عمدة القاري شرح صحيح البخاري

(بَاب وجوب الصَّفَا والمروة وَجعل من شَعَائِر الله)
أَي هَذَا بَاب فِي بَيَان وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَإِنَّمَا قَدرنَا هَكَذَا لِأَن الْوُجُوب يتَعَلَّق بالأفعال لَا بالذوات قَالَ الْجَوْهَرِي الصَّفَا مَوضِع بِمَكَّة وَهُوَ فِي الأَصْل جمع صفاة وَهِي صَخْرَة ملساء وَيجمع على أصفاء وَصفا وصغى على وزن فعول. والصفا أَيْضا اسْم بِالْبَحْرَيْنِ والصفا بِالْمدِّ خلاف الكدر.
والمروة مروة السَّعْي الَّتِي تذكر مَعَ الصَّفَا وَهُوَ أحد رأسيه الَّذِي يتنهي السَّعْي إِلَيْهِمَا وَهُوَ فِي الأَصْل حجر أَبيض براق وَقيل هِيَ الَّتِي يقْدَح مِنْهَا النَّار قَوْله (وَجعل) على صِيغَة الْمَجْهُول أَي جعل وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة كَمَا ذكرنَا وَقَالَ صَاحب التَّلْوِيح وَجعل من شَعَائِر الله كَذَا فِي نُسْخَة السماع وَفِي أُخْرَى وَجعلا أَي الصَّفَا والمروة والشعائر جمع شعيرَة وَقيل هِيَ جمع شعارة بالكسرة كَذَا فِي الموعب وَقَالَ الْجَوْهَرِي الشعائر أَعمال الْحَج وكل مَا جعل علما لطاعة الله تَعَالَى وَقَالَ أَبُو عبيد وَاحِدَة الشعائر شعيرَة وَهُوَ مَا ؤشعر لهى ألى الْبَيْت الله تَعَالَى وَقَالَ الزّجاج هِيَ جَمِيع متعبدات الله الَّتِي أشعرها الله أَي جعلهَا أَعلَى مَا لنا وَهِي كل مَا كُنَّا من موقف أَو مسعى أَو مذبح وَإِنَّمَا قيل الشعائر لكل عمل مِمَّا تعبد بِهِ لِأَن قَوْلهم شَعرت بِهِ عَلمته فَلهَذَا سميت الأعلامالتي هِيَ متعبدات لله شَعَائِر. وَقَالَ الْحسن شَعَائِر الله دين الله تَعَالَى.

حَدثنَا أَبُو الْيَمَان قَالَ أخبرنَا شُعَيْب عَن الزُّهْرِيّ قَالَ عُرْوَة سَأَلت عَائِشَة رَضِي الله

(9/285)


عَنْهَا فَقلت لَهَا أَرَأَيْت قَول الله تَعَالَى {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله فَمن حج الْبَيْت أَو اعْتَمر فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن يطوف بهما} (الْبَقَرَة: 851) . فَوَالله مَا عَلَى أحَدٍ جُنَاحٌ أنْ لَا يَطَّوَّفَ بِالصَّفَا والمَرْوَةِ قالَتْ بِئْسَ مَا قُلْتَ يَا ابْنَ أُخْتِي إنَّ هاذِهِ لَوْ كَانَتْ كَمَا أوَّلْتَهَا علَيْهِ أنْ لَا يتَطَوَّفَ بِهِمَا ولاكِنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي الأنْصَارِ كانُوا قَبْلَ أَن يُسْلِمُوا يُهِلُّونَ لِمُنَاةِ الطَّاغِيَةِ الَّتِي كانُوا يَعْبُدُونَهَا عِنْدَ المُشَلَّلِ فَكانَ منْ أهَلَّ يتَحَرَّجُ أنْ يَطُوفَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ فلَمَّا أَسْلمُوا سألُوا رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عنْ ذالِكَ قَالُوا يَا رسُولَ الله إنَّا كُنَّا نتحَرَّجُ أنْ نَطُوفَ بَيْنَ الصَّفَا وَالمَرْوَةِ فأنْزَلَ الله تعَالى إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائرِ الله الآيَةَ قالَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا وقَدْ سَنَّ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطَّوافَ بَيْنَهُمَا فلَيْسَ لأِحَدٍ أنْ يَتْرُكَ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ أخْبَرْتُ أبَا بَكْرِ بنَ عَبْدِ الرَّحْمانِ فقالَ إنَّ هاذا لَعِلْمٌ مَا كُنْتُ سَمِعْتُهُ ولَقَد سَمِعْتُ رِجالاً منْ أهلِ العِلْمِ يَذْكُرُونَ أنَّ النَّاسَ إلاَّ مَنْ ذَكَرَتْ عَائِشَةُ مِمَّنْ كانَ يُهِلُّ بِمَنَاةَ كانُوا يَطُوفُونَ كُلُّهُمْ بِالصَّفَا والمَرْوَةِ فلَمَّا ذَكَرَ الله تعالَى الطَّوافَ بِالبَيْتِ ولَمْ يَذكُر الصَّفَا والمَرْوَةَ فِي القُرْآنِ قالُوا يَا رَسولَ الله كُنا نطَّوَّفُ بِالصَّفا والمَرْوَةِ وإنَّ الله أنْزَلَ الطَّوَافَ بِالبَيْتِ فلَمْ يَذْكُرِ الصَّفَا فهَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ أنْ نَطَّوَّفَ بالصَّفَا والمَرْوَةِ فأنْزَلَ الله تَعَالَى إِن الصَّفَا والمَرْوةَ مِنْ شَعَائِرِ الله الآيَةَ قَالَ أبُو بَكْرٍ فَأسْمَعُ هاذِهِ الآيَةَ نزَلَتْ فِي الفَريقَيْنِ كِلَيْهِما فِي الَّذِينَ كانُوا يَتَحَرَّجُونَ أنْ يَطُوفُوا بالجَاهِلِيَّةِ بِالصَّفا والمَرْوَةِ والَّذِينَ يَطُوفُونَ ثُمَّ تحَرَّجُوا أَن يَطُوفُوا بِهِما فِي الإسْلامِ مِنْ أجلِ أنَّ الله تَعَالَى أمرَ بالطَّوَافِ بالبَيْتِ ولَمْ يَذْكُرِ الصَّفا حَتَّى ذكرَ ذالِكَ بَعْدَ مَا ذَكَرَ الطَّوَافَ بالبَيْتِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَأَبُو الْيَمَان الحكم بن نَافِع، وَالزهْرِيّ هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم، وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج وَفِي التَّفْسِير.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أرأيتِ؟) أَخْبِرِينِي عَن مَفْهُوم هَذِه الْآيَة، إِذْ مفهومها عدم وجوب السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة إِذْ فِيهِ عدم الْإِثْم على التّرْك، فَقَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا: مفهومها لَيْسَ ذَلِك، بل عدم الْإِثْم على الْفِعْل، وَلَو كَانَ على التّرْك لقيل: أَن لَا يطوف، بِزِيَادَة: لَا، وَالتَّحْقِيق هُنَا أَن عُرْوَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، أوَّل الْآيَة بِأَن لَا شَيْء عَلَيْهِ فِي تَركه، لِأَن هَذَا اللَّفْظ أَكثر مَا يسْتَعْمل فِي الْمُبَاح دون الْوَاجِب، وَأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، أجابت بِأَن الْآيَة ساكتة عَن الْوُجُوب وَعَدَمه، لِأَنَّهَا لَيست بِنَصّ فِي سُقُوط الْوَاجِب، وَلَو كَانَت نصا لَكَانَ يَقُول: فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن لَا يطوف بهما، لِأَن هَذَا يتَضَمَّن سُقُوط الْإِثْم عَمَّن ترك الطّواف، وَلم يكن ذَلِك إلاَّ بِسَبَب الْأَنْصَار، وَقد يكون الْفِعْل وَاجِبا، ويعتقد المعتقد أَنه منع من إِيقَاعه على صفه، وَهَذَا كمن عَلَيْهِ صَلَاة ظهر، فَظن أَن لَا يسوغ لَهُ إيقاعها بعد الْمغرب، فَسَأَلَ فَقيل: لَا حرج عَلَيْك إِن صليت، فَيكون الْجَواب صَحِيحا، وَلَا يَقْتَضِي نفي وجوب الظّهْر عَلَيْهِ، وَقد وَقع فِي الْقِرَاءَة الشاذة، فَلَا جنَاح عَلَيْهِ أَن لَا يطوف بهما، كَمَا قَالَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، حَكَاهُ الطَّبَرِيّ وَابْن أبي دَاوُد فِي الْمَصَاحِف، وَابْن الْمُنْذر وَغَيرهم عَن أبي بن كَعْب وَابْن مَسْعُود وَابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، وَأجَاب الطَّبَرِيّ: أَنَّهَا مَحْمُولَة على الْقِرَاءَة الْمَشْهُورَة، وَكلمَة: لَا، زَائِدَة، وَكَذَا قَالَ الطَّحَاوِيّ: وَقيل: لَا حجَّة فِي الشواذ إِذا خَالَفت الْمَشْهُورَة، وَقَالَ الطَّحَاوِيّ أَيْضا: لَا حجَّة لمن قَالَ إِن السَّعْي مُسْتَحبّ بقوله: {فَمن تطوع خيرا} (الْبَقَرَة: 481) . لِأَنَّهُ رَاجع إِلَى أصل الْحَج وَالْعمْرَة لَا إِلَى خُصُوص السَّعْي لإِجْمَاع الْمُسلمين على أَن التَّطَوُّع بالسعي لغير الْحَاج والمعتمر غير مَشْرُوع، وَالله أعلم. قَوْله: (يهلونه) أَي: يحجونه. قَوْله: (لمناة) ، بِفَتْح الْمِيم

(9/286)


