عمدة القاري شرح صحيح البخاري

68 - (بابُ التَّلْبِيَةِ والتَّكْبيرِ إذَا غَدَا مِنْ مِنًى إلَى عَرَفَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان مَشْرُوعِيَّة التَّلْبِيَة وَالتَّكْبِير إِذا غَدا، أَي: إِذا ذهب من منى إلَى عَرَفَة.

9561 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أنَّهُ سَألَ أنسَ بنَ مَالِكٍ

(9/300)


وهُمَا غادِيانِ مِنْ مِنىً إلَى عَرَفَةَ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا اليَوْمِ مَعَ رسولِ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ كانَ يُهِلُّ مِنَّا المُهِلُّ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ ويُكَبِّرُ مِنَّا المُكَبِّرُ فَلاَ يُنْكِرُ عَلَيْهِ.
(انْظُر الحَدِيث 079) .
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة.
وَرِجَاله قد ذكرُوا. وَأما الثَّقَفِيّ فَلَيْسَ لَهُ فِي الصَّحِيح عَن أنس وَلَا غَيره غير هَذَا الحَدِيث، وَقد تقدم هَذَا الحَدِيث فِي أَبْوَاب الْعِيدَيْنِ فِي: بَاب التَّكْبِير أَيَّام منى وَإِذا غَدا إِلَى عَرَفَة، أخرجه عَن أبي نعيم عَن مَالك بن أنس قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن أبي بكر الثَّقَفِيّ، قَالَ: سَأَلت أنسا وَنحن غاديان من منى إِلَى عَرَفَات عَن التَّلْبِيَة، كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ قَالَ: كَانَ يُلَبِّي الملبي لَا يُنكر عَلَيْهِ، وَيكبر المكبر فَلَا يُنكر عَلَيْهِ، فَانْظُر التَّفَاوُت بَينهمَا فِي السَّنَد والمتن وَالْمعْنَى وَاحِد. وَقَوله: فِي هَذَا الطَّرِيق: (كَانَ يُلَبِّي منا الملبي) ، يُوضح معنى قَوْله: (كَانَ يهل منا الْمهل) لِأَن الإهلال رفع الصَّوْت بِالتَّلْبِيَةِ. قَوْله: (وهما غاديان) جملَة إسمية وَقعت حَالا. أَي: ذاهبان غدْوَة. قَوْله: (كَيفَ كُنْتُم تَصْنَعُونَ؟) أَي: من الذّكر طول الطَّرِيق، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق مُوسَى بن عقبَة، قَالَ: حَدثنِي مُحَمَّد بن أبي بكر، قَالَ: قلت لأنس بن مَالك غَدَاة عَرَفَة: مَا تَقول فِي التَّلْبِيَة فِي هَذَا الْيَوْم؟ قَالَ: سرت هَذَا الْمسير مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فمنا المكبر وَمنا الْمهل، لَا يعيب أَحَدنَا على صَاحبه. قَوْله: (فَلَا يُنكر عَلَيْهِ) ، بِضَم الْيَاء على صِيغَة الْمَجْهُول من الْمُضَارع، وَقد مرت بَقِيَّة الْكَلَام هُنَاكَ.

78 - (بابُ التَّهْجِيرِ بالرَّوَاحِ يَوْمَ عَرَفَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان التهجير، وَهُوَ السّير فِي الهاجرة، وَكَذَلِكَ الهجر والهاجرة نصف النَّهَار عِنْد اشتداد الْحر، وَكَذَلِكَ الهجر، وَمِنْه يُقَال: هجر النَّهَار، وَالْمرَاد بالتهجير بالرواح: أَن يهجر من نمرة إِلَى مَوضِع الْوُقُوف بِعَرَفَة، والنمرة، بِفَتْح النُّون وَكسر الْمِيم: مَوضِع بِقرب عَرَفَات خَارج الْحرم بَين طرف الْحَرْف وطرف عَرَفَات.

0661 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ عنْ سَالِمٍ قَالَ كَتَبَ عَبْدُ المَلِكِ إِلَى الحَجَّاجِ أنْ لاَ يُخَالِفَ ابنَ عُمَرَ فِي الحجِّ فَجَاءَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَأَنا معَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتِ الشَّمْسُ فصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الحَجَّاجِ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقال مالِكَ يَا أبَا عَبْدِ الرَّحْمانِ فَقَالَ الرَّوَاحَ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ قَالَ هاذِهِ السَّاعَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأنْظِرْنِي حتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأسِي ثُمَّ أخرُج فنزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ فسَارَ بَيْنِي وبَيْنَ أبِي فَقُلْتُ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فاقْصُرِ الخُطْبَةَ وعَجِّلِ الوُقُوفَ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ الله فلَمَّا رَأى ذَلِكَ عَبْدُ الله قَالَ صَدَقَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة تُستفاد من قَوْله: (هَذِه السَّاعَة) لِأَنَّهُ أَشَارَ بِهِ إِلَى زَوَال الشَّمْس، وَهُوَ وَقت الهاجرة، وَهُوَ وَقت الرواح إِلَى الْموقف لما روى أَبُو دَاوُد من حَدِيث ابْن عمر، (قَالَ: غَدا رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، حِين صلى الصُّبْح فِي صَبِيحَة يَوْم عَرَفَة حَتَّى أَتَى عَرَفَة، فَنزل نمرة وَهُوَ منزل الإِمَام الَّذِي ينزل بِهِ بِعَرَفَة، حَتَّى إِذا كَانَ عِنْده صَلَاة الظّهْر رَاح رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مهجرا فَجمع بَين الظّهْر وَالْعصر، ثمَّ خطب النَّاس ثمَّ رَاح فَوقف) . وَأخرجه أَحْمد أَيْضا. وَظَاهر هَذَا الحَدِيث أَنه توجه من منى حِين صلى الصُّبْح بهَا، لَكِن فِي حَدِيث جَابر الطَّوِيل الَّذِي رَوَاهُ مُسلم أَن توجهه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْهَا كَانَ بعد طُلُوع الشَّمْس، وَلَفظه: (فَضربت لَهُ قبَّة بنمرة فَنزل بهَا حَتَّى زاغت الشَّمْس أَمر بالقصواء فرحلت، فَأتى بطن الْوَادي فَخَطب النَّاس. .) الحَدِيث بِطُولِهِ.
وَرِجَاله قد ذكرُوا غير مرّة، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْحَج أَيْضا عَن يُونُس بن عبد الْأَعْلَى وَعَن أَحْمد بن عَمْرو بن السَّرْح.
قَوْله: (كتب عبد الْملك) هُوَ ابْن مَرْوَان الْأمَوِي الْخَلِيفَة، وَالْحجاج هُوَ ابْن يُوسُف الثَّقَفِيّ، وَكَانَ واليا بِمَكَّة حِينَئِذٍ لعبد الْملك وأميرا على الْحَاج. قَوْله: (أَن لَا يُخَالف) بِلَفْظ النَّهْي وَالنَّفْي. قَوْله: (فِي الْحَج) أَي: فِي أَحْكَام الْحَج، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق أَشهب عَن مَالك: فِي أَمر الْحَج. قَوْله:

(9/301)


(فجَاء ابْن عمر) الْقَائِل هُوَ سَالم وَالْوَاو فِي: وَأَنا، للْحَال. قَوْله: (مَعَه) أَي: مَعَ ابْن عمر، وَوَقع فِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن الزُّهْرِيّ: (فَركب هُوَ وَسَالم وَأَنا مَعَهُمَا) ، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق أَيْضا عَن معمر، قَالَ ابْن شهَاب: (وَكنت يَوْمئِذٍ صَائِما فَلَقِيت من الْحر شدَّة) . وَاخْتلف الْحفاظ فِي رِوَايَة معمر هَذِه، فَقَالَ يحيى بن معِين: هِيَ وهم وَابْن شهَاب لم ير ابْن عمر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَلَا سمع مِنْهُ. وَقَالَ الذهلي: لست أدفَع رِوَايَة معمر لِأَن ابْن وهب روى عَن الْعمريّ عَن ابْن شهَاب، رَحمَه الله تَعَالَى، نَحْو رِوَايَة معمر، وروى عَنْبَسَة بن خَالِد عَن يُونُس عَن ابْن شهَاب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. . قَالَ: وفدت إِلَى مَرْوَان وَأَنا محتلم، قَالَ الذهلي: ومروان مَاتَ سنة خمس وَسِتِّينَ، وَهَذِه الْقِصَّة كَانَت سنة ثَلَاث وَسبعين. انْتهى. وَقَالَ غَيره: إِن رِوَايَة عَنْبَسَة هَذِه أَيْضا وهم، وَإِنَّمَا قَالَ الزُّهْرِيّ: وفدت على عبد الْملك، وَلَو كَانَ الزُّهْرِيّ وَفد على مَرْوَان لأدرك جلة الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، مِمَّن لَيست لَهُ عَنْهُم رِوَايَة إلاَّ بِوَاسِطَة، وَقد أَدخل مَالك وَعقيل، وإليهما الْمرجع فِي حَدِيث الزُّهْرِيّ، بَينه وَبَين ابْن عمر فِي هَذِه الْقِصَّة سالما، فَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد. قَوْله: (عِنْد سرادق الْحجَّاج) ، السرادق، بِضَم السِّين. قَالَ الْكرْمَانِي: وَتَبعهُ غَيره أَنه هُوَ الْخَيْمَة وَلَيْسَ كَذَلِك، وَإِنَّمَا السرادق هُوَ الَّذِي يُحِيط بالخيمة وَله بَاب يدْخل مِنْهُ إِلَى الْخَيْمَة وَلَا يعْمل هَذَا غَالِبا إلاَّ للسلاطين والملوك الْكِبَار، وبالفارسية يُسمى: سرابردة. قَوْله: (ملحفة) ، بِكَسْر الْمِيم: الْإِزَار الْكَبِير. قَوْله: (معصفرة) أَي: مصبوغة بالعصفر. قَوْله: (يَا أَبَا عبد الرَّحْمَن) هُوَ كنية عبد الله بن عمر. قَوْله: (الرواح) ، بِالنّصب أَي: رح الرواح أَو عجل، قَالَه الْكرْمَانِي، والأصوب أَن يُقَال: إِنَّه مَنْصُوب على الإغراء أَي: ألزم الرواح، والإغراء تَنْبِيه الْمُخَاطب على أَمر مَحْمُود ليفعله. قَوْله: (إِن كنت تُرِيدُ السنَّة) وَفِي رِوَايَة ابْن وهب: (إِن كنت تُرِيدُ أَن تصيب السنَّة) . وَقَالَ أَبُو عمر فِي (التَّقَصِّي) : هَذَا الحَدِيث يدْخل عِنْدهم فِي الْمسند لقَوْله: (إِن كنت تُرِيدُ السنَّة) ، فَالْمُرَاد سنَّة سيدنَا رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَكَذَلِكَ إِذا أطلقها غَيره مَا لم تضف إِلَى صَاحبهَا، كَقَوْلِهِم: سنة العمرين، وَمَا أشبه ذَلِك. انْتهى. وَهَذِه مَسْأَلَة خلاف عِنْد أهل الحَدِيث وَالْأُصُول، وَالْجُمْهُور على مَا قَالَ ابْن عبد الْبر، وَهِي طَريقَة البُخَارِيّ وَمُسلم، ويقويه قَول سَالم لِابْنِ شهَاب، إِذْ قَالَ لَهُ: أفعل ذَلِك رَسُول اللهصلى الله عَلَيْهِ وَسلم؟ فَقَالَ: وَهل تتبعون فِي ذَلِك إلاَّ سنته؟ قَوْله: (فأنظرني) بِفَتْح الْهمزَة وَكسر الظَّاء الْمُعْجَمَة من الأنظار وَهُوَ الْإِمْهَال مَعْنَاهُ أمهلني وَفِي رِوَايَة الْكشميهني (وانظرني) بِهَمْزَة الْوَصْل وَضم الظَّاء وَمَعْنَاهُ: انتظرني. قَوْله: (حَتَّى أفيض على رَأْسِي) حَتَّى اغْتسل لِأَن إفَاضَة المَاء على الرَّأْس إِنَّمَا تكون غَالِبا فِي الْغسْل. قَوْله: (ثمَّ أخرج) ، بِالنّصب عطف على قَوْله: (حَتَّى أفيض) ، وَأَصله: حَتَّى أَن أفيض، وَقَالَ ابْن التِّين: صَوَابه أفضِ لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر. قَوْله: (فَنزل) أَي: ابْن عمر، كَمَا صرح بِهِ فِي رِوَايَة أُخْرَى على مَا يَأْتِي بعد بَابَيْنِ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَهَذَا يدل على أَنه كَانَ رَاكِبًا. قَوْله: (فَسَار بيني وَبَين أبي) أَي: سَار الْحجَّاج بَين سَالم وَأَبِيهِ عبد الله بن عمر، وَيحْتَمل أَن يَكُونُوا ركبانا، لِأَن السّنة الرّكُوب حِينَئِذٍ لمن لَهُ رَاحِلَة. قَوْله: (وَعجل الْوُقُوف) ، قَالَ أَبُو عمر: رِوَايَة يحيى وَابْن الْقَاسِم وَابْن وهب ومطرف: وَعجل الصَّلَاة، وَقَالَ القعْنبِي وَأَشْهَب: فَأَتمَّ الْخطْبَة وَعجل الْوُقُوف، جعلا مَوضِع الصَّلَاة الْوُقُوف. قَالَ أَبُو عمر: وَهُوَ عِنْدِي غلط، لِأَن أَكثر الروَاة عَن مَالك على خِلَافه. قيل: رِوَايَة القعْنبِي لَهَا وَجه، لِأَن تَعْجِيل الْوُقُوف يسْتَلْزم تَعْجِيل الصَّلَاة، وَمَعَ هَذَا وَافق القعْنبِي عبد الله بن يُوسُف كَمَا ترى، وَقَالَ بَعضهم: الظَّاهِر أَن الِاخْتِلَاف فِيهِ عَن مَالك. قلت: هَذَا لَيْسَ بِظَاهِر، وَمَا الدَّلِيل عَلَيْهِ؟
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: أَن تَعْجِيل الصَّلَاة يَوْم عَرَفَة سنة مجمع عَلَيْهَا فِي أول وَقت الظّهْر، ثمَّ يصلى الْعَصْر بإثر السَّلَام والفراغ. وَفِيه: أَن إِقَامَة الْحَج إِلَى الْخُلَفَاء وَمن جعلُوا ذَلِك إِلَيْهِ، وَهُوَ وَاجِب عَلَيْهِم يقيموا من كَانَ عَالما بِهِ. وَفِيه: الصَّلَاة خلف الْفَاجِر من الْوُلَاة مَا لم تخرجه بدعته عَن الْإِسْلَام. وَفِيه: أَن الرجل الْفَاضِل لَا يُؤَاخذ عَلَيْهِ فِي مَشْيه إِلَى السُّلْطَان الجائر فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ. وَفِيه: أَن تَعْجِيل الرواح للْإِمَام للْجمع بَين الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة فِي أول وَقت الظّهْر سنة. وَفِيه: الْغسْل للوقوف بِعَرَفَة. وَفِيه: خُرُوج الْحجَّاج وَهُوَ محرم وَعَلِيهِ ملحفة معصفرة وَلم يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ ابْن عمر. وَفِيه: حجَّة لمن أجَاز المعصفر للْمحرمِ. وَفِيه: جَوَاز تأمير الْأَدْنَى على الْأَفْضَل والأعلم. وَفِيه: ابْتِدَاء الْعَالم بالفتيا قبل أَن يسْأَل عَنهُ. وَفِيه: الْفَهم بِالْإِشَارَةِ وَالنَّظَر. وَفِيه: أَن اتِّبَاع الشَّارِع هُوَ السّنة وَإِن كَانَ فِي الْمَسْأَلَة أوجه جَائِز غَيرهَا. وَفِيه: فَتْوَى التلميذ بِحَضْرَة أستاذه عِنْد السُّلْطَان وَغَيره. وَفِيه: جَوَاز الذّهاب من الْعَالم إِلَى السُّلْطَان، سَوَاء كَانَ جائرا أَو غير جَائِر، لأجل إرشاده إِيَّاه إِلَى الْخَيْر

