عمدة القاري شرح
صحيح البخاري 56 - (بابُ الكَلامِ فِي الطَّوَافِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان إِبَاحَة الْكَلَام فِي
الطّواف، وَإِنَّمَا أطلق وَلم يبين الحكم فِيهِ من حَيْثُ
إِن المُرَاد مُطلق الْإِبَاحَة من الْكَلَام الَّذِي
لَيْسَ فِيهِ الْمُؤَاخَذَة، كَمَا ورد فِي الحَدِيث
الْمَشْهُور عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا، مَوْقُوفا وَمَرْفُوعًا: (الطّواف بِالْبَيْتِ
صَلَاة إلاَّ أَن الله تَعَالَى أَبَاحَ الْكَلَام فِيهِ،
فَمن نطق فَلَا ينْطق إلاَّ بِخَير) ، رَوَاهُ الْحَاكِم.
وَفِي لفظ: (الطّواف مثل الصَّلَاة إلاَّ أَنكُمْ تتكلمون،
فَمن تكلم فِيهِ فَلَا يتَكَلَّم إلاَّ بِخَير) ،
وَرَوَاهُ ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث فُضَيْل بن
عِيَاض عَن عَطاء بِلَفْظ: (الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة
إلاَّ أَن الله أحل فِيهِ النُّطْق، فَمن نطق فَلَا ينْطق
إلاَّ بِخَير) ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث
طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم قَالَ: (الطّواف حول الْبَيْت مثل الصَّلَاة، إلاَّ
أَنكُمْ تتكلمون فِيهِ، فَمن تكلم فِيهِ فَلَا يتَكَلَّم
إلاَّ بِخَير) . وَقَالَ أَبُو عِيسَى: وَقد رُوِيَ عَن
ابْن طَاوُوس وَغَيره عَن ابْن عَبَّاس مَوْقُوفا، وَلَا
نعرفه مَرْفُوعا، ألاَّ من حَدِيث عَطاء بن السَّائِب.
وَقَالَ النَّسَائِيّ: أخبرنَا قُتَيْبَة بن سعيد، قَالَ:
حَدثنَا أَبُو عوَانَة عَن إِبْرَاهِيم بن ميسرَة عَن
طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس قَالَ: (الطّواف بِالْبَيْتِ
صَلَاة، فأقلوا بِهِ الْكَلَام) . وَقَالَ الشَّافِعِي:
حَدثنَا سعيد بن سَالم عَن حَنْظَلَة عَن طَاوُوس عَن ابْن
عمر أَنه قَالَ: (أقلوا الْكَلَام فِي الطّواف، فَإِنَّمَا
أَنْتُم فِي صَلَاة) ، وَعِنْده أَيْضا عَن إِبْرَاهِيم بن
نَافِع قَالَ: (كلمت طاووسا فِي الطّواف فكلمني) . وَقَالَ
التِّرْمِذِيّ: وَالْعَمَل على هَذَا عِنْد أَكثر أهل
الْعلم أَنهم يستحبون أَن لَا يتَكَلَّم الرجل فِي الطّواف
إلاَّ بحاجة أَو بِذكر الله أَو من الْعلم. وَقَالَ أَبُو
عمر عَن عَطاء: أَنه كَانَ يكره الْكَلَام فِي الطّواف
إلاَّ الشَّيْء الْيَسِير، وَكَانَ مُجَاهِد يقْرَأ
عَلَيْهِ الْقُرْآن فِي الطّواف. وَقَالَ مَالك: لَا
أَدْرِي ذَلِك، وليقبل على طَوَافه. وَقَالَ الشَّافِعِي:
أَنا أحب الْقِرَاءَة فِي الطّواف وَهُوَ أفضل مَا
يتَكَلَّم بِهِ الْإِنْسَان. وَفِي (شرح الْمُهَذّب) :
يكره للْإنْسَان الطَّائِف الْأكل وَالشرب فِي الطّواف،
وَكَرَاهَة الشّرْب أخف، وَلَا يبطل الطّواف بِوَاحِد
مِنْهُمَا وَلَا بهما جَمِيعًا. وقالالشافعي: روى عَن ابْن
عَبَّاس أَنه شرب وَهُوَ يطوف، وَقَالَ ابْن بطال: كره
جمَاعَة قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الطّواف، مِنْهُم عُرْوَة
وَالْحسن وَمَالك، وَقَالَ: مَا ذَاك من عمل النَّاس وَلَا
بَأْس بِهِ إِذا أخفاه، وَلَا يكثر مِنْهُ، وَقَالَ عَطاء:
قِرَاءَة الْقُرْآن فِي الطّواف مُحدث.
0261 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ مُوسَى قَالَ حدَّثنا
هِشَامٌ أنَّ ابنَ جُرَيْجٍ أخْبَرَهُمْ قَالَ أخبرَنِي
سُلَيْمانُ الأحْوَلُ أنَّ طاوُوسا أخْبَرَهُ عنِ ابنِ
عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا أنَّ النبيَّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم مَرَّ وَهْوَ يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ
بإنْسَانٍ رَبَطَ يَدَهُ إِلَى إنْسَانٍ بِسَيْرٍ أوْ
بِخَيْطٍ أوْ بِشَيْءٍ غَيْرَ ذلِكَ فقَطَعَهُ النبيُّ صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم بِيَدِهِ ثُمَّ قالَ قُدْهُ
بِيَدِهِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (قده بِيَدِهِ) ،
فَإِنَّهُ تكلم وَهُوَ طائف.
ذكر رِجَاله: وهم: سِتَّة: الأول: إِبْرَاهِيم بن مُوسَى
ابْن يزِيد الْفراء أَبُو إِسْحَاق يعرف بالصغير.
الثَّانِي: هِشَام بن يُوسُف أَبُو عبد الرَّحْمَن.