وَتَخْفِيف النُّون وَبعد الْألف تَاء مثناة من فَوق، وَهُوَ اسْم صنم كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة. وَقَالَ ابْن الْكَلْبِيّ: كَانَت صَخْرَة نصبها عَمْرو ابْن لحي بِجِهَة الْبَحْر فَكَانُوا يعبدونها، وَقيل: هِيَ صَخْرَة لهذيل بِقديد وَسميت مَنَاة لِأَن النسائك كَانَت تمنى بهَا أَي: تراق. وَقَالَ الْحَازِمِي: هِيَ على سَبْعَة أَمْيَال من الْمَدِينَة وإليها نسبوا زيد مَنَاة. قَوْله: (الطاغية) ، صفة لمناة إسلامية، وَهِي على زنة فاعلة من الطغيان، وَلَو رُوِيَ: لمناة الطاغية، بِالْإِضَافَة وَيكون الطاغية صفة للفرقة وهم الْكفَّار لجَاز. قَوْله: (عِنْد المشلل) ، بِضَم الْمِيم وَفتح الشين الْمُعْجَمَة، وَتَشْديد اللَّام الأولى الْمَفْتُوحَة اسْم مَوضِع قريب من قديد من جِهَة الْبَحْر، وَيُقَال: هُوَ الْجَبَل الَّذِي يهْبط مِنْهُ إِلَى قديد من نَاحيَة الْبَحْر، وَقَالَ الْبكْرِيّ: هِيَ ثنية مشرفة على قديد. وَقَالَ السفاقسي: هِيَ عِنْد الْجحْفَة، وَفِي رِوَايَة لمُسلم عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ بالمشلل من قديد، وَفِي رِوَايَة للْبُخَارِيّ فِي تَفْسِير الْبَقَرَة من طَرِيق مَالك (عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه قَالَ: قلت لعَائِشَة: وَأَنا يَوْمئِذٍ حَدِيث السن) فَذكر الحَدِيث، وَفِيه: (كَانُوا يهلون لمناة، فَكَانَت مَنَاة حَذْو قديد) أَي: مُقَابِله، وَقد مر أَن قديدا، بِضَم الْقَاف: قَرْيَة جَامِعَة بَين مَكَّة وَالْمَدينَة كَثِيرَة الْمِيَاه، قَالَه الْبكْرِيّ. قَوْله: (يتحرج) أَي: يحْتَرز من الْحَرج، وَيخَاف الْإِثْم. قَوْله: (فَلَمَّا أَسْلمُوا) أَي: الْأَنْصَار. قَوْله: (عَن ذَلِك) أَي: الطّواف بالصفا والمروة. قَوْله: (إِنَّا كُنَّا نتحرج) إِلَى آخِره، وَفِي رِوَايَة مُسلم: أَن الْأَنْصَار كَانُوا قبل أَن يسلمُوا هم وغسان يهلون لمناة، فتحرجوا أَن يطوفوا بَين الصَّفَا والمروة، وَكَانَ ذَلِك سنَّة فِي آبَائِهِم، من أحرم لمناة لم يطف بَين الصَّفَا والمروة، وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِك لِأَن الْأَنْصَار كَانُوا يهلون فِي الْجَاهِلِيَّة لصنمين على شط الْبَحْر يُقَال لَهما: أساف ونائلة، ثمَّ يجيئون فيطوفون بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ يحلقون، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام كَرهُوا أَن يطوفوا بَينهمَا للَّذي كَانُوا يصنعونه فِي الْجَاهِلِيَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى الْآيَة. وَفِي لفظ إِذا أهلوا لمناة لَا يحل لَهُم أَن يطوفوا بَين الصَّفَا والمروة، وَيُقَال: إِن الْأَنْصَار قَالُوا: إِنَّمَا أمرنَا بِالطّوافِ وَلم نؤمر بالسعي بَين الصَّفَا والمروة، فَنزلت الْآيَة وَقَالَ السّديّ: كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة تعرف الشَّيَاطِين فِي اللَّيْل بَين الصَّفَا والمروة، وَكَانَت بَينهمَا آلِهَة، فَلَمَّا ظهر الْإِسْلَام قَالَ الْمُسلمُونَ: يَا رَسُول الله لَا نطوف بَين الصَّفَا والمروة، فَإِنَّهُ شرك كُنَّا نضعه فِي الْجَاهِلِيَّة، فَنزلت الْآيَة. وَفِي (الْأَسْبَاب) لِلْوَاحِدِيِّ، قَالَ ابْن عَبَّاس: كَانَ على الصَّفَا صنم على صُورَة رجل يُقَال لَهُ: أساف، وعَلى الْمَرْوَة صُورَة امْرَأَة تدعى: نائلة، يزْعم أهل الْكتاب أَنَّهُمَا زَنَيَا فِي الْكَعْبَة مسخهما الله تَعَالَى حجرين، فوضعا على الصَّفَا ليعتبر بهما فَلَمَّا طَالَتْ الْمدَّة، عبدا، فَكَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة إِذا طافوا بَينهمَا مسحوا الوثنين، فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام وَكسرت الْأَصْنَام كره الْمُسلمُونَ الطّواف بَينهمَا لأجل الصنمين، فَنزلت هَذِه الْآيَة: وروى الطَّبَرِيّ وَابْن أبي حَاتِم فِي التَّفْسِير بِإِسْنَاد حسن من حَدِيث ابْن عَبَّاس قَالَ: قَالَت الْأَنْصَار: إِن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة من أَمر الْجَاهِلِيَّة، فَأنْزل الله تَعَالَى: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْبَقَرَة: 851) . قَوْله: (وَقد سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: شرع وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَجعل ركنا. وَقَالَ بَعضهم: أَي فَرْضه بِالسنةِ، وَلَيْسَ مُرَاد عَائِشَة نفي فريضتها وَيُؤَيِّدهُ قَوْلهَا لم يتم الله حج أحد وَلَا عمرته لم يلطف بَينهمَا قلت قَول الْكرْمَانِي جعل ركنا غير موجه لِأَن لفظ سنّ لَا يدل على معنى أَنه جعله ركنا وَإِلَّا لَا يبْقى فرق بَين السّنة والركن وَكَيف نقُول أَنه ركن وركن الشَّيْء مَا هُوَ دَاخل فِي ذَات الشَّيْء وَلم يقل أحد أَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة دَاخل فِي مَاهِيَّة الْحَج وَكَذَا قَول بَعضهم أَي فَرْضه بِالسنةِ لَيْسَ مَدْلُول اللَّفْظ. وَقَوله لَيْسَ مُرَاد عَائِشَة نفي فرضيتها فَنَقُول وَكَذَا أَلا يدل على إِثْبَات فضيتها وَقَوله يُؤَيّدهُ قَوْلهَا إِلَى آخِره لَا يُؤَيّدهُ أصلا وَلَا يدل على مدعاه لِأَن نفي إتْمَام الشَّيْء لَا يدل على نفي وجوده فعلى كل حَال لَا يثبت الْفَرْضِيَّة غَايَة مَا فِي الْبَاب يدل على أَنه سنة مُؤَكدَة وَهِي فِي قُوَّة الْوَاجِب وَنحن نقُول بِهِ وَسَيَجِيءُ بَيَان الْخلاف قَوْله (ثمَّ أجزت أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن) الْمخبر هُوَ الزُّهْرِيّ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عمر بن مَخْزُوم وَيُقَال لَهُ رَاهِب قُرَيْش لِكَثْرَة صلَاته ولد فِي خِلَافه عمر بن الْخطاب وَمَات سنة أَربع وَتِسْعين قَالَه عمر وبن عَليّ وَفِي رِوَايَته مُسلم عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ قَالَ الزُّهْرِيّ فَذكرت ذَلِك لأبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن هِشَام، فأعجبه ذَلِك، قَوْله: (إِن هَذَا الْعلم) ، بِفَتْح اللَّام الَّتِي هِيَ للتَّأْكِيد، وتنكير الْعلم، وَهِي رِوَايَة الْكشميهني وَفِي رِوَايَة الْأَكْثَرين أَن هَذَا الْعلم أَشَارَ بِهِ إِلَى كَلَام عَائِشَة. وَقَوله: (مَا كنت سمعته) وَقع خَبرا لِأَن، وَلَفظ: كنت، بِلَفْظ الْمُتَكَلّم، وَكلمَة: مَا، نَافِيَة، وعَلى رِوَايَة الْكشميهني. قَوْله: (لعلم) خبر: إِن، وَكلمَة: مَا، مَوْصُولَة. وَلَفظ: كنت، بِلَفْظ الْمُخَاطب

(9/287)


وَقَالَ الْكرْمَانِي، مَا: مَوْصُولَة مَنْصُوب على الِاخْتِصَاص، أَو مَرْفُوع بِأَنَّهُ صفة لَهُ أَو خبر بعد خبر. قَوْله: (وَلَقَد سَمِعت رجَالًا) الْقَائِل بِهَذَا هُوَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن الْمَذْكُور. قَوْله: (إلاَّ من ذكرت عَائِشَة) ، هَذَا الِاسْتِثْنَاء معترض بَين اسْم: إِن، وخبرها وَاسم: إِن، هُوَ قَوْله: (النَّاس) فِي قَوْله: إِن النَّاس، وخبرها هُوَ قَوْله: (مِمَّن كَانَ يهل بمناة) ، ولفط مُسلم: (وَلَقَد سَمِعت رجَالًا من أهل الْعلم يَقُولُونَ إِنَّمَا كَانَ من لَا يطوف بَين الصَّفَا والمروة من الْعَرَب يَقُولُونَ: إِن طوافنا بَين هذَيْن الحجرين من أَمر الْجَاهِلِيَّة) . وَقَالَ آخَرُونَ من الإنصار: إِنَّمَا أمرنَا بِالطّوافِ بِالْبَيْتِ وَلم نؤمر بِهِ بَين الصَّفَا والمروة، فَأنْزل الله عز وَجل: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْبَقَرَة: 851) . قَالَ أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن، فأراها قد أنزلت فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء. فَإِن قلت: مَا وَجه هَذَا الِاسْتِثْنَاء؟ قلت: وَجهه أَنه أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الرِّجَال من أهل الْعلم الَّذين أخبروا أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن أطْلقُوا وَلم يخصوا بطَائفَة، وَأَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، خصت الْأَنْصَار بذلك، كَمَا رَوَاهُ الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَنْهَا، وَهُوَ فِي صدر الحَدِيث، وَهُوَ قَوْلهَا: وَلكنهَا نزلت فِي الْأَنْصَار. قَوْله: (أَن يطوف بالصفا) ، بتَشْديد الطَّاء، وَأَصله: أَن يتطوف، فأبدلت التَّاء طاء لقرب مخرجهما، ثمَّ أدغمت الطَّاء فِي الطَّاء. قَوْله: (فاسمع هَذِه الْآيَة) وَهِي قَوْله: (إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله) وَقَوله: (فَأَسْمع) ، بِفَتْح الْهمزَة وَضم الْعين على صِيغَة الْمُتَكَلّم من الْمُضَارع، وَهَكَذَا هُوَ فِي أَكثر الرِّوَايَات، وَضَبطه الدمياطي فِي نسخته بدرج الْهمزَة وَسُكُون الْعين على صِيغَة الْأَمر، فرواية مُسلم: فأراها نزلت فِي هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء، كَمَا ذَكرْنَاهُ الْآن تدل على أَن رِوَايَة الْعَامَّة أصوب. قَوْله: (فِي الْفَرِيقَيْنِ) ، وهما من الْأَنْصَار وَقوم من الْعَرَب كَمَا صرح بِهِ مُسلم على مَا ذَكرْنَاهُ. قَوْله: (كليهمَا) ، يَعْنِي: كلا الْفَرِيقَيْنِ، ويروى: كِلَاهُمَا، قَالَ الْكرْمَانِي: هُوَ على مَذْهَب من يَجْعَل الْمثنى فِي الْأَحْوَال كلهَا بِالْألف، ثمَّ قَالَ: والفريق الأول: هم الْأَنْصَار الَّذين يتحرجون احْتِرَازًا من الصنمين، وَالثَّانِي: هم غَيرهم الَّذين يتحرجون بَعْدَمَا كَانُوا يطوفون لعدم ذكر الله لَهُ. قَوْله: (حَتَّى ذكر ذَلِك) ، أَي: الطّواف بَينهمَا بعد ذكر الطّواف بِالْبَيْتِ، وَذكر الطّواف بِالْبَيْتِ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَذكر الطّواف بَين الصَّفَا والمروة هُوَ قَوْله: {إِن الصَّفَا والمروة من شَعَائِر الله} (الْحَج: 92) . بعد قَوْله: {وليطوفوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيق} (الْحَج: 92) . وَوَقع فِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي وَغَيره، حَتَّى ذكر بعد ذَلِك مَا ذكر الطّواف بِالْبَيْتِ، قَالَ بَعضهم: وَفِي تَوْجِيهه عسر قلت: لَا عسر فِيهِ، فَهَذَا لكرماني وَجهه فَقَالَ: لفظ مَا ذكره يدل عَن ذَلِك، أَو أَن: مَا، مَصْدَرِيَّة وَالْكَاف مُقَدّر كَمَا فِي: زيد أَسد، أَي: ذكر السَّعْي بعد ذكر الطّواف كذكر الطّواف وَاضحا جليا ومشروعا مَأْمُورا بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: احتجت بِهِ الْحَنَفِيَّة على أَن السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة وَاجِب، لِأَن قَول عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا، وَقد سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الطّواف بَينهمَا، فَلَيْسَ لأحد أَن يتْرك الطّواف بَينهمَا، يدل على الْوُجُوب، وَرفع الْجنَاح فِي الْآيَة والتخيير يَنْفِي الْفَرْضِيَّة، لَا سِيمَا من مَذْهَب عَائِشَة، فِيمَا حَكَاهُ الْخطابِيّ أَن السَّعْي بَينهمَا تطوع، وَمَا ذهب إِلَيْهِ الْحَنَفِيَّة هُوَ مَذْهَب الْحسن وَقَتَادَة وَالثَّوْري، حَتَّى يجب بِتَرْكِهِ دم، وَعَن عَطاء: سنة لَا شَيْء فِيهِ، وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأَبُو ثَوْر وَدَاوُد: هُوَ فرض لَا يَصح الْحَج إلاَّ بِهِ، وَمن بَقِي عَلَيْهِ شَيْء مِنْهُ يرجع إِلَيْهِ من بَلَده، فَإِن كَانَ وطىء النِّسَاء قبل أَن يرجع كَانَ عَلَيْهِ إتْمَام حجه أَو عمرته، ويحج من قَابل، وَيهْدِي. . كَذَا حَكَاهُ ابْن بطال عَنْهُم، وَنقل الْمروزِي عَن أَحْمد: أَنه مُسْتَحبّ، وَاخْتَارَ القَاضِي وُجُوبه وانجباره بِالدَّمِ، وَقَالَ ابْن قدامَة: وَهُوَ أقرب إِلَى الْحق، وَعَن طَاوُوس: من ترك مِنْهُ أَرْبَعَة أَشْوَاط لزمَه دم، وَإِن ترك دونهَا لزمَه لكل شوط نصف صَاع، وَلَيْسَ هُوَ بِرُكْن. وَذكر ابْن الْقصار عَن القَاضِي إِسْمَاعِيل أَنه ذكر عَن مَالك فِيمَن تَركه حَتَّى تبَاعد، وَأصَاب النِّسَاء أَنه يجْزِيه وَيهْدِي، وَقَالَ شَيخنَا زين الدّين، رَحمَه الله تَعَالَى فِي (شَرحه لِلتِّرْمِذِي) : اخْتلفُوا فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة للْحَاج على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهمَا: أَنه ركن لَا يَصح الْحَج إلاَّ بِهِ. وَهُوَ قَول ابْن عمر وَعَائِشَة وَجَابِر، وَبِه قَالَ الشَّافِعِي وَمَالك فِي الْمَشْهُور عَنهُ، وَأحمد فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ عَنهُ وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (اسْعوا فَإِن الله كتب عَلَيْكُم السَّعْي) رَوَاهُ أَحْمد وَالدَّارَقُطْنِيّ وَالْبَيْهَقِيّ من رِوَايَة صَفِيَّة بنت شيبَة عَن حَبِيبَة بنت أبي تجرأة بِإِسْنَاد حسن، وَقَالَ عبد الْعَظِيم: إِنَّه حَدِيث حسن قلت: قَالَ ابْن حزم فِي (الْمحلى) : إِن حَبِيبَة بنت أبي تجرأة مَجْهُولَة، وَقَالَ شَيخنَا: هُوَ مَرْدُود لِأَنَّهَا صحابية، وَكَذَلِكَ صَفِيَّة بنت شيبَة صحابية، وَالْقَوْل الثَّانِي: إِنَّه وَاجِب يجْبر بِدَم، وَقَالَ الثَّوْريّ وَأَبُو حنيفَة وَمَالك فِي (الْعُتْبِيَّة) كَمَا حَكَاهُ ابْن الْعَرَبِيّ. وَالْقَوْل الثَّالِث: إِنَّه لَيْسَ بِرُكْن وَلَا وَاجِب، بل هُوَ سنة ومستحب، وَهُوَ قَول ابْن عَبَّاس وَابْن سِيرِين وَعَطَاء وَمُجاهد وَأحمد فِي رِوَايَة، وَمن

(9/288)


طَاف فقد حل. وَقَالَ شَيخنَا: قد يسْتَدلّ بِرَفْع قَوْله: (خُذُوا عني مَنَاسِككُم) على اشْتِرَاط الْمُوَالَاة بَين الطّواف وَالسَّعْي بِحَيْثُ يضر الْفَصْل الطَّوِيل، وَهُوَ أحد قَوْلَيْنِ فِيمَا حَكَاهُ الْمُتَوَلِي. وَقَالَ الرَّافِعِيّ: وَالظَّاهِر أَنه لَا يقْدَح، قَالَه الْقفال وَغَيره.

