عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 7 - (بابُ مُهَلِّ أهْلِ مَكَّةَ لِلْحَجِّ
وَالعُمْرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مهلّ أهل مَكَّة، أَي: مَوضِع
إهلالهم، لِأَن لفظ: مهل، بِضَم الْمِيم وَفتح الْهَاء
وَتَشْديد اللَّام، والإهلال رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ
هُنَا. وَقَالَ ابْن الْجَوْزِيّ، رَحمَه الله تَعَالَى:
وَإِنَّمَا يَقُوله بِفَتْح الْمِيم من لَا يعرف. قلت:
هُوَ بِضَم الْمِيم اسْم مَكَان من الإهلال وَاسم زمَان
أَيْضا، وَيكون مصدرا أَيْضا كالمدخل والمخرج بِمَعْنى
الإدخال والأخراج، وأصل هَذِه الْمَادَّة لرفع الصَّوْت،
وَمِنْه اسْتهلّ الصَّبِي إِذا صَاح عِنْد الْولادَة،
وأهلَّ بِالتَّسْمِيَةِ عِنْد الذَّبِيحَة، وَأهل الْهلَال
واستهل: إِذا تبين، وَأهل الْمُعْتَمِر إِذا رفع صَوته
بِالتَّلْبِيَةِ.
4251 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا
وُهَيْبٌ قَالَ حدَّثنا ابنُ طاوُوسٍ عنْ أبيهِ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ قَالَ إنَّ النَّبِيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وقَّتَ لأِهْلِ المَدِينةِ ذَا الحُلَيْفةِ وَلأِهْلِ
الشَّامِ الجُحفَةَ وَلأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلِ
وَلأِهلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ أتَى
عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِهِنَّ مِمَّنْ أرَادَ الحَجَّ
والعُمْرَةَ ومَنْ كانَ دُونَ ذالِكَ فَمِنْ حيثُ أنشَأ
حتَّى أهَلَّ أهْلُ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (حَتَّى أهلَّ أهلُ
مَكَّة من مَكَّة) ، يَعْنِي: لَا يَحْتَاجُونَ إِلَى
الْخُرُوج إِلَى الْمِيقَات للْإِحْرَام، بل مهَّلهم
لِلْحَجِّ أَي: مَوضِع إهلالهم لأجل الْحَج هُوَ مَكَّة،
كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.
وَقَالَ الْكرْمَانِي: غَرَض البُخَارِيّ بَيَان أَن
الْإِحْرَام لَا بُد وَأَن يكون من هَذِه الْمَوَاقِيت،
فَمَا وَجه دلَالَته عَلَيْهِ إِذْ لَيْسَ فِيهِ إلاَّ أَن
التَّلْبِيَة من ثمَّة؟ قلت: التَّلْبِيَة إِمَّا وَاجِبَة
فِي الْإِحْرَام أَو سنة فِيهِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ
فالإحرام لَا يَخْلُو مِنْهَا، فالمهلّ هُوَ الْمِيقَات.
انْتهى. قلت: لَيْسَ غَرَضه مَا ذكره الْكرْمَانِي،
وَإِنَّمَا غَرَضه بَيَان مهل أهل مَكَّة، وَلِهَذَا ترْجم
بقوله: بَاب مهلَّ أهل مَكَّة لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة،
وَمحل الشَّاهِد هُوَ قَوْله: (حَتَّى أهل مَكَّة من
مَكَّة) كَمَا ذكرنَا، وَهَذَا بِظَاهِرِهِ يدل على أَن
مهلّهم هُوَ مَكَّة، سَوَاء كَانَ لِلْحَجِّ أَو الْعمرَة،
وَلَكِن مهلّ أهل مَكَّة للْعُمْرَة الحلّ، كَمَا
سَيَجِيءُ بَيَانه.
(9/139)
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة، قد ذكرُوا،
ووهيب هُوَ ابْن خَالِد الْبَصْرِيّ، وَابْن طَاوُوس هُوَ
عبد الله بن طَاوُوس، يروي عَن أَبِيه طَاوُوس
الْيَمَانِيّ.
أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن مُعلى بن أَسد، وَمُسلم بن
إِبْرَاهِيم فرقهم، وَأخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن
أبي بكر بن أبي شيبَة. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن
الرّبيع بن سُلَيْمَان صَاحب الشَّافِعِي، وَعَن يَعْقُوب
بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وقَّت) أَي: عين وَقت، من
التَّوْقِيت، وَهُوَ التَّعْيِين وأصل التَّوْقِيت أَن
يَجْعَل للشَّيْء وَقت يخْتَص بِهِ، وَقَالَ عِيَاض: وَقت
أَي حدد، وَقد يكون بِمَعْنى: أوجب، وَيُؤَيِّدهُ
الرِّوَايَة الْمَاضِيَة بِلَفْظ: فرض. قَوْله: (قرن
الْمنَازل) ، قد ذكرنَا تَفْسِير الْقرن فِي: بَاب فرض
مَوَاقِيت الْحَج، وَكَذَلِكَ ذكرنَا تَفْسِير ذِي الحليفة
والجحفة، وَهُنَاكَ ذكر لفظ: الْقرن، فَقَط وَهَهُنَا ذكر
بِلَفْظ: قرن الْمنَازل، وَهُوَ جمع منزل. قَالَ
الْكرْمَانِي: والمركب الإضافي هُوَ اسْم الْمَكَان، وَقد
يقْتَصر على لفظ الْمُضَاف، كَمَا فِي الحَدِيث
الْمُتَقَدّم. قلت: النُّكْتَة فِي ذكره هُنَا بِهَذِهِ
اللَّفْظَة هِيَ أَن الْمَكَان الَّذِي يُسمى الْقرن
موضعان أَحدهمَا فِي هبوط، وَهُوَ الَّذِي يُقَال لَهُ:
قرن الْمنَازل، وَالْآخر فِي صعُود وَهُوَ الَّذِي يُقَال
لَهُ: قرن الثعالب، وَالْمَعْرُوف الأول. وَذكر فِي
(أَخْبَار مَكَّة) للفاكهي: أَن قرن الثعالب جبل مشرف على
أَسْفَل منى، بَينه وَبَين مَسْجِد منى ألف وَخَمْسمِائة
ذِرَاع. وَقيل لَهُ: قرن الثعالب لِكَثْرَة مَا كَانَ يأوي
إِلَيْهِ من الثعالب، فَظهر أَن قرن الثعالب لَيْسَ من
الْمَوَاقِيت، وَقد وَقع ذكره فِي حَدِيث عَائِشَة، رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي إتْيَان النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم الطَّائِف يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام
وردهم عَلَيْهِ. قَالَ: فَلم استفق إلاَّ وَأَنا بقرن
الثعالب ... الحَدِيث، ذكره ابْن إِسْحَاق فِي (السِّيرَة
النَّبَوِيَّة) . قَوْله: (ويلملم) بِفَتْح الْيَاء آخر
الْحُرُوف وباللاَّمين وَسُكُون الْمِيم الأولى، غير
منصرف. وَقَالَ عِيَاض: وَيُقَال: ألملم، وَهُوَ الأَصْل
وَالْيَاء بدل مِنْهُ، وَهِي على ميلين من مَكَّة، وَهُوَ
جبل من جبال تهَامَة. وَقَالَ ابْن حزم: هُوَ جنوب مَكَّة،
وَمِنْه إِلَى مَكَّة ثَلَاثُونَ ميلًا. وَفِي (الْمُحكم)
: يَلَمْلَم وألملم جبل. وَقَالَ الْبكْرِيّ: أَهله
كنَانَة وتنحدر أوديته إِلَى الْبَحْر وَهُوَ فِي طَرِيق
الْيمن إِلَى مَكَّة. وَهُوَ من كبار جبال تهَامَة.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: هُوَ وادٍ بِهِ مَسْجِد رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَبِه عسكرت هوَازن يَوْم
حنين. فَإِن قلت: مَا وَزنه؟ قلت: فعمعل: كصمحمح، وَلَيْسَ
هُوَ من: لملمت، لِأَن ذَوَات الْأَرْبَعَة لَا تلحقها
الزِّيَادَة فِي أَولهَا إلاَّ فِي الْأَسْمَاء
الْجَارِيَة على أفعالها. نَحْو: مدحرج. قلت: فعلى هَذَا
الْمِيم الأولى وَاللَّام الثَّانِيَة زائدتان؟ وَلِهَذَا
قَالَ الْجَوْهَرِي فِي: بَاب الْمِيم وَفصل الْيَاء: يلم،
ثمَّ قَالَ: يَلَمْلَم لُغَة فِي ألملم، وَهُوَ مِيقَات
أهل الْيمن. وَحكى ابْن سيدة فِيهِ: يرمرم، براءين بدل
اللاَّمين، وَقد جمع وَاحِد مَوَاقِيت الْإِحْرَام بنظم،
وَهُوَ قَوْله:
(قرنَ يلملمُ ذُو الحليفة جحفةٌ ... قل: ذاتُ عرقٍ كلُّها
مِيقَات)
(نجدٌ تهامةُ والمدينةُ مغربٌ ... شرقٌ وَهن إِلَى الْهدى
مرقات)
قَوْله: (هن لَهُنَّ) أَي: هَذِه الْمَوَاقِيت لهَذِهِ
الْبِلَاد، وَالْمرَاد أَهلهَا. وَكَانَ الأَصْل أَن
يُقَال: هن لَهُم، لِأَن المُرَاد الْأَهْل، وَقد ورد
ذَلِك فِي بعض الرِّوَايَات فِي (الصَّحِيح) . وَقَالَ
الْقُرْطُبِيّ: هن، ضمير جمَاعَة مؤنث الْعَاقِل فِي
الأَصْل، وَقد يُعَاد على مَا لَا يعقل، وَأكْثر ذَلِك فِي
الْعشْرَة فَمَا دونهَا، فَإِذا جاوزها قَالُوهُ بهاء
الْمُؤَنَّث، كَمَا قَالَ الله تَعَالَى: {إِن عدَّة
الشُّهُور عِنْد الله اثْنَا عشر شهرا} (التَّوْبَة: 63) .
ثمَّ قَالَ: {مِنْهَا أَرْبَعَة حرم} (التَّوْبَة: 63) .
أَي: من الإثني عشر، ثمَّ قَالَ: {فَلَا تظلموا فِيهِنَّ
أَنفسكُم} (التَّوْبَة: 63) . أَي: فِي هَذِه
الْأَرْبَعَة، وَقد قيل: فِي الْجَمِيع، وَهُوَ ضَعِيف
شَاذ. قَوْله: (وَلمن أَتَى عَلَيْهِنَّ) ، أَي: على هَذِه
الْمَوَاقِيت (من غَيْرهنَّ) أَي: من غير أهلهن، مثلا إِذا
أَتَى الشَّامي إِلَى ذِي الحليفة، يكون مهلّه ذَا
الحليفة، وَكَذَا الْبَاقِي نَحوه. قَوْله: (وَمن كَانَ
دون ذَلِك) يَعْنِي من كَانَ بَين الْمِيقَات وَمَكَّة.
قَوْله: (فَمن حَيْثُ أنشأ) ، الْفَاء جَوَاب الشَّرْط
أَي: فمهله من حَيْثُ قصد الذّهاب إِلَى مَكَّة، يَعْنِي
يهل من ذَلِك الْموضع. قَوْله: (حَتَّى أهل مَكَّة من
مَكَّة) يَعْنِي: إِذا قصد الْمَكِّيّ الْحَج فمهلَّه من
مَكَّة، وَأما إِذا قصد الْعمرَة فمهلُّه من الْحل لقضية
عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حِين أرسلها
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَخِيهَا عبد
الرَّحْمَن إِلَى التَّنْعِيم لتَحْرِيم مِنْهُ. فَإِن
قلت: قَوْله: (حَتَّى أهل مَكَّة من مَكَّة) أَعم من أَن
يكون الْمَكِّيّ قَاصِدا لِلْحَجِّ وَالْعمْرَة، وَلِهَذَا
ترْجم البُخَارِيّ بقوله: بَاب مهلَّ أهل مَكَّة لِلْحَجِّ
وَالْعمْرَة. قلت: قَضِيَّة عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، تخصص هَذَا! وَلَكِن الظَّاهِر أَن البُخَارِيّ
نظر إِلَى عُمُوم اللَّفْظ حَتَّى ترْجم بِهَذِهِ
التَّرْجَمَة.
(9/140)
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن
هَذِه الْمَوَاقِيت الْمَذْكُورَة لأهل هَذِه الْبِلَاد،
وَاخْتلفُوا هَل الْأَفْضَل الْتِزَام الْحَج مِنْهُنَّ.
أَو من منزله، فَقَالَ مَالك وَأحمد وَإِسْحَاق: إِحْرَامه
من الْمَوَاقِيت أفضل، وَاحْتَجُّوا بِحَدِيث الْبَاب
وَشبهه. وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ
وَآخَرُونَ: الْإِحْرَام من الْمَوَاقِيت رخصَة، واعتمدوا
فِي ذَلِك على فعل الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُم، فَإِنَّهُم أَحْرمُوا من قبل الْمَوَاقِيت، وهم
ابْن عَبَّاس وَابْن مَسْعُود وَابْن عمر وَغَيرهم،
قَالُوا: وهم أعرف بِالسنةِ، وأصول أهل الظَّاهِر
تَقْتَضِي أَنه لَا يجوز الْإِحْرَام إلاَّ من الْمِيقَات
إلاَّ أَن يَصح إِجْمَاع على خِلَافه. قَالَ أَبُو عمر:
مَالك أَن يحرم أحد قبل الْمِيقَات، وَرُوِيَ عَن عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه أنكر على عمرَان
بن حُصَيْن إِحْرَامه من الْبَصْرَة، وَأنكر عُثْمَان بن
عَفَّان على عبد الله بن عَامر إِحْرَامه قبل الْمِيقَات.
