قَالَ ابْن حزم: الْأَخْبَار فِي ذَلِك فِي أَحدهَا إِبْرَاهِيم الْجَوْزِيّ وَهُوَ سَاقِط مطروح، وَفِي الثَّانِي: الْحَارِث الْأَعْوَر، وَهُوَ مَذْكُور بِالْكَذِبِ. وَالثَّالِث: مُرْسل وَلَا حجَّة فِيهِ، وَالرِّوَايَات فِي ذَلِك عَن الصَّحَابَة واهية كلهَا، وَتَبعهُ على ذَلِك ابْن الْعَرَبِيّ وَغَيره، وَقَالَ أَبُو عمر: رُوِيَ ذَلِك من وُجُوه مِنْهَا: مُرْسلَة. وَمِنْهَا: ضَعِيفَة، وَالْجَوَاب عَن هَذَا أَن حَدِيث أنس الَّذِي مضى ذكره فِي أول بَاب وجوب الْحَج أخرجه الْحَاكِم على شَرط مُسلم وَهُوَ حَدِيث صَحِيح. فَإِن قلت: قَالَ الْبَيْهَقِيّ، وَذكر رِوَايَة حَمَّاد وَسَعِيد: لَا أرى إلاَّ وهما لِأَن ابْن أبي عرُوبَة روى عَن قَتَادَة عَن الْحسن مُرْسلا وَهُوَ الْمَحْفُوظ، وَكَذَا رَوَاهُ يُونُس بن عبيد. قلت: هَذَا ظن مِنْهُ وتوهم من غير جزم، وَالظَّن لَا تضعف بِهِ الْأَحَادِيث وَلَا تقوى. وَقَوله: وَكَذَا رَوَاهُ يُونُس غير موجه لِأَن الدَّارَقُطْنِيّ روى من حَدِيث حُصَيْن بن مُخَارق عَنهُ عَن الْحسن عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الحَدِيث مُسْندًا بِلَفْظ: (يَا رَسُول الله! مَا السَّبِيل؟ قَالَ: الزَّاد وَالرَّاحِلَة) . فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْمُنْذر: الحَدِيث

(9/126)


الَّذِي فِيهِ ذكر الزَّاد وَالرَّاحِلَة لَيْسَ بِمُتَّصِل؟ قلت: الحَدِيث الَّذِي ذَكرْنَاهُ مُتَّصِل. فَإِن قلت: قَالَ ابْن الْمُنْذر أَيْضا: وَالدَّلِيل على عدم اعْتِبَار الرَّاحِلَة حَدِيث: (لَا تحل الصَّدَقَة لَغَنِيّ وَلَا لذِي مرّة سوي) ، فَجعل صِحَة الْجِسْم مُسَاوِيَة للغنى، فَسقط قَول من اعْتبر الرَّاحِلَة؟ قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن الحَدِيث مُفَسّر للاستطاعة فِي الْآيَة، وَهُوَ مُبين عَن الله تَعَالَى: فَإِن قلت: قَالَ إِسْمَاعِيل بن إِسْحَاق: لَو أَن رجلا كَانَ فِي مَوضِع يُمكنهُ الْمَشْي إِلَى الْحَج وَهُوَ لَا يملك رَاحِلَة لوَجَبَ عَلَيْهِ الْحَج لِأَنَّهُ مستطيع إِلَيْهِ سَبِيلا. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن الِاسْتِطَاعَة فسرت بالزاد وَالرَّاحِلَة. فَإِن قلت: مَا رُوِيَ عَن السّلف فِي ذَلِك أَن السَّبِيل الزَّاد وَالرَّاحِلَة، وَإِنَّمَا أَرَادوا بِهِ التَّغْلِيظ على من ملك هَذَا الْمِقْدَار وَلم يحجّ قلت: لَا نسلم ذَلِك، بل أَرَادوا بِهِ التشريع؟
وَفِيه: مَا يدل على أَنه مَا يجوز للرجل إِن يحجّ عَن غَيره، وَإِن لم يكن حج عَن نَفسه لإِطْلَاق الحَدِيث وَلم يسْأَله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أحججت عَن نَفسك أم لَا؟ وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة وَمَالك وَأحمد فِي رِوَايَة، ويحكى كَذَلِك عَن الْحسن وَإِبْرَاهِيم وَأَيوب وجعفر بن مُحَمَّد، وَقَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالشَّافِعِيّ وَإِسْحَاق: لَيْسَ لمن لم يحجّ حجَّة الْإِسْلَام أَن يحجّ عَن غَيره، فَإِن فعل وَقع إِحْرَامه عَن حجَّة الْإِسْلَام. وَقَالَ عبد الْعَزِيز: يَقع الْحَج بَاطِلا وَلَا يَصح عَنهُ، وَلَا عَن غَيره، وَرُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس، وَفِي (مُسْند الشَّافِعِي) : حَدثنَا سعيد بن سَالم عَن سُفْيَان بن سعيد عَن طَارق بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الله بن أبي أوفى، قَالَ: سَأَلته عَن الرجل لم يحجّ إيستقرض لِلْحَجِّ؟ قَالَ: لَا. وَاحْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد (عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سمع رجلا يَقُول: لبيْك عَن شبْرمَة، فَقَالَ: من شبْرمَة؟ قَالَ: أَخ لي أَو قريب لي؟ فَقَالَ: حججْت عَن نَفسك؟ قَالَ: لَا، قَالَ: حج عَن نَفسك، وَحج عَن شبْرمَة) . وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا ضَرُورَة فِي الْإِسْلَام) ، وَالْجَوَاب عَنهُ مَا قَالَه الطَّحَاوِيّ: إِن حَدِيث شبْرمَة مَعْلُول، وَالصَّحِيح أَنه مَوْقُوف على ابْن عَبَّاس، وَالَّذِي يَصح فِي هَذَا الْمَعْنى عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من رِوَايَة ابْن عَبَّاس: سُئِلَ عَن رجل لم يحجّ أيحج عَن غَيره؟ فَقَالَ: دين الله، عز وَجل، أَحَق أَن يَقْضِيه، وَلَيْسَ فِيهِ أَنه لَو أحرم عَن غَيره كَانَ ذَلِك الْإِحْرَام عَن نَفسه، وَقَالَ بَعضهم: يحمل على النّدب لقَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (إبدأ بِنَفْسِك ثمَّ بِمن تعول) . وَقَالَ الْأَثْرَم: قَالَ أَبُو عبد الله: رَفعه عَبدة بن سُلَيْمَان وَهُوَ خطأ، وَقد رَوَاهُ عدَّة مَوْقُوفا على ابْن عَبَّاس لَيْسَ فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَرِوَايَة همام عَن قَتَادَة عَن سعيد بن جُبَير مَوْقُوف، وَكَذَا قَالَ أَبُو قلَابَة عَن ابْن عَبَّاس وَقَالَ: منهيء، قلت: لأبي عبد الله حَدِيث عَبدة بن سُلَيْمَان عَن سعيد عَن قَتَادَة عَن عزْرَة عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس: سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رجلا يُلَبِّي عَن شبْرمَة، قَالَ: لَيْسَ بِصَحِيح، إِنَّمَا هُوَ عَن ابْن عَبَّاس، حَدثنِي غير وَاحِد عَن أبي عرُوبَة عَن قَتَادَة عَن عزْرَة عَن ابْن عَبَّاس مُرْسلا، وَرَوَاهُ روح عَن حَمَّاد بن مسلمة عَن أَيُّوب عَن عِكْرِمَة، وَرَوَاهُ عَن ابْن عَبَّاس مُرْسلا، وَرَوَاهُ إِسْمَاعِيل عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَلم يذكر ابْن عَبَّاس. فَإِن قلت: قَالَ أَبُو عمر: الَّذِي رَفعه حَافظ حفظ مَا قصر عَنهُ غَيره، فَوَجَبَ قبُول زِيَادَته. وَقَالَ ابْن قطان: الرافعون لَهُ ثِقَات فَلَا يضرهم وقف الواقفين لَهُ، إِمَّا لأَنهم حفظوا مَا لم يحفظه أُولَئِكَ، وَإِمَّا لِأَن الواقفين رووا عَن ابْن عَبَّاس رِوَايَة وَأُولَئِكَ رِوَايَة. قلت: هَذَا الحَدِيث مِمَّا يعلم بِالضَّرُورَةِ توقيفه لِأَن الْحَج إِنَّمَا كَانَ فِي سنة عشر سنة حج سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقد سمع الرجل يُلَبِّي عَن غَيره فِي تِلْكَ الْحجَّة، فَكيف يسوغ؟ قَوْله: (أحججت عَن نَفسك؟) إيحج أحد إِلَى غير الْبَيْت؟ وَفِي غير ذَلِك الْوَقْت؟ فَلْيتَأَمَّل هَذَا فَإِنَّهُ وَاضح. وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث الْحسن بن عمَارَة عَن عبد الْملك عَن طَاوُوس: (عَن ابْن عَبَّاس: سمع النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، رحلاً يُلَبِّي عَن نُبَيْشَة، فَقَالَ: أَيهَا الملبي عَن نُبَيْشَة، هَذِه عَن نُبَيْشَة، واحجج عَن نَفسك) . قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: الْحسن مَتْرُوك الحَدِيث، وَالْمَحْفُوظ الصَّحِيح عَن ابْن عَبَّاس حَدِيث شبْرمَة. وَذكر أَبُو نعيم الْأَصْبَهَانِيّ: شبْرمَة هَذَا فِي كتاب الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَذكر لَهُ هَذَا الحَدِيث، وَأَنه توفّي فِي حَيَاة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأما قَوْله: (لَا صرورة فِي الْإِسْلَام) فقد قَالَ الْخطابِيّ: إِن الصرورة هُوَ الَّذِي أقلع عَن النِّكَاح بِالْكُلِّيَّةِ وَأعْرض عَنهُ كرهبان النَّصَارَى، وَله معنى آخر، وَهُوَ أَنه: الَّذِي لم يحجّ فَيكون مَعْنَاهُ: أَن سنة الدّين أَن لَا يبْقى من النَّاس من يَسْتَطِيع الْحَج إلاَّ ويحج، وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيل على أَن من لم يحجّ

(9/127)