08 - (بابُ مَا جاءَ فِي السَّعْيِ بَينَ الصَّفا والمَرْوَةِ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَا جَاءَ فِي السَّعْي، أَي: من كيفيته بَين الصَّفَا والمروة.
وَقَالَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا السَّعْيُ مِنْ دَار بَنِي عَبَّادٍ إلَى زُقاقِ بَنِي أبي حُسَيْنٍ

مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِنَّه جَاءَ فِي السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة أَنه من دَار بني عباد إِلَى زقاق بني أبي حُسَيْن، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله ابْن أبي شيبَة عَن أبي خَالِد الْأَحْمَر عَن عُثْمَان بن الْأسود عَن مُجَاهِد وَعَطَاء: قَالَ: رأيتهما يسعيان من خوخة بني عباد إِلَى زقاق بني أبي حُسَيْن، وعزوا ذَلِك إِلَى ابْن عمر، وَذكره الفاكهي بأوضح مِنْهُ من طَرِيق ابْن جريج: أَخْبرنِي نَافِع قَالَ: نزل ابْن عمر من الصَّفَا حَتَّى إِذا حَاذَى بَاب بني عباد إِلَى زقاق ابْن أبي حشين، قَالَ سُفْيَان: هُوَ بَين هذَيْن العلمين. قَوْله: (بني عباد) ، بِفَتْح الْعين وَتَشْديد الْبَاء الْمُوَحدَة، وزقاق، بِضَم الزَّاي وبالقافين، وَقَالَ الْجَوْهَرِي: الزقاق السِّكَّة يذكر وَيُؤَنث، قَالَ الْأَخْفَش: أهل الْحجاز يؤنثون الطَّرِيق والصراط والسبيل والسوق والزقاق، وَبَنُو تَمِيم يذكرُونَ هَذَا كُله، وَالْجمع: الزقاق والزقان والأزقة، مثل: حوار وحوران وأحورة.

4461 - حدَّثنا محَمَّدُ بنُ عُبَيْدِ بنِ مَيْمُونٍ قَالَ حدَّثنا عِيسَى بنُ يُونُسَ عَنْ عُبَيْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ نافعٍ عنِ ابنِ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إذَا طافَ الطَّوَافَ الأولَ خَبَّ ثَلاثا ومشَى أرْبَعا وَكَانَ يَسْعَى بَطْنَ المَسِيلِ إذَا طافَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ فقُلْتُ لِنافِعٍ إكانَ عَبْدُ الله يَمْشي إذَا بلَغَ الرّكْنَ الْيَمَانِيَ قَالَ لَا إلاَّ أنْ يُزَاحَمَ عَلَى الرُّكْنِ فإنَّهُ كانَ لاَ يَدَعُهُ حَتَّى يَسْتَلِمَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَكَانَ يسْعَى بطن المسيل) ، والْحَدِيث مضى فِي بَاب: من طَاف بِالْبَيْتِ إِذا قدم مَكَّة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن أنس بن عِيَاض عَن عبيد الله. . إِلَى آخِره، وَهنا أخرجه بأتم من ذَلِك عَن مُحَمَّد بن عبيد بن مَيْمُون، وَفِي رِوَايَة أبي ذَر مُحَمَّد بن عبيد بن حَاتِم، وَكَذَا قَالَ الجياني نَاقِلا عَن نُسْخَة أبي مُحَمَّد بِخَطِّهِ: حَدثنَا مُحَمَّد بن عبيد بن حَاتِم حَدثنَا عِيسَى بن يُونُس، قيل: الصَّوَاب هُوَ الأول، وَبِه جزم أَبُو نعيم، وَعِيسَى هُوَ ابْن يُونُس بن أبي إِسْحَاق السبيعِي الْكُوفِي، مَاتَ بالحرف أول سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَمِائَة، وَعبد الله بن عمر الْعمريّ.
قَوْله: (كَانَ إِذا طَاف الطّواف الأول) أَي: طواف الْقدوم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: الطّواف الأول سَوَاء كَانَ للقدوم أَو للركن. قَوْله: (خب) أَي: رمل فِي الأشواط الثَّلَاث. قَوْله: (وَمَشى) أَي: لَا يرمل. قَوْله: (وَكَانَ يسْعَى بطن المسيل) أَي: الْمَكَان الَّذِي يجْتَمع فِيهِ السَّيْل، و: بطن، مَنْصُوب على الظّرْف. قَوْله: (فَقلت لنافع) إِلَى هُنَا مَرْفُوع عَن ابْن عمر، وَمن قَوْله: (فَقلت) إِلَى آخِره مَوْقُوف، وَالْقَائِل لنافع هُوَ عبيد الله الْمَذْكُور فِيهِ. قَوْله: (أَكَانَ؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (لَا يَدعه) أَي: لَا يتْركهُ، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.

5461 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَمْرِو بنِ دِينارٍ قَالَ سَألْنَا عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنْ رجُلٍ طَاف بالبَيْتِ فِي عُمْرةٍ ولَمْ يَطُفْ بينَ الصَّفا والمَرْوةِ أيأتِي امْرَأتَهُ فَقَالَ قدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فطَافَ بالبيْتِ سَبعا وصَلَّى خَلفَ المَقامِ رَكْعَتينِ فطافَ بينَ الصَّفا والمَروَةِ سَبْعا لَقَدْ كانَ لكُمْ فِي رسولِ الله أُسْوةٌ حسنةٌ. وسألْنَا جابِرَ بنَ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُما فَقَالَ لَا يَقْرَبَنَّها حَتَّى يَطُوفَ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوةِ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَطَافَ بَين الصَّفَا والمروة سبعا) ، والْحَدِيث مضى أَيْضا فِي: بَاب صلى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ

(9/289)


وَسلم، لسبوعه رَكْعَتَيْنِ، فَإِنَّهُ رَوَاهُ هُنَاكَ عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن سُفْيَان عَن عَمْرو بن دِينَار إِلَى آخِره، وَعلي بن عبد الله هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان هُوَ ابْن عُيَيْنَة.
قَوْله: (أَيَأتِي؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (قدم النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) أَي: قدم مَكَّة، وَهَذَا جَوَاب لسؤال عَمْرو بن دِينَار، وَمن مَعَه، قَالَ الْكرْمَانِي: فَإِن قلت: مَا وَجه مُطَابقَة الْجَواب السُّؤَال؟ قلت: مَعْنَاهُ لَا يحل لَهُ، لِأَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاجِب الْمُتَابَعَة، وَهُوَ لم يتَحَلَّل من عمرته حَتَّى سعى. انْتهى. قلت: لَا يحْتَاج إِلَى هَذَا التَّقْدِير، لِأَن هَذَا جَوَاب مُطَابق للسؤال مَعَ زِيَادَة، أما الْجَواب فَهُوَ قَوْله: (فَطَافَ بَين الصَّفَا والمروة سبعا) ، وَأما الزِّيَادَة فَهُوَ قَوْله: (فَطَافَ بِالْبَيْتِ سبعا) ، وَصلى خلف الْمقَام رَكْعَتَيْنِ، وَفَائِدَة الزِّيَادَة هِيَ أَن السُّؤَال عَن الْمُعْتَمِر إِذا لم يسع، وَالْجَوَاب أَن الْعمرَة هِيَ الطّواف بِالْبَيْتِ، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة، فَلَا يجوز لَهُ قرْبَان امْرَأَته حَتَّى يَأْتِي بِالطّوافِ وَالسَّعْي. قَوْله: (لقد كَانَ لكم) إِلَى آخِره، من تَتِمَّة الْجَواب.

7461 - حدَّثنا المَكِّيُّ بنُ إبْرَاهِيمَ عنِ ابنِ جُريْجٍ قَالَ أخبرَنِي عَمْرُو بنُ دِينارٍ قَالَ سَمِعْتُ ابنَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ قَدِمَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مَكَّةَ فَطافَ بالبَيْتِ ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ سَعَى بَيْنَ الصَّفا والمرْوَةِ ثُمَّ تَلاَ {لَقدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله إسْوةٌ حسَنَةٌ} (الْأَحْزَاب: 32) ..
هَذَا طَرِيق آخر للْحَدِيث الْمَذْكُور، رَوَاهُ عَن الْمَكِّيّ بن إِبْرَاهِيم بن بشير بن فرقد الْبَلْخِي أَبُو السكن، وَلَفظ الْمَكِّيّ اسْمه على صُورَة النِّسْبَة، وَلَيْسَ بمنسوب إِلَى مَكَّة، وَهُوَ يرْوى عَن عبد الْملك بن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَمضى هَذَا الحَدِيث أَيْضا فِي: بَاب من صلى رَكْعَتي الطّواف خلف الْمقَام، رَوَاهُ عَن آدمٍ عَن شُعْبَة عَن عَمْرو بن دِينَار، وَهَذِه الْأَحَادِيث الثَّلَاثَة عَن ابْن عمر دلّت على أَن الْعمرَة عبارَة عَن الطّواف بِالْبَيْتِ سبعا، وَالصَّلَاة بِرَكْعَتَيْنِ خلف الْمقَام، وَالسَّعْي بَين الصَّفَا والمروة. .
وَفِي (التَّوْضِيح) : وَاجِبَات السَّعْي عندنَا أَرْبَعَة: قطع جَمِيع الْمسَافَة بَين الصَّفَا والمروة، فَلَو بَقِي مِنْهَا بعض خطْوَة لم يَصح سَعْيه، وَلَو كَانَ رَاكِبًا اشْترط أَن يسير دَابَّته حَتَّى تضع حافرها على الْجَبَل، وَإِن صعد على الصَّفَا والمروة فَهُوَ أكمل، وَكَذَا فعله سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالصَّحَابَة بعده، وَلَيْسَ هَذَا الصعُود فرضا وَلَا وَاجِبا، بل هُوَ سنة مُؤَكدَة، وَبَعض الدرج مستحدث، فالحذر من أَن يخلفها وَرَاءه فَلَا يَصح سَعْيه حِينَئِذٍ، وَيَنْبَغِي أَن يصعد على الدرج حَتَّى يستيقن، وَلنَا وَجه شَاذ، أَنه يجب الصعُود على الصَّفَا والمروة قدرا يَسِيرا، وَلَا يَصح سَعْيه إلاَّ بذلك ليستيقن قطع جَمِيع الْمسَافَة، كَمَا يلْزم غسل جُزْء من الرَّأْس بعد غسل الْوَجْه ليستيقن. ثَانِيهَا: التَّرْتِيب، فَلَو بَدَأَ بالمروة لم يجزه لِأَنَّهُ، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، قَالَ: (ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) وَقَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : قَالَ فِي (الْمُحِيط) من كتب الْحَنَفِيَّة: لَو بَدَأَ بالمروة وَختم بالصفا أعَاد شوطا وَلَا يجْزِيه ذَلِك، والبداءة بالصفا شَرط، وَلَا أصل لما ذكره الْكرْمَانِي من أَن التَّرْتِيب فِي السَّعْي لَيْسَ بِشَرْط حَتَّى لَو بَدَأَ بالمروة وأتى الصَّفَا جَازَ، وَهُوَ مَكْرُوه لترك السّنة، فَيُسْتَحَب إِعَادَة ذَلِك الشوط قلت: الْكرْمَانِي لَهُ كتاب فِي الْمَنَاسِك ذكر هَذَا فِيهِ، وَكَيف يَقُول صَاحب (التَّوْضِيح) : لَا أصل لما ذكره الْكرْمَانِي بل لَا أصل لما ذكره لِأَنَّهُ يحْتَج بقوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) ، فَكيف يسْتَدلّ بِخَبَر الْوَاحِد على إِثْبَات الْفَرْضِيَّة، والْحَدِيث إِنَّمَا يدل على أَنه سنة، وَقد عمل الْكرْمَانِي بِهِ حَيْثُ قَالَ: وَلَو بَدَأَ بالمروة يكون مَكْرُوها لتَركه السّنة، حَتَّى يسْتَحبّ إِعَادَته، وَهَذَا هُوَ الأَصْل فِي الِاسْتِدْلَال بِخَبَر الْوَاحِد، وَكَذَا الْجَواب عَمَّا قيل، وَحكى عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يجب التَّرْتِيب، وَيجوز الْبدَاءَة بالمروة، والْحَدِيث حجَّة عَلَيْهِ، وَأَرَادَ بِالْحَدِيثِ هُوَ قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (ابدأوا بِمَا بَدَأَ الله بِهِ) ، رَوَاهُ جَابر وَأخرجه النَّسَائِيّ. الثَّالِث: يحْسب من الصَّفَا إِلَى الْمَرْوَة مرّة، وَمن الْمَرْوَة إِلَى الصَّفَا مرّة حَتَّى يتم سبعا هَذَا هُوَ الصَّحِيح. الرَّابِع: يشْتَرط أَن يكون السَّعْي بعد طواف صَحِيح، سَوَاء كَانَ بعد طواف قدوم أَو إفَاضَة، وَلَا يتَصَوَّر وُقُوعه بعد طواف الْوَدَاع، فَلَو سعى وَطَاف أَعَادَهُ، وَعند غَيرنَا أَعَادَهُ إِن كَانَ بِمَكَّة، فَإِن رَجَعَ إِلَى أَهله بعث بِدَم، وشذ إِمَام الْحَرَمَيْنِ فَقَالَ: قَالَ بعض أَئِمَّتنَا: لَو قدم السَّعْي على الطّواف اعْتد بالسعي، وَهَذَا غلط. وَنقل الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره الْإِجْمَاع فِي اشْتِرَاط ذَلِك، وَقَالَ عَطاء: يجوز السَّعْي من غير تقدم طواف وَهُوَ غَرِيب. وَفِي (التَّوْضِيح) : أَيْضا الْمُوَالَاة