وَفِي تَعْلِيق للْبُخَارِيّ: كره عُثْمَان أَن يحرم من
خُرَاسَان وكرمان، وَكره الْحسن وَعَطَاء بن أبي رَبَاح
الْإِحْرَام من الْموضع الْبعيد، وَقَالَ ابْن بزيزة: فِي
هَذَا ثَلَاثَة أَقْوَال: مِنْهُم من جوزه مُطلقًا،
وَمِنْهُم من كرهه مُطلقًا، وَمِنْهُم من أجَازه فِي
الْبعيد دون الْقَرِيب. وَقَالَ الشَّافِعِي وَأَبُو
حنيفَة الْإِحْرَام من قبل هَذِه الْمَوَاقِيت أفضل لمن
قوي على ذَلِك، وَقد صَحَّ أَن عَليّ بن أبي طَالب وَابْن
مَسْعُود وَعمْرَان بن حُصَيْن وَابْن عَبَّاس وَابْن عمر
أَحْرمُوا من الْمَوَاضِع الْبَعِيدَة، وَعند ابْن أبي
شيبَة أَن عُثْمَان بن الْعَاصِ أحرم من المنجشانية، وَهِي
قَرْيَة من الْبَصْرَة، وَعَن ابْن سِيرِين أَنه أحرم هُوَ
وَحميد بن عبد الرَّحْمَن وَمُسلم بن يسَار من الدارات،
وَأحرم أَبُو مَسْعُود من السيلحين. وَعَن أم سَلمَة،
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، سَمِعت رَسُول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: من أهل بِعُمْرَة من بَيت
الْمُقَدّس غفر لَهُ، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: من أهل
بِحجَّة أَو عمْرَة من الْمَسْجِد الْأَقْصَى إِلَى
الْمَسْجِد الْحَرَام غفر لَهُ مَا تقدم من ذَنبه وَمَا
تَأَخّر، وَوَجَبَت لَهُ الْجنَّة. شكّ عبد الله
أَيَّتهمَا قَالَ. قلت: عبد الله هُوَ ابْن عبد الرَّحْمَن
أحد رَوَاهُ الحَدِيث، وَقَالَ أَبُو دَاوُد: يرحم الله
وكيعا، أحرم من بَيت الْمُقَدّس، يَعْنِي: إِلَى مَكَّة،
وَأحرم ابْن سِيرِين مَعَ أنس من العقيق ومعاذ من الشَّام
وَمَعَهُ كَعْب الحبر، وَقَالَ ابْن حزم: وَلَا يحل لأحد
أَن يحرم بِالْحَجِّ أَو بِالْعُمْرَةِ قبل الْمَوَاقِيت،
فَإِن أحرم أحد قبلهَا وَهُوَ يمر عَلَيْهَا فَلَا
إِحْرَام لَهُ وَلَا حج، وَلَا عمْرَة لَهُ إلاَّ أَن
يَنْوِي إِذا صَار فِي الْمِيقَات تَحْدِيد إِحْرَام،
فَذَلِك جَائِز، وإحرامه حِينَئِذٍ تَامّ.
وَفِيه: من أَتَى على مِيقَات من الْمَوَاقِيت لَا
يتَجَاوَز غير محرم عِنْد أبي حنيفَة سَوَاء قصد دُخُول
مَكَّة أَو لم يقْصد. وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: أما من مر
على الْمِيقَات قَاصِدا دُخُول مَكَّة من غير نسك، وَكَانَ
مِمَّن لَا يتَكَرَّر دُخُوله إِلَيْهَا، فَهَل يلْزمه دم
أَو لَا؟ اخْتلف فِيهِ أَصْحَابنَا، وَظَاهر الحَدِيث أَنه
إِنَّمَا يلْزم الْإِحْرَام من أَرَادَ مَكَّة لأحد
النُّسُكَيْنِ، خَاصَّة وَهُوَ مَذْهَب الزُّهْرِيّ وَأبي
مُصعب فِي آخَرين، وَقَالَ ابْن قدامَة: أما المجاوز
للميقات مِمَّن لَا يُرِيد النّسك فعلى قسمَيْنِ:
أَحدهمَا: لَا يُرِيد دُخُول مَكَّة بل يُرِيد حَاجَة
فِيمَا سواهَا، فَهَذَا لَا يلْزمه الْإِحْرَام بِلَا
خلاف، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ فِي تَركه الْإِحْرَام
لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى بَدْرًا
مرَّتَيْنِ وَلم يحرم، وَلَا أحد من أَصْحَابه، ثمَّ
بَدَأَ لهَذَا الْإِحْرَام وتجدد لَهُ الْعَزْم عَلَيْهِ
أَن يحرم من مَوْضِعه، وَلَا شَيْء عَلَيْهِ، هَذَا ظَاهر
كَلَام الحرقي، وَبِه يَقُول مَالك وَالثَّوْري
وَالشَّافِعِيّ وصاحبا أبي حنيفَة، وَحكى ابْن الْمُنْذر
عَن أَحْمد فِي الرجل يخرج لحَاجَة وَهُوَ لَا يُرِيد
الْحَج، فجاوز ذَا الحليفة ثمَّ أَرَادَ الْحَج يرجع إِلَى
ذِي الحليفة فَيحرم؟ وَبِه قَالَ إِسْحَاق. الْقسم
الثَّانِي: من يُرِيد دُخُول الْحرم إِمَّا إِلَى مَكَّة
أَو غَيرهَا، فهم على ثَلَاثَة أضْرب: أَحدهَا من يدخلهَا
لقِتَال مُبَاح أَو من خوف أَو لحَاجَة متكررة كالحشاش
والحطاب وناقل الْميرَة، وَمن كَانَت لَهُ ضَيْعَة
يتَكَرَّر دُخُوله وَخُرُوجه إِلَيْهَا، فَهَؤُلَاءِ لَا
إِحْرَام عَلَيْهِم لِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم دخل يَوْم فتح مَكَّة حَلَالا وعَلى رَأسه المغفر،
وَكَذَا أَصْحَابه، وَلَا نعلم أَن أحدا مِنْهُم أحرم
يَوْمئِذٍ، وَلَو وَجب الْإِحْرَام على من يتَكَرَّر
دُخُولهَا أفْضى إِلَى أَن يكون جَمِيع زَمَنه محرما،
وَبِهَذَا قَالَ الشَّافِعِي.
8 - (بابُ ميقَاتِ أهْلِ المَدينَةِ وَلا يُهِلُّونَ
قَبْلَ ذِي الحلَيْفَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مِيقَات أهل الْمَدِينَة.
قَوْله: (وَلَا يهلوا) يجوز أَن يقدر فِيهِ: أَن، الناصبة
فَيكون التَّقْدِير: وَأَن لَا يهلوا، وَتَكون الْجُمْلَة
معطوفة على مَا قبلهَا، وَالتَّقْدِير: وَفِي بَيَان أَن
لَا يهلوا قبل ذِي الحليفة، وَالضَّمِير الَّذِي فِيهِ
يرجع إِلَى أهل الْمَدِينَة، فَإِذا كَانَ أهل الْمَدِينَة
لَيْسَ لَهُم أَن يهلوا قبل ذِي الحليفة، فَكَذَلِك من
يَأْتِي إِلَيْهَا من غير أَهلهَا، لَيْسَ لَهُم أَن
يهلُّوا قبلهَا، فَهَذِهِ الْعبارَة تُشِير إِلَى أَن
البُخَارِيّ مِمَّن لَا يرى تَقْدِيم الإهلال قبل
الْمَوَاقِيت.
(9/141)
5251 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ
قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ
عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ يُهِلُّ أهْلُ المَدِينَةِ
مِنْ ذِي الحُلَيْفَةِ وَأهْلُ الشَّأمِ مِن الجُجْفَةِ
وِأهْلُ نَجْدٍ منْ قَرْنٍ. قَالَ عَبْدُ الله وبلَغَنِي
أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ ويُهِلُّ
أهْلُ اليَمَنِ مِنْ يَلَمْلَمَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (يهل أهل الْمَدِينَة من
ذِي الحليفة) ، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَتَفْسِير
أَلْفَاظه قد مر عَن قريب.
