عمدة القاري شرح صحيح البخاري

17 - (بابُ منْ صَلَّى رَكْعَتَيِّ الطَّوَافِ خَارِجا مِنَ المَسْجِدِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز صَلَاة من صلى رَكْعَتي الطّواف حَال كَونه خَارِجا من الْمَسْجِد الْحَرَام، وَحَاصِله أَنه لَيْسَ لركعتي الطّواف مَوضِع معِين، بل يجوز إقامتهما فِي أَي مَوضِع أَرَادَ الطَّائِف وَإِن كَانَ ذَلِك خلف الْمقَام أفضل، وَلذَلِك ذكر عقيب هَذَا الْبَاب بَاب من صلى رَكْعَتي الطّواف خلف الْمقَام. فَإِن قلت: لم أطلق وَلم يبين الحكم. قلت: لِأَنَّهُ ذكر فِي هَذَا الْبَاب أثر عمر وَحَدِيث أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، أما عمر فَإِنَّهُ إِنَّمَا أخر رَكْعَتي الطّواف لكَونه طَاف: بعد الصُّبْح وَكَانَ لَا يرى التَّنَفُّل بعد الصُّبْح مُطلقًا. وَأما: أم سَلمَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فَلِأَن تَركهَا رَكْعَتي الطّواف لكَونهَا شاكية، فَاحْتمل أَن يكون ذَلِك مُخْتَصًّا بِمن لَهُ عذر.
وصَلَّى عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ خَارِجا مِنَ الحَرَمِ

أَي: صلى عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَكْعَتي الطّواف خَارج الْحرم، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله الْبَيْهَقِيّ من حَدِيث مَالك، رَحمَه الله تَعَالَى، عَن ابْن شهَاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن: أَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي أخبرهُ أَنه كَانَ مَعَ عمر ابْن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، بعد صَلَاة الصُّبْح بِالْكَعْبَةِ، فَلَمَّا قضى طَوَافه نظر فَلم ير الشَّمْس، فَركب حَتَّى أَنَاخَ بِذِي طوى فسبح رَكْعَتَيْنِ.

6261 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرَنا مَالِكٌ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحْمانِ عَن عُرْوَةَ عنْ زَيْنَبَ عَن أم سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ شَكَوْت إِلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ح) وحدَّثني مُحَمَّدُ بنُ حَرْبٍ قَالَ حدَّثنا أبُو مرْوَانَ يَحْيَى بنُ أبي زَكَرِيَّا الغَسَّانِيُّ عنْ هِشَامٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا زَوْجَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ وَهْوَ بِمَكَّةَ وأرادَ الخُرُوجَ ولَمْ تَكُنْ أُمُّ سلَمةَ طَافَتْ بِالْبَيْتِ وأرَادتِ الخُروجَ فَقالَ لَها رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا أُقِيمَتْ صَلاةُ الصُّبْحِ فَطُوفي عَلى بَعِيرِكِ والنَّاسُ يُصَلُّونَ ففَعَلَتْ ذالِكَ فَلَمْ تُصَلِّ حتَّى خَرَجَتْ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلم تصل حَتَّى خرجت) ، أَي: فَلم تصل رَكْعَتي الطّواف حَتَّى خرجت من الْحرم، أَو من الْمَسْجِد، ثمَّ صلت. فَدلَّ هَذَا على جَوَاز تَأْخِير رَكْعَتي الطّواف إِلَى خَارج الْحرم وَأَن تَعْيِينهَا بِموضع غير لَازم، لِأَن التَّعْيِين لَو كَانَ شرطا لَازِما لما أقرّ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أم سَلمَة على ذَلِك، وَفِي رِوَايَة الْإِسْمَاعِيلِيّ من رِوَايَة حسانن: (إِذا قَامَت صَلَاة الصُّبْح فطوفي على بعيرك من وَرَاء النَّاس وهم يصلونَ. قَالَت: فَفعلت ذَلِك وَلم أصل حَتَّى خرجت) أَي: فَصليت.
ذكر رِجَاله: وهم تِسْعَة، لِأَنَّهُ أخرجه عَن طَرِيقين: الأول: عَن عبد الله بن يُوسُف التنيسِي، وَهُوَ من أَفْرَاده، عَن مَالك، عَن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن ابْن نَوْفَل بن الْأسود الْأَسدي الْقرشِي الْمدنِي، يَتِيم عُرْوَة، عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أمهَا أم سَلمَة. وَالطَّرِيق الثَّانِي: عَن مُحَمَّد بن جرب ضد الصُّلْح ابْن حربان أبي عبد الله الشَّامي، عَن أبي مَرْوَان يحيى بن أبي زَكَرِيَّا الغساني الشَّامي، عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير، عَن أم سَلمَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين أَحدهمَا فِي رِوَايَته عَن شَيْخه، وَالْآخر: عَن شيخ شَيْخه وبصيغة الْإِفْرَاد عَن شَيْخه الآخر. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: العنعنة فِي فِي سَبْعَة مَوَاضِع. وَفِيه: مَالك وَمُحَمّد وَهِشَام وَعُرْوَة مدنيون، وَمُحَمّد بن حَرْب وَأَبُو مَرْوَان شاميان. وَفِيه: رِوَايَة الابْن عَن أَبِيه. وَفِيه: رِوَايَة الصحابية عَن الصحابية

(9/269)


وَهِي رِوَايَة الْبِنْت عَن الْأُم. وَفِيه: رِوَايَة عُرْوَة عَن أم سَلمَة، كَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْأصيلِيّ عَن عُرْوَة عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أم سَلمَة، وَزَيْنَب زَائِدَة فِي هَذَا الطَّرِيق.
ذكر مَا قيل فِي هَذَا الحَدِيث: وَهُوَ أَن البُخَارِيّ قد تجوز فِيهِ حَيْثُ عطف الطَّرِيق الثَّانِي على الطَّرِيق الأول، وَالْحَال أَن اللَّفْظَيْنِ مُخْتَلِفَانِ، فَإِنَّهُ أخرج هَذَا الحَدِيث بِالطَّرِيقِ الأول بِعَين هَذَا الْإِسْنَاد فِي بَاب إِدْخَال الْبَعِير فِي الْمَسْجِد لِلْعِلَّةِ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك إِلَى آخِره نَحوه، وَكَذَلِكَ أخرجه فِي: بَاب طواف النِّسَاء بِالرِّجَالِ، عَن قريب عَن إِسْمَاعِيل عَن مَالك إِلَى آخِره، وَقد قُلْنَا: إِن زَيْنَب فِي رِوَايَة الْأصيلِيّ زَائِدَة، لِأَن أَبَا عَليّ بن السكن أخرجه: عَن عَليّ بن عبد الله بن مُبشر عَن مُحَمَّد بن حَرْب شيخ البُخَارِيّ، وَلَيْسَ فِيهِ ذكر زَيْنَب. وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيّ فِي (كتاب التتبع) : فِي طَرِيق يحيى بن أبي زَكَرِيَّا الْمَذْكُور هَذَا مُنْقَطع، فقد رَوَاهُ حَفْص بن غياث عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عَن زَيْنَب بنت أبي سَلمَة عَن أمهَا أم سَلمَة وَلم يسمعهُ عُرْوَة من أم سَلمَة، وَقَالَ الغساني: هَكَذَا رَوَاهُ أَبُو عَليّ بن السكن عَن الْفربرِي مُرْسلا، لم يذكر بَين عُرْوَة وَأم سَلمَة زَيْنَب، وَكَذَا هُوَ فِي نُسْخَة عَبدُوس الطليطلي عَن أبي زيد الْمروزِي، وَوَقع فِي نُسْخَة الْأصيلِيّ عُرْوَة عَن زَيْنَب عَنْهَا مُتَّصِلا، وَرِوَايَة ابْن السكن الْمُرْسلَة أصح فِي هَذَا الْإِسْنَاد، وَهُوَ الْمَحْفُوظ. قيل: سَماع عُرْوَة عَن أم سَلمَة مُمكن، لِأَن مولده سنة سِتّ وَعشْرين، وَتوفيت أم سَلمَة قَرِيبا من السِّتين، وَهُوَ قطين بَلَدهَا فَمَا الْمَانِع من أَن يكون سَمعه أَولا من زَيْنَب عَنْهَا، ثمَّ سَمعه مِنْهَا؟ وَقَالَ أَبُو عَليّ الجياني: وَوَقع لأبي الْحسن الْقَابِسِيّ فِي إِسْنَاد هَذَا الحَدِيث تَصْحِيف فِي نسب يحيى بن أبي زَكَرِيَّا، قَالَ العشاني، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وبالشين الْمُعْجَمَة المخففة. وَقَالَ ابْن التِّين: يَعْنِي نِسْبَة إِلَى بني عشانة، وَقيل: هُوَ بِالْهَاءِ بِلَا نون نِسْبَة إِلَى بني عشاة. وَقيل: هُوَ العثماني، وكل ذَلِك تَصْحِيف، وَالصَّوَاب: الغساني، بِفَتْح الْغَيْن الْمُعْجَمَة وَتَشْديد السِّين الْمُهْملَة، نِسْبَة إِلَى بني غَسَّان.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ ابْن الْمُنْذر: اخْتلفُوا فِيمَن نسي رَكْعَتي الطّواف حَتَّى خرج من الْحرم أَو رَجَعَ إِلَى بِلَاده. فَقَالَ عَطاء وَالْحسن: يركعهما حَيْثُ مَا ذكر من حل أَو غَيره، وَبِه قَالَ أَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ، وَهُوَ مُوَافق لحَدِيث أم سَلمَة هَذَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا أَنَّهَا صلتهما فِي الْحرم أَو فِي الْحل. وَقَالَ الثَّوْريّ: يركعهما حَيْثُ شَاءَ مَا لم يخرج من الْحرم. وَقَالَ مَالك: إِن لم يركعهما حَتَّى تبَاعد وَرجع إِلَى بِلَاده فَعَلَيهِ دم، وَفِي (الْمُدَوَّنَة) : من طَاف فِي غير أبان صَلَاة إخر الرَّكْعَتَيْنِ، وَإِن خرج إِلَى الْحل ركعهما فِيهِ وتجزيانه مَا لم ينْتَقض وضوؤه، وَإِن انْتقض قبل أَن يركعهما وَكَانَ طَوَافه ذَلِك وَاجِبا فابتدأ بِالطّوافِ بِالْبَيْتِ، وَركع لِأَن الرَّكْعَتَيْنِ من الطّواف توصلا بِهِ إِلَى أَن يتباعد، فليركعهما وَيهْدِي وَلَا يرجع، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لَيْسَ ذَلِك أَكثر من الصَّلَاة الْمَكْتُوبَة، وَلَيْسَ على من تَركهَا إلاَّ قَضَاؤُهَا حَيْثُ مَا ذكرهَا. وَقَالَ أَصْحَابنَا: وَإِذا فرغ من الطّواف يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ فِي مقَام إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَفِي (السِّرَاجِيَّة) ، وَهُوَ الْأَفْضَل: وَإِن لم يقدر هُنَاكَ يُصَلِّي حَيْثُ تيَسّر لَهُ من الْمَسْجِد، وَفِي (الْخَانِية) : وَإِن صلى فِي غير الْمَسْجِد جَازَ، وَهَاتَانِ الركعتان واجبتان عندنَا. وَقَالَ الشَّافِعِي: سنة، وَلنَا أنهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما انْتهى إِلَى مقَام إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، قَرَأَ قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) . فصلى رَكْعَتَيْنِ فَقَرَأَ فيهمَا فَاتِحَة الْكتاب، وَقل يَا أَيهَا الْكَافِرُونَ، وَقل هُوَ الله أحد. ثمَّ عَاد إِلَى الرُّكْن فاستلمه ثمَّ خرج إِلَى الصَّفَا. رَوَاهُ مُسلم وَأحمد، فنبه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَن صلَاته كَانَت امتثالاً لأمر الله تَعَالَى، وَالْأَمر للْوُجُوب، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي فِي قَول، وَأَصَح الْقَوْلَيْنِ عَنهُ: أَنَّهُمَا سنة وليستا بواجبتين. وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين: وَفِي الْمَسْأَلَة قَول ثَالِث: أَنَّهُمَا واجبتان فِي طواف الْفَرْض، سنتَانِ فِي طواف التَّطَوُّع، وَقَالَ الرَّافِعِيّ: إِن فِي طرق الْأَئِمَّة مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا ركن أَو شَرط فِي الطّواف، وَهَذَا قَول رَابِع.

27 - (بابُ منْ صَلَّى رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ خَلْفَ المَقَامِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي الطَّائِف الَّذِي صلى رَكْعَتي الطّواف خلف الْمقَام، وَكلمَة: من، هَذِه مَوْصُولَة وَلَيْسَت بشرطية، فَحَدِيث الْبَاب يدل عَلَيْهِ.

7261 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ قَالَ حَدثنَا عمرُو بنُ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي

(9/270)


الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَقُولُ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فطَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعا وصَلَّى خَلْفَ المَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلَى الصَّفا وقَدْ قَالَ الله تَعَالَى {لقَدْ كانَ لكُمْ فِي رسولِ الله أسوةٌ حسَنَةٌ} (الْأَحْزَاب: 32) ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد تكَرر ذكرهم. وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي بَاب قَول الله عز وَجل: {وَاتَّخذُوا من مقَام إِبْرَاهِيم مصلى} (الْبَقَرَة: 521) . عَن الْحميدِي عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار الحَدِيث، وَقد مضى أَيْضا قبل هَذَا ببابين، وَالْمقَام حجر، وَقَالَ مَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) : سَمِعت أهل الْعلم يَقُولُونَ: إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، قَامَ بِهَذَا الْمقَام، فيزعمون أَن ذَلِك أثر مقَامه، فَأوحى الله عز وَجل إِلَى أَن تفرج عَنهُ حَتَّى يرى أثر الْمَنَاسِك.