(9/302)


وإيقافه على مَا لَا يعلم من السّنة. وَفِيه: صياح الْعَالم عِنْدَمَا كَانَ السُّلْطَان فِيهِ ليسرع إِلَيْهِ فِي الْإِجَابَة. وَفِيه: أَن السُّلْطَان أَو نَائِبه يعْمل فِي الدّين بقول أهل الْعلم وَيرجع إِلَى قَوْلهم. وَفِيه: تَعْلِيم الْفَاجِر السّنَن لمَنْفَعَة النَّاس. وَفِيه: احْتِمَال الْمفْسدَة القليلة لتَحْصِيل الْمصلحَة الْكَبِيرَة، يُؤْخَذ ذَلِك من مُضِيّ ابْن عمر إِلَى الْحجَّاج وتعليمه. وَفِيه: الْحِرْص على نشر الْعلم لانتفاع النَّاس بِهِ. وَفِيه: الْخطْبَة فَعِنْدَ أبي حنيفَة، يخْطب خطبتين بعد الزَّوَال وَبعد الْأَذَان قبل الصَّلَاة كخطبة الْجُمُعَة، وَلَو خطب قبل الزَّوَال جَازَ، وَعند أَصْحَابنَا فِي الْحَج ثَلَاث خطب: أَولهَا: فِي الْيَوْم السَّابِع من ذِي الْحجَّة، وَهُوَ قبل يَوْم التَّرويَة بِيَوْم، يعلم النَّاس فِيهَا الْخُرُوج إِلَى منى. وَالثَّانيَِة: يَوْم عَرَفَة، وَهُوَ التَّاسِع من الشَّهْر يعلم النَّاس فِيهَا مَا يجب من الْوُقُوف بِمُزْدَلِفَة وَرمي الْجمار والنحر وَطواف الزِّيَارَة. وَالثَّالِثَة: بمنى بعد يَوْم النَّحْر، وَهُوَ الْحَادِي عشر من الشَّهْر، يحمد الله ويشكره على مَا وفْق من قَضَاء مَنَاسِك الْحَج، ويحض النَّاس على الطَّاعَات، ويحذرهم عَن اكْتِسَاب الْخَطَايَا، فيفصل بَين كل خطبتين بِيَوْم. وَقَالَ زفر: يخطبها فِي ثَلَاثَة أَيَّام مُتَوَالِيَات: يَوْم التَّرويَة، وَيَوْم عَرَفَة، وَيَوْم النَّحْر. وَعند الشَّافِعِي: فِي الْحَج أَربع خطب مسنونة: إِحْدَاهَا بِمَكَّة يَوْم السَّابِع، وَالثَّانيَِة: يَوْم عَرَفَة وَالثَّالِثَة: يَوْم النَّحْر بمنى، وَالرَّابِعَة: يَوْم النفرالأول بمنى، وَعند مَالك: ثَلَاث خطب، الأولى: يَوْم السَّابِع بِمَكَّة بعد الظّهْر خطْبَة وَاحِدَة وَلَا يجلس فِيهَا. الثَّانِيَة: بِعَرَفَات بعد الزَّوَال بجلسة فِي وَسطهَا. وَالثَّالِثَة: فِي الْيَوْم الْحَادِي عشر. وَعند أَحْمد كَذَلِك ثَلَاث خطب، وَلَا خطْبَة فِي الْيَوْم السَّابِع بِمَكَّة، بل يخْطب بِعَرَفَات بعد الزَّوَال، ثمَّ يخْطب بمنى يَوْم النَّحْر فِي أصح الرِّوَايَتَيْنِ، ثمَّ كَذَلِك ثَانِي أَيَّام منى بعد الظّهْر. وَقَالَ ابْن حزم: خطب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَوْم الْأَحَد ثَانِي يَوْم النَّحْر، وَهُوَ مَذْهَب أبي حنيفَة أَيْضا وَهُوَ يَوْم النَّفر وَفِيه حَدِيث فِي (سنَن أبي دَاوُد) وَآخر فِي (مُسْند أَحْمد) وَالدَّارَقُطْنِيّ، وَقَالَ ابْن حزم: وَقد روى أَيْضا أَنه خطبهم يَوْم الْإِثْنَيْنِ وَهُوَ يَوْم الأكارع، وَأوصى بذوي الْأَرْحَام خيرا. قَالَ ابْن قدامَة: وَرُوِيَ عَن أبي هُرَيْرَة أَنه كَانَ يخْطب الْعشْر كُله، وَرُوِيَ عَن ابْن الزبير كَذَلِك، رَوَاهُ ابْن أبي شيبَة فِي (مُصَنفه) .

88 - (بابُ الوُقُوفِ عَلَى الدَّابةِ بِعَرَفَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان الْوُقُوف رَاكِبًا على الدَّابَّة فِي عَرَفَة.

1661 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ عنْ مالِكٍ عنْ أبي النَّضْرِ عنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ الله ابنِ العبَّاسِ عَن أُمِّ الفَضْلِ بِنْتِ الحَارِثِ أنَّ نَاسا اخْتَلَفُوا عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النبيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقالَ بَعْضُهُمُ هُوَ صَائِمٌ وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَيْسَ بِصَائِمٍ فأرْسَلَتْ إلَيْهِ بِقَدَحِ لَبَنٍ وَهْوَ وَاقِفٌ عَلَى بَعِيرِهِ فَشَرِبَهُ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (وَهُوَ وَاقِف على بعيره) ، وَقد مضى الحَدِيث قبل هَذَا الْبَاب ببابين، فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ: عَليّ بن عبد الله عَن سُفْيَان عَن الزُّهْرِيّ عَن سَالم. . إِلَى آخِره، وَهنا: عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي عَن مَالك عَن أبي النَّضر، بِسُكُون الضَّاد الْمُعْجَمَة. وَهُوَ سَالم بن أبي أُميَّة إِلَى آخِره، فَانْظُر التَّفَاوُت بَينهمَا فِي الْمَتْن والسند، وَلَكِن الْحَاصِل وَاحِد.
قَوْله: (عَن عُمَيْر) ، بِضَم الْعين، وَذكر هُنَاكَ أَنه مولى عبد الله بن عَبَّاس، وَفِي ذَاك الْبَاب قَالَ: مولى أم الْفضل، وَوَجهه أَنه إِمَّا كَانَ مولى لَهما جَمِيعًا، أَو كَانَ مولى لأم الْفضل وَنسب إِلَى عبد الله مجَازًا، أَو بِالْعَكْسِ. وَاسم أم الْفضل: لبَابَة، وَقد مر هُنَاكَ. قَوْله: (فَأرْسلت) بِلَفْظ التَّكَلُّم، وبلفظ الْغَيْبَة، كَمَا فِي ذَاك الْبَاب، كَذَلِك فِي قَوْله: (فَبعثت) .
وَاخْتلف أهل الْعلم أَن الرّكُوب أفضل أَو تَركه بِعَرَفَة، فَذهب الْجُمْهُور إِلَى أَن الرّكُوب أفضل لكَونه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وقف رَاكِبًا، وَلِأَن فِي الرّكُوب عونا على الِاجْتِهَاد فِي الدُّعَاء والتضرع الْمَطْلُوب هُنَاكَ. وَفِيه: قُوَّة، وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ مَالك وَالشَّافِعِيّ، وَعنهُ قَول: إنَّهُمَا سَوَاء. وَفِيه: أَن الْوُقُوف على ظهر الدَّابَّة مُبَاح إِذا كَانَ بِالْمَعْرُوفِ وَلم يجحف بالدابة، وَالنَّهْي الْوَارِد: (لَا تَتَّخِذُوا ظُهُورهَا مَنَابِر) ، مَحْمُول على الْأَغْلَب الْأَكْثَر بِدَلِيل هَذَا الحَدِيث، وَقَالَ ابْن التِّين: من سهل عَلَيْهِ بذل المَال وشق عَلَيْهِ الْمَشْي فمشيه أَكثر أجرا لَهُ، وَمن شقّ عَلَيْهِ

(9/303)


بذله وَسَهل عَلَيْهِ الْمَشْي فركوبه أَكثر أجرا لَهُ، وَهَذَا على اعْتِبَار الْمَشَقَّة فِي الأجور.