عَن نَفسه لَا يحجّ عَن غَيره. وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا مَبْنِيّ على أَن الْحَج على الْفَوْر أَو التَّرَاخِي، فَذهب الشَّافِعِي إِلَى أَنه على التَّرَاخِي، وَبِه قَالَ الْأَوْزَاعِيّ وَالثَّوْري وَمُحَمّد بن الْحسن، وَهُوَ الْمَرْوِيّ عَن ابْن عَبَّاس وَأنس وَجَابِر وَعَطَاء وطاووس. وَقَالَ مَالك وَأَبُو يُوسُف: هُوَ على الْفَوْر، وَهُوَ قَول الْمُزنِيّ وَقَول جُمْهُور أَصْحَاب أبي حنيفَة، وَلَا نَص لأبي حنيفَة فِي ذَلِك. وَقَالَ أَبُو يُوسُف: مذْهبه يَقْتَضِي أَنه على الْفَوْر، وَهُوَ الصَّحِيح، ذكره الطرطوشي وَاحْتج لَهُم بِمَا رَوَاهُ الْحَاكِم من حَدِيث مهْرَان بن أبي صَفْوَان عَن ابْن عَبَّاس يرفعهُ: (من أَرَادَ الْحَج فليعجل) وَقَالَ أَبُو زرْعَة: مهْرَان لم يعرف، وَقَالَ الْحَاكِم: كَانَ مولى لقريش وَلَا يعرف بِجرح، وَذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) وَصحح حَدِيثه أَيْضا أَبُو مُحَمَّد الإشبيلي، وَفِي لفظ لأبي دَاوُد، من حَدِيث إِسْمَاعِيل بن أبي إِسْحَاق الْملَائي فِيهِ لين، عَن فُضَيْل بن عَمْرو عَن سعيد بن جُبَير عَن عبد الله، أَو عَن الْفضل أَو أَحدهمَا عَن الآخر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أَرَادَ الْحَج فليعجل فَإِنَّهُ قد يمرض الْمَرِيض وَتضِل الضَّالة وَتعرض الْحَاجة) . وَفِي (مُسْند أَحْمد) : (تعجلوا إِلَى الْحَج، يَعْنِي الْفَرِيضَة، فَإِن أحدكُم لَا يدْرِي مَا يعرض لَهُ) . وَاحْتج الشَّافِعِي وَأَصْحَابه بِأَن فَرِيضَة الْحَج نزلت بعد الْهِجْرَة، وَكَانَ الْفَتْح فِي رَمَضَان سنة ثَمَان، فَأَقَامَ عتاب للنَّاس الْحَج سنة ثَمَان بِأَمْر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُقيما بِالْمَدِينَةِ وَمَعَهُ عَامَّة أَصْحَابه، ثمَّ غزا تَبُوك سنة تسع وَلم يحجّ، وَكَانَ انْصِرَافه عَنْهَا قبل الْحَج، فَبعث أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَأَقَامَ للنَّاس الْحَج تِلْكَ السّنة، وَرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مُعْتَمر هُوَ وأزواجه وَأَصْحَابه مَعَ الْقُدْرَة على الْحَج، ثمَّ حج سنة عشر، فَدلَّ على جَوَاز التَّأْخِير.
وَفِيه: دَلِيل على أَن الْمَرْأَة يجوز لَهَا أَن تحج عَن الرجل، وَهُوَ حجَّة عَليّ الْحسن بن حَيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، فِي مَنعه عَن ذَلِك،
وَفِيه: بر الْوَالِدين بِالْقيامِ بمصالحهما من قَضَاء الدُّيُون وَغَيره.
وَفِيه: جَوَاز أَن يُقَال: حجَّة الْوَدَاع بِدُونِ كَرَاهَة.

2 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى {يأتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرِ يَأتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ} (الْحَج: 72) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر قَول الله تَعَالَى: {يأتوك ... } (الْحَج: 72) . إِلَى آخِره. وَإِنَّمَا ذكر هَذِه الْآيَة مترجما بهَا تَنْبِيها على أَن اشْتِرَاط الرَّاحِلَة فِي وجوب الْحَج لَا يُنَافِي جَوَاز الْحَج مَاشِيا مَعَ الْقُدْرَة على الرَّاحِلَة وَعدم الْقُدْرَة، لِأَن الْآيَة اشْتَمَلت على المشاة والركبان، وَذَلِكَ أَن سَبَب نزُول الْآيَة أَنهم كَانُوا لَا يركبون على مَا روى الطَّبَرَانِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، من طَرِيق عَمْرو بن ذَر، رَحمَه الله تَعَالَى. قَالَ: قَالَ مُجَاهِد، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: كَانُوا لَا يركبون، فَأنْزل الله تَعَالَى: {يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . فَأَمرهمْ بالزاد وَرخّص لَهُم فِي الرّكُوب والمتجر، وَأول الْآيَة: {وَأذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ يأتوك ... } (الْحَج: 72) . الْآيَة. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما فرغ إِبْرَاهِيم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من بِنَاء الْبَيْت أمره الله تَعَالَى أَن يُؤذن. قَالَ إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: يَا رب وَمَا يبلغ أذاني؟ قَالَ: أذن وَعلي الْبَلَاغ. فَقَامَ بالْمقَام، وَقيل: على جبل أبي قبيس، وَأدْخل إصبعيه فِي أُذُنَيْهِ، وَأَقْبل بِوَجْهِهِ يَمِينا وَشمَالًا وشرقا وغربا، وَقَالَ: يَا أَيهَا النَّاس! إِن الله يدعوكم إِلَى الْحَج ببيته الْحَرَام، فاسمع من فِي أصلاب الرِّجَال وأرحام النِّسَاء مِمَّن سبق فِي علم الله تَعَالَى أَن يحجّ، فَأَجَابُوا: لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك، فَمن أجَاب يَوْمئِذٍ بِعَدَد حج على قدره، قيل: أول من أَجَابَهُ أهل الْيمن فهم أَكثر النَّاس حجا، وَهَذَا قَول الْجُمْهُور. وَقَالَ قوم: الْمَأْمُور بِالتَّأْذِينِ مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَمر أَن يفعل ذَلِك فِي حجَّة الْوَدَاع، والتوفيق بَين الْقَوْلَيْنِ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا أمره الله بذلك إحْيَاء لسنة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام. قلت: {يأتوك} (الْحَج: 72) . على القَوْل الأول خطاب لإِبْرَاهِيم، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وعَلى القَوْل الثَّانِي لنبينا مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهُوَ مجزوم لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، وَهُوَ قَوْله: {أذِّنْ} (الْحَج: 72) . قَوْله: {رجَالًا} (الْحَج: 72) . نصب على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي {يأتوك} (الْحَج: 72) . وَهُوَ جمع راجل، كَذَا قَالَه أَبُو عبيد فِي (كتاب الْمجَاز) نَحْو: صِحَاب وَصَاحب، وَعَن ابْن عَبَّاس رجَالًا، رجالة، وَقَرَأَ عِكْرِمَة مشددا، وَقَرَأَ مُجَاهِد مخففا. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: جمع الراجل رجل، مثل صَاحب وَصَحب، ورجالة وَرِجَال، والأراجيل جمع الْجمع. قَوْله: {وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . من الضمور، وَهُوَ الهزال، وَقَالَ أَبُو اللَّيْث: {وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . يَعْنِي: الْإِبِل وَغَيرهَا، فَلَا يدْخل بعير وَلَا غَيره الْحرم إلاَّ

(9/128)


وَقد ضمر من طول الطَّرِيق، وضامر بِغَيْر هَاء يسْتَعْمل للمذكر والمؤنث. وَقَالَ النَّسَفِيّ فِي (تَفْسِيره) {وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . حَال معطوفة على: رجال، كَأَنَّهُ قيل: رجَالًا وركبانا، والضامر الْبَعِير المهزول. قَوْله: {يَأْتِين} (الْحَج: 72) . صفة لكل ضامر، لِأَن: كل ضامر، فِي معنى الْجمع أَرَادَ النوق. قَوْله: {من كل فج عميق} (الْحَج: 72) . أَي: من كل طَرِيق بعيد، وَمِنْه قيل: بِئْر عميقة. وَقَرَأَ ابْن مَسْعُود: معيق، فَقَالَ: بِئْر بعيدَة القعر. قَوْله: {ليشهدوا} (الْحَج: 72) . أَي: ليحضروا مَنَافِع لَهُم هِيَ التِّجَارَة، وَقيل: مَنَافِع الْآخِرَة، وَقيل: مَنَافِع الدَّاريْنِ جَمِيعًا، وَتَمام الْآيَة {ويذكروا اسْم الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا البائس الْفَقِير} (الْحَج: 72) . قَوْله: {ويذكروا} (الْحَج: 72) . أَي: وليذكروا اسْم الله فِي أَيَّام مَعْلُومَات يَعْنِي: يَوْم النَّحْر ويومين بعده، وَقَالَ مُجَاهِد وَقَتَادَة: المعلومات: الْأَيَّام الْعشْر، والمعدودات: إيام التَّشْرِيق. قَوْله: {على مَا رزقهم من بَهِيمَة الْأَنْعَام} (الْحَج: 72) . مُتَعَلق بذكروا، وَالْمعْنَى: ويذكروا اسْم الله على ذبح أنعامهم، وَالْمرَاد بِالذكر التَّسْمِيَة، وَهِي قَوْله: بِسم الله وَالله أكبر اللَّهُمَّ مِنْك وَإِلَيْك عَن فلَان، كَانَ الْكفَّار يدعونَ ويذبحون على أَسمَاء أصنامهم، فَبين الله تَعَالَى أَن الْوَاجِب الذّبْح على اسْمه: {بَهِيمَة الْأَنْعَام} (الْحَج: 72) . الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم. قَوْله: {فَكُلُوا مِنْهَا} (الْحَج: 72) . فَهُوَ أَمر إِبَاحَة، وَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة لَا يرَوْنَ وَلَا يسْتَحلُّونَ الْأكل من ذَبَائِحهم. قَوْله: {وأطعموا البائس} (الْحَج: 72) . أَي: الَّذِي اشْتَدَّ فقره، وَقَالَ أَبُو اللَّيْث: البائس الصرير الزَّمن، وَالْفَقِير الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَيْء. وَقَالَ الزّجاج: البائس الَّذِي أَصَابَهُ الْبُؤْس وَهُوَ الشدَّة، وَمَا يتَعَلَّق بذلك من الْفِقْه عرف فِي مَوْضِعه.
فِجَاجا: الطّرُقُ الوَاسِعَةُ

قد جرت عَادَة البُخَارِيّ أَنه إِذا وَقعت لَفْظَة فِي الحَدِيث أَو فِي الْآيَة يذكر نظيرها مِمَّا وَقع فِي الحَدِيث أَو الْقُرْآن، وَذكر هُنَا: فجاجا، يُرِيد بِهِ مَا وَقع فِي قَوْله تَعَالَى: {لتسلكوا مِنْهَا سبلاً فجاجا} (الْحَج: 72) . ثمَّ فسر الفجاج بقوله: الطّرق الواسعة، وَهَكَذَا فَسرهَا الْفراء فِي (الْمعَانِي) فِي سُورَة نوح، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَهُوَ: جمع فج. قَالَ ابْن سَيّده: الْفَج الطَّرِيق الْوَاسِع فِي جبل أَو فِي قبل جبل، وَهُوَ أوسع من الشّعب. وَقَالَ ثَعْلَب: هُوَ مَا انخفض من الطّرق، وَجمع على فجاج، وأفجة، الْأَخِيرَة نادرة. وَقَالَ صَاحب (المنتهي) : فجاج الأَرْض نَوَاحِيهَا. وَفِي (التَّهْذِيب) : {من كل فج عميق} (الْحَج: 72) . أَي: وَاسع غامض.