37 - (بابُ الطَّوَافِ بَعْدَ الصُّبْحِ والْعَصْرِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الطّواف بعد صَلَاة الصُّبْح وَبعد صَلَاة الْعَصْر، هَذَا تَقْدِير الْكَلَام بِحَسب الظَّاهِر، وَلَكِن يقدر هَكَذَا: بَاب فِي بَيَان حكم الصَّلَاة عقيب الطّواف بعد صَلَاة الصُّبْح وَبعد صَلَاة الْعَصْر، وَإِن لم يقدر. هَكَذَا لَا تقع الْمُطَابقَة بَين التَّرْجَمَة وَبَين أَحَادِيث الْبَاب، وَإِنَّمَا أطلق وَلم يبين الحكم لوُرُود الْآثَار الْمُخْتَلفَة فِي هَذَا الْبَاب، وَقَالَ بَعضهم: وَيظْهر من صَنِيعه أَنه يخْتَار التَّوسعَة. وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي وَأَصْحَاب السّنَن، وَصَححهُ التِّرْمِذِيّ وَابْن خُزَيْمَة وَغَيره من حَدِيث جُبَير بن مطعم: أَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (يَا بني عبد منَاف، من ولي مِنْكُم من أَمر النَّاس شَيْئا فَلَا يمنعن أحدا طَاف بِهَذَا الْبَيْت وَصلى أَي سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار) . وَإِنَّمَا لم يُخرجهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ على شَرطه. انْتهى. قلت: لَيْت شعري من أَيْن يظْهر صَنِيعه بذلك، والترجمة مُطلقَة، وَمن أَيْن علم أَنه أَشَارَ إِلَى مَا رَوَاهُ الشَّافِعِي، رَحمَه الله؟ وَمن أَيْن علم أَنه وقف على حَدِيث جُبَير بن مطعم حَتَّى اعتذر عَنهُ بِأَنَّهُ لم يُخرجهُ لعدم شَرطه؟
وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُصَلِّي رَكْعَتَيِ الطُّوَاف مَا لَمْ تَطْلُعِ الشِّمْسُ
مطابقته للتَّرْجَمَة إِنَّمَا تتَوَجَّه من حَيْثُ التَّقْدِير الَّذِي قدرناه آنِفا. وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عَطاء أَنهم صلوا الصُّبْح فغلس وَطَاف ابْن عمر بعد الصُّبْح سبعا، ثمَّ الْتفت، إِلَى أفق السَّمَاء، فَرَأى أَن عَلَيْهِ غلسا. قَالَ: فاتبعته حَتَّى أنظر أَي شَيْء يصنع، فصلى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ: وَحدثنَا دَاوُد الْعَطَّار عَن عَمْرو بن دِينَار وَرَأَيْت ابْن عمر طَاف سبعا بعد الْفجْر، وَصلى رَكْعَتَيْنِ وَرَاء الْمقَام. انْتهى. وَبِهَذَا قَالَ عَطاء وطاووس وَالقَاسِم وَعُرْوَة بن الزبير وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق، وَذهب مُجَاهِد وَسَعِيد بن جُبَير وَالْحسن الْبَصْرِيّ وَالثَّوْري وَأَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف وَمُحَمّد وَمَالك فِي رِوَايَة إِلَى كَرَاهَة الصَّلَاة للطَّواف بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، وَبعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَاحْتَجُّوا فِي ذَلِك بِعُمُوم حَدِيث عقبَة بن عَامر الْجُهَنِيّ، قَالَ: (ثَلَاث سَاعَات كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم نَهَانَا أَن نصلي فِيهِنَّ) الحَدِيث، وَقد مر فِي: مَوَاقِيت الصَّلَاة، وَمَعَ هَذَا روى الطَّحَاوِيّ بِإِسْنَاد صَحِيح عَن ابْن عمر خلاف مَا علقه البُخَارِيّ. قَالَ: حَدثنَا ابْن خُزَيْمَة حَدثنَا حجاج حَدثنَا همام حَدثنَا نَافِع أَن ابْن عمر قدم عِنْد صَلَاة الصُّبْح فَطَافَ وَلم يصلِّ إلاَّ بَعْدَمَا طلعت الشَّمْس، وَقَالَ سعيد بن أبي عرُوبَة فِي (الْمَنَاسِك) عَن أَيُّوب عَن نَافِع: أَن ابْن عمر كَانَ لَا يطوف بعد صَلَاة الْعَصْر وَلَا بعد صَلَاة الصُّبْح، وَأخرجه ابْن الْمُنْذر أَيْضا من طَرِيق حَمَّاد عَن أَيُّوب أَيْضا، من طَرِيق أُخْرَى عَن نَافِع: كَانَ ابْن عمر إِذا طَاف بعد الصُّبْح لَا يُصَلِّي حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَإِذا طَاف بعد الْعَصْر لَا يُصَلِّي حَتَّى تغرب الشَّمْس. فَإِن قلت: روى الدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ فِي (سنَنَيْهِمَا) من رِوَايَة سعيد بن سَالم القداح عَن عبد الله بن المؤمل المَخْزُومِي عَن حميد مولى عفراء عَن قيس بن سعيد عَن مُجَاهِد، قَالَ: قدم أَبُو ذَر فَأخذ بِعِضَادَةِ بَاب الْكَعْبَة، ثمَّ قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: (لَا يصلين أحد بعد الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَلَا بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب الشَّمْس، إلاَّ بِمَكَّة) . فَهَذَا يرد عُمُوم النَّهْي عَن الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات الْمَكْرُوهَة. قلت: عبد الله بن المؤمل ضَعِيف، وَمُجاهد لم يسمع من أبي ذَر. فَإِن قلت: روى الطَّبَرَانِيّ فِي (الْأَوْسَط) من حَدِيث عَطاء (عَن ابْن عَبَّاس: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: يَا بني عبد منَاف! يَا بني عبد الْمطلب إِن وليتم هَذَا الْأَمر فَلَا تمنعوا أحدا طَاف بِهَذَا الْبَيْت فصلى أَي سَاعَة شَاءَ من ليل أَو نَهَار) . قلت: قَالَ

(9/271)


الطَّبَرَانِيّ: لم يروه عَن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس إلاَّ سليم بن مُسلم.
وطافَ عُمَرُ بَعْدَ صَلاَةِ الصُّبْحِ فَرَكِبَ حَتَّى صَلَّى الرَّكْعَتَيْنِ بِذِي طُوىً

هَذَا التَّعْلِيق وَصله مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) عَن الزُّهْرِيّ عَن حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَارِي عَن عمر بِهِ، وروى الْأَثْرَم عَن أَحْمد عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ مثله، إلاَّ أَنه قَالَ: عَن عُرْوَة، بدل: حميد، قَالَ أَحْمد: أَخطَأ فِيهِ سُفْيَان. قَالَ الْأَثْرَم: وَقد حَدثنِي بِهِ نوح بن يزِيد من أَصله عَن إِبْرَاهِيم بن سعد عَن صَالح بن كيسَان عَن الزُّهْرِيّ، كَمَا قَالَ سُفْيَان. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أخر الصَّلَاة إِلَى أَن يدْخل وفتها، وهذ بِحَضْرَة جمَاعَة من الصَّحَابَة وَلم يُنكره عَلَيْهِ مِنْهُم أحد، وَلَو كَانَ ذَلِك الْوَقْت عِنْده وَقت صَلَاة الطّواف لصلى، وَلما أخر ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لأحد طَاف بِالْبَيْتِ إلاَّ أَن يُصَلِّي حِينَئِذٍ إلاَّ من عذر، وروى أَحْمد فِي (مُسْنده) بِسَنَد صَحِيح من حَدِيث أبي الزبير عَن جَابر، قَالَ: (كُنَّا نطوف وَنَمْسَح الرُّكْن الْفَاتِحَة والخاتمة، وَلم نَكُنْ نطوف بعد صَلَاة الصُّبْح حَتَّى تطلع الشَّمْس، وَلَا بعد الْعَصْر حَتَّى تغرب. قَالَ: سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: تطلع الشَّمْس فِي قَرْني شَيْطَان) ، وَفِي (سنَن) سعيد بن مَنْصُور وَفِي (مُصَنف) ابْن أبي شيبَة: عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَنه طَاف بعد الصُّبْح، فَلَمَّا فرغ جلس حَتَّى طلعت الشَّمْس. وَقَالَ سعيد بن مَنْصُور: وَكَانَ سعيد بن جُبَير وَالْحسن وَمُجاهد يكْرهُونَ ذَلِك أَيْضا.

8261 - حدَّثني الحسنُ بنُ عُمَرَ البَصْرِيُّ قَالَ حَدثنَا يَزِيدُ بنُ زُرَيْعٍ عنْ حَبِيبٍ عنْ عَطاءٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ نَاسا طَافُوا بالبَيْتِ بَعْدَ صلاةِ الصُّبحِ ثُمَّ قعدُوا إلَى المُذَكِّر حتَّى إِذا طلَعَتِ الشِّمْسُ قامُوا يُصلُّونَ فقالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قعَدُوا حَتَّى إذَا كانَتِ السَّاعةُ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلاةُ قامُوا يُصَلُّونَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة لَا تتأتى إلاَّ من حَيْثُ التَّقْدِير الَّذِي قدرناه فِي التَّرْجَمَة، وَقَالَ بَعضهم: وَجه تعلق أَحَادِيث هَذَا الْبَاب بالترجمة إِمَّا من جِهَة أَن الطّواف صَلَاة، فحكمهما وَاحِد، أَو من جِهَة أَن الطّواف مُسْتَلْزم للصَّلَاة الَّتِي تشرع بعده. قلت: هَذَا أخده من كَلَام الْكرْمَانِي، وَمَعَ هَذَا لَيْسَ بِوَجْه سديد، وَلَا نسلم أَن الطّواف صَلَاة، وَالَّذِي ورد فِي الحَدِيث: (أَن الطّواف بِالْبَيْتِ صَلَاة) مجَاز لَيْسَ بِحَقِيقَة، وَلَا نسلم أَن حكمهمَا وَاحِد، فَإِن الطَّهَارَة شَرط فِي الصَّلَاة دون الطّواف، وَدَعوى الاستلزام مَمْنُوعَة كَمَا لَا يخفى.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: الْحسن بن عمر بن شَقِيق الْبَصْرِيّ قدم بَلخ فاقام بهَا نَحْو خمسين سنة ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى الْبَصْرَة فِي سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ وَمَات بهَا بعد ذَلِك الثَّانِي يزِيد من الزِّيَادَة ابْن زُرَيْع مصغر زرع وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: حبيب، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة: ابْن أبي قريبَة الْمعلم، نَص عَلَيْهِ هَكَذَا الْمزي فِي (الْأَطْرَاف) ، مَاتَ سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَمِائَة. الرَّابِع: عَطاء بن أبي رَبَاح. الْخَامِس: عُرْوَة بن الزبير. السَّادِس: عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَهُوَ وحبِيب وَيزِيد بصريون وَعَطَاء مكي وَعُرْوَة مدنِي. وَفِيه: ثَلَاثَة مذكورون من غير نِسْبَة.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (الْمُذكر) بتَشْديد الْكَاف الْمَكْسُورَة: اسْم فَاعل من التَّذْكِير، وَهُوَ الْوَعْظ، قَوْله: (حَتَّى طلعت الشَّمْس) يَعْنِي: إِلَى أَن طلعت الشَّمْس، يَعْنِي: كَانَ قعودهم منتهيا إِلَى طُلُوع الشَّمْس. قَوْله: (حَتَّى إِذا كَانَت السَّاعَة) أَي: عِنْد الطُّلُوع، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي هَهُنَا سؤالاً على قَاعِدَة مذْهبه، وَهُوَ أَن الْمَكْرُوه مِنْهَا يَعْنِي فِي هَذِه السَّاعَة صَلَاة لَا سَبَب لَهَا، وَهَذِه الصَّلَاة لَهَا سَبَب، وَهُوَ الطّواف ثمَّ أجَاب بقوله: هم كَانُوا يتحرون ذَلِك الْوَقْت ويؤخرونها إِلَيْهِ قصدا، فَلذَلِك ذمَّته، يَعْنِي عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، والتحري لَهُ وَإِن كَانَ لصَلَاة لَهَا سَبَب مَكْرُوه. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره إِنَّمَا يمشي إِذا كَانَت عَائِشَة ترى أَن الطّواف سَبَب لَا يكره مَعَ وجوده الصَّلَاة فِي الْأَوْقَات المنهية، وَلَيْسَ كَذَلِك، لِأَن النَّهْي عِنْدهَا على الْعُمُوم، وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة بِإِسْنَاد حسن عَن مُحَمَّد بن فُضَيْل عَن عبد الْملك عَن عَطاء (عَن عَائِشَة، رَضِي

(9/272)


الله تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّهَا قَالَت: إِذا أردْت الطّواف بِالْبَيْتِ بعد صَلَاة الْفجْر أَو الْعَصْر فَطُفْ، وَأخر الصَّلَاة حَتَّى تغيب الشَّمْس أَو حَتَّى تطلع فصلِّ لكل أُسْبُوع رَكْعَتَيْنِ) .

9261 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدَّثنا مُوسَى بنُ عُقْبَةَ عنْ نافِعٍ أنَّ عَبْدَ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَالَ سَمِعْتْ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَنْهَى عنِ الصَّلاةِ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وعِنْدَ غُرُوبِهَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة قد علمت فِيمَا مضى، ومباحثه قد تقدّمت فِي كتاب الصَّلَاة فِي الْمَوَاقِيت، وَإِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر أَبُو إِسْحَاق الخزامي الْمَدِينِيّ، وَأَبُو ضَمرَة، بالضاد الْمُعْجَمَة الْمَفْتُوحَة: اسْمه أنس بن عِيَاض الْمدنِي، وَكَانَ قد قدم بَلخ فِي ولَايَة نصر بن سيار، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة.

0361 - حدَّثني الحَسَنُ بنُ مُحَمَّدٍ هُوَ الزَّعْفَرَانِي قَالَ حدَّثنا عَبيدةُ بنُ حُمَيْدٍ قَالَ حدَّثني عَبْدُ العَزِيزِ بنُ رفيعٍ قَالَ رأيْتُ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَطوفُ بَعْدَ الفَجْرِ ويْصَلِّي رَكْعَتَيْنِ. قَالَ عَبْدُ العَزيزِ ورأيْتُ عَبْدَ الله بنَ الزُّبَيْرِ يُصَلِّي بَعْدَ العَصْرِ ويُخْبِرُ أنَّ عائِشةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا حَدَّثَتْهُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَدْخُلْ بَيْتَهَا إلاَّ صَلاَّهُمَ..
قد مر وَجه الْمُطَابقَة فِي أول الْبَاب وَلأَجل اخْتِلَاف الحكم فِي هَذَا الْبَاب لاخْتِلَاف الْآثَار فِيهِ، أطلق التَّرْجَمَة كَمَا ذكرنَا.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: الْحسن بن مُحَمَّد بن الصَّباح أَبُو عَليّ الزَّعْفَرَانِي، مَاتَ يَوْم الِاثْنَيْنِ لثمان بَقينَ من رَمَضَان سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ. الثَّانِي: عُبَيْدَة، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة ابْن حميد، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم التَّيْمِيّ. وَقيل: الضَّبِّيّ النَّحْوِيّ، مَاتَ بِبَغْدَاد سنة تسعين وَمِائَة. الثَّالِث: عبد الْعَزِيز بن رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وبالعين الْمُهْملَة، أَتَى عَلَيْهِ نَيف وَتسْعُونَ سنة، وَكَانَ يتَزَوَّج فَلَا يمْكث حَتَّى تَقول الْمَرْأَة فارقني، من كَثْرَة جمَاعه. الرَّابِع: عبد الله بن الزبير بن الْعَوام. الْخَامِس: عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوَاضِع ثَلَاثَة وبصيغة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: الرُّؤْيَة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه بغدادي وَعبيدَة كُوفِي وَعبد الْعَزِيز مكي سكن الْكُوفَة. وَفِيه: أَنه أوضح شَيْخه بقوله: هُوَ الزَّعْفَرَانِي لِأَن فِي الروَاة فِي الْكتاب الْحسن بن مُحَمَّد الْحَرَّانِي، وَالْحسن بن مُحَمَّد بن عَليّ، والزعفراني نِسْبَة إِلَى قَرْيَة تَحت كلواذا وإليها ينْسب درب الزَّعْفَرَان بِبَغْدَاد، وَكثير من الْمُحدثين ينْسب إِلَى هَذَا الدَّرْب، وَجَمَاعَة مِنْهُم ينسبون إِلَى بيع الزَّعْفَرَان، وَفِي نواحي هَمدَان قَرْيَة تسمى: الزعفرانية، وَمِنْهُم من ينْسب إِلَى الزعافر. وَفِيه: أَن شَيْخه مَاتَ بعده بِأَرْبَع سِنِين لِأَن وَفَاته فِي سنة سِتّ وَخمسين وَمِائَتَيْنِ، ووفاة شَيْخه سنة سِتِّينَ وَمِائَتَيْنِ، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصحابية. وَفِيه: رِوَايَة الرَّاوِي عَن خَالَته لِأَن عَائِشَة خَالَة عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم. وَفِيه: أَن هَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (يطوف) جملَة وَقعت حَالا. قَوْله: (قَالَ عبد الْعَزِيز) هُوَ عبد الْعَزِيز بن رفيع الرَّاوِي، يَعْنِي: قَالَ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُور، وَلَيْسَ بمعلق. قَوْله: (إلاَّ صلاهما) أَي: الرَّكْعَتَيْنِ بعد الْعَصْر، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى فِي: بَاب مَا يصلى بعد الْعَصْر.

47 - (بابُ المَريض يَطُوفُ رَاكِبا)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان حكم الْمَرِيض حَال كَونه يطوف رَاكِبًا. قَوْله: (يطوف) و (رَاكِبًا) حالان مترادفتان أَو متداخلتان.

2361 - حدَّثني إسْحَاقُ الوَاسِطِيُّ قَالَ حَدثنَا خالِدٌ عَنْ خالِدٍ الحْذَّاءِ عنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاس

(9/273)


ٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم طَاف بالبَيْتِ وَهْوَ عَلى بَعِيرٍ كُلَّما أَتَى على الرُّكْنِ أشارَ إلَيْهِ بِشَيءٍ فِي يَدِهِ وكبَّرَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مر الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب التَّكْبِير عِنْد الرُّكْن. أخركه عَن مُسَدّد عَن خَالِد ... إِلَى آخِره. وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب من أَشَارَ إِلَى الرُّكْن عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب عَن خَالِد، وَهنا أخرجه عَن إِسْحَاق الوَاسِطِيّ وَهُوَ إِسْحَاق بن شاهين أَبُو بشر، وَفِي بعض النّسخ هَكَذَا: إِسْحَاق بن شاهين، بنسبته إِلَى أَبِيه، وَهُوَ من أَفْرَاده يروي عَن خَالِد بن عبد الله الطَّحَّان عَن خَالِد بن مهْرَان الْحذاء، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.