98 - (بابُ الجَمْعِ بَيْنَ الصَّلاَتَيْنِ بِعَرَفَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان جَوَاز الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ أَي: الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة يَوْم عَرَفَة، وَلم يبين الحكم اكْتِفَاء بِمَا فِي حَدِيث الْبَاب، أَو لمَكَان الْخلاف فِيهِ، فَإِن مَالِكًا وَالْأَوْزَاعِيّ قَالَا: يجوز الْجمع بِعَرَفَة والمزدلفة لكل أحد، وَهُوَ وَجه للشَّافِعِيَّة، وَقَول أبي يُوسُف وَمُحَمّد، وَعند أبي حنيفَة: لَا يجمع بَينهمَا إلاَّ من صلاهَا مَعَ الإِمَام، وَهُوَ مَذْهَب النَّخعِيّ وَالثَّوْري وَعند الشَّافِعِي وَمَالك وَأحمد، سَبَب هَذَا الْجمع السّفر، حَتَّى لَا يجوز لأهل مَكَّة وَلَا لمن كَانَ مُقيما هُنَاكَ أَن يجمع. وَفِي (الرَّوْضَة) : أما الْحجَّاج من أهل الْآفَاق فَيجْمَعُونَ بَين الظّهْر وَالْعصر بِعَرَفَة فِي وَقت الظّهْر، وَبَين الْمغرب وَالْعشَاء بِمُزْدَلِفَة فِي وَقت الْعشَاء، وَذَلِكَ الْجمع بِسَبَب السّفر على الْمَذْهَب الصَّحِيح، وَقيل: بِسَبَب النّسك، فَإِن قُلْنَا بِالْأولِ فَفِي جمع الْمَكِّيّ قَولَانِ، لِأَن سَفَره قصير وَلَا يجمع الْعرفِيّ بِعَرَفَة وَلَا المزدلفي بِمُزْدَلِفَة لِأَنَّهُ وَطنه، وَهل يجمع كل وَاحِد مِنْهُمَا بالبقعة الْأُخْرَى؟ فِيهِ الْقَوْلَانِ كالمكي، وَإِن قُلْنَا بِالثَّانِي جَازَ الْجمع لجميعهم، وَمن الْأَصْحَاب من يَقُول: فِي جمع الْمَكِّيّ قَولَانِ: الْجَدِيد مَنعه، وَالْقَدِيم جَوَازه، وعَلى الْقَدِيم فِي الْعرفِيّ والمزدلفي وَجْهَان، وَالْمذهب جمعهم على الْإِطْلَاق، وَحكم الْجمع فِي البقعتين حكمه فِي سَائِر الْأَسْفَار، وَيتَخَيَّر فِي التَّقْدِيم وَالتَّأْخِير، وَالِاخْتِيَار التَّقْدِيم بِعَرَفَة وَالتَّأْخِير بِمُزْدَلِفَة.
وَكَانَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا إذَا فاتَتْهُ الصَّلاَةُ معَ الإمَامِ جمَعَ بَيْنَهُمَا

مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة، فَإِن فِيهِ الْجمع بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَهَذَا تَعْلِيق وَصله إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي الْمَنَاسِك لَهُ، قَالَ: حَدثنَا الحوضي عَن همام أَن نَافِعًا حَدثهُ أَن ابْن عمر كَانَ إِذا لم يدْرك الإِمَام يَوْم عَرَفَة جمع بَين الظّهْر وَالْعصر فِي منزله، وَأخرجه الثَّوْريّ فِي (جَامعه) بِرِوَايَة عبد الله بن الْوَلِيد الْعَدنِي عَنهُ عَن عبد الْعَزِيز بن أبي رواد عَن نَافِع مثله، وَأخرجه ابْن الْمُنْذر من هَذَا الْوَجْه.
وقالَ اللَّيْثُ حدَّثني عُقَيْلٌ عنِ ابنِ شِهَابٍ قَالَ أخْبَرنِي سَالِمٌ أنَّ الحَجَّاجَ بنَ يُوسُفَ عامَ نَزَلَ بابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِي الله تَعَالَى عنهُمَا سَألَ عَبْدَ الله رَضِي الله تَعَالَى عنهُ كَيْفَ تَصْنعُ فِي المَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ سالِمٌ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فهَجِّرْ بِالصَّلاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ فقالَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ صَدَقَ إنَّهُم كانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ والْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ فقُلْتُ لِسالِمٍ أفعَلَ ذَلِكَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ سالِمٌ وهَلْ تَتَّبِعُونَ فِي ذالِكَ إلاَّ سُنَّتَهُ. مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانُوا يجمعُونَ بَين الظّهْر وَالْعصر) ، وَاللَّيْث هُوَ ابْن سعد، وَعقيل بِضَم الْعين ابْن خَالِد الْأَيْلِي، وَابْن شهَاب هُوَ مُحَمَّد بن مُسلم الزُّهْرِيّ، وَسَالم هُوَ ابْن عبد الله بن عمر. وَهَذَا تَعْلِيق وَصله الْإِسْمَاعِيلِيّ من طَرِيق يحيى بن بكير وَأبي صَالح جَمِيعًا عَن اللَّيْث.
قَوْله: (عَام نزل بِابْن الزبير) ، وَهُوَ عبد الله بن الزبير، وَكَانَ نُزُوله فِي سنة ثَلَاث وَسبعين. قَوْله: (سَأَلَ عبد الله) ، أَي سَأَلَ الْحجَّاج عبد الله بن عمر. قَوْله: (فهجِّر) أَمر من التهجير أَي: صلِّ بالهاجرة، وَهِي شدَّة الْحر. قَوْله: (فِي السّنة) ، بِضَم السِّين وَتَشْديد النُّون أَي: سنة النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَمحل هَذِه نصب على الْحَال من فَاعل: يجمعُونَ، أَي: متوغلين فِي السّنة، إِنَّمَا قَالَ ذَلِك تعريضا بالحجاج. وَقَالَ الْكرْمَانِي: مَا وَجه مُطَابقَة كَلَام عبد الله لكَلَام وَلَده سَالم؟ ثمَّ أجَاب بقوله، لَعَلَّه أَرَادَ من الصَّلَاة صَلَاة الظّهْر وَالْعصر كليهمَا، فَكَأَنَّهُ أَمر بتهجير الصَّلَاتَيْنِ، فَصدقهُ عبد الله فِي ذَلِك. قَوْله: (فَقلت لسالم) الْقَائِل هُوَ ابْن شهَاب. قَوْله: (أفعل ذَلِك؟) الْهمزَة فِيهِ للاستفهام. قَوْله: (وَهل تتبعون؟) بتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق وَكسر الْبَاء الْمُوَحدَة بعْدهَا عين مُهْملَة: من الِاتِّبَاع، هَكَذَا هُوَ فِي رِوَايَة الْأَكْثَرين، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: تَبْتَغُونَ، بِفَتْح التائين المثناتين من فَوق بَينهمَا بَاء مُوَحدَة وبالغين الْمُعْجَمَة: من الابتغاء، وَهُوَ الطّلب. قَوْله: (فِي ذَلِك) أَي: فِي ذَلِك الْفِعْل، وَفِي رِوَايَة

(9/304)


الْحَمَوِيّ بِحَذْف كلمة: فِي، وَهِي مقدرَة، ويروى بذلك، وَقَالَ الْكرْمَانِي: أَي فِي الْجمع أَو التهجير.

09 - (بابُ قَصْرِ الخُطْبَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان قصر الْخطْبَة فِي يَوْم عَرَفَة.

3661 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ مَسْلَمَةَ أخبرنَا مالِكٌ عنِ ابنِ شِهابٍ عنْ سَالمِ بنِ عبد الله أنَّ عبدَ المَلِكِ بنَ مَرْوَانَ كتبَ إلَى الحَجَّاجِ أنْ يَأتَمَّ بِعَبْدِ الله بنِ عُمَرَ فِي الحَجِّ فلَمَّا كانَ يَوْمَ عرَفَةَ جاءَ ابنُ عُمرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا وَأَنا معَهُ حِينَ زَاغَتِ الشَّمْسُ أوْ زَالَتْ فَصَاحَ عِنْدَ فُسْطاطهِ أيْنَ هاذا فخَرجَ إلَيْهِ فقالَ ابنُ عُمَرَ فَقَالَ الْآن قَالَ نَعَمْ قَالَ أنْظُرْني أُفِيضُ علَيَّ مَاء فنزَلَ ابنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا حَتى خرجَ الحَجَّاجُ فسَارَ بَيْني وبيْنَ أبي فقُلْتُ إنْ كُنْتَ تُرِيدُ أنْ تُصِيبَ السُّنَّةَ اليَوْمَ فاقْصُرْ الخُطْبَةَ وعَجِّلْ الوُقوفَ فَقَالَ ابنُ عُمرَ صَدَقَ.
(انْظُر الحَدِيث 0661 وطرفه) .
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فاقصر الْخطْبَة) ، وَهَذَا الحَدِيث قد مضى عَن قريب فِي: بَاب التهجير بالرواح يَوْم عَرَفَة فَإِنَّهُ أخرجه هُنَاكَ عَن عبد الله بن يُوسُف عَن مَالك، وَهنا عَن عبد الله بن مسلمة القعْنبِي عَن مَالك، وَقد مر الْكَلَام فِيهِ مُسْتَوفى هُنَاكَ.
قَوْله: (أَن يأتم) أَي: يقْتَدى. قَوْله: (زاغت) أَي: مَالَتْ. قَوْله: (أَو زَالَت) شكّ من الرَّاوِي. قَوْله: (عِنْد فسطاطه) وَهُوَ بَيت من شعر، وَفِيه لُغَات تقدّمت. قَوْله: (أفيض) ، هُوَ اسْتِئْنَاف كَلَام، ويروى: أفض، بِالْجَزْمِ لِأَنَّهُ جَوَاب الْأَمر، قَوْله: (إِن كنت تُرِيدُ) الْخطاب للحجاج، ويروي: لَو كنت، فكلمة: لَو، على هَذِه بِمَعْنى: أَن، يَعْنِي لمُجَرّد الشّرطِيَّة بِدُونِ مُلَاحظَة الِامْتِنَاع. فَافْهَم.