4151 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عِيسى اقال حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ عنْ يُونُسَ عنِ ابنِ شِهَابٍ أنَّ سالمَ بنَ عَبْدِ الله قَالَ أخبَره أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ رَأيْتُ رَسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَرْكَبُ رَحِلَتَهُ بِذِي الحُلَيْفَةِ ثُمَّ يُهِلُّ حَتَّى تَسْتَوِيَ بِهِ قائِمَةً..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ ذكر الرّكُوب وَذكر الْفَج العميق. أما الرّكُوب فَهُوَ قَوْله: (يركب رَاحِلَته) ، وَأما الْفَج العميق فَهُوَ، ذُو الحليفة، لِأَنَّهُ لَا شكّ أَن بَينهَا وَبَين مَكَّة عشر مراحل، وَهُوَ فج وعميق، وسنبسط الْكَلَام فِيهَا عَن قريب، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَبِمَا ذكرنَا سقط اعْتِرَاض الْإِسْمَاعِيلِيّ، حَيْثُ قَالَ: لَيْسَ فِي الْحَدِيثين شَيْء مِمَّا ترْجم الْبَاب بِهِ، وَلَو وَقع فِي خاطره مَا ذكرنَا من الْمُطَابقَة الْوَاضِحَة لما أقدم إِلَى الإعتراض.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: أَحْمد بن عِيسَى أَبُو عبد الله التسترِي مصري الأَصْل، وَلكنه كَانَ يتجر إِلَى تستر فنسب إِلَيْهَا، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ، كَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي ذَر بنسبته إِلَى أَبِيه، وَوَافَقَهُ أَبُو عَليّ الشبوي، وَأَهْمَلَهُ الْبَاقُونَ، وَابْن وهب هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي، وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَالَّذِي رَأَيْت فِي (مُسْند عبد الله بن وهب) رِوَايَة يُونُس بن عبد الْأَعْلَى عَنهُ: أَنبأَنَا يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن سَالم بن عبد الله عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يهل ملبيا، وَابْن شهَاب مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَسَالم بن عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَأخرجه مُسلم عَن حَرْمَلَة، وَالنَّسَائِيّ عَن عِيسَى بن إِبْرَاهِيم. ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يركب رَاحِلَته) ، وَالرَّاحِلَة من الْإِبِل: الْبَعِير الْقوي على الْأَسْفَار والأحمال، وَالذكر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء، وَالْهَاء فِيهَا للْمُبَالَغَة، وَهِي الَّتِي يختارها الرجل لمركبه ورحله على النجابة، وَتَمام الْخلق وَحسن المنظر، فَإِذا كَانَت فِي جمَاعَة الْإِبِل عرفت. قَوْله: (بِذِي الحليفة) ، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْفَاء، وَفِي

(9/129)


آخِره هَاء وَهِي شَجَرَة مِنْهَا يحرم أهل الْمَدِينَة. وَهِي من الْمَدِينَة على أَرْبَعَة أَمْيَال وَمن مَكَّة على مِائَتي ميل غير ميلين، وَقيل: بَينهَا وَبَين الْمَدِينَة ميل أَو ميلان والميل ثلث فَرسَخ وَهُوَ أَرْبَعَة آلَاف ذِرَاع، وبذي الحليفة عدَّة آبار ومسجدان لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: الْمَسْجِد الْكَبِير الَّذِي يحرم مِنْهُ النَّاس، وَالْمَسْجِد الآخر: مَسْجِد المعرس. وَقَالَ ابْن التِّين: هِيَ أبعد الْمَوَاقِيت من مَكَّة تَعْظِيمًا لإحرام النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (ثمَّ يهل) ، بِضَم الْيَاء: من الإهلال، وَهُوَ رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. قَوْله: (حَتَّى تستوي) أَي: الرَّاحِلَة. قَوْله: (قَائِمَة) ، نصب على الْحَال.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الرّكُوب فِي سفر الْحَج وَالرُّكُوب فِيهِ وَالْمَشْي سَوَاء فِي الْإِبَاحَة، وَالْكَلَام فِي الْأَفْضَلِيَّة، فَقَالَ قوم: الرّكُوب أفضل اتبَاعا للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ولفضل النَّفَقَة فَإِن النَّفَقَة فِيهِ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيل الله سَبْعمِائة ضعف، كَمَا أخرجه أَحْمد من حَدِيث بُرَيْدَة، وَصحح جمَاعَة أَن الْمَشْي أفضل وَبِه قَالَ إِسْحَاق لِأَنَّهُ أَشد على النَّفس، وَفِي حَدِيث صَححهُ الْحَاكِم من حَدِيث ابْن عَبَّاس مَرْفُوعا: (من حج إِلَى مَكَّة مَاشِيا حَتَّى رَجَعَ كتب لَهُ بِكُل خطْوَة سَبْعمِائة حَسَنَة من حَسَنَات الْحرم، قيل: وَمَا حَسَنَات الْحرم؟ قَالَ: كل حَسَنَة بِمِائَة ألف حَسَنَة) . وروى مُحَمَّد بن كَعْب عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: مَا فَاتَنِي شَيْء أَشد عَليّ إلاَّ أَن أكون حججْت مَاشِيا، لِأَن الله تَعَالَى يَقُول: {يأتوك رجَالًا وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) . أَي: ركبانا، فَبَدَأَ بِالرِّجَالِ قبل الركْبَان، وَذكر إِسْمَاعِيل إِبْنِ إِسْحَاق عَن مُجَاهِد قَالَ: أهبط آدم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْهِنْدِ فحج على قَدَمَيْهِ الْبَيْت أَرْبَعِينَ حجَّة، وَعَن ابْن أبي نجيح عَن مُجَاهِد أَن إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل، عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام، حجا ماشيين، وَحج الْحسن بن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، خَمْسَة وَعشْرين حجَّة مَاشِيا وَأَن النجائب لتقاد بَين يَدَيْهِ، وَفعله ابْن جريج وَالثَّوْري. وَفِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث أبي سعيد الْخُدْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (حج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَصْحَابه مشَاة من الْمَدِينَة إِلَى مَكَّة، ثمَّ قَالَ اربطوا على أوساطكم مآزركم وامشوا مشياً خلط الهرولة) . ثمَّ قَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد.
وَفِيه: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أهل حِين اسْتَوَت رَاحِلَته قَائِمَة، واستواؤها كَمَال قِيَامهَا، وَبِه احْتج مَالك وَأكْثر الْفُقَهَاء على أَن يهل الرَّاكِب إِذا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته قَائِمَة، وَاسْتحبَّ أَبُو حنيفَة أَن يكون إهلاله عقيب الصَّلَاة إِذا سلم مِنْهَا، وَقَالَ الشَّافِعِي: يهل إِذا أخذت نَاقَته فِي الْمَشْي، وَمن كَانَ يركب رَاحِلَته قَائِمَة كَمَا يَفْعَله كثير من الْحَاج الْيَوْم فيهل على مَذْهَب مَالك إِذا اسْتَوَى عَلَيْهَا رَاكِبًا. وَقَالَ عِيَاض: جَاءَ فِي رِوَايَة: (أهل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِذا اسْتَوَت النَّاقة) . وَفِي رِوَايَة أُخْرَى: (حَتَّى إِذا اسْتَوَت بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَاحِلَته) ، وَفِي أُخْرَى (حَتَّى تنبعث بِهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَاقَته) ، وَلَا يفهم مِنْهُ أَخذهَا فِي الْمَشْي وَقَالَ أَكثر أَصْحَاب مَالك يسْتَحبّ أَن يهل إِذا اسْتَوَت بِهِ نَاقَته إِن كَانَ رَاكِبًا وَإِن كَانَ رَاجِلا فحين يَأْخُذ فِي الْمَشْي، وَقَالَ الشَّافِعِي: إِن كَانَ رَاكِبًا فَكَذَلِك.

5151 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ قَالَ أخبرنَا الوَلِيدُ قَالَ حدَّثنا الأوْزَاعِي سَمِعَ عَطَاءً يُحَدِّثُ عنْ جَابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ إهْلالَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ حينَ اسْتَوَتْ بِهِ راحِلَتُهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصد الْحَج رَاكِبًا، وَهُوَ مُطَابق لقَوْله: {وعَلى كل ضامر} (الْحَج: 72) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن يزِيد بن زادان التَّمِيمِي الْفراء أَبُو إِسْحَاق تقدم فِي: بَاب غسل الْحَائِض رَأسهَا. الثَّانِي: الْوَلِيد بن مُسلم الْقرشِي الْأمَوِي. مر فِي: بَاب وَقت الْمغرب. الثَّالِث: عبد الرَّحْمَن بن عَمْرو الْأَوْزَاعِيّ. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح، وَإِن كَانَ عَطاء بن يسَار روى عَن جَابر، لَكِن الْأَوْزَاعِيّ لم يرو إلاَّ عَن أبي رَبَاح. الْخَامِس: جَابر بن عبد الله، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: السماع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه مَذْكُور فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِلَا نِسْبَة

(9/130)


إِلَى أَبِيه وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن مُوسَى. وَفِيه: أَنه رازي والوليد وَالْأَوْزَاعِيّ دمشقيان وَعَطَاء مكي.
رَوَاهُ أنَسٌ وَابنُ عَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا

أَي: روى الحَدِيث الْمَذْكُور أنس بن مَالك وَعبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، أما حَدِيث أنس فَسَيَأْتِي فِي: بَاب من بَات بِذِي الحليفة، وَحَدِيث ابْن عَبَّاس سَيَأْتِي فِي: بَاب مَا يلبس الْمحرم.

3 - (بابُ الحَجِّ عَلَى الرَّحْلِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْحَج على الرحل، وَهُوَ بِفَتْح الرَّاء وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة وَفِي آخِره لَام، وَهُوَ للبعير كالسرج للْفرس، وَفِي (الْمُخَصّص) : الرحل مركب للبعير لَا غير، وَيجمع على أرحل ورحال، يُقَال: رحلت الرحل أرحله رحلاً: وَضعته على الْبَعِير، وَكَذَلِكَ: ارتحلته، أَي: وضعت عَلَيْهِ الرحل، ورحلته رحْلَة: شددت عَلَيْهِ أداته، وَقد أَشَارَ البُخَارِيّ بِهَذِهِ التَّرْجَمَة إِلَى أَن ترك التزين والتزوق أفضل كَمَا يَجِيء الْآن أَن عبد الرَّحْمَن حمل أُخْتهَا عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا على قتب.