3361 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمةَ قَالَ حدَّثنا مالِكٌ عنُ مُحمَّدِ بنِ عبْدِ الرحمانِ بنِ نوْفلٍ عنْ عُرْوَةَ عَن زَيْنَبَ ابْنَةِ أُمِّ سَلَمةَ عَن أُمِّ سَلمَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ شَكوْتُ إلَى رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنِّي أشْتَكِي فَقَالَ طُوفي مِنْ وراءِ النَّاسِ وأنْتِ راكِبةٌ فطُفْتُ ورسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُصلِّي إِلَى جَنْبِ البَيْتِ وهْوَ يَقرأ بالطُّورِ وكِتابٍ مسْطورٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَقد مر الحَدِيث عَن قريب فِي: بَاب طواف النِّسَاء مَعَ الرِّجَال، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إِسْمَاعِيل ابْن أبي أويس ابْن أُخْت مَالك عَن مَالك، وَهنا أخرجه: عَن عبد الله بن مسلمة، بِفَتْح الميمين القعْنبِي عَن مَالك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً. وَالله أعلم.

57 - (بابُ سِقَايَةِ الْحَاجِّ)

أَي: هَذَا بَاب فِي ذكر سِقَايَة الْحَاج، والسقاية بِكَسْر السِّين مَا يبْنى للْمَاء، وَأما السِّقَايَة الَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {اجعلتم سِقَايَة الْحَاج} (التَّوْبَة: 91) . فَهُوَ مصدر، وَالَّتِي فِي قَوْله تَعَالَى: {جعل السِّقَايَة فِي رَحل أَخِيه} (يُوسُف: 07) . مشربَة الْملك. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: هِيَ الصواع الَّذِي كَانَ الْملك يشرب فِيهِ. وَقَالَ ابْن الْأَثِير: سِقَايَة الْحَاج مَا كَانَت قُرَيْش تسقيه الْحَاج من الزَّبِيب المنبوذ فِي المَاء وَكَانَ يَليهَا عَبَّاس بن عبد الْمطلب فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام، وَقَالَ الفاكهي: حَدثنَا أَحْمد بن مُحَمَّد حَدثنَا الْحسن بن مُحَمَّد بن عبيد الله حَدثنَا ابْن جريج عَن عَطاء، قَالَ: سِقَايَة الْحَاج زَمْزَم. وَقَالَ الْأَزْرَقِيّ: كَانَ عبد منَاف يتَحَمَّل المَاء فِي الرَّوايا والقِرَب إِلَى مَكَّة ويسكبه فِي حِيَاض من أَدَم بِفنَاء الْكَعْبَة للْحَاج، ثمَّ فعله ابْنه هِشَام بعده، ثمَّ عبد الْمطلب، فَلَمَّا حفر زَمْزَم كَانَ يَشْتَرِي الزَّبِيب فنبذه فِي مَاء زَمْزَم. ويسقي النَّاس. وَقَالَ إِبْنِ إِسْحَاق: لما ولي قصي بن كلاب أَمر الْكَعْبَة كَانَ إِلَيْهِ الحجابة والسقاية واللواء والوفادة وَدَار الندوة، ثمَّ تصالح بنوه على أَن لعبد منَاف السِّقَايَة والوفادة، والبقية للآخرين. ثمَّ ذكر نَحْو مَا تقدم. قَالَ: ثمَّ ولي السِّقَايَة من بعد عبد الْمطلب وَلَده الْعَبَّاس، وَهُوَ يَوْمئِذٍ من أحدث إخْوَته سنا، فَلم تزل بِيَدِهِ حَتَّى قَامَ الْإِسْلَام، وَهِي بِيَدِهِ، وأقرها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَه فَهِيَ الْيَوْم إِلَى بني الْعَبَّاس.

3461 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ أبي الأسْوَدِ قَالَ حدَّثنا أبُو ضَمْرَةَ قَالَ حدَّثنا عُبَيْدُ الله عَن نافِعٍ عنِ ابنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ اسْتأذَنَ العَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أنْ يَبيتَ بِمكَّةَ لَياليَ مِنىً منْ أجْلِ سِقايَتهِ فأذِنَ لهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (من أجل سقايته) لِأَن السِّقَايَة كَانَت بِيَدِهِ بعد أَبِيه عبد الْمطلب كَمَا ذَكرْنَاهُ آنِفا. والْحَدِيث من أَفْرَاده، وَعبد الله بن مُحَمَّد بن أبي الْأسود ضد الْأَبْيَض. وَقد مر فِي: بَاب فضل أللهم رَبنَا لَك الْحَمد، وَأَبُو ضَمرَة بِفَتْح الضَّاد الْمُعْجَمَة وَسُكُون الْمِيم وبالراء، واسْمه أنس بن عِيَاض اللَّيْثِيّ الْمدنِي، وَعبيد الله بن عمر بن حَفْص بن عَاصِم بن عمر بن الْخطاب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
قَوْله: (ليَالِي منى) هِيَ: لَيْلَة الْحَادِي عشر، وَالثَّانِي عشر، وَالثَّالِث عشر، وَقَالَ النَّوَوِيّ: هَذَا يدل على مَسْأَلَتَيْنِ:

(9/274)


إِحْدَاهمَا: أَن الْمبيت بمنى ليَالِي أَيَّام التَّشْرِيق مَأْمُور بِهِ، وَهل هُوَ وَاجِب أَو سنة؟ قَالَ أَبُو حنيفَة: سنة. وَالْآخرُونَ: وَاجِب. وَالثَّانيَِة: يجوز لأهل السِّقَايَة أَن يتْركُوا هَذَا الْمبيت ويذهبوا إِلَى مَكَّة ليستقوا بِاللَّيْلِ المَاء من زَمْزَم، ويجعلوه فِي الْحِيَاض مسبلاً للْحَاج، وَلَا يخْتَص ذَلِك عِنْد الشَّافِعِي بِالْعَبَّاسِ، بل كل من تولى السِّقَايَة كَانَ لَهُ ذَلِك، وَقَالَ بعض أَصْحَابنَا: تخْتَص الرُّخْصَة بِالْعَبَّاسِ، وَقَالَ بَعضهم: بآل الْعَبَّاس. انْتهى. قلت: قَالَ بَعضهم: تخْتَص ببني هَاشم من آل عَبَّاس وَغَيرهم، وَقَالَ أَصْحَابنَا: يكره أَن لَا يبيت بمنى ليالى الرَمَل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَات بهَا، وَكَذَا عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ يُؤَدب على تَركه، فَلَو بَات فِي غَيره مُتَعَمدا لَا يلْزمه شَيْء. وَقَالَ بَعضهم: الْمبيت فِي هَذِه اللَّيَالِي سنة عندنَا، وَبِه قَالَ أهل الظَّاهِر. قَالَ الْقُرْطُبِيّ: رُوِيَ نَحوه عَن ابْن عَبَّاس وَالْحسن، وَقَالَ ابْن بطال: رَوَاهُ ابْن عُيَيْنَة عَن عَمْرو عَن ابْن عَبَّاس.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيّ: الْمبيت بمنى ليَالِي التَّشْرِيق من سنَن الْحَج بِلَا خلاف، إلاَّ لِذَوي السِّقَايَة أَو الرُّعَاة، وَمن تعجل بالنفر فِي ترك ذَلِك فِي لَيْلَة وَاحِدَة أَو جَمِيع اللَّيَالِي كَانَ عَلَيْهِ دم عِنْد مَالك، وَقَالَ السفاقسي: الْمبيت بهَا مَأْمُور بِهِ، وإلاَّ فَكَانَ يجوز للْعَبَّاس وَغَيره ذَلِك دون إرخاص، وَهُوَ أَن يبيت من جَمْرَة الْعقبَة إِلَيْهَا، وَقَالَ مَالك: من بَات وَرَاء الْجَمْرَة فَعَلَيهِ الْفِدْيَة وَوَجهه أَنه يبيت بِغَيْر منى وَهُوَ مبيت مَشْرُوع فِي الْحَج فَلَزِمَ الدَّم بِتَرْكِهِ كالمبيت بِالْمُزْدَلِفَةِ. وَعند ابْن أبي شيبَة عَن زيد بن حباب أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم بن نَافِع أَنبأَنَا عَمْرو ابْن دِينَار عَن عِكْرِمَة عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: إِذا رميت الْجمار بت حَيْثُ شِئْت. حَدثنَا زيد بن حباب أَنبأَنَا إِبْرَاهِيم حَدثنَا ابْن أبي نجيح عَن عَطاء، قَالَ: لَا بَأْس أَن يبيت الرجل بِمَكَّة ليَالِي منى إِذا كَانَ فِي ضيعته. وَمن حَدِيث لَيْث عَن طَاوُوس عَن ابْن عَبَّاس أَنه قَالَ لَا يبيتن أحد من وَرَاء الْعقبَة لَيْلًا بمنى أَيَّام التَّشْرِيق. وَمن حَدِيث عبد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَن عمر كَانَ ينْهَى أَن يبيت أحد من وَرَاء الْعقبَة، وَكَانَ يَأْمُرهُم أَن يدخلُوا منى. وَمن حَدِيث حجاج عَن عَطاء أَن ابْن عمر كَانَ يكره أَن ينَام أحد أَيَّام منى بِمَكَّة. وَمن حَدِيث لَيْث عَن مُجَاهِد: لَا بَأْس أَن يكون أول اللَّيْل بِمَكَّة وَآخره بمنى، وَلَا بَأْس أَن يكون أول اللَّيْل بمنىٍ وأخره بِمَكَّة. وَعَن مُحَمَّد بن كَعْب من السّنة إِذا زرت الْبَيْت أَن لَا تبيت إلاَّ بمنى. وَعَن أبي قلَابَة: إجعلوا أَيَّام منى بمنى. وَعَن عُرْوَة: لَا يبيتن أحد من وَرَاء الْعقبَة أَيَّام التَّشْرِيق. وَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِذا بَات دون الْعقبَة اهراق لذَلِك دَمًا. وَعَن عَطاء: يتَصَدَّق بدرهم أَو نَحوه. وَعَن سَالم: يتَصَدَّق بدرم، والأسانيد إِلَيْهِم صَحِيحَة.
وَفِي (شرح الْمُهَذّب) : وَمن المعذورين من لَهُ مَال يخَاف ضيَاعه إِن اشْتغل بالمبيت، أَو يخَاف على نَفسه، أَو كَانَ بِهِ مرض أَو لَهُ مَرِيض يطْلب آبقا وَشبه ذَلِك، فَفِي هَؤُلَاءِ وَجْهَان، الصَّحِيح الْمَنْصُوص: يجوز لَهُم ترك الْمبيت، وَلَا شَيْء عَلَيْهِم بِسَبَبِهِ، وَلَهُم النَّفر بعد الْغُرُوب وَلَو ترك البيات نَاسِيا كَانَ كتركه عَامِدًا. وَفِي (التَّوْضِيح) : لَا يحصل الْمبيت إلاَّ بمعظم اللَّيْل، وَفِي قَول: إِن الِاعْتِبَار بِوَقْت بِطُلُوع الْفجْر، وَفِي (الْمُدَوَّنَة) : من بَات عَنْهَا كل اللَّيْل فَعَلَيهِ دم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: من كَانَ لَهُ مناخ بِمَكَّة يخْشَى عَلَيْهِ ضيَاعه بَات بهَا، وَمُقْتَضَاهُ إِبَاحَته للْعُذْر، وَعَلِيهِ دم على مُقْتَضى قَول ابْن نَافِع فِي (مبسوطه) : من زار الْبَيْت فَمَرض وَبَات بِمَكَّة فَعَلَيهِ هدي يَسُوقهُ من الْحل إِلَى الْحرم، وَإِن بَات اللَّيَالِي كلهَا بِمَكَّة قَالَ الدَّاودِيّ: فَقيل: عَلَيْهِ شَاة، وَقيل: بَدَنَة.

5361 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدَّثنا خَالِدٌ عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فاسْتَسْقَى فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا فَضْلُ اذْهَبْ إلَى أُمِّكَ فاتِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَرابٍ مِنْ عِنْدِهَا فَقَالَ اسْقِنِي قَالَ يَا رَسولَ الله إنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أيْدِيهِمْ فِيهِ قَالَ إسْقِنِي فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أتَى زَمْزْمَ وهُمْ يَسْقُونَ ويَعْمَلُونَ فِيهَا فقَال اعْمَلُوا فإنَّكُمُ عَلَى عَمَلٍ صالِحٍ ثُمَّ قَالَ لَوْلاَ أنْ تُغْلَبُوا لنَزَلْتُ حَتَّى أضَعَ الحَبْلَ عَلى هاذهِ يَعْنِي عاتِقَهُ وأشَارَ إلَى عاتِقِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، هَذَا الأسناد بِعَيْنِه مضى فِي أول: بَاب الْمَرِيض يطوف رَاكِبًا، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن

(9/275)