(بابُ التَّعْجِيلِ إِلَى المَوْقِفِ)
هَكَذَا وَقع هَذَا الْبَاب بِهَذِهِ التَّرْجَمَة عِنْد الْأَكْثَرين بِغَيْر حَدِيث فِيهِ، وَسقط من رِوَايَة أبي ذَر أصلا، وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَاعْلَم أَنه وَقع فِي بعض النّسخ هُنَا زِيَادَة: وَهُوَ بَاب التَّعْجِيل إِلَى الْموقف، وَقَالَ أَبُو عبد الله: يُرَاد فِي هَذَا الْبَاب: هَمْ هَذَا الحَدِيث حَدِيث مَالك عَن ابْن شهَاب، وَلَكِنِّي لَا أُرِيد أَن أَدخل فِيهِ معادا، أَقُول: هَذَا تَصْرِيح من البُخَارِيّ بِأَنَّهُ لم يعد حَدِيثا فِي هَذَا الْجَامِع وَلم يُكَرر شَيْئا مِنْهُ، وَمَا اشْتهر أَن نصفه تَقْرِيبًا مُكَرر، فَهُوَ قَول إقناعي على سَبِيل الْمُسَامحَة، وَأما عِنْد التَّحْقِيق فَهُوَ لَا يَخْلُو إِمَّا من تَقْيِيد أَو إهمال أَو زِيَادَة أَو نُقْصَان أَو تفَاوت فِي الْإِسْنَاد وَنَحْوه، وَكلمَة: هم، بِفَتْح الْهَاء وَسُكُون الْمِيم، قيل: إِنَّهَا فارسية، وَقيل: عَرَبِيَّة، وَمَعْنَاهَا قريب من معنى لفظ أَيْضا. انْتهى. قلت: أَرَادَ بقوله: وَقَالَ أَبُو عبد الله البُخَارِيّ نَفسه لِأَن كنيته أَبُو عبد الله قَوْله: (هَذَا الحَدِيث) أَرَادَ بِهِ حَدِيث مَالك الَّذِي رَوَاهُ عَن مُحَمَّد بن مُسلم بن شهَاب الزُّهْرِيّ، وَهُوَ الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ من طَرِيقين: أَحدهمَا: طَرِيق عبد الله بن يُوسُف. وَالْآخر: طَرِيق عبد الله بن مسلمة كِلَاهُمَا عَن مَالك. وَقَوله: (معادا) أَي: مكررا، وَحَاصِل هَذَا الْكَلَام أَنه قَالَ: زِيَادَة الحَدِيث الْمَذْكُور وَكَانَت مُنَاسبَة أَن تدهل فِي هَذَا الْبَاب، أَعنِي بَاب التَّعْجِيل إِلَى الْموقف، وَلَكِنِّي مَا أدخلته فِيهِ لِأَنِّي لَا أَدخل فِيهِ مكررا، وَكَأَنَّهُ لم يظفر بطرِيق آخر فِيهِ غير الطَّرِيقَيْنِ الْمَذْكُورين، فَلذَلِك لم يدْخلهُ، وَهَذَا يدل على أَنه لَا يُعِيد حَدِيثا وَلَا يكرره فِي هَذَا الْكتاب إلاَّ لفائدة من جِهَة الْإِسْنَاد، أَو من جِهَة الْمَتْن، قَالَ: وَإِن وَقع شَيْء خَارج من ذَلِك يكون اتفاقيا لَا قصدا، وَمَعَ ذَلِك فَهُوَ نَادِر قَلِيل الْوُقُوع، وَأما قَول الْكرْمَانِي، وَكلمَة هم ... إِلَى رخره، فَهُوَ تصرف من عِنْده، تصرف فِيهَا حِين وقف على النُّسْخَة الَّتِي قَالَ فِيهَا: وَقع فِي بعض النّسخ، وَنقل عَنْهَا أَنه قَالَ: هم هَذَا الحَدِيث، وَالظَّاهِر أَنه وَقع مِنْهُ هَذِه اللَّفْظَة فِي كَلَامه من غير قصد، فَنقل مِنْهُ على هَذَا الْوَجْه، وَأَن هَذِه اللَّفْظَة فارسية وَلَيْسَت بعربية. وَالله تَعَالَى أعلم.

(9/305)


بِسم الله الرحمان الرَّحِيم
19 - (بابُ الوُقُوفِ بِعَرَفَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان أَن الْوُقُوف إِنَّمَا يكون بِعَرَفَة دون غَيرهَا من الْمَوَاضِع، وَذَلِكَ أَن قُريْشًا كَانُوا يَقُولُونَ: نَحن أهل الله فَلَا نخرج من الْحرم، وَكَانَ غَيرهم يقفون بِعَرَفَة وعرفة خَارج الْحرم فَبين الله تَعَالَى فِي قَوْله: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . إِن الْإِفَاضَة إِنَّمَا تكون من موقف عَرَفَة الَّذِي كَانَ يقف فِيهِ سَائِر النَّاس دون غَيره من موقف قُرَيْش عِنْد الْمشعر الْحَرَام، وَكَانُوا يَقُولُونَ، عزتنا بِالْحرم وسكنانا فِيهِ، وَنحن جيران الله فَلَا نرى الْخُرُوج عَنهُ إِلَى الْحل عِنْد وقوفنا فِي الْحَج، فَلَا نفارق عزنا وَمَا حرم الله تَعَالَى بِهِ أَمْوَالنَا ودماءنا، وَكَانَت طوائف الْعَرَب يقفون فِي موقف إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من عَرَفَة، وَكَانَ وقُوف النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَيْضا فِي موقف إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي تَوْفِيقًا من الله تَعَالَى لَهُ على ذَلِك.

4661 - حدَّثنا عَلِيُّ بنُ عَبْدِ الله قَالَ حدَّثنا سُفْيانُ قَالَ حدَّثنا عَمْرٌ وَقَالَ حدَّثنا مُحَمَّدُ بنُ جُبَيْرِ ابنِ مُطْعِمٍ عنْ أبيهِ قَالَ كُنْتُ أطْلُبُ بَعِيرا لي (ح) وحدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا سُفيَانُ عَنْ عَمْرٍ ووسَمِعَ مُحَمَّدَ بنَ جُبَيْرِ بنِ مُطْعَمٍ قَالَ أضْلَلْتُ بَعِيرا لِي فَذَهَبْتُ أطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَرَأيْتُ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاقِفا بِعَرَفَةَ فَقُلْتُ هاذا وَالله مِنَ الخُمْسِ فَما شَأنُهُ هاهُنا.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَرَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَاقِفًا بِعَرَفَة) .
ذكر رِجَاله: وهم سِتَّة: الأول: عَليّ بن عبد الله الْمَعْرُوف بِابْن الْمَدِينِيّ. الثَّانِي: سُفْيَان بن عُيَيْنَة. الثَّالِث: عَمْرو بن دِينَار. الرَّابِع: مُحَمَّد بن جُبَير بن مطعم. الْخَامِس: حبير، بِضَم الْجِيم وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره رَاء: ابْن مطعم، بِضَم الْمِيم إسم فَاعل من الْإِطْعَام ابْن عدي ابْن نَوْفَل الْقرشِي النَّوْفَلِي الصَّحَابِيّ، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ. السَّادِس: مُسَدّد بن مسرهد، وَالْكل قد ذكرُوا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: إسنادان: أَحدهمَا عَن عَليّ بن عبد الله، وَفِيه: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: العنعنة فِي مَوضِع وَاحِد. وَالْآخر عَن مُسَدّد فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: السماع. وَفِيه: القَوْل
ذكر من أخرجه غَيره أخرجه مُسلم فِي الْحَج عَن أبي بكر وَعَمْرو النَّاقِد. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن قُتَيْبَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (أضللت بَعِيرًا لي) ، هَكَذَا فِي رِوَايَة الْكشميهني، وَفِي رِوَايَة غَيره: (أضللت بَعِيرًا) ، بِدُونِ كلمة: لي، يُقَال: أضلّهُ إِذا أضاعه، وَقَالَ ابْن السّكيت: أضللت بَعِيري إِذا ذهب مِنْك. قَوْله: (يَوْم عَرَفَة) أَي: فِي يَوْم عَرَفَة. فَإِن قلت: إضلاله بعيره كَانَ فِي يَوْم عَرَفَة أَو طلبه؟ قلت: طلبه كَانَ فِي يَوْم عَرَفَة فَإِن جُبَير بن مطعم إِنَّمَا جَاءَ إِلَى عَرَفَة ليطلب بعيره لَا ليقف بهَا، وَيُؤَيّد هَذَا مَا رَوَاهُ الْحميدِي فِي مُسْنده: (أضللت بَعِيرًا لي يَوْم عَرَفَة فَخرجت أطلبه بِعَرَفَة) .

(10/2)


وَمن طَرِيقه رَوَاهُ أَبُو نعيم. قَوْله: (فَقلت) ، قَائِله جُبَير، وَأَشَارَ بقوله هَذَا إِلَى النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حِين رَآهُ وَاقِفًا بِعَرَفَة، فَقَالَ: هَذَا وَالله من الحمس، يَعْنِي: هُوَ من الحمس، بِضَم الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الْمِيم وَفِي آخِره سين مُهْملَة، جمع الأحمس، وَفِي اللُّغَة: الأحمس الشَّديد والمشدد على نَفسه فِي الدّين يُسمى أحمس، والحماسة الشدَّة فِي كل شَيْء، قَالَه ابْن سَيّده. وَيُقَال لَهُ: المتحمس أَيْضا. وَفِي (الصِّحَاح) : حمس بِالْكَسْرِ فَهُوَ حمس وأحمس بيِّن الحمس. وَفِي (الموعب) عَن ابْن دُرَيْد: الحمس، بِالْفَتْح التشدد فِي الْأَمر، وَبِه سميت قُرَيْش وخزاعة وَبَنُو عَامر بن صعصعة وَقوم من كنَانَة، وَقَالَ غَيره: الحمس قُرَيْش وَمن ولدت من غَيرهَا، وَقيل: قُرَيْش وَمن ولدت وأحلافها، وَقيل: قُرَيْش وَمن ولدت من قُرَيْش وكنانة وجديلة قيس، وَكَانُوا إِذا أنكحوا امْرَأَة مِنْهُم غَرِيبا اشترطوا عَلَيْهِ أَن وَلَدهَا على دينهم، وَدخل فِي هَذَا الِاسْم من غير قُرَيْش ثَقِيف وَلَيْث بن بكر وخزاعة وَبَنُو عَامر بن صعصعة. وَقَالَ ابْن إِسْحَاق وَكَانَت قُرَيْش، لَا أَدْرِي قبل الْفِيل أَو بعده، ابتدعت أَمر الحمس رَأيا رَأَوْهُ فتركوا الْوُقُوف على عَرَفَة، والإفاضة مِنْهَا، وهم يعْرفُونَ ويقرون أَنَّهَا من المشاعر وَالْحج، إلاَّ أَنهم قَالُوا: نَحن أهل الْحرم نَحن الحمس، والحمس أهل الْحرم. قَالُوا: وَلَا يَنْبَغِي للحمس أَن يأتقطوا الأقط وَلَا يسلوا السّمن، وهم حرم، وَلَا يدخلُوا بَيْتا من شعر، وَلَا يستظلوا إِن استظلوا إلاَّ فِي بيُوت الْأدم مَا كَانُوا حرما، ثمَّ قَالُوا: لَا يَنْبَغِي لأهل الْحل أَن يَأْكُلُوا من طَعَام جاؤا بِهِ مَعَهم من الْحل إِلَى الْحرم إِذا جاؤا حجاجا أَو عمارا، وَلَا يطوفون بِالْبَيْتِ إِذا قدمُوا أول طوافهم إلاَّ فِي ثِيَاب الحمس. وَقَالَ السُّهيْلي: كَانُوا ذَهَبُوا فِي ذَلِك مَذْهَب الترهب والتأله، فَكَانَت نِسَاؤُهُم لَا ينسجن الشّعْر وَلَا الْوَبر. وَعَن إِبْرَاهِيم الْحَرْبِيّ فِي (غَرِيب الحَدِيث) : كَانُوا أَي قُرَيْش إِذا أهلوا بِحَجّ أَو عمْرَة لَا يَأْكُلُون لَحْمًا، وَإِذا قدمُوا مَكَّة وضعُوا ثِيَابهمْ الَّتِي كَانَت عَلَيْهِم، وَرُوِيَ عَنهُ أَيْضا: سموا الْكَعْبَة بحمساء لِأَنَّهَا حمساء، حجرها أَبيض يضْرب إِلَى السوَاد. قَوْله: (فَمَا شَأْنه؟) هَذَا تعجب من جُبَير بن مطعم وإنكار مِنْهُ لما رأى النَّبِي، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاقِفًا بِعَرَفَة، فَقَالَ: هُوَ من الحمس، فَمَا باله يقف بِعَرَفَة والحمس لَا يقفون بهَا؟ لأَنهم لَا يخرجُون من الْحرم. وَقَالَ الْكرْمَانِي: وَقْفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة كَانَت سنة عشر، وَجبير بن مطعم كَانَ مُسلما، لِأَنَّهُ أسلم يَوْم الْفَتْح، بل عَام خَيْبَر، فَمَا وَجه سُؤَاله إنكارا أَو تَعَجبا؟ ثمَّ أجَاب بقوله: لَعَلَّه لم يبلغ إِلَيْهِ فِي ذَلِك الْوَقْت قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . أولم يكن السُّؤَال ناشئا عَن الْإِنْكَار والتعجب، بل أَرَادَ بِهِ السُّؤَال عَن حِكْمَة الْمُخَالفَة عَمَّا كَانَت الحمس عَلَيْهِ، أَو كَانَ لرَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَقْفَة بهَا قبل الْهِجْرَة. انْتهى. قلت: حج رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قبل النُّبُوَّة وَبعدهَا غير مرّة، وَأما بعد الْهِجْرَة فَلم يحجّ إلاَّ مرّة وَاحِدَة، وروى ابْن خُزَيْمَة وَإِسْحَاق بن رَاهَوَيْه من طَرِيق ابْن إِسْحَاق: حَدثنِي عبد الله بن أبي بكر عَن عُثْمَان عَن أبي سُلَيْمَان عَن عَمه نَافِع بن جُبَير عَن أَبِيه، قَالَ: كَانَت قُرَيْش إِنَّمَا تدفع من الْمزْدَلِفَة وَيَقُولُونَ: نَحن الحمس فَلَا نخرج من الْحرم، وَقد تركُوا الْموقف بِعَرَفَة، قَالَ: (فَرَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي الْجَاهِلِيَّة يقف مَعَ النَّاس بِعَرَفَة على جمل لَهُ، ثمَّ يصبح مَعَ قومه بِالْمُزْدَلِفَةِ فيقف مَعَهم وَيدْفَع إِذا دفعُوا) ، وَلَفظ يُونُس بن بكير عَن ابْن إِسْحَاق فِي الْمَغَازِي مُخْتَصرا، وَفِيه (رَأَيْت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَائِما مَعَ النَّاس قبل أَن ينزل عَلَيْهِ الْوَحْي تَوْفِيقًا من الله تَعَالَى لَهُ) . وَأخرجه إِسْحَاق أَيْضا عَن الْفضل بن مُوسَى عَن عُثْمَان بن الْأسود عَن عَطاء عَن جُبَير بن مطعم، قَالَ: أضللت حمارا لي فِي الْجَاهِلِيَّة فَوَجَدته بِعَرَفَة، فَرَأَيْت رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وَاقِفًا بِعَرَفَات مَعَ النَّاس، فَلَمَّا أسلمت عرفت أَن الله وَفقه لذَلِك.