(9/290)


بَين مَرَّات السَّعْي سنة، فَلَو تخَلّل بِيَسِير أَو طَوِيل بَينهُنَّ لم يضر، وَكَذَا بَينه وَبَين الطّواف، وَيسْتَحب السَّعْي على طَهَارَة من الْحَدث وَالنَّجس ساترا عَوْرَته، وَالْمَرْأَة تمشي وَلَا تسْعَى لِأَنَّهُ أستر لَهَا. وَقيل: إِن سعت فِي الْخلْوَة بِاللَّيْلِ سعت كَالرّجلِ، وَمَوْضِع الْمَشْي والعدو مَعْرُوف، والعدو يكون قبل وُصُوله إِلَى الْميل الْأَخْضَر، وَهُوَ العمود الْمَبْنِيّ فِي ركن الْمَسْجِد بِقدر سِتَّة أَذْرع إِلَى أَن يتوسط بَين العمودين المعروفين، وَمَا عدا ذَلِك فَهُوَ مَحل الْمَشْي فَلَو هرول فِي الْكل لَا شَيْء عَلَيْهِ، وَكَذَا لَو مَشى على هينة، وَعَن سعيد بن جُبَير قَالَ: رَأَيْت ابْن عمر يمشي بَين الصَّفَا والمروة، ثمَّ قَالَ: إِن مشيت فقد رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يمشي، وَإِن سعيت فقد رَأَيْته يسْعَى، وَأَنا شيخ كَبِير، أخرجه أَبُو دَاوُد. وَفِي رِوَايَة كَانَ يَقُول لأَصْحَابه: أرملوا فَلَو اسْتَطَعْت الرمل لرملت، وَعنهُ قَالَ: رَأَيْت عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يمشي أخرجهَا سعيد بن مَنْصُور، وَقَالَ ابْن التِّين: يكره للرجل أَن يقْعد على الصَّفَا إلاَّ لعذر، وَضعف ابْن الْقَاسِم فِي رِوَايَته عَن مَالك رفع يَدَيْهِ على الصَّفَا والمروة، وَقَالَ ابْن حبيب: يرفع، وَإِذا قُلْنَا يرفع، فَقَالَ ابْن حبيب: يرفعهما حَذْو مَنْكِبَيْه وبطونهما إِلَى الأَرْض، ثمَّ يكبر ويهلل وَيَدْعُو. وَقَالَ غَيره من الْمُتَأَخِّرين: الدُّعَاء والتضرع إِنَّمَا يكون وبطونهما إِلَى السَّمَاء، وَلَو ترك السَّعْي بِبَطن المسيل فَفِي وجوب الدَّم قَولَانِ عَن مَالك.

8461 - حدَّثنا أحْمَدُ بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ أخبرنَا عَبْدُ الله قَالَ أخبرنَا عاصِمٌ قَالَ قُلْتُ لأِنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ أكُنْتُمْ تَكْرَهُونَ السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ قَالَ نعم لأِنَّهَا كانَتْ مِنْ شَعَائِرِ الجَاهِلِيَّةِ حَتَّى أنْزَلَ الله إنَّ الصَّفا والمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البَيْتَ أوِ اعْتَمَرَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أنْ يَطُوفَ بِهِمَا.
(الحَدِيث 8461 طرفه فِي: 6944) .
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الْآيَة الْمَذْكُورَة فِيهَا إِثْبَات السَّعْي بَين الصَّفَا والمروة.
ذكر رِجَاله: وهم أَرْبَعَة: الأول: أَحْمد بن مُحَمَّد، قَالَ الدَّارَقُطْنِيّ: هُوَ أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت شبويه. قلت: أَحْمد بن مُحَمَّد بن ثَابت بن عُثْمَان بن مَسْعُود بن يزِيد أَبُو الْحسن الْخُزَاعِيّ الْمروزِي الْمَعْرُوف بِابْن شبويه، مَاتَ بطرسوس سنة ثَلَاثِينَ وَمِائَتَيْنِ، قَالَه الْحَافِظ الدمياطي. الثَّانِي: عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: عَاصِم بن سُلَيْمَان الْأَحول أَبُو عبد الرَّحْمَن. الرَّابِع: أنس بن مَالك.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي مَوضِع والإخبار كَذَلِك فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وَشَيْخه مروزيان وَأَن عَاصِمًا بَصرِي.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي التَّفْسِير عَن مُحَمَّد بن يُوسُف عَن الثَّوْريّ. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن أبي بكر بن أبي شيبَة عَن أبي مُعَاوِيَة. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِي التَّفْسِير عَن عبد بن حميد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أَكُنْتُم؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام على سَبِيل الاستخبار. قَوْله: (قَالَ: نعم) ويروى: (فَقَالَ: نعم) ، بِزِيَادَة فَاء الْعَطف أَي: نعم كُنَّا نكره، وَعلل الْكَرَاهَة بقوله: (لِأَنَّهَا كَانَت من شَعَائِر الْجَاهِلِيَّة) وَإِنَّمَا أنث الضَّمِير بِاعْتِبَار جمع السَّعْي وَهِي سبع مَرَّات، وَالْمرَاد من الشعائر العلامات الَّتِي كَانُوا يتعبدون بهَا، وَقد مر الْكَلَام فِي الشعائر عَن قريب قيل: إِنَّمَا خص السَّعْي وَالطّواف أَيْضا من شعائرهم. قلت: لَا نسلم ذَلِك بِخِلَاف السَّعْي وَكَانَ لَهُم الصنمان اللَّذَان ذَكَرْنَاهُمْ يتمسحون بهما ويعبدونهما فِي تِلْكَ الْبقْعَة.

9461 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عَنْ عَمْرٍ وعنْ عَطَاءٍ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ إنَّما سَعَى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالبَيْتِ وبَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ لِيُرِيَ المشْرِكينَ قُوَّتَهُ.
(الحَدِيث 9461 طرفه فِي: 7524) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَرِجَاله قد مروا غير مرّة، وَعلي بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ، وسُفْيَان بن عُيَيْنَة وَعَمْرو بن دِينَار، وَفِي بعض النّسخ عَن عَمْرو. وَهُوَ ابْن دِينَار، وَعَطَاء هُوَ ابْن أبي رَبَاح، وَقد تقدم الْكَلَام فِيهِ فِي: بَاب كَيفَ كَانَ بَدْء الرمل.

(9/291)


زَادَ الْحمَيْدِيُّ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حَدثنَا عَمْرٌ وَقَالَ سَمِعْتُ عَطاءً عنِ ابنِ عَبَّاسٍ مِثْلهُ

وَقَول ابْن عَبَّاس: (ليري الْمُشْركين قوته) ، فِيهِ حصر السَّبَب فِيمَا ذكره على مَا هُوَ الْمَشْهُور فِي: إِنَّمَا، من إِفَادَة الْحصْر، وَقد جَاءَ عَن ابْن عَبَّاس سَبَب آخر وَهُوَ سعي أَبينَا إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَيجوز أَن يكون هُوَ الْمُقْتَضِي لمشروعية الْإِسْرَاع على مَا رَوَاهُ أَحْمد فِي (مُسْنده) من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَوْله: (قَالَ: إِن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، لما أَمر بالمناسك عرض لَهُ الشَّيْطَان عِنْد السَّعْي، فسبقه فسابقه إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) . وَقد ورد أَيْضا سَبَب آخر، وَهُوَ: سعي هَاجر عَلَيْهَا السَّلَام، على مَا صرح بِهِ البُخَارِيّ (عَن ابْن عَبَّاس، قَالَ: جَاءَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام) الحَدِيث، وَفِيه: (فَهَبَطت من الصَّفَا حَتَّى إِذا بلغت الْوَادي رفعت طرف درعها وسعت سعي إِنْسَان مجهود حَتَّى جَاوَزت الْوَادي) الحَدِيث، وَفِيه: (فَفعلت ذَلِك سبع مَرَّات. قَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: فَلذَلِك سعى النَّاس بَينهمَا) . فَإِن كَانَ المُرَاد بقوله: فَلذَلِك سعى النَّاس بَينهمَا: الْإِسْرَاع فِي الْمَشْي فَهَذِهِ الْعلَّة من نَص الشَّارِع، فهى أولى مَا يُعلل بِهِ السَّعْي، وَإِن أَرَادَ بالسعي مُطلق الذّهاب فَلَا، وَيدل عَلَيْهِ رِوَايَة الْأَزْرَقِيّ، فَلذَلِك طَاف النَّاس بَين الصَّفَا والمروة، وَالله أعلم.
قَوْله: (الْحميدِي) ، بِضَم الْحَاء نِسْبَة إِلَى: حميد أحد أجداد عبد الله بن الزبير بن عبد الله الْقرشِي الْمَكِّيّ شيخ البُخَارِيّ، وَمن أَفْرَاده، وَمعنى هَذِه الزِّيَادَة أَن الْحميدِي صرح بِالتَّحْدِيثِ فِي رِوَايَته عَن عَمْرو بن دِينَار، وَصرح عَمْرو بِالسَّمَاعِ من عَطاء بن أبي رَبَاح، وَمن طَرِيقه أخرجه أَبُو نعيم فِي (الْمُسْتَخْرج) . وَقَالَ الْكرْمَانِي: زَاد لفظ: حَدثنَا وَسمعت، بدل المعنعن، وَفَائِدَته الْخُرُوج عَن الْخلاف فِي الْقبُول، سِيمَا وسُفْيَان من المدلسين. قَوْله: (مثله) ، أَي: مثل مَا رُوِيَ عَن ابْن عَبَّاس فِي الحَدِيث السَّابِق.

18 - (بابٌ تَقْضي الحَائِضُ المَناسِكَ كُلَّها إلاَّ الطَّوافَ بالبَيْتِ)

أَي: هَذَا بَاب يذكر فِيهِ: تقضي الْحَائِض ... إِلَى رخره، وَأَرَادَ بالمناسك أَفعَال الْحَج ووصرح بالحكم فِي هَذَا وَهُوَ أَن الْحَائِض تقضي الْمَنَاسِك كلهَا إِلَّا الطّواف بِالْبَيْتِ للْمَنْع الْوَارِد فِيهِ على مَا يَأْتِي فِي حَدِيث الْبَاب، وَإِنَّمَا صرح بِهِ لعدم الْخلاف فِيهِ.
وإذَا سعَى عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ

هَذَا أَيْضا من التَّرْجَمَة أَي: وَإِذا سعى الْحَاج أَو الْمُعْتَمِر بَين الصَّفَا والمروة وَهُوَ على غير وضوء، وَإِنَّمَا لم يذكر الحكم فِيهِ لأجل الْخلاف فِيهِ، فَإِن الْحسن الْبَصْرِيّ اشْترط الطَّهَارَة للسعي، وَقَالَ ابْن الْمُنْذر: لم يذكر عَن أحد من السّلف اشْتِرَاط الطَّهَارَة للسعي إلاَّ عَن الْحسن الْبَصْرِيّ، وَرُوِيَ ذَلِك أَيْضا عَن الْحَنَابِلَة فِي رِوَايَة.

0561 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ بنِ الْقَاسِمِ عنْ أبيهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّها قالَتْ قَدِمْتُ مَكَّةَ وَأَنا حَائِضٌ ولَمْ أطُفْ بِالبَيْتِ وَلَا بَيْنَ الصَّفا والمَرْوَةِ قالَتْ فشَكَوْتُ ذالِكَ إِلَى رسُولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ إفْعَلِي كَمَا يَفْعَلُ الحَاجُّ غيرَ أنْ لَا تَطُوفي بالبيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (إفعلي كَمَا يفعل الْحَاج) إِلَى آخِره، وَقد مضى هَذَا الحَدِيث فِي: بَاب تقضي الْحَائِض الْمَنَاسِك كلهَا إلاَّ الطّواف بِالْبَيْتِ، فِي كتاب الْحيض عَن أبي نعيم عَن عبد الْعَزِيز بن أبي سَلمَة عَن عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم عَن الْقَاسِم عَن عَائِشَة، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب كَيفَ كَانَ بَدْء الْحيض فِي أول كتاب الْحيض، بأتم مِنْهُ، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عَليّ بن عبد الله الْمَدِينِيّ عَن سُفْيَان، قَالَ: سَمِعت عبد الرَّحْمَن بن الْقَاسِم سَمِعت الْقَاسِم، يَقُول: سَمِعت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تَقول: خرجنَا لَا نرى إِلَّا الْحَج ... الحَدِيث. قَوْله: (حَتَّى تطهري) ، بِفَتْح التَّاء والطاء الْمُهْملَة الْمُشَدّدَة وَتَشْديد الْهَاء أَيْضا. وَأَصله: تتطهري، فحذفت إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَمَعْنَاهُ: حَتَّى تغتسلي وتطهري بِالْغسْلِ، وَيُؤَيِّدهُ أَن فِي رِوَايَة مُسلم: (حَتَّى تغتسلي) ، وَقَالَ ابْن بطال: الْعلمَاء مجمعون أَن الْحَائِض تشهد الْمَنَاسِك كلهَا غير الطّواف بِالْبَيْتِ، وَقَالَ الْمُهلب: إِنَّمَا منعت الْحَائِض

(9/292)


من الطوا على غير طَهَارَة تَنْزِيها لِلْمَسْجِدِ عَن النَّجَاسَات، ولأمره صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْحيض فِي الْعِيدَيْنِ بالإعتزال. وَقَالَ ابْن التِّين: وَقَول عَائِشَة: وَلم أطف بِالْبَيْتِ، تُرِيدُ أَن طواف الْعمرَة منعهَا مِنْهُ حَيْضهَا. قَوْله: (كَمَا يفعل الْحَاج) لَا يكون إِلَّا بِأَن يردف الْحَج على الْعمرَة، قَالَ: وَقيل: كَانَت حاجَّة، ذكره ابْن عبد الْملك، وَلَا يَصح لَهَا السَّعْي، وَإِن كَانَ يَصح فعله بِغَيْر طَهَارَة كَانَ الطّواف قبله، وَذَلِكَ لَا يَصح حَتَّى تطهر، وَلَا يكون السَّعْي مُفردا، وَيصِح إِفْرَاد الطّواف. وَقَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) : وَكَانَ البُخَارِيّ فهم أَن قَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَهَا: (إفعلي كَمَا يفعل الْحَاج، غير أَن لَا تطوفي) أَنَّهَا تسْعَى، فبوب: (وَإِذا سعى على غير وضوء) . انْتهى. قلت: لَيْسَ الْأَمر كَمَا ذكره، وَإِنَّمَا قَوْله: (وَإِذا سعى. .) إِلَى آخِره من التَّرْجَمَة كَمَا ذكرنَا، وَأَشَارَ بهَا إِلَى الْخلاف فِي اشْتِرَاط الطَّهَارَة فِي السَّعْي، فَلذَلِك لم يجْزم بالحكم، غير أَنه لم يذكر فِي الْبَاب شَيْئا يدل عَلَيْهِ، وَاكْتفى بِمُجَرَّد ذكر هَذِه التَّرْجَمَة، فَافْهَم.