شاهين الوَاسِطِيّ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هُوَ إِسْحَاق بن بشر، وَهُوَ وهم، وخَالِد الأول: هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان، وَالثَّانِي: خَالِد ابْن مهْرَان الْحذاء.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، قد ذكرنَا أَن السِّقَايَة مَا يبْنى للْمَاء، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يسقى فِيهِ المَاء، وَفِي (الْمُجْمل) : هُوَ الْموضع الَّذِي يتَّخذ فِيهِ الشَّرَاب فِي الْمَوْسِم وَغَيره. قَوْله: (فَاسْتَسْقَى) أَي: طلب الشّرْب. قَوْله: (يَا فضل) ، هُوَ ابْن الْعَبَّاس أَخُو عبد الله، وأمهما لبَابَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة. قَوْله: (إِنَّهُم يجْعَلُونَ إيديهم فِيهِ) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ عَن أبي كريب عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما طَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى الْعَبَّاس وَهُوَ فِي السِّقَايَة فَقَالَ: إسقوني. قَالَ الْعَبَّاس: إِن هَذَا قد مرت يَعْنِي: قد مرس أَفلا أسقيك مِمَّا فِي بُيُوتنَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن إسقوني مِمَّا يشرب النَّاس، فَأتى بِهِ فذاقه، فقطب ثمَّ دَعَا بِمَاء فَكَسرهُ، ثمَّ قَالَ: إِذا اشْتَدَّ نبيذكم فاكسروه بِالْمَاءِ، وتقطيبه مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ لحموضة فَقَط، وكسره بِالْمَاءِ ليهون عَلَيْهِ شربه، وَمثل ذَلِك يحمل على مَا رُوِيَ عَن عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِيهِ لَا غير. وروى مُسلم من حَدِيث بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: كنت جَالِسا مَعَ ابْن عَبَّاس عِنْد الْكَعْبَة، فَأَتَاهُ أَعْرَابِي فَقَالَ: مَا لي أرى بني عمكم يسقون الْعَسَل وَاللَّبن وَأَنْتُم تسقون النَّبِيذ؟ أَمن حَاجَة بكم أم من بخل؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْحَمد لله، مَا بِنَا من حَاجَة وَلَا بخل، قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَاحِلَته وَخَلفه أُسَامَة، فَاسْتَسْقَى، فأتيناه بِإِنَاء فِيهِ نَبِيذ فَشرب وَسَقَى فَضله أُسَامَة، وَقَالَ: أَحْسَنْتُم وَأَجْمَلْتُمْ، كَذَا فَاصْنَعُوا، وَلَا نزيد مَا أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قَالَ: اسْقِنِي) ويروى: (فَقَالَ) ، الْفَاء فِيهِ فصيحة أَي: فَذهب فَأتى بِالشرابِ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إسقني. قَوْله: (وهم يسقون) ، جملَة حَالية أَي: يسقون النَّاس. قَوْله: (ويعملون فِيهَا) ، أَي: ينزحون مِنْهَا المَاء. قَوْله: (لَوْلَا أَن تغلبُوا) ، بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لَوْلَا أَن يجْتَمع عَلَيْكُم النَّاس، وَمن كَثْرَة الزحام تصيرون مغلوبين. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي أَنكُمْ لَا تتركوني أستقي وَلَا أحب أَن أفعل بكم مَا تَكْرَهُونَ فتغلبوا. وَقيل: مَعْنَاهُ لَوْلَا أَن تقع عَلَيْكُم الْغَلَبَة بِأَن يجب عَلَيْكُم ذَلِك بِسَبَب فعلي. وَقيل. مَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن تغلبُوا بِأَن ينتزعها الْوُلَاة مِنْكُم حرصا على حِيَازَة هَذِه المكرمة. وروى مُسلم من حَدِيث جَابر (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني عبد الْمطلب وهم يسقون على زَمْزَم، فَقَالَ: إنزغوا بني عبد الْمطلب، فلولا أَن يغلبكم النَّاس على سِقَايَتكُمْ لنزغت مَعكُمْ، فناولوه دلوا فَشرب مِنْهُ) . وَذكر ابْن السكن أَن الَّذِي نَاوَلَهُ الدَّلْو هُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل على أَن الظَّاهِر أَن أَفعاله فِيمَا يتَّصل بِأُمُور الشَّرِيعَة على الْوُجُوب، فَتَركه الْفِعْل شَفَقَة أَن يتَّخذ سنة، قَالَه الْخطابِيّ. وَفِيه: الشّرْب من سِقَايَة الْحَاج، وَقَالَ طَاوُوس: الشّرْب من سِقَايَة الْعَبَّاس من تَمام الْحَج، وَقَالَ عَطاء: لقد أدْركْت هَذَا الشَّرَاب، وَأَن الرجل ليشْرب فتلتزق شفتاه من حلاوته، فَلَمَّا ذهبت الْحُرِّيَّة وَولى العبيد تهاونوا بِالشرابِ واستخفوا بِهِ، وروى ابْن أبي شيبَة عَن السَّائِب بن عبد الله أَنه أَمر مُجَاهدًا مَوْلَاهُ بِأَن يشرب من سِقَايَة الْعَبَّاس وَيَقُول: إِنَّه من تَمام السّنة. وَقَالَ الرّبيع بن سعد: أَتَى أَبُو جَعْفَر السِّقَايَة فَشرب وَأعْطى جعفرا فَضله، وَمِمَّنْ شرب مِنْهَا: سعيد بن جُبَير وَأمر بِهِ سُوَيْد بن غَفلَة: وروى ابْن جريج عَن نَافِع أَن ابْن عمر لم يكن يشرب من النَّبِيذ فِي الْحَج، وَكَذَا روى خَالِد ابْن أبي بكر أَنه حج مَعَ سَالم مَا لَا يُحْصى، فَلم يره يشرب من نَبِيذ السِّقَايَة. وَفِيه: إِثْبَات أَمر السِّقَايَة للْحَاج، وَأَن مشروعيته من بَاب إكرام الضَّيْف واصطناع الْمَعْرُوف. وَفِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تحرم عَلَيْهِ الصَّدقَات الَّتِي سَبِيلهَا الْمَعْرُوف كالمياه الَّتِي تكون فِي السقايات تشربها الْمَارَّة. وَقَالَ ابْن التِّين: شربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَخْلُو أَن يكون ذَلِك من مَال الْكَعْبَة الَّذِي كَانَ يُؤْخَذ لَهَا من الْخمس، أَو من مَال الْعَبَّاس الَّذِي عمله للغني وَالْفَقِير، فَشرب مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليسهل على النَّاس. وَفِيه: أَنه لَا يكره طلب السَّقْي من الْغَيْر. وَفِيه: رد مَا يعرض على الْمَرْء من الْإِكْرَام إِذا عارضته مصلحَة أولى مِنْهُ، لِأَن رده لما عرض عَلَيْهِ الْعَبَّاس مِمَّا يُؤْتى بِهِ من بَيته لمصْلحَة التَّوَاضُع الَّتِي ظَهرت من شربه مِمَّا يشرب مِنْهُ النَّاس. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي سقِِي المَاء خُصُوصا مَاء زَمْزَم. وَفِيه: تواضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: حرص أَصْحَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الِاقْتِدَاء بِهِ. وَفِيه: كَرَاهَة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. وَفِيه: أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الطَّهَارَة لتنَاوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الشَّرَاب الَّذِي غمست فِيهِ الْأَيْدِي، قَالَه ابْن التِّين، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.

(9/276)


(بابُ مَا جاءَ فِي زَمْزَمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي ذكر زَمْزَم من الْآثَار. قيل: وَلم يذكر مَا جَاءَ فِيهِ من فَضله، لِأَنَّهُ كَانَ لم يثبت عِنْده بِشَرْطِهِ، وَاكْتفى بِذكرِهِ مُجَردا. قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن حَدِيث الْبَاب يدل على فَضلهَا، لِأَن فِيهِ: (فَفرج صَدْرِي ثمَّ غسله بِمَاء زَمْزَم) ، وَهَذَا يدل قطعا على فَضلهَا حَيْثُ اخْتصَّ غسل صَدره، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِمَائِهَا دون غَيرهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا ركضة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وسقيا إِسْمَاعِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي (مُعْجم مَا استعجم) : هِيَ بِفَتْح الأول وَسُكُون الثَّانِي وَفتح الزَّاي الثَّانِيَة، قَالَ: وَيُقَال بِضَم الأول وَفتح الثَّانِي وَكسر الزَّاي الثَّانِيَة، وَيُقَال بِضَم أَوله وَفتح ثَانِيه وتشديده وَكسر الزَّاي الثَّانِيَة. وَفِي (كتاب الْأَزْهَرِي) عَن ابْن الْأَعرَابِي: زَمْزَم وزمم وزمزام، وَتسَمى: ركضة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وهمزمة جِبْرِيل، وهزمة جِبْرِيل، بِتَقْدِيم الزَّاي، وهزمة الْملك، وَتسَمى: الشباعة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَرَوَاهُ الخازرنجي: شباعة، وَقَالَ صاعد فِي (الفصوص) وَمن أسمائها: تكْتم، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سميت زَمْزَم لِأَن بابل بن ساسان حَيْثُ سَار إِلَى الْيمن دفن سيوف قلعته وحلي الزمازمة فِي مَوضِع بِئْر زَمْزَم، فَلَمَّا احتفرها عبد الْمطلب أصَاب السيوف والحلي فِيهِ سميت زَمْزَم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: سميت زَمْزَم لِأَنَّهَا زمت بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَأْخُذ المَاء يَمِينا وَشمَالًا، وَلَو تركت لساحت على وَجه الأَرْض حَتَّى مَلأ كل شَيْء. وَقَالَ الْحَرْبِيّ: سميت بزمزمة المَاء، وَهُوَ حركته، وَقَالَ أَبُو عبيد: قَالَ بَعضهم: إِنَّهَا مُشْتَقَّة من قَوْلهم: مَاء زمزوم وزمزام أَي: كثير. وَفِي (الموعب) : مَاء زَمْزَم وزمازم، وَهُوَ الْكثير وَعَن ابْن هِشَام: الزمزمة عِنْد الْعَرَب الْكَثْرَة والاجتماع، وَذكر المَسْعُودِيّ أَن الْفرس كَانَت تحج إِلَيْهَا فِي الزَّمن الأول، والزمزمة صَوت تخرجه الْفرس من خياشيمها.
وَمن فضائلها: مَا رَوَاهُ مُسلم: شرب أَبُو ذَر مِنْهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْسَ لَهُ طَعَام غَيرهَا. وَأَنه سمن، فَأخْبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فَقَالَ: إِنَّهَا مباركة، إِنَّهَا طَعَام طعم وَزَاد أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) وشفاء سقم، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَرْفُوعا: (مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ) ، رِجَاله ثقاة إلاَّ أَنه اخْتلف فِي إرْسَاله وَوَصله، وإرساله أصح. وَعَن أم أَيمن، قَالَت: (مَا رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شكى جوعا قطّ وَلَا عطشا، كَانَ يَغْدُو إِذا أصبح فيشرب من مَاء زَمْزَم شربه، فَرُبمَا عرضنَا عَلَيْهِ الطَّعَام فَيَقُول: لَا أَنا شبعان شبعان) . ذكره فِي (المُصَنّف الْكَبِير) فِي شرف الْمُصْطَفى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن عقيل ابْن أبي طَالب، قَالَ: كُنَّا إِذا أَصْبَحْنَا وَلَيْسَ عندنَا طَعَام قَالَ لنا أبي ائْتُوا زَمْزَم فنأتيها فنشرب مِنْهَا فنجتزىء، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعا: (وَهِي هزمة جِبْرِيل وسقيا إِسْمَاعِيل) ، وَذكر الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أنبط بِئْر زَمْزَم مرَّتَيْنِ: مرّة لآدَم، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى انْقَطَعت زمن الطوفان، وَمرَّة لإسماعيل عَلَيْهِ السَّلَام، وروى ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد جيد: (أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لرجل: إِذا شربت من زَمْزَم فَاسْتقْبل الْكَعْبَة، وَاذْكُر اسْم الله، عز وَجل، فَإِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: آيَة مَا بَيْننَا وَبَين الْمُنَافِقين أَنهم لَا يتضلعون من زَمْزَم) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَن عبد الله كَانَ إِذا شرب مِنْهَا، قَالَ: أللهم إِنِّي أسأك علما نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وشفاء من كل دَاء. وروى أَحْمد بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث جَابر فِي ذكر حجَّته، عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ عَاد إِلَى الْحجر ثمَّ ذهب إِلَى زَمْزَم فَشرب مِنْهَا وصب على رَأسه، ثمَّ رَجَعَ فاستلم الرُّكْن ... الحَدِيث.

5361 - حدَّثنا إسْحَاقُ قَالَ حدَّثنا خَالِدٌ عنْ خالِدٍ الحَذَّاءِ عَنْ عِكْرِمَةَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم جاءَ إِلَى السِّقَايَةِ فاسْتَسْقَى فَقَالَ الْعَبَّاسُ يَا فَضْلُ اذْهَبْ إلَى أُمِّكَ فاتِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَرابٍ مِنْ عِنْدِهَا فَقَالَ اسْقِنِي قَالَ يَا رَسولَ الله إنَّهُمْ يَجْعَلُونَ أيْدِيهِمْ فِيهِ قَالَ إسْقِنِي فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ أتَى زَمْزْمَ وهُمْ يَسْقُونَ ويَعْمَلُونَ فِيهَا فقَال اعْمَلُوا فإنَّكُمُ عَلَى عَمَلٍ صالِحٍ ثُمَّ قَالَ لَوْلاَ أنْ تُغْلَبُوا لنَزَلْتُ حَتَّى أضَعَ الحَبْلَ عَلى هاذهِ يَعْنِي عاتِقَهُ وأشَارَ إلَى عاتِقِهِ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، هَذَا الأسناد بِعَيْنِه مضى فِي أول: بَاب الْمَرِيض يطوف رَاكِبًا، وَإِسْحَاق هُوَ ابْن شاهين الوَاسِطِيّ. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : هُوَ إِسْحَاق بن بشر، وَهُوَ وهم، وخَالِد الأول: هُوَ ابْن عبد الله الطَّحَّان، وَالثَّانِي: خَالِد ابْن مهْرَان الْحذاء.
وَهَذَا الحَدِيث من أَفْرَاده.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (جَاءَ إِلَى السِّقَايَة) ، قد ذكرنَا أَن السِّقَايَة مَا يبْنى للْمَاء، وَهُوَ الْموضع الَّذِي يسقى فِيهِ المَاء، وَفِي (الْمُجْمل) : هُوَ الْموضع الَّذِي يتَّخذ فِيهِ الشَّرَاب فِي الْمَوْسِم وَغَيره. قَوْله: (فَاسْتَسْقَى) أَي: طلب الشّرْب. قَوْله: (يَا فضل) ، هُوَ ابْن الْعَبَّاس أَخُو عبد الله، وأمهما لبَابَة بنت الْحَارِث الْهِلَالِيَّة. قَوْله: (إِنَّهُم يجْعَلُونَ إيديهم فِيهِ) وَفِي رِوَايَة الطَّبَرِيّ عَن أبي كريب عَن أبي بكر بن عَيَّاش عَن يزِيد بن أبي زِيَاد عَن عِكْرِمَة (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: لما طَاف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَتَى الْعَبَّاس وَهُوَ فِي السِّقَايَة فَقَالَ: إسقوني. قَالَ الْعَبَّاس: إِن هَذَا قد مرت يَعْنِي: قد مرس أَفلا أسقيك مِمَّا فِي بُيُوتنَا؟ قَالَ: لَا، وَلَكِن إسقوني مِمَّا يشرب النَّاس، فَأتى بِهِ فذاقه، فقطب ثمَّ دَعَا بِمَاء فَكَسرهُ، ثمَّ قَالَ: إِذا اشْتَدَّ نبيذكم فاكسروه بِالْمَاءِ، وتقطيبه مِنْهُ إِنَّمَا كَانَ لحموضة فَقَط، وكسره بِالْمَاءِ ليهون عَلَيْهِ شربه، وَمثل ذَلِك يحمل على مَا رُوِيَ عَن عمر وَعلي، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، فِيهِ لَا غير. وروى مُسلم من حَدِيث بكر بن عبد الله الْمُزنِيّ قَالَ: كنت جَالِسا مَعَ ابْن عَبَّاس عِنْد الْكَعْبَة، فَأَتَاهُ أَعْرَابِي فَقَالَ: مَا لي أرى بني عمكم يسقون الْعَسَل وَاللَّبن وَأَنْتُم تسقون النَّبِيذ؟ أَمن حَاجَة بكم أم من بخل؟ فَقَالَ ابْن عَبَّاس: الْحَمد لله، مَا بِنَا من حَاجَة وَلَا بخل، قدم النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على رَاحِلَته وَخَلفه أُسَامَة، فَاسْتَسْقَى، فأتيناه بِإِنَاء فِيهِ نَبِيذ فَشرب وَسَقَى فَضله أُسَامَة، وَقَالَ: أَحْسَنْتُم وَأَجْمَلْتُمْ، كَذَا فَاصْنَعُوا، وَلَا نزيد مَا أَمر بِهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (قَالَ: اسْقِنِي) ويروى: (فَقَالَ) ، الْفَاء فِيهِ فصيحة أَي: فَذهب فَأتى بِالشرابِ، فَقَالَ لَهُ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إسقني. قَوْله: (وهم يسقون) ، جملَة حَالية أَي: يسقون النَّاس. قَوْله: (ويعملون فِيهَا) ، أَي: ينزحون مِنْهَا المَاء. قَوْله: (لَوْلَا أَن تغلبُوا) ، بِضَم التَّاء على صِيغَة الْمَجْهُول، أَي: لَوْلَا أَن يجْتَمع عَلَيْكُم النَّاس، وَمن كَثْرَة الزحام تصيرون مغلوبين. وَقَالَ الدَّاودِيّ: أَي أَنكُمْ لَا تتركوني أستقي وَلَا أحب أَن أفعل بكم مَا تَكْرَهُونَ فتغلبوا. وَقيل: مَعْنَاهُ لَوْلَا أَن تقع عَلَيْكُم الْغَلَبَة بِأَن يجب عَلَيْكُم ذَلِك بِسَبَب فعلي. وَقيل. مَعْنَاهُ: لَوْلَا أَن تغلبُوا بِأَن ينتزعها الْوُلَاة مِنْكُم حرصا على حِيَازَة هَذِه المكرمة. وروى مُسلم من حَدِيث جَابر (أَتَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بني عبد الْمطلب وهم يسقون على زَمْزَم، فَقَالَ: إنزغوا بني عبد الْمطلب، فلولا أَن يغلبكم النَّاس على سِقَايَتكُمْ لنزغت مَعكُمْ، فناولوه دلوا فَشرب مِنْهُ) . وَذكر ابْن السكن أَن الَّذِي نَاوَلَهُ الدَّلْو هُوَ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: دَلِيل على أَن الظَّاهِر أَن أَفعاله فِيمَا يتَّصل بِأُمُور الشَّرِيعَة على الْوُجُوب، فَتَركه الْفِعْل شَفَقَة أَن يتَّخذ سنة، قَالَه الْخطابِيّ. وَفِيه: الشّرْب من سِقَايَة الْحَاج، وَقَالَ طَاوُوس: الشّرْب من سِقَايَة الْعَبَّاس من تَمام الْحَج، وَقَالَ عَطاء: لقد أدْركْت هَذَا الشَّرَاب، وَأَن الرجل ليشْرب فتلتزق شفتاه من حلاوته، فَلَمَّا ذهبت الْحُرِّيَّة وَولى العبيد تهاونوا بِالشرابِ واستخفوا بِهِ، وروى ابْن أبي شيبَة عَن السَّائِب بن عبد الله أَنه أَمر مُجَاهدًا مَوْلَاهُ بِأَن يشرب من سِقَايَة الْعَبَّاس وَيَقُول: إِنَّه من تَمام السّنة. وَقَالَ الرّبيع بن سعد: أَتَى أَبُو جَعْفَر السِّقَايَة فَشرب وَأعْطى جعفرا فَضله، وَمِمَّنْ شرب مِنْهَا: سعيد بن جُبَير وَأمر بِهِ سُوَيْد بن غَفلَة: وروى ابْن جريج عَن نَافِع أَن ابْن عمر لم يكن يشرب من النَّبِيذ فِي الْحَج، وَكَذَا روى خَالِد ابْن أبي بكر أَنه حج مَعَ سَالم مَا لَا يُحْصى، فَلم يره يشرب من نَبِيذ السِّقَايَة. وَفِيه: إِثْبَات أَمر السِّقَايَة للْحَاج، وَأَن مشروعيته من بَاب إكرام الضَّيْف واصطناع الْمَعْرُوف. وَفِيه: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم تحرم عَلَيْهِ الصَّدقَات الَّتِي سَبِيلهَا الْمَعْرُوف كالمياه الَّتِي تكون فِي السقايات تشربها الْمَارَّة. وَقَالَ ابْن التِّين: شربه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يَخْلُو أَن يكون ذَلِك من مَال الْكَعْبَة الَّذِي كَانَ يُؤْخَذ لَهَا من الْخمس، أَو من مَال الْعَبَّاس الَّذِي عمله للغني وَالْفَقِير، فَشرب مِنْهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ليسهل على النَّاس. وَفِيه: أَنه لَا يكره طلب السَّقْي من الْغَيْر. وَفِيه: رد مَا يعرض على الْمَرْء من الْإِكْرَام إِذا عارضته مصلحَة أولى مِنْهُ، لِأَن رده لما عرض عَلَيْهِ الْعَبَّاس مِمَّا يُؤْتى بِهِ من بَيته لمصْلحَة التَّوَاضُع الَّتِي ظَهرت من شربه مِمَّا يشرب مِنْهُ النَّاس. وَفِيه: التَّرْغِيب فِي سقِِي المَاء خُصُوصا مَاء زَمْزَم. وَفِيه: تواضع النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَفِيه: حرص أَصْحَابه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم على الِاقْتِدَاء بِهِ. وَفِيه: كَرَاهَة التقذر والتكره للمأكولات والمشروبات. وَفِيه: أَن الأَصْل فِي الْأَشْيَاء الطَّهَارَة لتنَاوله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من الشَّرَاب الَّذِي غمست فِيهِ الْأَيْدِي، قَالَه ابْن التِّين، وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال.