5661 - حدَّثنا فَرْوَةُ بنُ أبِي المَغْرَاءِ قَالَ حدَّثنا عَلِيُّ بنُ مُسْهِرٍ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ كانَ الناسُ يَطُوفُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إلاَّ الحُمْسَ والحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا ولَدَتْ وكانَتِ الحُمْسُ يحتَبِسُونَ علَى النَّاسِ يُعطي الرجلُ الرَّجلَ الثِّيابَ يَطُوفُ فِيهَا وتُعْطِي المرْأةُ المرأةَ الثِّيابَ تَطوفُ فِيهَا فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الحُمْسُ طافَ بالْبَيْتِ عُرْيانا وكانَ يُفِيضُ جَماعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفاتٍ ويُفِيضُ الحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ قَالَ وأخبرَنِي أبِي عنْ عائِشَةَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أنَّ هذِهِ الآيَةَ نزَلَتْ فِي الحُمْسِ

(10/3)


ثُمَّ أفِيضُوا مِنْ حَيثُ أفَاضَ النَّاسُ قَالَ كانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فدُفِعُوا إلَى عَرَفاتٍ.
(الحَدِيث 5661 طرفه فِي: 0254) .
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . لِأَن الْأَمر بالإفاضة من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس لَا يكون إلاَّ بعد الْوُقُوف بِعَرَفَة، فصاروا مأمورين بِالْوُقُوفِ فِي عَرَفَة.
ذكر رِجَاله: وهم خَمْسَة: الأول: فَرْوَة، بِفَتْح الْفَاء وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْوَاو: ابْن أبي المغراء، بِفَتْح الْمِيم وَسُكُون الْغَيْن الْمُعْجَمَة وبالراء وبالمد، مر فِي آخر الْجَنَائِز. الثَّانِي: عَليّ بن مسْهر، بِضَم الْمِيم وَسُكُون السِّين الْمُهْملَة وَكسر الْهَاء وبالراء: قَاضِي الْموصل، مر فِي: بَاب مُبَاشرَة الْحَائِض. الثَّالِث: هِشَام بن عُرْوَة وَقد تكَرر ذكره الرَّابِع: عُرْوَة بن الزبير. الْخَامِس: أم الْمُؤمنِينَ عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي موضِعين. وَفِيه: القَوْل فِي موضِعين. وَفِيه: أَن شَيْخه من أَفْرَاده وَأَنه وَابْن مسْهر كوفيان، وَأَن هشاما وأباه عُرْوَة مدنيان. وَفِيه: أَن من قَوْله: (قَالَ عُرْوَة) إِلَى قَوْله: (وَأَخْبرنِي. .) مَوْقُوف وَمن قَوْله وَأَخْبرنِي إِلَى آخِره، مُتَّصِل. وَفِيه: قَالَ عُرْوَة، وَفِي رِوَايَة عبد الرَّزَّاق عَن معمر: عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (عُرَاة) ، جمع عارٍ، كقضاة جمع قاضٍ، وانتصابه على الْحَال من الضَّمِير الَّذِي فِي يطوفون، وَقد مر تَفْسِير الحمس عَن قريب. قَوْله: (وَمَا ولدت) أَي: وَأَوْلَادهمْ، وَاخْتَارَ كلمة: مَا، على كلمة: من، لعمومه. وَقيل: المُرَاد بِهِ والدهم وَهُوَ كنَانَة، لِأَن الصَّحِيح أَن قُريْشًا هم أَوْلَاد النَّضر بن كنَانَة، وَزَاد معمر هُنَا: وَكَانَ مِمَّن ولدت قُرَيْش خُزَاعَة وَبَنُو كنَانَة وَبَنُو عَامر بن صعصعة. وَعَن مُجَاهِد أَن مِنْهُم أَيْضا عدوان وَغَيرهم. قَوْله: (ويحتسبون) أَي: يُعْطون النَّاس الثِّيَاب حسبَة لله تَعَالَى. قَوْله: (يفِيض) ، أَصله من إفَاضَة المَاء وَهُوَ صبه بِكَثْرَة. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ، أَفَضْتُم دفعتم من كَثْرَة المَاء. قَوْله: (جمَاعَة النَّاس) أَي: غير الحمس. قَوْله: (من عَرَفَات) ، هُوَ علم للموقف، وَهُوَ منصرف إِذْ لَا تَأْنِيث فِيهَا. قَالَه الْكرْمَانِي: وَالتَّحْقِيق فِيهِ مَا قَالَه الزَّمَخْشَرِيّ. فَإِن قلت: هلا منعت الصّرْف وَفِيه السببان التَّعْرِيف والتأنيث؟ قلت: لَا يَخْلُو التَّأْنِيث، إِمَّا أَن يكون بِالتَّاءِ الَّتِي فِي لَفظهَا، وَإِمَّا بتاء مقدرَة كَمَا فِي سعاد، فالتي فِي لفها لَيست للتأنيث، وَإِنَّمَا هِيَ مَعَ الْألف الَّتِي قبلهَا عَلامَة جمع الْمُؤَنَّث، وَلَا يَصح تَقْدِير التَّاء فِيهَا، لِأَن هَذِه التَّاء لاختصاصها بِجمع الْمُؤَنَّث مَانِعَة من تقديرها كَمَا لَا تقدر تَاء التَّأْنِيث فِي بنت، لِأَن التَّاء الَّتِي هِيَ بدل من الْوَاو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنييث، فَأَبت تقديرها. انْتهى. وَسميت عَرَفَات بِهَذَا الإسم إِمَّا لِأَنَّهَا وصفت لإِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،، فَلَمَّا بصرها عرفهَا. أَو لِأَن جِبْرِيل، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، حِين كَانَ يَدُور بِهِ فِي المشاعر أرَاهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ: قد عرفت. أَو لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، هَبَط من الْجنَّة بِأَرْض الْهِنْد، وحواء، عَلَيْهَا السَّلَام، بجذة، فَالْتَقَيَا ثمَّة فتعارفا أَو لِأَن النَّاس يَتَعَارَفُونَ بهَا. أَو لِأَن إِبْرَاهِيم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عرف حَقِيقَة رُؤْيَاهُ فِي ذبح وَلَده ثمَّة أَو لِأَن الْخلق يعترفون فِيهَا بِذُنُوبِهِمْ. أَو لِأَن فِيهَا جبالاً، والجيال هِيَ الْأَعْرَاف، وكل عَال فَهُوَ عرف. قَوْله: (من جمع) ، بِفَتْح الْجِيم وَسُكُون الْمِيم: هِيَ الْمزْدَلِفَة، وَسمي بِهِ لِأَن آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، اجْتمع فِيهَا مَعَ حَوَّاء، عَلَيْهَا السَّلَام، وازدلف إِلَيْهَا أَي: دنا مِنْهَا أَو لِأَنَّهُ يجمع فِيهَا بَين الصَّلَاتَيْنِ، وَأَهْلهَا يزدلفون أَي: يَتَقَرَّبُون إِلَى الله تَعَالَى بِالْوُقُوفِ فِيهَا. قلت: أَصْلهَا مزتلفة لِأَنَّهَا من زلف، فقلبت التَّاء دَالا لأجل الزَّاي. قَوْله: (قَالَ: وَأَخْبرنِي أبي) أَي: قَالَ هِشَام: وَأَخْبرنِي أبي عُرْوَة عَن عَائِشَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا. قَوْله: (إِن هَذِه الْآيَة) أَي: قَوْله: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . وَاخْتلف أهل التَّفْسِير فِي هَذِه الْآيَة، فَقَالَ الضَّحَّاك: يُرِيد إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ السَّلَام، يَعْنِي: يُرِيد من النَّاس إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَيُؤَيّد مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا قُتَيْبَة حَدثنَا سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن عَمْرو بن دِينَار عَن عَمْرو بن عبد الله بن صَفْوَان عَن يزِيد ابْن شَيبَان، قَالَ: أَتَانَا ابْن مربع الْأنْصَارِيّ، وَنحن وقُوف بالموقف، مَكَانا يباعده عَمْرو، فَقَالَ: إِن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَقُول: كونُوا على مشاعركم فَإِنَّكُم على إِرْث من إِرْث إِبْرَاهِيم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، وَقَالَ: حَدِيث حسن صَحِيح، وَاسم ابْن مربع: زيد، وَقيل: يزِيد، وَقيل: عبد الله بن مربع، بِكَسْر الْمِيم وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْبَاء الْمُوَحدَة وَفِي آخِره عين مُهْملَة. وَيزِيد بن شَيبَان أزدي وَله صُحْبَة. قَوْله: (كونُوا على مشاعركم) أَي: على مَوَاضِع الْمَنَاسِك، وَفِي رِوَايَة أبي دَاوُد: (قفوا على مشاعركم) ، وَفِي رِوَايَة حُسَيْن بن عقيل عَن الضَّحَّاك: (من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس) ، أَي: الإِمَام، وَقيل: آدم، عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام،

(10/4)