الثَّالِث: عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز ابْن جريج.
الرَّابِع: سُلَيْمَان بن أبي مُسلم الْأَحول. الْخَامِس:
طَاوُوس بن كيسَان. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
موضِعين. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد.
وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه
رازي وهشاما صنعاني يماني قاضيها وَأَن ابْن جريج
وَسليمَان مكيان وَأَن طاووسا يماني.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ
أَيْضا فِي الْإِيمَان وَالنُّذُور عَن أبي عَاصِم
النَّبِيل، وَكَذَا أخرجه عَنهُ فِي الْحَج. وَأخرجه أَبُو
دَاوُد فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور عَن يحيى بن معِين.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ وَفِي الْحَج عَن يُوسُف بن
سعيد بن مُسلم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ يطوف) الْوَاو فِيهِ
للْحَال. قَوْله: (بِإِنْسَان) يتَعَلَّق بقوله: مر، وَفِي
رِوَايَة أَحْمد عَن عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج إِلَى
إِنْسَان آخر، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ: (بِإِنْسَان
قد ربظ يَده بِإِنْسَان) . قَوْله: (بسير) ، بِفَتْح
السِّين الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي
آخِره رَاء، وَهُوَ مَا يقد من الْجلد، وَالْقد الشق طولا،
يُقَال: قددت السّير أقده. قيل: إِن أهل الْجَاهِلِيَّة
كَانُوا
(9/263)
يَعْتَقِدُونَ أَنهم يَتَقَرَّبُون
بِمثلِهِ إِلَى الله تَعَالَى. قَوْله: (وبشيء غير ذَلِك)
كَأَن الرَّاوِي لم يضْبط مَا كَانَ مربوطا بِهِ، فلأجل
ذَلِك شكّ فِيهِ، وَغير السّير وَالْخَيْط نَحْو المنديل
الَّذِي يرْبط بِهِ أَو الْوتر أَو غَيرهمَا. قَوْله:
(قده) ، بِضَم الْقَاف: أَمر من قَادَهُ يَقُودهُ من
القيادة أَو الْقود، وَهُوَ الْجَرّ والسجب، ويروى: (قد
بِيَدِهِ) ، بِدُونِ الضَّمِير فِي: قده، وَفِي رِوَايَة
أَحْمد وَالنَّسَائِيّ: قده، بالضمير. وَفِي (التَّلْوِيح)
بِخَط مُصَنفه: خُذ بِيَدِهِ، قيل: ظَاهر الحَدِيث أَن
المقود كَانَ ضريرا، ورد بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون
لِمَعْنى آخر، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قيل: إسم الرجل
المقود ثَوَاب ضد الْعقَاب وَقَالَ بَعضهم: وَلم أر ذَلِك
لغيره، وَلَا أَدْرِي من أَيْن أَخذه. قلت: إِن هَذَا
مِمَّا يتعجب مِنْهُ، فَلَا يلْزم من عدم رُؤْيَته
كَذَلِك، عدم رُؤْيَة الْغَيْر، وَلَا اطلع هُوَ على
الْمَوَاضِع الْمُتَعَلّقَة بِهَذَا جَمِيعًا جتى يستغرب
ذَلِك.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إِبَاحَة الْكَلَام
بِالْخَيرِ فِي الطّواف. وَفِيه: أَنه يجوز للطائف فعل مَا
خف من الْأَفْعَال. وَفِيه: أَنه إِذا رأى مُنْكرا فَلهُ
أَن يُغير بِيَدِهِ. وَفِيه: أَن من نذر مَالا طَاعَة لله
فِيهِ لَا يلْزمه، ذكره الدَّاودِيّ وَاعْتَرضهُ ابْن
التِّين، فَقَالَ: لَيْسَ هُنَا نذر ذَلِك، وغفل أَنه ذكره
فِي النّذر، وَقد روى أَحْمد من طَرِيق عَمْرو بن شُعَيْب
عَن أَبِيه عَن جده: (أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أدْرك رجلَيْنِ وهما مقترنان، فَقَالَ: مَا بَال
القِران؟ قَالَا: إِنَّا نذرنا لنقترنن حَتَّى نأتي
الْكَعْبَة. فَقَالَ: أطلقا أنفسكما، لَيْسَ هَذَا نذرا
إِنَّمَا النّذر مَا يَبْتَغِي بِهِ وَجه الله) . وروى
الطَّبَرَانِيّ من طَرِيق فَاطِمَة بنت مُسلم: (حَدثنِي
خَليفَة بن بشر عَن أَبِيه أَنه أسلم، فَرد عَلَيْهِ
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَاله وَولده، ثمَّ
لقِيه هُوَ وَابْنه طلق بن بشر مقترنين بِحَبل، فَقَالَ:
مَا هَذَا؟ فَقَالَ: حَلَفت لَئِن رد الله عَليّ مَالِي
وَوَلَدي لأحجن بَيت الله مَقْرُونا. فَأخذ النَّبِي صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَبل فَقَطعه، وَقَالَ لَهما: حجا،
إِن هَذَا من عمل الشَّيْطَان) . وَقَالَ النَّوَوِيّ:
قطعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم السّير مَحْمُول على أَنه لم
يُمكن إِزَالَة هَذَا الْمُنكر إلاَّ بِقطعِهِ.