1561 - حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى قَالَ حدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ وَقَالَ لي خَلِيفَةُ حَدَّثنا عَبْدُ الوَهَّابِ قَالَ حدَّثنا حبيبٌ المُعَلِّمُ عنْ عَطَاءٍ عَن جابِرِ بنِ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ أهلَّ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هُوَ وأصْحَابُهُ بالحَجِّ ولَيْسَ مَعَ أحَدٍ مِنْهُمْ هَدْيٌ غَيرَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وطَلْحَةَ وقَدِمَ عَلِيٌّ مِنَ اليَمَنِ ومَعَهُ هَدْيٌ فَقَالَ أهْلَلْتُ بِمَا أهَلَّ بِهِ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأمَرَ النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أصْحَابَهُ أنْ يَجْعَلوهَا عُمْرَةً ويَطُوفوا ثُمَّ يُقَصِّرُوا ويَحِلُّوا إلاَّ مَنْ كانَ مَعَهُ الهَدُيُ فقالُوا ننْطَلِقُ إلَى مِنىً وذَكَرُ أحَدِنَا يَقْطُرُ مَنيُّا فبَلَغَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ لَوِ اسْتَقْبَلْتُ مِنْ أمْرِي مَا اسْتَدْبَرْتُ مَا أهْدَيْتُ ولَوْلا أنَّ مَعِي الْهَدْي لأَحْلَلْتُ وحاضَتْ عائِشَةُ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا فنَسَكَتِ المَنَاسِكَ كُلَّهَا غَيْرَ أنَّهَا لَمْ تَطُف بِالبَيْتِ فلَمَّا طَهُرَتْ طافَتْ بِالْبَيْتِ قالتْ يَا رسولَ الله تَنْطَلِقُونَ بِحَجَّةٍ وعُمْرَةٍ وأنْطَلِقُ بِحَجٍّ فأمرَ عَبْدَ الرَّحْمانِ بنَ أبِي بَكْرٍ أنْ يَخْرُجَ مَعَهَا إِلَى التَّنْعِيمَ فاعْتَمَرَتْ بَعْدَ الحَجِّ..
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة لَا تخفى.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: مُحَمَّد بن الْمثنى بن عبيد الْمَعْرُوف بالزمن، وَقد مر غير مرّة، الثَّانِي: عبد الْوَهَّاب بن عبد الْمجِيد الثَّقَفِيّ. الثَّالِث: خَليفَة، بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وبالفاءين خياط، من خياطَة الثِّيَاب، وَقد مر فِي: بَاب الْمَيِّت يسمع خَفق النِّعَال. الرَّابِع: حبيب بن ابْن قريبَة الْمعلم بِلَفْظ اسْم الْفَاعِل من التَّعْلِيم. الْخَامِس: عَطاء بن أبي رَبَاح. السَّادِس: جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: أَنه ذكر هَذَا الْإِسْنَاد من طَرِيقين: الأول: عَن مُحَمَّد بن الْمثنى عَن عبد الْوَهَّاب عَن حبيب، وَالثَّانِي: أَنه ذكره على سَبِيل المذاكرة حَيْثُ قَالَ: وَقَالَ لي خَليفَة لَا على سَبِيل التَّحَمُّل، فَلذَلِك لم يقل: حَدثنَا خَليفَة مَعَ أَنه شَيْخه، وَهُوَ من أَفْرَاده. وَفِيه: أَنهم كلهم بصريون إلاَّ عَطاء فَإِنَّهُ مكي، وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْحَج عَن أَحْمد بن حَنْبَل عَن الثَّقَفِيّ بِهِ.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (قَالَ وَقَالَ) فَاعل قَالَ الأول البُخَارِيّ، وفاعل الثَّانِي ظَاهر، وَهُوَ خَليفَة. قَوْله: (أهل) أَي: أحرم. قَوْله: (وَلَيْسَ مَعَ أحد) الْوَاو فِيهِ للْحَال. قَوْله: (وَطَلْحَة) بِالرَّفْع عطف على غير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (عَليّ) ، هُوَ ابْن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أرْسلهُ إِلَى الْيمن. قَوْله: (وَمَعَهُ هدي) ، جملَة إسمية وَقعت حَالا. قَوْله: (أَن يجعلوها) ، أَي: الْحجَّة الَّتِي أهلوا بهَا. قَوْله: (ويطوفوا) أَي: بِالْبَيْتِ، وَبَين الصَّفَا والمروة. قَوْله: (ويحلوا) أَي: ويصيرون حَلَالا. قَوْله: (يقطر) أَي: منيا بِسَبَب قرب عهدنا بِالْجِمَاعِ أَي: كُنَّا متمتعين بِالنسَاء. قَوْله: (فَبلغ) أَي: الشَّأْن يَعْنِي: بلغ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَوْلهم، هَذَا وَهُوَ أَنهم تمَتَّعُوا بِهِ، وَقُلُوبهمْ لَا تطيب بِهِ، لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غير متمتع، وَكَانُوا يحبونَ مُوَافَقَته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم (لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي) أَي: لَو عرفت فِي أول الْحَال مَا عرفت آخرا، من جَوَاز الْعمرَة فِي أشهر الْحَج (لما أهديت) أَي: لَكُنْت مُتَمَتِّعا إِرَادَة لمُخَالفَة أهل الْجَاهِلِيَّة (ولأحللت) من الْإِحْرَام لَكِن امْتنع الْإِحْلَال لصَاحب الْهَدْي هُوَ

(9/293)


الْمُفْرد أَو الْقَارِن حَتَّى يبلغ الْهَدْي إِلَى مَحَله، وَذَلِكَ فِي أَيَّام النَّحْر لَا قبلهَا، وَيُقَال: مَعْنَاهُ لَو اسْتقْبلت هَذَا الرَّأْي، وَهُوَ الْإِحْرَام بِالْعُمْرَةِ فِي أشهر الْحَج من أول أَمْرِي لم أسق الْهَدْي. قَوْله: (فنسكت الْمَنَاسِك كلهَا) أَي: أَتَت بِأَفْعَال الْحَج كلهَا غير الطّواف بِالْبَيْتِ. قَوْله: (فَلَمَّا طهرت) ، بِفَتْح الْهَاء وَضمّهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ: قَالَ النَّوَوِيّ: احْتج بِهِ من قَالَ: إِن التَّمَتُّع أفضل لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَا يتَمَنَّى إلاَّ الْأَفْضَل. وَقَالَ الْكرْمَانِي: فَأجَاب الْقَائِلُونَ بتفضيل الْإِفْرَاد أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِنَّمَا قَالَ من أجل فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة الَّذِي هُوَ خَاص بهم فِي تِلْكَ السّنة فَقَط، مُخَالفَة للجاهلية. وَقَالَ هَذَا الْكَلَام تطييبا لقلوب أَصْحَابه، لِأَن نُفُوسهم كَانَت لَا تسمح بِفَسْخ الْحَج قلت: قَالَ الطَّبَرِيّ: وَجُمْلَة الْحَال لَهُ أَنه لم يكن مُتَمَتِّعا، لِأَنَّهُ قَالَ: (لَو اسْتقْبلت من أَمْرِي مَا اسْتَدْبَرت مَا أهديت) يَعْنِي مَا سقت الْهَدْي ولجعلتها عمْرَة، وَلَا كَانَ مُفردا لِأَن الْهَدْي كَانَ وَاجِبا كَمَا قَالَ، وَذَلِكَ لَا يكون إِلَّا للقارن. وَفِيه: فسخ الْحَج إِلَى الْعمرَة، لَكِن نقُول: إِنَّه كَانَ مَخْصُوصًا بهم فِي تِلْكَ السّنة، وَأَنه لَا يجوز الْيَوْم إلاَّ عِنْد ابْن عَبَّاس، وَبِه قَالَ أَحْمد وَدَاوُد والظاهري. وَفِيه: دَلِيل على جَوَاز الْأَمريْنِ، وَأَنه لَوْلَا مَا سبق من سوقه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْهَدْي لحل مَعَهم، إلاَّ أَن السنَّة فِيمَن سَاق الْهَدْي أَنه لَا يحل إلاَّ بعد بُلُوغ الْهَدْي مَحَله، وَهُوَ نَحره يَوْم النَّحْر. قَالَ القَاضِي: وَفِيه: دَلِيل على أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ مهلا بِالْحَجِّ. قلت: يَعْنِي لم يكن مُعْتَمِرًا، بل كَانَ قَارنا، كَمَا قَالَه الطَّبَرِيّ. وَقَالَ الطَّحَاوِيّ، رَحمَه الله: احْتج بِهَذَا الحَدِيث قوم على جَوَاز فسخ الْحَج فِي الْعمرَة، وَقَالُوا: من طَاف من الْحجَّاج بِالْبَيْتِ قبل وُقُوفه بِعَرَفَة وَلم يكن مِمَّن سَاق الْهَدْي فَإِنَّهُ يحل قلت: أَرَادَ بهؤلاء الْقَوْم جمَاعَة الظَّاهِرِيَّة، وَأحمد، ثمَّ قَالَ: وَخَالفهُم آخَرُونَ، فَقَالُوا: لَيْسَ لأحد دخل فِي حجَّة أَن يخرج مِنْهَا إلاَّ بِتَمَامِهَا، وَلَا يحله شَيْء مِنْهَا قبل يَوْم النَّحْر من طواف وَلَا غَيره. قلت: أَرَادَ بالآخرين جَمَاهِير التَّابِعين وَالْفُقَهَاء مِنْهُم أَحْمد وَأَبُو حنيفَة وَمَالك وَالشَّافِعِيّ وأصحابهم، ثمَّ أجَاب عَن ذَلِك بِمثل مَا ذكرنَا الْآن أَنه كَانَ خَاصّا لَهُم فِي حجتهم تِلْكَ دون سَائِر النَّاس بعدهمْ، ثمَّ قَالَ: وَالدَّلِيل على أَن ذَلِك كَانَ خَاصّا للصحابة الَّذين حجُّوا مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم دون غَيرهم حَدِيث بِلَال بن الْحَارِث، قَالَ: (قلت: يَا رَسُول الله أَرَأَيْت فسخ حجنا هَذَا لنا خَاصَّة أم للنَّاس عَامَّة؟ قَالَ: بل لكم خَاصَّة) . وَأخرجه أَبُو دَاوُد وَابْن مَاجَه.

2561 - حدَّثنا مُؤَمَّلُ بنُ هِشَامٍ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ عنْ أيُّوبَ عَن حَفْصَةَ قالَتْ كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أنْ يخْرُجْنَ فقَدِمَتِ امْرَأةٌ فنزَلَتْ قَصْرَ بَني خَلَفَ فَحَدَّثَتْ أنَّ أختَهَا كانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ مِنْ أصْحَابِ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَدْ غَزَا مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثِنْتَي عَشْرَةَ غَزْوَةً وكانَتْ أُختِي مَعَهُ فِي سَتِّ غَزَواتٍ قالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى ونَقُومُ علَى المَرْضى فسَألْت أُخْتِي رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فقالَتْ هَلْ عَلى إحْدانَا بأسٌ إنْ لَمْ يَكُنْ لَها جِلْبابٌ أنْ لَا تَخْرُجَ قَالَ لِتُلْبِسهَا صاحِبتُهَا مِنْ جلْبابِهَا ولْتَشْهَدِ الخَيْرَ ودَعْوةَ المُؤْمِنِينَ فلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عطِيَّةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا سَألْنَهَا أوْ قالَتْ سألْناها فقالَتْ وكانَتْ لَا تَذْكُر رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إلاَّ قالَتْ بِأبِي فقُلْنا أسَمِعْتِ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُولُ كذَا وكَذا قالَتْ نَعَمْ بِأبِي فقالَ لِتَخْرُجِ العَوَاتِقُ ذَواتُ الخُدُورِ أوِ العَواتِقِ وذَوَاتِ الخُدُورِ والحُيَّضُ فيَشْهَدْنَ الخَبَرَ ودَعْوةَ المُسْلِمِينَ ويَعْتَزِلُ الحُيَّضُ المُصَلَّى فَقُلْتُ آلْحَائِضُ فقالتْ أوَلَيْسَ تَشْهَدُ عَرفَةَ وتَشْهَدُ كَذا وتَشْهَدُ كذَا..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (أَو لَيْسَ تشهد عَرَفَة وَتشهد كَذَا وَتشهد كَذَا وَتشهد كَذَا؟) لِأَن مَعْنَاهُ: تشهد الْوُقُوف بِعَرَفَة، وَتشهد الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة وَرمي الْجمار وَغير ذَلِك من أَفعَال الْحَج غير الطّواف بِالْبَيْتِ، وَهَذَا مُوَافق لقَوْل جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، فنسكت الْمَنَاسِك كلهَا غير أَنَّهَا لم تطف بِالْبَيْتِ، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى فِي: بَاب شُهُود الْحَائِض

(9/294)


الْعِيدَيْنِ فِي كتاب الْحيض، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَن مُحَمَّد بن سَلام عَن عبد الْوَهَّاب عَن أَيُّوب عَن حَفْصَة إِلَى آخِره، وَأخرجه أَيْضا فِي: بَاب إِذا لم يكن لَهَا جِلْبَاب فِي الْعِيد فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ عَن أبي معمر عَن عبد الْوَارِث عَن أَيُّوب عَن حَفْصَة إِلَى آخِره، وَأخرجه هُنَا: عَن مُؤَمل بِلَفْظ اسْم الْمَفْعُول من التأميل ابْن هِشَام، وَقد مر فِي كتاب التَّهَجُّد فِي: بَاب عقد الشَّيْطَان، عَن إِسْمَاعِيل بن علية عَن أَيُّوب السّخْتِيَانِيّ عَن حَفْصَة بنت سِيرِين، وَهَؤُلَاء كلهم بصريون، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ فِي كتاب الْحيض مُسْتَوفى.