وَيُؤَيِّدهُ قِرَاءَة النَّاس: وَهُوَ آدم، عَلَيْهِ السَّلَام من قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم من قبل فنسي} (طه: 511) . وَقيل: {من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . أَي: سَائِر النَّاس غير الحمسن. وَقَالَ ابْن التِّين: وَهُوَ الصَّحِيح، وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيّ فَإِن قلت: فَكيف موقع: ثمَّ، يَعْنِي فِي قَوْله: {ثمَّ أفيضوا} (الْبَقَرَة: 991) . لِأَن ثمَّ تَقْتَضِي المهلة؟ قَالَ تَعَالَى: {فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام} (الْبَقَرَة: 991) . ثمَّ قَالَ: {ثمَّ أفيضوا} (الْبَقَرَة: 991) . والإفاضة من عَرَفَات قبل الْمَجِيء إِلَى الْمشعر الْحَرَام. وَأجَاب الزَّمَخْشَرِيّ: بِأَن موقع: ثمَّ، نَحْو موقعها فِي قَوْلك: أحسن إِلَى النَّاس ثمَّ لَا تحسن إِلَى غير كريم، تَأتي بثم لتَفَاوت مَا بَين الْإِحْسَان إِلَى الْكَرِيم وَالْإِحْسَان إِلَى غَيره، وَبَعْدَمَا بَينهمَا، فَكَذَلِك حِين أَمرهم بِالذكر عِنْد الْإِفَاضَة من عَرَفَات. قَالَ: {ثمَّ أفيضوا} (الْبَقَرَة: 991) . لتَفَاوت مَا بَين الإفاضتين وَأَن إِحْدَاهمَا صَوَاب وَالثَّانيَِة خطأ، وَأجَاب غَيره بِأَن: ثمَّ، بِمَعْنى الْوَاو، وَاخْتَارَهُ الطَّحَاوِيّ. وَقيل: لقصد التَّأْكِيد لَا لمحض التَّرْتِيب، وَالْمعْنَى: فَإِذا أَفَضْتُم من عَرَفَات فاذكروا الله عِنْد الْمشعر الْحَرَام، ثمَّ اجعلوا الْإِفَاضَة الَّتِي تفيضونها من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس، لَا من حَيْثُ كُنْتُم تفيضون. وَقَالَ الْخطابِيّ: تضمن قَوْله تَعَالَى: {ثمَّ أفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس} (الْبَقَرَة: 991) . الْأَمر بِالْوُقُوفِ بِعَرَفَة، لِأَن الْإِفَاضَة إِنَّمَا تكون عَن اجْتِمَاع قبله. قَوْله: (فدفعوا إِلَى عَرَفَات) بِلَفْظ الْمَجْهُول أَي: أمروا بالذهاب إِلَى عَرَفَات حَيْثُ قيل لَهُم: ثمَّ أفيضوا، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: (فَرفعُوا) بالراء، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق أبي أُسَامَة عَن هِشَام رجعُوا إِلَى عَرَفَات، وَالْمعْنَى: أَنهم أمروا أَن يتوجهوا إِلَى عَرَفَات ليقفوا بهَا ثمَّ يفيضوا مِنْهَا.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: الْوُقُوف بِعَرَفَة وَهُوَ من أعظم أَرْكَان الْحَج، ثَبت ذَلِك بِفعل النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقَوله. أما فعله: فروى الإِمَام أَحْمد: حَدثنَا روح حَدثنَا زَكَرِيَّاء بن إِسْحَاق أخبرنَا إِبْرَاهِيم بن ميسرَة أَنه سمع يَعْقُوب بن عَاصِم بن عُرْوَة يَقُول: سَمِعت الشريد يَقُول: أشهد لوقفت مَعَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَات، قَالَ: فَمَا مست قدماه اورض حَتَّى أَتَى جمعا، والشريد بِفَتْح الشين الْمُعْجَمَة وَكسر الرَّاء: ابْن سُوَيْد الثَّقَفِيّ، وَقَالَ الطَّبَرِيّ: حَدثنَا ابْن حميد حَدثنَا جرير عَن عَطاء بن السَّائِب عَن عبد الله بن ربيعَة عَن أَبِيه، رجل من قُرَيْش، قَالَ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يقف بِعَرَفَة مَوْضِعه الَّذِي رَأَيْته يقف فِيهِ فِي الْجَاهِلِيَّة. وَأما قَوْله: فَرَوَاهُ التِّرْمِذِيّ من حَدِيث عَليّ بن أبي طَالب، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، قَالَ: (وقف رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِعَرَفَة فَقَالَ: هَذِه عَرَفَة وَهُوَ الْموقف، وعرفة كلهَا موقف) الحَدِيث.
وروى ابْن حبَان فِي (صَحِيحه) من حَدِيث جُبَير بن مطعم، قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: (كل عَرَفَات موقف، فارفعوا عَن عُرَنَة، وكل مُزْدَلِفَة موقف فارفعوا عَن محسر، وكل أَيَّام منى منحر وَفِي كل أَيَّام التَّشْرِيق ذبح) . وَفِي هَذِه الْأَحَادِيث تعْيين عَرَفَة للوقوف، وَأَنه لَا يَجْزِي الْوُقُوف بغَيْرهَا، وَهُوَ قَول أَكثر أهل الْعلم. وَحكى ابْن الْمُنْذر عَن مَالك أَنه يَصح الْوُقُوف بعرنة، بِضَم الْعين وَالنُّون، والْحَدِيث الْمَذْكُور حجَّة عَلَيْهِ، وحد عَرَفَة مَا رَوَاهُ الْأَزْرَقِيّ فِي (تَارِيخ مَكَّة) بِإِسْنَادِهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، قَالَ: حد عَرَفَة من قبل الْمشرق على بطن عُرَنَة إِلَى جبال عُرَنَة إِلَى وصيق إِلَى ملتقى وصيق إِلَى وَادي عُرَنَة. ووصيق، بِفَتْح الْوَاو وَكسر الصَّاد الْمُهْملَة بعْدهَا يَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره قَاف، وَقَالَ الشَّافِعِي فِي (الْأَوْسَط) من مَنَاسِكه: وعرفة مَا جَاوز بطن عُرَنَة وَلَيْسَ الْوَادي وَلَا الْمَسْجِد مِنْهَا إِلَى الْجبَال الْمُقَابلَة مِمَّا يَلِي حَوَائِط ابْن عَامر وَطَرِيق الحضن، وَمَا جَاوز ذَلِك فَلَيْسَ بِعَرَفَة، و: الحضن، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَالضَّاد الْمُعْجَمَة المفتوحتين. وَابْن عَامر هُوَ عبد الله بن عَامر بن كريز، وَكَانَ لَهُ حَائِط نخل وَكَانَ فِيهَا عين. قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ: وَهُوَ الْآن خراب. وَقَالَ ابْن بطال: اخْتلفُوا إِذا دفع من عَرَفَة قبل غرُوب الشَّمْس وَلم يقف بهَا لَيْلًا، فَذهب مَالك إِلَى أَن الِاعْتِمَاد فِي الْوُقُوف بِعَرَفَة على اللَّيْل من لَيْلَة النَّحْر، وَالنَّهَار من يَوْم عَرَفَة تبع، فَإِن وقف جزأ من اللَّيْل أَي جزءٍ كَانَ قبل طُلُوع الْفجْر من يَوْم النَّحْر أَجزَأَهُ، وَقَالَ أَبُو حنيفَة وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ: الِاعْتِمَاد على النَّهَار من يَوْم عَرَفَة من وَقت الزَّوَال وَاللَّيْل كُله تبع، فَإِن وقف جزأً من النَّهَار أَجزَأَهُ، وَإِن وقف جزأً من اللَّيْل أَجزَأَهُ، إلاَّ أَنهم يَقُولُونَ: إِن وقف جزأ من النَّهَار بعد الزَّوَال دون اللَّيْل كَانَ عَلَيْهِ دم، وَإِن وقف جزأ من اللَّيْل دون النَّهَار لم يجب عَلَيْهِ دم، وَذهب أَحْمد بن حَنْبَل إِلَى أَن الْوُقُوف من حِين طُلُوع الْفجْر من يَوْم عَرَفَة إِلَى طُلُوع الْفجْر من لَيْلَة النَّحْر، فسوى بَين أَجزَاء اللَّيْل وأجزاء النَّهَار. وَقَالَ ابْن قدامَة: وعَلى من دفع قبل الْغُرُوب دم فِي قَول أَكثر أهل الْعلم، مِنْهُم عَطاء وَالثَّوْري وَالشَّافِعِيّ وَأَبُو ثَوْر، وَأَصْحَاب الرَّأْي. وَقَالَ ابْن جريج: عَلَيْهِ بَدَنَة، وَقَالَ الْحسن بن أبي الْحسن: عَلَيْهِ هدي من الْإِبِل، فَإِن دفع قبل الْغُرُوب ثمَّ عَاد نَهَارا فَوقف حَتَّى غربت الشَّمْس فَلَا دم عَلَيْهِ،

(10/5)


فَإِن قلت: روى نَافِع عَن ابْن عمر أَنه قَالَ: من لم يقف بِعَرَفَة لَيْلَة الْمزْدَلِفَة قبل أَن يطلع الْفجْر فقد فَاتَهُ الْحَج. وَعَن عُرْوَة بن الزبير مثله، وَرَفعه ابْن عمر مرّة: ... من فَاتَهُ عَرَفَات بلَيْل فقد فَاتَهُ الْحَج) ، وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب رَفعه، قَالَ: (من جَاوز وَادي عَرَفَة قبل أَن تغيب الشَّمْس فَلَا حج لَهُ) ، وَعَن معمر عَن رجل عَن سعيد بن جُبَير رَفعه: (إِنَّا لَا ندفع حَتَّى تغرب الشَّمْس) يَعْنِي: من عَرَفَات: قلت: ابْن حزم ضعف هَذِه كلهَا ووهاها. وَعَن عُرْوَة بن مُضرس الطَّائِي مَرْفُوعا: (من أدْرك مَعنا هَذِه الصَّلَاة وأتى عَرَفَات قبل ذَلِك لَيْلًا أَو نَهَارا فقد تمّ حجه وَقضى تفثه) ، رَوَاهُ أَصْحَاب السّنَن الْأَرْبَعَة، وَصَححهُ ابْن خُزَيْمَة وَابْن حبَان، وَالله تَعَالَى أعلم.

29 - (بابُ السَّيْرِ إذَا دَفَعَ مِنْ عَرَفَةَ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان صفة السّير إِذا دفع من عَرَفَة يَعْنِي إِذا انْصَرف مِنْهَا، وَتوجه إِلَى الْمزْدَلِفَة، وَفِي بعض النّسخ من عَرَفَات قَالَ الْفراء: عَرَفَات اسْم فِي لفظ الْجمع وَلَا وَاحِد لَهُ، وَقَول النَّاس: نزلنَا عَرَفَة شَبيه بالمولد، وَلَيْسَ بعربي مَحْض.