قَوْله: (قَالَ عبد الله) هُوَ ابْن عمر. قَوْله:
(وَبَلغنِي) ، وَرِوَايَة سَالم عَنهُ بِلَفْظ: (زَعَمُوا
أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَلم أسمعهُ)
، وَتقدم فِي الْعلم من وَجه آخر بِلَفْظ: (لم ألقه هَذِه
من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) ، وَمَعَ هَذَا هُوَ
ثَبت من حَدِيث ابْن عَبَّاس، كَمَا ذكر فِي الْبَاب
الَّذِي قبله، وَمن حَدِيث جَابر وَعَائِشَة والْحَارث بن
عَمْرو السَّهْمِي. وَأما حَدِيث جَابر فَرَوَاهُ مُسلم من
حَدِيث أبي الزبير أَنه سمع جَابر بن عبد الله يسْأَل عَن
الْمهل؟ فَقَالَ: سَمِعت أَحْسبهُ رفع إِلَى النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: مهلُّ الْمَدِينَة من ذِي
الحليفة وَالطَّرِيق الآخر: الْجحْفَة، ومهل أهل الْعرَاق
من ذَات عرق، ومهلّ أهل نجد من قرن، ومهل أهل الْيمن
يَلَمْلَم. وَأما حَدِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهَا، فَرَوَاهُ النَّسَائِيّ من رِوَايَة الْقَاسِم
عَنْهَا، قَالَت: (وَقت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
لأهل الْمَدِينَة من ذِي الحليفة، وَلأَهل الشَّام ومصر
الْجحْفَة، وَلأَهل الْعرَاق ذَات عرق، وَلأَهل الْيمن
يَلَمْلَم. وَأما حَدِيث الْحَارِث بن عَمْرو فَرَوَاهُ
أَبُو دَاوُد عَنهُ، قَالَ: أتيت النَّبِي صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ بمنى أَو عَرَفَات ... الحَدِيث.
وَفِيه: وقّت ذَات عرق لأهل الْعرَاق. وَفِيه: الْبَلَاغ،
هَل هُوَ حجَّة أَو هُوَ من قبيل الْمَجْهُول؟ لِأَن
رَاوِيه غير مَعْلُوم، فَالَّذِي قَالَه أهل الْفَنّ:
إِنَّه لَا يقْدَح بِهِ لِأَن الظَّاهِر أَنه لَا يرويهِ
إلاَّ عَن صَحَابِيّ آخر، وَالصَّحَابَة كلهم عدُول. فَإِن
قلت: قَالُوا: عمر بن الْخطاب هُوَ الَّذِي وَقت لأهل
الْعرَاق ذَات عرق، لِأَن الْعرَاق فِي زَمَانه افتتحت،
وَلم تكن الْعرَاق فِي عَهده صلى الله عَلَيْهِ وَسلم.
قلت: هَذَا تغفل، بل الَّذِي وقّت لأهل الْعرَاق ذَات عرق،
هُوَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَمَا صرح بِهِ
فِي رِوَايَة أبي دَاوُد الْمَذْكُورَة آنِفا، وَكَذَلِكَ
وَقت لأهل الشَّام ومصر الْجحْفَة، وَلم تَكُونَا افتتحتا
فِي زَمَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم علم أَن سيفتح الله تَعَالَى على
أمته الشَّام ومصر وَالْعراق وَغَيرهَا من الأقاليم،
وَيُؤَيّد ذَلِك قَوْله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، منعت
الْعرَاق دينارها ودرهما، ومنعت الشَّام إردبَّها
بِمَعْنى: ستمنع، وَذَات عرق ثنية أَو هضبة؟ بَينهَا
وَبَين مَكَّة يَوْمَانِ وَبَعض يَوْم، وَالله تَعَالَى
أعلم.
9 - (بابُ مُهَلِّ أهْلِ الشَّامِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مهلَّ أهل الشَّام.
6251 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ
عَمْرِو بنِ دِينَارٍ عنْ طَاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا. قَالَ وَقَّتَ رسولُ الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لأِهْلِ المَدِينَةِ ذَا
الحلَيْفَةِ لأهل الشأم الْجحْفَة وَلأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ
المَنَازِلِ ولأِهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ فَهُنَّ
وَلِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنُ غَيْرِ أهْلِهِنَّ لِمَنْ
كانَ يُرِيدُ الحجَّ وَالعُمْرَة فَمَنْ كانَ دُونَهُنَّ
فَمُهَلَّهُ مِنْ أهْلِهِ وكذَلِكَ حَتَّى أهْلُ مَكَّةَ
يُهِلُّونَ مِنْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: لأهل الشَّام:
الْجحْفَة، والْحَدِيث مر عَن قريب، وَحَمَّاد هُوَ: ابْن
زيد. قَوْله: (دونهن) أَي: أقرب إِلَى مَكَّة. قَوْله:
(فمهله) ، بِضَم الْمِيم أَي: مَكَان إِحْرَامه من دويرات
أَهله قَوْله: (وَكَذَلِكَ) ، ويروى: وكذاك أَي: وَكَذَا
من كَانَ أقرب من هَذَا الْأَقْرَب، حَتَّى إِن أهل مَكَّة
يكون مهلهم من مَكَّة.
01 - (بابُ مُهَلِّ أهْلِ نَجْدٍ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَوضِع إهلال أهل نجد.
(9/142)
7251 - حدَّثنا عَلِيٌّ قَالَ حدَّثنا
سُفْيَانُ حَفِظْنِاهُ مِنَ الزُّهْرِيِّ عنْ سَالِمٍ عنْ
أبِيهِ وَقَّتَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم تكْرَار
تراجم هَذَا الْبَاب وَالَّذِي قبله وَالَّذِي بعده مَعَ
تَكْرِير حَدِيث ابْن عمر وَحَدِيث ابْن عَبَّاس
لاخْتِلَاف مشايخه وَاخْتِلَاف الطّرق فِي حَدِيثهَا وَفِي
بعض الْمنون كَمَا ترَاهُ وَأورد حَدِيث ابْن عمرهنا من
طَرِيقين أَحدهمَا هَذَا عَن عَليّ بن عبد الله
الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان عَن عتيبة
عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن
أَبِيه عبد الله بن عمر والآخرين أَحْمد حَيْثُ يَقُول
لمديني عَن سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن مُحَمَّد بن مُسلم
بن شهَاب الزُّهْرِيّ عَن سَالم عَن أَبِيه عبد الله بن
عمر، وَالْآخر: عَن أَحْمد حَيْثُ يَقُول.