6151 - وَقَالَ أبانُ حَدثنَا مالِكُ بنُ دِينَار عنِ القَاسِمِ بنِ محَمَّدٍ عنْ عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعَثَ معَها أخاهَا عَبْدَ الرَّحْمانِ فأعْمَرَهَا مِنَ التَّنْعِيمِ وحَمَلَهَا عَلَى قَتَبٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (على قتب) لِأَن القتب هُوَ الرحل الصَّغِير على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَأَبَان بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وبالنون منصرفا وَغير منصرف: ابْن يزِيد الْعَطَّار الْبَصْرِيّ، وَمَالك بن دِينَار الزَّاهِد الْبَصْرِيّ التَّابِعِيّ النَّاجِي، بالنُّون وَالْجِيم وياء النِّسْبَة، مَاتَ سنة ثَلَاث وَعشْرين وَمِائَة، وَلم يخرج البُخَارِيّ لَهُ غير هَذَا الحَدِيث، وَالقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) وَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد بن عُثْمَان الوَاسِطِيّ حَدثنَا سهل بن أَحْمد وَعلي بن الْعَبَّاس البَجلِيّ وَيحيى بن صاعد، قَالُوا: حَدثنَا عَبدة بن عبد الله حَدثنَا حرمي ابْن عمار حَدثنَا أبان يَعْنِي: ابْن يزِيد الْعَطَّار حَدثنَا مَالك فَذكره. قَوْله: (مَعهَا) ، أَي: مَعَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَوْله: عبد الرَّحْمَن هُوَ ابْن أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ شَقِيق عَائِشَة، وَأمّهَا أم رُومَان بنت عَامر، وَكَانَ اسْم عبد الرَّحْمَن فِي الْجَاهِلِيَّة عبد الْعُزَّى، وَقيل: عبد الْكَعْبَة، فَسَماهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عبد الرَّحْمَن، رُوِيَ لَهُ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَمَانِيَة أَحَادِيث اتفقَا على ثَلَاثَة، مَاتَ بالحبشي على اثْنَي عشر ميلًا من مَكَّة، فَحمل وَدفن فِي مَكَّة فِي إمرة مُعَاوِيَة سنة ثَلَاث وَخمسين. قَوْله: (فأعمرها) ، أَي: حملهَا على الْعمرَة. قَوْله: (من التَّنْعِيم) ، بِفَتْح التَّاء المثناء من فَوق وَسُكُون النُّون وَكسر الْعين الْمُهْملَة: مَوضِع عِنْد طرف حرم مَكَّة من جِهَة الْمَدِينَة على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة. قَوْله: (على قتب) ، بِفَتْح التَّاء المثناء من فَوق وَفِي آخِره بَاء مُوَحدَة: وَهُوَ رَحل صَغِير على قدر السنام، وَالْجمع: أقتاب، وَيجوز تأنيثه عِنْد الْخَلِيل. وَفِي (الْمُحكم) : القتب والقتب: إكاف الْبَعِير. وَفِي (الْمُخَصّص) : وَقيل: القتب لبعير الْحمل، والقتب بِالْكَسْرِ لبعير السانية.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ قوم مِنْهُم عَمْرو بن دِينَار على أَن وَقت الْعمرَة لمن كَانَ بِمَكَّة هُوَ التَّنْعِيم، وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من التَّابِعين وَغَيرهم، مِنْهُم أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَآخَرُونَ: وَقت الْعمرَة لمن كَانَ بِمَكَّة الْحل، وَهُوَ خَارج الْحرم: فَمن أَي الْحل أَحْرمُوا بهَا جَازَ، سَوَاء ذَلِك التَّنْعِيم أَو غَيره من الْحل. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: إِنَّه قد يجوز أَن يكون النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قصد إِلَى التَّنْعِيم لِأَنَّهُ كَانَ أقرب الْمحل مِنْهَا، لِأَن غَيره من الْحل لَيْسَ هُوَ فِي ذَلِك كَهُوَ، وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون أَرَادَ بِهِ التَّوْقِيت لأهل مَكَّة فِي الْعمرَة، فَنَظَرْنَا فِي ذَلِك فَإِذا يزِيد بن سِنَان قد حَدثنَا، قَالَ: حَدثنَا عُثْمَان بن عمر، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَامر صَالح بن رستم عَن ابْن أبي مليكَة (عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَت: دخل عَليّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بسرف وَأَنا أبْكِي، فَقَالَ: مَا ذَاك؟ قلت: حِضْت. قَالَ: فَلَا تبْكي، إصنعي مَا يصنع الْحَاج، فقدمنا مَكَّة ثمَّ أَتَيْنَا منى ثمَّ غدونا إِلَى عَرَفَة ثمَّ رمينَا الْجَمْرَة، تِلْكَ الْأَيَّام، فَلَمَّا كَانَ يَوْم النَّفر فَنزل الحصبة، قَالَت: وَالله مَا نزلها إلاَّ من أَجلي، فَأمر عبد الرَّحْمَن بن أبي

(9/131)


بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ فَقَالَ: إحمل أختك فأخرجها من الْحرم. قَالَت: وَالله مَا ذكر الْجِعِرَّانَة وَلَا التَّنْعِيم فلتهل بِعُمْرَة، فَكَانَ أدناها من الْحرم التَّنْعِيم، فَأَهْلَلْت بِعُمْرَة، فطفنا بِالْبَيْتِ وسعينا بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ أَتَيْنَا فارتحل، فَأخْبرت عَائِشَة أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يقْصد لما أَرَادَ أَن يعمرها إلاَّ إِلَى الْحل لَا إِلَى مَوضِع مِنْهُ بِعَيْنِه خَاصّا، وَأَنه إِنَّمَا قصد بهَا عبد الرَّحْمَن التَّنْعِيم لِأَنَّهُ كَانَ أقرب الْحل إِلَيْهِم لَا لِمَعْنى فِيهِ يبين بِهِ من سَائِر الْحل غَيره، فَثَبت بذلك أَن وَقت نزُول أهل مَكَّة لعمرتهم الْحل، وَأَن التَّنْعِيم فِي ذَلِك وَغَيره سَوَاء.،
وَقَالَ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ: شُدُّوا الرِّحَالَ فِي الحَجِّ فإنَّهُ أحَدُ الجِهَادَيْنِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، لِأَن الرّحال جمع رَحل، وَقد ذكرنَا أَن القتب هُوَ الرحل الصَّغِير. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله عبد الرَّزَّاق وَسَعِيد بن مَنْصُور من طَرِيق إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ (عَن عَابس بن ربيعَة أَنه سمع عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، يَقُول وَهُوَ يخْطب: إِذا وضعتم السُّرُوج فشدوا الرّحال إِلَى الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّهُ أحد الجهادين) . سَمَّاهُ جهادا لِأَنَّهُ يُجَاهد فِيهِ نَفسه بِالصبرِ على مشقة السّفر وَترك الملاذ ودرء الشَّيْطَان عَن الشَّهَوَات، وعابس بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وبالسين الْمُهْملَة.
وَقَالَ محَمَّدُ بنُ أبِي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ قَالَ حدَّثنا عَزْرَةُ بنُ ثَابِتٍ عنْ ثُمَامَةَ بنَ عَبْدِ الله بنِ أنَس. قَالَ حَجَّ أنَس عَلَى رَحْلٍ ولَمْ يَكُنْ شَحِيحا وحدَّثَ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَجَّ عَلَى رَحْلٍ وكانَتْ زَامِلَتَهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة وَاضِحَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي، بِفَتْح الدَّال الْمُشَدّدَة، وَهُوَ شيخ البُخَارِيّ وَقد علق عَنهُ هُنَا، وَوَقع كَذَلِك فِي غير مَا نسخه، وَذكره عَنهُ غير وَاحِد، وَوَقع فِي بعض النّسخ: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي بكر. الثَّانِي: يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع وَقد تقدم. الثَّالِث: عزْرَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الزَّاي وبالراء: ابْن ثاب، بالثاء الْمُثَلَّثَة ثمَّ بِالْبَاء الْمُوَحدَة: الْأنْصَارِيّ. الرَّابِع: ثُمَامَة، بِضَم الثَّاء الْمُثَلَّثَة وَتَخْفِيف الْمِيم، مر فِي: بَاب من أعَاد الحَدِيث ثَلَاثًا. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته كلهم بصريون. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن جده، وَقد ذكرنَا أَنه مُعَلّق بِمَا فِيهِ من الْخلاف، وَقد ولى لَهُ الْإِسْمَاعِيلِيّ فَرَوَاهُ عَن يُوسُف القَاضِي وَأبي يعلى وَالْحسن، قَالُوا: حَدثنَا مُحَمَّد بن أبي بكر الْمقدمِي، وَرَوَاهُ أَبُو نعيم عَن عَليّ بن هَارُون، وَأَبُو الْفرج النَّسَائِيّ، قَالَا: حَدثنَا يُوسُف القَاضِي حَدثنَا مُحَمَّد، فَذكره. وروى ابْن أبي شيبَة عَن وَكِيع: حَدثنَا زُرَيْع عَن زيد بن أبان (عَن أنس، قَالَ: حج رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، على رَحل وقطيفة تسوأن، وَقَالَ: لَا تَسَاوِي إِلَّا أَرْبَعَة دَرَاهِم) . وَرَوَاهُ ابْن مَاجَه، قَالَ: اللَّهُمَّ حجَّة لَا رِيَاء فِيهَا وَلَا سمعة) . وَقَالَ ابْن أبي شيبَة: حَدثنَا وَكِيع عَن سُفْيَان عَن أبي سِنَان عَن عبد الله بن الْحَارِث أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حج على رَحل فاهتز، وَقَالَ مرّة: فاحتج فَقَالَ: لَا عَيْش إِلَّا عَيْش الْآخِرَة. قَوْله: (وَلم يكن شحيحا) أَي: بَخِيلًا، أَي: لم يكن تَركه الهودج والاكتفاء بالقتب للبخل، بل لمتابعة رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (وَكَانَت) ، أَي: وَكَانَت الرَّاحِلَة الَّتِي ركبهَا زاملته، وَدلّ على هَذَا قَوْله: (على رَحل) ، والزاملة، بالزاي: الْبَعِير الَّذِي يستظهر بِهِ الرحل، يحمل مَتَاعه وَطَعَامه عَلَيْهِ، وَهِي من الزمل وَهُوَ الْحمل، وَالْحَاصِل أَنه لم يكن مَعَه غير رَاحِلَته لحمل مَتَاعه وَطَعَامه وَهُوَ رَاكب عَلَيْهَا، فَكَانَت هِيَ الرَّاحِلَة والزاملة. وَقَالَ ابْن سَيّده: الزاملة هِيَ الدَّابَّة الَّتِي يحمل عَلَيْهَا من الْإِبِل وَغَيرهَا، والزوملة: الْبَعِير الَّتِي عَلَيْهَا أحمالها، فَأَما العير فَهِيَ مَا كَانَ عَلَيْهَا أحمالها، وَمَا لم يكن. وروى سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق هِشَام بن عُرْوَة، قَالَ: كَانَ النَّاس يحجون وتحتهم أَزْوَادهم، وَكَانَ أول من حج وَلَيْسَ تَحْتَهُ شَيْء عُثْمَان بن عَفَّان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.