6661 - حدَّثنا عَبْدُ الله بنُ يُوسُفَ قَالَ أخبرنَا مالِكٌ عنْ هِشَامِ بنِ عُرْوَةَ عنْ أبِيهِ أنَّهُ قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنا جَالِسٌ كَيْفَ كانَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ قَالَ كانَ يَسيرُ الْعَنَقَ فَإذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (كَانَ يسير الْعُنُق) ، فَإِنَّهُ صفة سيره إِذا دفع من عَرَفَة، وَعَن قريب يَأْتِي تَفْسِيره.
ذكر تعدد مَوْضِعه وَمن أخرجه غَيره أخرجه البُخَارِيّ أَيْضا فِي الْجِهَاد عَن أبي مُوسَى، وَفِي الْمَغَازِي عَن مُسَدّد، كِلَاهُمَا عَن يحيى ابْن سعيد. وَأخرجه مُسلم فِي الْمَنَاسِك عَن أبي الرّبيع الزهْرَانِي وقتيبة، كِلَاهُمَا عَن حَمَّاد بن زيد وَعَن أبي بكر عَن عَبدة بن سُلَيْمَان وَعبد الله بن نمير وَحميد بن عبد الرَّحْمَن. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِيهِ عَن القعْنبِي عَن مَالك. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِيهِ عَن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، وَعَن عبد الله بن مُحَمَّد بن سَلمَة والْحَارث بن مِسْكين. وَأخرجه ابْن مَاجَه فِيهِ عَن عَليّ بن مُحَمَّد الطنافسي وَعَمْرو بن عبد الله الأودي.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (سُئِلَ أُسَامَة) ، وَهُوَ أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة، حب رَسُول الله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، ومولاه سمع النَّبِي وَتُوفِّي فِي آخر خلَافَة مُعَاوِيَة. قَوْله: (وَأَنا جَالس) ، الْوَاو فِيهِ للْحَال، وَفِي رِوَايَة النَّسَائِيّ من طَرِيق عبد الرَّحْمَن ابْن الْقَاسِم عَن مَالك: وَأَنا جَالس مَعَه، وَفِي رِوَايَة مُسلم من طَرِيق حَمَّاد بن زيد عَن هِشَام عَن أَبِيه: سُئِلَ أُسَامَة وَأَنا شَاهد، أَو قَالَ: سَأَلت أُسَامَة بن زيد. قَوْله: (فِي حجَّة الْوَدَاع) ، سميت بِهِ لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ودع النَّاس فِيهَا. وَقَالَ: (لَا ألقاكم بعد عَامي هَذَا) وَغلط من كره تَسْمِيَتهَا بذلك، وَتسَمى الْبَلَاغ أَيْضا، لِأَنَّهُ قَالَ: صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِيهَا: (هَل بلغت؟) وَحجَّة الْإِسْلَام لِأَنَّهَا الَّتِي حج فِيهَا بِأَهْل الْإِسْلَام لَيْسَ فِيهَا مُشْرك. قَوْله: (حِين دفع) ، أَي: من عَرَفَات، أَي: انْصَرف مِنْهَا إِلَى الْمزْدَلِفَة، وَفِي رِوَايَة يحيى بن يحيى وَغَيره عَن مَالك فِي (الْمُوَطَّأ) : حِين دفع من عَرَفَة. قَوْله: (الْعُنُق) ، بِفَتْح الْعين الْمُهْملَة وَفتح النُّون، وَفِي آخِره قَاف، قَالَ فِي (الموعب) لِابْنِ التياني: هُوَ سير مسبطر، وَقَالَ معمر: هُوَ أدنى الْمَشْي، وَهُوَ أَن يرفع الْفرس يَده لَيْسَ يرفع هملجة وَلَا هرولة. وَفِي (التَّهْذِيب) للأزهري: الْعُنُق والعنيق ضرب من السّير، وَقد أَعْنَقت الدَّابَّة. وَقَالَ ابْن سَيّده: فَهِيَ معنق ومعناق وعنيق. وَفِي (الْمُخَصّص) عَن الْأَصْمَعِي: من الْمَشْي الْعُنُق وَهُوَ أَوله، وَقَالَ الْقَزاز: وَلم يَقُولُوا عُنُقه. وَفِي (كتاب الاحتفال) لِابْنِ أبي خَالِد فِي صِفَات الْخَيل: وَمن أَنْوَاع سير الْإِبِل وَالدَّوَاب الْعُنُق، وَهُوَ سير سهل مسبطر، تمد فِيهِ الدَّابَّة عُنُقهَا للاستعانة، وَهُوَ دون الْإِسْرَاع. وَفِي (الْمُجْمل) : هُوَ نوع من سير الدَّوَابّ طَوِيل. قَوْله: (فَإِذا وجد فجوة) الفجوة والفجواء مَمْدُود، قَالَ ابْن سَيّده: هُوَ مَا اتَّسع من الأَرْض، وَقيل: مَا اتَّسع مِنْهَا وانخفض. وَقَالَ النَّوَوِيّ: رَوَاهُ بَعضهم فِي (الْمُوَطَّأ) بِضَم الْفَاء وَفتحهَا، وَرَوَاهُ أَبُو مُصعب وَيحيى بن بكير وَغَيرهمَا عَن مَالك بِلَفْظ: فُرْجَة، بِضَم الْفَاء وَسُكُون الرَّاء. (وَهُوَ) ، بِمَعْنى الفجوة. قَوْله: (نصَّ) فعل ماضٍ، وفاعله النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَي: أسْرع. وَفِي (كتاب الاحتفال) : النَّص والنصيص فِي السّير أَن تسار الدَّابَّة أَو الْبَعِير سيرا شَدِيدا حَتَّى تستخرج أقْصَى مَا عِنْده، وَنَصّ كل شَيْء منتهاه.

(10/6)


وَقَالَ أَبُو عبيد: النَّص أَصله مُنْتَهى الْأَشْيَاء وغايتها، ومبلغ أقصاها. وَقَالَ ابْن بطال: تَعْجِيل الدّفع من عَرَفَة، وَالله أعلم، إِنَّمَا هُوَ لضيق الْوَقْت لأَنهم إِنَّمَا يدْفَعُونَ من عَرَفَة إِلَى الْمزْدَلِفَة عِنْد سُقُوط الشَّمْس، وَبَين عَرَفَة والمزدلفة نَحْو ثَلَاثَة أَمْيَال، وَعَلَيْهِم أَن يجمعوا الْمغرب وَالْعشَاء بِالْمُزْدَلِفَةِ وَتلك سنتها فتعجلوا فِي السّير لاستعجال الصَّلَاة. وَقَالَ الطَّبَرِيّ: الصَّوَاب فِي صفة السّير فِي الإفاضتين جَمِيعًا مَا صحت بِهِ الْآثَار إلاَّ فِي وَادي محسر، فَإِنَّهُ يوضع لصِحَّة الحَدِيث بذلك، فَلَو أوضع أحد فِي مَوضِع الْعُنُق أَو الْعَكْس لم يلْزمه شَيْء لإِجْمَاع الْجمع على ذَلِك، غير أَنه يكون مخطئا طَرِيق الصَّوَاب قلت: أَشَارَ بقوله: لصِحَّة الحَدِيث، إِلَى مَا رُوِيَ عَن جَابر، رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، رَوَاهُ التِّرْمِذِيّ، فَقَالَ: حَدثنَا مَحْمُود بن غيلَان، حَدثنَا وَكِيع وَبشر بن السّري وَأَبُو نعيم، قَالُوا: حَدثنَا سُفْيَان عَن أبي الزبير (عَن جَابر أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أوضع فِي وَادي محسر) الحَدِيث وَقَالَ أَبُو عِيسَى: حَدِيث حسن صَحِيح. قَوْله: (أوضع) ، أَي: أسْرع السّير من الإيضاع وَهُوَ السّير السَّرِيع، ومفعول: أوضع،، مَحْذُوف أَي: أوضع رَاحِلَته، لِأَن الرباعي مُتَعَدٍّ، والقاصر مِنْهُ ثلاثي. قَالَ الْجَوْهَرِي: وضع الْبَعِير وَغَيره أَي: أسْرع فِي سيره.
وَفِيه من الْفَوَائِد: أَن السّلف كَانُوا يحرصون على السُّؤَال عَن كَيْفيَّة أَحْوَاله، صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، فِي جَمِيع حركاته وسكونه ليقتدوا بِهِ فِي ذَلِك.
قَالَ هِشَامٌ والنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ

هُوَ هِشَام بن عُرْوَة الرَّاوِي، وَهَذَا تَفْسِير مِنْهُ، وَكَذَا رَوَاهُ مُسلم من رِوَايَة حميد بن عبد الرَّحْمَن عَن هِشَام بن عُرْوَة، قَالَ هِشَام: وَالنَّص فَوق الْعُنُق، وأدرجه يحيى الْقطَّان فِي الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ فِي الْجِهَاد، قَالَ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، حَدثنَا يحيى عَن هِشَام، قَالَ: أَخْبرنِي أبي، قَالَ: سُئِلَ أُسَامَة بن زيد: كَانَ يحيى يَقُول وَأَنا أسمع، فَسقط عني عَن مسير النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي حجَّة الْوَدَاع، قَالَ: فَكَانَ يسير الْعُنُق فَإِذا وجد فجوة نَص، وَالنَّص فَوق الْعُنُق، وَكَذَا أدرجه سُفْيَان فِيمَا أخرجه النَّسَائِيّ وَعبد الرَّحِيم بن سُلَيْمَان ووكيع فِيمَا أخرجه ابْن خُزَيْمَة كلهم عَن هِشَام، وَقد رَوَاهُ عَن إِسْحَاق فِي (مُسْنده) عَن وَكِيع، ففصله وَجعل التَّفْسِير من كَلَام وَكِيع، وَكَذَا رَوَاهُ ابْن خُزَيْمَة من طَرِيق سُفْيَان ففصله وَجعل التَّفْسِير من كَلَام سُفْيَان، وسُفْيَان ووكيع، إِنَّمَا أخذا التَّفْسِير الْمَذْكُور عَن هِشَام، فَرجع التَّفْسِير إِلَيْهِ. وَقد رَوَاهُ أَكثر رُوَاة (الْمُوَطَّأ) عَن مَالك، فَلم يذكر التَّفْسِير، وَلذَلِك رَوَاهُ أَبُو دَاوُد الطَّيَالِسِيّ من طَرِيق حَمَّاد بن سَلمَة، وَمُسلم من طَرِيق حَمَّاد بن زيد، كِلَاهُمَا عَن هِشَام.
فَجْوَةٌ مُتَّسَعٌ وَالجَمْعُ فَجَوَاتٌ وفِجَاءٌ وكذَلِكَ رَكْوَةٌ ورِكَاءٌ مَنَاصٌ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ
فسر البُخَارِيّ الفجوة بقوله: متسع، وَأَبُو عبد الله هُوَ كنية البُخَارِيّ، وَذكر أَيْضا أَن جمع فجوة يَأْتِي على مثالين: أَحدهمَا: فجوات، بِفتْحَتَيْنِ، وَالْآخر: فجَاء، بِكَسْر الْفَاء، وَمثل لذَلِك بقوله: (وَكَذَا ركوة وركاء) فَإِن ركوة على وزن فجوة، وركاء الَّذِي هُوَ جمع على وزن فجَاء. قَوْله: (مناص لَيْسَ حِين فرار) لم يثبت فِي كثير من النّسخ، وَأما وَجه الْمَذْكُور من ذَلِك أَنه إِنَّمَا ذكره لدفع وهم من يتَوَهَّم أَن المناص وَالنَّص من بَاب وَاحِد، وَأَن أَحدهمَا مُشْتَقّ من الآخر وَلَيْسَ كَذَلِك، فَإِن النَّص مضعف وحروفه صِحَاح، والمناص من بَاب المعتل الْعين الواوي لِأَنَّهُ من النوص. قَالَ الْفراء: النوص التَّأَخُّر وَيُقَال: ناص عَن قرنه ينوص نوصا ومناصا أَي: فر وزاغ. وَقَالَ الْجَوْهَرِي: قَالَ الله تَعَالَى: {ولات حِين مناص} (ص: 3) . أَي: لَيْسَ وَقت تَأَخّر وفرار. وَالَّذِي يظْهر أَن أَبَا عبد الله هُوَ الَّذِي وهم فِيهِ فَظن أَن مَادَّة: نَص ومناص وَاحِدَة، فَلذَلِك ذكره، وَالْأولَى أَن يعْتَمد على النُّسْخَة الَّتِي لم يذكر هَذَا فِيهَا، وَيبعد الشَّخْص من نِسْبَة الْوَهم إِلَيْهِ أَو إِلَى غَيره.

39 - (بابُ النُّزُولِ بَيْنَ عَرَفةَ وجَمْعٍ)

أَي: هَذَا بَاب فِي بَيَان نزُول الْحَاج بَين عَرَفَة وَجمع، وَهُوَ الْمزْدَلِفَة لقَضَاء حَاجته، أَي حَاجَة كَانَت، وَلَيْسَ هَذَا من الْمَنَاسِك.