(بابُ مَا جاءَ فِي زَمْزَمَ)
أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي ذكر زَمْزَم من الْآثَار. قيل: وَلم يذكر مَا جَاءَ فِيهِ من فَضله، لِأَنَّهُ كَانَ لم يثبت عِنْده بِشَرْطِهِ، وَاكْتفى بِذكرِهِ مُجَردا. قلت: لَا نسلم ذَلِك، فَإِن حَدِيث الْبَاب يدل على فَضلهَا، لِأَن فِيهِ: (فَفرج صَدْرِي ثمَّ غسله بِمَاء زَمْزَم) ، وَهَذَا يدل قطعا على فَضلهَا حَيْثُ اخْتصَّ غسل صَدره، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، بِمَائِهَا دون غَيرهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا ركضة جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وسقيا إِسْمَاعِيل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَفِي (مُعْجم مَا استعجم) : هِيَ بِفَتْح الأول وَسُكُون الثَّانِي وَفتح الزَّاي الثَّانِيَة، قَالَ: وَيُقَال بِضَم الأول وَفتح الثَّانِي وَكسر الزَّاي الثَّانِيَة، وَيُقَال بِضَم أَوله وَفتح ثَانِيه وتشديده وَكسر الزَّاي الثَّانِيَة. وَفِي (كتاب الْأَزْهَرِي) عَن ابْن الْأَعرَابِي: زَمْزَم وزمم وزمزام، وَتسَمى: ركضة جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، وهمزمة جِبْرِيل، وهزمة جِبْرِيل، بِتَقْدِيم الزَّاي، وهزمة الْملك، وَتسَمى: الشباعة. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَرَوَاهُ الخازرنجي: شباعة، وَقَالَ صاعد فِي (الفصوص) وَمن أسمائها: تكْتم، وَقَالَ الْكَلْبِيّ: إِنَّمَا سميت زَمْزَم لِأَن بابل بن ساسان حَيْثُ سَار إِلَى الْيمن دفن سيوف قلعته وحلي الزمازمة فِي مَوضِع بِئْر زَمْزَم، فَلَمَّا احتفرها عبد الْمطلب أصَاب السيوف والحلي فِيهِ سميت زَمْزَم. وَقَالَ ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: سميت زَمْزَم لِأَنَّهَا زمت بِالتُّرَابِ لِئَلَّا يَأْخُذ المَاء يَمِينا وَشمَالًا، وَلَو تركت لساحت على وَجه الأَرْض حَتَّى مَلأ كل شَيْء. وَقَالَ الْحَرْبِيّ: سميت بزمزمة المَاء، وَهُوَ حركته، وَقَالَ أَبُو عبيد: قَالَ بَعضهم: إِنَّهَا مُشْتَقَّة من قَوْلهم: مَاء زمزوم وزمزام أَي: كثير. وَفِي (الموعب) : مَاء زَمْزَم وزمازم، وَهُوَ الْكثير وَعَن ابْن هِشَام: الزمزمة عِنْد الْعَرَب الْكَثْرَة والاجتماع، وَذكر المَسْعُودِيّ أَن الْفرس كَانَت تحج إِلَيْهَا فِي الزَّمن الأول، والزمزمة صَوت تخرجه الْفرس من خياشيمها.
وَمن فضائلها: مَا رَوَاهُ مُسلم: شرب أَبُو ذَر مِنْهَا ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَلَيْسَ لَهُ طَعَام غَيرهَا. وَأَنه سمن، فَأخْبر النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بذلك فَقَالَ: إِنَّهَا مباركة، إِنَّهَا طَعَام طعم وَزَاد أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ فِي (مُسْنده) وشفاء سقم، وروى الْحَاكِم فِي (الْمُسْتَدْرك) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، مَرْفُوعا: (مَاء زَمْزَم لما شرب لَهُ) ، رِجَاله ثقاة إلاَّ أَنه اخْتلف فِي إرْسَاله وَوَصله، وإرساله أصح. وَعَن أم أَيمن، قَالَت: (مَا رَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، شكى جوعا قطّ وَلَا عطشا، كَانَ يَغْدُو إِذا أصبح فيشرب من مَاء زَمْزَم شربه، فَرُبمَا عرضنَا عَلَيْهِ الطَّعَام فَيَقُول: لَا أَنا شبعان شبعان) . ذكره فِي (المُصَنّف الْكَبِير) فِي شرف الْمُصْطَفى، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. وَعَن عقيل ابْن أبي طَالب، قَالَ: كُنَّا إِذا أَصْبَحْنَا وَلَيْسَ عندنَا طَعَام قَالَ لنا أبي ائْتُوا زَمْزَم فنأتيها فنشرب مِنْهَا فنجتزىء، وروى الدَّارَقُطْنِيّ من حَدِيث ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا مَرْفُوعا: (وَهِي هزمة جِبْرِيل وسقيا إِسْمَاعِيل) ، وَذكر الزَّمَخْشَرِيّ فِي (ربيع الْأَبْرَار) أَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام، أنبط بِئْر زَمْزَم مرَّتَيْنِ: مرّة لآدَم، عَلَيْهِ السَّلَام، حَتَّى انْقَطَعت زمن الطوفان، وَمرَّة لإسماعيل عَلَيْهِ السَّلَام، وروى ابْن مَاجَه بِإِسْنَاد جيد: (أَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ لرجل: إِذا شربت من زَمْزَم فَاسْتقْبل الْكَعْبَة، وَاذْكُر اسْم الله، عز وَجل، فَإِن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: آيَة مَا بَيْننَا وَبَين الْمُنَافِقين أَنهم لَا يتضلعون من زَمْزَم) . وروى الدَّارَقُطْنِيّ أَن عبد الله كَانَ إِذا شرب مِنْهَا، قَالَ: أللهم إِنِّي أسأك علما نَافِعًا وَرِزْقًا وَاسِعًا وشفاء من كل دَاء. وروى أَحْمد بِإِسْنَاد جيد من حَدِيث جَابر فِي ذكر حجَّته، عَلَيْهِ السَّلَام، ثمَّ عَاد إِلَى الْحجر ثمَّ ذهب إِلَى زَمْزَم فَشرب مِنْهَا وصب على رَأسه، ثمَّ رَجَعَ فاستلم الرُّكْن ... الحَدِيث.

6361 - وَقَالَ عَبْدَانُ أخبرنَا عبْدُ الله قَالَ أخبرنَا يُونُسُ عنِ الزهْرِيِّ قَالَ أنَسُ بنُ مالِكٍ كانَ أبُو ذَرٍّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يُحَدِّثُ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ فُرِجَ سَقْفِي وَأَنا بِمَكَّةَ فنَزَلَ جِبْرِيلُ عليهِ السَّلاَمُ ففَرَجَ صَدْرِي ثُمَّ غَسَلَهُ بِماءِ زَمْزَمَ ثُمَّ جاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِىءٍ حكْمَةً وَإيمَانا فأفْرَغَهَا فِي صَدْرِي ثُمَّ أطْبَقَهُ ثُمَّ أخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا افْتَحْ قَالَ منْ هاذا قَالَ جِبْرِيلُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (ثمَّ غسله بِمَاء زَمْزَم) ، فَإِن ذكر زَمْزَم جَاءَ فِي الحَدِيث وَهُوَ يدل على فضل زَمْزَم حَيْثُ اخْتصَّ غسله

(9/277)


بهَا دون غَيرهَا من الْمِيَاه، كَمَا ذَكرْنَاهُ عَن قريب. وَقد أخرج هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب كَيفَ فرضت الصَّلَاة فِي الْإِسْرَاء، فِي أول كتاب الصَّلَاة مُسْندًا عَن يحيى بن بكير عَن اللَّيْث عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب عَن أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ أَبُو ذَر يحدث ... إِلَى آخِره، وَذكره هُنَا مُخْتَصرا مُعَلّقا عَن عَبْدَانِ، واسْمه عبد الله بن عُثْمَان الْمروزِي عَن عبد الله ابْن الْمُبَارك الْمروزِي عَن يُونُس بن يزِيد الْأَيْلِي عَن مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ ... إِلَى آخِره، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مستقصىً.

7361 - حدَّثنا محَمَّدٌ هُوَ ابنُ سَلامٍ قَالَ أخبرنَا الْفَزَارِيُّ عنْ عاصِمٍ عنِ الشَّعْبِيِّ أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا حدَّثَهُ قَالَ سَقَيْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ زَمْزَمَ فَشَرِبَ وهْوَ قائِمٌ قالَ عَاصِمٌ فحَلَفَ عِكْرَمَةُ مَا كانَ يَوْمَئِذٍ إلاَّ عَلى بَعِيرٍ.
(الحَدِيث 7361 طرفه فِي: 7165) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ ذكر زَمْزَم.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن سَلام بن الْفرج أَبُو عبد الله البيكندي. الثَّانِي: الْفَزارِيّ، بِكَسْر الْفَاء بعْدهَا الزَّاي، وَهُوَ مَرْوَان بن مُعَاوِيَة. الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول. الرَّابِع: عَامر بن شرَاحِيل الشّعبِيّ. الْخَامِس: عِكْرِمَة مولى ابْن عَبَّاس. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع، وبصيغة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: الْإِخْبَار بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه ذكر مُجَردا فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر: هُوَ ابْن سَلام، بِذكر أَبِيه. وَفِيه: أَن الْفَزارِيّ وَالشعْبِيّ كوفيان، وَأَن عَاصِمًا بَصرِي. وَفِيه: أَن الْفَزارِيّ وَالشعْبِيّ مذكوران بِالنِّسْبَةِ، وَأَن شَيْخه فِي أَكثر الرِّوَايَة وعاصما مذكوران مجردين عَن النِّسْبَة.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي نعيم عَن سُفْيَان الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْأَشْرِبَة عَن أبي كَامِل الجحدري، وَعَن مُحَمَّد بن عبد الله بن نمير، وَعَن شُرَيْح بن يُونُس وَعَن يَعْقُوب الدَّوْرَقِي وَإِسْمَاعِيل بن سَالم وَعَن عبد الله بن معَاذ وَعَن مُحَمَّد بن بشار وَعَن مُحَمَّد بن الْمثنى. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي الْأَشْرِبَة عَن أَحْمد بن منيع، وَفِي الشَّمَائِل عَن عَليّ بن حجر. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن عَليّ بن حجر بِهِ، وَعَن زِيَاد بن أَيُّوب وَعَن يَعْقُوب الدَّوْرَقِي. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِي الْأَشْرِبَة عَن سُوَيْد بن سعيد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (وَهُوَ قَائِم) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (فَحلف عِكْرِمَة: مَا كَانَ) أَي: مَا كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْمئِذٍ يَعْنِي يَوْم سقى ابْن عَبَّاس، رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من مَاء زَمْزَم، وَفِي لفظ ابْن مَاجَه، قَالَ عَاصِم: فَذكرت ذَلِك لعكرمة فَحلف بِاللَّه مَا فعل! أَي: مَا شرب قَائِما لِأَنَّهُ كَانَ حِينَئِذٍ رَاكِبًا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الرُّخْصَة فِي الشّرْب قَائِما. وَقيل: إِن الشّرْب من زَمْزَم من غير قيام يشق لارْتِفَاع مَا عَلَيْهَا من الْحَائِط. وَقَالَ ابْن بطال: أَرَادَ البُخَارِيّ أَن الشّرْب من مَاء زَمْزَم من سنَن الْحَج. فَإِن قلت: روى ابْن جرير عَن نَافِع عَن ابْن عمر أَنه كَانَ لَا يشرب مِنْهَا فِي الْحَج قلت: لَعَلَّه إِنَّمَا تَركه لِئَلَّا يظنّ أَن شربه من الْفَرْض اللَّازِم، وَقد فعله أَولا مَعَ أَنه كَانَ شَدِيد الِاتِّبَاع للآثار، بل لم يكن أحدا تبع لَهَا مِنْهُ، وَنَصّ أَصْحَاب الشَّافِعِي على شربه، وَقَالَ وهب بن مُنَبّه: نجدها فِي كتاب الله: شراب الْأَبْرَار، وَطَعَام طعم وشفاء سقم، لَا تنزح وَلَا تزم، من شرب مِنْهَا حَتَّى يتضلع أحدثت لَهُ شِفَاء وأخرجت عَنهُ دَاء.
وَاعْلَم أَنه رُوِيَ فِي الشّرْب قَائِما أَحَادِيث كَثِيرَة. مِنْهَا: النَّهْي عَن ذَلِك، وَبَوَّبَ عَلَيْهِ مُسلم بقوله: بَاب الزّجر عَن الشّرْب قَائِما. وَحدثنَا هداب بن خَالِد حَدثنَا همام حَدثنَا قَتَادَة عَن أنس أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زجر عَن الشّرْب قَائِما، وَفِي لفظ لَهُ عَن أنس عَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، أَنه نهى أَن يشرب الرجل قَائِما. قَالَ قَتَادَة: فَقُلْنَا: فالأكل؟ قَالَ: ذَاك أَشد وأخبث. وَفِي رِوَايَة عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، زجر عَن الشّرْب قَائِما. وَفِي لفظ: نهى عَن الشّرْب قَائِما، وَفِي رِوَايَة لَهُ عَن أبي هُرَيْرَة، قَالَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (لَا يشربن أحدكُم قَائِما، فَمن نسي فليستق) . وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث الْجَارُود بن الْمُعَلَّى أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، نهى عَن الشّرْب قَائِما. وَمِنْهَا: إِبَاحَة الشّرْب قَائِما، فَمن ذَلِك

(9/278)