فروع ذكرهَا الشَّافِعِيَّة: وَهِي: يجوز لَهُ إنشاد
الشّعْر وَالرجز فِي الطّواف إِذا كَانَ مُبَاحا، قَالَه
الْمَاوَرْدِيّ، وَتَبعهُ صَاحب (الْبَحْر) وَيكرهُ أَن
يبصق فِيهِ أَو يتنخم أَو يغتاب أَو ينم فَلَا يفْسد
طَوَافه بِشَيْء من ذَلِك، وَإِن أَثم صرح بِهِ
الْمَاوَرْدِيّ، وَقيل: لَا يكره لَهُ التَّعْلِيم فِيهِ
كَمَا فِي الِاعْتِكَاف، قَالَه الرَّوْيَانِيّ، وَيكرهُ
أَن يضع يَده على فَمه كَمَا فِي الصَّلَاة، قَالَه
الرَّوْيَانِيّ، وَلَو احْتَاجَ إِلَيْهِ للتثاوب فَلَا
بَأْس بذلك، وَلَو طافت الْمَرْأَة متنقبة وَهِي غير
مُحرمَة، قَالَ فِي (التَّوْضِيح) : فَمُقْتَضى مَذْهَبنَا
كَرَاهَته كَمَا فِي الصَّلَاة. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن
عَائِشَة أَنَّهَا كَانَت تَطوف متنقبة، وَبِه قَالَ
أَحْمد وَابْن الْمُنْذر، وَكَرِهَهُ طَاوُوس وَغَيره،
وَالله أعلم.
66 - (بابٌ إذَا رأى سَيْرا أوْ شَيْئا يُكْرَهُ فِي
الطَّوَافِ قَطَعَهُ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ أَن شخصا إِذا رأى سيرا ربط
بِهِ آخر فِي الطّواف وَهُوَ يُقَاد بِهِ قطعه. قَوْله:
(أَو رأى شَيْئا يكره فعله فِي الطّواف مَنعه) قَوْله:
(يكره) على صِيغَة الْمَجْهُول، صفة لقَوْله: شَيْئا،
ويروى: يكرههُ الرَّائِي من فعل مُنْكرا أَو قَول مُنكر،
وَقَوله: (قطعه) بِصِيغَة الْمَاضِي جَوَاب إِذا، وَلَكِن
مَعْنَاهُ فِي السّير على الْحَقِيقَة، وَفِي الشَّيْء
الَّذِي يكره بِمَعْنى الْمَنْع كَمَا ذَكرْنَاهُ.
1261 - حدَّثنا أبُو عَاصِمٍ عنِ ابنِ جُرَيْجٍ عَن
سُلَيْمَانَ الأحْوَلِ عنْ طَاوُوسٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ
رَضِي الله تَعَالَى عنهُما أنَّ النبيَّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم رأى رجُلاً يَطُوفُ بِالكَعْبَةِ بِزِمَام
أَو غَيْرِهِ فقَطَعَهُ..
هَذَا وَجه آخر من حَدِيث ابْن عَبَّاس الْمَذْكُور. أخرجه
عَن أبي عَاصِم الضَّحَّاك بن مخلد عَن عبد الْملك بن عبد
الْعَزِيز بن جريج عَن سُلَيْمَان بن أبي مُسلم الْأَحول
إِلَى آخِره. قَوْله: (أَو غَيره) شكّ من الرَّاوِي.
76 - (بابٌ لاَ يَطُوفُ بالْبَيْتِ عُرْيَانٌ ولاَ يَحُجُّ
مُشْرِكٌ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: لَا يطوف ... إِلَى آخِره.
2261 - حدَّثنا يَحْيَى بنُ بُكَيْرٍ قَالَ حدَّثنا
اللَّيْثُ قَالَ يُونُسُ قَالَ ابنُ شِهَابٍ حدَّثني
حُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمانِ أنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ
أخْبَرَهُ أنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ رَضِي الله
تَعَالَى عنهُ بعَثَهُ فِي الحَجَّةِ الَّتِي أمَّرَهُ
عَلَيْهَا رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَبْلَ
حَجَّةِ الوَدَاعِ يَوْمَ النَّحْرِ فِي رَهْطٍ يُؤذِّنُ
فِي النَّاسِ ألاَ يَحُجَّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ وَلاَ
يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ.
.
(9/264)
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَيحيى بن
بكير هُوَ يحيى بن عبد الله بن بكير المَخْزُومِي
الْمصْرِيّ، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعيد الْمصْرِيّ،
وَيُونُس هُوَ ابْن يزِيد الْأَيْلِي وَابْن شهَاب هُوَ
مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ وَحميد، بِضَم الْحَاء:
ابْن عبد الرَّحْمَن بن عَوْف، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ،
وَقطعَة وافرة من الحَدِيث مَضَت فِي: بَاب مَا يستر من
الْعَوْرَة، فِي كتاب الصَّلَاة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ:
عَن إِسْحَاق ابْن إِبْرَاهِيم عَن يَعْقُوب بن
إِبْرَاهِيم عَن ابْن أخي ابْن شهَاب عَن معن عَن حميد بن
عبد الرَّحْمَن بن عَوْف عَن أبي هُرَيْرَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (بَعثه) أَي: بعث أَبَا هُرَيْرَة.