7661 - حدَّثنا مُسَدَّدٌ قَالَ حدَّثنا حَمَّادُ بنُ زَيْدٍ عنْ يَحْيَى بنِ سَعِيدٍ عنْ مُوسى بنِ عُقْبَةَ عنْ

(10/7)


كُرَيْبٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنْ أُسَامةَ بنِ زَيْدٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّ النبيَّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَيْثُ أفاضَ منْ عَرَفَةَ مَال إلَى الشّعْبِ فقَضى حاجَتَهُ فَتَوَضِّأ فقُلْتُ يَا رَسُولَ الله أتُصَلِّي فَقَالَ الصَّلاَةُ أمامَكَ..
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (مَال إِلَى الشّعب فَقضى حَاجته) ، لِأَن مَعْنَاهُ نزل هُنَاكَ وَهُوَ بَين عَرَفَة وَجمع على مَا نذكرهُ، إِن شَاءَ الله تَعَالَى، وَيحيى بن سعيد هُوَ الْأنْصَارِيّ وَرِوَايَته عَن مُوسَى بن عقبَة من رِوَايَة الأقران لِأَنَّهُمَا تابعيان صغيران، وَقد حمله مُوسَى عَن كريب فَصَارَ فِي الْإِسْنَاد ثَلَاثَة من التَّابِعين.
والْحَدِيث أخرجه فِي كتاب الْوضُوء فِي: بَاب إسباغ الْوضُوء عَن عبد الله بن مسلمة عَن مَالك عَن مُوسَى بن عقبَة إِلَى آخِره بأتم مِنْهُ وأطول، وَمضى الْكَلَام فِيهِ هُنَاكَ مُسْتَوفى.
قَوْله: (حَيْثُ أَفَاضَ) ، وَفِي رِوَايَة أبي الْوَقْت: (حِين أَفَاضَ) ، وَهِي أصوب لِأَنَّهُ ظرف زمَان، وَحَيْثُ ظرف مَكَان. قَوْله: (إِلَى الشّعب) بِكَسْر الشين الْمُعْجَمَة وَهُوَ الطَّرِيق بَين الجبلين. قَوْله: (فَقضى حَاجته) أَي: استنجى. قَوْله: (أَتُصَلِّي؟) بِهَمْزَة الِاسْتِفْهَام، ويروى بِدُونِ الْهمزَة وَلكنهَا مقدرَة. قَوْله: (الصَّلَاة أمامك؟) ، بِفَتْح الْهمزَة، أَي: الصَّلَاة فِي هَذِه اللَّيْلَة مَشْرُوعَة فِيمَا بَين يَديك أَي فِي الْمزْدَلِفَة، وَيجوز فِي لفظ: الصَّلَاة، الرّفْع وَالنّصب، أما الرّفْع فعلى الِابْتِدَاء وَخَبره مَحْذُوف تَقْدِيره الصَّلَاة حَاضِرَة أَو حانت أمامك، وَأما النصب فبفعل مُقَدّر.

8661 - حدَّثنا مُوسى بنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ حدَّثنا جُوَيْرِيَةُ عَنْ نَافِعٍ قَالَ كانَ عَبْدُ الله بنُ عُمَرَ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا يَجْمَعُ بَيْنَ المَغْرِبِ والْعِشَاءِ بِجَمْعٍ غَيْرَ أنَّهُ يَمُرُّ بالشَّعْبِ الَّذِي أخذَهُ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَيَدْخُلُ فيَنْتَفِضُ ويَتَوَضِّأُ ولاَ يُصَلِّي حَتَّى يُصَلِّي بِجَمعٍ..
مطابقته للتَّرْجَمَة تُؤْخَذ من قَوْله: (غير أَنه يمر بِالشعبِ فَيدْخل فينتفض) ومُوسَى بن إِسْمَاعِيل أَبُو سَلمَة الْمنْقري التَّبُوذَكِي وَجُوَيْرِية تَصْغِير جَارِيَة ابْن أَسمَاء الضبعِي الْبَصْرِيّ.
قَوْله: (بِجمع) ، هُوَ الْمزْدَلِفَة. قَوْله: (غير أَنه يمر) ، هَذَا فِي معنى الِاسْتِثْنَاء الْمُنْقَطع أَي: بِجمع، لَكِن بِهَذَا التَّفْصِيل من الْمُرُور بِالشعبِ وَمَا بعده لَا مُطلقًا. قَوْله: (الَّذِي أَخذه رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) يُصَلِّي أَي: قَوْله: (فينتفض) ، بفاء وضاد مُعْجمَة: من الانتفاض وَهُوَ كِنَايَة عَن قَضَاء الْحَاجة، مَعْنَاهُ: يستنجي ثمَّ يتَوَضَّأ وَلَا يُصَلِّي شَيْئا حَتَّى يُصَلِّي بِجمع.

9661 - حدَّثنا قُتَيْبَةُ قَالَ حدَّثنا إسْمَاعِيلُ بنُ جَعْفَرٍ عنْ مُحَمَّدِ بنِ أبي حَرْمَلَةَ عنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابنِ عَبَّاسٍ عنْ أُسَامَةَ بنِ زَيْد رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا أنَّهُ قَالَ رَدِفْتُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم مِنْ عَرَفاتٍ فلَمَّا بلَغَ رسولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشِّعْبَ الأيْسَرَ الَّذِي دُونَ المُزْدَلِفَهِ أناخَ فَبالَ ثُمَّ جاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوضُوء تَوَضَّأ وُضُوءًا خَفِيفا فقُلْتُ الصَّلاةُ يَا رسولَ الله قَالَ الصَّلاةُ أمامَكَ فَرَكِبَ رسُولُ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم حَتَّى أَتَى المُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الفَضْلُ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم غَدَاةَ جَمْعٍ. قَالَ كُرَيْبٌ فأخْبَرَنِي عَبْدُ الله بنُ عَبَّاسٍ رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا عنِ الفَضْلِ أنَّ رسولَ الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الجَمْرَةَ.
مطابقته للتَّرْجَمَة فِي قَوْله: (فَلَمَّا بلغ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الشّعب الْأَيْسَر الَّذِي دون الْمزْدَلِفَة أَنَاخَ فَبَال) ، والإناخة وَالْبَوْل لَا يكونَانِ إلاَّ بالنزول، وَكَانَ ذَلِك بَين عَرَفَة وَجمع.
ذكر رِجَاله: وهم سَبْعَة: الأول: قُتَيْبَة بن سعيد. الثَّانِي: إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر أَبُو إِبْرَاهِيم الْأنْصَارِيّ مولى زُرَيْق الْمُؤَدب، مَاتَ سنة ثَمَانِينَ وَمِائَة. الثَّالِث: مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة، بِفَتْح الْحَاء الْمُهْملَة وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْمِيم، وَلَا يعرف اسْمه، وَهُوَ مولى إِلَى حويطب، وَكَانَ خصيف يروي عَنهُ فَيَقُول: حَدثنِي مُحَمَّد بن حويطب، فَذكر ابْن حبَان أَن خصيفا كَانَ ينْسبهُ إِلَى جده وَإِلَيْهِ، وَذكر فِي (رجال الصَّحِيحَيْنِ) مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة الْقرشِي

(10/8)


يكنى أَبَا عبد الله مولى عبد الرَّحْمَن بن أبي سُفْيَان بن حويطب بن عبد الْعزي. قَالَ الْوَاقِدِيّ، مَاتَ فِي أول خلَافَة أبي جَعْفَر. الرَّابِع: كريب، بِضَم الْكَاف. الْخَامِس: أُسَامَة بن زيد بن حَارِثَة. السَّادِس: عبد الله بن عَبَّاس. السَّابِع: الْفضل بن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
ذكر لطائف إِسْنَاده: فِيهِ: التحديث بِصِيغَة الْجمع فِي موضِعين، والإخبار بِصِيغَة الْإِفْرَاد فِي مَوضِع. وَفِيه: العنعنة فِي أَرْبَعَة مَوَاضِع. وَفِيه: القَوْل فِي مَوضِع وَاحِد. وَفِيه: أَن شَيْخه بغلاني بغلان بَلخ، والبقية من الروَاة كلهم مدنيون. وَفِيه: رِوَايَة الصَّحَابِيّ عَن الصَّحَابِيّ، وهما عبد الله بن عَبَّاس وَالْفضل بن عَبَّاس. وَفِيه: رِوَايَة الْأَخ عَن الْأَخ وهما الْمَذْكُورَان. وَفِيه: ثَلَاثَة من الصَّحَابَة، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي الْحَج أَيْضا عَن يحيى بن يحيى وَيحيى بن أَيُّوب وقتيبة وَعلي بن حجر أربعتهم عَن إِسْمَاعِيل بن جَعْفَر عَن مُحَمَّد بن أبي حَرْمَلَة.
ذكر مَعْنَاهُ: قَوْله: (ردفت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) بِكَسْر الدَّال، أَي: ركبت وَرَاءه. قَوْله: (أَنَاخَ) أَي: رَاحِلَته. قَوْله: (الْوضُوء) ، بِفَتْح الْوَاو هُوَ المَاء الَّذِي يتَوَضَّأ بِهِ. قَوْله: (تَوَضَّأ) ويروى: (فتوضا) بفاء الْعَطف. قَوْله: (وضُوءًا خَفِيفا) إِمَّا بِأَنَّهُ تَوَضَّأ مرّة مرّة أَو بِأَنَّهُ خفف اسْتِعْمَال المَاء بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَالب عَادَته، وَيُؤَيّد هَذَا الرِّوَايَة الْأُخْرَى الْآتِيَة بعد بَاب، فَلم يسبغ الْوضُوء. قَوْله: (فَقلت: الصَّلَاة) الْقَائِل هُوَ أُسَامَة، وَالصَّلَاة مَنْصُوبَة بِفعل مُقَدّر، وَيجوز رَفعهَا على تَقْدِير: الصَّلَاة حضرت. قَوْله: (الصَّلَاة أمامك) ، بِالْوَجْهَيْنِ كَمَا ذكرنَا فِي الحَدِيث السَّابِق. قَوْله: (حَتَّى أَتَى الْمزْدَلِفَة فصلى) ، أَي: لم يبْدَأ بِشَيْء قبل الصَّلَاة. وَفِي رِوَايَة مُسلم من حَدِيث إِبْرَاهِيم بن عقبَة: ثمَّ سَار حَتَّى بلغ جمعا فصلى الْمغرب وَالْعشَاء. قَوْله: (غداء جمع) ، أَي: غَدَاة اللَّيْلَة الَّتِي كَانَت بِهِ، أَي: صبح يَوْم النَّحْر. قَوْله: (حَتَّى بلغ الْجَمْرَة) أَي: جَمْرَة الْعقبَة، ويروى: حَتَّى بلغ رمي الْجَمْرَة.
ذكر مَا يُسْتَفَاد مِنْهُ فِيهِ: جَوَاز الرّكُوب حَال الدّفع من عَرَفَة. وَفِيه: جَوَاز الارتداف على الدَّابَّة لَكِن إِذا كَانَت مطيقة. وَفِيه: الِاسْتِعَانَة فِي الْوضُوء وللفقهاء فِيهِ تَفْصِيل لِأَن الِاسْتِعَانَة إِمَّا أَن تكون فِي إِحْضَار المَاء مثلا، أَو فِي صبه على المتوضيء، أَو مُبَاشرَة غسل أَعْضَائِهِ. فَالْأول جَائِز بِلَا خلاف، وَالثَّالِث مَكْرُوه إلاَّ إِن كَانَ لعذر، وَاخْتلف فِي الثَّانِي، وَالأَصَح أَنه: لَا يكره لكنه خلاف الأولى، وَأما الَّذِي وَقع من النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَكَانَ إِمَّا لبَيَان الْجَوَاز، وَهُوَ حِينَئِذٍ أفضل فِي حَقه، أَو كَانَ للضَّرُورَة. وَفِيه: الْجمع بَين الْمغرب وَالْعشَاء بِمُزْدَلِفَة، وَسَيَأْتِي الْكَلَام فِيهِ عَن قريب. لِأَنَّهُ عقد لَهُ بَابا. وَفِيه: التَّلْبِيَة إِلَى أَن يَأْتِي إِلَى مَوضِع رمي الْجَمْرَة، وَسَيَأْتِي بَيَانه لِأَنَّهُ عقد بَابا لَهُ.