مَا رَوَاهُ البُخَارِيّ وَبَوَّبَ عَلَيْهِ: بَاب الشّرْب قَائِما، على مَا يَأْتِي، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو نعيم حدنا مسعر عَن عبد الْملك بن ميسرَة عَن النزال، قَالَ: أَتَى عَليّ.، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، على بَاب الرحبة بِمَاء، فَشرب قَائِما، فَقَالَ: إِن نَاسا يكره أحدهم أَن يشرب وَهُوَ قَائِم، وَإِنِّي رَأَيْت النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فعل كَمَا رَأَيْتُمُونِي فعلت) . وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَيْضا، وروى التِّرْمِذِيّ من حَدِيث ابْن عمر، قَالَ: (كُنَّا نَأْكُل على عهد رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَنحن نمشي، وَنَشْرَب وَنحن قيام) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث صَحِيح غَرِيب، وروى أَيْضا من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه عَن جده. (قَالَ: رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يشرب قَائِما وَقَاعِدا) . وَقَالَ: هَذَا حَدِيث حسن، وروى الطَّحَاوِيّ، وَقَالَ: حَدثنَا ربيع الجيزي قَالَ: حَدثنَا إِسْحَاق ابْن أبي فَرْوَة الْمدنِي، قَالَ: حَدَّثتنَا عُبَيْدَة بنت نابل عَن عَائِشَة بنت سعد) عَن سعد بن أبي وَقاص، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يشرب قَائِما) . وَرَوَاهُ الْبَزَّار أَيْضا فِي (مُسْنده) نَحوه، وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا، فَقَالَ: حَدثنَا ابْن مَرْزُوق، قَالَ: حَدثنَا أَبُو عَاصِم عَن ابْن جريج، قَالَ: أَخْبرنِي عبد الْكَرِيم ابْن مَالك: (قَالَ: أَخْبرنِي الْبَراء بن زيد أَن أم سليم حدثته أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم شرب وَهُوَ قَائِم فِي قربَة) . وَفِي لفظ لَهُ: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دخل عَلَيْهَا، وَفِي بَيته قربَة معلقَة، فَشرب من الْقرْبَة قَائِما. وَأخرجه أَحْمد وَالطَّبَرَانِيّ أَيْضا. وَقَالَ النَّوَوِيّ: إعلم أَن هَذِه الْأَحَادِيث أشكل مَعْنَاهَا على بعض الْعلمَاء، حَتَّى قَالَ فِيهَا أقوالاً بَاطِلَة، وَالصَّوَاب مِنْهَا: أَن النَّهْي مَحْمُول على كَرَاهَة التَّنْزِيه، وَأما شربه قَائِما فلبيان الْجَوَاز، وَمن زعم نسخا فقد غلط، فَكيف يكون النّسخ مَعَ إِمْكَان الْجمع، وَإِنَّمَا يكون نسخا لَو ثَبت التاريح فأنَّى لَهُ ذَلِك؟ وَقَالَ الطَّحَاوِيّ مَا ملخصه: أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَرَادَ بِهَذَا النَّهْي الإشفاق على أمته، لِأَنَّهُ يخَاف من الشّرْب قَائِما الضَّرَر، وحدوث الدَّاء، كَمَا قَالَ لَهُم: أما أَنا فَلَا آكل مُتكئا. انْتهى. قلت: اخْتلفُوا فِي هَذَا الْبَاب بِحَسب اخْتِلَاف الْأَحَادِيث فِيهِ، فَذهب الْحسن الْبَصْرِيّ وَإِبْرَاهِيم النَّخعِيّ وَقَتَادَة: إِلَى كَرَاهَة الشّرْب قَائِما. وَرُوِيَ ذَلِك عَن أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَذهب الشّعبِيّ وَسَعِيد بن الْمسيب وزادان وطاووس وَسَعِيد بن جُبَير وَمُجاهد إِلَى أَنه لَا بَأْس بِهِ، ويروى ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَأبي هُرَيْرَة وَسعد وَعمر بن الْخطاب وَابْنه عبد الله وَابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.

77 - (بابُ طَوَاف القَارِن)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان طواف الْقَارِن، فَهَل يَكْتَفِي بِطواف وَاحِد. أَو لَا بُد لَهُ من طوافين، وَإِنَّمَا لم يبين ذَلِك، بل أطلق للِاخْتِلَاف فِيهِ على مَا يجيىء بَيَانه، إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

8361 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ عُرْوَةَ عنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا قالَتْ خَرَجْنَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ فأهْلَلْنَا بِعُمْرَةٍ ثُمَّ قالَ مَنْ كانَ مَعَهُ هَدْيٌ فَلْيُهِلَّ بالحَجِّ والْعُمْرَةِ ثُمَّ لاَ يَحلَّ حَتَّى يَحِلَّ مِنْهُمَا فَقَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنا حائِضٌ فلَمَّا قَضَيْنَا حَجَّنا أرْسَلَنِي مَعَ عَبْدِ الرَّحْمانِ إلَى التَّنْعِيمُ فاعْتَمَرْتُ فَقَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاذِهِ مَكَانُ عُمْرَتِكِ فَطَافَ الَّذِينَ أهَلُّوا بِالعُمْرَةِ ثُمَّ حَلُّوا ثُمَّ طَافُوا طَوَافا آخَرَ بَعْدَ أنْ رَجَعُوا مِنْ مِنىً وأمَّا الَّذِين جَمَعُوا بَيْنَ الحَجِّ والْعُمْرَةِ فإنَّمَا طَافُوا طَوَافا وَاحِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَأما الَّذين جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة) لِأَنَّهُ هُوَ الْقَارِن، فِيهِ بَيَان طَوَافه أَنه وَاحِد، والْحَدِيث قد مضى فِي: بَاب كَيفَ تهل الْحَائِض وَالنُّفَسَاء، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك، وَهنا: عَن عبد الله ابْن يُوسُف عَن مَالك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً، وَلَكِن نتكلم فِيهِ للرَّدّ على بَعضهم فِي رده على الإِمَام أبي جَعْفَر الطَّحَاوِيّ من غير وَجه لأريحية العصبية فِيهِ.
فَنَقُول أَولا مَا ذكره الطَّحَاوِيّ، فَقَالَ: بَاب الْقَارِن كم عَلَيْهِ من الطّواف لعمرته ولحجته؟ حَدثنَا صَالح بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ وَمُحَمّد بن إِدْرِيس الْمَكِّيّ قَالَا: حَدثنَا سعيد بن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا عبد الْعَزِيز

(9/279)


ابْن مُحَمَّد عَن عبيد الله بن عمر عَن نَافِع عَن ابْن عمر، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (من أحرم بِالْحَجِّ وَالْعمْرَة كَفاهُ لَهما طواف وَاحِد وسعي وَاحِد، ثمَّ لَا يحل حَتَّى لَا يحل مِنْهُمَا جَمِيعًا، ثمَّ قَالَ: فَذهب قوم إِلَى هَذَا الحَدِيث، فَقَالُوا: على الْقَارِن بَين الْحَج وَالْعمْرَة طواف وَاحِد لَا يجب عَلَيْهِ من الطّواف غَيره، وَخَالفهُم فِي ذَلِك آخَرُونَ، فَقَالُوا: بل يطوف لكل وَاحِد مِنْهُمَا طَوافا وَاحِدًا وَيسْعَى سعيا وَاحِدًا، وَكَانَ من الْحجَّة لَهُم فِي ذَلِك أَن هَذَا الحَدِيث خطأ أَخطَأ فِيهِ الدَّرَاورْدِي فرفعه إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَإِنَّمَا أَصله عَن ابْن عمر نَفسه، هَكَذَا رَوَاهُ الْحفاظ وهم مَعَ هَذَا لَا يحتجون بالدراوردي، عَن عبيد الله أصلا، فَلم يحتجون لَهُ فِي هَذَا، فَأَما مَا رَوَاهُ الْحفاظ من ذَلِك عَن عبيد الله، فَمَا حَدثنَا صَالح بن عبد الرَّحْمَن، قَالَ: حَدثنَا سعيد ابْن مَنْصُور، قَالَ: حَدثنَا هشيم، قَالَ: حَدثنَا عبد الله عَن نَافِع عَن ابْن عمر، أَنه كَانَ يَقُول: إِذا قرن طَاف لَهما طَوافا وَاحِدًا، فَإِذا فرق طَاف لكل مِنْهُمَا طَوافا، وسعى سعيا انْتهى. ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل، بعد أَن نقل كَلَام الطَّحَاوِيّ، وَهُوَ تَعْلِيل مَرْدُود، فالدراوردي صدق، وَلَيْسَ مَا رَوَاهُ مُخَالفا لما رَوَاهُ غَيره، فَلَا مَانع أَن يكون الحَدِيث عِنْد نَافِع على الْوَجْهَيْنِ. انْتهى. قلت: الْمَرْدُود مَا قَالَه وَذهب إِلَيْهِ من غير تَحْقِيق النّظر فِيهِ، فَهَل يحل رد مَا لَا يرد لأجل مَا قصر فِيهِ فهمه، وَكثر تعنته ومصادمته للحق الأبلج؟ أَفلا وقف هَذَا على مَا قَالَه التِّرْمِذِيّ بعد أَن ذكر الحَدِيث الْمَذْكُور؟ وَقد رَوَاهُ غير وَاحِد عَن عبيد الله وَلم يرفعوه، وَهُوَ أصح. وَقَالَ أَبُو عمر فِي (الاستذكار) : لم يرفعهُ أحد عَن عبيد الله غير الدَّرَاورْدِي وكل من رَوَاهُ عَنهُ غَيره، أوقفهُ على ابْن عمر، وَكَذَا رَوَاهُ مَالك عَن نَافِع مَوْقُوفا، وَقَالَ أَبُو زرْعَة: الدَّرَاورْدِي سيء الْحِفْظ، ذكره عَنهُ الذَّهَبِيّ فِي (الكاشف) . وَقَالَ النَّسَائِيّ: لَيْسَ بِالْقَوِيّ، وَحَدِيثه عَن عبيد الله مُنكر، وَقَالَ ابْن سعد: كَانَ كثير الحَدِيث يغلط.
ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل: واحتجت الْحَنَفِيَّة بِمَا رُوِيَ عَن عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أَنه جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة، فَطَافَ لَهما طوافين وسعى لَهما سعيين، ثمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل، وَطَرِيقه عَن عَليّ عِنْد عبد الرَّزَّاق وَالدَّارَقُطْنِيّ وَغَيرهمَا ضَعِيفَة، وَكَذَا أخرج من حَدِيث ابْن مَسْعُود بِإِسْنَاد ضَعِيف نَحوه، وَأخرج من حَدِيث ابْن عمر نَحْو ذَلِك، وَفِيه: الْحسن بن عمَارَة وَهُوَ مَتْرُوك. انْتهى. قلت: حَدِيث عَليّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ النَّسَائِيّ فِي (سنَنه الْكُبْرَى) عَن حَمَّاد بن عبد الرَّحْمَن الْأنْصَارِيّ (عَن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد، قَالَ: طفت مَعَ أبي، وَقد جمع بَين الْحَج وَالْعمْرَة، فَطَافَ لَهما طوافين، وسعى لَهما سعيين، وحَدثني أَن عليا، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فعل ذَلِك، وحدثه أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعل ذَلِك.
فَإِن قلت: قَالَ صَاحب (التَّنْقِيح) وَحَمَّاد: هَذَا ضعفه الْأَزْدِيّ؟ قلت: ذكره ابْن حبَان فِي (الثِّقَات) وَأخرجه الدَّارَقُطْنِيّ من وُجُوه عَن الْحسن ابْن عمَارَة، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مَتْرُوك، وَعَن حَفْص بن أبي دَاوُد عَن ابْن أبي ليلى. وَقَالَ حَفْص: ضَعِيف، وَعَن عِيسَى بن عبد الله ابْن عَليّ، ثمَّ قَالَ: وَهُوَ مَتْرُوك، قلت: إِذا كثرت طرق الحَدِيث، وَلَو كَانَ فِيهَا ضعفاء تتعاضد وتتقوى.
وروى الطَّحَاوِيّ أَيْضا (عَن أبي النَّضر، قَالَ: أَهلَلْت بِالْحَجِّ فأدركت عليا فَقلت لَهُ: إِنِّي أَهلَلْت بِالْحَجِّ أفأستطيع أَن أضيف إِلَيْهِ عمْرَة؟ قَالَ: لَا لَو كنت أَهلَلْت بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أردْت أَن تضيف إِلَيْهَا الْحَج ضممته. قَالَ: قلت: كَيفَ أصنع إِذا أردْت ذَلِك؟ قَالَ: تصب عَلَيْك إداوة مَاء، ثمَّ تحرم بهما جَمِيعًا وَتَطوف لكل وَاحِد مِنْهُمَا طَوافا) ، وَعنهُ عَن عَليّ وَعبد الله قَالَا: الْقَارِن يطوف طوافين، وَيسْعَى سعيين ثمَّ اعْترض هَذَا الْقَائِل أَيْضا على الطَّحَاوِيّ حَيْثُ قَالَ، فِي قَول عَائِشَة: وَأما الَّذين جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة، فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا، أَن مرادها جمعُوا بَين الْحَج وَالْعمْرَة جمع مُتْعَة لَا جمع قرَان، بقوله: وَإِنِّي لكثير التَّعَجُّب مِنْهُ فِي هَذَا الْموضع، كَيفَ سَاغَ لَهُ هَذَا التَّأْوِيل؟ وَحَدِيث عَائِشَة مفصل للحالتين، فَإِنَّهَا صرحت بِفعل من تمتّع، ثمَّ بِمن قرن حَيْثُ، قَالَت: فَطَافَ الَّذين أهلوا بِالْعُمْرَةِ ثمَّ حلوا، ثمَّ طافوا طَوافا آخر بعد أَن رجعُوا من منى، فَهَؤُلَاءِ أهل التَّمَتُّع، ثمَّ قَالَت: وَأما الَّذين جمعُوا، إِلَى آخِره، فَهَؤُلَاءِ أهل القِران، وَهَذَا أبين من أَن يحْتَاج إِلَى بَيَان. انْتهى. قلت: هَذَا الَّذِي ذكره مُتَعَجِّبا أَخذه من كَلَام الْبَيْهَقِيّ، فَإِنَّهُ شنع على الطَّحَاوِيّ فِي كتاب (الْمعرفَة) بِغَيْر معرفَة، حَيْثُ قَالَ: وَزعم بعض من يَدعِي فِي هَذَا تَصْحِيح الْأَخْبَار على مذْهبه، إِنَّمَا أَرَادَت بِهَذَا الْجمع جمع مُتْعَة لَا جمع قرَان. قَالَت: فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا فِي حجتهم، لِأَن حجتهم كَانَت مَكِّيَّة، وَالْحجّة المكية لَا يُطَاف لَهَا قبل عَرَفَة، وَكَيف استجاز لدينِهِ أَن يَقُول مثل هَذَا، وَفِي حَدِيثهَا أَنَّهَا أفردت من جمع بَينهمَا جمع مُتْعَة أَولا بِالذكر، فَذكرت كَيفَ طافوا فِي عمرتهم ثمَّ كَيفَ طافوا فِي حجتهم، ثمَّ لم يبْق إلاَّ المفردون والقارنون،

(9/280)