قَوْله: (فِي الْحجَّة الْبَيْت أمره عَلَيْهَا) ،
بتَشْديد الْمِيم، أَي: جعله أَمِيرا عَلَيْهَا. وَقَالَ
التَّيْمِيّ: بعث رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَبَا بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، سنة تسع من
الْهِجْرَة ليحج بِالنَّاسِ، وَكَانَ مَعَه أَبُو
هُرَيْرَة. وَقَالَ السُّهيْلي: كَانَ سيدنَا رَسُول الله
صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين قدم من تَبُوك أَرَادَ
الْحَج، فَذكر مُخَالطَة الْمُشْركين للنَّاس فِي حجهم
وتلبيتهم بالشرك وطوافهم عُرَاة بِالْبَيْتِ، وَكَانُوا
يقصدون بذلك أَن يطوفوا، كَمَا ولدُوا بِغَيْر الثِّيَاب
الَّتِي أذنبوا فِيهَا وظلموا، فَأمْسك صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم عَن الْحَج فِي ذَلِك الْعَام، وَبعث أَبُو بكر،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بِسُورَة بَرَاءَة لينبذ إِلَى
كل ذِي عهد عَهده من الْمُشْركين إلاَّ بعض بني بكر
الَّذين كَانَ لَهُم عهد إِلَى أجل خَاص، ثمَّ أرْدف بعلي،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فَرجع أَبُو بكر إِلَى
النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: هَل أنزل فِي
قُرْآن؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن أردْت أَن يبلغ عني من هُوَ
من أهل بَيْتِي. قَالَ أَبُو هُرَيْرَة: فَأمرنِي عَليّ،
رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن أَطُوف فِي الْمنَازل من
منى بِبَرَاءَة، فَكنت أصيح حَتَّى صَحِلَ حلقي، فَقيل
لَهُ: بِمَ كنت تنادي؟ قَالَ: بِأَرْبَع: أَن لَا يدْخل
الْجنَّة إلاَّ مُؤمن، وَأَن لَا يحجّ بعد الْعَام مُشْرك،
وَأَن لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَمن كَانَ لَهُ عهد
فَلهُ أجل أَرْبَعَة أشهر. ثمَّ لَا عهد لَهُ. وَكَانَ
الْمُشْركُونَ إِذا سمعُوا النداء بِبَرَاءَة يَقُولُونَ
لعَلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: سَتَرَوْنَ بعد
الْأَرْبَعَة أشهر بِأَنَّهُ لَا عهد بَيْننَا وَبَين ابْن
عمك إلاَّ الطعْن وَالضَّرْب، ثمَّ إِن النَّاس فِي تِلْكَ
الْمدَّة رَغِبُوا فِي الْإِسْلَام حَتَّى دخلُوا فِيهِ
طَوْعًا وَكرها. وَقَالَ ابْن عبد الْبر: لما خرج أَبُو
بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، إِلَى الْحَج نزل صدر
بَرَاءَة بعده، فَقيل: يَا رَسُول الله لَو بعثت بهَا
إِلَى أبي بكر، فَقَالَ: إِنَّه لَا يُؤَدِّيهَا عني إلاَّ
رجل من أهل بَيْتِي، ثمَّ دَعَا عليا، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، فَأرْسلهُ، فَخرج رَاكِبًا على نَاقَة سيدنَا
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم العضباء حَتَّى أدْرك
أَبَا بكر بالعرج، فَقَالَ لَهُ: أَبُو بكر: استعملك
رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الْحَج؟ قَالَ:
لَا وَلَكِن بَعَثَنِي بِقِرَاءَة بَرَاءَة على النَّاس.
قَالُوا: وَالْحكمَة فِي إِعْطَاء بَرَاءَة لعَلي، رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ، لِأَن فِيهَا نقض الْعَهْد، وَكَانَت
سيرة الْعَرَب أَنه لَا يحل العقد إلاَّ الَّذِي عقده أَو
رجل من أهل بَيته، فَأَرَادَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَن يقطع أَلْسِنَة الْعَرَب بِالْحجَّةِ. وَقيل:
إِن فِي سُورَة بَرَاءَة فَضِيلَة لأبي بكر، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، وَهِي {ثَانِي اثْنَيْنِ} (بَرَاءَة
(التَّوْبَة) : 04) . فَأَرَادَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
أَن يكون يَقْرَأها غَيره.
قَوْله: (يَوْم النَّحْر) ، ظرف لقَوْله: بَعثه. قَوْله:
(فِي رَهْط) أَي: فِي جملَة رَهْط، والرهط من الرِّجَال
مَا دون الْعشْرَة، وَقيل: إِلَى الْأَرْبَعين، وَلَا يكون
فيهم امْرَأَة، وَلَا وَاحِد لَهُ من لَفظه، وَيجمع على:
أرهط وأرهاط وأراهط جمع القَوْل. قَوْله: (يُؤذن) ،
الضَّمِير فِيهِ رَاجع إِلَى الرَّهْط بِاعْتِبَار
اللَّفْظ، وَيجوز أَن يكون لأبي هُرَيْرَة على
الِالْتِفَات، وَهُوَ من الإيذان وَهُوَ الْإِعْلَام.