8151 - حدَّثنا عَمْرُو بنُ عَلِيٍّ قَالَ حدَّثنا أبُو عاصِمٍ قَالَ حدَّثنا أيْمَنْ بن نابِلٍ قَالَ حدَّثنا

(9/132)


القَاسِمُ بنُ مُحَمَّدٍ عَن عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهَا قالَتْ يَا رسولَ الله اعْتَمَرْتُمْ ولَمْ أعْتَمِرْ فَقَالَ يَا عَبْدَ الرَّحْمانِ اذْهَبْ بِأُخْتِكَ فأعْمِرْها مِنَ التَّنْعِيمِ فأحْقَبَهَا عَلى ناقَةٍ فاعْتَمَرَتْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فأحقبها) ، لِأَن مَعْنَاهُ: حملهَا على حقيبة الرحل.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن عَليّ الفلاس. الثَّانِي: أَبُو عَاصِم النَّبِيل واسْمه الضَّحَّاك بن مخلد. الثَّالِث: أَيمن، بِفَتْح الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْمِيم وَفِي آخِره نون: ابْن نابل، بالنُّون وَبعد الْألف بَاء مُوَحدَة وباللام: العابد الزَّاهِد الْفَاضِل، وَكَانَ لَا يفصح لما فِيهِ من اللكنة. الرَّابِع: الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن أبي بكر الصّديق. الْخَامِس: عَائِشَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَشَيخ شَيْخه أَيْضا، وَلكنه روى عَنهُ بالواسطة وَهُوَ أَيْضا بَصرِي، وأيمن مكي تَابِعِيّ وَالقَاسِم مدنِي. وَفِيه: رِوَايَة التَّابِعِيّ عَن التَّابِعِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: رِوَايَة الرجل عَن عمته.
والْحَدِيث أخرجه النَّسَائِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن عبد الْأَعْلَى عَن مُعْتَمر (عَن أَيمن نَحوه، أَنَّهَا قَالَت: يَا رَسُول الله! تخرج نساؤك بِعُمْرَة وَحجَّة وَأَنا أخرج بِحجَّة؟ قَالَ: يَا عبد الرَّحْمَن. .) فَذكره.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فأعمرها) ، بِقطع الْهمزَة أَمر من الإعمار. قَوْله: (فأحقبها) أَي: أردفها أَي: أحقب عبد الرَّحْمَن عَائِشَة، وَمِنْه سمي المردف: الحقب، والمحقب حَبل يشد بِهِ الرحل إِلَى بطن الْبَعِير.

4 - (بابُ فَضْلِ الحَجِّ المَبْرُورِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فضل الْحَج المبرور أَي: المقبول، قَالَه ابْن خالويه، وَقَالَ غَيره: الْحَج المبرور الَّذِي لَا يخالطه شَيْء من المأثم، وَهُوَ من الْبر وَهُوَ اسْم جَامع للخير، يُقَال: بر عمله وبر عمله، بِفَتْح الْبَاء وَضمّهَا، بريرا وبرورا، وأبره الله تَعَالَى. قَالَ الْفراء: بُر حجَّة، فَإِذا قَالُوا: أبر الله حجك قَالُوهُ بِالْألف. وَقَالَ ثَعْلَب: بر حجك لِأَن الْعَامَّة تَقول: بر حجك، بِفَتْح الْبَاء، يجْعَلُونَ الْفِعْل لِلْحَجِّ، وَإِنَّمَا الْحَج مفعول بِهِ مبرور وَلَيْسَ ببار، وَحكى أَبُو عبيد واللحياني وَابْن التياني وَأَبُو الْمعَانِي وَأَبُو نصر فِي آخَرين: بر، بِفَتْح الْبَاء.

9151 - حدَّثنا عَبْدُ العَزيزِ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ سَعْدٍ عنِ الزُّهْرِيِّ عنْ سَعِيدٍ ابنِ المُسَيَّبِ عنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ سُئِلَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيُّ الأعْمَالِ أفْضَلُ قالَ إيمَانٌ بِاللَّه ورسُولِهِ قِيلَ ثُمَّ ماذَا قَالَ جِهَادٌ فِي سَبِيلِ الله قِيلَ ثُمَّ مَاذَا قَالَ حَجٌّ مَبْرُورٌ.
(انْظُر الحَدِيث 62) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والْحَدِيث تقدم فِي كتاب الْإِيمَان فِي: بَاب من قَالَ إِن الْإِيمَان هُوَ الْعَمَل، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن أَحْمد بن يُونُس ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل كِلَاهُمَا عَن إِبْرَاهِيم بن سعد إِلَى آخِره، وَهَهُنَا أخرجه: عَن عبد الْعَزِيز بن عبد الله ابْن يحيى بن عَمْرو أَبُو الْقَاسِم الْقرشِي العامري الأويسي الْمدنِي. وَهُوَ من أَفْرَاد البُخَارِيّ وَبَقِيَّة الْكَلَام مرت هُنَاكَ.

0251 - حدَّثنا عَبْدُ الرَّحْمانِ بنُ المُبَارَكِ قَالَ حدَّثنا خالِدٌ قَالَ أخبرنَا حَبِيبُ بنُ أبي عَمْرَةَ عنْ عائِشَةَ بِنْتِ طَلْحَةَ عنْ عائِشَةَ أُمِّ المؤْمِنِينَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها قالَتْ يَا رسولَ الله نَرَي الجِهَادَ أفْضَلَ العمَلَ أفَلاَ نُجَاهِدُ قَالَ لاَ لاكِنْ أفْضلَ الجِهادِ حَجٌّ مَبرُورٌ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: عبد الرَّحْمَن بن الْمُبَارك بن عبد الله العيشي، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالشين الْمُعْجَمَة. الثَّانِي: خَالِد بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن الطَّحَّان. الثَّالِث: حبيب ابْن أبي عمْرَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفتح الرَّاء وَفِي آخرهَا هَاء: القصاب. الرَّابِع: عَائِشَة بنت طَلْحَة بنت

(9/133)


عبيد الله التميمية القرشية، وَكَانَت من أجمل نسَاء قُرَيْش، أصدقهَا مُصعب بن الزبير ألف ألف دِرْهَم. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة الصديقة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار كَذَلِك فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه لَيْسَ أَخا لعبد الله بن الْمُبَارك الْفَقِيه الْمَشْهُور فَإِنَّهُ مروزي وَشَيخ البُخَارِيّ بَصرِي من بني عَيْش. وَفِيه: أَن خَالِدا واسطي وَأَن حبيبا كُوفِي وَأَن عَائِشَة بنت طَلْحَة مَدَنِيَّة. وَفِيه: رِوَايَة التابعية عَن الصحابية. وَفِيه: رِوَايَتهَا عَن خَالَتهَا، فَإِن عَائِشَة الصديقة خَالَة عَائِشَة بنت طَلْحَة لِأَن أمهَا أم كُلْثُوم بنت أبي بكر الصّديق، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد: عَن مُسَدّد عَن خَالِد بن عبد الله، وَفِي الْحَج أَيْضا: عَن مُسَدّد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد، وَفِي الْجِهَاد أَيْضا: عَن قبيصَة عَن سُفْيَان. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عَن جرير عَن حبيب بن أبي عمْرَة نَحوه. وَأخرجه ابْن مَاجَه، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فِيهِ عَن أبي بكر بن أبي شيبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَفلا نجاهد؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الإستخبار. قَوْله: (قَالَ: لَا) ، أَي: لَا تجاهدن، قَوْله: (لَكِن) ، فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين بِضَم الْكَاف وَالنُّون لجَماعَة النِّسَاء خطابا لَهُنَّ، وَقَالَ الْقَابِسِيّ: هَذَا هُوَ الَّذِي تميل إِلَيْهِ نَفسِي، وَفِي رِوَايَة الْحَمَوِيّ: (وَلَكِن) ، بِكَسْر الْكَاف وَزِيَادَة الْألف قبلهَا بِلَفْظ الِاسْتِدْرَاك. قلت: فعلى هَذِه الرِّوَايَة اسْم لَكِن هُوَ قَوْله: (أفضل الْجِهَاد) بِالنّصب وخبرها هُوَ قَوْله: (حج مبرور) ، والمستدرك مِنْهُ يُسْتَفَاد من السِّيَاق تَقْدِيره: لَيْسَ لَكِن الْجِهَاد وَلَكِن أفضل الْجِهَاد فِي حقكن حج مبرور، وعَلى الرِّوَايَة الأولى: أفضل الْجِهَاد مَرْفُوع على الِابْتِدَاء وَخَبره هُوَ قَوْله: لَكِن، تَقْدِيره: أفضل الْجِهَاد لَكِن حج مبرور، وَفِي لفظ النَّسَائِيّ: (أَلا نخرج فنجاهد مَعَك؟ . . فَإِنِّي لَا أرى عملا فِي الْقُرْآن الْعَظِيم أفضل من الْجِهَاد؟ فَقَالَ: لَكِن أحسن الْجِهَاد وأجمله حج الْبَيْت حج مبرور) . وَفِي رِوَايَة ابْن مَاجَه: (عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قلت: يَا رَسُول الله! هَل على النِّسَاء جِهَاد؟ قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: عَلَيْهِنَّ جِهَاد لَا قتال فِيهِ: الْحَج وَالْعمْرَة) . وَعِنْده أَيْضا عَن أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (الْحَج جِهَاد كل ضَعِيف) . وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ رَحمَه الله تَعَالَى، بِسَنَد لَا بَأْس بِهِ عَن أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (جِهَاد الْكَبِير وَالصَّغِير والضعيف وَالْمَرْأَة: الْحَج وَالْعمْرَة) . وَإِنَّمَا قيل لِلْحَجِّ جِهَاد لِأَنَّهُ يُجَاهد فِي نَفسه بالكف عَن شهواتها والشيطان وَدفع الْمُشْركين عَن الْبَيْت باجتماع الْمُسلمين إِلَيْهِ من كل نَاحيَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ الْمُهلب: فِي هَذَا وَفِي إِذن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لَهُنَّ بِالْحَجِّ إبِْطَال إفْك المشغبين وَكذب الرافضة فِيمَا اختلقوه من الْكَذِب من أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لأزواجه: هَذِه، ثمَّ ظُهُور الْحصْر) وَهَذَا ظَاهر الاختلاق لِأَنَّهُ حضهن على الْحَج وبشرهن أَنه أفضل جهادهن، وَإِذن عمر لَهُنَّ، وسير عُثْمَان مَعَهُنَّ حجَّة قَاطِعَة على مَا كذب بِهِ على النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي أَمر أم الْمُؤمنِينَ، وَكَذَا قَوْلهم عَنهُ: إِنَّه قَالَ لَهَا: تقاتلي عليا وَأَنت لَهُ ظالمة، فَإِنَّهُ لَا يَصح. انْتهى.
قَوْله: (وَأذن عمر لَهُنَّ وسير عُثْمَان مَعَهُنَّ) أَرَادَ بِهِ الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى فِي: بَاب حج النِّسَاء فِي أَوَاخِر كتاب الْحَج، قَالَ: قَالَ لي أَحْمد بن مُحَمَّد: (حَدثنَا إِبْرَاهِيم عَن أَبِيه عَن جده: أذن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَزْوَاج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي آخر حجَّة حَجهَا، فبعص مَعَهُنَّ عُثْمَان بن عَفَّان وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم) . قلت: إِنْكَار الْمُهلب قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: هَذِه ثمَّ ظُهُور الْحصْر لَا وَجه لَهُ، فَإِن أَبَا دَاوُد رَوَاهُ فِي (سنَنه) وَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن مُحَمَّد النُّفَيْلِي، قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد عَن زيد بن أسلم عَن أبي وَاقد اللَّيْثِيّ عَن أَبِيه، قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول لأزواجه فِي حجَّة الْوَدَاع: هَذِه ثمَّ ظُهُور الْحصْر، قَالَ ابْن الْأَثِير: وَفِي الحَدِيث (أفضل الْجِهَاد وأجمله حج مبرور ثمَّ لُزُوم الْحصْر) . وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ لأزواجه: (هَذِه ثمَّ لُزُوم الْحصْر) أَي: إنكن لَا تعدن تخرجن من بيوتكن وتلزمن الْحصْر، هِيَ: جمع الْحَصِير الَّذِي يبسط فِي الْبَيْت، وتضم الصَّاد وتسكن تَخْفِيفًا.
وَأما حَدِيث: تقاتلي عليا وَأَنت لَهُ ظالمة، فَلَيْسَ بِمَعْرُوف، وَالْمَعْرُوف أَن