8251 - حدَّثنا أحْمَدُ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ
أَخْبرنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِمِ بنِ
عَبْدِ الله عنْ أبِيهِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ. قَالَ
سَمِعتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقُولُ
مُهَلُّ أهْلِ المَدِينَةِ ذُو الحُلَيْفَةِ وَمُهَلُّ
أهْلِ الشَّأمِ مَهْيَعَةُ وَهْيَ الجُحْفَةُ وأهْلُ
نَجْدٍ قَرْنٌ. قَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا زَعَمُوا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
قَالَ ولَمْ أسْمَعْهُ وَمُهَلُّ أهْلِ اليَمَنِ
يَلَمْلَمُ. [/ نه.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: وَأهل نجد قرن، وَأحمد
هُوَ أَحْمد بن عِيسَى التسترِي. قَالَ الجياني: كَذَا
نسبه أَبُو ذَر، وَفِي هَذَا الْمَوْضُوع يَعْنِي: صرح
بِهِ بِأَنَّهُ ابْن عِيسَى، وَقَالَ الكلاباذي: قَالَ لي
أَبُو أَحْمد مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِسْحَاق الْحَافِظ
أَحْمد عَن ابْن وهب فِي (جَامع البُخَارِيّ) : هُوَ ابْن
أخي ابْن وهب. وَقَالَ أَبُو عبد الله الْحَاكِم: هَذَا
وهم وَغلط. وَقَالَ الكلاباذي: قَالَ لي أَبُو عبد الله
ابْن مَنْدَه كلما قَالَ البُخَارِيّ فِي (الْجَامِع) :
حَدثنَا أَحْمد عَن ابْن وهب فَهُوَ ابْن صَالح، وَلم
يخرج، هُوَ ابْن أخي ابْن وهب فِي (الصَّحِيح) شَيْئا،
وَإِذا حدث عَن أَحْمد بن عِيسَى نسبه. قَوْله: (ابْن وهب)
هُوَ عبد الله بن وهب الْمصْرِيّ، و (يُونُس) هُوَ ابْن
يزِيد الْأَيْلِي، و (ابْن شهَاب) ، هُوَ مُحَمَّد بن
مُسلم الزُّهْرِيّ. قَوْله: (مهل) ، بِضَم الْمِيم
وَسُكُون الْهَاء وَفتح الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين
الْمُهْملَة. وَقيل: بِكَسْر الْهَاء، وَالصَّحِيح
الْمَشْهُور هُوَ الأول، وَقد فَسرهَا بقوله: وَهُوَ
الْجحْفَة، ومهيعة تَسْمِيَة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم إِيَّاهَا. قَوْله: (وَأهل نجد قرن) ، أَي: ومهلّ
أهل نجد قرن الْمنَازل. قَوْله: (زَعَمُوا) أَي: قَالُوا،
والزعم يسْتَعْمل بِمَعْنى القَوْل الْمُحَقق. قَوْله:
(وَلم أسمعهُ) ، جملَة مُعْتَرضَة بَين قَوْله: قَالَ
ومقوله، على النُّسْخَة الَّتِي فِيهَا لفظ قَالَ بعد
قَوْله: وَلم أسمعهُ، وَأما على النُّسْخَة الَّتِي عندنَا
فَهِيَ جملَة حَالية فَافْهَم. وَالْفرق بَين الْجُمْلَة
المعترضة وَالْجُمْلَة الحالية أَن الْجُمْلَة المعترضة
لَا مَحل لَهَا من الْإِعْرَاب، وَالْجُمْلَة الحالية
محلهَا النصب على الْحَال.
11 - (بابُ مُهَلِّ مَنْ كانَ دُونَ المَوَاقِيتِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مهل، أَي: مَوضِع إهلال من
كَانَ دون الْمَوَاقِيت، أَرَادَ من كَانَ وَطنه بَين
الْمَوَاقِيت وَمَكَّة.
9251 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا حَمَّادٌ عنْ
عَمْرٍ وعنْ طاوُسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّتَ
لأِهْلِ المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ ولأِهْلِ الشَّأمِ
الجُحْفَةَ ولأِهْلِ اليَمَنِ يَلَمْلَمَ ولأِهْلِ نَجْد
قَرْنا فَهُنَّ لَهُنَّ ولِمَنْ أتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ
غَيْرِ أهْلِهِنَّ مَمَّنْ كانَ يُرِيدُ الحَجَّ
وَالعُمْرَةَ فَمَنْ كانَ دُونَهُنَّ فَمِنْ أهْلِهِ
حَتَّى إنَّ أهْلَ مَكَّةَ يُهِلُّونَ مِنْهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَمن كَانَ دونهن) ،
وَحَمَّاد، هُوَ ابْن زيد وَعَمْرو هُوَ ابْن دِينَار،
وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى.
21 - (بابُ مُهَلِّ أهْلِ اليَمَنِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَوضِع إهلال أهل الْيمن.
(9/143)
0351 - حدَّثنا مُعَلَّى بنُ أسَدٍ قَالَ
حدَّثنا وُهَيْبٌ عنْ عَبْدِ الله بن طاوُوسٍ عنْ أبِيهِ
عَن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ
النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّتَ لأِهْلِ
المَدِينَةِ ذَا الحُلَيْفَةِ وَلأِهْلِ الشأمِ الجُحْفَةَ
وَلأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازِلَ وَلأِهْلِ اليَمَنِ
يَلَمْلَمَ هُنَّ لَهُنَّ ولِكُلِّ آتٍ عَلَيْهِنَّ مِنْ
غَيْرِهِمْ مِمنْ أرَادَ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ فَمَنْ كانَ
دُونَ ذالِكَ فَمِنْ حَيْثُ أنّشَأَ حَتَّى أهْلُ مَكَّةَ
مِنْ مَكَّةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَلأَهل الْيمن
يَلَمْلَم) قَوْله: (من غَيرهم) ويروى: من غَيْرهنَّ،
وَكَذَا وَقع فِي رِوَايَة أبي دَاوُد. قَوْله: (حَتَّى
أهل مَكَّة) ، يجوز فِي لفظ: أهل، الْجَرّ لِأَن: حَتَّى،
تكون حرفا جارا بِمَنْزِلَة: إِلَى، وَيجوز فِيهِ الرّفْع
على أَنه مُبْتَدأ وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره: حَتَّى أهل
مَكَّة يهلون من مَكَّة، كَمَا فِي قَوْلك: جَاءَ الْقَوْم
حَتَّى المشاة، أَي: حَتَّى المشاة جاؤا.
31 - (بابٌ ذَاتَ عِرْقٍ لأهلِ العِرَاقِ)
يجوز فِي: بَاب، الْإِضَافَة وَالْقطع. أما الأول:
فتقديره: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن ذَات عرق مهل أهل
الْعرَاق، وَأما تَقْدِير الثَّانِي: هَذَا بَاب يذكر
فِيهِ ذَات عرق لأهل الْعرَاق، وَذَات غرق بِكَسْر الْعين،
وَقد فسرناها فِي: بَاب مِيقَات أهل الْمَدِينَة، سمي بذلك
لِأَن فِيهِ عرقا، وَهُوَ الْجَبَل الصَّغِير، وَهِي أَرض
سبخَة تنْبت الطرفاء. وَقَالَ الْكرْمَانِي فِي مَنَاسِكه:
ذَات عرق أول بِلَاد تهَامَة ودونها بميلين وَنصف مَسْجِد
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَهِي لبني هِلَال
بن عَامر بن صعصعة، وَبهَا بركَة تعرف بقصر الوصيف، وَبهَا
من الْآبَار الْكِبَار ثَلَاثَة آبار وآبار صغَار
كَثِيرُونَ وبقربه قبر أبي رِغَال، وبالقرب مِنْهَا
بُسْتَان مِنْهُ إِلَى مَكَّة ثَمَانِيَة عشر ميلًا.