قَوْله: (ألاَ لَا يحجّ) ، كلمة: ألاَ، بِفَتْح الْهمزَة،
واللاَّم المخففة تَأتي على أوجه، وَلَكِن هُنَا
للتّنْبِيه، فتدل على تحقق مَا بعْدهَا. قَوْله: (لَا
يحجّ) نفي، وفاعله، قَوْله: مُشْرك، ويروى: أَن لَا يحجّ،
بِالنّصب بِكَلِمَة: أَن، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي
التَّفْسِير: أَن لَا يَحُجن، بنُون التَّأْكِيد، وَفِي
بعض النّسخ: ألاَّ بِفَتْح الْهمزَة: يحجّ، وبتشديد
اللاَّم، وَعَلِيهِ تكلم الْكرْمَانِي، فَقَالَ: إِن
أَصله: أَن لَا يحجّ، وَأَن مخففةٍ من الثَّقِيلَة أَي:
أَن الشَّأْن. قلت: تَقْدِيره أَنه لَا يحجّ، فَيكون: لَا
يحجّ، مَرْفُوعا على كل حَال. قَوْله: (وَلَا يطوف) ،
بِالرَّفْع عطفا على: لَا يحجّ، وعَلى رِوَايَة: أَن لَا
يحجّ، يكون بِالنّصب عطفا عَلَيْهِ. وَقَوله: (عُرْيَان)
فَاعل: لَا يطوف، وَفِي مُسلم عَن هِشَام عَن أَبِيه
عُرْوَة، قَالَ: كَانَت الْعَرَب يطوفون عُرَاة، إلاَّ أَن
يعطيهم الحمس ثيابًا، فيعطي الرِّجَال الرِّجَال
وَالنِّسَاء النِّسَاء، وَكَانَت الحمس لَا يخرجُون من
الْمزْدَلِفَة، وَكَانَ النَّاس كلهم يبلغون عَرَفَات،
وروى مُسلم وَالنَّسَائِيّ من رِوَايَة مُسلم البطين عَن
سعيد بن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنهُ، قَالَ: كَانَت الْمَرْأَة تَطوف بِالْبَيْتِ
عُرْيَانَة، وَتقول:
(الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله ... فَمَا بدا مِنْهُ
فَلَا أحله)
فَنزلت: {يَا بني آدم خُذُوا زينتكم عِنْد كل مَسْجِد}
(الْأَعْرَاف: 13) . وَذكر الْأَزْرَقِيّ من حَدِيث ابْن
عَبَّاس، قَالَ: كَانَت قبائل الْعَرَب من بني عَامر
وَغَيرهم يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة، الرِّجَال
بِالنَّهَارِ وَالنِّسَاء بِاللَّيْلِ، فَإِذا بلغ أحدهم
بَاب الْمَسْجِد قَالَ للحمس: من يعير معوزا؟ فَإِن
أَعَارَهُ
(9/265)
أحمسي ثَوْبه طَاف فِيهِ، وإلاَّ ألْقى
ثِيَابه بِبَاب الْمَسْجِد ثمَّ طَاف سبعا عُريَانا،
وَكَانُوا يَقُولُونَ: لَا نطوف فِي الثِّيَاب الَّتِي
قارفنا فِيهَا الذُّنُوب. وَكَانَ بعض نِسَائِهِم تتَّخذ
سيورا تعلقهَا فِي حقويها وتستر بهَا، وَفِيه تَقول
العامرية:
(الْيَوْم يَبْدُو بعضه أَو كُله ... وَمَا بدا مِنْهُ
فَلَا نحلّه)
ثمَّ من طَاف مِنْهُم فِي ثِيَابه لم يحل لَهُ أَن يلبسهَا
أبدا، وَلَا ينْتَفع بهَا، وللرياشي زِيَادَة فِي الْبَيْت
الْمَذْكُور:
(كم من لَبِيب لبُّه يضلُّهُ ... وناظرٍ ينظر مَا يملُّهُ)
(جهمٍ من الجثم عَظِيم ظلُّهُ)
قلت: كَانَت هَذِه الْمَرْأَة ضباعة بنت عَامر، وَكَانَت
تَحت عبد الله بن جدعَان، وطافت بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة
وَهِي وَاضِعَة يَديهَا على فخذيها، وقريش أحدثت بهَا
وَهِي تَقول هَذِه الأبيات، وطافت بِالْبَيْتِ الْحَرَام
أسبوعا. وَفِي (تَارِيخ ابْن عَسَاكِر) : كَانَت تغطي
جَسدهَا بشعرها، وَكَانَت إِذا جَلَست أخذت من الأَرْض
شَيْئا كثيا لعظم خلقهَا. وَفِي (صَحِيح مُسلم) عَن ابْن
عَبَّاس: كَانَت الْمَرْأَة تَطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَانَة،
تَقول: من يعيرني تطوافا، يَعْنِي: ثوبا تَطوف بِهِ،
تَجْعَلهُ على فرجهَا، وَتقول:
الْيَوْم يبدون ... إِلَى آخِره.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: حكمان: الأول: لَا يحجّ
بعد الْعَام مُشْرك، فَإِن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم أَمر بالنداء بذلك حِين نزلت {إِنَّمَا
الْمُشْركُونَ نجس فَلَا يقربُوا الْمَسْجِد الْحَرَام بعد
عَامهمْ هَذَا} (التَّوْبَة: 82) . وَالْمرَاد
بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام هُنَا، الْحرم كُله، فَلَا يُمكن
مُشْرك من دُخُول الْحرم بِحَال، وَكَذَلِكَ لَا يُمكن أهل
الذِّمَّة من الْإِقَامَة بعد ذَلِك، لقَوْله صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم: (أخرجُوا الْيَهُود وَالنَّصَارَى من
جَزِيرَة الْعَرَب) قَالَه فِي مرض مَوته صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم فَإِن قلت: إِن الْحَبَشَة يخربون
الْكَعْبَة حجرا حجرا. قلت: لفظ الحَدِيث نهي لَا خبر،
وَكَذَلِكَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يجْتَمع
الْمُسلمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ بعد عَامهمْ هَذَا) فِي
حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ
التِّرْمِذِيّ، وَانْفَرَدَ بِهِ، فَقَالَ: حَدثنَا عَليّ
ابْن خشرم أخبرنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أبي إِسْحَاق
(عَن زيد بن أشْبع قَالَ: سَأَلت عليا، رَضِي الله
تَعَالَى عَنهُ، بِأَيّ شَيْء بعثت؟ قَالَ: (بِأَرْبَع:
لَا يدْخل الْجنَّة إلاَّ نفس مسلمة، وَلَا يطوف
بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَلَا يجْتَمع الْمُسلمُونَ
وَالْمُشْرِكُونَ بعد عَامهمْ هَذَا. .) الحَدِيث. الحكم
الثَّانِي: أَن لَا يطوف بِالْبَيْتِ عُرْيَان، وَاحْتج
مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد فِي رِوَايَة بِهَذَا،
فَقَالُوا بِاشْتِرَاط ستر الْعَوْرَة، وَذهب أَبُو حنيفَة
وَأحمد فِي رِوَايَة إِلَى أَنه لَو طَاف عُريَانا يجْبر
بِدَم.