(9/134)


هَذَا قَالَه للزبير بن الْعَوام، وَالله أعلم، وَسَنَد حَدِيثه ضَعِيف، وَقَالَ الْمُهلب أَيْضا، قَوْله: (لَكِن أفضل الْجِهَاد حج مبرور) تَفْسِير قَوْله: {وَقرن فِي بيوتكن وَلَا تبرجن} (الْأَحْزَاب: 33) . الْآيَة لَيْسَ على الْفَرْض لملازمة الْبيُوت كَمَا زعم من أَرَادَ تنقيص أم الْمُؤمنِينَ فِي خُرُوجهَا إِلَى الْعرَاق للإصلاح بَين الْمُسلمين، وَهَذَا الحَدِيث يخرج الْآيَة عَمَّا تأولوها، لِأَنَّهُ قَالَ: (لَكِن أفضل الْجِهَاد حج مبرور) فَدلَّ أَن لَهُنَّ جهادا غير الْحَج، وَالْحج أفضل مِنْهُ. فَإِن قيل: النِّسَاء لَا يحل لَهُنَّ الْجِهَاد؟ قيل لَهُ: قَالَت حَفْصَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: قدمت علينا امْرَأَة غزت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سِتّ غزوات، وَقَالَت: كُنَّا نداوي الكلمى ونقوم على المرضى. وَفِي (الصَّحِيح) : وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا إراد الْغَزْو أَقرع بَين نِسَائِهِ فأيتهن خرج سهمها غزا بهَا. وَقَالَ ابْن بطال: وَإِنَّمَا جعل الْجِهَاد حَدِيث أبي هُرَيْرَة أفضل من الْحَج لِأَن ذَلِك كَانَ فِي أول الْإِسْلَام وقلته، وَكَانَ الْجِهَاد فرضا مُتَعَيّنا على كل أحد، فَأَما إِذا ظهر الْإِسْلَام وَفَشَا وَصَارَ الْجِهَاد من فروض الْكِفَايَة على من قَامَ بِهِ، فالحج حِينَئِذٍ أفضل، ألاَّ ترى قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لعَائِشَة: (أفضل جهادكن الْحَج) ، لما لم تكن من أهل الْغناء وَالْجهَاد للْمُشْرِكين، فَإِن حل الْعَدو ببلدة واجتيج إِلَى دَفعه وَكَانَ لَهُ ظهورة وَقُوَّة وَخيف مِنْهُ فرض الْجِهَاد على الْأَعْيَان كَانَ أفضل من الْحَج.

1251 - حدَّثنا آدَمُ حَدثنَا شُعْبَةُ قَالَ حدَّثنا سَيَّارٌ أَبُو الحَكَمِ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا حازِمٍ قَالَ سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ سَمِعْتُ النبيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ مَنْ حَجَّ لله فلَمْ يَرْفُثْ ولَمْ يَفْسُقْ رجَعَ كَيَوْمِ ولَدَتْهُ أمُّهُ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (رَجَعَ كَمَا وَلدته أمه) .
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: آدم بن أبي إِيَاس. الثَّانِي: شُعْبَة بن الْحجَّاج. الثَّالِث: سيار، بِفَتْح السِّين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَبعد الْألف رَاء على وزن فعال، فَقَالَ أَبُو الحكم: بِفتْحَتَيْنِ، مر فِي أول التَّيَمُّم. الرَّابِع: أَبُو حَازِم، بِالْحَاء الْمُهْملَة وَالزَّاي: اسْمه سُلَيْمَان الْأَشْجَعِيّ مَاتَ فِي أَيَّام عمر بن عبد الْعَزِيز، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَأما أَبُو حَازِم سَلمَة بن دِينَار صَاحب سهل بن سعد فَلم يسمع من أبي هُرَيْرَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. الْخَامِس: أَبُو هُرَيْرَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السماع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: راويان مذكوران بالكنية أَحدهمَا باسمه. وَفِيه: راويان ذكرا بِلَا نِسْبَة إِلَى الْأَب، وَفِيه: أَن شَيْخه من خُرَاسَان وَسكن عسقلان وَشعْبَة وسيار واسطيان وَأَبُو حَازِم كُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم عَن هشيم بن مَنْصُور.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (من حج لله) ، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ: (من حج هَذَا الْبَيْت) ، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق جرير عَن مَنْصُور: (من أَتَى هَذَا الْبَيْت) ، وَفِي رِوَايَة الدَّارَقُطْنِيّ من طَرِيق الْأَعْمَش عَن أبي حَازِم بِلَفْظ: (من حج أَو اعْتَمر) ، وَفِي رِوَايَة التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن مَسْعُود: (تابعوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة فَإِنَّهُمَا ينفيان الْفقر والذنُوب كَمَا يَنْفِي الْكِير خبث الْحَدِيد وَالذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَيْسَ لِلْحَجِّ المبرور ثَوَاب دون الْجنَّة) . وَفِي رِوَايَة أَحْمد من حَدِيث جَابر: (الْحَج المبرور لَيْسَ لَهُ جَزَاء إلاَّ الْجنَّة، قَالُوا: يَا رَسُول الله! مَا الْحَج المبرور؟ قَالَ: إطْعَام الطَّعَام وإفشاء السَّلَام، وَفِيه مقَال) ، وَقَالَ أَبُو حَاتِم: هَذَا حَدِيث مُنكر يشبه الْمَوْضُوع، وَفِي رِوَايَة الْحَاكِم من حَدِيث جَابر: (سُئِلَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مَا بر الْحَج؟ قَالَ إطْعَام الطَّعَام وَطيب الْكَلَام) . وَقَالَ: صَحِيح الْإِسْنَاد وَلم يخرجَاهُ. قَوْله: (فَلم يرْفث) ، بِضَم الْفَاء وَكسرهَا، الْفَاء فِيهِ عطف على الشَّرْط، أَعنِي قَوْله: (من) ، وَيَرْفث بِضَم الْفَاء وَكسرهَا وَفتحهَا، والأفصح الْفَتْح فِي الْمَاضِي، وَالضَّم فِي الْمُسْتَقْبل. وَقَالَ ابْن سَيّده: الرَّفَث: الْجِمَاع، وَقد رفث إِلَيْهَا ورفث فِي كَلَامه يرْفث رفثا وأرفث: أفحش، والرفث: التَّعْرِيض بِالنِّكَاحِ. وَفِي (الْجَامِع) : الرَّفَث اسْم جَامع لكل شَيْء مِمَّا يُرِيد الرجل من الْمَرْأَة. قَوْله: (وَلم يفسق) ، الْفسق الْعِصْيَان وَالتّرْك لأمر الله تَعَالَى، وَالْخُرُوج عَن طَرِيق الْحق. فسق يفسق ويفسق فسقا وفسوقا، وَفسق، بِالضَّمِّ عَن اللحياني، وَقَالَ: رَوَاهُ الْأَحْمَر وَلم يعرفهُ الْكسَائي. وَقيل: الْفسق الْخُرُوج عَن الدّين، وَرجل فَاسق وفسيق وَفسق، وَيُقَال فِي الْمَرْء: يَا فسق، وللأنثى يَا فساق، وَالْفِسْق الْخُرُوج عَن الْأَمر، ذكره ابْن سَيّده. وَقَالَ الْقَزاز: أَصله من قَوْلهم: انفسقت

(9/135)


الرّطبَة إِذا أخرجت من قشرها، فَسُمي بذلك الْفَاسِق لِخُرُوجِهِ من الْخَيْر وانسلاخه مِنْهُ. وَقيل: الْفَاسِق الْجَائِز. قَالُوا: وَالْفِسْق والفسوق فِي الدّين اسْم إسلامي لم يسمع فِي الْجَاهِلِيَّة وَلَا يُوجد فِي أشعارهم، وَإِنَّمَا هُوَ مُحدث سمي بِهِ الْخَارِج عَن الطَّاعَة بعد نزُول الْقُرْآن الْعَظِيم. وَقَالَ ابْن الْأَعرَابِي: لم يسمع قطّ فِي كَلَام الْجَاهِلِيَّة وَلَا فِي شعرهم: فَاسق، وَهَذَا عَجِيب، وَهُوَ كَلَام عَرَبِيّ. قَوْله: (رَجَعَ كَيَوْم وَلدته أمه) أَي: رَجَعَ مشابها لنَفسِهِ فِي الْبَراء من الذُّنُوب فِي يَوْم وَلدته أمه، وَرجع بِمَعْنى: صَار، جَوَاب الشَّرْط. وَلَفظ: (كَيَوْم) يجوز فِيهِ الْبناء على الْفَتْح. فَإِن قلت: ذكر هُنَا الرَّفَث والفسوق وَلم يذكر الْجِدَال، كَمَا فِي الْقُرْآن؟ قلت: اعْتِمَادًا على الْآيَة، وَالله أعلم.