فَجمعت بَينهم فِي الذّكر، وأخبرت أَنهم إِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا، وَأَنَّهَا أَرَادَت بَين الصَّفَا والمروة، وَلما ذكرنَا من الدّلَالَة مَعَ كَونه معقولاً، وَلَو اقتصرت على اللَّفْظَة الْأَخِيرَة لم يجز حملهَا أَيْضا، لِأَنَّهَا تَقْتَضِي اقتصارا على طواف وَاحِد لكل مَا حصل بِهِ الْجمع، وَالْجمع إِنَّمَا حصل بِالْعُمْرَةِ وَالْحج جَمِيعًا، فَيَقْتَضِي اقتصارا على طواف وَاحِد لَهما جَمِيعًا لَا لأَحَدهمَا، والمتمتع لَا يقْتَصر على طواف وَاحِد بِالْإِجْمَاع، فَدلَّ على أَنَّهَا أَرَادَت بِهَذَا الْجمع جمع قرَان. انْتهى. قلت: لم يتَأَمَّل الْبَيْهَقِيّ كَلَام الطَّحَاوِيّ لغشيان التعصب على فكره، أَلا ترى كَيفَ يؤول قَوْلهَا: فَإِنَّمَا طافوا طَوافا وَاحِدًا أَنَّهَا أَرَادَت بِهَذَا السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، فَمَا الضَّرُورَة إِلَى تَأْوِيل الطّواف بالسعي؟ بل المُرَاد الطّواف بِالْبَيْتِ. وَقَوله: تَقْتَضِي اقتصارا على طواف وَاحِد ... إِلَى آخِره، لَيْسَ كَذَلِك لِأَنَّهُ قَالَ: إِن حجتهم تِلْكَ صَارَت مَكِّيَّة وَالْحجّة المكية يُطَاف لَهَا بعد عَرَفَة، فَإِذا كَانَ كَذَلِك لَا يقْتَصر الْمُتَمَتّع على طواف وَاحِد، على أَنا نقُول: أَحَادِيث عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، فِي هَذَا الْبَاب مضطربة جدا لَا يتم بهَا الِاسْتِدْلَال لأحد من الْخُصُوم. وَقد قَالَت فِي رِوَايَة: أَهْلَلْنَا بِعُمْرَة وَفِي أُخْرَى فمنا من أهل بِعُمْرَة، وَمنا من أهل بِحَجّ. قَالَت: وَلم أهل إلاَّ بِحَجّ، وَفِي أُخْرَى: خرجنَا لَا نُرِيد إلاَّ الْحَج، وَفِي أُخْرَى لبينا بِالْحَجِّ، وَفِي أُخْرَى: مهلين بِالْحَجِّ، وَالْكل صَحِيح. وَفِي رِوَايَة: وَكنت مِمَّن تمتّع وَلم يسق الْهَدْي حَتَّى، قَالَ مَالك: لَيْسَ الْعَمَل على حَدِيث عُرْوَة عَن عَائِشَة قَدِيما وحديثا.
وَسَأَلَ الْكرْمَانِي عَن وَجه الْجمع بَين هَذِه الرِّوَايَات، ثمَّ قَالَ: قَالُوا وَجهه أَنهم أَحْرمُوا بِالْحَجِّ، ثمَّ لما أَمرهم بِالْفَسْخِ إِلَى الْعمرَة أحرم أَكْثَرهم متمتعين، وَبَعْضهمْ بِسَبَب الْهَدْي بقوا على مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَبَعْضهمْ صَارُوا قارنين، ثمَّ قَالَ هَذَا الْقَائِل الْمُعْتَرض: قَالَ عبد الرَّزَّاق عَن سُفْيَان الثَّوْريّ عَن سَلمَة بن كهيل، قَالَ: حلف طَاوُوس مَا طَاف أحد من أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لحجه وعمرته إلاَّ طَوافا وَاحِدًا، وَهَذَا إِسْنَاد صَحِيح. وَفِيه: بَيَان ضعف مَا روى عَن عَليّ وَابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا من ذَلِك، انْتهى. قلت: لَيْسَ شعري مَا وَجه هَذَا الْبَيَان؟ وعجبي كَيفَ يلهج هَذَا الْقَائِل بِهَذَا القَوْل الَّذِي لَا يجديه شَيْئا؟ وَنقل هَذَا الْيَمين عَن طَاوُوس كَاد أَن يكون محالاً لعدم الْقُدْرَة على الْإِحَاطَة على أطوفة الصَّحَابَة أَجْمَعِينَ، وَالْكَلَام أَيْضا فِي الروَاة من دون عبد الرَّزَّاق.
قَوْله: (فَلَمَّا قضينا حجنا) ، وَذَلِكَ بعد أَن طهرت وطافت بِالْبَيْتِ أرسلها رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَعَ أَخِيهَا عبد الرَّحْمَن ابْن أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، إِلَى التَّنْعِيم، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون النُّون، وبالعين الْمُهْملَة الْمَكْسُورَة، وَهُوَ على ثَلَاثَة أَمْيَال من مَكَّة. قَوْله: (مَكَان عمرتك) ، نصب على الظّرْف أَي بدل عمرتك، وَقيل: إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تطييبا لقلبها، وَيُقَال: مَعْنَاهُ مَكَان عمرتك الَّتِي تركتهَا لأجل حيضك. قَوْله: (فَإِنَّمَا طافوا) ، وَفِي كثير من النّسخ طافوا بِدُونِ لفظ، فَإِنَّمَا، وَبِدُون الْفَاء فِي طافوا، وَهَذَا دَلِيل جَوَاز حذف الْفَاء فِي جَوَاب: أما، مَعَ أَن النُّحَاة صَرَّحُوا بِلُزُوم ذكره إلاَّ فِي ضَرُورَة الشّعْر، وَقَالَ بَعضهم: لَا يجوز حذف الْفَاء مُسْتقِلّا، لَكِن يجوز حذفهَا مَعَ القَوْل، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {فَأَما الَّذين اسودت وُجُوههم أكفرتهم بعد إيمَانكُمْ} (آل عمرَان: 601) . إِذْ تَقْدِيره: فَالْقَوْل لَهُم هَذَا الْكَلَام، وَقَالَ ابْن مَالك، هَذَا الحَدِيث وأخواته كَقَوْلِه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (أما مُوسَى كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ) ، وَأما بعد: مَا بَال رجال يشترطون شُرُوطًا) ، فمخالف لهَذِهِ الْقَاعِدَة، فَعلم أَن من خصّه بِمَا إِذا حذف القَوْل مَعَه فَهُوَ مقصر فِي فتواه، عَاجز عَن نصْرَة دَعْوَاهُ.

9361 - حدَّثنا يَعْقُوبُ بنُ إبْرَاهِيمَ قَالَ حدَّثنا ابنُ علِيَّةَ عنْ أيُّوبَ عنْ نافِعٍ أنَّ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا دخَلَ ابنُهُ عَبْدُ الله بنُ عَبْدِ الله وظَهْرُهُ فِي الدَّارِ فَقَالَ إنِّي لاَ آمَن أَن يَكُونَ العَامَ بَيْنَ النَّاسِ قِتالٌ فيَصُدُّوكَ عَنِ البَيْتِ فَلَوْ أقَمْتَ فَقَالَ قَدْ خَرَجَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بيْنَهُ وبَيْنَ الْبَيْتِ فإنْ حِيلَ بَيْنِي وبَيْنَهُ أفْعَلْ كَما فعلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رسولِ الله أسْوَةٌ حسَنَةٌ ثُمَّ قالَ أُشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ معَ عُمْرَتِي حَجا قَالَ ثُمَّ قَدِمَ فَطَافَ لَهُما طَوافا وَاحِدا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَطَافَ لَهما طَوافا وَاحِدًا) ، وَهَذَا طواف الْقَارِن عِنْده كَمَا ذهب إِلَيْهِ الشَّافِعِي، وَمن قَالَ بقوله.
ذكر

(9/281)


رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم بن كثير الدَّوْرَقِي، يكنى بِأبي يُوسُف. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن علية، بِضَم الْعين الْمُهْملَة وَفتح اللَّام وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف: وَهُوَ اسْم أمه، وَأَبوهُ إِبْرَاهِيم بن سهم، وَقد مر غير مرّة. الثَّالِث: أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ وَقد مر غير مرّة. الرَّابِع: نَافِع مولى ابْن عمر. الْخَامِس: عبد الله بن عمر بن الْخطاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه هُوَ شيخ مُسلم أَيْضا وينسب إِلَى دورق فَيُقَال لَهُ الدَّوْرَقِي، وَلَيْسَ من بلد دورق، وَإِنَّمَا كَانُوا يلبسُونَ قلانس تسمى الدورقية، فنسبوا إِلَيْهَا. وَفِيه: أَن ابْن علية وَأَيوب بصريان ونافعا مدنِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن أبي النُّعْمَان عَن حَمَّاد، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن أبي الرّبيع وَأبي كَامِل وَعَن عَليّ بن حجر وَزُهَيْر بن حَرْب.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (دخل ابْنه) أَي: ابْن عبد الله بن عمر. قَوْله: (عبد الله بن عبد الله) هُوَ بَيَان لَهُ. قَوْله: (وظهره) بِالرَّفْع مبتد وَقَوله: (فِي الدَّار) ، خَبره، وَالْجُمْلَة وَقعت حَالا، وَالْمرَاد من الظّهْر مركوبه الَّذِي يركبه من الْإِبِل، وَحَاصِل الْمَعْنى أَن عبد الله بن عمر كَانَ عَازِمًا على الْحَج، وأحضر مركوبه ليركب عَلَيْهِ، وَيتَوَجَّهُ فَقَالَ لَهُ ابْنه عبد الله، إِنِّي لَا آمن أَن يكون الْعَام، أَي: فِي هَذَا الْعَام قتال فيصدوك أَي يمنعوك عَن الْبَيْت، وَذَلِكَ كَانَ فِي عَام نزل الْحجَّاج لقِتَال عبد الله بن الزبير، وَصرح بذلك مُسلم فِي رِوَايَته، فَقَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا يحيى، وَهُوَ الْقطَّان عَن عبيد الله قَالَ: (حَدثنِي نَافِع أَن عبد الله بن عبد الله وَسَالم بن عبد الله حِين نزل الْحجَّاج لقِتَال ابْن الزبير قَالَا: لَا يَضرك أَن لَا تحج الْعَام؟ فَإنَّا نخشى أَن يكون بَين النَّاس قتال يُحَال بَيْنك وَبَين الْبَيْت. قَالَ: إِن حيل بيني وَبَينه فعلت كَمَا فعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَأَنا مَعَه: حِين حَالَتْ كفار قُرَيْش بَينه وَبَين الْبَيْت أشهدكم أَنِّي قد أوجبت عمْرَة: فَانْطَلق) الحَدِيث. قَوْله: (إِنِّي لَا آمن) بِالْمدِّ، وَفتح الْمِيم المخففة أَي: أَخَاف، هَذِه رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي (إِنِّي لَا أَيمن) ، بِكَسْر الْهمزَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفتح الْمِيم، وَهِي لُغَة تَمِيم، فَإِنَّهُم يكسرون الْهمزَة فِي أول مُسْتَقْبل ماضيه على: فعل، بِالْكَسْرِ وَلَا يكسرون إِذا كَانَ ماضيه بِالْفَتْح إلاَّ أَن يكون فِيهِ حرف حلق نَحْو: إذهب وَالْحق. وَقيل: قَوْله: (لَا أَيمن)) بِالْكَسْرِ إمالة، وَوَقع فِي بعض الْكتب: لَا أَيمن، بِالْفَتْح وَالْيَاء، وَلَا وَجه لَهُ فَاعْلَم. قَوْله: (فَلَو أَقمت) يحْتَمل أَن يكون كلمة: لَو، لِلتَّمَنِّي فَلَا تحْتَاج إِلَى جَوَاب، وَيحْتَمل أَن تكون للشّرط وجزاؤه مَحْذُوف أَي: فَلَو أَقمت: فِي هَذِه السّنة، وَتركت الْحَج لَكَانَ خيرا لعدم الْأَمْن. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: عبد الله بن عمر لأبنه عبد الله. قَوْله: (إفعل) بِالْجَزْمِ، لِأَنَّهُ جَزَاء، والجزم فِيهِ وَاجِب، وَيجوز فِيهِ الرّفْع على تَقْدِير: أَنا أفعل. قَوْله: (كَمَا فعل رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يَعْنِي فِي الْحُدَيْبِيَة حِين منعُوهُ عَن دُخُول مَكَّة وقصته مَشْهُورَة. قَوْله: (ثمَّ قدم) أَي: إِلَى مَكَّة. قَوْله: (لَهما) ، أَي: للْعُمْرَة وَالْحج، وَبِه احْتج الشَّافِعِي وَمن مَعَه فِي أَن الْقَارِن يَكْفِي لَهُ طواف وَاحِد، وَلَا حجَّة لَهُم فِيهِ، لِأَن المُرَاد من هَذَا الطّواف طواف الْقدوم.

0461 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حَدثنَا اللَّيْثُ عنْ نافِعٍ أَن ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أرادَ الحجَّ عامَ نزَلَ الْحَجَّاجُ بابنِ الزُّبَيْرِ فَقِيلَ لهُ إنَّ النَّاسَ كائِنٌ بَيْنَهُمْ قِتَالٌ وَإنَّا نَخَافُ أنْ يَصُدُّوكَ فقالَ لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله إسْوَةٌ حسَنَةٌ إِذا أصْنَعُ كمَا صنَعَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إنِّي أشْهِدُكُمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ عُمْرَةً ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى إذَا كانَ بِظَاهِرِ البَيْدَاءِ قَالَ مَا شأنُ الحَجِّ والعُمْرَةِ إلاَّ وَاحِدٌ اشْهِدُكْمْ أنِّي قَدْ أوْجَبْتُ حَجّا مَعَ عُمْرَتِي وأهْدَى هَدْيا اشْتَرَاهُ بِقُدَيْدٍ ولَمْ يَزِدْ عَلَى ذالِكَ فَلَمْ يَنْحَرْ ولَمْ يَحِلَّ مِنْ شَيءٍ حَرُمَ مِنْهُ ولَمْ يَحْلِقْ ولَمْ يُقَصِّرْ حَتَّى كانَ يَوْمَ النَّحْرِ فنحَرَ وحلَقَ ورَأى أنْ قَدْ قضَى طَوَافَ الحَجِّ والْعُمْرَةِ بِطَوَافِهِ الأوَّلِ وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا كذَلِكَ فَعَلَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله بطوافه الأول، وَهَذَا طَرِيق ثَان للْحَدِيث السَّابِق، رَوَاهُ عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن اللَّيْث بن سعد عَن نَافِع إِلَى قَوْله: (عَام نزل الْحجَّاج) ، عَام، مَنْصُوب على الظّرْف، وَالْحجاج هُوَ ابْن يُوسُف الثَّقَفِيّ، كَانَ مُتَوَلِّي العراقين

(9/282)


من جِهَة الْملك عبد الْملك بن مَرْوَان، وَأمره عبد الْملك أَن يتَوَجَّه إِلَى مَكَّة لقِتَال عبد الله بن الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، لِأَنَّهُ دعى لَهُ بالخلافة فَلم يطع عبد الْملك، فَقدم الْحجَّاج إِلَى مَكَّة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين، وَأقَام الْحصار عَلَيْهِ من أول شعْبَان مِنْهَا، وقصته مَشْهُورَة. قَوْله: (بِابْن الزبير) ، أَي: نزل الْحجَّاج ملتبسا بِهِ على وَجه الْمُقَاتلَة. قَوْله: (فَقيل لَهُ) أَي: لِابْنِ عمر، وَقد صرح فِي (صَحِيح مُسلم) أَن عبد الله وسالما ابْني عبد الله بن عمر هما القائلان بذلك، وَلَفظه: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، قَالَ: حَدثنَا يحيى، وَهُوَ الْقطَّان عَن عبيد الله إِلَى آخِره، وَقد ذَكرْنَاهُ عَن قريب فِي هَذَا الْبَاب. قَوْله: (كَائِن بَينهم قتال) ، جملَة فِي مَحل الرّفْع لِأَنَّهَا خبر إِن، وقتال مَرْفُوع بِأَنَّهُ فَاعل كَائِن، وَيجوز أَن ينْتَصب على التَّمْيِيز أَو على الِاخْتِصَاص. قَوْله: (إِذا) كلمة: إِذن، حرف جَوَاب وَجَزَاء وَشرط إعمالها أَن تتصدر، فَإِن وَقعت حَشْوًا أهملت، وَإِن كَانَ السَّابِق عَلَيْهَا واوا أَو فَاء جَازَ النصب نَحْو: وَإِذا لَا يَلْبَثُوا فَأذن لَا يؤتوا، وَالْغَالِب الرّفْع، وَإِذا كَانَ فعلهَا مُسْتَقْبلا يجب الرّفْع كَمَا هُوَ هُنَا. قَوْله: (إِنِّي أشهدكم) إِنَّمَا قَالَ هَذَا وَلم يكتف بِالنِّيَّةِ ليعمله من أَرَادَ الِاقْتِدَاء بِهِ. قَوْله: (الْبَيْدَاء) مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة قُدَّام ذِي الحليفة، وَهُوَ فِي الأَصْل الأَرْض الملساء والمفازة. قَوْله: (إلاَّ وَاحِد) ، بِالرَّفْع ويروى: وَاحِدًا، بِالنّصب على مَذْهَب يُونُس، فَإِنَّهُ جوزه مستشهدا بقوله:
(وَمَا الدَّهْر إلاَّ منجنونا بأَهْله ... وَمَا صَاحب الْحَاجَات إلاَّ معذبا)