86 - (بابٌ إذَا وقَفَ فِي الطَّوَافِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ إِذا وقف الطَّائِف فِي
طَوَافه هَل يَنْقَطِع طَوَافه أم لَا يَنْقَطِع؟
وَإِنَّمَا أطلق لوُجُود الِاخْتِلَاف فِيهِ، فَعِنْدَ
الْجُمْهُور: إِذا عرض لَهُ أَمر فِي طَوَافه فَوقف
يَبْنِي ويتمه وَلَا يسْتَأْنف طَوَافه، وَقَالَ الْحسن:
إِذا أُقِيمَت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَهُوَ فِي الطّواف
فَقَطعه، فَإِنَّهُ يستأنفه وَلَا يَبْنِي على مَا مضى.
وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: وَلَا أعلم قَالَه غَيره، وَقَالَ
ابْن بطال: جُمْهُور الْعلمَاء يرَوْنَ لمن أُقِيمَت
عَلَيْهِ الصَّلَاة الْبناء على طَوَافه إِذا فرغ من
صلَاته، رُوِيَ هَذَا عَن ابْن عمر وَالنَّخَعِيّ وَعَطَاء
وَابْن الْمسيب وطاووس، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَمَالك
وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر. وَفِي
(شرح الْمُهَذّب) : فَإِن حضرت جَنَازَة فِي أثْنَاء
الطّواف فمذهب الشَّافِعِي وَمَالك إتْمَام الطّواف أولى،
وَبِه قَالَ عَطاء وَعَمْرو بن دِينَار، وَقَالَ أَبُو
ثَوْر: لَا يخرج، وَإِن خرج اسْتَأْنف، وَقَالَ أَبُو
حنيفَة وَالْحسن بن صَالح: يخرج لَهَا.
وَقَالَ عَطَاءٌ فِيمَنْ يَطُوفُ فَتُقَامُ الصَّلاَةُ أوْ
يُدْفَعُ عَنْ مَكَانِهِ إذَا سَلَّمَ يَرْجَعُ إلَى
حَيْثُ قُطِعَ عَلَيْهِ فَيَبْنِي
عَطاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَقَالَ الْكرْمَانِي:
إِنَّمَا لم يذكر البُخَارِيّ حَدِيثا يدل على
التَّرْجَمَة إِشَارَة إِلَى أَنه لم يجد فِي الْبَاب
حَدِيثا بِشَرْطِهِ. قلت: لم يلْزم البُخَارِيّ مَا ذكره،
فَإِنَّهُ إِذا ذكر تَرْجَمَة وأتى بأثر من صَحَابِيّ أَو
تَابِعِيّ مُطلق للتَّرْجَمَة فَإِنَّهُ يَكْفِي، وَذكر
مَا قَالَه عَطاء، وَهُوَ تَابِعِيّ كَبِير بيَّن مُرَاده
من التَّرْجَمَة، وَهُوَ أَن الطَّائِف إِذا حصل لَهُ
شَيْء فَقطع طَوَافه فَإِنَّهُ يبْنى على مَا مضى وَلَا
يستأنفه، وَوصل هَذَا الْمُعَلق عبد الرَّزَّاق عَن ابْن
جريج، قلت لعطاء: الطّواف الَّذِي تقطعه على الصَّلَاة،
واعتد بِهِ يجزىء؟ قَالَ: نعم. وَأحب إِلَيّ أَن ألاَّ
يعْتد بِهِ. فَأَرَدْت أَن أركع قبل أَن أتم سبعي! قَالَ:
لَا أوفِ سبعك إِلَّا أَن يمْنَع من الطّواف. وَقَالَ سعيد
بن
(9/266)
مَنْصُور: حَدثنَا هشيم حَدثنَا عبد الْملك
عَن عَطاء أَنه كَانَ يَقُول فِي الرجل يطوف بعض طَوَافه
ثمَّ تحضر الْجِنَازَة يخرج فَيصَلي عَلَيْهَا، يرجع
فَيَقْضِي مَا بَقِي عَلَيْهِ من طَوَافه. قَوْله: (فيبنى)
أَي: على طَوَافه، أَي: يعتبره مَا سلف مِنْهُ وَيتم
الْبَاقِي وَلَا يسْتَأْنف الطّواف.
ويُذْكَرُ نَحْوُهُ عنِ ابنِ عُمَرَ وعبْدِ الرَّحْمانِ
بنِ أبي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم
أَي: يذكر نَحْو مَا قَالَه عَطاء عَن عبد الله بن عمر
وَعبد الرَّحْمَن بن أبي بكر الصّديق. أما مَا رُوِيَ عَن
ابْن عمر فقد وَصله سعيد ابْن مَنْصُور: حَدثنَا
إِسْمَاعِيل بن زَكَرِيَّا عَن جميل بن زيد، قَالَ:
رَأَيْت ابْن عمر طَاف بِالْبَيْتِ، فأقيمت الصَّلَاة فصلى
مَعَ الْقَوْم ثمَّ قَامَ فَبنى على مَا مضى من طَوَافه.
وَأما مَا رُوِيَ عَن عبد الرَّحْمَن بن أبي بكر فقد وَصله
عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج عَن عَطاء أَن عبد
الرَّحْمَن بن أبي بكر طَاف فِي إِمَارَة عَمْرو بن سعيد
على مَكَّة يَعْنِي فِي خلَافَة مُعَاوِيَة، فَخرج عَمْرو
إِلَى الصَّلَاة فَقَالَ لَهُ عبد الرَّحْمَن أَنْظرنِي
حَتَّى أنصرف على وتر، فَانْصَرف على ثَلَاثَة أطواف،
يَعْنِي ثمَّ صلى ثمَّ أتم مَا بَقِي.
96 - (بابٌ صَلَّى النبيُّ لِسُبُوعِهِ رَكْعَتَيْنِ)
أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: صلى النَّبِي، صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم ... . إِلَى آخِره. قَوْله: (لسبوعه) بِضَم
السِّين الْمُهْملَة وَالْبَاء الْمُوَحدَة بِمَعْنى:
الْأُسْبُوع يُقَال: طفت بِالْبَيْتِ أسبوعا أَي: سبع
مَرَّات، وسبوع بِدُونِ الْهمزَة لُغَة قَليلَة فِيهِ.