5 - (بابُ فَرْضِ مَوَاقِيتِ الحَجِّ وَالعُمْرَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان فرض مَوَاقِيت الْحَج وَالْعمْرَة، وَالْفَرْض هُنَا يجوز أَن يكون بِمَعْنى التَّقْدِير، وَأَن يكون بِمَعْنى الْوُجُوب. وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر بِمَعْنى الْوُجُوب وَهُوَ نَص البُخَارِيّ، وَاسْتدلَّ عَلَيْهِ بقوله فِي: بَاب مِيقَات أهل الْمَدِينَة: وَلَا يهلوا قبل ذِي الحليفة. قلت: قَوْله: (وَلَا يهلوا، قبل ذِي الحليفة) لَا يدل على عدم جَوَاز الإهلال من قبل ذِي الحليفة، لاحْتِمَال أَن يكون ذَلِك ترك الِاسْتِحْبَاب فِي الإهلال قبل ذِي الحليفة، وَأَن يكون معنى قَوْله: (وَلَا يهلوا) : وَلَا يسْتَحبّ لَهُم أَن يهلوا قبل ذِي الحليفة أَلا ترى أَن الْجُمْهُور جوزوا التَّقَدُّم على الْمَوَاقِيت، على أَن ابْن الْمُنْذر نقل الْإِجْمَاع على الْجَوَاز فِي التَّقَدُّم عَلَيْهَا. وَمذهب طَائِفَة من الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة: الْأَفْضَل فِي التَّقَدُّم، وَالْمَنْقُول عَن مَالك كَرَاهَة ذَلِك لَا يدل على أَنه يرى عدم الْجَوَاز، وَكَذَلِكَ الْمَنْقُول عَن عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه كره أَن يحرم من خُرَاسَان. فَإِن قلت: نقل عَن إِسْحَاق وَدَاوُد عدم الْجَوَاز. قلت: مخالفتهما لِلْجُمْهُورِ لَا تعْتَبر، وَلَئِن سلمنَا ذَلِك فَمن أَيْن علم أَن البُخَارِيّ مَعَهُمَا فِي ذَلِك؟ فَإِن قلت: تنصيصه فِي التَّرْجَمَة على لفظ الْفَرْض يدل على أَنه يرى ذَلِك. قلت: لَا نسلم لاحْتِمَال أَن يكون أَرَادَ بِالْفَرْضِ معنى التَّقْدِير، بل الرَّاجِح هَذَا لِأَنَّهُ وَقع فِي بعض النّسخ: بَاب فضل مَوَاقِيت الْحَج وَالْعمْرَة، وَقَالَ هَذَا الْقَائِل أَيْضا: وَيُؤَيِّدهُ الْقيَاس على الْمِيقَات الزماني، فقد أَجمعُوا على أَنه لَا يجوز التَّقَدُّم عَلَيْهِ. قلت: لَا نسلم صِحَة هَذَا الْقيَاس لوُجُود الْفَارِق وَهُوَ أَن الْمِيقَات الزماني مَنْصُوص عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، بِخِلَاف الْمِيقَات المكاني. ثمَّ إعلم أَن الْمَوَاقِيت جمع: مِيقَات، على وزن: مفعال، وَأَصله موقات قلبت الْوَاو يَاء لسكونها وانكسار مَا قبلهَا، من: وَقت الشَّيْء يقته، إِذا بَين حَده، وَكَذَا وقته يوقته، ثمَّ اتَّسع فِيهِ فَأطلق على الْمَكَان، فَقيل للموضع: مِيقَات، والميقات يُطلق على الزماني والمكاني، وَهَهُنَا المُرَاد المكاني.

2251 - حدَّثنا مالِكُ بنُ إسْماعِيلَ قَالَ حدَّثنا زُهَيْرٌ قَالَ حدَّثني زَيْدُ بنُ جُبَيْرٍ أنَّهُ أَتَى عَبْدَ الله بنَ عُمَر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا فِي مَنْزِلِهِ ولَهُ فُسْطَاطٌ وسُرادِقٌ فسَألْتُهُ مِنْ أيْنَ يَجُوزُ أنْ أعْتَمِر قَالَ فرَضَهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنا وَلأِهلِ المَدينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ وَلأِهْلِ الشأمِ الجُحْفَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ بَيَان تَوْقِيت لأهل هَذِه الْأَمَاكِن الثَّلَاثَة.
ذكر رِجَاله: وهم: أَرْبَعَة: الأول: مَالك بن إِسْمَاعِيل أَبُو غَسَّان، مر فِي: بَاب المَاء الَّذِي يغسل بِهِ شعر الْإِنْسَان. الثَّانِي: زُهَيْر، بِضَم الزَّاي وَفتح الْهَاء مصغر الزهر: ابْن مُعَاوِيَة الْجعْفِيّ، مر فِي: بَاب لَا يستنجي بروث. الثَّالِث: زيد بن جُبَير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة: ابْن حرمل الْجُشَمِي، من بني جشم بن مُعَاوِيَة. الرَّابِع: عبد الله بن عمر.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن رُوَاته الثَّلَاثَة كوفيون. وَفِيه: أَن زيد بن جُبَير لَيْسَ لَهُ فِي البُخَارِيّ إلاَّ هَذَا الحَدِيث، وَفِي الروَاة زيد بن جبيرَة، بِفَتْح الْجِيم وَزِيَادَة هَاء فِي آخِره، لم يخرج لَهُ البُخَارِيّ شَيْئا.
وَهَذَا الحَدِيث بِهَذَا الْوَجْه من أَفْرَاد البُخَارِيّ، رَحمَه الله.

(9/136)


ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَله فسطاط) ، هُوَ بَيت من شعر، وَفِيه سِتّ لُغَات: فسطاط وفستاط وفساط، بِالضَّمِّ وَالْكَسْر فِيهِنَّ، وَقد بسطنا الْكَلَام فِيهِ فِيمَا مضى. قَوْله: (وسرادق) ، هِيَ وَاحِدَة السرادقات الَّتِي تحد فَوق صحن الدَّار، وكل بَيت من كُرْسُف فَهُوَ سرادق، وكل مَا أحَاط بِشَيْء فَهُوَ سرادق، وَمِنْه: {وأحاط بهم سرادقها} (الْكَهْف: 9) . وَقيل: السرادق مَا يَجْعَل حول الخباء بَينه وَبَينه فسحة كالحائط، وَنَحْوه، وَظَاهره أَن ابْن عمر كَانَ مَعَه أَهله وَأَرَادَ سترهم بذلك لَا للتفاخر. قَوْله: (فَسَأَلته) ، فِيهِ الْتِفَات لِأَنَّهُ قَالَ أَولا: إِنَّه أَتَى ابْن عمر، فَكَانَ السِّيَاق يَقْتَضِي أَن يَقُول: فَسَأَلَهُ، وَوَقع عِنْد الْإِسْمَاعِيلِيّ: فَدخلت عَلَيْهِ فَسَأَلته. قَوْله: (فَرضهَا) ، أَي: قدرهَا وبيَّنها، وَالضَّمِير الْمَنْصُوب فِيهِ يرجع إِلَى الْمَوَاقِيت بِالْقَرِينَةِ الحالية، قَالَ بَعضهم: وَيحْتَمل أَن يكون المُرَاد: أوجبهَا، وَبِه يتم مُرَاد المُصَنّف، وَيُؤَيِّدهُ قرينَة قَول السَّائِل: من أَيْن يجوز؟ قلت: من أَيْن علم أَن البُخَارِيّ فرض الإهلال من مِيقَات من الْمَوَاقِيت حَتَّى يكون تَفْسِير قَوْله: فَرضهَا، بِمَعْنى: أوجبهَا حَتَّى يتم مُرَاده.
قَوْله: (لأهل نجد) ، النجد فِي اللُّغَة: مَا أشرف من الأَرْض واستوى، وَيجمع على: أنجد وأنجاد ونجود ونجد، بِضَمَّتَيْنِ. وَقَالَ الْقَزاز: سمي نجدا لعلوه. وَقيل: سمي بذلك لصلابة أرضه وَكَثْرَة حجارته وصعوبته، من قَوْلهم: رجل نجد إِذا كَانَ قَوِيا شَدِيدا. وَقيل: يُسمى نجد الْفَزع من يدْخلهُ لاستيحاشه واتصال فزع السالكين لَهُ، من قَوْلهم: رجل نجد، إِذا كَانَ فَزعًا، ونجد مُذَكّر. وَلَو أنثه أحد ورده على الْبَلَد لجَاز لَهُ ذَلِك، وَالْعرب تَقول: نجد ونجد، بِفَتْح النُّون وَضمّهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيّ فِي (أَسمَاء الْبلدَانِ) : مَا بَين الْحجاز إِلَى الشَّام إِلَى العذيب إِلَى الطَّائِف، فالطائف من نجد وَأَرْض الْيَمَامَة والبحرين إِلَى عمان، وَقَالَ أَبُو عمر: نجد، مَا بَين جرش إِلَى سَواد الْكُوفَة، وحدَّه مِمَّا يَلِي الْمغرب: الْحجاز، وَعَن يسَار الْكَعْبَة الْيمن، ونجد كلهَا من عمل الْيَمَامَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: نجد مَا بَين العذيب إِلَى ذَات عرق وَإِلَى الْيَمَامَة وَإِلَى جبل طَيء وَإِلَى وجرة وَإِلَى الْيمن، وَالْمَدينَة لَا تهامية وَلَا نجدية، فَإِنَّهَا وفْق الْغَوْر وَدون نجد. وَقَالَ الْحَازِمِي: نجد: إسم للْأَرْض العريضة الَّتِي أَعْلَاهَا تهَامَة واليمن وَالْعراق وَالشَّام. وَقَالَ السكرِي: حد نجد ذَات عرق من نَاحيَة الْحجاز، كَمَا يَدُور الْجبَال مَعهَا إِلَى جبال الْمَدِينَة، وَمَا وَرَاء ذَلِك ذَات عرق إِلَى تهَامَة. وَقَالَ الْخطابِيّ نجد نَاحيَة الْمشرق، وَمن كَانَ بِالْمَدِينَةِ كَانَ نجده بادية الْعرَاق ونواحيها، وَهِي مشرق أَهلهَا. وَذكر فِي (الْمُنْتَهى) : نجد من بِلَاد الْعَرَب، وَهُوَ خلاف الْغَوْر أَعنِي: تهَامَة وكل مَا ارْتَفع من تهَامَة إِلَى أَرض الْعرَاق فَهُوَ نجد. قَوْله: (قرنا) بِفَتْح الْقَاف وَسُكُون الرَّاء، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هُوَ بِفَتْحِهَا، وغلطوه، وَقَالَ الْقَابِسِيّ: من قَالَ بِالسُّكُونِ أَرَادَ الْجَبَل المشرف على الْموضع، وَمن قَالَ بِالْفَتْح أَرَادَ الطَّرِيق الَّذِي يعرف مِنْهُ، فَإِنَّهُ مَوضِع فِيهِ طرق مُتَفَرِّقَة. وَقَالَ ابْن الْأَثِير فِي (شرح الْمسند) : وَكَثِيرًا مَا يَجِيء فِي أَلْفَاظ الْفُقَهَاء وَغَيرهم بِفَتْحِهَا، وَلَيْسَ بِصَحِيح. وَقَالَ ابْن التِّين: روناه بِالسُّكُونِ، وَعَن الشَّيْخ أبي الْحسن أَن الصَّوَاب فتحهَا، وَعَن الشَّيْخ أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن: إِن قلت: قرن الْمنَازل، أسكنته، وَإِن قلت: قرنا، فتحت. قلت: لما قَالَه الْجَوْهَرِي بالفتج، وَمِنْه أويس الْقَرنِي، وَقَالَ النسابون: أُويس مَنْسُوب إِلَى قرن، بالفتج: اسْم قَبيلَة، وَهُوَ على يَوْم وَلَيْلَة من مَكَّة. وَقَالَ ابْن قرقول: هُوَ قرن الْمنَازل وَقرن الثعالب وَقرن غير مُضَاف، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَفِي بعض الرِّوَايَة كتبت بِدُونِ الْألف، فَهُوَ إِمَّا بِاعْتِبَار العلمية والتأنيث، وَإِمَّا على اللُّغَة الربيعية حَيْثُ يقفون على الْمنون بِالسُّكُونِ فَيكْتب بِدُونِ الْألف، لَكِن يقْرَأ بِالتَّنْوِينِ. انْتهى. قلت: على الْوَجْه الأول هُوَ غير منصرف للعلمية والتأنيث، فَلَا يقْرَأ بِالتَّنْوِينِ.
قَوْله: (ذَا الحليفة) أَي: عين لأهل الْمَدِينَة ذَا الحليفة، وَقد فسرناها عَن قريب. قَوْله: (وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة) ، أَي: قدر الْجحْفَة، وَهِي بِضَم الْجِيم وَسُكُون الْحَاء الْمُهْملَة. وَقَالَ أَبُو عبيد: هِيَ قريبَة جَامِعَة بهَا مِنْبَر، بَينهَا وَبَين الْبَحْر سِتَّة أَمْيَال، وغدير خم على ثَلَاثَة أَمْيَال مِنْهَا، وَهِي مِيقَات المتوجهين من الشَّام ومصر وَالْمغْرب، وَهِي على ثَلَاثَة مراحل من مَكَّة أَو أَكثر، وعَلى ثَمَانِيَة مراحل من الْمَدِينَة، سميت بذلك لِأَن السُّيُول أجحفت بِمَا حولهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيّ: أخرجت العماليق بني عبيل، وهم أخوة عَاد، من يثرب فنزلوا الْجحْفَة، وَكَانَ اسْمهَا: مهيعة، فَجَاءَهُمْ السَّيْل فأجحفتهم، فسميت الْجحْفَة، وَفِي كتاب (أَسمَاء الْبلدَانِ) : لِأَن سيل الجحاف نزل بهَا. فَذهب بِكَثِير من الْحَاج وبأمتعة النَّاس ورحالهم، فَمن ذَلِك سميت: الْجحْفَة. وَقَالَ أَبُو عبيد، وَقد سَمَّاهَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: مهيعة، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وَالْعين الْمُهْملَة، وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: قَالَ بَعضهم