28 - (بَاب الإهْلالُ مِنَ البَطْحَاءِ وغَيْرِها لِلْمَكِّيِّ ولِلْحَاجِّ إذَا خَرَجَ إلَى مِنًى)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الإهلال بِكَسْر الْهمزَة أَي: الْإِحْرَام من الْبَطْحَاء، أَي من وَادي مَكَّة وَغَيرهَا، أَي: وَمن غير بطحاء مَكَّة، وَهُوَ سَائِر أَجزَاء مَكَّة. قَوْله: (للمكي) أَي: الَّذِي من أهل مَكَّة، وَأَرَادَ الْحَج. قَوْله: (وللحاج) ، أَي: وللحاج الَّذِي هُوَ الآفاقي الَّذِي يُرِيد التَّمَتُّع إِذا خرج من مَكَّة إِلَى منى، وَإِنَّمَا قيد بِهَذَا لِأَن شَرط الْخُرُوج من مَكَّة لَيْسَ إلاَّ للتمتع، فَالْحَاصِل من هَذِه التَّرْجَمَة أَن مهل الْمَكِّيّ والمتمتع لِلْحَجِّ هُوَ نفس مَكَّة، وَلَا يجوز تَركهَا ومهل الَّذِي يُرِيد الْإِحْرَام بِالْحَجِّ خَارج نفس مَكَّة، سَوَاء الْحل وَالْحرم. وَقَوله: (إِلَى منى) ، كَذَا وَقع فِي طَرِيق أبي الْوَقْت وَفِي مُعظم الرِّوَايَات: (إِذا خرج من منى) بِكَلِمَة: من، فَوجه كلمة إليَّ ظَاهر، وَأما وَجه كلمة: من، فَيحْتَمل أَن يكون إِشَارَة إِلَى الْخلاف فِي مِيقَات الْمَكِّيّ فِي مَذْهَب الشَّافِعِي، فَعنده مِيقَات أهل مَكَّة نفس مَكَّة، وَقيل: مَكَّة وَسَائِر الْحرم، وَالصَّحِيح الأول، وَمذهب أبي حنيفَة أَن مِيقَات أهل مَكَّة فِي الْحَج الْحرم، وَمن الْمَسْجِد أفضل، وَفِي مَنَاسِك الحصيري: الْأَفْضَل لأهل مَكَّة أَن يحرموا من مَنَازِلهمْ ويسعهم التَّأَخُّر إِلَى آخر الْحرم بِشَرْط أَن يدخلُوا الْحل محرمين، فَلَو دخلُوا من غير إِحْرَام لَزِمَهُم دم، كالآفاقي، وَقَالَ الْمُهلب: من أنشأ الْحَج من مَكَّة فَلهُ أَن يهل من بَيته وَمن الْمَسْجِد الْحَرَام وَمن الْبَطْحَاء وَهُوَ طَرِيق مَكَّة أَو من حَيْثُ أحب مِمَّا دون عَرَفَة، ذَلِك كُله وَاسع، لِأَن مِيقَات أهل مَكَّة مِنْهَا، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَن يخرج إِلَى الْحل لِأَنَّهُ خَارج فِي حجَّته إِلَى عَرَفَة، فَيحصل لَهُ بذلك الْجمع بَين الْحل وَالْحرم، وَهُوَ بِخِلَاف منشيء الْعمرَة من مَكَّة.
وسُئِلَ عَطَاءٌ عَنِ المُجَاوِرِ يُلَبِّي بالحَجِّ قَالَ وكانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يُلَبِّي يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إذَا صَلَّى الظُّهْرَ واسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ

مُطَابقَة هَذَا الْأَثر للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن الاسْتوَاء على الرَّاحِلَة كِنَايَة عَن السّفر، فابتداء الاسْتوَاء هُوَ ابْتِدَاء الْخُرُوج من الْبَلَد. قَوْله: (عَطاء) هُوَ عَطاء بن أبي رَبَاح. قَوْله: (عَن المجاور) أَي: المجاور بِمَكَّة، وَهُوَ الْمُقِيم بهَا. قَوْله: (يُلَبِّي) جملَة وَقعت حَالا، قَوْله: (يَوْم التَّرويَة) هُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة.
وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله سعيد بن مَنْصُور من طَرِيق عَطاء بِلَفْظ: (رَأَيْت ابْن عمر فِي الْمَسْجِد، فَقيل لَهُ: قد رُؤِيَ الْهلَال) . فَذكر قصَّة مِنْهَا: (فَأمْسك حَتَّى كَانَ يَوْم التَّرويَة، فَأتى الْبَطْحَاء، فَلَمَّا اسْتَوَت بِهِ رَاحِلَته أحرم) .
وَقَالَ عَبْدُ المَلِكِ عنْ عَطاءٍ عنْ جَابِرٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قَدِمْنَا مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فأحْلَلْنَا حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ وجَعَلْنَا مَكَّةَ

(9/295)


بِظهْرٍ لَبَّيْنَا بالحَجِّ

مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (لبينا) ، فَإِنَّهُ جملَة حَالية وَمَعْنَاهَا: جعلنَا مَكَّة من وَرَاءَنَا فِي يَوْم التَّرويَة حَال كوننا ملبين بِالْحَجِّ، فَعلم أَنهم حِين الْخُرُوج مِنْهَا كَانُوا محرمين. قَوْله: (وَقَالَ عبد الْملك) ، قَالَ الْكرْمَانِي: عبد الْملك هَذَا هُوَ ابْن عبد الْعَزِيز بن جريج، وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَنه هُوَ عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان. قلت: يحْتَمل كلا مِنْهُمَا، وَلَكِن هَذَا وَصله مُسلم من طَرِيق عبد الْملك بن أبي سُلَيْمَان الْعَرْزَمِي عَن عَطاء بن أبي رَبَاح (عَن جَابر: أَهْلَلْنَا مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْحَجِّ، فَلَمَّا قدمنَا مَكَّة أمرنَا أَن نحل ونجعلها عمْرَة، فَكبر ذَلِك علينا) الحَدِيث، وَفِيه: (حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم التَّرويَة وَجَعَلنَا مَكَّة بِظهْر أَهْلَلْنَا بِالْحَجِّ) . قَوْله: (حَتَّى يَوْم التَّرويَة) ، يَوْم، مَنْصُوب على الظَّرْفِيَّة، أَي: حَتَّى فِي يَوْم التَّرويَة. قَوْله: (بِظهْر) أَي: جعلنَا مَكَّة وَرَاء ظُهُورنَا.
وَقَالَ أبُو الزُّبَيْرِ عنْ جابِرٍ أهْلَلْنَا مِنَ البَطْحَاءِ

أَبُو الزبير هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم بن تدرس، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الدَّال الْمُهْملَة وَضم الرَّاء وَفِي آخِره سين مُهْملَة، الْمَكِّيّ، وَقد مر فِي: بَاب من شكا إِمَامه، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله أَحْمد فِي (مُسْنده) وَمُسلم فِي (صَحِيحه) من طَرِيق ابْن جريج عَنهُ (عَن جَابر، قَالَ: أمرنَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا أَحللنَا أَن نحرم إِذا توجهنا إِلَى منى، قَالَ: فأهللنا من الأبطح) .
وَقَالَ عُبَيْدُ بنُ جُرَيْجٍ لإبنِ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا رَأيْتُكَ إذَا كُنْتَ بِمَكَّةَ أهَلَّ النَّاسَ إذَا رَأوُا الْهِلاَلَ ولَمْ تُهِلَّ أنْتَ حَتَّى يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَقال لَمْ أرَ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يُهِلُّ حَتَّى تَنْبَعِثَ بِهِ رَاحِلَتُهُ

عبيد بِضَم الْعين، وجريج بِضَم الْجِيم مر ذكره فِي: بَاب غسل الرجلَيْن فِي النَّعْلَيْنِ فِي كتاب الْوضُوء، وَهَذَا التَّعْلِيق وَصله البُخَارِيّ فِي: بَاب غسل الرجلَيْن فِي النَّعْلَيْنِ مطولا، فَقَالَ: حَدثنَا عبد الله بن يُوسُف، قَالَ: أخبرنَا مَالك عَن سعيد المَقْبُري عَن عبيد بن جريج أَنه قَالَ لعبد الله بن عمر: يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن! رَأَيْتُك تصنع أَرْبعا ... الحَدِيث، وَقَالَ ابْن بطال: أما وَجه احتجاج ابْن عمر بإهلال النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِذِي الحليفة، وَهُوَ غير مكي، على من أنشأ الْحَج من مَكَّة، أَنه يجب أَن يهل يَوْم التَّرويَة، وَهِي قصَّة أُخْرَى، فَوجه ذَلِك أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أهل من مِيقَاته فِي حِين ابْتِدَائه فِي عمل حجَّته من أصل عمله، وَلم يكن فيهمَا مكث يقطع بِهِ الْعَمَل، فَكَذَلِك الْمَكِّيّ لَا يهل إلاَّ يَوْم التَّرويَة الَّذِي هُوَ أول عمله ليتصل لَهُ عمله تأسيا برَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بِخِلَاف مَا لَو أهل من أول الشَّهْر، وَقد قَالَ ابْن عَبَّاس: لَا يهل أحد من مَكَّة بِالْحَجِّ حَتَّى يُرِيد الرواح إِلَى منى، وَالله أعلم.

38 - (بابٌ أيْنَ يُصَلِّي الظُّهْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ)

أَي: هَذَا بَاب يبين فِيهِ أَيْن يُصَلِّي الظّهْر، أَي: فِي أَي مَكَان يُصَلِّي صَلَاة الظّهْر يَوْم التَّرويَة، وَهُوَ الْيَوْم الثَّامِن من ذِي الْحجَّة، والتروية، بِفَتْح التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَسُكُون الرَّاء وَكسر الْوَاو وَتَخْفِيف الْيَاء آخر الْحُرُوف: سميت بذلك لأَنهم كَانُوا يتروون بِحمْل المَاء مَعَهم من مَكَّة إِلَى عَرَفَات، وَقيل: إِلَى منى، وَقيل: لِأَن آدم، عَلَيْهِ السَّلَام، رأى فِيهِ حَوَّاء، عَلَيْهَا السَّلَام، وَقيل: لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ السَّلَام أرى فِيهِ إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، الْمَنَاسِك، وَقيل: لأَنهم كَانُوا يروون إبلهم فِيهِ، وَقيل: لِأَن إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، رأى تِلْكَ اللَّيْلَة فِي مَنَامه أَنه يذبح وَلَده بِأَمْر الله تَعَالَى، فَلَمَّا أصبح كَانَ يروي فِي النَّهَار كُله، أَي: يتفكر. وَقيل: هُوَ من الرِّوَايَة، لِأَن الإِمَام يروي للنَّاس مناسكهم. قلت: ذكره الْجَوْهَرِي فِي: بَاب روى، معتل الْعين وَاللَّام، وَذكر فِيهِ مواد كَثِيرَة، ثمَّ قَالَ: وَسمي يَوْم التَّرويَة لأَنهم كَانُوا يرتوون فِيهِ من المَاء لما بعد، وَيكون أَصله من: رويت من المَاء بِالْكَسْرِ أوري ريا وريا، وروى أَيْضا مثل، رَضِي وَتَكون التَّرويَة مصدرا من بَاب التفعيل، تَقول: رويته المَاء تروية، وَأما قَول من قَالَ: لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، رأى فِيهِ حَوَّاء فَغير صَحِيح من حَدِيث الِاشْتِقَاق، لِأَن رأى الَّذِي هُوَ من الرُّؤْيَة مَهْمُوز الْعين معتل اللَّام، نعم، جَاءَ من هَذَا الْبَاب ترئية وترية، وَلم يَجِيء: تروية فَالْأول من قَوْلك: رَأَتْ الْمَرْأَة ترئية إِذا رَأَتْ الدَّم الْقَلِيل عِنْد الْحيض، وَالثَّانِي اسْم الْخِرْقَة الَّتِي تعرف بهَا الْمَرْأَة حَيْضهَا من طهرهَا، وَأما بَقِيَّة الْأَقْوَال فكون أَصْلهَا من الرُّؤْيَة غير مستبعد، وَلَكِن لم يجىء لفظ التَّرويَة مِنْهَا لعدم الْمُنَاسبَة بَينهمَا فِي الِاشْتِقَاق. وَأما قَول من قَالَ: هُوَ من الرِّوَايَة، فبعيد جدا لِأَنَّهُ لم يَجِيء تروية من هَذَا الْبَاب لعدم الِاشْتِقَاق بَينهمَا، وَقَالَ بَعضهم: قيل فِي تَسْمِيَة التَّرويَة أَقْوَال شَاذَّة، وَذكر هَذِه الْأَقْوَال. قلت: هَذَا يدل على أَن أَصْلهَا صَحِيح فِي الِاشْتِقَاق، لِأَن الشاذ مَا يكثر اسْتِعْمَاله، وَلكنه على خلاف الْقيَاس، وَلَكِن هَذَا الْقَائِل لَو عرف الِاشْتِقَاق بَين الْمصدر وَالْأَفْعَال الَّتِي تشتق مِنْهُ لما صدر مِنْهُ هَذَا الْكَلَام فِي غير تَأمل وترو.