وَقيل: هُوَ جمع سبع أَو سبع كبرد وبرود، وَضرب وضروب.
وَقَالَ نافَعٌ كَانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا يُصَلِّي لِكُلِّ سُبُوعٍ رَكْعَتَيْنِ
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه، صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم، كَمَا كَانَ يُصَلِّي لسبوعه رَكْعَتَيْنِ
فَكَذَلِك ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، كَانَ
يُصَلِّي لكل سبوعه رَكْعَتَيْنِ. قَوْله: (وَقَالَ
نَافِع) ، مُعَلّق وَصله عبد الرَّزَّاق عَن الثَّوْريّ
عَن مُوسَى بن عقبَة عَن سَالم بن عبد الله عَن ابْن عمر
أَنه كَانَ يطوف بِالْبَيْتِ سبعا ثمَّ يُصَلِّي
رَكْعَتَيْنِ، وَعَن معمر عَن أَيُّوب عَن نَافِع أَن ابْن
عمر كَانَ يكره قرن الطّواف، وَيَقُول: على كل سبع صَلَاة
رَكْعَتَيْنِ.، وَكَانَ لَا يقرن.
وَقَالَ إسْمَاعِيلُ بنُ أميَّةَ قُلْتُ لِلزُّهْرِيِّ
إنَّ عَطَاءً يَقُولُ تُجْزِئُهُ المَكْتُوبَةُ مِنْ
رَكْعَتَيِ الطُّوَافِ فَقَالَ السُّنَّةُ أفْضَلُ لَمْ
يَطُفِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم سُبُوعا قَطُّ
إلاَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَإِسْمَاعِيل بن أُميَّة،
بِضَم الْهمزَة وَفتح الْمِيم وَتَشْديد الْيَاء آخر
الْحُرُوف: ابْن عَمْرو بن سعيد بن الْعَاصِ الْأمَوِي
الْمَكِّيّ، وَقد مر فِي كتاب الزَّكَاة، وَالزهْرِيّ هُوَ
مُحَمَّد بن مُسلم الْمدنِي، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي
رَبَاح الْمَكِّيّ، وَهَذَا الْمُعَلق وَصله عبد
الرَّزَّاق، عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ، وَوَصله ابْن أبي
شيبَة عَن يحيى بن سليم عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن
الزُّهْرِيّ، قَالَ: مَضَت السّنة أَن مَعَ كل أُسْبُوع
رَكْعَتَيْنِ، وروى الْحَافِظ أَبُو الْقَاسِم تَمام بن
مُحَمَّد الرَّازِيّ فِي (فَوَائده) : حَدثنَا أَحْمد بن
الْقَاسِم بن المفرح بن مهْدي الْبَغْدَادِيّ، حَدثنَا
أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَبدة القَاضِي حَدثنَا
إِبْرَاهِيم بن الْحجَّاج الشَّامي حَدثنَا عدي بن الْفضل
عَن إِسْمَاعِيل بن أُميَّة عَن نَافِع عَن ابْن عمر
قَالَ: سنّ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لكل
أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ. وروى ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه)
: حَدثنَا حَفْص بن غياث عَن عَمْرو، عَن الْحسن، قَالَ:
مَضَت السّنة أَن مَعَ كل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ لَا يجزىء
مِنْهُمَا تطوع وَلَا فَرِيضَة. قَوْله: (تجزئة
الْمَكْتُوبَة) بِفَتْح التَّاء وَضمّهَا، يُقَال: أجزاني
الشَّيْء أَي كفاني، والمكتوبة الْفَرِيضَة. قَوْله:
(السّنة أفضل) يَعْنِي: مُرَاعَاة السّنة، وَهِي أَن تصلي
بعد كل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ غير الْمَكْتُوبَة والتطوع،
كَمَا مر عَن الْحسن الْبَصْرِيّ هَكَذَا آنِفا.
3261 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ بنُ سَعِيدٍ قَالَ حدَّثنا
سُفْيانُ عنْ عَمْرٍ وَقَالَ سألْنا ابنَ عُمَرَ رَضِي
الله تَعَالَى عنهُمَا أيَقَعُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأتِهِ
فِي العُمْرَةِ قَبْلَ أنْ يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا
والمَرْوَةِ قَالَ قَدِمَ رَسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم
(9/267)
فَطَافَ بِالْبَيتِ سَبْعا ثُمَّ صَلَّى
خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ وطَافَ بَيْنَ الصَّفَا
والمَرْوَةِ وَقَالَ: {لقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رسولِ الله
أُسْوَةٌ حسَنَةٌ} (الْأَحْزَاب: 32) . . قَالَ وسألْتُ
جَابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا
فَقال لاَ يَقْرَبُ امْرَأتَهُ حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ
الصَّفَا والمَرْوَةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: {لقد كَانَ لكم
فِي رَسُول الله أُسْوَة حَسَنَة} (الْأَحْزَاب: 32) .
لِأَبْنِ ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا،
أَرَادَ بِهَذَا أَن السّنة أَن يُصَلِّي بعد الْأُسْبُوع
رَكْعَتَيْنِ قبل أَن يطوف بَين الصَّفَا والمروة، لِأَن
رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعل ذَلِك، وَقد
مضى هَذَا الحَدِيث بِعَيْنِه فِي بَاب قَول الله عز وَجل
{اتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521)
. فِي كتاب الصَّلَاة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن
الْحميدِي عَن سُفْيَان إِلَى آخِره نَحوه، وسُفْيَان هُوَ
ابْن عُيَيْنَة، وَعَمْرو بن دِينَار وَقد مضى الْكَلَام
فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (أيقع؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام، وَيَقَع من
الوقاع وَهُوَ: الْجِمَاع. قَوْله: (قبل أَن يطوف بَين
الصَّفَا والمروة) قيل فِيهِ: تجوز، لِأَنَّهُ يُسمى سعيا
لَا طَوافا، إِذْ حَقِيقَة الطّواف الشَّرْعِيَّة فِيهِ
غير مَوْجُودَة. قلت: لَا نسلم ذَلِك، لِأَن حَقِيقَة
الطّواف هِيَ الدوران، وَهُوَ مَوْجُود فِي السَّعْي.