وَفِي (الموعب) لِابْنِ التياني: الْعرَاق الَّذِي يَجْعَل
على ملتقى طرفِي الْجلد إِذا خرز فِي أَسْفَل الْقرْبَة،
وَبِه سمي الْعرَاق لِأَنَّهُ بَين الْبر والريف، وَقَالَ
الْجَوْهَرِي: الْعرَاق بِلَاد تذكر وتؤنث، وَيُقَال: هُوَ
فَارسي مُعرب، وَزعم ابْن حوقل فِي (كتاب الْبلدَانِ)
تأليفه: أَن حد الْعرَاق من تكريت إِلَى عبادان، وَعرضه من
الْقَادِسِيَّة إِلَى الْكُوفَة وبغداد إِلَى حلوان،
وَعرضه بنواحي وَاسِط من سَواد وَاسِط إِلَى قريب الطّيب،
وبنواحي الْبَصْرَة من الْبَصْرَة إِلَى حُدُود جِيءَ،
وَالَّذِي يطِيف بِحُدُودِهِ من تكريت فِيمَا يَلِي
الْمشرق حَتَّى يجوز بِحُدُودِهِ شهر زور، ثمَّ يمر على
حُدُود حلوان وحدود السيروان والضميرة وَالطّيب والسوس
حَتَّى يَنْتَهِي إِلَى حُدُود جِيءَ، ثمَّ إِلَى الْبَحْر
فَيكون فِي هَذَا الْحَد من تكريت إِلَى الْبَحْر تقويس،
وَيرجع على حد الغرب من وَرَاء الْبَصْرَة فِي الْبَادِيَة
على سَواد الْبَصْرَة وبطائحها إِلَى وَاسِط، ثمَّ على
سَواد الْكُوفَة وبطائحها إِلَى الْكُوفَة، ثمَّ على ظهر
الْفُرَات إِلَى الأنبار ثمَّ من الأنبار إِلَى حد تكريت
بَين دجلة والفرات من هَذَا الْحَد من الْبَحْر على
الأنبار إِلَى تكريت تقويس أَيْضا، فَهَذَا الْمُحِيط
بحدود الْعرَاق، وَهُوَ من تكريت إِلَى الْبَحْر مِمَّا
يَلِي الْمشرق على تقويسه نَحْو شهر، وَمن الْبَحْر رَاجعا
فِي حد الْمغرب على تقويسه إِلَى تكريت إِلَى الْبَحْر
بِنَحْوِ شهر أَيْضا، وَعرضه على مَا سَمِعت بَغْدَاد من
حلوان إِلَى الْقَادِسِيَّة إِحْدَى عشرَة مرحلة، وعَلى
قسمه سر من رأى من دجلة إِلَى شهر زور والجبل نَحْو خمس
مراحل، وَالْعرض بواسط إِلَى نواحي خورستان نَحْو أَربع
مراحل.
1351 - حدَّثني عَلِيُّ بنُ مُسْلِمٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ
الله بنُ نُمَيْرٍ قَالَ حَدثنَا عُبَيْدُ الله عنْ
نَافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
قَالَ لَمَّا فُتِحَ هاذانِ المِصْرَانِ أتَوْا عُمَرَ
فقالُوا يَا أمِيرَ المُؤْمِنِينَ إنَّ رسولَ الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم حَدَّ لأِهْلِ نَجْدٍ قَرْنا وَهْوَ
جَوْرٌ عنْ طَرِيقِنَا وإنَّا أرَدْنَا قَرْنا شَقَّ
عليْنَا قَالَ فانْظُرُوا حَذْوَهَا مِنْ طَرِيقِكُمْ
فَحَدَّ لَهُمْ ذَاتَ عِرْقٍ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: فحد لَهُم ذَات عرق.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: عَليّ بن مُسلم، بِلَفْظ
إسم الْفَاعِل من الْإِسْلَام: ابْن سعيد أَبُو الْحسن،
مَاتَ سنة ثَلَاث وَخمسين وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عبد
الله بن نمير، بِضَم النُّون وَفتح الْمِيم، مصغر
(9/144)
نمر، مر فِي أول: بَاب التَّيَمُّم.
الثَّالِث: عبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن
الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَبُو عُثْمَان
الْقرشِي الْعَدوي. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر.
الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب. السَّادِس: عمر بن
الْخطاب أَمِير الْمُؤمنِينَ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد
فِي مَوضِع وَاحِد وبصيغة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه:
العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة
مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه طوسي
سكن بَغْدَاد وَعبد الله بن نمير كُوفِي وَعبيد الله
وَنَافِع مدنيان.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (لما فتح هَذَانِ المصران) فتح فِي
رِوَايَة الْأَكْثَرين بِضَم الْفَاء على بِنَاء مَا لم
يسم فَاعله، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني بِفَتْح الْفَاء
على الْبناء للْفَاعِل، وهذين المصرين، مَفْعُوله، وطوى
ذكر الْفَاعِل للْعلم بِهِ، وَالتَّقْدِير: لما فتح الله
هذَيْن المصرين، وَكَذَا ثَبت فِي رِوَايَة أبي نعيم فِي
(الْمُسْتَخْرج) ، وَبِه جزم القَاضِي عِيَاض. وَقَالَ
ابْن مَالك: تنَازع فِيهِ الفعلان، وهما: فتح وَأتوا،
وأعمل الثَّانِي. والمصران تَثْنِيَة مصر، وَأَرَادَ بهما:
الْبَصْرَة والكوفة. فَإِن قلت: هما من تمصير الْمُسلمين،
وبنيتا فِي أَيَّام عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ أما الْكُوفَة فَإِنَّهَا بنيت سنة أَربع عشرَة
وَأما الْبَصْرَة فَكَذَلِك مَدِينَة إسلامية بنيت فِي
أَيَّام عمر ابْن الْخطاب فِي سنة سبع عشرَة، وَكَيف
يُقَال لما فتح هَذَانِ المصران؟ قلت: المُرَاد بفتحهما
غَلَبَة الْمُسلمين على مَكَان أرضهما، وَبَين الْبَصْرَة
والكوفة ثَمَانُون فرسخا، وَلَيْسَ فِيهَا مزدرع على
الْمَطَر أصلا لِكَثْرَة أنهارها، والكوفة على ذِرَاع من
الْفُرَات خَارج جَانِبي الْفُرَات وغربيها. قَوْله:
(وَهُوَ جور) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْوَاو وَفِي
آخِره رَاء أَي: ميل، والجور: الْميل عَن الْقَصْد.