(9/296)


3561 - حدَّثني عَبْدُ الله بنُ مُحَمَّدٍ قَالَ حدَّثنا إسْحَاقُ الأزْرَقُ قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ بنِ رُفَيْعٍ قَالَ سَألْتُ أنَسَ بنَ مالِكٍ رَضِي الله تَعَالَى عنهُ قُلْتُ أخْبِرْنِي بِشِيْءٍ عَقَلْتَهُ عنِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أيْنَ صَلَّى الظُّهْرَ والعَصْرَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ قَالَ بِمِنًى قُلْتُ فأيْنَ صَلَّى العَصْرَ يَوْمَ النَّفْرِ قَالَ بِالأبْطَحِ ثُمَّ قالَ افْعَلْ كَما يَفْعَلُ أُمَرَاؤُكَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله أَبُو جَعْفَر الْجعْفِيّ الْمَعْرُوف بالمسندي. الثَّانِي: إِسْحَاق بن يُوسُف الْأَزْرَق، مَاتَ سنة سِتّ وَتِسْعين وَمِائَة. الثَّالِث: سُفْيَان الثَّوْريّ. الرَّابِع: عبد الْعَزِيز بن رفيع، بِضَم الرَّاء وَفتح الْفَاء وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره عين مُهْملَة، قد مر فِي أَبْوَاب الطّواف. الْخَامِس: أنس بن مَالك، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع وبصيغة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع. وَفِيه: القَوْل فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: السُّؤَال. وَفِيه: أَن شَيْخه بخاري وَأَنه من أَفْرَاده وَإِسْحَاق واسطي وسُفْيَان كُوفِي وَعبد الْعَزِيز مكي سكن الْكُوفَة، رَحمَه الله. وَفِيه: أَنه لَيْسَ لعبد الْعَزِيز بن رفيع عَن أنس فِي (الصَّحِيحَيْنِ) إلاَّ هَذَا الْوَاحِد.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن مُحَمَّد بن الْمثنى، وَعَن عَليّ وَإِسْمَاعِيل بن أبان، وَأخرجه مُسلم فِيهِ عَن زُهَيْر بن حَرْب. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم. وَأخرجه التِّرْمِذِيّ فِيهِ عَن أَحْمد بن منيع وَمُحَمّد بن الْوَزير الوَاسِطِيّ. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَعبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عقلته) ، أَي: أَدْرَكته وفهمته، وَهِي جملَة فِي مَحل الْجَرّ لِأَنَّهَا وَقعت صفة لقَوْله: شَيْء. قَوْله: (أَيْن صلى الظّهْر) ، يَعْنِي فِي: أَي مَكَان صلاهَا. قَوْله: (قَالَ: بمنى) أَي: صلاهَا بمنى. قَوْله: (يَوْم النَّفر) ، بِفَتْح النُّون وَسُكُون الْفَاء، وَهُوَ الرُّجُوع من منى. قَوْله: (بِالْأَبْطح) هُوَ مَكَان متسع بَين مَكَّة وَمنى، وَالْمرَاد بِهِ: المحصب. قَوْله: (ثمَّ قَالَ) ، أَي: أنس، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: إستحباب إِقَامَة صَلَاة الظّهْر وَالْعصر يَوْم التَّرويَة بمنى لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم خرج إِلَى منى قبل الظّهْر وَصلى فِيهِ الظّهْر وَالْعصر، وَذكر أَبُو سعد النَّيْسَابُورِي فِي (كتاب شرف الْمُصْطَفى) : أَن خُرُوجه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم التَّرويَة كَانَ ضحى. وَفِي سيرة الملاّ: أَنه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، خرج إِلَى منى بَعْدَمَا زاغت الشَّمْس. وَفِي (شرح الْمُوَطَّأ) لأبي عبد الله الْقُرْطُبِيّ: خرج، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، إِلَى منى عَشِيَّة يَوْم التَّرويَة، وَقَالَ النَّوَوِيّ: وَيكون خُرُوجهمْ بعد صَلَاة الصُّبْح بِمَكَّة حَيْثُ يصلونَ الظّهْر فِي أول وَقتهَا، هَذَا هُوَ الصَّحِيح الْمَشْهُور من نُصُوص الشَّافِعِي. وَفِيه: قَول ضَعِيف أَنهم يصلونَ الظّهْر بِمَكَّة ثمَّ يخرجُون، وَفِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل عِنْد مُسلم: (فَلَمَّا كَانَ يَوْم التَّرويَة توجهوا إِلَى منى فأهلُّوا بِالْحَجِّ، وَركب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فصلى بهَا الظّهْر وَالْعصر وَالْمغْرب وَالْعشَاء وَالْفَجْر. .) الحَدِيث، وروى أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيّ وَأحمد وَالْحَاكِم، من حَدِيث ابْن عَبَّاس، قَالَ: (صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الظّهْر يَوْم التَّرويَة، وَالْفَجْر يَوْم عَرَفَة بمنى) ، وَلأَحْمَد من حَدِيثه: (صلى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بمنى خمس صلوَات) ، وَلأَحْمَد عَن ابْن عمر: أَنه كَانَ يحب إِذا اسْتَطَاعَ أَن يُصَلِّي الظّهْر بمنى، يَوْم التَّرويَة، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم صلى الظّهْر بمنى، وَحَدِيث ابْن عمر فِي (الْمُوَطَّأ) : عَن نَافِع عَنهُ مَوْقُوف، وَلابْن خُزَيْمَة وَالْحَاكِم من طَرِيق الْقَاسِم ابْن مُحَمَّد عَن عبد الله بن الزبير قَالَ: من سنة الْحَج أَن يُصَلِّي الإِمَام الظّهْر وَمَا بعْدهَا، وَالْفَجْر بمنى، ثمَّ يَغْدُونَ إِلَى عَرَفَة، وَقَالَ الْمُهلب: النَّاس فِي سَعَة من هَذَا يخرجُون مَتى أَحبُّوا وَيصلونَ حَيْثُ أمكنهم، وَلذَلِك قَالَ أنس: صلى حَيْثُ يُصَلِّي أمراؤك، وَالْمُسْتَحب فِي ذَلِك مَا فعله الشَّارِع، صلى الظّهْر وَالْعصر بمنى، وَهُوَ قَول مَالك وَالثَّوْري وَأبي حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأحمد وَإِسْحَاق وَأبي ثَوْر. وَقَالَ ابْن حبيب: إِذا مَالَتْ الشَّمْس يطوف سبعا ويركع وَيخرج، وَإِن خرج قبل ذَلِك فَلَا حرج، وَعَادَة أهل مَكَّة أَن يخرجُوا إِلَى منى بعد صَلَاة الْعشَاء، وَكَانَت عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا، تخرج ثلث اللَّيْل، وَهَذَا يدل على التَّوسعَة، وَكَذَلِكَ الْمبيت عَن منى لَيْلَة

(9/297)


عَرَفَة لَيْسَ فِيهِ حرج إِذا وافى عَرَفَة ذَلِك الْوَقْت الَّذِي يُخَيّر، وَلَيْسَ فِيهِ جبر كَمَا يجْبر ترك الْمبيت بهَا بعد الْوُقُوف أَيَّام رمي الْجمار، وَبِه قَالَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر.

4561 - حدَّثنا عَليٌّ سَمِعَ أبَا بَكْرِ بنِ عَيَّاشٍ قَالَ حدَّثنا عَبْدُ العَزِيزِ قَالَ لَ قيتُ أنَسا (ح) وحدَّثني إسْمَاعِيلُ بنُ أبَانٍ قَالَ حدَّثنا أبُو بَكْرٍ عنْ عَبْدِ العَزِيزِ قَالَ خَرَجْتُ إلَى مِنىً يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فلَقِيتُ أنَسا رَضِي الله تَعَالَى عنهُ ذَاهِبا عَلَى حِمَارٍ فَقُلْتُ أيْنَ صَلَّى النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم هاذَا اليَوْمَ الظُّهْرَ فَقَالَ انْظُرْ حَيْثُ يُصَلِّي أُمَراؤُكَ فَصَلِّ.
(انْظُر الحَدِيث 3561 وطرفه) .
هَذَا طَرِيق آخر أوردهُ من رِوَايَة أبي بكر بن عَيَّاش، الظَّاهِر أَنه أوردهُ تَأْكِيدًا لطريق إِسْحَاق الْأَزْرَق، فَإِن التِّرْمِذِيّ لما أخرج حَدِيث إِسْحَاق قَالَ: صَحِيح يستغرب من حَدِيث إِسْحَاق الْأَزْرَق عَن الثَّوْريّ، أَرَادَ أَن إِسْحَاق تفرد بِهِ، وَرَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيقين: الأول: عَن عَليّ هُوَ ابْن الْمَدِينِيّ، قَالَه الْكرْمَانِي: وَقَالَ بَعضهم: وَالَّذِي يظْهر لي أَنه ابْن الْمَدِينِيّ؟ قلت: أَخذه من الْكرْمَانِي ثمَّ نسبه إِلَى نَفسه، وَأَبُو بكر بن عَيَّاش، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَتَشْديد الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره شين مُعْجمَة: ابْن سَالم الْأَسدي الْكُوفِي الحناط، بالنُّون، الْمقري، قيل: اسْمه مُحَمَّد، وَقيل: عبد الله وَقيل: سَالم، وَقيل غير ذَلِك، وَالصَّحِيح ان اسْمه كنيته، وَعبد الْعَزِيز هُوَ ابْن رفيع الْمَذْكُور. وَالطَّرِيق الثَّانِي: عَن إِسْمَاعِيل بن أبان، بِفَتْح الْهمزَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره نون، وَهُوَ منصرف على الْأَصَح، وَقد مر فِي: بَاب من قَالَ فِي الْخطْبَة: أما بعد. وَإِنَّمَا قدم الطَّرِيق الأول لتصريحه فِيهِ بِالتَّحْدِيثِ بَين أبي بكر بن عَيَّاش وَعبد الْعَزِيز، وَالطَّرِيق الثَّانِي بالعنعنة.
قَوْله: (ذَاهِبًا) نصب على الْحَال، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: رَاكِبًا. قَوْله: (هَذَا الْيَوْم) أَي: يَوْم التَّرويَة. قَوْله: (فَقَالَ) أَي: أنس لعبد الْعَزِيز: انْظُر. قَوْله: (فصلِّ) أَمر يُخَاطب بِهِ أنس لعبد الْعَزِيز.
وَفِيه: إِشَارَة إِلَى مُتَابعَة أولي الْأَمر والاحتراز عَن مُخَالفَة الْجَمَاعَة، وَكَانَ الْأُمَرَاء لَا ينزلون بِالْأَبْطح، وَكَانُوا لَا يصلونَ الظّهْر وَالْعصر إلاَّ بمنى كَمَا فعله الشَّارِع، فَلذَلِك استحبت الْأَئِمَّة الْأَرْبَعَة وَغَيرهم ذَلِك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مستقصىً.

48 - (بابُ الصَّلاةِ بِمِنىً)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان كمية الصَّلَاة الرّبَاعِيّة فِي منى هَل تصلي على حَالهَا أَو تقصر؟ وَأورد فِيهِ ثَلَاثَة أَحَادِيث ذكرهَا فِي: أَبْوَاب تَقْصِير الصَّلَاة بترجمة بِعَين هَذِه التَّرْجَمَة، وَهُوَ: بَاب الصَّلَاة بمنى وَيبين كل وَاحِد الْآن.

5561 - حدَّثنا إبْرَاهِيمُ بنُ المُنْذِرِ قَالَ حدَّثنا ابنُ وَهْبٍ قَالَ أَخْبرنِي يُونُسُ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخْبَرني عُبَيْدُ الله بنُ عَبْدِ الله بنِ عُمَرَ عنْ أبِيهِ قَالَ صلَّى رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمِنىً رَكْعَتَيْنِ وَأبُو بَكْرٍ وعُمَرَ وعُثْمَانُ صَدْرا مِنْ خِلافَتِهِ.
(انْظُر الحَدِيث 2801) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، وَأخرجه فِي الْبَاب الْمَذْكُور عَن مُسَدّد عَن يحيى عَن عبيد الله، قَالَ: أَخْبرنِي نَافِع (عَن عبد الله ابْن عمر، قَالَ: صليت مَعَ رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، بمنى رَكْعَتَيْنِ وَأبي بكر وَعمر وَعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، صَدرا من إمارته، ثمَّ أتمهَا) . قَوْله: (رَكْعَتَيْنِ) أَي: المقصورتين من الْفَرِيضَة الرّبَاعِيّة. قَوْله: (وَعُثْمَان صَدرا) أَي: صلى رَكْعَتَيْنِ صَدرا، أَي: فِي صدر من أَيَّام خِلَافَته، أَي: فِي أَوَائِل خِلَافَته، وَإِنَّمَا ذكر صَدرا. وَقيد بِهِ لِأَن عُثْمَان أتم الصَّلَاة بعد سِتّ سِنِين، وَبَقِيَّة مباحثه تقدّمت هُنَاكَ.