قَوْله: (قَالَ وَسَأَلت) ، الْقَائِل هُوَ عَمْرو بن
دِينَار الرَّاوِي عَن ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا.
07 - (بابُ مَنْ لَمْ يَقْرُبِ الكَعْبَةَ ولَمْ يَطُفْ
حَتَّى يَخْرُجَ إِلَى عَرَفَةَ ويَرْجِعَ بَعْدَ
الطَّوَافِ الأوَّلِ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان شَأْن من لم يقرب الْكَعْبَة
أَي: من لم يطف طَوافا آخر غير طواف الْقدوم، لِأَن
الْحَاج لَا طواف عَلَيْهِ غير طواف الْقدوم حَتَّى يخرج
إِلَى عَرَفَات، وينصرف وَيَرْمِي جَمْرَة الْعقبَة.
قَوْله: (حَتَّى يخرج) أَي: إِلَى أَن يخرج. قَوْله:
(وَيرجع) ، بِالنّصب عطف على: يخرج. قَوْله: (بعد الطّواف
الأول) ، أَي: طواف الْقدوم، وَقرب الشَّيْء بِالضَّمِّ
يقرب إِذا دنا، وقربته بِالْكَسْرِ أقربه أَي: دَنَوْت
مِنْهُ.
5261 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ أبِي بَكْرٍ قَالَ حدَّثنا
فُضَيْلٌ قَالَ حدَّثنا موسَى بنُ عُقْبَةَ قَالَ
أَخْبرنِي كُرَيْبٌ عنْ عَبْدِ الله بنِ عَبَّاسٍ رَضِي
الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ فَطافَ وسَعَى بَيْنَ الصَّفَا
والمَرْوَةِ ولَمْ يَقْرَبِ الكَعْبَةَ بَعْدَ طَوَافِهِ
بِهَا حَتَّى رَجَعَ مِنْ عَرَفَةَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم: خَمْسَة: الأول: مُحَمَّد بن أبي بكر بن
عَليّ بن عَطاء بن مقدم أَبُو عبد الله الثَّقَفِيّ
مَوْلَاهُم الْمَعْرُوف بالمقدمي. الثَّانِي: فُضَيْل،
بِضَم الْفَاء وَفتح الضَّاد الْمُعْجَمَة: ابْن
سُلَيْمَان النمري، يكنى أَبَا سُلَيْمَان. الثَّالِث:
مُوسَى بن عقبَة بن أبي عَبَّاس الْأَسدي أَبُو مُحَمَّد.
الرَّابِع: كريب، بِضَم الْكَاف: مولى ابْن عَبَّاس.
الْخَامِس: عبد الله ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى
عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي
ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة
الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي
مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع. وَفِيه: أَن
شَيْخه وَشَيخ شَيْخه مصريان، ومُوسَى وكريب مدنيان،
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاد البُخَارِيّ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: ظَاهر هَذَا الحَدِيث أَن لَا
طواف بعد طواف الْقدوم، وَلَكِن لَا يمْنَع مِنْهُ،
لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لَعَلَّه ترك الطّواف
بعد طواف الْقدوم خشيَة أَن يظنّ أحد أَنه وَاجِب، وَكَانَ
يحب التَّخْفِيف على أمته، وَاعْتمد الْكرْمَانِي على
ظَاهر الحَدِيث وَقَالَ: الْمَقْصُود أَن الْحَاج لَا يطوف
بعد طواف الْقدوم، وَلَيْسَ كَذَلِك، لما قُلْنَا. وَمَالك
اخْتَار أَن لَا يتَنَفَّل بِطواف بعد طواف الْقدوم حَتَّى
يتم حجه، وَقد جعل الله لَهُ فِي ذَلِك سَعَة، فَمن
أَرَادَ أَن يطوف بعد طواف الْقدوم فَلهُ ذَلِك لَيْلًا
كَانَ أَو نَهَارا لَا سِيمَا إِن كَانَ من أقاصي
الْبلدَانِ وَلَا عهد لَهُ بِالطّوافِ، وَقد قَالَ مَالك:
الطّواف بِالْبَيْتِ أفضل من النَّافِلَة لمن كَانَ من
الْبِلَاد الْبَعِيدَة لقلَّة وجود السَّبِيل إِلَى
الْبَيْت، وَرُوِيَ عَن عَطاء وَالْحسن: إِذا قَامَ
الْغَرِيب بِمَكَّة أَرْبَعِينَ يَوْمًا كَانَت الصَّلَاة
لَهُ أفضل من الطّواف. وَقَالَ أنس: الصَّلَاة للغرباء
أفضل. وَقَالَ الْمَاوَرْدِيّ: الطّواف أفضل من الصَّلَاة،
وَقَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره: الصَّلَاة لأهل مَكَّة أفضل
(9/268)
وَالطّواف للغرباء أفضل. وَأما الاعتمار وَالطّواف إيهما
أفضل؟ فَفِي (التَّوْضِيح) : فَحكى بعض الْمُتَأَخِّرين
منا ثَلَاثَة أوجه: ثَالِثهَا إِن استغرقه الطّواف وَقت
الْعمرَة كَانَ أفضل، وإلاَّ فَهِيَ أفضل. |