قَوْله: (فانظروا حذوها) بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة
وَسُكُون الذَّال الْمُعْجَمَة وَفتح الْوَاو، بِمَعْنى:
الْحذاء، وَالْمعْنَى اعتبروا مَا يُقَابل من الأَرْض
الَّتِي تسلكونها من غير ميل فاجعلوها ميقاتا. قَوْله:
(فحد لَهُم) أَي: حد ذَات عرق لَهُم أَي لهَؤُلَاء الَّذين
سَأَلُوا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ طَاوُوس وَابْن
سِيرِين وَجَابِر بن زيد على أَن أهل الْعرَاق لَا وَقت
لَهُم كوقت سَائِر الْبلدَانِ، وَإِنَّمَا يهلون من
الْمِيقَات الَّذِي يأْتونَ عَلَيْهِ من الْمَوَاقِيت
الْمَذْكُورَة. وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: أجمع عوام أهل
الْعلم على القَوْل بِظَاهِر حَدِيث ابْن عمر، وَاخْتلفُوا
فِيمَا يفعل من مر بِذَات عرق، فَثَبت أَن عمر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وقته لأهل الْعرَاق وَلَا يثبت فِيهِ
شَيْء عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قلت:
وَالصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ الْإِثْبَات أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ الَّذِي وقته على حسب مَا
علمه بِالْوَحْي من فتح الْبلدَانِ والأقطار لأمته، وَقد
قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (زويت لي الأَرْض فَأريت
مشارقها وَمَغَارِبهَا) . وَقَالَ جُمْهُور الْعلمَاء من
التَّابِعين وَمن بعدهمْ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر: إِن
مِيقَات أهل الْعرَاق ذَات عرق، إلاَّ أَن الشَّافِعِي
اسْتحبَّ أَن يحرم الْعِرَاقِيّ من العقيق الَّذِي بحذاء
ذَات عرق، وَقَالَ فِي (الْأُم) : لم يثبت عَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه حد ذَات عرق، وَإِنَّمَا
أجمع عَلَيْهِ النَّاس، وَهَذَا يدل على أَن مِيقَات ذَات
عرق لَيْسَ مَنْصُوصا عَلَيْهِ. وَبِه قطع الْغَزالِيّ
والرافعي فِي (شرح الْمسند) وَالنَّوَوِيّ فِي شرح مُسلم
وَكَذَا وَقع فِي الْمُدَوَّنَة لمَالِك رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ قلت: صححت الْحَنَفِيَّة والحنابلة
وَجُمْهُور الشَّافِعِيَّة والراقعي فِي (الشَّرْح
الصَّغِير) وَالنَّوَوِيّ فِي (شرح الْمُهَذّب) : أَنه
مَنْصُوص عَلَيْهِ، وَاحْتَجُّوا على ذَلِك بِمَا رَوَاهُ
الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عَليّ بن دَاوُد،
قَالَ: حَدثنَا خَالِد بن يزِيد وَهِشَام بن بهْرَام
الْمَدَائِنِي، قَالَا: حَدثنَا الْمعَافي بن عمرَان عَن
أَفْلح بن حميد عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة: أَن النَّبِي
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّت لأهل الْمَدِينَة ذَا
الحليفة، وَلأَهل الشَّام ومصر الْجحْفَة، وَلأَهل
الْعرَاق ذَات عرق، وَلأَهل الْيمن بلملم. وَأخرجه
النَّسَائِيّ: أخبرنَا عَمْرو بن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا
هِشَام بن بهْرَام إِلَى آخِره، وَبِحَدِيث جَابر أخرجه
مُسلم، وَفِيه: مهلَّ أهل الْعرَاق ذَات عرق، وَأخرجه
الطَّحَاوِيّ أَيْضا وَلَفظه: وَلأَهل الْعرَاق ذَات عرق.
وَأخرج الطَّحَاوِيّ أَيْضا من حَدِيث أنس بن مَالك أَنه
سمع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّت لأهل
الْمَدِينَة ذَا الحليفة، وَلأَهل الشَّام الْجحْفَة،
وَلأَهل الْيمن يَلَمْلَم، وَلأَهل الْبَصْرَة ذَات عرق،
وَلأَهل الْمَدَائِن العقيق. وَأخرجه الطَّبَرَانِيّ
أَيْضا، ثمَّ قَالَ الطَّحَاوِيّ: فقد ثَبت عَن رَسُول
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِهَذِهِ الْآثَار من وَقت
أهل الْعرَاق، كَمَا ثَبت من وَقت من سواهُم. وَقَالَ ابْن
الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِي الْمَكَان الَّذِي يحرم من أَتَى
من الْعرَاق على ذَات عرق، فَكَانَ أنس يحرم من العقيق،
وَاسْتحبَّ ذَلِك الشَّافِعِي، وَكَانَ مَالك وَإِسْحَاق
وَأحمد وَأَبُو ثَوْر وَأَصْحَاب الرَّأْي يرَوْنَ
الْإِحْرَام من ذَات عرق. وَقَالَ أَبُو بكر: الْإِحْرَام
من ذَات عرق يجزيء، وَهُوَ من العقيق أحوط. وَقد كَانَ
الْحسن بن صَالح
(9/145)
يحرم من الربذَة، وَرُوِيَ ذَلِك عَن حصيف
وَالقَاسِم بن عبد الرَّحْمَن، والعقيق، بِفَتْح الْعين
الْمُهْملَة وَكسر الْقَاف. وَقَالَ الْبكْرِيّ: على وزن
فعيل: عقيقان، عقيق بني عقيل على مقربة من عقيق
الْمَدِينَة الَّذِي بِقرب البقيع على لَيْلَتَيْنِ من
الْمَدِينَة. وَقَالَ ياقوت: العقيق عشرَة مَوَاضِع،
وعقيقا الْمَدِينَة أشهرها وَأكْثر مَا يذكر فِي
الْأَشْعَار فإياهما، وَقَالَ الْحسن بن مُحَمَّد المهلبي:
بَين العقيق وَالْمَدينَة أَرْبَعَة أَمْيَال، وَعَن
الْأَصْمَعِي: الأعقة الأودية. وَفِي (التَّلْوِيح) :
حَدثنَا عبد الله بن عُرْوَة حَدثنَا زُهَيْر بن مُحَمَّد
العابد حَدثنِي أَبُو عَاصِم عَن سُفْيَان عَن يزِيد عَن
مُحَمَّد بن عَليّ عَن ابْن عَبَّاس: أَن رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم وقَّتَ لأهل الْعرَاق بطن العقيق.
قَالَ أَبُو مَنْصُور: أَرَادَ العقيق الَّذِي بحذاء ذَات
عرق.
41 - (بابٌ)
أَي: هَذَا بَاب، وَأَرَادَ بِهِ الْفَصْل كَمَا جرت بِهِ
عَادَة المصنفين، يذكرُونَ بَابا ثمَّ يذكرُونَ فِيهِ:
فصل، أَي: هَذَا فصل، وَإِنَّمَا يَفْعَلُونَ هَكَذَا
لتَعلق الْمَسْأَلَة الْمَذْكُورَة بِمَا قبله، وَهَهُنَا
كَذَلِك لِأَنَّهُ ذكر فِيهِ: أَنه صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم صلى بالبطحاء بِذِي الحليفة، وَهَذَا لَهُ تعلق
بِالْإِحْرَامِ من حَيْثُ إِن الصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ
عِنْد إِرَادَة الْإِحْرَام مُسْتَحبَّة. وَقَالَ بَعضهم:
وَقد ترْجم عَلَيْهِ بعض الشَّارِحين: بَاب نزُول
الْبَطْحَاء وَالصَّلَاة بِذِي الحليفة. قلت: أَرَادَ
بِبَعْض الشَّارِحين صَاحب (التَّوْضِيح) وَحكى قطب الدّين
الْحلَبِي أَنه فِي بعض النّسخ، قَالَ: وَسقط فِي نُسْخَة
سَمَاعنَا لفظ: بَاب، وَفِي (شرح ابْن بطال) : الصَّلَاة
بِذِي الحليفة.