يَعْنِي: حكمهمَا وَاحِد فِي جَوَاز التَّحَلُّل مِنْهُمَا بالإحصار. قَوْله: (وَأهْدى) فعل ماضٍ من الإهداء. قَوْله: (بِقديد) ، بِضَم الْقَاف وَفتح الدَّال الْمُهْملَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف، وَهُوَ اسْم مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة، وَهُوَ فِي الأَصْل اسْم مَاء هُنَاكَ. قَوْله: (وَلم يزدْ على ذَلِك) ، لِأَنَّهُ لم يجب عَلَيْهِ دم بارتكاب مَحْظُورَات الْإِحْرَام. قَوْله: (حَتَّى كَانَ) ، لفظ: حَتَّى، غَايَة للأفعال الْأَرْبَعَة. قَوْله: (قضى) ، مَعْنَاهُ: أدّى. قَوْله: (كَذَلِك فعل رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: طَاف طَوافا وَاحِدًا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَهَذَا دَلِيل على أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا. قلت: غَرَضه من هَذَا أَن الْقَارِن يَكْتَفِي بِطواف وَاحِد لِأَنَّهُ قَالَ: لَا يجوز أَن يُرَاد بقوله: الطّواف الأول طواف الْقدوم، بل مَعْنَاهُ أَنه لم يتَكَرَّر الطّواف لِلْقُرْآنِ، بل يكْتَفى بِطواف وَاحِد. وَالتَّحْقِيق فِي هَذَا الْمقَام أَن يُقَال لمن احْتج بِهَذَا الحَدِيث فِي اكْتِفَاء الْقَارِن بِطواف وَاحِد، وَأَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا، كَيفَ تَعْمَلُونَ بِهِ؟ وَقد روى الزُّهْرِيّ عَن سَالم أَن عبد الله بن عمر قَالَ: تمنع رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، وَأهْدى وسَاق الهذي من ذِي الحليفة، وَبَدَأَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَأهل بِالْعُمْرَةِ ثمَّ أهل بِالْحَجِّ وتمتع النَّاس مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَج، الحَدِيث بِطُولِهِ، رَوَاهُ البُخَارِيّ وَمُسلم وَأَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيّ، على مَا يَأْتِي عَن البُخَارِيّ فِي مَوْضِعه إِن شَاءَ الله تَعَالَى. قَالَ الطَّحَاوِيّ: فَهَذَا ابْن عمر يخبر عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه كَانَ فِي حجَّة الْوَدَاع مُتَمَتِّعا وَأَنه بَدَأَ بِالْعُمْرَةِ، وَقد حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن بكر بن عبد الله عَن ابْن عمر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَأَصْحَابه قدمُوا ملبين بِالْحَجِّ، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: من شَاءَ أَن يَجْعَلهَا عمْرَة إلاَّ من كَانَ مَعَه الْهَدْي فَأخْبر ابْن عمر فِي حَدِيث بكر هَذَا: أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قدم مَكَّة وَهُوَ يُلَبِّي بِالْحَجِّ، وَقد أخبر فِي حَدِيث سَالم أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بَدَأَ فَأحْرم بِالْعُمْرَةِ، فَهَذَا مَعْنَاهُ عندنَا، وَالله أعلم، أَنه كَانَ أحرم أَولا بِحجَّة على أَنَّهَا حجَّة، ثمَّ فَسخهَا فصيرها عمْرَة، فلبى بِالْعُمْرَةِ ثمَّ تمتّع بهَا إِلَى الْحَج، حَتَّى يَصح حَدِيث سَالم وَبكر، هذَيْن وَلَا يتضادان، وَفسخ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحَج الَّذِي كَانَ فعله وَأمر بِهِ أَصْحَابه هُوَ بعد طوافهم بِالْبَيْتِ فاستحال بذلك أَن يكون الطّواف الَّذِي كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فعله للْعُمْرَة الني انقلبت إِلَيْهَا حجَّته مجزيا عَنهُ من طواف حجَّته الَّتِي أحرم بهَا بعد ذَلِك، وَلَكِن وَجه ذَلِك عندنَا، وَالله تَعَالَى أعلم أَنه لم يطف لحجته قبل يَوْم النَّحْر لِأَن الطّواف الَّذِي يفعل قبل يَوْم النَّحْر فِي الْحجَّة إِنَّمَا يفعل للقدوم لَا لِأَنَّهُ من صلب الْحجَّة، فَاكْتفى ابْن عمر بِالطّوافِ الَّذِي كَانَ فعله بعد الْقدوم فِي عمرته عَن إِعَادَته فِي حجَّته، وَهَذَا مثل مَا رُوِيَ عَن ابْن عمر أَيْضا من فعله: حَدثنَا مُحَمَّد بن خُزَيْمَة، قَالَ: حَدثنَا حجاج، قَالَ: حَدثنَا حَمَّاد عَن أَيُّوب عَن نَافِع أَن ابْن عمر كَانَ إِذا قدم مَكَّة يرمل بِالْبَيْتِ، ثمَّ طَاف بَين الصَّفَا والمروة، وَإِذا لبّى من مَكَّة بهَا لم يرمل بِالْبَيْتِ، وَأخر الطّواف بَين الصَّفَا والمروة إِلَى يَوْم النَّحْر، وَكَانَ لَا يرمل يَوْم النَّحْر، فَدلَّ مَا ذكرنَا أَن ابْن عمر كَانَ إِذا أحرم بِالْحجَّةِ من مَكَّة لم يطف لَهَا إِلَى يَوْم النَّحْر، فَكَذَلِك مَا رُوِيَ عَن رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، من إِحْرَامه بِالْحجَّةِ الَّتِي أحرم بهَا بعد فسخ حجَّته

(9/283)


الأولى لم يكن طَاف لَهَا إِلَى يَوْم النَّحْر، فَلَيْسَ فِي حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من حكم طواف الْقَارِن لعمرته وحجته شَيْء، وَثَبت بِمَا ذكرنَا مَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ من أَن الْقَارِن لَا يَكْتَفِي بِطواف وَاحِد، وَالله أعلم بِالصَّوَابِ.

87 - (بابُ الطَّوَافِ عَلَى وُضُوءٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الطّواف على الْوضُوء، وَإِنَّمَا أطلق وَلم يبين أَن الْوضُوء مشرط فِي الطّواف أم لَا لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ على مَا يَأْتِي بَيَانه إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

1461 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ عِيسَى قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أخبرَنِي عَمْرُو بنُ الحَارثِ عَنْ مُحَمَّدِ بنِ عَبْدِ الرَّحمانِ بنِ نَوْفَلِ الْقُرَشِيِّ أنَّهُ سَألَ عُرْوَةَ بنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ قَدْ حَجَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأخبرَتْنِي عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّهُ أوَّلُ شَيْءٍ بَدَأ بِهِ حِينَ قَدِمَ أنَّهُ تَوَضَّأ ثُمَّ طافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةً ثُمَّ حَجَّ أبُو بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فكانَ أوَّلَ شَيْءٍ بَدَأ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمَّ عُمَرُ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ مِثْلُ ذَلِكَ ثُمَّ حَجَّ عُثْمَانُ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ فَرَأيْتُهُ أوَّلُ شَيْءٍ بَدَأ بِهِ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثمَّ مُعَاوِيةُ وعَبدُ الله بنُ عُمرَ ثُم حَججْتُ مَعَ ابنِ الزُّبَيْرِ بنِ العَوَّامِ فَكَانَ أوَّلَ شَيءٍ بَدَأ بِهِ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمَّ رَأيْتُ المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارَ يَفْعلُونَ ذَلِكَ ثُمَّ لَمْ تَكُنْ عُمْرَةٌ ثُمَّ آخِرُ مَنْ رَأيْتُ فَعَلَ ذَلِكَ ابنُ عُمَرَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُضْهَا عُمْرَةً وهاذا ابنُ عُمرَ عِنْدَهُمْ فَلاَ يَسْألُونَهُ ولاَ أحَدٌ مِمَّنْ مَضَى مَا كانُوا بِشيْءٍ حَتَّى يَضَعُوا أقْدَامَهُمْ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ ثُمَّ لاَ يَحِلُّونَ وقَدْ رَأيْتُ أمِّي وخالَتِي حِينَ تَقْدِمَانِ لَا تَبْتَدِئَانِ بِشَيءٍ أوَّلَ مِنَ البَيْتِ تَطُوفَانِ بِهِ ثُمَّ لاَ يَحِلاَّنِ. وقَدْ أخْبَرَتْنِي أُمِّي أنَّها أهَلَّتْ هِيَ وَأُخْتُهَا والزُّبَيْرُ وفُلانٌ وفُلانٌ بِعُمْرَةٍ فَلَمَّا مَسَحُوا الرُّكْنَ حَلُّوا..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إِن أول شَيْء بَدَأَ بِهِ حِين قدم مَكَّة أَنه تَوَضَّأ) ، وَقد مر الحَدِيث فِي: بَاب من طَاف بِالْبَيْتِ إِذا قدم مَكَّة، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن إصبغ عَن ابْن وهب الْمصْرِيّ إِلَى آخِره مُخْتَصرا. وَأخرجه هُنَا بأتم مِنْهُ عَن أَحْمد بن عِيسَى أبي عبد الله التسترِي، مصري الأَصْل، وَكَانَ يتجر إِلَى تستر، مَاتَ سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَمِائَتَيْنِ. يروي عَن عبد الله ابْن وهب الْمصْرِيّ.
قَوْله: (سَأَلَ عُرْوَة بن الزبير) فَقَالَ: فِيهِ حذف تَقْدِيره سَأَلَ عُرْوَة بن الزبير كَيفَ بلغه خبر حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فَقَالَ: أَي: عُرْوَة، قد حج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (حِين قدم) أَي: مَكَّة. قَوْله: (ثمَّ لم تكن عمْرَة) بِالرَّفْع وَالنّصف على تَقْدِير كَون: لم تكن، تَامَّة أَو نَاقِصَة. قَوْله: (ثمَّ عمر) أَي: ثمَّ حج عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، مثل ذَلِك أَي: مثل مَا حج أَبُو بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (فرأيته أول شَيْء) لفظ أول بِالنّصب لِأَنَّهُ بدل عَن الضَّمِير. قَوْله: (الطّواف) بِالنّصب أَيْضا لِأَنَّهُ مفعول ثَان. قَوْله: (ثمَّ مُعَاوِيَة) أَي: ثمَّ حج مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان. قَوْله: (مَعَ أبي الزبير) لَيْسَ بكنية، بل قَوْله: الزبير، بِالْجَرِّ بدل من قَوْله: (أبي) ، لِأَن عُرْوَة يَقُول: (ثمَّ حججْت مَعَ أبي) ، هُوَ الزبير بن الْعَوام. قَوْله: (ثمَّ لم ينقضها عمْرَة) أَي: ثمَّ لم ينْقض حجتها عمْرَة أَي لم يفسخها إِلَى الْعمرَة. قَوْله: (فَلَا يسألونه؟) الْهمزَة فِيهِ مقدرَة أَي: أَفلا يسْأَلُون عبد الله بن عمر. قَوْله: (وَلَا أحد) ، عطف على فَاعل لم ينقضها أَي: لم ينْقض ابْن عمر حجَّته وَلَا أحد من السّلف الماضين. قَوْله: (مَا كَانُوا يبدأون بِشَيْء حَتَّى يضعوا أَقْدَامهم من الطّواف) ، قَالَ ابْن بطال: لَا بُد من زِيَادَة لفظ: أول، بعد لفظ: أَقْدَامهم، وَقَالَ الْكرْمَانِي: الْكَلَام صَحِيح بِدُونِ زِيَادَة إِذْ مَعْنَاهُ مَا كَانَ أحد مِنْهُم يبْدَأ بِشَيْء آخر حِين يضع قدمه فِي الْمَسْجِد لأجل الطّواف، أَي: لَا يصلونَ تَحِيَّة الْمَسْجِد وَلَا يشتغلون بِغَيْر الطّواف، وَصوب بَعضهم كَلَام ابْن بطال، لِأَن جعل: من، بِمَعْنى: من أجل، قَلِيل وَأَيْضًا فقد ثَبت

(9/284)


لفظ أول فِي بعض الرِّوَايَات. قلت: وَقَوله: لِأَن جعل: من، بِمَعْنى: من أجل، قَلِيل، غير مُسلم، بل هُوَ كثير فِي الْكَلَام لِأَن أحد مَعَاني: من، للتَّعْلِيل كَمَا عرف فِي مَوْضِعه. وَقَوله: وَأَيْضًا فقد ثَبت لفظ أول فِي بعض الرِّوَايَات مُجَرّد دَعْوَى فَلَا تقبل إلاَّ بِبَيَان. وَقَوله: حَتَّى يضعوا، بِكَلِمَة: حَتَّى الَّتِي للغاية رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره حِين يضعون فَفِي الأول حذفت النُّون من: يضعون، لِأَن أَن الناصبة مقدرَة بعد كلمة: حَتَّى، وعلامة النصب فِي الْجمع سُقُوط النُّون، وَسَأَلَ الْكرْمَانِي فِي هَذَا الْموضع: بِأَن الْمَفْهُوم من هَذَا التَّرْكِيب أَن السّلف كَانُوا يبتدئون بالشَّيْء الآخر إِذْ نفي النَّفْي إِثْبَات، وَهُوَ نقيض الْمَقْصُود؟ ثمَّ أجَاب بقوله: إِن لفظ: مَا كَانُوا، تَأْكِيد للنَّفْي السَّابِق أَو هُوَ ابْتِدَاء الْكَلَام. قَوْله: (أُمِّي) ، هِيَ أَسمَاء بنت أبي بكر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، زَوْجَة الزبير، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. قَوْله: (وَأُخْتهَا) أَي: أُخْت أُمِّي، وَهِي: عَائِشَة زوج النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَلَمَّا مسحوا الرُّكْن حلوا) ، مَعْنَاهُ: طافوا وَسعوا وحلقوا حلوا، وَإِنَّمَا حذفت هَذِه المقدرات للْعلم بهَا. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: هَذَا منَاف لقَوْله: إنَّهُمَا لَا يحلان، وَمَا الْفَائِدَة فِي ذكره؟ قلت: الأول فِي الْحَج وَالثَّانِي فِي الْعمرَة وغرضه أَنهم كَانُوا إِذا أَحْرمُوا بِالْعُمْرَةِ يحلونَ بعد الطّواف ليعلم أَنهم إِذا لم يحلوا بعده لم يَكُونُوا معتمرين وَلَا فاسخين لِلْحَجِّ إِلَيْهَا، وَذَلِكَ لِأَن الطّواف فِي الْحَج للقدوم وَفِي الْعمرَة للركن، ثمَّ إعلم أَن الدَّاودِيّ قَالَ: مَا ذكر من حج عُثْمَان هُوَ من كَلَام عُرْوَة، وَمَا قبله من كَلَام عَائِشَة، وَقَالَ أَبُو عبد الْملك: مُنْتَهى حَدِيث عَائِشَة عِنْد قَوْله: ثمَّ لم تكن عمْرَة، وَمن قَوْله: ثمَّ حج إبو بكر ... إِلَى آخِره من كَلَام عُرْوَة. قلت: على قَول الدَّاودِيّ يكون الحَدِيث كُله مُتَّصِلا، وعَلى قَول أبي عبد الْملك: يكون بعضه مُنْقَطِعًا لِأَن عُرْوَة لم يدْرك أَبَا بكر وَلَا عمر، بل أدْرك عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احْتج بِهِ من يرى بِوُجُوب الطَّهَارَة للطَّواف كَالصَّلَاةِ، وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك، لِأَن قلوه: إِنَّه تَوَضَّأ لَا يدل على وجوب الطَّهَارَة قطعا لاحْتِمَال أَن يكون وضوءه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام على وَجه الِاسْتِحْبَاب. وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : الدَّلِيل على الْوُجُوب أَن الطّواف مُجمل فِي قَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَفعله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج مخرج الْبَيَان. قلت: لَا نسلم أَنه مُجمل، إِذْ مَعْنَاهُ الدوران حول الْبَيْت فَإِن قلت قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (الطّواف) بِالْبَيْتِ صَلَاة قلت التَّشْبِيه لَا عُمُوم لَهُ وَلِهَذَا لَا رُكُوع فِيهَا وَلَا سُجُود وَلَو كَانَ حَقِيقَة لَكَانَ احْتَاجَ إِلَى تَحْلِيل وَتَسْلِيم وَاحْتج بِهِ أَيْضا من يرى أَن الْأَفْرَاد بِالْحَجِّ هُوَ الْأَفْضَل وَلَا حجَّة لَهُم فِي ذَلِك لوُجُود أَحَادِيث كَثِيرَة دلّت على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ قَارنا وَقد ذكرنَا الإختلاف فِيهِ فِي هَذَا الْكتاب وَالله أعلم.