6561 - حدَّثنا آدَمُ قَالَ حدَّثنا شُعْبَةُ عنْ أبي إسْحَاقَ الْهَمَدَانِيِّ عنْ حَارِثَةَ بنِ وَهْبٍ الخُزَاعِيِّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قَالَ صَلى بِنا النبيُّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ونحْنُ أكْثَرُ مَا كُنَّا قَطُّ وَآمَنُهُ بِمنىً رَكْعَتَيْنِ.
(انْظُر الحَدِيث 3801) .

(9/298)


أخرجه هُنَاكَ، فَقَالَ: حَدثنَا أَبُو الْوَلِيد، قَالَ: حَدثنَا شُعْبَة، قَالَ: أَنبأَنَا أَبُو إِسْحَاق، قَالَ: سَمِعت حَارِثَة بن وهب، قَالَ: (صلى بِنَا النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، آمن مَا كَانَ بمنى رَكْعَتَيْنِ) . وَأَبُو الْوَلِيد هِشَام بن عبد الْملك الطَّيَالِسِيّ، وَأَبُو إِسْحَاق عَمْرو بن عبد الله الْهَمدَانِي الْمَشْهُور بالسبيعي الْكُوفِي، وحارثة، بِالْحَاء الْمُهْملَة وبالراء والثاء الْمُثَلَّثَة، والخزاعي، بِضَم الْخَاء الْمُعْجَمَة وَتَخْفِيف الزَّاي وبالعين الْمُهْملَة: نِسْبَة إِلَى خُزَاعَة حَيّ من الأزد. قَوْله: (وَنحن مَا كُنَّا أَكثر) ، جملَة وَقعت حَالا، فَقَوله: نَحن، مُبْتَدأ وَكلمَة: مَا، نَافِيَة خَبره، وَقَوله: (أَكثر) مَنْصُور على أَنه خبر كَانَ، وَكلمَة: قطّ، مُتَعَلقَة بِمَحْذُوف، وَالتَّقْدِير: وَنحن مَا كُنَّا قطّ فِي وَقت أَكثر منا فِي ذَلِك الْوَقْت وَلَا آمن منا فِيهِ، وَيجوز أَن تكون: مَا، مَصْدَرِيَّة وَمَعْنَاهُ الْجمع، لِأَن مَا أضيف إِلَيْهِ أفعل يكون جمعا، قَوْله: (وآمنه) عطف على أَكثر، وَالضَّمِير فِيهِ يرجع إِلَى: مَا، وَالتَّقْدِير: صلى بِنَا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالْحَال أَنا أَكثر أكواننا فِي سَائِر الْأَوْقَات عددا وَأكْثر أكواننا فِي سَائِر الْأَوْقَات أمنا. وَإسْنَاد الْأَمْن إِلَى الْأَوْقَات مجَاز، قيل: وعَلى هَذَا كَمَا قُلْنَا: قطّ، مُتَعَلق بِمَحْذُوف، لِأَن: قطّ، يخْتَص بالماضي الْمَنْفِيّ، وَلَا منفي هَهُنَا، تَقْدِيره: مَا كُنَّا أَكثر من ذَلِك وَلَا آمنهُ قطّ. قلت: قَالَ ابْن مَالك: اسْتِعْمَال قطّ غير مسبوقة بِالنَّفْيِ مِمَّا خَفِي على كثير من النَّحْوِيين، وَقد جَاءَ فِي هَذَا الحَدِيث بِدُونِهِ، وَله نَظَائِر، وَقيل: إِنَّه بِمَعْنى: أبدا، على سَبِيل الْمجَاز، وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَوْله: (وآمنه) ، بِالرَّفْع وَيجوز النصب بِأَن يكون فعلا مَاضِيا وفاعله الله تَعَالَى. قلت: فَحِينَئِذٍ يكون ضمير الْمَفْعُول هُوَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَالتَّقْدِير: وآمن الله تَعَالَى نبيه، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِينَئِذٍ. وَقَالَ الطَّيِّبِيّ: هَذَا على أَن يكون: أَكثر، خبر كَانَ، إِذْ لَا يَسْتَقِيم أَن يعْطف: وأمنه، على: أَكثر، وَهُوَ متعسف جدا. قَوْله: (بمنى) أَي: فِي منى، وَالْعَامِل فِيهِ قَوْله: صلى.

7561 - حدَّثنا قَبِيصَةُ بنُ عُقْبَةَ قَالَ حدَّثنا سُفْيَانُ عنِ الأعْمَشِ عنْ إبْراهِيم عنْ عَبْدِ الرَّحْمانِ ابنِ يَزيدَ عنْ عَبْدِ الله رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قالَ صَلَّيْتُ مَعَ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رَكْعَتَيْنِ ومَعَ أبِي بَكْرٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَكْعَتَيُنِ ومعَ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمُ الطُّرُقُ فيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَلِّبَتَانِ.
(انْظُر الحَدِيث 4801) .
أخرجه فِي الْبَاب الْمَذْكُور عَن قُتَيْبَة بن سعيد عَن عبد الْوَاحِد بن زِيَاد عَن الْأَعْمَش إِلَى آخِره، فَانْظُر إِلَى التَّفَاوُت بَينهمَا فِي الْمَتْن والإسناد، وَلَكِن الْحَاصِل وَاحِد.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وسُفْيَان هُوَ الثَّوْريّ، وَإِبْرَاهِيم هُوَ النَّخعِيّ، وَعبد الرَّحْمَن ابْن يزِيد بن قيس أَخُو الْأسود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، الْكُوفِي النَّخعِيّ، مَاتَ فِي الجماجم سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ، وَعبد الله هُوَ ابْن مَسْعُود، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ.
قَوْله: (ثمَّ تَفَرَّقت بكم الطّرق) ، يَعْنِي: اختلفتم فِي قصر الصَّلَاة وإتمامها، فمنكم من يقصر ومنكم من لَا يقصر. قَوْله: (فيا لَيْت حظي من أَربع) أَي: فيا لَيْت نَصِيبي الَّذِي يحصل لي من أَربع رَكْعَات، رَكْعَتَانِ يقبلهما الله تَعَالَى. قَوْله: (رَكْعَتَانِ) فِي كثير من النّسخ: رَكْعَتَيْنِ، وَهُوَ على مَذْهَب الْفراء، فَإِنَّهُ جوز نصب خبر: لَيْت، كاسمه. وَأما وَجه: رَكْعَتَانِ، بِالرَّفْع فَهُوَ الأَصْل، لِأَنَّهُ خبر: لَيْت، وَخَبره مَرْفُوع. وَقَالَ الدَّاودِيّ: خشِي ابْن مَسْعُود أَن لَا تجزىء الْأَرْبَع فاعلها، وَتبع عُثْمَان كَرَاهَة لخلافه، وَأخْبر بِمَا يَعْتَقِدهُ. وَقيل: يُرِيد أَنه لَو صلى أَرْبعا فيا ليتها تقبل كَمَا تقبل الركعتان. وَقَالَ الْكرْمَانِي: قَالُوا: غَرَضه لَيْت عُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، صلى رَكْعَتَيْنِ بدل الْأَرْبَع، كَمَا كَانَ النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وصاحباه يَفْعَلُونَهُ. وَقيل: مَعْنَاهُ أَنا أتم مُتَابعَة لعُثْمَان، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وليت الله قبل مني من الْأَرْبَع رَكْعَتَيْنِ.
وَفِيه: كَرَاهَة مُخَالفَة مَا كَانُوا عَلَيْهِ، وَبَقِيَّة المباحث تقدّمت هُنَاكَ.

58 - (بابُ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الصَّوْم فِي يَوْم عَرَفَة، وَلم يبين حكمه لمَكَان الِاخْتِلَاف فِيهِ.

8561 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ عنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ حدَّثنا سَالِمٌ قَالَ

(9/299)


سَمِعْتُ عُمَيْرا مَوْلَى أُمِّ الفَضْلِ عنْ أُمِّ الفَضْلِ شَكَّ النَّاسُ يَومَ عَرَفةَ فِي صَوْمِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَبَعَثْتُ إلَى النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة من حَيْثُ إِن فِيهِ بَيَان ترك النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، الصَّوْم فِي يَوْم عَرَفَة.
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ. الرَّابِع: سَالم بن أبي أُميَّة أَبُو النَّضر، بالضاد الْمُعْجَمَة: مولى عمر بن عبيد الله بن معمر. الْخَامِس: عُمَيْر، مصغر عَمْرو، مولى ابْن عَبَّاس. السَّادِس: أم الْفضل أم عبد الله ابْن عَبَّاس، وَاسْمهَا: لبَابَة، بِضَم اللَّام وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي ثَلَاثَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه بَصرِي وَأَنه من أَفْرَاده. وَفِيه: أَن سُفْيَان مكي وَأَن الزُّهْرِيّ وسالما وعميرا مدنيون. .
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْحَج عَن القعْنبِي، وَفِي الصَّوْم عَن عبد الله بن يُوسُف وَعَن مُسَدّد، وَفِي الْأَشْرِبَة عَن الْحميدِي، وَعَن مَالك بن إِسْمَاعِيل وَعَن عَمْرو بن الْقَاسِم. وَأخرجه مُسلم فِي الصَّوْم عَن يحيى بن يحيى عَن مَالك بِهِ، وَعَن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم وَابْن أبي عَمْرو عَن زُهَيْر بن حَرْب وَعَن هَارُون بن سعيد الْأَيْلِي. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الصَّوْم عَن القعْنبِي بِهِ.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، لم يصم يَوْم عَرَفَة؟ فَإِن قلت: فِي (صَحِيح مُسلم) أَن صَوْمه يكفر سنتَيْن؟ قلت: هَذَا فِي غير الحجيج، أما فِي الحجيج فَيَنْبَغِي لَهُم أَن لَا يَصُومُوا لِئَلَّا يضعفوا عَن الدُّعَاء، وأعمال الْحَج اقْتِدَاء بالشارع، وَأطلق كثير من الشَّافِعِيَّة كَرَاهَته، وَإِن كَانَ الشَّخْص بِحَيْثُ لَا يضعف بِسَبَب الصَّوْم فَقَط، فَقَالَ الْمُتَوَلِي: الأولى أَن يَصُوم حِيَازَة للفضيلة. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَنسب غَيره هَذَا إِلَى الْمَذْهَب، وَقَالَ: الأولى عندنَا لَا يَصُوم بِحَال. وَقَالَ الرَّوْيَانِيّ فِي (الْحِلْية) : إِن كَانَ قَوِيا، وَفِي الشتَاء، وَلَا يضعف بالضعف عَن الدُّعَاء، فالصوم أفضل. وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ فِي (الْمعرفَة) : قَالَ الشَّافِعِي فِي الْقَدِيم: لَو علم الرجل أَن الصَّوْم بِعَرَفَة لَا يُضعفهُ فصامه كَانَ حسنا، وَاخْتَارَ الْخطابِيّ هَذَا. قَالَ صَاحب (التَّوْضِيح) : وَالْمذهب عندنَا اسْتِحْبَاب الْفطر مُطلقًا، وَبِه قَالَ جُمْهُور أَصْحَابنَا، وصرحوا بِأَنَّهُ لَا فرق. وَلم يذكر الْجُمْهُور الْكَرَاهَة، بل قَالُوا: يسْتَحبّ فطره، كَمَا قَالَه الشَّافِعِي، وَنقل الْمَاوَرْدِيّ وَغَيره اسْتِحْبَاب الْفطر عَن أَكثر الْعلمَاء، وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن جمَاعَة مِنْهُم: اسْتِحْبَاب صَوْمه، وَحكى صَاحب الْبَيَان عَن يحيى بن سعيد الْأنْصَارِيّ أَنه يجب عَلَيْهِ الْفطر بِعَرَفَة. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلف الْعلمَاء فِي صَوْمه، فَقَالَ ابْن عمر: لم يصمه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عمر وَلَا عُثْمَان وَأَنا لَا أصومه. وَقَالَ ابْن عَبَّاس: يَوْم عَرَفَة لَا يصحبنا أحد يُرِيد الصّيام فَإِنَّهُ يَوْم تَكْبِير. وَأكل وَشرب، وَاخْتَارَ مَالك وَأَبُو حنيفَة وَالثَّوْري: الْفطر، وَقَالَ عَطاء: من أفطر يَوْم عَرَفَة ليتقوى بِهِ على الذّكر كَانَ لَهُ مثل أجر الصَّائِم، وَكَانَ ابْن الزبير وَعَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، يصومان يَوْم عَرَفَة، وروى أَيْضا عَن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَكَانَ إِسْحَاق يمِيل إِلَيْهِ، وَكَانَ الْحسن يُعجبهُ صَوْمه وَيَأْمُر بِهِ الْحَاج، وَقَالَ: رَأَيْت عُثْمَان بِعَرَفَة فِي يَوْم شَدِيد الْحر صَائِما وهم يروحون عَنهُ، وَكَانَ أُسَامَة بن زيد وَعُرْوَة بن الزبير وَالقَاسِم وَمُحَمّد وَسَعِيد بن جُبَير يَصُومُونَ بِعَرَفَات. وَقَالَ قَتَادَة: لَا بَأْس بذلك إِذا لم يضعف عَن الدُّعَاء، وَبِه قَالَ الدَّاودِيّ. وَقَالَ الشَّافِعِي: أحب صِيَامه لغير الْحَاج، أما من حج فَأحب أَن يفْطر ليقويه على الدُّعَاء، وَقَالَ عَطاء: أصومه فِي الشتَاء وَلَا أصومه فِي الصَّيف. وَفِيه: أَن الْأكل وَالشرب فِي المحافل مُبَاح ليبين معنى: أودعت الصُّورَة فِيهِ. وَفِيه: جَوَاز قبُول الْهَدِيَّة من النِّسَاء، وَلم يسْأَلهَا أَن كَانَ من مَالهَا، أَو من مَال زَوجهَا إِن كَانَ مثل هَذَا الْقدر لَا يشاحح النَّاس فِيهِ.