2351 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا
مالِكٌ عَن نافِعٍ عنْ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ رَضِي الله
تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أناخَ بِالبَطْحَاءِ بِذِي الحُلَيْفَةِ فَصَلَّى
بِهَا وكانَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا يَفْعَلُ ذالِكَ.
رِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأخرجه مُسلم أَيْضا فِي
الْحَج عَن يحيى بن يحيى. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن
القعْنبِي. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن
سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين: كِلَاهُمَا عَن أبي
الْقَاسِم وَعَن أبي الطَّاهِر بن السَّرْح عَن ابْن وهب
الْكل عَن مَالك.
قَوْله: (أَنَاخَ) ، بالنُّون وَالْخَاء الْمُعْجَمَة،
أَي: أبرك بعيره، وَالْمعْنَى: أَنه نزل بالبطحاء الَّذِي
بِذِي الحليفة، وَإِنَّمَا قيد بِهَذَا لِأَن فِي مَكَّة
أَيْضا بطحاء، وبذي قار أَيْضا بطحاء، وبطحاء أَزْهَر،
فَهَذِهِ أَرْبَعَة، وبطحاء أَزْهَر نزل بِهِ، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، فِي بعض غَزَوَاته وَبِه مَسْجِد، وَهَذِه
الْبَطْحَاء الْمَذْكُورَة هُنَا يعرفهَا أهل الْمَدِينَة
بالمعرس، وأناخ بهَا، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي
رُجُوعه من مَكَّة إِلَى الْمَدِينَة. وَقَالَ بَعضهم:
نُزُوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فيهمَا يحْتَمل أَن
يكون فِي الذّهاب، وَهُوَ الظَّاهِر من تصرف المُصَنّف،
وَيحْتَمل أَن يكون فِي الرُّجُوع، وَيُؤَيِّدهُ حَدِيث
ابْن عمر الَّذِي بعده بِلَفْظ: وَإِذا رَجَعَ صلى بِذِي
الحليفة بِبَطن الْوَادي، وَبَات حَتَّى أصبح، وَيُمكن
الْجمع بِأَنَّهُ كَانَ يفعل الْأَمريْنِ ذَهَابًا وإيابا.
انْتهى. قلت: قَوْله: وَهُوَ الظَّاهِر، غير ظَاهر، بل
الظَّاهِر أَنه كَانَ يُصَلِّي فِي رُجُوعه لِأَنَّهُ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم أرِي فِي النّوم وَهُوَ معرس فِي
هَذِه الْبَطْحَاء أَنه قيل لَهُ: إِنَّك ببطحاء مباركة،
فَلذَلِك كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصَلِّي
فِيهَا تبركا بهَا. ويجعلها عِنْد رُجُوعه من مَكَّة
مَوضِع مبيته ليبكر مِنْهَا إِلَى الْمَدِينَة ويدخلها فِي
صدر النَّهَار، وتتقدم أَخْبَار القادمين على أَهْليهمْ
فتتهيأ الْمَرْأَة، وَهُوَ فِي معنى كَرَاهِيَة الطروق
لَيْلًا من السّفر، ثمَّ هَذِه الصَّلَاة لَيست الصَّلَاة
الَّتِي تصلى وَقت الْإِحْرَام، لِأَن الَّذِي يُصَلِّي
وَقت الْإِحْرَام سنة، وَهَذِه الصَّلَاة مُسْتَحبَّة.
وَقَالَ ابْن عبد الْبر: وَهَذَا عَن مَالك وَغَيره من أهل
الْعلم مُسْتَحبّ مستحسن مرغب فِيهِ، وَلَيْسَ بِسنة من
سنَن الْحَج وَلَا الْمَنَاسِك الَّتِي تجب بهَا على
تاركها فديَة أَو دم، وَلكنه حسن عِنْد جَمِيعهم إِلَّا
ابْن عمر، فَإِنَّهُ جعله سنة. وَقَالَ النَّوَوِيّ: قَالَ
أَصْحَابنَا: لَو ترك هَذِه الصَّلَاة فَاتَتْهُ
الْفَضِيلَة وَلَا إِثْم عَلَيْهِ.
51 - (بابُ خُرُوجِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَلَى
طَرِيقِ الشَّجَرَةِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان خُرُوج النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم، على طَرِيق الشَّجَرَة، قَالَ
الْمُنْذِرِيّ: هِيَ على سِتَّة أَمْيَال من
(9/146)
الْمَدِينَة، وَعند الْبكْرِيّ هِيَ من البقيع، وَقَالَ
عِيَاض: هُوَ مَوضِع مَعْرُوف على طَرِيق من أَرَادَ
الذّهاب إِلَى مَكَّة من الْمَدِينَة كَانَ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم يخرج مِنْهَا إِلَى ذِي الحليفة فيبيت
بهَا، وَإِذا رَجَعَ بَات بهَا أَيْضا.
3351 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِر قَالَ حدَّثنا
أنَسُ بنُ عِيَاض عنْ عُبَيْدِ الله عنْ نافِعٍ عنْ عَبْدِ
الله بن عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ
الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ يَخْرُجُ مِنْ طَريقِ
الشَّجَرَةِ ويَدْخُلُ مِنْ طَريقِ المُعَرَّسِ وأنَّ
رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كانَ إذَا خَرَجَ إلَى
مكَّةَ يُصَلِّي فِي مَسْجِدِ الشَّجَرَةِ وَإذَا رجَعَ
صَلَّى بِذِي الحُلَيْفَةِ بِبَطْنِ الوَادِي وبَاتَ
حَتَّى يُصْبِحَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: كَانَ يخرج من طَرِيق
الشَّجَرَة. وَرِجَاله قد ذكرُوا، وَعبيد الله هُوَ ابْن
عمر الْعمريّ. وَأخرجه البُخَارِيّ أَيْضا عَن أَحْمد بن
الْحجَّاج فرقهما.
قَوْله: (كَانَ يخرج) ، أَي: من الْمَدِينَة (من طَرِيق
الشَّجَرَة) الَّتِي عِنْد مَسْجِد ذِي الحليفة وَيدخل
الْمَدِينَة من طَرِيق الْعرس وَهُوَ أَسْفَل من مَسْجِد
ذِي الحليفة. قَوْله: (المعرس) بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول
من التَّعْرِيس وَهُوَ مَوضِع النُّزُول عِنْد آخر
اللَّيْل، وَقيل: مَوضِع النُّزُول مُطلقًا. وَقَالَ
التَّيْمِيّ: يخرج من مَكَّة من طَرِيق الشَّجَرَة وَيدخل
مَكَّة من طَرِيق المعرس، عكس مَا شرحناه، وَتَمام
الحَدِيث لَا يساعده. قَوْله: (وَبَات) أَي: بِذِي الحليفة
(حَتَّى يصبح) ثمَّ يتَوَجَّه إِلَى الْمَدِينَة وَذَلِكَ
لِئَلَّا يفجأ النَّاس أَهَالِيهمْ لَيْلًا، وَقَالَ ابْن
بطال: كَانَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يفعل ذَلِك
كَمَا يفعل فِي الْعِيد، يذهب من طَرِيق وَيرجع من
أُخْرَى، وَقيل: كَانَ نُزُوله هُنَاكَ لم يكن قصدا. وءنما
كَانَ اتِّفَاقًا، وَالصَّحِيح أَنه كَانَ قصدا. |