(9/137)


بِكَسْر الْهَاء. وَقَالَ ابْن حزم، رَحمَه الله تَعَالَى: الْجحْفَة مَا بَين الْمغرب وَالشمَال من مَكَّة، وَمِنْهَا إِلَى مَكَّة اثْنَان وَثَمَانُونَ ميلًا وَالله تَعَالَى أعلم.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: رد على عَطاء وَالنَّخَعِيّ وَالْحسن فِي زعمهم أَن لَا شَيْء على من ترك الْمِيقَات وَلم يحرم، وَهُوَ يُرِيد الْحَج وَالْعمْرَة، وَهُوَ شَاذ. وَنقل ابْن بطال عَن مَالك وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ أَنه يرجع من مَكَّة إِلَى الْمِيقَات، وَاخْتلفُوا إِذا رَجَعَ: هَل عَلَيْهِ دم أم لَا؟ فَقَالَ مَالك وَالثَّوْري فِي رِوَايَة: لَا يسْقط عَنهُ الدَّم بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِ محرما، وَهُوَ قَول ابْن الْمُبَارك. وَقَالَ أَبُو حنيفَة: إِن رَجَعَ إِلَيْهِ فلبى فَلَا دم عَلَيْهِ بِرُجُوعِهِ إِلَيْهِ محرما، وَإِن لم يلب فَعَلَيهِ دم. وَقَالَ الثَّوْريّ فِي رِوَايَة، وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَالشَّافِعِيّ: لَا دم عَلَيْهِ إِذا رَجَعَ إِلَى الْمِيقَات بعد إِحْرَامه على كل وَجه أَي: قبل أَن يطوف، فَإِن طَاف فالدم بَاقٍ، وَإِن رَجَعَ. قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ لَا يلْزم أَن يكون من الْمَذْكُورَات، بل يَصح من الْجِعِرَّانَة، وَنَحْوهَا. قلت: هِيَ للمكي وَأما الآفاقي فَلَا يَصح لَهُ الْإِحْرَام بهَا إلاَّ من الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة.

6 - (بابُ قَوْلِ الله تَعَالَى: {وتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} (الْبَقَرَة: 791) .)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التزود الْمَأْمُور بِهِ فِي قَول الله تَعَالَى: {وتزودوا} (الْبَقَرَة: 791) . وَإِنَّمَا أَمر بالتزود ليكف الَّذِي يحجّ وَجهه عَن النَّاس. قَالَ الْعَوْفِيّ: عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: (كَانَ أنَاس يخرجُون من أَهْليهمْ لَيْسَ مَعَهم زَاد، يَقُولُونَ: نحجّ بَيت الله وَلَا يطعمنا؟ فَقَالَ الله: تزودوا مَا يكف وُجُوهكُم عَن النَّاس) وروى ابْن جرير وَابْن مرْدَوَيْه من حَدِيث عَمْرو بن عبد الْغفار عَن نَافِع عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: (كَانُوا إِذا أَحْرمُوا وَمَعَهُمْ أَزْوَادهم رموا بهَا واستأنفوا زادا آخر، فَأنْزل الله تَعَالَى: {وتزودوا فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} (الْبَقَرَة: 791) . فنهوا عَن ذَلِك وَأمرُوا أَن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق، ثمَّ لما أَمرهم بالزاد للسَّفر فِي الدُّنْيَا أرشدهم إِلَى زَاد الْآخِرَة، وَهُوَ اسْتِصْحَاب التَّقْوَى إِلَيْهَا، وَذكر أَنه خير من هَذَا وأنفع. قَالَ عَطاء الْخُرَاسَانِي: فِي قَوْله: {فَإِن خير الزَّاد التَّقْوَى} (الْبَقَرَة: 791) . يَعْنِي: زَاد الْآخِرَة، وروى الطَّبَرَانِيّ من حَدِيث قيس عَن جرير بن عبد الله عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (من تزَود فِي الدُّنْيَا يَنْفَعهُ فِي الْآخِرَة) . ثمَّ قَالَ: {واتقونِ يَا أولي الْأَلْبَاب} (الْبَقَرَة: 791) . يَقُول: اتَّقوا عقابي ونكالي وعذابي لمن خالفني، وَلم يأتمر بأَمْري يَا ذَوي الْعُقُول والأفهام.

3251 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بِشْرٍ قَالَ حدَّثنا شَبابَةَ عنْ وَرْقَاءَ عَن عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عَن عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ كانَ أهْلُ اليَمَنِ يَحُجُّونَ وَلاَ يَتَزَوَّدُونَ ويَقُولُونَ نَحْنُ المُتَوَكِّلُونَ فَإِذا قَدِمُوا المَدينةَ سًّلُوا النَّاسَ فأنْزلَ الله تَعَالَى وتَزَوَّدُوا فإنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى.
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه يبين سَبَب نزُول الْآيَة الَّتِي ترْجم بهَا الْبَاب.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: يحيى بن بشر، بِكَسْر الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الشين الْمُعْجَمَة: أَبُو زَكَرِيَّا أحد عباد الله الصَّالِحين، مَاتَ سنة ثِنْتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: شَبابَة، بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى: ابْن سوار الْفَزارِيّ، مر فِي: بَاب الصَّلَاة على النُّفَسَاء، فِي كتاب الْحيض. الثَّالِث: وَرْقَاء مؤنث الأورق، ابْن عَمْرو بن كُلَيْب أَبُو بشر الْيَشْكُرِي، مر فِي: بَاب وضع المَاء فِي الْخَلَاء، الرَّابِع: عَمْرو، بِفَتْح الْعين: ابْن دِينَار، مر فِي: بَاب كتاب الْعلم. الْخَامِس: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. السَّادِس: عبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: إِن شَيْخه من أَفْرَاده وَإنَّهُ بلخي وَأَن شَبابَة مدائني وَأَن أصل وَرْقَاء من خوارزم، وَقيل؛ من الْكُوفَة، سكن الْمَدَائِن، وَأَن عَمْرو بن دِينَار مكي وَأَن عِكْرِمَة مدنِي وَأَصله من البربر.
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن أبي مَسْعُود أَحْمد بن الْفُرَات وَمُحَمّد بن عبد الله المخرمي، كِلَاهُمَا عَن شَبابَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي السّير وَفِي التَّفْسِير عَن سعيد ابْن عبد الرَّحْمَن.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (فَإِذا قدمُوا الْمَدِينَة) ، هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَإِذا

(9/138)


قدمُوا مَكَّة) وَهُوَ الأصوب، كَذَا أخرجه أَبُو نعيم من طَرِيق مُحَمَّد بن عبد الله المخرمي عَن شَبابَة، وَهُوَ الْأَصَح. قَوْله: (التَّقْوَى) أَي: الخشية من الله تَعَالَى.
وَفِيه: من الْفِقْه: ترك سُؤال النَّاس من التَّقْوَى، أَلا يرى أَن الله تَعَالَى مدح قوما، فَقَالَ: {لَا يسْأَلُون النَّاس إلحافا} (الْبَقَرَة: 372) . وَكَذَلِكَ معنى آيَة الْبَاب، أَي: تزودوا فَلَا تُؤْذُوا النَّاس بسؤالكم إيَّاهُم، وَاتَّقوا الْإِثْم فِي أذاهم بذلك. وَفِيه: أَن التَّوَكُّل، لَا يكون مَعَ السُّؤَال، وَإِنَّمَا التَّوَكُّل على الله بِدُونِ استعانة بِأحد فِي شَيْء، وَيبين ذَلِك قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (يدْخل الْجنَّة سَبْعُونَ ألفا بِغَيْر حِسَاب، وهم الَّذِي لَا يسْتَرقونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ، وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ) ، فَهَذِهِ أَسبَاب التَّوَكُّل وَصِفَاته، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: لما كَانَ التزود ترك الْمَسْأَلَة الْمنْهِي عَنْهَا فِي غير الْحَج، وَكَانَت حَرَامًا على الْأَغْنِيَاء قبل الْحَج، كَانَت فِي الْحَج أوكد حُرْمَة. وَفِيه: زجر عَن التكفف وترغيب فِي التعفف والقناعة بالإقلال، وَلَيْسَ فِيهِ مذمة للتوكل، نعم المذلة على سُؤَالهمْ إِذْ مَا كَانَ ذَلِك توكلاً بل تأكلاً، وَمَا كَانُوا متوكلين بل متأكلين، إِذْ التَّوَكُّل هُوَ قطع النّظر عَن الْأَسْبَاب مَعَ تهيئة الْأَسْبَاب، وَلِهَذَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (قيدها وتوكل) .
رَواهُ ابنُ عُيَيْنَةَ عنْ عَمْرٍ وعنْ عِكْرِمَةَ مُرْسلاً.

أَي: روى هَذَا الحَدِيث الْمَذْكُور سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عِكْرِمَة مُرْسلا، يَعْنِي: لم يذكر ابْن عَبَّاس، وَهَكَذَا أخرجه سعيد بن مَنْصُور عَن ابْن عُيَيْنَة، وَكَذَا أخرجه الطَّبَرِيّ عَن عَمْرو بن عَليّ وَابْن أبي حَاتِم عَن مُحَمَّد بن عبد الله بن يزِيد الْمقري، كِلَاهُمَا عَن ابْن عُيَيْنَة مُرْسلا. قَالَ ابْن أبي حَاتِم: وَهُوَ أصح من رِوَايَة وَرْقَاء، وَاخْتلف فِيهِ على ابْن عُيَيْنَة، فَأخْرجهُ النَّسَائِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن المَخْزُومِي عَنهُ مَوْصُولا بِذكر ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. وَأخرجه الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم كَمَا ذَكرْنَاهُ مُرْسلا.